الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

والمنسوخ كما توهمه المتكلف ، بل لا يخفى ان مراده هو ان «اشعيا» أخبر «حزقيا» بأن الله أوجب عليه الوصية إلى أهل بيته معجلة لأنه يموت ولا يعيش ، ولا بد أن يرتفع هذا الحكم الذي كان معجلا لأجل ضيق الوقت بسبب الزيادة في عمر «حزقيا» خمس عشرة سنة.

فلما ذا لا يقول المتكلف في هذه الأمثلة الأربعة ان ملك الملوك ورب الأرباب لا يعقل ويتصور أن يقضي قضاء أبديا او يقدر أمرا الى الأبد او يخبر بوقوع شيء ويقرن كل ذلك بحكم شرعي ويكون كل هذا قابلا للنقض والخلف والتبديل بعد مدة او ساعة او يوم ، أفليست أعمال الله هاهنا منزهة منذ الأزل عن التناقض والتشويش ، ومعلومة عند الرب منذ الأزل جميع أعماله «اع ١٥ : ١٨» أفهاهنا ينبغي ان يقال ما قاله المتكلف ، أم في النسخ الذي تنادي في بيان حقيقته ألسنة المسلمين وأقلامهم ، وتبين بصراحتها لكل ذي فهم وكل مستقيم بأنه على نحو معقول لا تلزم فيه هذه المحاذير ، ويوضحون بأنواع الإيضاح ان مبناهم فيه وحقيقته هو ان الله يعلم منذ الأزل بما يناسب من الأحكام لمصالح العباد المختلفة بحسب الأزمان والأحوال فجعل في مخزون علمه لكل مصلحة ما يناسبها في اللطف والحكمة من الأحكام المحدودة بحدها ثم إظهار الله احكامه لعباده بواسطة أنبيائه غير محدودة بحدودها المعلومة عنده لحكمة اقتضت ذلك ، فإذا انقضى حدها المخزون في علمه أشعر عباده أيضا بالحكم المناسب للمصلحة المتجددة على ما كان مكنونا في علمه جلت آلاؤه ولا يجوزون النسخ فيما لو قال الله ان هذا الحكم دائم أبدا ، وكذا لو قال : ان هذا الحكم ثابت في حق العباد الى سنة مثلا فإنهم لا يجوزون نسخه قبل السنة لحصول التناقض والتشويش بين الأجل وابطاله بالنسخ قبل انتهائه.

أترى المتكلف لا يعلم بهذا كله من مذهب المسلمين؟ أو انه يعلم ولكنه ما ذا يصنع في أمر انعقدت عليه المجامع ، وكلف نفسه مئونة تمويهه اغماضا عن العاقبة.

ثم انه قد ضجر من كثرة تعداد الأمثلة في اظهار الحق لما في العهدين من النسخ فشذ به الضجر الى تعداد الاضداد المتقابلة «انظر يه ٤ ج ص ١٩٢

٣٢١

و ١٩٣» وكأنه قد طالع في ذلك الوقت كتاب المحاسن والاضداد «للجاحظ» فعلق ذلك في مخيلته ، وحق له ان يضجر فإنه ألف من المنقول عن الرسل و «بولس» نسخهم للشريعة جملة واحدة فيما عن قولهم ما طهره الله فلا تنجسه أنت ولا نضع عليكم ثقلا اكثر من هذه الأشياء الامتناع عما ذبح للأوثان والدم والمخنوق والزنى كل شيء طاهر للطاهرين كل خليقة الله جيدة إذا اخذت مع الشكر فإنه يصير ابطال الوصية السابقة من اجل ضعفها وعدم نفعها.

ومن هنا قال القسيس «سايل» ق. ص ٢٢٦ وكذا كاتب الرسالة المنسوبة لعبد المسيح ان الله تساهل مع اليهود فأعطاهم فرائض غير صالحة وأحكاما لا يحيون بها.

فيا من لم يسلب التعصب رشده أفهذه الأقوال في شأن الشريعة توافق حكمة الله ولطفه وعلمه ، ويكون النسخ على ما أوضحه المسلمون من حقيقته منافيا لحكمة الله وعلمه كما يزعمه المتكلف «يه ٤ ج ص ١٥٥».

ثم انظر فهل ترى هذه الأقوال تعطي ما يقوله المتكلف «يه ٤ ج ص ١٥٨» ان الديانة اليهودية هي ذات الديانة المسيحية ، والمسيحية هي ذات اليهودية فإن اعمال الله منذ الأزل منزهة عن التناقض والتشويش.

او انها كما عن «بولس» لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان.

وكما عن «يعقوب» الرسول ارى ان لا يثقل على الأمم لأن «موسى» منذ أجيال قديمة له في كل مدينة من يكرز به اذ يقرأ في المجامع في كل سبت «ا ع ١٥ : ١٩ و ٢١» فهل ترى لهذا الكلام مرمى الا انه يحث على ترويج امر المسيح بالتخفيف الموافق لأميال الامم وأهوائهم. وان «موسى» له من يروجه وقد استوفى حظه من الترويج.

انكار المتكلف ما في العهد الجديد

ومع هذا كله ينكر المتكلف ما قاله اظهار الحق من ان المنقول عن الحواريين انهم نسخوا أحكام التوراة العملية غير الأربعة ، وعن «بولس» انه

٣٢٢

نسخ ثلاثة منها أيضا ويقول «يه ٤ ج ص ١٩٣» ان هذا افك مبين فأتوا ببرهانكم ان كنتم من الصادقين.

فبولس كان من أعظم المناضلين عن العفة والتقوى وهو الذي قال : «انا فريسي» يعني انه عريق في الديانة الاسرائيلية وعلى كل حال فأيد أقوال الرسل لأنه لم يأت أحدهم منهم شيئا إلا بوحي الروح القدس.

ويقول أيضا «يه ١ ج ص ٢٧٣» ان الرسول يعني «بولس» لم يقل ان الشريعة الموسوية ضعيفة معيبة غير نافعة حاشاه من ذلك.

أقول : إذا فمن هو الذي قال في سابع العبرانيين ١٨ فإنه يصير ابطال الوصية السابقة من أجل ضعفها وعدم نفعها ١٩ إذ الناموس لم يكمل شيئا ، وفي الثامن ٧ فإنه لو كان الأول بلا عيب لما طلب موضع لثان ، وغير ذلك مما تقدم.

ويقال : ان بعض الحيوانات الوحشية إذا رأى الناس وخاف منهم وأراد ان يتستر عن عيونهم أدخل رأسه في الرمل وأبقى سائر بدنه بارزا وذلك لأجل توهمه بأنه إذا كان لا يرى الناس لدفن عينيه ، فالناس أيضا لا يرونه وان كان بارزا لهم ، وهل تراه إذ قال له الناس : رأيناك ، يقول : ان هذا إفك مبين فأتوا ببرهانكم إن كنتم من الصادقين.

