الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

وكذا ما نعلمه من وقوع الناسخ والمنسوخ في الشريعة الاسلامية بما دل عليه القرآن الكريم كما سنشير إليه إن شاء الله ، وقد أكثر الناس في ذلك وخلطوا ، فلنستأنف الكلام في تتبع بعض كلمات المتكلف ليتضح لك حالها وحاله فيها.

المتكلف والنسخ

وقد افتتح كلامه في بحث النسخ بقوله «يه ٤ ج ص ١٥٥» مما اختصت به الديانة الاسلامية مما يشين ويعيب مسألة الناسخ والمنسوخ ، فمن تحرى في القرآن وتفاسيره رأى ان الناسخ والمنسوخ فاش فيه بحيث يكاد ان لا تخلو سورة منه ، فكان ذلك موجبا لتشويش الذهن واضطراب الفكر ، فإذا طالع الانسان بقصد الفائدة تاه في هندس الظلمات ، ووقع في الالتباسات والايهامات ، وصعب عليه التمييز بين الأحكام التي يجب أن يعول عليها وبين الأحكام التي لا يجوز الاعتماد عليها.

أقول : أما دعواه اختصاص الديانة الاسلامية بالنسخ ، فقد ظهر لك ظهور الشمس في رابعة النهار من الأمثلة المتقدمة ، كونها دعوى باطلة لا يسترها التمويه.

وان العهد القديم قد ذكر وقوع التناسخ في شريعة «نوح» كما في المثال الأول ، وجاء في شريعته النسخ لما قبلها ، كما في المثال الثاني إلى المثال الخامس والتناسخ فيها كما في المثال السادس إلى المثال التاسع والعشرين ، وان شريعة الإنجيل قد جاء فيها النسخ لما قبلها كما في المثال الثلاثين الى المثال السابع والثلاثين والتناسخ فيها أيضا كما في المثال الثامن والثلاثين.

وان شريعة العهد الجديد قد جاء فيها النسخ لما قبلها كما في المثال التاسع والثلاثين إلى المثال الرابع والأربعين ، والتناسخ فيها أيضا كما في المثال الخامس والأربعين إلى السابع والأربعين ، وانظر الى ما ذكرنا في التنبيه ، والمتكلف يقول : وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ ، على ان المتكلف قد اتبع في هذه الدعوى قول السيوطى في الاتقان اتباعا من دون تدبر ، ولم يدر انه لا يلزم السيوطى مثل ما يلزمه.

٣٤١

قال في الاتقان في المسألة الثانية من النوع السابع والأربعين في النسخ ما لفظه «النسخ مما خص الله به هذه الامة لحكم منها التيسير» ، ولا تحسب ان السيوطي يدعي انه لم يقع النسخ في الشرائع مطلقا حتى نسخ البعض من احكام الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة ، كيف وان القرآن الكريم صريح بأن المسيح يحل لبني اسرائيل بعض الذي حرم عليهم كما تقدم ، بل غاية دعوى السيوطي ان نسخ الشريعة الواحدة لبعض احكامها مما خص الله به هذه الامة في شريعتها ، وغاية ما يعترض به على السيوطي في هذه الدعوى هو انها دعوى لأمر غائب لا يكتفي فيها بالظنون ، بل تحتاج الى حجة قاطعة صادرة عن علام الغيوب.

نعم : لا يلزمه ما يلزم المتكلف من وقوع التناسخ في الشرائع السابقة بمقتضى العهدين كما ذكرناه ، وذلك لجواز ان يقول السيوطي لا حجة علي بالعهدين لعدم صحة سندهما الى الالهام ، ولكن أين يفر المتكلف عن لزوم ما في العهدين ، كما ذكرنا أمثلته.

وأما قول المتكلف : فمن تحري القرآن وتفاسيره رأى ان الناسخ والمنسوخ فاش فيه.

فلو أراد فيه الأمانة والتحقيق وترك التمويه والتلبيس لكان عليه ان يبين ما في القرآن من الناسخ والمنسوخ بالبيان الكافي المنطبق على معنى النسخ في الجامعة الاسلامية ، ثم يقول ما عنده.

وأما التشبث بأقوال المفسرين فتشبث سخيف ، لأن الحقائق غير مربوطة بأقوالهم ، وان كثيرا من أقوالهم هاهنا ناشئ عن آراء ضعيفة وأوهام مردودة ، فقد ذكرنا من تفسير الخازن عن قول العلماء انهم قرنوا المفسرين «باعتبار الكثير منهم» وساووهم بالمؤرخين حيث وصفوهم جميعا بأنهم مولعون بكل غريب ملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم.

ولنقتصر فيما يهمنا في المقام على ما اشار إليه في الاتقان ، وان كان قليلا من كثير ، فقد نقل عن ابن «الحصار» قوله ولا يعتمد في النسخ قول عوام المفسرين ، بل ولا اجتهاد المجتهدين.

٣٤٢

العلماء والمفسرون

اعلم ان من الناس من كانوا ذوي فهم ثاقب وفكر صائب وقريحة متوقدة فإذا توجهوا الى العلوم انهمكوا فيها انهماك المنهوم ، فلا يزالون يجدون في اتقان مقدماتها وأحكام مبانيها باذلين جهدهم في الغوص على دررها ورفع حجب الجهل وأغاليطه عن وجوه حقائقها ، يزنون المنقول بالمعقول ويردون الفروع إلى الاصول. فالذين فازوا بهذه الفضيلة هم المستحقون لاسم العلماء ، ومن الناس قوم مالوا الى العلم وقعدت بهم الهمم وقصور الاستعداد عن طلب الغاية العليا ، فارتضوا من الفضيلة ان ينسبوا الى فن من الفنون ، واكتفوا من الملكات بكثرة الحفاظ فاقتنعوا بالمنقول والأخذ من الأفواه وسواد الكتابات ، ولم يكن همهم في ذلك إلا تكثير بضاعتهم ، ووفور محفوظاتهم ، وغرابة منقولاتهم من غير التفات الى التحقيق ، ولا وصول الى الحقائق ، ولا انتقاد لما يسمعون ، ولا تدبر لما يقولون ويكتبون ورواج بضاعتهم سهولة اخذ الهمج الرعاع عنهم ، وموافقة خبطهم لأهواء المدلسين. ومن هؤلاء كثير من المفسرين والمحدثين الذين وقف العلماء لهم بالمرصاد ، ونبهوا على خبطهم وخطأهم ، كما ذكرناه عن تفسير الخازن.

