الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

أما يوحنا فلما سمع في السجن بأعمال المسيح ارسل اثنين من تلاميذه ٣ وقال له : انت هو الآتي أم ننتظر آخر ٤ فأجاب يسوع وقال لهما : اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران ٥ العمى يبصرون ـ وطوبى لمن لا يعثر فيّ.

وفي سابع لوقا بعد ان ذكر بعض المعجزات واحياء ابن الأرملة في نايين قال ١٨ فأخبر يوحنا تلاميذه بهذا كله ١٩ فدعا يوحنا اثنين من تلاميذه وأرسل الى يسوع قائلا أنت هو الآتي أم ننتظر آخر إلى آخر ما تقدم.

قال المتكلف «يه ٤ ج ص ٢٥٠» ان مقصود يوحنا من إرسال التلميذين هو لكي ينظرا بأعينهما أعمال المسيح ويؤمنا به.

قلت : طريق ذلك في الهدى والارشاد ان يقول لهما يسوع هو المسيح الموعود به فاني نبي اخبركم بذلك عن الله وقد رأيت روح الله قد استقر عليه وعرفتم أنتم دعوته ومعجزاته فآمنوا به ولكي يزداد إيمانكم وتطمئن قلوبكم فاذهبوا وعاينوا معجزاته الباهرات.

وأما الكلام الذي ذكرناه عن متى ولوقا فهو أجنبي بسوقه ولفظه وشواهده عما يزعمه المتكلف.

كيف وصريح لوقا ان التلاميذ هم الذين اخبروا مرشدهم يوحنا بمعجزات المسيح ولا يصح ان يكون تلاميذ يوحنا إلى حين دخوله في السجن لم يكونوا من المؤمنين بالمسيح ، كيف وقد كان يوحنا يلهج وينادي بالبشارة بالمسيح قبل ان يعتمد المسيح منه ويحل عليه روح القدس أفيترك تلميذيه الى حين دخوله في السجن وهما لم يؤمنا بالمسيح حق الايمان.

وأيضا ان كان ارساله التلميذين لأجل ما يزعمه المتكلف فهو الواجب على النبي المرشد ان يقول لهما : ما يسددهما ويهديهما الى الايمان إذا شاهد المعجزات ، أم يجعل أمامهما عثرة الكلام المنبئ عن شكه في ان يسوع هو المسيح الآتي ويغرس في اذهانهما انتظار آخر غيره.

وأيضا لما ذا يقول لهما المسيح اذهبا واخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران ويعدد معجزاته ويبين دعوته بقوله والمساكين يبشرون ، بل اللازم بمقتضى زعم

٢٦١

المتكلف ان يحتج عليهما لا على يوحنا

والحاصل : ان الكلام المذكور في متى ولوقا لا يحتمل من المعنى في محاورات العقلاء وخصوص الأنبياء إلا أن يكون قد تيقن من المعجزات ما هو مصدق للدعوة وحجة عليها ، ولما كان في السجن لم يمكنه إلا أن يرسل تلميذيه ليكشفا عن حقيقة الدعوة وان يسوع هل يدعي انه المسيح الموعود به أو انه نبي قبل المسيح فكان الجواب منه ليوحنا ببيان ما هو المعهود من معجزات المسيح الموعود به وبشارته ، وهذا مناقض لما مر عن يوحنا.

«وانظر «يه ١ ج ص ٢٤١ س ٢» تجده صريحا بالاعتراف بأن يوحنا أرسل التلميذين لأجل حاجته لا لمحض حاجتهما في الإيمان.

والمتكلف يرضى بأن يكون كلام يوحنا جاريا على غير النهج العقلائي في الغرض بل يجعل في طريق الهدى والإرشاد معثرة الشك والضلالة ويكون جواب المسيح على خلاف الغرض وفضولا زائدا ، كل ذلك محاماة منه عن الأناجيل وإن كانت موهونة من جهات كثيرة.

«يوحنا والمسيح أيضا» واعطف على ذلك ان الأناجيل تقول مرة ان يوحنا من بطن أمه يمتلئ من الروح القدس «لو ١ : ١٥» ولما جاءت مريم وهي حامل بالمسيح الى اليصابات وهي حامل بيوحنا وسلمت عليها ارتكض يوحنا جنين اليصابات في بطنها ابتهاجا ، وامتلأت من الروح القدس وباركت مريم وجنينها ، وقال : من أين لي هذا ان تأتي أم ربي إلي «لو ١ : ٤٠ ـ ٤٥».

وهذا صريح في ان اليصابات وجنينها يوحنا يعرفان المسيح حق المعرفة وبما له من الوظيفة وهو جنين في بطن أمه ، وان المسيح قبل ان ينزل الروح القدس ويحل عليه جاء الى يوحنا ليعتمد بمعموديته فمنعه يوحنا قائلا أنا محتاج ان اعتمد منك وأنت تأتي إلي «مت ٣ : ١٣ و ١٤».

وهذا ينادي بأنه يعرف يسوع بأنه المسيح حق المعرفة ويدل على ذلك أيضا انه كان يبشر بالمسيح ويقول للشعب المعتمدين منه انه سيأتي من يعمدكم بالروح القدس «مت ٣ : ١١ ومر ١ : ٧ و ٨ ولو ٣ : ١٥ و ١٦» بل اشار

٢٦٢

للشعب بأنه قائم في وسطكم «يو ١ : ٢٦».

فانظر أفلا يناقض هذا ما ذكرته الاناجيل من ان يوحنا وهو في السجن ارسل يستعلم من المسيح انه هو الآتي «يعني المسيح الموعود به» أم ينتظر آخر كما تقدم كما يناقض ما ذكرته عن قول يوحنا أيضا وأنا لم أكن اعرفه لكن الذي ارسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس «يو ١ : ٣٣».

وهذا صريح في أن يوحنا لم يكن يعرف بأن يسوع هو المسيح إلا بعد أن نزل روح القدس واستقر على يسوع. أفلا يناقض هذا أقلا قول يوحنا ليسوع أنا محتاج ان اعتمد منك وأنت تأتي إلي ، مع ان هذا الكلام كان قبل ان يعتمد يسوع من يوحنا ، وقبل ان ينزل الروح القدس ويستقر عليه وقد أطال المتكلف هاهنا في الكلام ولكنه لم يدر ما يقول «انظر يه ١ ج ص ٢٤٠».

