الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

الأمر الخامس : ان الاناجيل التي يدعي النصارى تواترها عن المصدر الإلهامي قد ذكرت عن المسيح احتجاجات واهية لا تليق بسائر الناس فضلا عن رسل الله ذوى الحجة الواضحة والبيان الشافي الكافي.

منها : ما أسلفناه في الفصل الخامس عشر من المقدمة الثامنة عن قول المسيح لما قال له الفريسيون : أنت تشهد لنفسك وشهادتك ليست حقا حيث ذكر انه قال : وأيضا في ناموسكم مكتوب شهادة رجلين حق أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي الأب الذي أرسلني «يو ٨ : ١٧ و ١٨».

فهل ترى أحدا من أوباش الناس يحتج لدعاويه بمثل هذا؟ أفيخفى على أحد من الناس ان المدعي لا يكون احد الشاهدين لا في القضاء الشرعي ولا العرفي.

ومنها : ما أسلفناه أيضا من قول الإنجيل ان المسيح لما أجابه اليهود قائلين لسنا نرجمك لأجل عمل حسن بل لأجل تجديف فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلها ، أجابهم يسوع أليس مكتوبا في ناموسكم أنا؟ قلت أنكم آلهة «يو ١٠ : ٣٣ و ٣٤».

فهل ترى ان واحدا من الموحدين يحتج بهذا الاحتجاج وينسب الناموس المنسوب الى الوحي إلى القول بالشرك وتعدد الآلهة؟ وقد أسلفنا ما في هذا من الكلام فراجعه.

الاحتجاج للمنع من الطلاق

ومنها ما عن المسيح في احتجاجه للمنع من الطلاق.

ففي تاسع عشر متى ٣ وجاء إليه الفريسيون ليجربوه قائلين له هل يحل للرجل أن يطلق امرأته لكل سبب ٤ فأجاب وقال لهم : أما قرأتم ان الذين خلق من البدء خلقهما ذكرا وانثى ٥.

وقال : من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسدا واحدا ٦ إذا ليسا بعد اثنين بل جسد واحد ، فالذي جمعه الله لا يفرقه إنسان ٧.

٢٤١

قالوا له : فلما ذا أوصى موسى أن يعطي كتاب طلاق فتطلق ٨ قال لهم ان موسى من اجل قساوة قلوبكم أذن لكم ان تطلقوا نساءكم ولكن من البدء لم يكن هكذا ٩ وأقول لكم : ان من طلق امرأته إلا لسبب الزنا وتزوج باخرى يزني «ونحوه مر ١٠ : ٢ ـ ١٠».

فأقول : اما الاستشهاد بأنه يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته فإنه ان اريد منه الالتصاق بالمرأة احيانا من أجل ضرورة التمتع والرغبة في النسل وتربية الأولاد فليس ذلك إلا لأن الوالدين لا يصلحان لذلك ، فهذا الالتصاق بالمرأة كالتصاقه في أغلب اوقاته بنوع من التكسب وأعمال المعيشة فيترك لاسترزاقه منه أباه وأمه وامرأته وولده ، أفيصح ان يجعل التصاقه هذا به حجة على انه لا يجوز أن يفارقه ويتركه اذا استغنى عنه أو سقط عن الفائدة أو كان مضرا بنظام حياته وصحته واستراحته. أو انقياده للشريعة ونواميسها.

وان اريد بهذا الالتصاق تقديمها على اكرام الوالدين وبرهما اللازم ، والاعراض عنهما لأجلها ، فهو استشهاد بعمل الأوباش الذين لم تؤدبهم النواميس الروحية على اكرام الوالدين والبر بهما ، ولا يبالون بإثم العقوق ومنقصته فهم كالحمار إذا رأى الأتانة تبعها ، ولم يبال بمن فوقه وما يراد منه.

فانا نجد كثيرا منهم يلتصقون هكذا بالزواني اللاتي يختصون بهن بغير زواج شرعي.

وأما الروحانيون المؤدبون بالشريعة فلا يقدمون نساءهم على اكرام والديهم وبرهم ولا يتركونهم لأجلهن ، وحاشا للوحي الإلهي ان يستشهد بعمل الأوباش المخالفين لنواميس الشريعة.

وأيضا ما معنى ان الرجل وامرأته يصيران جسدا واحدا وانهما ليسا بعد اثنين. فما لنا نرى بعض الكلمات قد كابرت الاعداد على حقائقها فلم تعط الوحدة والاثنينية والتثليث حقوقها من المعاني والحقائق. أفمن ماتت زوجته أو طلقها لسبب الزنا يكون نصف جسد واحد ، وإذا تزوج باخرى يعود جسدا واحدا أو يصير الثلاثة والاربعة والعشرة جسدا واحدا.

٢٤٢

وأيضا ما معنى القول بأن ما جمعه الله لا يفرقه إنسان ، مع ان الوجدان شاهد على أن كثيرا مما جمعه الله يفرقه الإنسان كأجزاء الاجسام الصورية والجوهرية وقد سوغت له الشريعة كثيرا من ذلك.

نعم ان جمع الله بين الرجل والمرأة بالزواج برابطة شرعية غير مؤقتة لا يمكن أن يفرق بدون شريعة ، ولكن الله قد شرع ذلك على يد موسى ثم نقول لهذا المحتج : كيف تسوغ أنت طلاق المرأة إذا كانت زانية وبمقتضى حجتك انها صارت هي وزوجها جسدا واحدا وليسا بعد اثنين ، وما جمعه الله لا يفرقه إنسان.

وأيضا ما معنى قول المحتج بأن موسى من أجل قساوة قلوبكم اذن لكم ان تطلقوا نساءكم ولكن من البدء لم يكن هكذا.

أفيقول ان موسى جاء بشريعة الطلاق من عند نفسه مداراة لقومه القساة القلوب لا من عند الله؟ أم يقول : ان الله شرع الطلاق موقتا من أجل قساوة القلوب؟ ولكن رفعت هذه الشريعة حيث تسلطت المملكة الروحية على قلوب بني اسرائيل والعالم أجمع قدستهم روحانيتهم وأدبتهم على حسن الايتلاف وعرفان الحقوق حتى تلاشت قساوة قلوبهم.