المفسرون والنسخ

وقد ذكر في الاتقان مما اورده المكثرون في النسخ أقساما وأمثلة لا يخفى انها ليست من النسخ الذي هو محل الكلام في شيء ، بل ان جعلها منه إنما هو من فلتات الأوهام ، وسوء التخليط ، وعدم التدبر .. فمن ذلك جعلهم من اقسام النسخ كلما جاء في الشريعة المقدسة مبطلا لضلالات الجاهلية وعوائدهم الذميمة ، وكأنهم لم يسمعوا من العلماء ان النسخ إنما هو رفع الله لحكمه السابق بإعلان حكمه اللاحق حسب اقتضاء المصلحة والإصلاح ، فإن رضي المتكلف أن يعد ما ذكروه من قسم النسخ لزمه على رأيه ان تكون أحكام التوراة كلها ناسخة ، ولكنه مع ذلك لا يبالي ان يقول : وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.

ومن ذلك جعلهم جميع الآيات المادحة على الإنفاق والنادبة إليه منسوخة

٣٤٣

بآية الزكاة ، وهذا وهم فاحش ، فإن حسن الإنفاق والندب إليه من محكمات الشريعة ومستحسنات العقل ، لما فيه من كرم الأخلاق واستحكام التقوى وحسن الاجتماع. ودوام العواطف ، وحفظ النوع ، وليت شعري من أين توهموا ان آية الزكاة ناسخة لآيات الانفاق ، فهل ترى في قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها) ، وهل تشم منه رائحة المنافاة لآيات الانفاق.

ومن ذلك جعلهم من بابا الناسخ والمنسوخ مثل قوله تعالى : (وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ..) ، وقوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) ، فتوهموا ان الاستثناء ناسخ لما قبله. وهل هذا إلا من الخلط والخبط بين الاستثناء والتخصيص المتصل بالكلام ، وبين النسخ المصطلح ، ولئن رضي المتكلف بعد هذا من النسخ الذي يندد به على قدس القرآن ، فما ذا يقول إذن فيما يوجد منه كثيرا في العهدين ، أيقول مع ذلك وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.

ومن ذلك جعلهم من المنسوخ قوله تعالى في سورة التين ٨٠ : (أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ).

وكذا قوله تعالى في سورة البقرة ٧٧ : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) فقالوا ان الآيتين منسوختان بآية السيف وهو توهم ظاهر ، فإن الآية الاولى لا ينبغي لأحد ان يتوهم فيها النسخ لأن مضمونها اخبار بأحسن الأساليب عن ان الله أحكم الحاكمين ، وهو كذلك جل شأنه في الأزل والأبد .. فإن قيل انها منسوخة باعتبار لازم معناها وهو الأمر التفويض والتسليم ، قلنا : أين لفظها وسوقها من هذا المعنى؟ أفليس قبلها قوله تعالى (فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) وان السوق ليشهد بأن نظرها متوجه الى المكذب بالدين ، وأين هذا من الأمر بالتسليم والتفويض ، ولو سلمنا ذلك لقلنا ان آية السيف والجهاد الواجب من حكم الله الذي يجب التفويض والتسليم له.

وأما الآية الثانية فهي حكاية عما عهده لبني اسرائيل وامرهم به ، فأين وأين هي من آية السيف ، بل لو كانت خطابا لهذه الامة لكانت من المحكمات

٣٤٤

التي لا تقبل النسخ ، فإنها آمرة بتهذيب الاخلاق وحسن الخطاب الذي هو من مصلحات النظام ، وصون اللسان عن منقصة الفحش والبذاء ، ولأجل ما ذكرنا غلط ابن الحصار من جعلها منسوخة بآية السيف.

ومن ذلك ما يحكم ان «هبة الله بن سلامة الضرير» أخطأ في قوله تعالى في سورة الدهر (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً) وقال : ان حسن الاطعام فيها وجوازه منسوخة بالنسبة لأسرى المشركين فقالت له ابنته أخطأت فقد أجمع المسلمون على ان الأسير يطعم ولا يموت جوعا ، فأذعن بالخطإ وكان هو الناقل لهذه الحكاية.

ومن ذلك اضطرابهم في الخطأ في قوله تعالى في سورة الاعراف ١٩٨ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) ، فقال «ابن العربي» ان اوّل الآية وآخرها منسوخ بآية السيف ، بناء على ان المراد بالعفو ما يرادف الصفح ، وقال بعض : ان أولها منسوخ بآية الزكاة ، بناء على ان المراد بالعفو هو الفضل من الأموال ، وكلا القولين خطأ لأنه ان حملنا العفو على معنى الفضل من الأموال لم تكن آية الزكاة مضادة له ولا ناسخة ، فإن الزكاة من العفو والفضل من الأموال ، بل يكون كل من الآيتين شارحا للاخرى ، فكأنه قيل خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها ، وهي من العفو والفصل من الأموال ، هذا وإن حملنا العفو على معنى الصفح فإن معناه المسامحة وترك الانتقام عما مضى من الإساءة ، وهو من مكارم الأخلاق التي يصلح بها الاجتماع وتتألف القلوب وتقوم بها الحجة ، ويتبصر بها الغافل ورياضة نفسانية ، وسياسة اقتصادية تتقدم بها شريعة الحق إلى الانتشار ولا مضادة للعفو كما أوضحناه ، ولا منافاة له مع آية السيف ، فانظر الى آية السيف وهو قوله تعالى في سورة براءة ٥ : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) وانظر الى ما قبل الآية وما بعدها من أول السورة الى الثانية عشر فهل تجد في اللفظ او المعنى او السوق نهيا عن فضيلة العفو عما سبق من الإساءة ، أو ان الله جل اسمه يقول : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ

٣٤٥

فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ١١ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) وانك لتجد من صراحة الآيات ان قتل المشركين لم يكن لأجل الانتقام منهم ولا للمؤاخذة لهم على اساءتهم السابقة ، بل إنما هو لأن المشركين رجس نجس ومعثرة في سبيل التوحيد وانتشار شريعة الحق والعدل ونظام المدنية ، وزيادة على ضلالهم قد توغلوا بالعداوة للتوحيد والموحدين وانهضهم ضلالهم وجبروتهم لإيذاء المؤمنين وحربهم مبلغ جهدهم ، ولم تنفع فيهم الحجج الواضحة والمواعظ الناصحة ، ولأجل ذلك قال الله جل شأنه امهلوهم مدة الأشهر الحرم تأكيدا للحجة ومهلة للنظر واستمالة إلى الهدى والتوبة ، ثم ضايقوهم بعد هذا بالقتل والحصار تطهيرا للأرض من رجسهم وحياطة للتوحيد وشريعة الحق من كيدهم ، أو ينيبوا إلى الإسلام فيتطهروا بقداسته ويستنيروا بهداه ، وحينئذ فخلوا سبيلهم ، وليس لكم أن تؤاخذوهم بإساءتهم معكم أيام شركهم فإن الله غفور رحيم.

فلا بد لكم حينما يسلمون أن تعفوا وتصفحوا عما سبق منهم فإنهم حينئذ اخوانكم في الدين.

فالآيات الكريمة مؤكدة لحكم العفو والصفح ، وصريحة في أن قتلهم ومحاصرتهم قبل إسلامهم إنما هما لتنفيذ شريعة الحق ، الداعية إلى مكرمة العفو والصفح.

فأين الآية الشريفة من معارضة الأمر بالعفو ونسخه ، وقس على ذلك كلما جاء في القرآن الكريم من الأمر بالعفو والصفح عن المشركين ، فإذا أمعنت النظر في فلسفة هذه الحقيقة ، وأوصلك التدبر الى معرفة ما فيها من الحكم الباهرة في تربية البشر دعوتهم الى شريعة الحق والعدل وتأديبهم بها ، فإنك تعرف اشتباه «ابن العربي» في دعواه ان آية السيف المذكورة نسخت مائة وأربعة وعشرين آية.

وتعرف أيضا خطأ المتكلف والتعرب في اتباعهما له على ذلك «يه ٤ ج ص ١٦١ وذ ص ٤٤ و ٤٥».

وتعرف أيضا مبلغ تعصب المتعرب وضلاله ، واني لأظن ظنا قويا انهما لم

٣٤٦

يطلعا على الآيات التي اشار إليها «ابن العربي» ، وإنما اتبعا مجمل كلامه لموافقته لأهوائهما ، وسنتعرض إن شاء الله لشرح مضامين هذه الآيات عند التعرض لما في القرآن الكريم من التعليم بمكارم الأخلاق والحكمة البالغة في إظهار دين الحق فترتاح إلى نفحات الهدى واليقين وتعرف نسبه الآيات المشار إليها من آية السيف المذكورة.

ومن الاشتباه والخلط ما ينقل من دعوى «ابن العربي» ان آخر آية السيف قد نسخ اولها ، وها قد تلوناها عليك ، وذكرنا لك صراحتها وسوقها ، وقد عرفت في اوائل المقدمة معنى النسخ ، فهل تجد لهذه الدعوى وجها مقبولا.

ومن العجب ان الإتقان قد نقل قبل هذا عن «ابن العربي» نفسه قوله بأن ما يخصص باستثناء أو غاية ليس من المنسوخ ، وذلك كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فكيف إذن يقول : ان اوّل آية السيف منسوخ بآخرها وهو قوله تعالى : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ).

ومن الاشتباه ما عن «ابن العربي» أيضا في قوله الله تعالى في سورة المائدة ١٠٤ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) حيث قال : «أي اهتديتم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فجعل هذا ناسخا لقوله تعالى : (عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ) زاعما ان معناه لا تتعرضوا لغيركم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهذا توهم فإنه لا دلالة في الآية على ذلك اصلا ، بل معناها نحو ما قاله الكشاف عليكم أنفسكم وما كلفتم من إصلاحها والسلوك بها في نهج الهدى وذلك باتباع دين الحق والشريعة المقدسة والتأدب بآدابها ، ومنها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد ، بل ان تركهما حينئذ من الضلال المقابل للهدى ، ومع ذلك فليت شعري من أين لابن العربي تقييد الاهتداء وتفسيره بخصوص الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإن أخذه من روايات الآحاد فإن ما رواه الكشاف في هذا المقام عن «ابن مسعود» و «ابي ثعلبة» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لصريح بخلاف ما يدعيه ابن العربي من النسخ.

٣٤٧

ومن هذا النحو اعتماد بعض على رواية من الآحاد فقال ان قوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) منسوخ بقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، وقد نقل في الإتقان القول بأن الآية الاولى من المحكم الذي لم ينسخ ، وذهب المحققون كالكشاف وغيره الى ان الآيتين بمعنى واحد فلا معارضة بينهما حتى تمكن دعوى النسخ.

فإن معنى قوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) اتقوا الله جهد قدرتكم ومبلغ استطاعتكم ، وهذا هو تقوى الله حق تقاته ، إذ لا يصح الأمر بتقوى الله فوق القدرة والاستطاعة ، ولا معنى لذلك. وهذا كاف في رد الرواية لمخالفتها لحكم العقل ، وبهذا تعرف وهن كلام المتكلف «يه ٤ ج ص ١٦٢» ولو انه يسمع كلاما «لهيان ابن بيان» لحمله على عاتق حقائق الاسلام وجامعته وقال : ما شاء هواه هذا وان جملة مما اختار في الاتقان كونه من الناسخ والمنسوخ لهو أيضا محل منع ، وسنتعرض إن شاء الله لتحقيق ذلك بالبيان الواضح عند التعرض لبيان شرائع القرآن الكريم.