«الأعميان والأعمى» ومن تناقض الاناجيل واضطرابها انها ذكرت فيما هم خارجون «اي المسيح وتلاميذه» من اريحا تبعه جمع كثير وإذا أعميان جالسان على الطريق فلما سمع ان يسوع مجتاز صرخا قائلين ارحمنا ارحمنا يا سيد يا ابن داود فوقف يسوع وناداهما ما تريدان ان أفعل بكما؟ قالا : يا سيد تنفتح أعيننا ، فتحنن يسوع ولمس أعينهما فللوقت أبصرت أعينهما فتبعاه «مت ٢٠ : ٢٩ ـ ٣٤» ، ثم اضطرب نقلها وتخالف وتناقض في عدد من فتحت عينه وعوفي من عماه في هذه الواقعة.

فذكرت ثانيا وفيما هو «أي المسيح» خارج من اريحا مع تلاميذه وجمع غفير كان بارتيماوس الأعمى ابن تيماوس جالسا على الطريق يستعطي فلما سمع انه يسوع ، ثم ساقت القصة مع هذا الاعمى الواحد على نحو ما تقدم «انظر مر ١٠ : ٤٦ ـ ٥٢ ونحوه لو ١٨ : ٣٥ ـ ٤٣».

وناقضت ما تقدم أيضا إذ ذكرت ان هذه القصة كانت لما اقترب المسيح من اريحا ثم بعد ذلك دخلها واجتاز فيها «انظر لو ١٨ : ٣٥ و ١٩ : ١».

وقال المتكلف «يه ١ ج ص ٢٣٢» لو أفادت عبارة مرقس الحصر لثبت

٢٦٣

التناقض وهي لا تفيده مطلقا.

وذكر هذا الأعمى لانه كان ابن رجل مشهور طحنته صروف الزمان والقادر على فتح عيني أعمى قادر على فتح عيني غيره وغيره ، وعلى كل حال فلا تناقض مطلقا ، فالتناقض يتحقق إذا قال احدهم : ان المسيح فتح عيني بارتيماوس ، ثم قال الآخر : ان المسيح لم يفتح عيني بارتيماوس ولم يحصل شيء من ذلك.

قلنا : قد اعترف المتكلف ببعض الحق من حيث لا يشاء وهو قوله : لو أفادت عبارة مرقس الحصر لثبت التناقض فنقول ان مثلها في مثل موردها يفيد الحصر ولا بد أن يريده المتكلم بها إن كان ممن يعرف كيف يتكلم فإنه إذا كانت الواقعة كما في متى ان الأعميين كانا مقترنين في الجلوس والاستعلام عن المسيح والاستغاثة به وانتهار الجمع لهما ، وعودهما في لجاجة الاستغاثة والصراخ ووقوف المسيح لهما ، وسؤاله لهما ، وجوابهما له ، وشفائه لهما ، واتباعهما له فمن كمال العي والشطط لمن يريد ان يسجل تاريخ معجزات المسيح ويمجده بها وينوه بها للناس ان ينقل الواقعة على غير وجهها ورونقها ومجدها ويترك بعض مضمونها وهي واقعة واحدة ، كيف وهم يقولون ان المسجل لهذه الواقعة هو إلهام الروح القدس تنويها بمجد المسيح ولا يلزم أن نقول هو الروح القدس.

بل ان واحدا من المؤرخين العارفين إذا أراد ان ينوه بمجد الواقعة التاريخية وكان عالما بالواقعة على النحو المذكور في متى لا يمسخها إلى النحو المذكور في مرقس ، فهل يرضى الملك على مؤرخ كتب تاريخ حربه وفتحه وموفقيته في الحرب الفلاني في اليوم الفلاني في الساعة الفلانية ان يكتب في تاريخه ان الملك لاقى الفيلق الفلاني وجرى بينهما كيت وكيت ثم لاشاه واستولى على معسكره ، هذا وهو عالم ان الملك جرت له هذه الواقعة بتفصيلها مع فيلقين اثنين ولاشاهما معا بموفقيته وقوته ، وهل يرتضي الناس من هذا المؤرخ تاريخه الأبتر على الخصوص إذا كان كتبه لتبشير رعية الملك والاحتجاج على خصومه وترهيبهم بقوته وسطوته ، كلا ولا يفعل المؤرخ ذلك إلا إذا كانت الواقعة على ما كتب أو

٢٦٤

كان جاهلا بحقيقتها.

وبما ذكرناه تعرف ان اسلوب مرقس يقتضي الحصر فإن الحصر لا ينحصر بأداة خاصة بل ان بعض السوق من الكلام ومقتضى الواقعة أظهر من الأداة في الحصر.

ولعل المتكلف شعر بذلك فندم على اعترافه بأن عبارة مرقس لو أفادت الحصر لناقضت ما في متى ، فعدل وناقض كلامه الأول بقوله «فالتناقض يتحقق إذا قال احدهم ان المسيح فتح عيني بارتيماوس ، ثم قال الآخر ان المسيح لم يفتح عيني بارتيماوس» فنقول له ان التناقض متحقق بين ما في متى ومرقس كما هو متحقق بين كلاميك شئت أو أبيت.

وأيضا ما ذا يفيد إذا كان بارتيماوس ابن رجل مشهور ، فهل فتح عيني الفقير من أب وجد ليس بمعجزة ينبغي ذكرها والتمجيد بها. هب ان مرقس صح منه ان يراعي كون بارتيماوس ابن رجل مشهور ولذا ذكر اسمه ، فما بال لوقا ذكر الواقعة أيضا مع أعمى واحد ولم يذكر اسمه ، ومن أين للمتكلف ان بارتيماوس ابن رجل مشهور طحنته صروف الزمان.

فهل شارك كتبة الاناجيل في الإلهام كما واساهم بالتناقض ، هب انا سامحناه في ذلك فما ذا يصنع بالتناقض في هذه الواقعة فإن في متى ومرقس انها وقعت بعد خروج المسيح من اريحا ، وفي لوقا انها وقعت عند ما اقترب من اريحا ثم دخلها كما أشرنا إليه ولكن المتكلف لا يبالي من ان يقول وعلى كل حال فلا تناقض.