فنقول : يا حبذا لو صحت الأحلام فإنك إذا نظرت في تاريخ العالم ورسوم هذه المملكة منذ حادثة الصليب وقبلها وبعدها حتى الوقت الحاضر ونظرت إلى حوادث الوقت قلت مستعبرا :

قف بالمعاهد نبكي رسمها العافي

بمدمع من سويد القلب رعاف

والإجمال أجمل ، وأيضا ما معنى احتجاج هذا المحتج بأنه لم يكن من البدء هكذا ، أفكلما لم يكن من البدء ينبغي أن لا تكون به شريعة مسوغة له إذا فإن آدم وحوا كانا في البدء عريانين «تك ٢ : ٢٥» فينبغي ان لا تجيء شريعة تسوغ لبس الثياب ، فإن قلت : قد عرض لهما من الأحوال ما يقتضي خلاف ذلك وقد صنع الله لهما أقمصة من جلد وألبسهما «تك ٣ : ٢١».

قلنا : وقد عرض من الأحوال فيما بين الرجال ونسائهم ما لم يكن بين آدم

٢٤٣

وحوا وقد شرع الله الطلاق على يد موسى «تث ٢٤ : ١» وفي الكل لم يكن من البدء هكذا.

وأيضا بناء على هذه الحجة ينبغي أن لا تجيء شريعة بتسويغ الطلاق لعلة الزنا ، أو بتزوج الرجل إذا طلق امرأته لعلة الزنا أو إذا ماتت ، ولا للمرأة أن تتزوج إذا مات زوجها أو طلقها لعلة الزنا لأنه لم يكن من البدء هكذا ، إذ لم يجر شيء من ذلك بالنسبة لآدم وحوا.

أفهكذا يكون احتجاج الرسل وما ذا يمنع الرسول من ان يقول : اني رسول من الله بشريعة تحريم الطلاق إلا لعلة الزنا ولا يحتج بهذا الاحتجاج الواهي من جميع اطرافه.

الزواج في القيامة : ومنها ما في العشرين من لوقا عن قول المسيح في الاحتجاج على الصدوقيين ٣٤ فأجاب وقال لهم يسوع أبناء هذا الدهر يزوجون ويزوجون ٣٥ ولكن الذين حسبوا أهلا للحصول على ذلك الدهر والقيامة من الأموات لا يزوجون ولا يزوجون ٣٦ إذ لا يستطيعون أن يموتوا أيضا لأنهم مثل الملائكة وهم أبناء الله إذ هم أبناء القيامة ، فانظر وتأمل وقل ما وجه التعليل لعدم التزاوج في القيامة بأن القائمين من الموت لا يستطيعون ان يموتوا أيضا ، وما وجه الحجة الكافية في ذلك.

أفيمتنع الزواج عقلا أو عادة على من لا يموت من نوع الإنسان وقل ما معنى نسبة الموت الى استطاعتهم ، وما معنى كونهم مثل الملائكة ، فإن كان ذلك بدعوى كونهم ارواحا مجردة فهو إنكار للقيامة من الأموات والمعاد الجسماني الذي عليه صريح العهد الجديد ، وما معنى كون أبناء القيامة أبناء الله فإن كان مضمونه ان غير الأبرار لا يقومون من الموت كان ذلك مخالفا لصراحة الأناجيل والعهد الجديد وإن كان الغرض منه التعرض لحال الأبرار فقط كان غير مطابق للسؤال العام عن حال الأبرار وغيرهم ، وان كان المراد ان جميع الناس أبرارهم وشرارهم يكونون في القيامة مثل الملائكة وأبناء الله فأين الدينونة وأين الجزاء حسب الأعمال وأين جهنم النار التي لا تطفئ كما هو مكرر في صراحة العهد الجديد وكيف يعقل ذلك.

٢٤٤

القيامة من الأموات : ومنها ما في العشرين من لوقا عن قول المسيح أيضا في الاحتجاج على الصدوقيين للقيامة من الأموات.

وأما ان الموتى يقومون فقد دل عليه موسى في أمر العليقة كما يقول الرب إله ابراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ٣٨ وليس هو إله أموات بل إله أحياء لأن الجميع عنده أحياء.

وانظر الى «مت ٢٢ : ٣١ و ٣٢ ومر ١٢ : ٣٦ و ٣٧».

ولا يخفى انه ان كان وجه هذا الاحتجاج انه ليس في العالم موت ولا أموات كما يشعر به قوله لأن الجميع عنده احياء.

قلنا : هذا مخالف لضرورة الوجدان والعهدين مع انه بهذا الوجه لا يدل على القيامة من الموت ، بل يدل على انه ليس هناك أموات يقومون بل الجميع عنده احياء ، وهذا خلاف المدعى فيكون البرهان المخالف للضرورة غير منطبق على المدعي.

وان كان الوجه في الاحتجاج هو أن الله لا يكون إله أموات وقد قال انه إله ابراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب فلا بد أن يكون ذلك باعتباره حياتهم بعد الموت وتوجيهه ان المراد من الأموات هي أجسادهم المفارقة للأرواح ، ومن الأحياء أجسادهم التي فيها أرواحهم ، فلا يكون الله إله أموات وأجساد خالية من الأرواح لأنها جماد ، فلا بد ان يكون القول بأن الله إلههم إنما هو باعتبار قيامهم من الموت ، وتلبس الروح بهم لخروجهم حينئذ عن كونهم جمادا.

قلنا : أولا لما ذا لا يكون الله إلها للجماد؟ أو ليس هو إله كل شيء وربه وخالقه؟ أو لم يجيء في العهدين انه إله صهيون «مز ١٤٧ : ١٢» وهي جماد وإله الآلهة «مز ٥٠ : ١». وهي اصنام جاد وإله السماء «دا ٢ : ١٨ و ١٩ وروء ١١ : ١٣».

وثانيا : لو سلمنا ان كون الله إلها لابراهيم واسحاق ويعقوب إنما هو باعتبار تعلق الارواح بأبدانهم. لقلنا : من اين يدل ذلك على القيامة من الموت وتعلق الأرواح بأبدانهم بعد الموت ، ولما ذا لا يكون ذلك باعتبار تعلق الأرواح بأبدانهم قبل الموت ، وهل يكون الاحتجاج على هذا التقدير إلا من قبيل التشهي

٢٤٥

والمجازفات التي يجب أن تنزه الأنبياء عن غلطها.

وان كان الوجه في الاحتجاج هو ان كون الله إلها لابراهيم واسحاق ويعقوب انما هو باعتبار وجود ارواحهم ، فلو كانت ارواحهم منعدمة عند الموت لما صح قول الله لموسى انا إله ابراهيم الى آخره.