وبما دركنا هاهنا تعرف ان ما سرده المتكلف «يه ٤ ج ص ١٦٦» من تعداد السور التي ادعى فيها وجود الناسخ او المنسوخ ، أو كليهما إنما هو دعوى لا حقيقة لها ، وإنما اتبع بها نقل الاتقان عن بعضهم في المسألة الخامسة.

وأعلم انا لا نتحاشى من وجود الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم بل قد دللناك في أوائل المقدمة على ان النسخ قد تقتضيه الحكمة الالهية ومراعاة المصلحة ، ولكنا قصدنا هاهنا تحقيق الحق ، ودفع أغاليط الأوهام عن شرائع القرآن الكريم وآدابه ، وقمع تهويلات المتكلف وتمويهاته واكثاره الكاذب! وبما ذكرنا تعرف خطأ المتكلف في قوله المتقدم «فكان ذلك موجبا لتشويش الذهن واضطراب الفكر».

شروط الفتيا

أفلا يعلم أن كل من يعد نفسه مفتيا في شريعة من الشرائع ، ويدعي رئاسة العلم بها ليس له أن يستريح من حيث يتعب الكرام ، بل لا بد له ان

٣٤٨

يجتهد في الاطلاع على كتابها الذي هو أساسها ، ليعرف منه العام والخاص ، والمطلق والمقيد ، والمجمل والمبين ، والناسخ والمنسوخ. ليستنتج من ذلك الأحكام الفعلية ، ويميز موضوعاتها لئلا يكون في فتياه كحاطب ليل وخابط عشواء.

أفلا ترى انه لا يصح لرباني اليهود ان يتصدر للفتوى بمقتضى دينه ويفتي بتقديس كل بكر فاتح رحم للرب اعتمادا على «خر ١٣ : ٢ و ٢٢ : ٢٩ و ٣٠ وتث ١٥ : ١٩» من دون ان يفحص ليطلع على الحكم بالفداء «خر ١٣ : ١٣ و ١٥ و ٣٤ : ٢٠ ولا ٢٧ : ٢٧ وعد ٣ : ١٢ و ٣٩ ـ ٤٨ و ٨ : ١٦ ـ ١٨ و ١٨ : ١٥ ـ ١٨».

فيعرف من هذا كله العام والخاص ، والمجمل والمبين ، والمطلق والمقيد والناسخ والمنسوخ.

ويتدبر حكم الفداء لبكر الحمار من «خر ١٣ : ١٣ و ٣٤ : ٢٠ ولا ٢٧ : ٢٧ وعد ٣ : ٤١ و ٤٥».

ولا يصح له ان يفتي في العبد العبراني على مقتضى «لا ٢٥ : ٣٩ ـ ٤٢» من دون أن يتحقق بيان الحكم من «خر ٢١ : ٢ ـ ٧ وتث : ١٢ ـ ١٨» ، ولا يصح له أن يفتي بحرمة ارملة الأخ على مقتضى «لا ١٨ : ١٢ و ٢٠ : ٢١» من دون ان يطلع بالفحص على «تث ٢٥ : ٥ ـ ١٠».

ولا يصح له ان يفتي بحد عمر اللاوي لخدمة مسكن الرب على مقتضى «لا ٤» حتى يطلع بالفحص على «لا ٨ : ٤٤ و ٤٥».

ويفحص عن سند التوراة العبرانية والسبعينية ، ويتدبر في فتواه بالاطلاع على «١ أي ٢٣ : ٣ و ٢٤ و ٢٧ وعز ٣ : ٨» فيتعرف من ذلك الصحيح والغلط والمحرف والناسخ والمنسوخ.

ولا يصح له ان يفتي في ذبائح الأيام والسبوت والأعياد والمواسم ومقاديرها ، وممن تكون وعلى من تجب حتى يطلع بالفحص على «حز ٤٥ : ١٣ ـ ٤٦ : ١٦» ليعرف الناسخ والمنسوخ والصحيح والغلط ، وهذا المقدار كاف في الأنموذج.

٣٤٩

وكذا لا يصح لقس النصارى ان يعتمد في فتواه بأحكام التوراة على إمضاء المسيح لها ، وأمره بحفظ أقوال الكتبة والعمل بها لأنهم على كرسي «موسى» جلسوا «مت ٢٣ : ٢ و ٣» من دون ان يستقصي العهد الجديد بالفحص ليطلع ما يحكي عن المسيح من تحريم الطلاق والتزوج بالمطلقة «مت ١٩ : ٩» وما يحكي عن «بطرس» من تحليله لأكل جميع الحيوانات المحرمة في التوراة «ا ع ١٠ : ١١ : ١٧».

وما يحكي عن التلاميذ من رفعهم وجوب الختان وقيود التوراة إلا أربعة : الامتناع عما ذبح للأوثان ، والدم ، والمخنوق ، والزنى «ا ع ١٥ : ٢٣ ـ ٣٠» ، ولا يصح له أيضا على أساسهم أن يفتي بوجوب الامتناع عن هذه الأربعة ما لم يوصله الفحص إلى الإباحة العامة المنقولة عن أقوال «بولس» «رو ١٤ : ١٤ واتى ٤ : ٤ وتي ١ : ١٥» وحتى يستنتج نتيجة من الأقوال المشوشة المضطربة المنقولة عن «بولس» في أكل ما ذبح للأوثان «١ كو ٨ : ي ١ ـ ١٣ و ١٠ : ١٩ ـ ٢٢ و ٢٩ و ٣٠».

ولا يفتي بكفاية الايمان في النجاة او بلزوم الأعمال حتى يوفق بما عنده بين الأقوال المنسوبة الى «بولس» «عب ٩ و ١٠ و ١١» وبين ما يضادها من الأقوال المنسوبة الى «يعقوب» «يع ٢ و ٣».