«المجنون والمجنونان» وجاء في متى انه لما جاء المسيح إلى العبر الى كورة الجرجسيين استقبله مجنونان خارجان من القبور هائجان جدا حتى لم يكن أحد يقدر أن يجتاز من تلك الطريق ، ولما أراد شفاءهما طلبت منه الشياطين التي فيهما أن يأذن لها بالخروج إلى قطيع خنازير كان هناك فأذن لها وخرجت منهما ودخلت في الخنازير فألقت نفسها في البحر وماتت فهرب الرعاة الى المدينة وأخبروا بقصتها وقصة المجنونين فخرج أهل المدينة وطلبوا من المسيح ان ينصرف عنهم «مت ٨ : ٢٨ ـ ٣٤».

٢٦٥

وفي مرقس وجاءوا «اي المسيح وتلاميذه» الى عبر البحر إلى كورة الجدريين ، ولما خرج من السفينة للوقت استقبله من القبور إنسان به روح نجس كان مسكنه القبور ، وذكر القصة المتقدمة بتمامها مع مجنون واحد «مر ٥ : ١ ـ ٢١».

وفي لوقا وساروا الى كورة الجدريين التي هي مقابل الجليل ، ولما خرج الى الارض استقبله رجل من المدينة كان به شياطين ، وساق القصة نحو مرقس مع مجنون واحد.

قال المتكلف «يه ١ ج ص ٢٣٣» ان مرقس ولوقا اقتصرا على ذكر المجنون الذي كان أشد هياجا وعربدة.

وثانيا انهما اقتصرا على ذكر المجنون الذي كان من الامم ، وصرفا النظر عن اليهودي.

وثالثا ان الذي ذكراه كان من المهذبين والمترجح انه كان من ذوي اليسار وذا شهرة إلى آخر ما ذكره.

قلت : من أين له ان احد المجنونين اللذين ذكرا في متى كان أشد هياجا وكان من المهذبين وذوي اليسار والشهرة وان المجنون الآخر كان يهوديا مع أن متى وصفهما معا بشدة الهياج ومنع الناس عن الاجتياز في الطريق وسائر الأحوال المذكورة في القصة.

ومرقس ولوقا ذكرا مجنونا واحدا ومهما وصفاه بشدة الحال لا يزيد عما ذكره متى في المجنونين معا ، وان متى ومرقس ولوقا لم يتعرضوا في كلامهم ولا اشعارا بكون المجنونين أو أحدهما من الامم او اليهود ، او الخاملين او المهذبين وعلى ان هذه كلها دعاو لا أصل لها حتى في أضغاث الاحلام فإنها لا تصلح لرفع التناقض والاضطراب بين نقل متى ونقل مرقس ولوقا.

وزد على ذلك ان متى ذكر الواقعة في كورة الجرجسيين ولسان القصة يقتضي كونها قريب المدينة «وهي جرجسا» قريب مقابرها ومسارحها وجرف البحيرة.

٢٦٦

ومرقس ولوقا ذكراها في كورة الجدريين ولسان القصة أيضا يقتضي كونها قريب المدينة «وهي جدرة» وقريب مسارحها ومقابرها وجرف البحيرة فقد تناقضوا أيضا في محل الواقعة ومقتضى خارطات الجغرافيين ان بين جدرة وجرجسا نحو عشرة اميال انكليزية ، وان جدرة تحت ولاية هيردوس وجرجسا تحت ولاية فيلبس ، ويزداد الاضطراب وظهور الغلط في القصة بملاحظة الخارطات فإن كون القصة قريبة من المدينة قريبة من البحيرة إنما يناسب كونها في كورة الجرجسيين لأن جرجسا كذلك ، وأما جدرة فهي بعيدة عن البحيرة نحو أربعة أميال.

وكذا ذكر لوقا للجبل الذي كانت ترعى فيه الخنازير وألقت نفسها منه الى البحر ، لأن هكذا جبل موجود قرب جرجسا والبحيرة ولا يوجد جبل قرب جدرة والبحيرة ، ولكن ذكر العشر مدن في لوقا إنما يناسب كون الواقعة في جدرة وكورة الجدريين ، لأن العشر مدن قريبا منها ومن ولايتها دون جرجسا ، ولذا ترى النصارى يذكرون في حاشية متى قراءة الجدريين.

وفي حاشيتي مرقس ولوقا قراءة الجرجسيين او الجرشيين فاعتبر. وفي هذا القدر كفاية للمتبصر.

«الامر السابع» ان الاناجيل التي يدعون تواترها إلى الوحي والمصدر الإلهامي قد نسبت لقدس المسيح امورا لا تنفك عن كونها موانع من النبوة والرسالة فاسمع بعضها.

١ ـ «تناقض الكلام» فقد ذكرت عن المسيح انه قال : ان كنت اشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا «يو ٥ : ٣١» وذكرت عن قوله أيضا : ان كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق لأني أعلم من أين أتيت وإلى أين أذهب؟ «يو ٨ : ١٤» ولا خفاء في تناقض هذين الكلامين وكذب احدهما وهو مانع من النبوة.

وقد حاول المتكلف «يه ١ ج ص ٢٤١ و ٢٤٢» ان يرفع هذا التناقض وإذ كلف نفسه من ذلك ما لا يطاق ضاعت عليه مجار الكلام وروابطه ومضامين العهدين ، وأطال فيه بما لا يسمن ولا يغني من جوع فقال كان يجب على صاحب

٢٦٧

إظهار الحق لتوضيح المعنى ان يورد الفقرة الثالثة عشر من ثامن يوحنا وهي ، فقال له الفريسيون أنت تشهد لنفسك شهادتك ليست حقا ١٤ أجاب يسوع وقال لهم وإن كنت أشهد لنفسي فشهادتي حق ، ثم قال المتكلف تفريعا على ذلك ، فترى ان الكلام اللاحق لا ينافي الكلام السابق فإن معنى قوله وان كنت أشهد لنفسي أي إذا شهدت على سبيل الفرض والتقدير فشهادتي حق.

ثم اخذ المتكلف في التفرقة بين معنى ان وإذا وأطال في الكلام ، فكانت نتيجة التفرقة انه جعل إذا ولو في موضع ان عند ما تكلف بتكرار الكلام وتقليبه.

فأقول : لا يخفى عل من له أدنى فهم ان الفقرة التي اوجب على إظهار الحق ذكرها لا تنفعه شيئا ولو ملأ من تكرارها كتبا او نادى بها بأعلى صوته ألف ألف مرة صارخا فقال له الفريسيون الى آخره.