فيدل هذا الخطاب من الله لموسى على ان ارواح ابراهيم واسحاق ويعقوب موجودة حين الخطاب لم تنعدم بموتهم.

قلنا : لو سلمنا ان الله ليس إلها للأجسام وان الخطاب ليس باعتبار وجود أرواحهم في حياتهم الاولى لكان الخطاب المذكور لا يدل الا على وجود أرواحهم حينئذ فلا يدل على قيامة الأجسام بعد بلائها من الموت.

وعلى كل حال لا تجد لهذا الاحتجاج ربطا بالمدعى وحاشا للأنبياء ان يحتجوا بمثل هذه الحجج الواهية ، ويا أسفاه على القيامة ان توقف امرها على مثل هذه الحجة ، ويا أسفاه على توراة موسى إذ لا يوجد فيها من أمر القيامة ذكر حتى الجأت الحاجة الى التشبث بمثل هذا.

ويا لهفاه على قدس المسيح إذ ينسب له مثل هذه الاحتجاجات. ولا أقول لك ليست هذه الاحتجاجات من قول المسيح ، بل أقول انها ممن لا يعرف وجه الاحتجاج ولا يميز بين الصحيح والغلط فهي أنسب ما تكون بمن يقول لا بشر لا بحكمة كلام ـ استحسن الله ان يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة ـ لأن جهالة الله أحكم من الناس «١ كو ١ : ١٧ ـ ٢٦» او بمن يحتج على التثليث بقول الله لموسى أنا إله ابراهيم وإله اسحاق وإله يعقوب.

ومن العجيب ان اصحابنا النصارى يكلفوننا بأن نذعن بأن الاناجيل الاربعة هي الإنجيل الذي نزل على المسيح وصدقه القرآن الكريم وقال انه نور وهدى ، فيا لهفاه على النور والهدى إن كان كما نرى.

الأمر السادس : ان الاناجيل التي يدعون تواتر سندها الى رسل موحى إليهم قد اختلفت اختلافا كثيرا يوضح انها ليست من عند الله ويكفي ذلك اختلافها الفاحش في نسب المسيح.

٢٤٦

١ ـ ففي متى ان يوسف النجار الذي ينسب إليه المسيح هو ابن يعقوب ، وفي لوقا انه ابن هالي.

٢ ـ أوصل متى نسب يوسف النجار الى سليمان بن داود وأوصله لوقا الى ناثا بن داود.

٣ ـ جعل متى بين يوسف وداود خمسة وعشرين أبا وجعلهم لوقا أحد واربعين أبا.

٤ ـ جعل متى في طرد النسب زربابل ابن شألتيئيل بن يكنيا ، وذكر في لوقا زربابل ابن شألتيئيل بن نيري فإن كان مرادهما من زربابل شخصا واحدا فقد اختلفا في أسماء أجداده وعددهم الى داود.

وأيضا ذكر متى : في طرد النسب ابيهود بن زربابل.

وذكر لوقا ريسا بن زربابل ولا يوجد هذان الاسمان في أولاد زربابل الذين ذكروا في ثالث الإيام الاول «١٩ و ٢٠» كما ذكر فيه ان زربابل هو ابن فدايا ابن شألتيئيل.

ونقل اظهار الحق في الفصل الثالث من الباب الأول اعتراف جماعة من المحققين مثل اكهارن ، وكيسر ، وهيس ، وديوت ، ووي نر وفرش وغيرهم بأن متى ولوقا مختلفان اختلافا معنويا.

ونقل أيضا عن آدم كلارك في ذيل شرحه للباب الثالث من لوقا انه نقل التوجيهات لهذا الاختلاف وما رضى بها وتحير.

وانه قال «ص ٤٠٨» من المجلد الخامس يعلم كل ذي علم ان متى ولوقا اختلفا في نسب الرب اختلافا تحير فيه المحققون من القدماء والمتأخرين.

والمتكلف لما لم يوافق هواه هذا النقل ادعى ان المنقول عنهم جهلة «يه ١ ج ص ٢٠٩» وان كانوا من أئمة اسلافه ولكن لا بد له ان يجعلهم من الأئمة المحققين عند ما يستشهد بكلامهم في كتابه كما هو ديدنه ومع هذا فقد ألجأه الأمر الى بعض الاعتراف وان مزجه بشيء من المكابرات فقال «يه ١ ج ص ٢٠٦»

٢٤٧

كان العلماء والمحققون يظنون في مبدأ الأمر انه يوجد تناقض بين انجيل متى وبين انجيل لوقا في نسب المسيح ولكن ظهر لهم بأنه لا يوجد تناقض ولا اختلاف.

ثم انه تكلف الجواب عند هذه الاختلافات الباهظة فقال في الاختلاف الأول ما حاصله ان متى كتب في انجيله نسب يوسف النجار الحقيقي لأنه كتب انجيله للعبرانيين فجرى في النسب على الطريقة التي كانت مشهورة عندهم «وهي رعاية النسب الحقيقي» فنسب يوسف الى أبيه الحقيقي يعقوب وكذا سائر آبائه الحقيقيين الى ابراهيم.

وان لوقا كتب في انجيله نسب يوسف المجازي فنسبه الى هالي مجازا لأن هالي هو أب حقيقي لمريم ولما لم يكن لها أخ واقترن بها يوسف صار هالي أبا مجازيا ليوسف فنسبه إليه لوقا.

ثم أخذ المتكلف في توجيه ما ذكره عن لوقا فتعثر حسبما يقتضيه التقحم وهو يعد ذلك من تقدم الدنيا في المعارف وتنبه المتأخرين في الامور التاريخية بنباهتهم الى ما غفل عنه المتقدمون ، فلنوقفك على تناقض كلامه وسخافة دعاويه التي تقدمت بها الدنيا.

١ ـ قال : بما ان العبرانيين لا يدخلون في جداول نسبهم النساء فإذا انتهت العائلة بامرأة ادخلوا قرينها في النسب واعتبروه ابن والد قرينته وعلى هذا كان المسيح حسب هذا الاصطلاح الجاري والعادة المرعية المتبعة ابن يوسف «انظر يه ١ ج ص ٢٠٤» ثم لم يلبث ان ناقض هذا الكلام بقوله «ص ٢٠٥» بما ان متى كتب انجيله الى العبرانيين جرى في النسب على الطريقة التي كانت مشهورة عندهم «اي مراعاة النسب الحقيقي» ، وبما أن لوقا البشير كتب انجيله الى اليونان جرى في النسب على المصطلح عليه عندهم.