وعلى مثل هذا وبخ علي عليه‌السلام رجلا تصدر للفتيا مع جهله بالناسخ والمنسوخ ، كما استشهد به المتكلف «يه ٤ ج ص ١٥٦» ولو لم يكن في الشريعة إلا ناسخ واحد لكفى جهله في لزوم التورع عن الفتيا ، ولم يكن جهل ذلك الرجل بالناسخ والمنسوخ من اجل كثرتهما بل لأجل كونه عاطلا من زينة العلم مؤثرا راحة الجهل وإن كان صاحبا لأبي موسى.

فإن قلت : ان لي سوء الآن «أحدهما» هو انه لو لم يوجب النسخ تشويشا فما هذا النزاع القائم في أمر الناسخ والمنسوخ في القرآن بين المكثر والمقلل ، «وثانيهما» هو انه لما ذا لا يوجد في النصرانية مثل هذا التشويش وهذا النزاع ، قلنا في السؤال الأول : ان التشويش لم يجيء من ذات النسخ ولم يوجب تشويشا في الشريعة ، فإن الناسخ والمنسوخ معلومان معروفان عند الائمة والمجتهدين في

٣٥٠

تحقيق الأحكام الشرعية العارفين بموارد الشريعة ومصادرها ، والمعول عليهم بين الملة في معرفة أحكامها ، بحيث لا تشتبه عليهم مواردهما ، ولا تلتبس عليهم مصادرهما.

وأما النزاع الذي تراه فإنما أوجبه خبط الاشتباه بين من سماهم الاتقان بعوام المفسرين ، وذكر الخازن عن العلماء أنهم قرنوهم بالمؤرخين المولعين بكل غريب كما تقدم.

وما ذا على الحقائق إذا تشعب فيها أوهام غير المحققين ، وهل من حقيقة لم نتشعب فيها الأوهام ولم تكثر في سبيل عرفانها معاثر الجهل ، وسيمر عليك شيء من ذلك إن شاء الله في اوائل المقدمة الثالثة عشرة.

ثم نقول في السؤال الثاني : ان النصارى قد جاءهم نسخ الشريعة عن «بولس» جملة واحدة بعنوان الملاشاة للشريعة جملة واحدة ، وبعد هذه الاستراحة التامة من الشريعة وأحكامها ومعرفتها ، فلا حاجة إلى امعان النظر في كلمات المسيح والرسل للاطلاع على ما فيها من موارد النسخ الجزئي ، ولا داعى لهم إلى مرور الأفكار عليهم ليثور منها غبار الأوهام ، ومع ذلك أفلا تنظر إلى النزاع العظيم والمثابرة التي قامت بين البروتستنت والكاثوليك حتى جرت إلى سفك الدماء وشديد الاضطهاد وشنايع الأفعال والأقوال ، فإن المنشأ في ذلك مكافحة الأوهام من أجل مكافحة رسالة «يعقوب» المشددة في حفظ الأعمال وعدم كفاية الايمان ، مع رسالة «بولس» الى العبرانيين المصرة على التعليم بترك حفظ الناموس وبكفاية الاتكال على الايمان وسر الفداء.

حتى قال «لوطر» مصلح البروتستنت على ما نقله المتكلف «يه ٣ ج ص ١٠٩» ان معلمي الخطيئة يعني «الكاثوليك» يضايقوننا بموسى فلا نريد أن نسمع موسى ولا نراه لأنه اعطى لليهود ولم يعط لنا نحن الامم والمسيحيون فعندنا انجيلنا فهم يريدون أن يهددونا بواسطة موسى وهيهات.

وقال أيضا «ميلانختون» قد نسخت الوصايا العشر ، فقال المتكلف في الاعتذار عن كلام «لوطر» وجرأته على «موسى» ان سببه هو أن الكاثوليك

٣٥١

تطرفوا في حفظ الأعمال الصالحة ، وتوهموا ان الله يقبلنا بسببها ، وان خلاصنا متوقف عليها ، فتطرف «لوطر» كذلك في رفضها.

وما اشبه قول المتكلف هذا بالأقوال المنسوبة إلى مردة بني اسرائيل فيما عن قول الله جل اسمه في ثالث «ملاخي» ١٣ أقوالكم اشتدت علي وقلتم ما ذا قلنا عليك ١٤ عبادة الله باطلة ، وما المنفعة من أننا حفظنا شعائره.

منسوخ التلاوة

وأما ما ذكره المتكلف «يه ٤ ج ص ١٦٤ و ١٦٥» من منسوخ التلاوة فعقبه «ص ١٦٥ و ١٦٦» بوساوس هواه ، وكذا المتعرب «ذ ص ٤٨ و ٤٩» فإنما اتبعا فيه بعض المفسرين اتباعا لم يقد إليه إلا الهوى وفرط الغواية مع ان السيوطي نقل عن «القاضي أبي بكر» في الانتصار عن قوم انكار هذا النحو من النسخ ، لأن الأخبار فيه أخبار آحاد ولا يجوز القطع على انزال قرآن ونسخه باخبار آحاد لا حجة فيها انتهى.

وأين أخبار الآحاد من إثبات القرآن المبني على القطع في الجامعة الاسلامية ، بل انك لا ترى في القرون العديدة جماعة او واحدا من المسلمين يعتمدون في أمر القرآن على غير اليقين ، او يحتفلون في شأنه باخبار الآحاد احتفالا دينيا أساسيا ، نعم ربما يذكر بعض المحدثين شيئا من ذلك ذكرا تاريخيا ، وقد ذكر في الاتقان في شأن منسوخ التلاوة روايات عشرة منها عن راو واحد وهو «أبو عبيدة» وكلها تدل على ان ما نسبته الى القرآن ليس من منسوخ التلاوة وإنما هو مما اضاعته الامة.

وأن خصوص روايات «عائشة» و «حميدة» و «مسلمة بن مخلد» من جملة هذه العشرة لصريحة في ذلك ، ورواية عائشة التي ذكرها في منسوخ الحكم والتلاوة صريحة أيضا في ذلك.