دع هذا وهب ان ما عن «بولس» يناضل عن العفة والتقوى ، وهب انه أيد أقوال الرسل لأنه لم يأت أحد معهم إلا بوحي من الروح القدس. ولكن قل هل أبقت كلماتهم التي طرقت سمعك في هذه المقدمة أثرا لأحكام التوراة العملية ، أم لاشتها جملة ولا نكلفك ان تقول ان ذلك كان بنحو العيب لها وبيان عدم النفع فيها وطلبا للتخفيف موافقة لأهواء الامم واستمالة لقلوبهم لأن «موسى» قد استوفى حقه من الترويج.

فإن قلت : إذا كان معنى النسخ بالنحو الذي كشفت عنه من مراعاة المصالح بمناسباتها من الأحكام المخزونة في علم الله ، وكان تبديل الشرائع المنسوبة إلى العهدين بهذا الشيوع البالغ إلى حد الملاشاة ، إذا فما هو الوجه في

٣٢٣

إصرار المتكلف وأمثاله على انكار وقوع النسخ في أحكام الله بهذا الإنكار.

قلت : إن شئت ان تتعجب فتعجب ، وان شئت قلت انهم قد استحسنوا والفوا راحة نحلتهم واطلاقهم من قيود الشرائع بسر الفداء فحصنوا دوامها بدعوى امتناع النسخ في الاحكام الإلهية مقاومة لما يدهمهم من النبوات بشريعة الحق المصلحة لأسباب الكمال ونظام المدنية وسعادة الدارين.

وخلاصة الكلام معهم مع ما تراه من التفاوت والاختلاف الباهظ بين الديانة اليهودية حسب العهد القديم وبين الديانة النصرانية حسب العهد الجديد هو ان قولهم ان الديانة اليهودية هي ذات الديانة المسيحية اي النصرانية الرائجة وبالعكس ان أرادوا منه انهما متحدتان في الاحكام العملية فهو باطل بالوجدان إذ لا يخفى على أحد انه ليس في النصرانية الرائجة شيء من أحكام التوراة العملية ، وان أرادوا انهما متحدتان من حيث الإيصال الى المعارف الحقة وشرائع التكميل وحفظ المدنية والسعادة ، وان اختلفتا في الأحكام العملية رعاية لمصلحة الحال والوقت ، بل هذا الاختلاف ناشئ من اتحادهما في رعاية الغاية المطلوبة.

قلنا : بعد غض النظر عن المباحثات في مضامين هذا الكلام ، إنا معاشر المسلمين جميعا لنقول تبعا لرسول الله وكتاب الله ان الاسلام متحد مع الشريعة الموسوية الحقيقية ، والمسيحية الحقيقية ، وكل شريعة حق من حيث الغاية المطلوبة ، وان اختلف معهما في بعض الأحكام العملية رعاية للغاية الصالحة.

ولو قلنا : بأن اليهودية والنصرانية الرائجتين هما الحقيقيتان وان كتبهما الرائجة هي الكتب الأصلية لقلنا : ان الاسلام أكمل منهما في اسباب الوصول إلى الغاية والترقي في كمالاتها كما يشهد بذلك خلو التوراة الرائجة من معارف القيامة والثواب الدائم النعيم والعذاب الأليم اللذين هما اولى بالرغبة والرهبة ولم يقع الترغيب للطاعة في التوراة إلا بطفيف من زخارف الدنيا الفانية التي طالما تنعم بها المشركون بأضعاف ما حصل عليه الموحدون. ولم يقع الترهيب فيها ، والتخويف من وبال المعصية ، والتمرد على الله إلا بالفقر ، والآلام المنقضية والموت المحتوم على العباد مما يشترك به الناس برهم وفاجرهم ..

٣٢٤

وكما يشهد بذلك أيضا خلو الإنجيل عن مناسبات المصالح من الاحكام بل قد ألغى لوازم الاصلاح وضروريات المدنية من قوانين السياسة وأحكام الدفاع حتى اضطر جميع متبعيه الى مخالفته بتشريعها في ممالكهم حسب ما استحسنه عقلاؤهم وان لم يكن مستندا الى الوحي الالهي ، وأيضا ان المسيح قضى ثلاث سنين من نبوته واليهود في أشد المضايقة له وبالضرورة لا يمكنه في ذلك نشر ما عنده من التعاليم المخالفة للأهواء.

وغاية ما يذكر في الإنجيل انه كان يعلم بمكارم الاخلاق والذم لرياء المترئسين في الدين ومخالفتهم للشريعة ، وهذا مما تنشرح له قلوب العامة ويقبلون إليه ، ومع ذلك كان يفر بتعليمه هذا من مكان الى مكان ، وناهيك ما يقوله الإنجيل من أنه لم يستطع ان يجاهر بأن «قيصر» الوثني في ذلك الوقت لا يستحق أخذ الجزية من بني اسرائيل الموحدين ، بل كان يوري ويتحرف فيه حينما سأله اليهود ونصبوا له بذلك شبكة ليعرقلوه بالجواب «انظر مت ٢٢ : ١٥ ـ ٢٢ ومر ١٢ : ١٣ ـ ١٨ ولو ٢٠ ٢٠ ـ ٢٦» بل كان بنفسه يعطي الجزية لقيصر مت ١٧ : ٢٤ ـ ٢٧.

اللعنة على من لا يقيم الناموس

فإن قلت : ان لليهود حجة شرعية على امتناع النسخ للشرعية الموسوية وذلك لقول التوراة ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها «تث ٢٧ : ٢٦».

قلنا : من شروط صحة الاحتجاج بذلك ان تكون التوراة متواترة متصلة السند غير محرفة وهذا واضح البطلان كما يعرف من متفرقات كتابنا وخصوص المقدمة السادسة فقد ذكرنا فيها شهادة كتاب «ارميا» في موضعين منه بتحريف اليهود للتوراة وكلام الله ، وشهادة كتاب «اشعيا» بتحريف اليهود ، وكذا المقدمة الخامسة فقد اوضحنا فيها انقطاع سند التوراة وستأتي ان شاء الله زيادة الايضاح لذلك في المقدمة الثالثة عشر ، وكذا المقدمة العاشرة فقد اوضحنا فيها بطلان دعوى اليهود تواتر التوراة الى «موسى» عليه‌السلام. هذا كله مضافا الى ما في

٣٢٥

متفرقات كتابنا من بيان الموانع الداخلية في التوراة الرائجة من صحة سندها الى الوحي.