فيتبين من كلامه الأخير ان مراعاة النسب الصوري المجازي إنما هو اصطلاح اليونان وان اليهود كانت الطريقة المشهورة عندهم إنما هي مراعاة النسب الحقيقي وبالضرورة تكون مراعاة النسب المجازي ليست اصطلاحا جاريا ولا عادة مرعية ، وهب ان اصطلاح اليهود انهم يعتبرون قرين

٢٤٨

البنت الوحيدة ابن والدها ، وبهذا كان يوسف ابنا لهالي أب قرينته مريم لكن قل يا من يعرف ما يقول كيف صار المسيح على هذا الاصطلاح الجاري ابنا ليوسف ، فهل كان المسيح مقترنا بابنة يوسف الوحيدة أم هذا الغلط مما تقدمت به الدنيا.

التناقض الثاني : قال «ص ٢٠٥» ان شألتيئيل رئيس عائلة سليمان الشرعية «وذلك لأنه يتصل بسليمان بالولادة الحقيقية» انظر ثالث الايام الاول فيتبين من كلامه هذا ان النسب الشرعي هو ما كان بالولادة الحقيقية الطبيعية ثم ناقض هذا بقوله : ان لوقا نظر الى انه «يعني يوسف» الابن الشرعي لهالي «وذلك باعتبار اقترانه بمريم ابنة هالي الوحيدة بناء على ما ادعاه من الاصطلاح الجاري لليهود».

فنقول : لو سلمنا ان هذا اصطلاح جار لليهود ولم يناقضه المتكلف ببيانه ان هذا إنما هو اصطلاح اليونان الذي جرى عليه لوقا لقلنا أين يكون هذا من التوراة الرائجة التي هي كتاب الشريعة بزعمهم فانها لا يوجد فيها ما هو من هذا القبيل ، الا ان الرجل إذا مات وليس له ابن تزوج اخوه بزوجته ، والبكر الذي تلده يقوم باسم أخيه الميت لئلا يمحى اسمه من اسرائيل «تث ٢٥ : ٥ ـ ١٠».

التناقض الثالث : قد تكرر من المتكلف ان كون يوسف ابنا شرعيا لهالي بسبب اقترانه بابنة هالي الوحيدة مريم ، ثم ناقضه بمنام رآه أو خيال توهمه.

فحاول ان يطبق البنوة على ما ذكرناه عن شريعة التوراة في سفر التثنية فادعى ان متان المذكور جدا ليوسف في نسب متى هو من نسل سليمان حقيقة وخلف يعقوب وان متثات المذكور جدا ليوسف في نسب لوقا كان من سبط يهوذا من عائلة اخرى «وظاهره انه ليس من نسل سليمان والا لادعى ذلك» ولما مات متان تزوج امرأته متثات فولد منها هالي ، فصار يعقوب وهالي اخوين من الام ثم مات هالي بدون عقب فتزوج اخوه يعقوب بامرأته فولدت منه يوسف فكان ابن هالي حسب شريعة التثنية.

وليت شعري عن اي تاريخ يذكر ذلك ولو كان لهذه القصة على طولها أثر

٢٤٩

في التاريخ لما تحير المتقدمون في هذا المشكل ولكنها خيال تخيله بعد ما كتب ان بنوة يوسف لهالي باعتبار اقترانه بابنته الوحيدة مريم.

ويدل على ذلك ان اظهار الحق رد هذه السفسطات بقوله : ان هذا التوجيه لا يصح الا اذا ثبت من التواريخ المعتبرة ان مريم بنت هالي انتهى.

والمتكلف لم يقدر ان يتشبث في قبال هذا بشيء من التواريخ بل ألجأته الضرورة الى قوله «ص ٢١٣» قد اقمنا البراهين القوية على انها بنت هالي.

قلت : ولم يأت بشيء سوى دعواه ان اصطلاح اليهود ان ينسبوا قرين البنت الوحيدة الى والدها ، ثم ناقض هذه الدعوى وجعل هذا من اصطلاح اليونان.

وان الطريقة المشهورة عند اليهود في النسب خلافه وهي رعاية الولادة الحقيقية ولذا جرى عليها متى لانه كتب انجيله لليهود ، وهب ان ما ذكره اصطلاح لليهود فمن اين يثبت ان والد مريم اسمه هالي وان مريم كانت بنته الوحيدة وان لوقا نسب يوسف الى هالي بهذا الاعتبار ، وان مثل المتكلف في هذه البراهين القوية كمثل بعض المغفلين حيث قال لزوجته ليلى : ان في دارنا سارقا فقالت له : من اين علمت ذلك؟ فقال : ان الناس يقولون ان السارق اذا دخل الدار لا يحسون به وأنا الآن لا احس بشيء ، بل لم يقل هذا المغفل ان السارق اسمه فلان وله بنت وحيدة اسمها فلانة وقد اقترن بها فلان فنسبه فلان الآخر الى والدها ولم يقل ان هذه المزاعم مما تقدمت بها الدنيا كاكتشاف التلغراف ، والفونغراف ، والماكينات البديعة والهيئة الجديدة ، ومما يشبه من اقوال المتكلف هذا النحو ان اظهار الحق نقل عن انجيل يعقوب الذي لا يقصر عن كونه تاريخا قديما من القرون الاولى ، انه صرح ان ابوي مريم «يهوياقيم وعانا».

فقال المتكلف مما تقدمت به الدنيا «ص ٢١٣» على انه اذا روت التواريخ ان مريم كانت ابنة اليوقيم او الياقيم فهما مشتقان من هالي او «الى» فإن الياقيم مركبة من اليا وكلمة قيم.

٢٥٠

وأيضا نقل اظهار الحق ان «اكتساين» قال : انه صرح في بعض الكتب التي كانت توجد في عهده «ان مريم عليها‌السلام من قوم لاوي» فلا تكون من اولاد ناثان ، بل ولا داود ولا يهوذا واحتج اظهار الحق لصدق ذلك بصراحة انجيل لوقا بأن اليصابات امرأة زكريا كانت من بنات هارون «لو ١ : ٥» وصراحته بأن مريم نسيبة اليصابات «لو ، ١ : ٣٦» ثم دفع احتمال ان قرابتهما من النساء بما ذكره عن التوراة في السادس والثلاثين من العدد من أن كل رجل يتزوج من عشيرته وسبطه وكذلك المرأة فيتعين ان تكون مريم قرابة اليصابات وشريكتها في النسب من جهة الرجال فتكون من بنات هارون فيعتضد بذلك نقل اكتساين.