وأما فراره إلى الفرض والتقدير فلا يخلصه من التناقض بل يقال له : أليس التقدير المذكور مناقض لقوله ان كنت اشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا ، ومن اين جاء بالفرض والتقدير مع ما حكي بعد ذلك بيسير عن قول المسيح.

وأيضا في ناموسكم مكتوب ان شهادة رجلين حق أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الأب الذي أرسلني «يو ٨ : ١٧ و ١٨».

ثم قال المتكلف وعلى كل حال فكلمة «ان» لا تفيد وقوع الفعل بل لو وقع لما وجد ادنى منافاة.

قلنا : ان كلتا الفقرتين مصدرتان بقوله ان كنت اشهد لنفسي ويقول الإنجيل كما تقدم انه شهد لنفسه وقال انا هو الشاهد لنفسي.

فأين إلى أين الفرار بالفرض والتقدير وما يجدي مع تحقق التناقض بين التقديرين أيضا.

نعم ان قال المتكلف ان هاتين الفقرتين خاليتان من المعنى كقولي بل لو وقع الفعل لما وجد أدنى منافاة.

٢٦٨

قلنا له : لا تنفك صورة الكلام عن التناقض أيضا وان لم يكن هناك معنى مقصود.

٢ ـ «تناقض الكلام أيضا» ومن ذلك ما في تاسع عشر متى عن قول المسيح لما قال له بعض الناس ايها المعلم الصالح انكر عليه هذا القول ١٧ وقال لما ذا تدعونني صالحا ليس احد صالحا إلا واحد هو الله.

ومثله في مرقس «١٠ : ١٨» ولوقا «١٨ : ١٩» وهذا مناقض لما يحكى من قوله الإنسان الصالح «مت ١٢ : ٣٥ ولو ٦ : ٤٥» ، وقوله انا هو الراعي الصالح أما أنا فإني الراعي الصالح «يو ١٠ ، ١١ و ١٤».

والمتكلف «يه ٤ ج ص ٢٨٥» تكلم على قوله لما ذا تدعونني صالحا بما ينزه القلم عن شططه في التوحيد وصحة الكلام ، ويكفي في المناقضة ما يحكى من قوله الإنسان الصالح.

٣ ـ «تناقض الكلام أيضا» ومن ذلك ما في ثاني عشر متى عن قول المسيح ٣٠ من ليس معي فهو علي ومن لا يجمع معي فهو يفرق ، وكذا «لو ١١ ، ٢٣» وهذا ناقض لما يحكى عن قوله فيمن لم يتبع طريقته ، من ليس علينا فهو معنا «مر ٩ : ٤٠ ولو ٩ : ٥٠».

٤ ـ «تناقض التعاليم» فمن ذلك ما ذكر في متى عن قول المسيح ما حاصله انه لا حسن في صوم تلاميذه ما دام موجودا معهم ، ولا فائدة في صومهم بل لا محل له وهو كنوح بني العرس مع وجود العريس بينهم وكجعل رقعة جديدة على ثوب عتيق يصير الخرق بها أردأ ، وكجعل الخمر الجديدة في زقاق عتيقة تنشق بها الزقاق وتتلف وتنصب الخمر «مت ٩ : ١٤ ـ ١٨ ومر ٢ : ١٨ ـ ٢٣ ولو ٥ : ٢٣ ـ ٣٨».

فإن هذا مناقض لما حكي عن المسيح في خطابه لتلاميذه بما حاصله ان الصوم من أركان الإيمان وان بعض الكرامات والمراتب العالية لا تنال إلا به وبالصلاة ، وان بعض الشياطين لا تخرج إلا بالصوم والصلاة ، ولذا لم يقدر التلاميذ على إخراج ذلك الشيطان. «انظر مت ١٧ : ١٤ ـ ٢٢ ومر ٩ : ١٤ ـ ٣٠».

٢٦٩

٥ ـ «تناقض التعاليم أيضا» ومن ذلك ما في ثامن عشر لوقا عن تعليم المسيح لتلاميذه ١ وقال لهم أيضا مثلا في انه ينبغي ان يصلي كل حين ولا يمل ، وضرب المثل بقاض ظالم مع امرأة لا ينصفها من خصمها فأزعجته بالإلحاح فأنصفها لأجل إلحاحها فالله ينصف سريعا مختاريه الصارخين إليه نهارا وليلا «انظر لو ١٨ : ١ ـ ٨».

وضرب أيضا مثلا بمن يلج في الطلب فيعطى لأجل لجاجته «لو ١١ : ٥ ـ ٩».

وأيضا أمر بالتضرع في كل حين «لو ٢١ : ٣٦» وهو نفسه كان ليلة هجوم اليهود عليه يصلي بأشد لجاجة «لو ٢٢ : ٤٤» وهذا كله مناقض لما في سادس متى عن تعليم المسيح ٧ وحينما تصلون لا تكرروا الكلام باطلا كالامم فانهم يظنون انه بكثر كلامهم يستجاب ٨ فلا تتشبهوا بهم لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل ان تسألوه فان هذا نهي عن الدوام في التضرع والدعاء وبيان لكونه باطلا من عوائد الامم الوهمية وانه لا فائدة فيه فان الله يعلم بالحاجة قبل ان يسأل.

٦ ـ «التناقض في التعليم أيضا» فإن التعليم والتعليل لعدم تكرار الدعاء في الحاجة بأن الله يعلم بها قبل ان يسأل مناقض لأصل مشروعية الصلاة وخصوص الصلاة الربانية وخصوص التكرار فيها بقوله لا تدخلنا في تجربة لكن نجنا من الشرير فان ما بعد لكن وما قبلها بمعنى واحد مضافا الى انه لا بد أن يتكرر هذا الدعاء بتكرار الصلاة الربانية في الشهر او السنة أو في العمر مرات عديدة وبحسب هذا التعليل يكون تكرارها أيضا باطلا.

٧ ـ «التناقض بين التعليم والعمل» وأيضا هذا التعليم والتعليل مناقض لما تذكره الأناجيل من فعل المسيح نفسه ليلة هجوم اليهود عليه فانه كرر الدعاء في طلبه من الله عبور كأس المنية عنه وكان هذا الدعاء هو صلاته كرره ثلاث مرات «انظر مت ٢٦ : ٣٩ ـ ٤٥» وانظر الى السابع عشر من يوحنا فكم تجد فيه دعاء مكررا باللفظ او المعنى.