وقد اضطرب من جملة الروايات العشر روايتا «زر بن حبيش» و «خالة أبي إمامة» في لفظ آية الرجم كما اضطرب في لفظها وشأن عمر معها ما أخرجه «الحاكم» و «النسائي» و «ابن الضريس» وما ذكره الاتقان عن البرهان على ان هذه

٣٥٢

الروايات مردودة أيضا بوجهين «الأول» : هو ان ما زعمت كونه من القرآن لا نجد له نسبة مع القرآن إلا كنسبة الفحمة البالية مع ترصيع تاج الملك.

«الثاني» هو ان نقلها لضياع كثير من القرآن من الامة ليكذبه قول الله جل اسمه في سورة الحجر ٦ ـ ١٠ : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) فيجب تكذيبها بحكم القرآن الكريم.

وليس في روايات الاتقان ما هو صريح بنسخ التلاوة إلا ما أخرجه «الطبراني» عن «ابن عمر» ، وأين هذه الرواية من القبول في الجامعة الاسلامية ولا سيما في شأن القرآن الكريم.

فإن قلت : أليس يشهد لما تنكره قوله تعالى في سورة البقرة ١٠٠ : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) فإن صراحة هذه الآية تدل على ان الحفظ الموعود به في الآية المتقدمة إنما هو بالنسبة الى غير الانساء قلت : الآية تضمنت الانساء قبل انقطاع الوحي ، وتكفلت بالاتيان بخير من المنسوخ والمنسي او مثله فهي تدل على ان الله لا ينسخ ولا ينسى عند انقطاع الوحي ، بل إنما ينسخ او ينسى آية حيث يوحي بعدها خيرا منها أو مثلها فهذه الآية كآية الحفظ مكذبة لزعم الزاعمين ان ما تضمنته هذه الروايات من القسم الذي أنساه الله بعد انقطاع الوحي ونسخ بذلك تلاوته ، وعلى هذه الرواية أين يكون الاتيان بخير منها أو مثلها؟ وأين يكون حفظ الذكر مع أن هذه الروايات وأمثالها قد أفرطت في الإكثار حتى جعلت مقدار الذاهب من القرآن أكثر من الموجود ، فتتبع كتب المحدثين الذين لا همّ لهم في تحقيق الحقائق ، وإنما همهم حفظ أساطير الأثر والتاريخ ، فيكتبون كل ما يسمعون أو يجدون ، ويوكلون أمر التحقيق إلى أهله ، ويحملون الفقه إلى من هو أفقه منهم.

وان آية الحفظ للذكر لتدل على ان الانسان لا يقع بالنسبة إلى القرآن الكريم الموعود بحفظه ، فتدل على ان المقصود بالنسخ والانساء في آيتهما هو ما اوحى من الآيات في الشرائع السابقة ، فنسخ بعضها وعفت بعضها عواصف الأيام حتى جعلته نسيا منسيا ، كما يشهد لذلك سوق الآية مع التي قبلها وهو قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ

٣٥٣

مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ، ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) فإن قلت : المراد بالآية هنا هو ما كان من القرآن ، قلت : من أين لك أن تخالف سياق القرآن وتتحكم عليه بغير علم؟ أفتقول : ان ما في الكتب الإلهية السابقة لا يسمى في القرآن آية؟ مع ان الله جل اسمه قد سمى في القرآن ما جاء في الكتب الإلهية السابقة بالآية والآيات ومدح من يتلوها فقال تعالى بعد ذم أهل الكتاب في سورة آل عمران ١٠٩ : (لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ).

وقال تعالى في سورة مريم بعد ذكر النبيين السابقين ٥٩ : (إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ٦٠ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ ...) ، وقال تعالى في سورة الزمر ٧١ : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ ...) ، فاتضح لك ان القول بمنسوخ التلاوة اخذا من الروايات المشار إليها مما لا حظ له بشيء من التحقيق والصواب لوجوه عديدة ..

وأما قوله تعالى في خطاب رسوله في سورة الأعلى ٦ : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ٧ إِلَّا ما شاءَ اللهُ ...) ، فلا يمكن حمله على حقيقة الاستثناء ووقوع مشيئة الله لنسيان القرآن إلى حد الخروج عن الانتفاع به ، وذلك لأنه مناف لوعد الله في الآية المتقدمة بحفظ الذكر ، ومستلزم لبطلان الوعد والامتنان بقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى ..) بل انه ليكون مثل قولك سأعطيك ولا آخذ منك إلا ما أشاء أن آخذه منك ، بل ومناف لما اتفق عليه المليون من عصمة الرسول في التبليغ ، ولازمه أن لا يذهب منه بالنسيان بعض ما يوحى إليه ، فيكون نظر الاستثناء إلى عروض النسيان زمانا يسيرا لا ينافي الوعد بحفظ الذكر ، ولا يضاد الامتنان بعدم النسيان ولا ينافي العصمة في التبليغ ، هذا إن جوزنا على الرسول هذا المقدار من النسيان كما ذهب إليه بعض المحدثين.

وأما إذا منعناه أيضا كما هو مذهب المحققين فتكون فائدة الاستثناء هو تسديد الأذهان بدوام اشعارها وتمرينها على الاذعان بعموم قدرة الله وتسلط مشيئته ، مع إيضاح وجه الامتنان في الوعد بعدم النسيان ، وذلك ببيان ان عدم

٣٥٤

النسيان ليس لأمر ذاتي في الرسول فيثور من ذلك ضلال الغلو وإنما هو منحة من الله وبيده مشيئة النسيان وإن لم يكن يشاؤه لأجل إجراء حكمة الرسالة ، وبهذا تعرف فساد تشبث المتعرب «ذ ص ٣٨».

وقد عنّ لنا أن نختم الجزء الأول تعجيلا لإنجاز مطبوعه حامدين لله على آلائه ، شاكرين له على ان هدانا بلطفه للحق ، ووفقنا بفضله لنصرته متوسلين إليه بحرمة أنبيائه وأصفيائه عليهم الصلاة والسلام أن يوفق عباده للأخذ بحظهم في رشدهم ، والنظر في امرهم ، ويجمعهم على كلمة الحق ، وجامعة الصواب انه ولي التوفيق وهو ارحم الراحمين.