ومن شروط صحة الاحتجاج بما تذكره أيضا دلالته على انه لا تجيء بعد ذلك شريعة إلهية بواسطة نبي حق تجب طاعته وسماع قوله وليس فيما تذكره شيء من الدلالة على ذلك اما «أو لا» فلأن المحتمل كون اللعنة المذكورة على من لا يقيم الكلمات المذكورة في السابع والعشرين من التثنية. وتلك الكلمات واحكامها ثابتة في دين الاسلام على أكمل وجه وأما «ثانيا» فلو فرضنا ان اللعنة على مخالفة كل احكام الناموس فانما هي على المتمردين على احكام الناموس ممن يجب عليهم العمل به لا على الذين يخالفونه لأجل اتباعهم لشريعة حق إلهية يجب اتباعها لمناسبة احكامها لمصالح الزمان المتأخر. كيف وان التوراة تخبر بأن بني اسرائيل خافوا من هيئة خطاب الله لموسى بالشريعة وطلبوا غير هذه الهيئة فاستحسن الله كلامهم واخبرهم بمجيء نبي مثل «موسى» يجعل الله كلامه في فمه فيكلم الناس بكل ما يوصيه الله به ويجب اتباعه والذي لا يسمع له يطالبه الله. انظر تث ١٨ : ١٥ ـ ٢٠ وهل هذا إلا نبي يأتي بشريعة تجب طاعتها.

الأبد في التوراة والعهد القديم

فان قلت : ولهم حجة شرعية اخرى على المسلمين وهي ان كثيرا من شريعتهم قد نصت التوراة على انه ابدي والى الابد وذلك كالكهنوت الهاروني وكثير من شرائعه ومتعلقاته ، وكذا الاعياد والسبت. فيمتنع ما جاء به الاسلام من نسخ هذه الامور.

قلنا : وان الاحتجاج بهذا متوقف على صحة السند للتوراة الرائجة ، وقد ذكرنا انه لا سبيل الى ذلك ، ومتوقف أيضا على دلالة ما تذكره في الاصل العبراني على التأبيد مدى الليالي والايام وليس كذلك كما يشهد به التتبع في العهد القديم العبراني. فان كل ما قيل في تعريبه. فريضة ابدية ، فإنه في الاصل العبراني «حقت عولم» وما قيل في تعريبه «كهنوت ابدية» فانه في الاصل «كهونة لحقت عولم» وما قيل فيه. فريضة دهرية. فانه في الاصل «حقت عولم. وحق عولم. ولحق عولم» وما قيل يه «عهد ابدي. وميثاق ابدي» فانه في

٣٢٦

الاصل «بريت عولم» وما قيل فيه الى الابد فانه في الاصل «لعولم وعد عولم» هذا وقد قالت التوراة في بعض العبيد انه يخدم سيده الى الابد ، وفي الاصل العبراني «لعولم خر ٢١ : ٦» وان صموئيل قالت أمه بحسب نذرها له في خدمة بيت الرب انه يقيم هناك الى الأبد ، وفي الأصل «ويشب شم عد عولم ١ صم ١ : ٢٢» مع ان نذر هاله هو ان تعطيه للرب كل ايام حياته ١ صم ١ : ١١.

وفي المزامير حد عن الشر وافعل الخير واسكن الى الأبد «ع لعولم مز ٣٧ : ٢٧».

وفي المزمور المائة والتاسع عشر ٤٤ فاحفظ شريعتك دائما الى الدهر والى الابد «ع لعولم وعد» ٩٣ الى الدهر لا أنسى وصاياك «ع لعولم».

وهذا قليل من كثير تعرف به ان لفظ «عولم» في العبرانية غير مختص بالتأييد الى آخر الزمان ولا يدل على ذلك بل غاية ما نسلم من دلالته على دوام الشيء مدة استعداده المجعول له. فالعبد يخدم مدة عمره ما لم يتلف السيد عينه او سنه ، و «صموئيل» يسكن امام الرب مدة عمره. وفاعل الخير يسكن مدة عمره والشريعة بحفظها ، والوصايا لا ينساها مدة عمره ، والاحكام المذكورة في الاعتراض تدوم ما دامت الشريعة الموسوية قائمة لم تنسخ بشريعة النبي المماثل لموسى كما اخبرت به التوراة تث ١٨ : ١٥ ـ ٢٠.

على ان لنا ان نقول ان لفظ «عولم» في التوراة جاء منكرا غير مقرون بعلامة التعريف وهي الهاء في العبرانية ، فلا يدل الا على زمان من الازمنة ، واما التعريف في العربية فانما هو من المترجمين.

استئناف للكلام مع المتكلف

قال «يه ٤ ج ص ١٥٩ الاعتقاد بالنسخ هو ان يأتي للانسان بطريقة او مبدأ ثم ينسخه ويدعي انه من عند الله وهو مناف للعقل السليم والذوق المستقيم والديانة الصحيحة منزهة عنه وبريئة منه ، نعم : لا ننكر ان تجسد الكلمة الازلية هو فوق عقولنا ولكنه موافق للعقل ، والقرآن ناطق بأن المسيح كلمة الله وروح منه اخذ جسدا من مريم بدون واسطة بشرية بل حبل به بالروح

٣٢٧

القدس ، وهذا الاعتقاد موافق للعقل والنقل بل اظهر تنزه صفات الله عن النقص والعيب وانه لا يبرئ المذنب إلا إذا استوفى حقه وعدله ، اما الاعتقاد بالنسخ فإنه يحط بصفات حكمته وعلمه وإرادته ومشيئته وشتان بين العقيدتين.

أقول : قد بينا لك معنى النسخ وكشفنا لك عن حقيقته بما يتضح به لك توهم المتكلف او مغالطته في تعريفه له ، وكشفنا لك عن كونها أنسب بحكمة الله ولطفه في مراعاة مصالح العباد المختلفة بحسب الأحوال والأوقات على وجه عرفت ان الناسخ والمنسوخ سابقان في علم الله ، صادران عن مشيئته وإرادته منبعثان عن حكمته ولطفه وعلمه منذ الأزل بمناسبات الأحوال والأوقات ، فجعل جل شأنه كلا من الناسخ والمنسوخ بإزاء مصلحته وحده بحدها في مكنون علمه ، فأظهرهما لعباده بواسطة أنبيائه على مقتضى حكمته البالغة ورحمته الواسعة فلا نضجر سمعك بتكرار بيانه ، وإن كانت مضامينه تسبيحا لله ببيان حكمته ولطفه وعلمه ومراحمه بعباده بما يرتاح به العقل السليم ويستعذبه الذوق المستقيم ، وقد قدمنا لك في الأمثلة المتعددة عن العهدين صراحتها على مذاق المتكلف بأن «نوحا» و «موسى» و «داود» و «حزقيال» و «المسيح» والرسل و «بولس» كل واحد من هؤلاء قد جاء بحكم تشريعا او إمضاء ، ثم نسخه ويدعي انه من عند الله.