٨ ـ «التناقض أيضا بين التعليم والعمل» فقد ذكرت الأناجيل عن تعليم

٢٧٠

المسيح بحفظ الوصايا ومن جملتها إكرام الام «مت ١٩ : ١٩ ومر ١٠ : ١٩ ولو ١٨ : ٢٠» فانه يناقضه ما يحكى من معاملته مع أمه.

ففي ثاني عشر ٤٦ وفيما هو يكلم الجموع إذ أمه واخوته قد وقفوا خارجا طالبين ان يكلموه ٤٧ فقال له واحد هو ذا امك واخوتك واقفين خارجا طالبين ان يكلموك ٤٨ فأجاب وقال للقائل له من هي امي؟ ومن هم اخوتي؟ ٤٩ ثم مد يده نحو تلاميذه وقال ها امي واختي ٥٠ لأن من يصنع مشيئة أبي الذي في السموات فهو أخي واختي وامي ونحوه «مر ٣ ، ٣١ ـ ٣٥ ولو ٨ ، ١٩ ـ ٢١» أفلم يكن من إكرام الام الذي اوصى الله به أن يقوم لها ويكلمها ويطيب قلبها برؤيته وليتهم نقلوا انه اعتذر منها بدون ان يهينها بقول من هي امي ويندد بقداستها بكلام مفهومه انها ليست ممن يعمل مشيئة الله ، أفيقولون انها لم تكن من المؤمنين به العاملين بمشيئة الله ، أم يقولون ان محالفة الاكرام المذكور في الوصية هو ان يقوم لها ويكثر ضربها على رأسها وعينيها ، وأما ما دون هذا فليس من مخالفة الوصية.

«المتكلف والمتعرب» وعلى هذا كان على المتكلف والمتعرب أن يعدا في كتابيهما من اغلاط القرآن الكريم وصف المسيح بالبر بوالدته «سورة مريم ٣٣» ويقولان ان الإنجيل يذكر انه قابل دعوتها بالانتهار واستهان بها وندد بقداستها ، ولا يتجه عليهما في ذلك كما يتوجه في فاحش غلط المتكلف «يه ٢ ج ص ٣٥ و ٩٣» حيث نسب الغلط إلى قدس القرآن في قوله تعالى في شأن مريم «يا اخت هارون» فجعل المتكلف هذا القول من أعظم الأغلاط يكرره بلجاجة «انظر مت ٢٦ : ٣٩ ولو ٢٢ : ٤١ ـ ٤٥» ولا اقل من كونه توهما منه أو ايهاما بأن القرآن الكريم أراد بذلك هارون أخا موسى النبي ، فكأن الله لم يخلق هارون غيره ولا عمران غير ابيه أو ان الله نهى عن ان تكنى امرأة بأخت هارون أو ان هذا كله اخذت به مريم اخت موسى امتيازا من الله. وزاد المتعرب على ذلك «ذ ص ٤٩» حيث اعترض على القرآن بأن دعى مريم بابنة عمران واخت هارون. فقال غير مبال : وهي في الإنجيل بنت الياقيم.

فقبحا للغرور وتعسا للاقتحام وأين يوجد في الإنجيل نسب مريم إلا ذكر

٢٧١

كونها نسيبة اليصابات واليصابات من بنات هارون.

نعم : لما اختلف متى ولوقا في نسب يوسف النجار وتحير في ذلك قدماء النصارى فر بعض المتأخرين الى محض المكابرة بدعوى ان لوقا نسب يوسف النجار إلى والد مريم وهو «هالي» وحروفه تشابه حروف «الي» وهو يشبه ان يكون مقتطعا من الياقيم فبخ بخ للدنيا في سعادتها بالتقدم بمثل هذه الأوهام وقد قدمنا قريبا ما فيها.

٩ ـ «التناقض أيضا بين التعليم والعمل» :

ذكر الإنجيل عن المسيح انه علم بمذمة الكذب وقال ان ابليس كذاب وأبو الكذاب «يو ٨ ـ ٤٤».

ويناقضه ما ذكره الإنجيل أيضا وقرف به قدس المسيح إذ نسب إليه ما هو كذب صريح حيث ذكر ان اخوة المسيح قالوا له اصعد إلى هذا العيد فأجابهم اصعدوا أنتم إلى هذا العيد أنا لست اصعد بعد الى هذا العيد لأن وقتي لم يكمل بعد ، ولما كان اخوته صعدوا حينئذ صعد هو إلى العيد لا ظاهرا بل كأنه في الخفاء «يو ٧ ، ٨ ـ ١١» وهذه التناقضات المذكورة هي من اعظم الموانع من النبوة والرسالة.

«الامر الثامن» ان الاناجيل قرفت قدس المسيح بمنافيات العفة وما هو من اعمال الفساق المتهتكين وهو بالبداهة من موانع النبوة والرسالة وذلك كمجيء الامرأة الخاطئة الى المسيح وأنها وقفت عند قدميه من ورائه باكية وابتدأت تبل قدميه بالدموع وكانت تمسحها بشعر رأسها وتقبل قدميه وتدهنهما بالطيب ، وان المسيح كان راضيا مستحسنا لعملها هذا حتى ضرب الأمثال للفريسي الذي انكر ذلك وفضلها عليه بأنها غسلت رجليه بالدموع ومسحتهما بشعر رأسها ولم تكف عن تقبيلهما منذ دخلت «انظر لو ٧ ، ٣٦ ـ ٤٧».

وكجلوس يوحنا ابن زبدى في حضن المسيح حتى إذا استشفع به بطرس وطلب منه ان يسأل المسيح عن السر اتكأ يوحنا على صدر المسيح وسأله وقد قدمنا هذا في الفصل الخامس عشر من المقدمة الثامنة وبينا بمقتضى الأناجيل ان

٢٧٢

يوحنا حينئذ لم يكن طفلا بل كان شابا في ريعان الشباب وغضارته.