وان ضرورة التنبيه على شطط الأضاليل ، وغفلات الجهل وفلتات التعصب ، وقبائح الجرأة قد ألجأت القلم الغير ان للحق الى ما نملك منعه عنه ابتداء ، ولنا عنه في بيان الهدى أحسن مندوحة نتجافى فيها عن التعرض للنحل ولكن القلم جرى ولسان حاله يقول : ان الاغضاء عن العادي على الحق خور ووهن ، وتخلية سبيل المضلين خذلان للدين القيم ، ومعاونة على الضلال والإثم والعدوان ، وعقوق للأخوان من البشر ، وقعود عن نصرتهم على عادية الشبهات ووساوس الغواية ، وذلك مما يأباه الدين والعواطف ويحظره العقل والشرع ، وما في احقاق الحق من غضاضة وان غيظ المضل ، على أهلها جنت براقش ، والحديث شجون.

سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا

جبال شروري ما سقوني لغنت

«وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه انيب» وسيأتي إن شاء الله المقدمة الثالثة عشرة في اوائل الجزء الثاني في ضمن فصول «والله المستعان ، وهو حسبي».

٣٥٥

الفهرس

مقدمة الطبعة الثانية : بقلم العلامة الفكيكي ـ بغداد ـ الاعظمية........................ ٥

خطبة الكتاب ، الداعي لكتابته.................................................. ٣١

ذكر بعض المتعرضين للإسلام وكتبهم.............................................. ٣٢

المقدمة الاولى : اسماء كتب اليهود والنصارى والترجمة السبعينية........................ ٣٤

الرموز المصطلح عليها ، نسخها الموجودة عند الكاتب............................... ٣٥

المقدمة الثانية : في دلالة العهدين على اختلاف الأوقات في وحي كتبها ، تهور سايل والمتعرب ٤١

المقدمة الثالثة : مخالفة ترتيبها لوحيها.............................................. ٤٤

المقدمة الرابعة : في الحالات المستغربة لأنبياء العهدين عند الوحي...................... ٤٦

تذييل فيما يذكره العهد القديم من الحالات الظريفة لأنبيائه في التبليغ.................. ٥٠

المقدمة الخامسة : في سيرة بني اسرائيل والملة النصرانية ، سيرة بني اسرائيل وتقلبهم في الشرك ، سبط يهوذا ، يوشيا ، وحلقيا ودعواه لوجدان التوراة بعد عدمها............................................................... ٥٣

مكابرة المتكلف وبيان فسادها ، عزرا والتوراة....................................... ٥٩

سيرة بني اسرائيل وأصحاب المسيح وتلاميذه والمعلمين في النصرانية واختلافهم واضطرابهم.. ٦٣

المقدمة السادسة : لا حجة بكتب العهدين ، شهادة بعضها على بعض بالتحريف صريحا ٦٨

التبديل في التراجم والمطابع....................................................... ٧١

المقدمة السابعة : في شروط البرهان والجدل ، وأخبار الآحاد.......................... ٧٤

المقدمة الثامنة : في رسالة الرسول وفيها بابان....................................... ٧٧

الباب الاول وفيه فصول : الفصل الاول : رسالة النبي............................... ٧٧

الفصل الثاني : الغاية المطلوبة منها................................................ ٧٧

الفصل الثالث : عصمته في العقل والنقل.......................................... ٧٨

الفصل الرابع : في الاعتراضات على العصمة....................................... ٧٨

٣٥٦

أجوبتها في تحقيق الحق وكشف الالتباس........................................... ٨٢

العهدان يكذبان أنبياءهما في التبليغ................................................ ٨٣

الباب الثاني : تحقيق الحال في نسبة المعاصي والذنوب الى الأنبياء وفيه فصول........... ٩٢

الفصل الاول : في ذكر آدم وما يقال في شأنه...................................... ٩٣

الفصل الثاني : في ذكر نوح وما قيل في شأنه....................................... ٩٨

الخمر والعهدين ، الخمر والمسيح................................................ ١٠٠

رواية النبيذ ورسول الله (ص) ، حقيقة النبيذ...................................... ١٠٦

الفصل الثالث : في شأن ابراهيم وما قيل فيه..................................... ١٠٩

ابراهيم والقرآن والتوراة......................................................... ١١٤

الفصل الرابع : في ذكر اسحاق وما جاء في شأنه................................. ١١٦

موسى والكذب على فرعون.................................................... ١١٨

الفصل الخامس : في نبوة يعقوب وما قيل في شأنه................................. ١٢٠

يعقوب ومخادعته لأبيه......................................................... ١٢١

الفصل السادس : في نبوة يوسف وما جاء في شأنه................................ ١٢٣

الفصل السابع : في رسالة موسى وما قيل في شأنه................................. ١٢٥

موسى والقرآن................................................................ ١٢٨

موسى والخضر................................................................ ١٢٩

قول موسى للسحرة........................................................... ١٣١

موسى والتوراة................................................................ ١٣٣

الفصل الثامن : في رسالة هارون وما ذكر في شأنه................................. ١٣٥

العناية بثبات هارون........................................................... ١٣٧

القرآن والسامري وكشف حقيقته................................................ ١٣٨

الفصل التاسع : في رسالة أيوب وما ذكر في شأنه................................. ١٤١

الفصل العاشر : في نبوة داود وما ذكر في شأنه................................... ١٤٣

داود والقرآن : داود والتوراة..................................................... ١٤٤

الفصل الحادي عشر : في نبوة سليمان وما ذكر في شأنه........................... ١٤٨

٣٥٧

سليمان والقرآن ، سليمان والعهد القديم......................................... ١٥٠

الفصل الثاني عشر : في نبوة اليسع وما ذكر في شأنه.............................. ١٥٣

الفصل الثالث عشر : في نبوة ارميا وما ذكر شأنه................................. ١٥٤