وهلم واعجب من اقتحام المتكلف وتهوره فأنه أحرز الموفقية في اقواله في النسخ ، فاقتحم بقوله : «نعم لا ننكر ان تجسد كلمة الله الأزلية هو فوق عقولنا ولكنه موافق للعقل» ، فسله وقل له : إذا كان ذلك فوق عقولكم فكيف تحكم بموافقته للعقل ، وإذ حكمت بأنه موافق للعقل فكيف يكون فوق عقولكم.

او تدري ما هو تجسد الكلمة عند المتكلف هو ان الإله اقنوم الابن ، ثالث الثالوث الذي هو واحد حقيقة ، وثلاثة حقيقة ، قد تجسد في الأرض وتوشح الطبيعة البشرية فأخذ جسدا من مريم وبقي اقنوم الأب واقنوم الروح القدس في السماء ، وبعد ثلاثين سنة انفتحت السماء ونزل اقنوم الروح القدس على شكل حمامة جسمية وحل على اقنوم الابن المتجسد ، وبقي الأب في السماء وصار اقنوم الابن المتجسد واقنوم الروح القدس الحال عليه في الارض يجرب

٣٢٨

من ابليس اربعين يوما إلى ان ذهب به ابليس إلى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة وأطمعه بأن يعطيها له على ان يسجد الإله المتجسد لإبليس ، ثم جاء به ابليس من البرية إلى «اورشليم» وأوقفه على جناح الهيكل ممتحنا له ، ثم بقي بعد ذلك ثلاث سنين يقاسي الاضطهاد من الناس حتى إذا دنا وقت الصليب حزن وبكى وتضرع إلى أقنوم الأب في ان تعبر عنه كأس المنية ، ولكن الأب لم يشأ ذلك ، وإذ آلمه الاضطهاد قال للأب إلهي إلهي لما ذا تركتني؟ وإذ دنا منه الموت صرخ بصوت عظيم وقال يا أبتاه في يديك استودع روحي ، وأسلم الروح ودفنوه ، وفي اليوم الثاني أقامه الله من الأموات وارتفع إلى السماء وجلس عن يمين الله ، هذا كله جرى على الكلمة المتجسدة والإله الذي توشح الطبيعة البشرية ليرفع قدرها.

اسمع هذا ولا تقل كيف وكيف فإن هذا بزعم المتكلف مما يهتز له العقل السليم طربا ، ويتطعم به الذوق السليم استلذاذا ، غفرانك اللهم سبحانك وتعاليت ، وليس هذا مقام التعرض لما في ذلك فدعه الى مجيء محله إن شاء الله وإن كان ما فيه لا يخفى على من عرف جلال الله وأقر له بالقدرة والوحدانية.

وأما قول المتكلف : بأن القرآن ناطق بأن المسيح كلمة الله وروح منه ، فاستمع لموقف ذلك من سياق القرآن الكريم ، وانظر الى انه هل يسعف المتكلف بشيء من الموافقة ، أم انه يجبهه بالمقاومة ويجاهر بإبطال مزاعمه ودحض أضاليله.

قال الله جل اسمه في سورة النساء ١٦٩ (يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً ١٧٠ ، لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ). ومعنى كون المسيح كلمة الله هو كونه أثرا لقوله تعالى (لكِنْ) على خلاف العادة في تناسل البشر ، ولا تحسب ان معنى ذلك يوافق ما في كتب إلهام المتكلف فإن فيها ما نصه : وكان الكلمة الله «يو ١ : ١» والمتكلف يقول : «يه ٢ ج ص ٣٨ س ٤»

٣٢٩

ان الكلمة الأزلية هي الله كما استشهد به المتكلف «ص ٢٩٠» وأين والآية الشريفة تكافح ذلك وتعلن بالتوحيد ، وبطلان التثليث ، وتنزه الله عن نسبة الولد إليه تعالى شأنه ، وتصرح بأن المسيح عبد الله ، ولن يستنكف من ذلك.

وعلى مثل هذا جاء قوله تعالى (وَرُوحٌ مِنْهُ) فإن المراد انه روح مخلوقة لله اودعت في «مريم» لا بواسطة نطفة وتوالد عادي ، بل هي من ناحية قدرة الله الباهرة ، وليس كما يحاول المتكلف جريا على كتابه القائل : الله روح «يو ٤ : ٢٤».

وأما الرب فهو الروح «٢ كو ٣ : ١٧» بل هي على نحو قول الله تعالى في شأن «آدم» (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الحجر «٢٩ وص ٧٢» وعلى نحو قول التوراة عن قول الله تعالى : «لا يدين روحي في الإنسان الى الأبد» «تك ٦ : ٣».

ثم ان المتكلف بعد اعترافه أولا بأن تجسد الكلمة الأزلية فوق العقول أقدم على مصادمة العقل والنقل فحكم بأنه موافق لهما ، ولم يكتف بذلك بل قال : ان تجسد الكلمة «وهو بالنحو الذي شرحناه لك» أظهر تنزه صفات الله عن النقص والعيب ، وكأنه لو لم تنفصل الكلمة اقنوم الابن عن الأب ، ويتجسد على الارض ويجري عليه ما ذكرنا من كتب إلهامهم من تصرف ابليس به ، واطماعه بممالك المسكونة ليسجد له وتوارد الاضطهادات عليه ، بل كان الله واحدا قهارا عزيزا غير مثلث ولا متجزئ ولا مضطهد لكانت صفاته غير منزهة عن النقص والعيب ، سبحانك اللهم وتعاليت.

وأما قول المتكلف : ان الله لا يبرأ المذنب إلا اذا استوفى حقه ، وعدله ، فليت الكامل والناقص والفاهم والغبي يسألونه كيف أظهر تجسد الكلمة ان الله لا يبرئ المذنب إلا إذا استوفى حقه وعدله ، فهل يقول : ان العقل والأنبياء والعهد القديم قد قصروا في بيان هذه الحقيقة او قصروا عنه.