«الامر التاسع» ذكرت الاناجيل ان المسيح وحاشاه شريب خمر «اي كثير الشربلها» «لو ٧ : ٣٢ ـ ٣٥ ومت ١١ : ١٧ ـ ٢٠» وانه قال في الخمر قول المودع المولع المتلهف «مت ٢٦ ، ٢٧ و ٢٩ ومر ١٤ : ٢٣ و ٣٥ ولو ٢٢ ، ١٧ و ١٨» وانه حضر مجلس العرس المنعقد للسكر وإذ نفذ خمرهم عمل لهم بمعجزة ستة اجران من الخمر «يو ٢ : ١ ـ ١١».

وقد قدمنا في المقدمة العاشرة ما يعلم منه ان شرب الخمر والرضاء به والإعانة عليه من موانع النبوة.

«الامر العاشر» ان هذه الاناجيل التي يدعون تواترها إلى مصدر إلهامي ويسميها المتكلف كلام الله السميع العليم قد قرفت قدس المسيح إذ حكت عنه ما يرجع الى القول بتعدد الآلهة «انظر يو ١٠ ، ٣٣ ـ ٣٧» وكذا تعدد الأرباب «انظر مت ٢٢ ، ٤١ ـ ٤٦ ومر ١٢ : ٣٥ ـ ٣٨ ولو ٢٠ : ٤١ ـ ٤٥» وقد ذكرنا هذا الأخير في الأمر الرابع وذكرنا عن العهد القديم ما يدل على توحيد الرب بل جاء في مرقس عن قول المسيح وتعليمه الرب إلهنا رب واحد «مر ١٢ : ٢٩» وقدمنا حكاية تعدد الآلهة في الفصل الخامس عشر من المقدمة الثامنة وذكرنا دلالة العهد القديم على توحيد الإله والنهي عن ذكر اسم آلهة اخرى وان لا يسمع ذلك من الفم.

وأيضا جاء في سابع عشر يوحنا تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال ايها الأب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك ابنك.

أيضا ٢ إذ أعطيته سلطانا على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من اعطيته ٣ وهذه هي الحياة الأبدية ان يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ، ويسوع المسيح الذي أرسلته.

وعلى هذا فتكون الاناجيل قد قرفت قدس المسيح بأمرين «أحدهما» القول بتعدد الآلهة والأرباب وهو الشرك «وثانيهما» تناقض تعاليمه مرة بالتوحيد واخرى بالشرك وحاشا قدسه من كل ذلك.

٢٧٣

وفي هذا المقدار كفاية ولو لا أن الاستقصاء يحمل على التحامل وإرادة سوء القالة لزدناك.

نتيجة ما ذكرنا ان النصارى يدعون تواتر نقلهم في أمرين «أحدهما» ان عيسىعليه‌السلام ادعى الرسالة العامة وظهر على يده المعجز «وثانيهما» ان الاناجيل كتب إلهامية من أنبياء ادعوا النبوة وظهر على يدهم المعجز وقد اتضح لك ان دعوى التواتر ونقله في الأمر الثاني لا يكاد يصح بل يشهد بنفسه على كذبه ومع ذلك فلا يبقى للبصير وثوق واعتماد على دعواهم ونقلهم للتواتر وزيادة على هذا ان هذا الأمر الثاني لا يكاد يصح بل يشهد بنفسه على كذبه ومع ذلك فلا يبقى للبصير وثوق واعتماد على دعواهم ونقلهم للتواتر وزيادة على هذا ان هذا الأمر الثاني الذي ينقلون تواتره ويدعونه بأشد إصرار ليكذب الأمر الاول في دعوى الرسالة العامة وظهور المعجز. وكون المعجز حجة على الصدق في دعوى الرسالة بل يصرح بظهوره على يد الكاذب في دعوى النبوة بل يظهر على يد الكافر كالدجال ، ومع ذلك فقد أكثر من ذكر ما هو مانع من نبوة المسيح أشد المنع.

وهل ترضى للعاقل مع هذا كله أن يخدع نفسه ويجانب عقله ويتساهل في دينه ويركن إلى نقلهم ودعواهم التواتر في هذا الوجه ، ولا سيما ان قرار الديانة والاعتماد على كتبها كان مبنيا عند أسلافهم على قرار المجامع ، وهذا مما يلاشي الاطمئنان بالتواتر فإن مبناه على عدم احتمال المواطاة فكيف وان المجامع هي أمارة المواطاة. فعلى طالب الهدى ان يتوقى ويتحذر من ان يستهويه السراب الى مهالك التيه ، بل يلزم الجادة الموصلة الى المنهل المأنوس والمورد الهني.

٢٧٤

«المقدمة الثانية عشرة»

في النسخ في الشريعة الإلهية وفيها فصول

الفصل الأول في ماهيته وحقيقة المراد منه في الاصطلاح

النسخ في الاصطلاح هو رفع الله للحكم الشرعي بتشريع حكم آخر مخالف له ، وحقيقته هو ان الله اللطيف بعباده العليم بأحوالهم ومصالحهم في جميع الأزمنة وتقلبات الامور قد يشرع حكما باعتبار مصلحة يعلم ان لها أمدا منتهيا وحدا محدودا إلا انه جلت حكمته لم يبين حده لعباده وإن كان مخزونا في علمه فإذا انقضى أمد تلك المصلحة وأمد الحكم المنبعث عنها شرع الحكم الثاني على مقتضى المصلحة المتجددة.

فقولنا النسخ رفع الحكم الأول إنما هو تسامح في الكلام باعتبار دلالة دليله في ظاهر الحال على بقائه في جميع الأزمان ، وإلا فالحكم الأول مرتفع في الواقع بنفس انتهاء مصلحته المحدود بحدها عند الله.

ولا ينبغي ان يتوهم ذو شعور بأن القائلين بإمكان النسخ في الشرائع ووقوعه يقولون بأن الله يريد في اوّل تشريع الحكم دوامه أبد الآباد ثم يعدل عن ذلك ويشرع حكما آخر تعالى الله عن ذلك.

«الفصل الثاني : في امكانه»

لا يخفى ان الله القادر على جعل الشريعة وتشريع الأحكام لقادر على ان يجعل حكمين لزمانين مثلا ، فاذا انقضى زمان الحكم الاول أعلن لعباده بواسطة رسله تشريع الحكم الثاني. ولا نجد من ذلك مانعا بل لا مانع كما

٢٧٥

ستعرف إن شاء الله.