والمتكلف لم يتعرض لنقل اكتساين ولم يحر فيه جوابا ولكن تعرض لاحتجاج اظهار الحق فجوز لبني اسرائيل ان يتزوج كل واحد من غير سبطه لكي يجوز ان تكون قرابة مريم لليصابات من جهة النساء فلا يتعين كونها كاليصابات من بنات هارون ، واحتج لذلك بأن هارون نفسه اقترن بامرأة من سبط يهوذا.

وليت شعري أتقول ان المتكلف لم يشعر بأن تزوج هارون في سبط يهوذا لا يعارض اظهار الحق لان هارون فعله قبل نزول الشريعة بل قبل خروجهم من مصر بمدة واظهار الحق يحتج بشريعة جاءت بمقتضى التوراة بعد موت هارون بمدة وبعد ما اخف بنو ماكير بن منسى ارض جلعاد وطردوا الاموريين منها.

نعم : لو كان للمتكلف إلمام بشيء من العلم ومعرفة بالعهدين وموفقية في الاحتجاج لقال على اظهار الحق ان الشريعة التي اشار إليها في السابع والثلاثين من العدد لا تدل على المنع بالكلية من تزوج كل من الرجل والمرأة في غير سبطه وانما يدل على منع البنت الوحيدة الوارثة ان تتزوج في غير سبطها لئلا يتحول نصيب سبط من الارض الى سبط آخر.

بل ان صدر السابع والثلاثين من العدد ليشير الى انه كان يجوز في شريعة موسى ان تتزوج المرأة الوارثة في غير سبطها ولكن موسى نسخ هذا الحكم في البنت الوارثة عند مطالبته بنات صلفحاد بسهم ابيهن من ارض جلعاد ، أفتظن

٢٥١

ان المتكلف فر من هذا الاحتجاج سترا لما فيه من الإشارة الى وقوع الناسخ والمنسوخ في شريعة موسى.

ثم ادعى المتكلف «ص ٢١٣» ان اليهود كانوا يسمون مريم بنت هالي.

قلنا : عن اي تاريخ قديم تنقل ذلك ومن ذا قاله من القدماء فانا لا نقبل اقوال امثالك ممن تقدمت بمعارفهم الدنيا ، ولما ذا تحير المتقدمون في رفع الاختلاف بين متى ولوقا لو كان لما تدعيه أثر هم اولى بالاطلاع عليه لقرب عهدهم منه وعلى دعواك نقول : لما ذا كان العلماء والمحققون يظنون في مبدأ الامر انه يوجد تناقض بين انجيل متى ولوقا في نسب المسيح لو كان لما تدعيه اثر.

«نتيجة ما تقدم» انه قد اتضح مما تقدم ان كون والد مريم اسمه هالي وان نسبة لوقا ليوسف الى هالي باعتبار ان يوسف قرين ابنته الوحيدة مريم ، وانه ابن شرعي له من اضغاث الاحلام التي كلما اراد المتكلف ان يلفقها سقط وتعرقل.

«زربابل وابيهود وريسا» لما ادعى المتكلف ان زربابل المذكور في متى «١ : ١٣» هو الرجل المذكور في لوقا (٣ : ٢٧» توجه عليه الاعتراض بأن متى انهى إليه نسب يوسف بابيهود ، ولوقا انهاه بريسا ، ولا يوجد في أبناء زربابل المذكورين في ثالث الايام الاول فان نصه ١٩ وبنو زربابل مشلام وحنينا وشلومية اختهم ٢٠ وحشوبه ، واوهل ، وبرخيا ، وحسديا ، ويوشب حسد خمسة انتهى.

فقال المتكلف «ص ٢٠٥» غير مبال ان ابيهود ابن زربابل الاكبر وريسا ابنه الاصغر ليموه على البسطاء انهما معروفان من اولاد زربابل بحيث يتميز الاكبر من الاصغر ، ولكنه لما رأى انه يطالب بما ذكرناه عن ثالث الايام الاول وهو يقول : ان كل العهد القديم كلام الله السميع العليم ولا يقدر ان يقول فيه كما يصف علماء اسلافه بالجهل اذا خالفوه فيما هم ادرى به واولى.

قال قلنا ليس الامر كما ذكر «يعني اظهار الحق» فانه يعلم من سفر الايام الاول «ص ٣» ومن لوقا أيضا ان ابن زربابل هو رفايا ولكنه ذكر في لوقا بلفظه

٢٥٢

ريسا وذكر في متى ابيهود وهو المذكور في الايام الاول بعوبديا ، وفي لوقا بيهوذا والمشابهة قوية بين هذه الالفاظ ، كما لا يخفى على المتأمل ولا سيما في الاصل العبري.

ولعله اذا قلنا له ما معنى هذا الكلام يقول : انكم معاشر المسلمين لا دراية لكم بالعهدين ولا وقوف لكم على الامور الجديدة التي تقدمت بها الدنيا فنقول : إذا إنّا نطلب من أهل الدراية من اليهود والنصارى ان يراجعوا متى ولوقا ، والأيام الاول ويلاحظوا مواقع هذه الاسماء فيها ويخرجوا كلام المتكلف عن شبه كلام المبرسمين ويسألونه ان المشابهة القوية بين ألفاظ هذه الأسماء هل اوجبت وقوع الغلط في الإلهام أو في الكتب المتواترة او أعطت حرية للمتكلم والكاتب أن يفعلا ما يشاءان.

«ابيهود واضطراب المتكلف» ولما اعترض اظهار الحق بأن ابيهود المذكور في متى ولدا لزربابل لم يذكر من ابنائه في ثالث الايام الاول ، سنح للمتكلف «يه ٢ ج ص ١٩٠» ان يعدل عن جوابه هاهنا بتشابه الحروف بين ابيهود وعوبيد ولا سيما في الأصل العبراني ، بل أجاب هناك بأن اليهود كانوا يسمون الشخص الواحد بأسماء متعددة فأعرضنا عن هذه الدعوى وهذا الاضطراب ولكنه قال بعده : على انه اذا صرف النظر عن ذلك قلنا ان البشير متى ذكر النسب من زربابل الى المسيح من الجداول المحفوظة عند اليهود ثم اخذ يبالغ في حفظ اليهود لجداول انسابهم.