الفصل الرابع عشر : في نبوة حزقيال وما ذكر في شأنه............................. ١٥٥

الفصل الخامس عشر : في رسالة المسيح وما قيل في شأنه........................... ١٥٦

المتكلف والسؤال عليه في الفداء................................................. ١٦٢

نتيجة المقدمة................................................................. ١٦٥

الفصل السادس عشر : عصمة رسول الله (ص) محمد خاتم النبيين وما يتعلق بها....... ١٦٧

الآيات الشريفة تفسيرها بموهونات الروايات ، وأوهام المتكلف جدله بما في العهدين ، فلسفة القرآن في القذف تجربة المسيح وحاشاه من الشيطان ، العهد الجديد والتلاميذ والشيطان...................................... ١٦٩

المقدمة التاسعة : في بيان ما تثبت به الرسالة وتقوم به لله على الناس الحجة وبيان ما يلزم فيها وما لا يلزم      ٢٠٧

المعجز ما هو؟................................................................ ٢١٣

المقدمة العاشرة : في ذكر موانع للنبوة والرسالة الشاهدة على كذب ادعائها............ ٢١٨

المقدمة الحادية عشرة : في وجوب النظر في دعوى الرسالة........................... ٢٢١

فصل فيما يتعلق بكيفية النظر.................................................. ٢٢٢

فصل في انموذج النظر حسبما شرحنا من قوانينه تمرينا للذهن........................ ٢٢٤

الاحتجاج للمنع من الطلاق.................................................... ٢٤١

زربابل وابيهود وريسا........................................................... ٢٥١

أبيهود واضطراب المتكلف...................................................... ٢٥٢

ريسا واضطراب المتكلف....................................................... ٢٥٣

زربابل ونيري................................................................. ٢٥٤

نتيجة باهضة للمتكلف....................................................... ٢٥٦

ايليا ويوحنا المسيح............................................................ ٢٥٨

يوحنا ومعرفته برسالة المسيح.................................................... ٢٦٠

الاعميان والاعمى............................................................ ٢٦٣

٣٥٨

المجنون والمجنونان.............................................................. ٢٦٥

عدم تواتر كتبهم.............................................................. ٢٦٧

تناقض التعاليم............................................................... ٢٦٩

التناقض بين التعليم والعمل.................................................... ٢٧٠

المقدمة الثانية عشرة : في النسخ في الشريعة الإلهية وفيها فصول..................... ٢٧٥

الفصل الاول : في ماهيته وحقيقة المراد منه في الاصطلاح.......................... ٢٧٥

الفصل الثاني : في إمكانه...................................................... ٢٧٥

الناسخ والمنسوخ في شريعة نوح.................................................. ٢٧٩

التوراة وشريعة نوح والحيوانات................................................... ٢٨٠

التوراة وما قبلها في التزوج بالاخت.............................................. ٢٨٠

أيضا الجمع بين الاختين في التزويج.............................................. ٢٨٠

التزوج بالعمة................................................................. ٢٨١

يعقوب وليئة................................................................. ٢٨٣

رسول الله وإظهار الحق والمتكلف................................................ ٢٨٤

نسخ التوراة لحكمها في محرقة السهو............................................. ٢٨٥

أيضا امرأة الأخ............................................................... ٢٨٦

التوراة وداود وعمر اللاويين.................................................... ٢٨٧

التوراة وحزقيال والمحرقة اليومية................................................... ٢٨٨

أيضا محرقة السبت............................................................ ٢٨٨

وأيضا محرقة رأس الشهر........................................................ ٢٨٨

وأيضا محرقة الفصح........................................................... ٢٨٩

وأيضا محرقات عيد المظال...................................................... ٢٨٩

وأيضا ما هو للرئيس وما عليه وعليك تعداد ما فيه من النسخ....................... ٢٩٠

التوراة والمسيح والطلاق والتزوج بالمطلقة.......................................... ٢٩١

تعدد الزوجات................................................................ ٢٩٥

نسخ الإنجيل لحكم التوراة...................................................... ٢٩٦

و .. التوراة والرسل والختان..................................................... ٢٩٧

٣٥٩

عبد المسيح الكندي........................................................... ٢٩٨

و ... الحيوانات النجسة والمحرم أكلها............................................ ٣٠٠

«الذبائح وأحكام الكهنة....................................................... ٣٠٣

«السبت والاحد والسابع والاول................................................ ٣٠٣

«الناموس والعهد الجديد....................................................... ٣٠٦

«الرسل وبولس وما ذبح للأوثان والمخنوق والدم.................................. ٣٠٤

نوح والحيوانات............................................................... ٣٠٩

امتحان الله لابراهيم........................................................... ٣١٢

عمر اللاوي الموظف للمسكن.................................................. ٣١٣

حزقيال وتكليفه............................................................... ٣١٦

فينحاس وكهنوت نسله الابدي................................................. ٣١٨

عالي وكهنوت بيته............................................................. ٣١٩

مملكة شاول.................................................................. ٣١٩

موت حزقيا وشفاؤه............................................................ ٣٢٠

إنكار المتكلف ما في العهد الجديد.............................................. ٣٢١

اللعنة على من لا يقيم الناموس................................................. ٣٢٥

الأبد في التوراة والعهد القديم.................................................... ٣٢٦

استئناف للكلام مع المتكلف................................................... ٣٢٧

المتكلف وسر الفداء........................................................... ٣٣٠

مغفرة الله ورحمته.............................................................. ٣٣١

الاسلام والمتكلف............................................................. ٣٣٧

المتكلف والبرهمية والبوذية...................................................... ٣٣٩

الفداء عند المسلمين........................................................... ٣٤٠

الفصل الثالث : في وقوع النسخ................................................ ٣٤٠

المتكلف والنسخ.............................................................. ٣٤٢

العلماء والمفسرون............................................................. ٣٤٣

المفسرون والنسخ.............................................................. ٣٤٣

شروط الفتيا.................................................................. ٣٤٨

منسوخ التلاوة................................................................ ٣٥٢

٣٦٠