المتكلف وسر الفداء

أم يريد المتكلف ما يلهج به من سر الفداء ، وان الله استوفى حقه من الخاطئين وعدله باضطهاد الفادي الكريم وذبيحته فإنه قال «يه ٢ ج ص ٢٩١»

٣٣٠

وعقاب الخطيئة هو الموت في جهنم إلى الأبد لأن المولى سبحانه وتعالى قدوس طاهر وعدله يستلزم عقاب الخطيئة بهذه الكيفية ، فالمسيح احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب ووفى ما كان علينا من الدين «و ٤ ج ص ٢٤٧» ان الكلمة الأزلية أو ابن الله بموته ، وفى للعدل الإلهي حقه «وص ٢٧٩» ان الله سبحانه وتعالى حكم في كتابه العزيز بأن كل نفس تخطئ موتا تموت في جهنم النار إلى الأبد لأن عدله يستلزم هذا القصاص لقداسته التي لا تحد ولمقته الخطيئة مقتا شديدا فلا يمكن ان يغض الطرف عن قصاص الخاطئ لقداسته وكراهته الخطيئة «وص ٢٨٠» ان الله سبحانه وتعالى أظهر رحمته ومحبته بتجسد الكلمة الأزلية فلبس هذا الجسد وكان يلزم أن يكون الفادي طاهرا قدوسا منزها عن النقص حتى يفي للعدل الإلهي حقه ويخلص الخطاة ، فالمسيح «يسوع» قام بهذا الأمر وقدم نفسه فداء عنا ، فالعدل الإلهي كان يستوجب عقابنا وموتنا «اي في جهنم النار الى الأبد» فمات الفادي الكريم عوضا عنا ، ووفى للعدل الإلهي حقه.

فدقق في حفظ هذه المضامين على ذهنك وقل للمتكلف لما ذا لا يمكن لله ان يغض الطرف عن قصاص الخاطئ.

مغفرة الله ورحمته وجوده

ومن ذا الذي يمنعه عن المغفرة للخاطئ بجوده ورحمته الواسعة كما يعاقب بعدله وقداسته ، أفلم يكن له نصيب من جود الفادي الكريم ورحمته أفلم يقل العهد القديم ان الله إله رحيم ورءوف غافر الإثم والمعصية والخطيئة «خر ٤٣ : ٦ و ٧» ونحوه «عد ١٤ : ١٨» وغفور وكثير الرحمة لكل الداعين إليه «مز ٨٦ : ٥» والذي يغفر جميع ذنوبك «مز ١٠٣ : ٣» ومن هو إله مثلك غافر الإثم وصافح عن الذنب «مي ٧ : ١٨» وللرب إلهنا الراحم والمغفرة «دا ٩ : ٩» وإله غفران «نح ٩ : ١٧» وعن قوله تعالى : «أنا هو الماحي ذنوبك لنفسي وخطاياك لا اذكرها «اش ٤٣ : ٢٥» قد محوت كغيم ذنوبك وكسحاب خطاياك «اش ٤٤ : ٢٢».

وفي المزمور الخامس والعشرين ٧ اذكرني أنت من أجل جودك يا رب وفي

٣٣١

الحادي والثلاثين ١٩ ما أعظم جودك الذي ذخرته لخائفيك ، وفي تاسع زكريا ١٧ ما أجوده ، أفلم يمكن لله جل جلاله أن يتصف بهذه الصفات إلا أن تتجسد الكلمة على الأرض ويجري عليها ما جرى من الاضطهاد ثم أجمع في ذهنك ما تقدم من كلمات المتكلف مع قوله «يه ٢ ج ص ٣٨ س ٤» ان الكلمة الأزلية هو الله.

وقوله «٤ ج ص ٢٨٥» المسيح هو الله ، وقوله «٣ ج ص ١٧١» المسيحيون يعتقدون بأن الذات العلية والكلمة الأزلية والروح القدس هم الله الواحد الأحد ، وخذ حاصل هذه الأقوال في ذهنك ثم ليقرر لك المتكلف او بعض محبيه بقية كلامه في سر الفداء ولا تدعه يطوى الكلام على غره ، بل دقق في السؤال منه وجادله بكلامه ، فإذا قال : ان الله أظهر رحمته ومحبته بتجسد الكلمة ، فقل له : ان عليك أن لا تعمى بل تقول حسب كلامك ، وأول «يوحنا» ان الله أظهر رحمته ومحبته بتجسده.

وإذا قال : فالمسيح احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب نقل له : انك قلت ان الكلمة الأزلية هي الله ، والمسيح هو الله ، فعليك أن تقول واستغفر الله ، فالله احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب «وهو الموت في جهنم النار إلى الأبد» تعالى الله عن ذلك ، فينتج من كلامك ان الله لا يمكن ان يغض الطرف عن قصاص الخاطئ لعدله وقداسته فلا يمكن أن يغفر ويمحو حسب رحمته ومحبته ، فلم يجد حيلة لمخادعة عدله وقداسته إلا ان يتجسد ويحتمل في جسده ما يستوجبه الخاطئ من العقاب ، أترى لو جعل الإيمان والتقديس في ناحية ، وجعلت خرافات الكفر في ناحية ، ففي أي الناحيتين يكون هذا الكلام ، فإن قال لك المتكلف : ان الفادي الذي احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب هو غير الله ، فقل له «أولا» : هذا مناقض لقولك ومعتقدك بأن الفادي هو المسيح الذي هو الكلمة الأزلية التي هو الله ، ثم قل له هل من عدل الله القدوس العادل ان يعاقب غير الخاطئ وكيف أمكن ان يغض الطرف عن قصاص الخاطئ ، أو ليس قد قال كتابكم أن النفس التي تخطئ هي تموت «حز ١٨ : ٤ و ٢٠» وكل واحد يموت بذنبه كل إنسان يأكل الحصرم

٣٣٢

تضرس أسنانه «ار ٠٣١ ٣٠».

فهل ترى أحدا من ملوك الارض يقبل من أحد الأبرياء أن يحتمل بالرغبة ما على المقصر من الصلب والإعدام ، ولو ان الملك قبل ذلك وأجرى على البريء قصاص المقصر وترك المقصر آمنا في تمرده لعده العقلاء ملكا قاسيا وحشيا لا يبغض الخطيئة على الخصوص إذا كان البريء يطلب من الملك أن تعبر عنه كأس القصاص ويبكي ويحزن ويكتئب ويقول : إلهي إلهي لما ذا تركتني؟ فإن قال : ان الفادي الكريم لم يحتمل قصاص الخاطئ حسبما يقتضيه العدل الإلهي وهو الموت في جهنم النار الى الأبد ، وإنما احتمل ألم الصلب والاضطهاد والموت في أقل من ثلاثة ايام ثم أقامه الله من الاموات مكرما ممجدا ورفعه الى السماء فجلس عن يمين الله فقل له «أو لا» : إذا كان الفادي الكريم هو الكلمة الأزلية التي هي الله ، والمسيح الذي هو الله فمن هو الذي أقامه الله؟ ومن هو الذي جلس عن يمين الله؟.