فنقول : انا نسأل المتكلف وأعوانه عن مراده من هذه العبارة أفيقول ان الروح القدس الذي ألهم متى والإنجيل الذي هو كلام السميع العليم قد اعتمد في النسب من زربابل الى المسيح على جدول اليهود لأنهم كانوا يحافظون عليها ، فلا عليه إذا أخطئوا فيها فإنه اعتمد عليهم ولا عليه إذا أخطأ بخطئهم أم يقول : ان متى اصاب بصوابهم ولكن الخطأ في سفر الأيام الاول وان كان أيضا كلام الله السميع العليم وإلهام الروح القدس للأنبياء. أو أن المتكلف لم يدر ما قال هنا ، ولا يعرف وجه اعتذاره وهو يستدعي المسامحة فيه.

«ريسا واضطراب المتكلف» ولما تعرض «يه ٢ ج ص ٢٥٣» لذكر ريسا

٢٥٣

الذي جزم هاهنا جزم العارف الخبير بأنه الابن الاصغر لزربابل ناقضه هناك وقال جازما : ان لفظة ريسا لقب زربابل لأن معناها الأمير والرئيس فكأن لوقا قال : يوحنا هو ابن زربابل الأمير ، أما يوحنا فهو المسمى في سفر أخبار الأيام الاول بحنينا ، ولا يخفى ما في هذه الأسماء من الاتحاد والتشابه.

أقول : ومع هذا التناقض والاضطراب بقي مصرا على أن مريم هي من ذرية الأصغر من أولاد زربابل ، وليت شعري ألم ينكشف له بالوحي او بالمنام أو بتقدم الدنيا يوما فيوما بالمعارف ان مريم من ذرية الاكبر كما انكشف له أخيرا أن ريسا هو لقب زربابل لا اسم ولده الأصغر ، كما ادعاه هاهنا.

وأيضا إذا كان يوحنا الذي جعله لوقا ابنا لريسا هو حنينا المذكور في الأيام الاول من أبناء زربابل ، فنقول : ان لوقا ذكر ابن يوحنا يهوذا ولم يذكر في الأيام الاول من أولاد حنينا من اسمه يهوذا؟ فما ذا يقول المتكلف : من هو الذي اقترن ببنت وارثه فصار ابنا شرعيا لوالدها الحقيقي؟.

«زربابل ونيري» ولما جزم المتكلف بأن زربابل المذكور في متى هو ذات زربابل المذكور في لوقا توجه عليه الإشكال باختلاف متى ولوقا في نسبه ، فمتى نسبه الى يكنيا الى سليمان بن داود ، ولوقا نسبه الى شألتيئيل بن نيري الى ناثان بن داود ، فحاول المتكلف أن يتخلص من هذا بدعوى ان متى كتب النسب الحقيقي لزربابل ، ولوقا كتب النسب المجازي له باعتبار اقتران أبيه شألتيئيل بابنه نيري الوحيدة رئيس عائلة ناثان بن داود وذلك اما لأن لوقا كتب انجيله الى اليونان فجرى في النسب على اصطلاحهم كما زعمه المتكلف مرة ، واما لأن ذلك عادة مرعية متبعة عند اليهود كما زعمه مرة اخرى حسب ما تقدم في اضطرابه في هذا الشأن وتناقض كلامه فيه.

وقد استشهد من الآثار القديمة والعهد القديم على صحة نسبة الرجل إلى والد امرأته الوحيدة ، وذكر لذلك أمثلة لا تساعده على وهمه «انظر ص ٢٠٦ ـ ٢٠٩».

فنقول من أين له ان نيري لم يخلف ولدا ذكرا وان شألتيئيل اقترن بابنته

٢٥٤

فصار ابنه واتحد فرعا عائلة ناثان وعائلة سليمان كما زعم ، ومتى رأى هذا المنام؟ ولما ذا لم يطف على القدماء هذا الطيف؟ وعلى كالوين مقتدى فرقة بروتستنت.

وأما ما استشهد به فعلى أقسام «منها» ما كان من قسم نسبة الولد الى جده الحقيقي من جهة الأب أو من جهة الام ، وذلك مثل ما وجد في كتابات الآثار القديمة في «بالميرا» حيث ذكر فيها ان «ارانيس» أب «اليالامينيس» مع انه جده الأعلى وان «اليالامينيس» هو ابن بانوس حفيد موسيموس حفيد ارانيس المذكور «انظر ص ٢٠٨».

ومثل تسمية صدقيا بابن يوشيا «ار : ٣ و ٣٧ : ١» مع انه ابن يهوياقيم ابن بوشيا «١ أي ٣ : ١٦» ومثله ان يائير ابن سجوب وأباه سجوب بن حصرون سميا بني ماكير ابي جلعاد مع انه جدهما للام «انظر ١ أي ٢ : ٢١ ـ ٢٤» ومثله ان شيشان لم يكن له بنون فأعطى بنته امرأة ليرجع المصري عبده فادرج الأولاد في نسب سبط يهوذا باعتبار امهم.

وهذه الأمثلة كلها لا ربط لها بدعوى المتكلف ان الرجل ينسب عادة واصطلاحا وشرعا الى والد قرينته ، وأين هذا من هذه الأمثلة فإنه لم يقع فيها إلا جعل الجد أبا وابن الابن أو البنت ابنا وهو كذلك وان كان المتفاهم منه من كان بلا واسطة.

«ومنها» ما كان من قسم التبني بالتربية ، كما اتخذت ابنة فرعون موسى ابنا لها «خر ٢ : ١٠».

واتخذ مردخاي استير ابنة «اس ٢ : ٧» واتخذت نعمى عوبيد ابنا «را ٤ : ١٧» وهذا القسم لا يدرجه أحد في النسب ولذا نسب العهد القديم موسى الى أمه الحقيقية يوكابد «خر ٦ : ٢٠» ، واستير الى أبيها الحقيقي ابيجايل «اس ٢ : ١٥» ، وعوبيد الى أمه الحقيقية راعوث «را ٤ : ١٣ و ١٥» ، وأي شهادة لهذا القسم بنسبة الرجل الى والد قرينته في جدول النسب.

«وقسم منها» لا يمكن بمقتضى شريعة التوراة ان ينزل على ما يدعيه

٢٥٥

المتكلف ليشهد له وذلك ان حيرام او حورام الذي أبوه رجل صوري قد ذكر في ثاني الايام الثاني ١٤ انه ابن ارملة من بنات دان.

وفي سابع الملوك الاول ١٤ وهو ابن أرملة من سبط نفتالي ، فانه لا يمكن للمتكلف أن يدعي ان نسبة هذه الأرملة إلى أحد السبطين المذكورين كانت لأجل ان أباها أوجدها اقترن بامرأة وارثة من ذلك السبط فنسب الى والد قرينته وسبطها.