وهاك كشف الحقيقة فانا إذا نظرنا الى حكمة الله ولطفه بعباده وعلمه باختلاف أحوالهم وتقلبات اطوارهم وغناه عنهم وعن جميع العالم :

حكمت علينا عقولنا وفهمنا وجداننا بأن أحكامه الشرعية في العبادات والعادات والسياسات إنما هي لاقتضاء مصالح العباد في طهارة نفوسهم وقربهم من حضرته وتهذيب أخلاقهم ، وانتظام اجتماعهم ومدنيتهم ، وسهولة انقيادهم الى الطاعة والأدب.

ومن الواضح ان الناس قد تختلف وجوه مصالحهم وتتغير بحسب الازمان لانهم بشر متغيرون بحسب الاعصار وتقلب الأحوال في الاخلاق والعادات والقوة والضعف ، واللين والقسوة ، وسهولة الانقياد الى الطاعة والتمرد والابتداء في الانقياد والتمرن عليه ، إلى غير ذلك من الاختلاف الذي لا يخفى على الفطن.

وبالضرورة يكون ما شرع لمناسبة اخلاق هذه الأجيال لا يناسب الأجيال المخالفة لها في الاخلاق وما يناسب الأجيال القوية لا يناسب الضعيفة وما شرع لمناسبة الأجيال السهلة الانقياد الى الطاعة لا يناسب الأجيال المتمردة ، وما يناسب المتمرن لا يناسب المبتدئ ، وما يناسب القاسي لا يناسب اللين.

حكي في الأناجيل ان اليهود اعترضوا على المسيح في منع الطلاق إلا لعلة الزنى ، وعارضوه بورود الطلاق في شريعة موسى مطلقا ، فقال لهم : ان موسى من أجل قساوة قلوبكم أذن لكم أن تطلقوا نساءكم ولكن من البدء لم يكن هكذا «مت ١٩ : ٧ و ٨ ونحوه مر ١٠ : ٢ ـ ٧».

وانظر أيضا ما هو البديهي من الأحكام العرفية فإن ما يجعله حكماء العقلاء من الشرائع والقوانين لاصلاح اجتماع الرعية ومدنية مملكتهم وانتظام أدبهم لا بد من أن يكون في اوّل امر التشريع وخصوص حال الانقلاب أيسر وأسهل على الرعية مما تقتضيه المصلحة عند تمرنهم على الانقياد لشريعة المملكة وذلك لحكمة نفوذ الشريعة السهلة على القبول حتى تتمرن الرعية على الانشراح

٢٧٦

بالتشريع وإجراء المشروع ، وهذه مصلحة مهمة يحفظ بحكمتها سائر المصالح.

وإذا توجهت بعقلك ووجدانك الى ما ذكرنا حكمت بالبداهة بإمكان النسخ في الشرائع الإلهية بل تحكم بلزومه بمقتضى الحكمة واللطف في بعض الموارد ، فإن استوضحت وقلت كل حكم شرعي يراعى فيه معدل المصلحة لكافة البشر والقدر الجامع الذي تتساوى فيه جميع أطوار الناس وأخلاقهم في جميع الأزمان فلا يبقى محل للنسخ.

قلنا : ان من الامور ما لا تختلف جهته باختلاف الأزمان والأحوال كالزنى مثلا ، وهذا لا يعتريه النسخ لحرمته ، وأما ما تختلف جهته بحسب الاعصار والأحوال كما ذكرنا فإن كنت تقول بجواز مراعاة معدل المصلحة فيه من غير لزوم فذلك لا ينافي ما ذكرناه لإمكان وقوع النسخ وان كنت تقول بلزومه سألناك أولا ما هو الملزم به ومن الملزم؟ ونبهناك ثانيا الى ان سياحة الفكر في تقلب أحوال البشر بحسب الاعصار والأخلاق والعادات حسبما شرحنا بعضه لتكشف لكل مميز وتعرفه بأن مراعاة معدل المصلحة على ما تقول لا تنفك عن حرمان أكثر الناس من بركات اللطف بهم ومقتضيات مصالحهم ، وما هو الداعي لذلك مع امكان أن يعمهم اللطف باستيفاء بركات مصالحهم على مقتضى الحكمة من دون مانع ولا فساد.

فإن قلت : إذا فما بال اليهود والنصارى ينكرون امكان النسخ ووقوعه حتى ان بعض كتابهم ليشددون النكير على القول بالنسخ ويبالغون في امتناعه على جلال الله.

قلت : ان كان شكك من هذه الجهة فانا نشكرك على ابدائها فاعلم أنا لم نبخس اليهود والنصارى في ابتداء الأمر حقهم من حسن الظن ولأجل ذلك تتبعنا كتبهم التي ينسبونها إلى الإلهام والوحي ونظرنا في نحلهم التي عكفوا عليها وشريعة جامعتهم في يهوديتهم أو نصرانيتهم فوجدنا اليهودية قد كثر فيها النسخ نقلا عما قبلها ونسخا لما تقدمها ونسخا لما جاء فيها ووجدنا النصرانية الرائجة قد بنى اساسها وسيج بنيانها ودار محورها على دعوى معنى النسخ الذي نقول به بل على ملاشاة الشريعة السابقة وأحكامها ، ولم نجد وجها صحيحا لما تذكره عنهم

٢٧٧

إلا المنافرة مع النون والسين والخاء في اسم النسخ ، وانا لا نضايقهم في الاسم بل نسمي هذا الذي نقول بإمكانه ووقوعه بالاسم الذي يسمون به رفع الشرائع الموجود في كتبهم التي ينسبونها الى الوحي الإلهي ونقتصر في مدعانا على مثل ما وقع في الشرائع التي ينسبونها الى الله.