و «ثانيا» إذا كان عدل الله وقداسته ومقته للخطيئة يستلزم عقاب الخاطئ بالموت في جهنم النار الى الأبد ، فلما ذا تنازل عدل الله الى كون القصاص يوما وبعض يومين؟ فهل كان العقاب الذي هو لازم العدل ما لا احوجت ضرورة الوقت الى تعجيل استيفائه بالتنزيل الفاحش ، أم كان هذا التنازل واستيفاؤه من البريء محاباة للأثمة الخاطئين ، كيف وكتابكم يقول ان الله ليس عنده محاباة «انظر ٢ أي ١٩ : ٧ ورو ٢ ، ١١ وابط ١ : ١٧» بل النفس التي تخطي هي تموت ، هذا كله مع ان الابن ان كان قد اعطى وعدا للأب بهذا الفداء الذي عرفت موقعه من العدل والقداسة ومقت الخطيئة ، فبمقتضى كتابكم انه قد استعفى واستقال من هذه المعاملة مع الأب لما قرب وقت الاستيفاء ولم يردها ، وقال : وهو حزين جدا يا أبتاه ان أمكن فلتغبر عني هذه الكأس «مت ٢٦ : ٣٨ و ٣٩» وكان يصلي لكي تعبر عنه الساعة إن أمكن ، وقال : يا أبا الأب كل شيء مستطاع لك فأجز عني هذا الكأس «مر ١٤ : ٣٥ و ٣٦» وجثا على ركبتيه وصلى قائلا يا أبتاه ان شئت ان تجيز عني هذه الكأس ، وظهر له ملاك من السماء يقويه وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على

٣٣٣

الارض «لو ٢٢ : ٤١ ـ ٤٣» ولكن لما رأى الحال قد اقتضى التصميم على هذا القصاص والاستيفاء تنازل عن إرادته التي لا تقيده ، ثم قل للمتكلف عودا على بدء وكرر عليه في السؤال وان ضجر من هو الكلمة ، ومن هو الاله العادل ، ومن هو الأب ومن هو الابن؟ ومن هو الاله الذي تقمص الطبيعة البشرية؟ ومن هو الله؟ ومن هو الفادي؟ ومن هو المسيح؟ ألست تقول هم الله الواحد الأحد ، والمسيح هو الله ، فعليك بقانون البيان والايضاح في الكلام خصوصا في المعارف اللاهوتية أن تقول واستغفر الله ان الله العادل القدوس الذي يمقت الخطيئة ويستلزم عدله عقاب الخطيئة بالموت في جهنم النار إلى الأبد هو الذي احتمل ما تقولونه وفدى الخاطئين لأنه أراد أن يظهر رحمته ومحبته ولا يمكنه أن يغض الطرف عن قصاص الخاطئ لقداسته ، فوقعت المخادعة للعدل والقداسة بالتجسد والتنازل بالفداء والقصاص ، فإن قال لك أن الفادي غير الله فكرر عليه السؤال بما قلناه في قولنا «أولا ، وثانيا» فإن قال لك كما قال سابقا ان تجسد الكلمة الأزلية فوق عقولنا ، فقل له : هبك رضيت بأن تعبد الله بما هو فوق عقولكم ولكن لما ذا تتكلم في النسخ بذلك الكلام الفاحش مع ان اظهار الحق فضلا عن غيره من المسلمين قد كشف لك عن حقيقته واوضح لك معقولها وانها مقتضى لطف الله بعباده وحكمته وعلمه بالمصالح ومقتضياتها واصلاح عباده على طبقها وقد اوقفك على مواقعه في العهدين. ولما ذا لم تكتف بتكرار قولك. وعلى كل حال فلا ناسخ ولا منسوخ.

الإسلام والمتكلف

ثم ان المتكلف بعد ان أودع كتابه مثل هذه الطامات التي تشوه وجه المعقول والمنقول وتخالسهما بالجحود لحقيقة العدل والتوحيد والحكمة والجبروت وكثير من صفات الجلال صار يستنتج الغلط من الغلط.

فقال بعد كلامه الأخير «يه ٤ ج ص ٢٨٠» فلا شيء من الدينونة على الذين في المسيح يعني ينسب إلينا بر المسيح بالإيمان ، فالمسيح حفظ الشريعة فبالايمان به ينسب إلينا حفظها ، والمسيح مات فبالايمان به ينسب إلينا موته فكما انه بآدم الأول دخلت الخطيئة فبآدم الثاني دخل البر فيكون الله عادلا في تبريرنا

٣٣٤

لأنه عدله استوفى حقه فصار عدله ورحمته متساويين فلا تفاوت بينهما وهذا بخلاف المسلمين الذين يرتكنون على رحمة الله في الخلاص ويغضون الطرف عن عدله وعن كونه منتقما جبارا فأنت ترى ان طريقة خلاصهم واهية واهنة فاسدة بعيدة عن العقل

السليم ، أما وهنها فلأنها غير مؤسسة إلا على أوهام باطلة كارتكانهم على رحمة الله فقط ، وغضهم الطرف عن عدله وقداسته ومقته للخطيئة «ص ١٨١».

ومما يدل على فساد الطريقة الإسلامية أيضا انها تستلزم ان رحمة الله أعظم من عدله ، والعقل السليم لا يقبلها.

أقول : فأين صار العدل الإلهي إذا كان لا شيء من الدينونة على الذين في المسيح ، وبأي عدل وحكمة ينسب إليهم بره ، كيف وكتابهم يقول : ان الله يغفر الاثم والخطيئة ، ولكن لا يبرئ ابراء «خر ٣٤ : ٧ وعد ١٤ : ١٨ ونا ١ : ٣».

وما معنى ان حفظ المسيح للشريعة ينسب إليهم وبأي عدل يكون ذلك وبأية حكمة؟ فهل كان جعل الشريعة لأجل حاجة الله إلى العمل بها حتى يقال ان عمل بعض الناس يسد حاجة الله ويغني عن عمل غيره ، وبناء على هذا الغلط أيضا لا يصح أن يكون عمل واحد ينسب الى غيره ، أو ليس يعلم كل ذي عقل ان تشريع الشريعة إنما هو لطف من الله بعباده جميعا ليتكملوا ويتقدسوا بالعمل بها ويصلح به اجتماعهم وينالوا سعادة الدارين ، ولو لا ذلك لكان من أفحش الظلم إلزام كل أحد بالعمل بها.

وأفحش منه توقف الاقالة منها على الفداء كما عن قول «بولس» المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا ، وحاصله ان الله جل شأنه برر المجرم بحمل عقابه ولعنته على البريء البار «كذى العر يكوي غيره وهو راتع» أفهذا عدل الله عند المتكلف؟ وكيف استوفى عدله حقه وممن استوفاه وعلى اي نحو جزاف استوفاه ، أيستوفي عقاب مليونات لا تحصى من الخلق وهو موتهم في جهنم النار إلى الأبد بموت بار يوما وبعض يومين ، ويكون هذا من العدل واستيفاء الحق.