فإن شريعة التوراة من قبل أربعمائة وأربعين سنة تقريبا قد منعت البنت الوارثة أن تتزوج في غير سبطها «انظر عد ٣٦ : ٦ ـ ١٠».

فالأولى أن يعد هذا الاختلاف في نسبة الأرملة إلى السبطين من اغلاط العهد القديم أو تلاعب الزمان به كما وقع في ثاني الأيام الاول ١٧ وابيجايل ولدت غماسا وابو غماسا يثر الإسماعيلي.

ووقع في السابع عشر من صموئيل الثاني ٢٥ وغماسا ابن رجل اسمه يتر الاسرائيلي الذي دخل الى ابيجايل بنت ناحاش ، وزيادة على الاختلاف بالاسرائيلي والاسماعيلي فقد قال هنا ان ابيجايل بنت ناحاش ، وفي ثاني الملوك الاول «١٣ ـ ١٧» قال انها بنت يسى اخت داود فراجع المقامين في النسخ العبرانية والعربية وغيرهما.

«نتيجة باهظة للمتكلف» فانه ينتج من تكلفاته المشحونة بالتناقض والأوهام كما عرفت ان المسيح متولد بواسطة أمه تولدا حقيقيا من يهوياكين «يكنيا» وأبيه يهوياقيم ، وقد قال العهد القديم في شأن يهوياقيم المذكور. هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا لا يكون له جالس على كرسي داود «ار ٣٦ : ٣٠».

وقال في شأنه أيضا أو شأن ابنه كنياهو «يهوياكين ويكنيا» ، هكذا قال الرب اكتبوا هذا الرجل عقيما رجلا لا ينجح في أيامه لانه لا ينجح من نسله رجل يجلس على كرسي داود وحاكما بعد في يهوذا «ار ٢٢ : ٣٠» وحينئذ كيف يجتمع هذا مع ما في لوقا في شأن المسيح عن قول ملاك الرب ويعطيه الرب

٢٥٦

الاله كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب الى الأبد ولا يكون لملكه نهاية «لو ١ : ٣٢ و ٣٣» فكيف إذا يعطي المسيح كرسي داود أبيه ويملك على بيت يعقوب وهو على توجيه المتكلف من نسل يهوياقيم ويهوياكين حقيقة.

فإن قلت : ان المتكلف قد وجه ذلك «يه ١ ج ص ٢٢٣ و ٢٢٤» بزعمه ما ملخصه ان المقصود من كرسي داود المعطى للمسيح هو المملكة الروحية التي قد تسلطن بها المسيح في شرق الارض وغربها وهي التي تقوم بالمحبة والطهارة والسلام وإزالة الشحناء والخصام وهي المملكة التي لا تزول الى الأبد فشبهت تقريبا للأذهان بمملكة داود.

قلت : لم يكن الوعد الذي في لوقا لمريم على وجه التشبيه وان الرب يعطيه مثل كرسي داود حتى يقال بأنه شبهت مملكة المسيح الروحية بمملكة داود الدنياوية تقريبا للأذهان ، بل الوعد هو اعطاء الرب للمسيح كرسي داود أبيه وقد سبق عن ارميا عن الوحي ان كرسي داود لا يكون لنسل يهوياقيم ويكون يهوياقيم أو يهوياكين عقيما لا ينجح من نسله رجل يجلس على كرسي داود ، وينبغي ان يكون المراد من كونه عقيما هو كونه عقيما عن الخير في ذريته وإلا فالوعد كاذب ، فإن كلا من يهوياقيم ويهوياكين له نسل كثير بمقتضى العهدين الى زمان المسيح وبعد المسيح ، فقل : كيف يكون عقيما عن الخير في ذريته من يكون من نسله مثل المسيح الذي يعطيه كرسي المملكة الروحية إلى الأبد.

وأما قول المتكلف : ان ملكوت المسيح روحية تقوم بالمحبة والطهارة والسلام وإزالة الشحناء والخصام وهي المملكة الباقية التي لا تزول.

فنقول فيه : يا حبذا لو جلس المسيح على كرسي هذا الملكوت قرنا واحدا فقد دللناك من العهد الجديد في أواخر المقدمة الخامسة على ان تلاميذه ونصارى قرنه لم يخضعوا لهذه المملكة ولم تنفذ فيهم أحكامه الروحية كل النفوذ حسب قوانينها ، وأما فيما تأخر عن قرنه فلا يخفى محل هذه المملكة مع ما جرى في جميع القرون والادوار إلى الوقت الحاضر من المخاصمات والمشاحنات والاضطهاد وسفك الدماء وانتشاب الحروب الفظيعة إلى غير ذلك من الاحوال والافعال التي تلاشى جميع ما ذكره من أركان المملكة الروحية وقوانينها ، كما

٢٥٧

يشهد به التاريخ والوجدان ولو اطلق عنان القلم فيما جرى في خصوص القرن الحاضر لسجل من الأفعال والأحوال تاريخا مشجيا ، ويا للأسف انا لا نرى لهذه المملكة نفوذا حتى على من يعد نفسه من جندها المتجردين بزعمه لتثبيتها.

«تتمة» وعلى ما ادعاه المتكلف من اتصال نسب المسيح الحقيقي من قبل أمه من زربابل الى سليمان الى داود الى يهوذا بن يعقوب يتوجه سؤال واستفسار ، وهو ان إلهام متى ووحيه في طرد النسب لم يتعرض للامهات إلا لثامار ، وراحاب ، وراعوث ، وامرأة اوريا ، أفترى الروح القدس يريد أن ينبه من نظر في العهد القديم على مواقع الكلام في نسب المسيح ، فإن قلت يريد أن ينبه على الامهات اللاتي لسن من بني اسرائيل ، قلت : فلما ذا اهمل ذكر نعمة العمونية ، أم رحبعام بن سليمان «٢ أي ١٢ : ١٣ و ١ مل ١٤ : ٢١».

ومن اختلاف نقلها عن قول المسيح للكتبة والفريسين الذين طلبوا ان يروا منه معجزة جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي ، ومع ذلك تنقل صدور المعجزات العظيمة.

ومن اختلافها نقلها عن قوله انه يبقى في قلب الارض ثلاثة ايام وثلاث ليال ، مع نقلها ما يقتضي انه لم يبق في قلب الارض إلا سواد ليلتين وبياض يوم واحد وجزءين قليلين جدا من يومين آخرين ، وقد أسلفنا الكلام في هذا في الفصل الرابع من المقدمة الثامنة.