وان السير في كلمات بعض كتابهم في هذا المقام وخصوص المتكلف «يه ٤ ج ص ١٥٥ ـ ١٩٤» قد كشف لنا عن منشأ الاشتباه أو مبدأ الحياد في المغالطة والتمويه ، وهو انهم تخيلوا بوهمهم او خيلوا بتمويههم ان النسخ الذي يدعي المسلمون وقوعه في الشرائع هو رفع الحكم الشرعي مع ابطال غايته الاصلية التي شرع لأجلها وهي مصلحة العباد ابطالا جزافيا من غير نظر الى تجدد مصلحة اخرى تناسب خلافه فكأنهم لم يسمعوا ولم يفطنوا من هتاف الصريح من كلمات المسلمين وكتاباتهم قولهم بأن الله الغنى الحكيم شرع الشرائع لطفا منه بعباده ورحمة لهم برعاية مصالحهم بأنواعها حسب ما تقتضيه حكمته وعلمه بما يناسبها من الأحكام بحسب اختلاف الاحوال والأوقات ، وعلى ذلك فقد تقتضي الحكمة واللطف تبديل الحكم الأول إلى ما هو أنسب منه في الزمان الثاني بالمصلحة والغاية المطلوبة في التشريع ، وهذا التبديل إنما هو لأجل المحافظة على الغاية التي شرع الحكم الاول لأجلها وهذا هو النسخ عند المسلمين وان فرض ان شريعة الحكم الثاني هي جوهر شريعة الحكم الاول باعتبار الغاية المطلوبة من التشريع ، وان الاولى ترمز وتشير الى الثانية لكونها أنسب باللطف والرحمة بحسب الوقت والحال ، فإن كل الشرائع الإلهية متحدة في غايتها المرعية ولكن أليست الاحكام المتبادلة فيها مختلفة بالنوع والحقيقة فنحن نصفهما بالناسخ والمنسوخ بلحاظ هذا الاختلاف.

مثاله بأن نتكلم على طريقة القائلين بسر الفداء فنقول ان الله قد شرع بلطفه ورحمته في التوراة أحكاما لمصالح العباد في البر والتأديب والتكفير والخلاص والتكميل واستمرت على ذلك ألفا وخمسمائة سنة تقريبا ولكن لما كانت هذه الغايات تحصل فيما بعد ذلك على أحسن وجه وأتم حصول فرضا بسبب الإيمان بالمسيح وبركة سر الفداء وذبيحة الفادئ الكريم رفعت ذوات

٢٧٨

الاحكام الخاصة التي كانت في شريعة موسى وخفف ثقلها الباهظ وبدلت شدتها بسهولة الراحة والإباحة ، وهذا من وادي النسخ الذي يقول به المسلمون. ولا يشك فاهم أو غبي في ان أحكام التوراة قد بدلت في النصرانية الرائجة في الصورة والماهية وهم يقولون ان ذلك بوحي من الله وعليه فهو النسخ الذي يقول به المسلمون.

وهبنا قلنا ما يقوله المتكلف «يه ٤ ج ص ١٨٤» ان الشريعة الموسوية بمنزلة البذر والمسيحية بمنزلة الشجرة والثمرة ، وان المسيحية جوهر الموسوية وفذلكتها ولكننا لا نخادع عقولنا ووجداننا ونقول انها هي من حيث الاحكام ولا نكون من هذا اضحوكة بقولنا ، وعلى كل حال فإن كتاب الله منزه عن الناسخ والمنسوخ.

فاصغ لما نتلوه عليك من الكتب التي ينسبونها الى الله والوحي واحفظ ما ذكرناه لك في معنى النسخ الذي نقول به وحاسبهم حسابا يسيرا وجادلهم بالتي هي احسن.

ولنذكر لك مما جاء في كتب وحيهم مما لا محيص عن كونه بمعنى النسخ الذي نقول به ، وإن أبوا تسميته نسخا.

ثم نذكر لك أيضا من كتب وحيهم موارد كثيرة لا يسميها المسلمون في الاصطلاح الغالب نسخا ولكنها يرد عليها كلما اعترض به اليهود والنصارى على النسخ فاستمع لذلك إن شاء الله.

١ ـ الناسخ والمنسوخ في شريعة نوح

بمقتضى نقل التوراة جاء في سابع التكوين «٢ و ٨» وكذا الثامن ٢٠ ان الله ذكر لنوح قبل الطوفان البهائم الطاهرة والتي ليست بطاهرة والمراد من غير الطاهرة ما لا يجوز أكله ولا تقديمه للقرابين والمحرقات.

ثم جاء في تاسع التكوين في ذكر ما بعد الطوفان عن قول الله لنوح ٣ كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر ، وهذا يدل على جواز الأكل لكل دابة حية بخلاف الشريعة السابقة.

٢٧٩

وحاول المتكلف «يه ٤ ج ص ١٦٧» ان يتخلص من هذا فقال المراد بقوله تعالى كل دابة حية كل الحيوانات الطاهرة. واغرب في تشبثات الاستشهاد ولعله إذ علم ان في تاسع التكوين المذكور «١٠ و ١٢ و ١٥ و ١٦» ما يبطل دعواه هذه ويوضح ان وصف الحياة غير وصف الطهارة هرب الى دعوى ان المراد من لفظ كل هو البعض ، ولكن مراجعة الموارد المشار إليها من تاسع التكوين تنادي بأن المراد من «كل» هو العموم على ان الدعوى بإرادة معنى «بعض» من لفظ «كل» ناشئة من الوهم والاستشهاد لها بالقرآن؟؟؟ الكريم ناشئ من الخطأ في الفهم.

٢ ـ التوراة وشريعة نوح والحيوانات

ثم نسخت التوراة هذه الإباحة العامة في شريعة نوح لأكل كل دابة حية كالعشب الأخضر وحرمت كثيرا من الحيوانات «انظر حادي عشر اللاويين ورابع عشر التثنية».

٣ ـ التوراة وما قبلها في التزوج بالاخت

فحرمت التوراة التزوج بالاخت وإن كانت من الأب وحده «لا ١٨ : ٩» مع انها ذكرت ان سارة امرأة ابراهيم كانت اخته من ابيه «تك ٢٠ : ١٢» ولا تصغ إلى تحريف الترجمة المطبوعة سنة ١٨١١ حيث حرفت وترجمت الاخت بالقريبة التي تعم بنت العم ونحوها ليتخلص من هذا الاعتراض فإن نص الأصل العبراني [وجم امنه اختي بت أبي هوا أخ لا بت امي وتهي لي لا يشه] أي وأيضا اختي بنت أبي هي لكن لا بنت امي وصارت لي امرأة ولو كان الذي في الأصل العبراني بمعنى القريبة لقال «شاري».

٤ ـ أيضا الجمع بين الاختين في التزويج

فحرمته التوراة «لا ١٨ : ١٨» مع انها ذكرت ان يعقوب تزوج براحيل على اختها ليئة «تك ٢٩ : ٢٣ و ٣٠» وبقيتا عنده مجتمعتين مدة من السنين «انظر تك ٢٩ ـ ٣٥».

٢٨٠