٣٣٥

فهل سمعت عن الملوك المتمدنة انه وقع في شرائعهم الاصلاحية او قصاصاتهم العرفية مثل ذلك؟ وهل سمعت انه وقع عند التجار حينما يلتجئون إلى التنزيل مثل ذلك؟ وكيف يكون المستوفي بهذا النحو عادلا منتقما جبارا فلو ان ملكا أرضيا عصته رعيته ، ولاشوا شريعته ، وسفكوا الدماء وهتكوا الحريم ، ونهبوا الأموال ، وتعدوا الحدود فأراد ان يعطي عدله حقه ، فقدم ابنه البري ليفدي رعيته المقصرين المتمردين من عقابهم العظيم بضربة لابنه فاستعفاه الابن وبكى وتوسل إليه في أن تعبر عنه كأس الفداء فلم يسمع له بل ضربه ضربة واحدة وإن كانت مؤلمة بدلا عما تستوجبه الرعية بجرائمها من الاعدام والحبس والتبعيد ، وجعلهم بعد ذلك وهم على عاداتهم الوخيمة مبررين قد آمنوا وبال العقاب واطمأنوا بدستور الفداء ، أفنقول ان هذا الملك عادل قدوس يمقت الخطيئة ، وقد استوفى عدله حقه فهو منتقم جبار أم تقول وعلى قول المتكلف ان الأب والابن واحد يرجع المثال الى أن الملك ضرب نفسه ليستوفي عدله حقه ويفدي رعيته حسبما ذكرنا.

ومع هذا كله والمتكلف يقول «يه ١ ج ص ٢٧٤» ان عند المسلمين عهد الاعمال ، ومن سوء الحظ لا يوجد عندهم عهد النعمة عهد الخلاص.

فنقول : الحمد لله على عظيم نعمته ولطفه إذ شرع لنا شريعة الحق ، وعرفنا صالح الأعمال ووسائل القرب منه والفوز برضاه ، وسدد جامعتنا لحفظ الشريعة ، ووفقنا للقول الثابت في توحيده وتقديسه ، وهدانا الى معرفة عدله وقدرته وقدسه لنخشاه ، ومواقع رحمته وغفرانه لننيب إليه بالرجاء ، وعصمنا من مخادعات النفس الأمارة ، ومغالطات الهوى ومخالسات الشيطان فلا زالت نعم الله وألطافه علينا ظاهرة وباطنة ، ومن عظيم توفيقنا وحسن حظنا ان الشيطان الرجيم قد نكص عن عرفان جامعتنا خاسئا. فلم يمزج توحيدنا بالشرك ، ولم يغالطنا بالتمرد على الشريعة الالهية وملاشاتها ولم يدس في معرفتنا بجلال الله وقدسه لوازم النقص والعجز ، وأغاليط الوثنية ، وخرافات البوذية.

ولا ألوم المتكلف إذ لم يعرف طريقة خلاص المسلمين ، فلا يخف على طالبي الهدى ان المسلمين يقولون اقتداء بقرآنهم كتاب الله ، واهتداء بأنوار

٣٣٦

شريعتهم ، وتمسكا بعروة العقل الوثقى ان الله جل شأنه عادل قدوس عزيز ذو انتقام وغفور رحيم غني حميد ، فإن انتقم من ذات الخاطئ المجرم وعاقبه بجرمه فهو عادل لأجل استحقاق المجرم للعقاب ، وان غفر له وسامحه فذلك من رحمته وفضله وغناه من عقابه ، فمعاملة المجرم بالعدل وحده إنما هي العقاب فالعدل هو المخوف الذي ترتعد منه فرايص المجرمين ، وإنما يرجى الخلاص بالرحمة من الله الغني ، وهذا من أوضح البديهيات.

وما كنت أحسب ذا شعور يقول : ان المجرم ينبغي ان يرجو خلاصه من عدل الله ، وإذا رجاه من رحمته يكون قد جعل رحمته أعظم من عدله فتتفاوت صفاته جل شأنه.

ولما ذا لا يقول المتكلف إذا رجونا الخلاص من عدل الله يكون عدله أعظم من رحمته فتتفاوت صفاته؟ ولما ذا لم يفهم المتكلف ان ما ذكره من تنازل عدل الله وجريه على خلاف مقتضاه لما أظهر الله رحمته ومحبته بتجسد الكلمة هو الذي يستلزم أن تكون رحمة الله أعظم من عدله ، ليس هذا فقط ، بل يرجع الى أن محبته ورحمته قد غالطت عدله ، وخادعته وقهرته حتى جرى على خلاف مقتضاه ، وتنازل إلى مقتضاها تعالى الله عن ذلك وتقدس.

معارف القرآن والمتكلف

ولكن المتكلف يقول «يه ٢ ج ص ٢٩٩» ان القرآن اتخذ من الكتاب المقدس بعض صفات الله وكمالاته إلا انه لا يعرفها حق المعرفة كما هي مدونة في مصدرها الأصلي فلا يعرف عدل الله الذي اقتضى تجسد الكلمة الأزلية واحتمال الصلب للتكفير عن خطايا كل من يؤمن به فإن القرآن يتوهم ان رحمة الله أوسع من عدله كأنه يوجد تفاوت بين صفاته جل شأنه.

قلنا : ان كنت قد نزهت ذهنك عن وصمة العصبية والتقليد ، كما هو الأمل الوطيد بالمعاصرين المتنورين ، فقد اوضحنا لك لزوم الشطط في بناء الخلاص على العدل خصوصا إذا كان بنحو تجسد الكلمة والفداء باحتمال القصاص على النحو الذي يكرره المتكلف مما يتهافت من جميع اطرافه على نسبة

٣٣٧

النقض لذات الله جل شأنه بل والجحود لحقيقة إلهيته.

ولو ان القرآن اتخذ صفات الله من كتابهم لكان ربما اعتمد في احتجاجاته على قول الكتاب بتعدد الآلهة «انظر يو ١٠ : ٣١ ـ ٣٧» وبتعدد الأرباب «انظر مت ٢٢ : ٤١ ـ ٤٦ ومر ١٢ : ٣٥ ـ ٣٨ ولو ٢٠ : ٤١ ٤٥» او ما ترى القرآن. قد بنى أساس دعوته وقانونها على ابطال هذه الخرافات وارغامها ولقال فيما قال ان الله حزن وتأسف في قلبه «تك ٦ : ٦ و ٧ ومز ٧٨ : ٤٠ واش ٦٣ : ١٠ واف ٤ : ٣٠» ولقال : ان جماعة رأوا الله وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف «خر ٢٤ : ١٠ و ١١».