«ايليا ويوحنا والمسيح» ومن اضطراب الاناجيل نقلها عن قول المسيح في حق يوحنا المعمدان بأنه هو ايليا المزمع ان يأتي «مت ١١ : ١٤» وانه نبي واعظم من نبي وانه لم يقم بين المولودين من النساء نبي اعظم منه إلا المسيح «مت ١١ : ٩ ـ ١٢ ولو ٧ : ٢٦ ـ ٢٩».

مع انها نقلت عن يوحنا المعمدان نفسه قوله بأنه ليس «ايليا يو ١ : ٢١».

فكيف يقول المسيح عن يوحنا انه ايليا المزمع ان يأتي ويقول مع ذلك يوحنا الذي هو نبي وأعظم من نبي انه ليس ايليا ، فأي الأقوال إذا كاذب أو

٢٥٨

ناشئ عن الجهل أو تلاعب الايام.

وقد حاول المتكلف «يه ١ ج ص ٢٢٢» رفع هذا التناقض بدعوى ان المراد من مجيء ايليا في كلام المسيح وكلام ملاخي انما هو مجيء من يشبه ايليا التشتي وفيه روحه وهو يوحنا المعمدان لكثرة شبهه بايليا ، وان يوحنا المعمدان إنما انكر كونه ايليا التشتي الحقيقي الذي كان معاصرا لليشع النبي فلا يناقض اخبار المسيح بأن يوحنا هو ايليا المجازي.

أقول : قد جاء في رابع ملاخي ٥ ها أنا ذا ارسل إليكم ايليا النبي قبل مجيء يوم الرب العظيم والمخوف.

فهل ترى في هذا الكلام أمارة المجاز والتشبيه خصوصا مع النص على تعريف ايليا بالنبي اشارة الى وصفه المعهود المميز له.

دع هذا بل نقول ان يوحنا هل كان يعلم ان ايليا الذي بشر به ملاخي هو ايليا المجازي المشابه لإيليا الحقيقي ، او انه يجهل ذلك فإن كان يجهل ذلك فكيف يكون اعظم الأنبياء كما يقول المسيح وان كان يعلم بذلك فهل كان يعلم بأنه هو ايليا المجازي الذي بشر به ملاخي ، او انه يجهل ذلك. فإن كان يجهل ذلك كان أعظم الأنبياء جاهلا بوظيفته وبشارة الكتب به ، ويكون المتكلف وأشباهه اعرف منه بمقاصد كتب الوحي ، هذا وإن كان يوحنا يعلم بأنه هو ايليا المجازي الذي بشر به ملاخي فلما ذا لم يرفع هذا الوهم عن الخلق الكثير من الفريسيين وغيرهم الذين آمنوا به واعتمدوا منه بمعمودية التوبة واذعنوا بنبوته ولما ذا لا يقول لهم حسب وظيفته ان ايليا النبي الذي يرسل إليكم قبل مجيء يوم الرب إنما هو شخص يشبه ايليا في أحواله الشريفة وهو انا ولا تتوهموا من بشارة ملاخي ان ايليا الحقيقي الذي ارتفع في العاصفة هو الذي يرسل إليكم قبل مجيء يوم الرب.

فلا يصدكم هذا الوهم في انتظار ايليا الحقيقي عن الايمان بالمسيح ، وهذه هي الوظيفة اللازمة على من جاء ليهيئ طريق الايمان بالمسيح لا انه يبقيهم على وهمهم في انتظار ايليا الحقيقي بل يغريهم بالجهل ويقول لهم لست

٢٥٩

ايليا مع ان معناه المقارب للصراحة بشهادة الحال والسؤال انه ليس ايليا الذي ينتظرونه ويسألونه عنه حسب بشارة ملاخي فكان ذلك منه صدا لهم عن الإيمان بالمسيح ومعثرة فيه بل لا يسلك من يريد منع الناس عن الإيمان بالمسيح طريقا أنجح من هذا فقد بقي الفريسيون متعلقين بهذه الشبهة.

فما للمتكلف يحامي عن الأناجيل التي لا يخفى حالها ويحاول اصلاح اضطرابها وتناقضها بما يلزم منه نسبة الجهل الى يوحنا المعمدان او مخالفته لوظيفته حيث يغريهم بالجهل ويصدهم عن الإيمان بالمسيح ، مع ان يوحنا لم يكن مداهنا في تعاليمه ، او لم يكن أيسر على المتكلف ان يقول : ان التناقض جاء من خلل الأناجيل الرائجة وبما ذكرناه تعرف مواقع الوهن في كلامه «يه ١ ج ص ٢٢٢».

«يوحنا ومعرفته برسالة المسيح» واعطف على ذلك اضطرابها بل تناقضها في معرفة يوحنا المعمدان برسالة المسيح وجليل شأنه من حين نزول الروح القدس عليه بل قبل ذلك وان يوحنا كان يعمد الناس بمعمودية التوبة وقبل ما يتبع المسيح واحد من تلاميذه أشار الى شخص المسيح وقال هو ذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم هذا هو الذي قلت عنه يأتي بعدي قد صار قدامي ، اني قد رأيت روح الرب نازلا مثل حمامة من السماء فاستقر عليه وأنا لم أكن اعرفه لكن الذي ارسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي الذي ترى الروح نازلا ومستقرا عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس وأنا قد رأيت وشهدت ان هذا هو ابن الله ومن اجل شهادة يوحنا هذه صار اثنان من تلاميذه تلاميذ للمسيح ودعا احدهما أخاه بطرس فتلمذ عليه ، ثم دعا المسيح فيلبس ونثنائيل فحصل له بعض التلاميذ ، وحينئذ لم تكن صدرت منه آية بل بعد ذلك صدرت منه بداءة الآيات التي صنعها في مجلس العرس في قانا الجليل «انظر يو ١ : ٢٩ ـ ٢ : ١٢».

وان يوحنا قبل ان يلقى في السجن صرح لتلاميذه بما حاصله ان ذات يسوع الذي شهد له هو المسيح الآتي بما له من الصفات وان الأب قد دفع كل شيء في يده والذي لا يؤمن به لن يرى حياة بل يمكث عليه غضب الله «يو ٣ : ٢٢ ـ ٣٦».

فأنظر وقل كيف يجتمع هذا كله مع ما في حادي عشر متى ٢.

٢٦٠