ولما قال (١) (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) ، ولقال : ان الله صارع بعض الناس إلى الصباح فلم يقدر عليه وطلب منه أن يطلقه «تك ٣٢ : ٢٤ ـ ٣١».

ولما قال (٢) (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) (وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ) ، ولقال يا رب لما ذا أسأت إلى هذا الشعب؟ لما ذا أرسلتني «خر ٥ : ٢٢» لما ذا أسأت الى عبدك «عد ١١ : ١١» ولقال : يا ايها السيد الرب حقا انك خداعا خادعت هذا الشعب واورشليم قائلا : يكون سلام وقد بلغ السف؟؟؟ النفس «ار ٤ : ١٠».

ولم يقل (٤) : (إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٥) (وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) ، ولقال الله محبة «١ يو ٤ : ٨ و ١٦» ، ولقال لأبشر لا بحكمة كلام ان الله استحسن أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة «١ كو : ١٧ و ٢١» وفي الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ م بحماقة الكرازة ، ولم يقل (٦) (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) ولقال ان جهالة الله ، أو تحامق الله أحكم من

__________________

(١) الانعام : ١٠٣.

(٢) الشورى : ٩

(٣) الانعام : ١٨.

(٤) آل عمران : ٧.

(٥) التوبة : ١١٢.

(٦) النحل : ١٢٦.

٣٣٨

حكمة الناس ، ولم ينوه في كثير من مضامينه بحكمة الله ولم يقل (١) (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) ولكنه (ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

وأما قول المتكلف : «ان القرآن لا يعرف عدل الله الذي اقتضى تجسد الكلمة إلى خره». فقد بينا لك اين يكون هذا من عدل الله وتنزيهه وتوحيده ، وأين القرآن وما يزعمونه من تجسد الكلمة ، وكيف والقرآن هو المقاوم لذلك والمنادي بتوحيد الله وتقديسه وبطلان التثليث والثالوث.

المتكلف والبرهمية والبوذية

وإن اراد المتكلف من يعرف ذلك فعليه بمصدره الاصلي واساس تعليمه وهي عقائد البراهمة والبوذيين وكتبهم كما ذكره «بطرس» البستاني في دائرة المعارف فقد ذكر في الجزء الخامس منها ص ٣٧٥ ان «برهم» هو المعبود الاول عند الهنود وكثيرا ما يجعلون «برهم» اسما للاقانيم الثلاثة المؤلف منها ثالوث الهنود وهي «برهما» و «وشنو» و «سيوا» ويسمى برهم «فتش» اي الكلمة. وأما برهما فهو نفس برهم معبود الهنود بعد ان شرع في اعماله. وهو الاقنوم الاول من الثالوث الهندي اي ان برهم ينبثق من نفسه في ثلاثة اقانيم كل مرة في اقنوم. فالاقنوم الاول الذي يظهر به اوّل مرة هو «برهما» والثاني «وشنو» والثالث «سيوا» ، ثم ذكر ما عندهم من التجسد. وفي ص ٣٧٦ ذكر ان القاب «سيوا» عندهم هي. السيد. والرب. والخالق. والمنتقم وفي ص ٦٥٩ ذكر عن البوذية امورا يعتقدونها في تجسد «بوذه» واحواله منها ١ عزمه في السماء الرابعة على التخليص واختياره ان يولد من «مايا» حال كونها عذراء ٢ تجربة «المارا» له وهو معبود الحب والخطيئة والموت وتغلبه على سحره واهواله ٣ عند ظهوره لاجراء عمله تقاطر إليه رجال ونساء من جميع الاصناف واكثر الحكام يتبعوه هم ورعاياهم ٤ عمل آيات كثيرة واختار في آخر امره من النساء وكيلات له ٥ كان «اتندا» تلميذه المحبوب ٦ يعتقد البعض انه تسجد تاسع لوشنوء وانه

__________________

(١) البقرة : ٢٧٢.

٣٣٩

اصلح البرهمية بادخاله فيها قانون ايمان بسيطا. وابداله عاداتها وشرائعها القاسية بشرائع ادبية ذات لين ورفق ، فالبوذية ديانة بسيطة ادبية عقلية مضادة للفلسفة والاحتفالات وحرفة الكهنة. سهلة المراس تدعو جميع الناس إليها. مسهلة للجميع طريق الخلاص. ولها عدة مجامع في امر الدين وانظر أيضا الى سو سنة «سليمان» «ص ٥٥ و ٥٦».

الفداء عند المسلمين

فإن قلت : أليس عند المسلمين معنى معقول للفداء ، وهلا يمكن لبعض الأولياء ان يكون فاديا ، قلت : أما على ما يقوله المتكلف فمعاذ الله ، نعم كل من أعلن بدعوة الحق ، وجاهر بمقاومة الباطل ، وأبدى صفحته للاضطهاد في سبيل الله ، لا تأخذه في الهدى إلى الحق لومة لائم ، فهو فاد لمن يهتدي بنور هداه ، وان من الفادين من أقدم في الجهاد في سبيل الله على تحمل أنواع الاضطهاد وبذل النفس والأعزة للقتل لأجل علمه بأنه ان لم يعل كلمة الحق بالظفر فإنه يعليها بتحمله الاضطهاد ، وان اضطهاده وقتله وسوء المعاملة له مما يعلي كلمة الدين ويوضح نهج الحق وينبه الناس على ضلالة قاتليه ومضطهديه ، ولكن لا يمكن لنا أن نسمي المسيح فاديا بهذا المعنى لأجل تصريح كتاب الله بأنه ما قتل ولا صلب بل هو فاد بالمعنى الأول.

الفصل الثالث : في وقوع النسخ

اعلم ان كلما ذكرناه من العهدين من أمثلة وقوع النسخ فإنما يتيسر لنا الاحتجاج به على سبيل الجدل والإلزام لمتبعهما وذلك لعدم علمنا بكون الناسخ والمنسوخ فيهما من الأحكام الإلهية ، وبعبارة اخرى لما كنا نعلم بانقطاع سندهما ووقوع التحريف فيهما لم يسغ لنا أن نقول على ما فيهما هذا حكم إلهي ناسخ ، وهذا حكم إلهي منسوخ.

نعم : برهاننا على وقوعه ما في القرآن الكريم في سورة آل عمران في الحكاية عن قول المسيح في دعوته ٤٤ (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) وكذا ما نعلمه إجمالا في انحاء العبادات السابقة حيث قيدها الاسلام بكونها عربية ،

٣٤٠