الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

المقدمة الحادية عشرة

في وجوب النظر في دعوى الرسالة

ليعرف أمرها من حيث الصدق فيجب الإيمان بها أو الكذب فيجب جحودها أو يبقى أمرها مرددا مجهول الحال فيجب العمل على ما يقتضيه العقل وطريقة العقلاء في مثل هذه الموارد ، ولعمري أن هذا المقام لهو الذي يرفع به الشيطان راية الغواية ويستنهض جنده ويعد عدته ويرتب جيشه فيجعل الغفلة على مقدمته ، والعصبية على ميمنته ، والتقليد على ميسرته ، وحب الراحة على القلب وجب الدنيا في الكمين والميل مع الهوى جاسوسه فيستخدم النفس الأمارة وزيرا على هذا الجند لأنه طالما استسلس قيادها لغوايته وجربها في طاعته أعاننا الله وجميع الراغبين في الحق على مكايد الشيطان ومخادعاته وهدانا بنور العقل وبصيرة الهدى الى الصواب انه أرحم الراحمين.

اعلم هداك الله الى الحق اليقين ، وكفاك شر الشيطان اللعين انه إذا قام مدعي النبوة والرسالة ودعي الى الإيمان به وقبول ما يدعيه من الوحي وأخبر ان عدم الإيمان به مستلزم لوبال الضلال وموجب لأليم العقاب وشديد النكال فلا شك ان هذه الدعوى قبل النظر في الشواهد والموانع محتملة للصدق والكذب فيقع المدعو حينئذ بين أخطار ثلاثة لأنه ان تسرع الى تصديقها من دون نظر وتثبت في أمرها كان مخاطرا في ذلك لاحتمال كذبها في الواقع ولخوف ضرر الضلال بالإيمان بها واتباع تعاليمها الفاسدة الكاذبة التي تعمى عن الحق ، وان تسرع الى تكذيبها من دون نظر وتثبت في أمرها كان مخاطرا أيضا في ذلك

٢٢١

لاحتمال صدقها في الواقع ولخوف الضلال بجحود الرسالة الحقة والعقاب الشديد عليه وحرمانه بركة الإيمان بها ومنافع تعاليمها وإصلاحها وتكميلها وسعادة تقريبها الى الله والفوز العظيم ، وان بقي مترددا فيها متوقفا في شأنها من دون نظر وتثبت في أمرها كان أيضا مخاطرا لاحتمال صدقها في الواقع ولخوف العقاب على عدم الايمان بها وحرمانه وخسرانه ما ذكرنا من منافعها العظيمة.

فلا رافع لهذه المخاطرات ولا مؤمن من مخاوفها العظيمة إلا اتباع هدى العقل والاستضاءة بنوره في الجد والاجتهاد بالبحث والنظر في أمرها بشرط مراقبة النفس في معاثر الميل مع الهوى ، والرغبة في الدين المألوف وغوايات العصبية وعمايات التقليد مع حسن التجرد في الجهاد ، والتحذر عن هذه المعاثر ، فيجب على المدعو حينئذ بحكم العقل وطريقة العقلاء اعمال النظر في أمر ما دعي إليه بالنحو الذي ذكرناه ليتخلص من هذه المخاطرات ويرفع الضرر عن نفسه التي هي أعز الأنفس وأكرمها عليه ، فضلا عن جلب النفع لها ، فانه ان تثبت بهذا النحو من النظر الصادق كان فائزا بالسعادة ان أصاب ومعذورا بحكم الشرع والعقل ان أخطأ وآمنا من العقاب بحكم العقل والشرع فانه لا يكلف الله نفسا إلا وسعها.

فصل فيما يتعلق بكيفية النظر

لا يخفى انه لا يجتمع في الواقع ونفس الأمر شاهد الرسالة مع المانع منها ، فإذا اجتمعا في الظاهر تبين كذب الكاشف عن أحدهما أو عنهما كليهما ، وان الكاشف عنهما اما أن يكون هو الحس فيهما معا ، واما ان يكون هو النقل فيهما معا. وأما أن يكون هو النقل في احدهما والحس في الآخر.

وان الذي يهم عموم الناس بعد رحلة خاتم المرسلين الى سعادة الآخرة إنما هو الكاشف النقلي في شأن الأنبياء الذين تنسب إليهم الدعوة الى دينهم وشرائعهم الواردة في إصلاح البشر في أمر دنياهم وآخرتهم ، فلا بد وان يكون الكاشف النقلي هو النقل المتواتر المفيد للعلم ، فإن غيره مما لا يفيد العلم لا حظ له في المداخلة والحكومة في اصول الدين المبنية على الاعتقاد واليقين.

«النقل المتواتر» المفيد لليقين هو اخبار جماعة يذعن العقل المبرئ عن

٢٢٢

غواية العصبية وعماية التقليد بأنهم لم يتواطئوا على الكذب ، وإذا كان النقل متعدد الطبقات فلا بد من أن يكون متواترا في جميع طبقاته على هذا النحو ليكون مقيدا لليقين وإلا فلا.

وليعلم الطالب للحق الراغب في الهدى الحريص على نجاته ودفع المخاطرات العظيمة والمخاوف المهلكة عن نفسه انه اذا بلغته دعوة الرسالة الى الايمان بها واتباع شريعتها والاهتداء بتعاليمها. كان عليه ان يفحص جهد قدرته عن النقل لشواهد تلك الرسالة وموانعها من معدنه واهل خبرته. وليلتفت الى انه لا ينبغي ان يعتمد في امر الشواهد على من يحرص بتعصبه على اخفائها حتى يلبسها بتمويهه ثوب الاستحالة والامتناع. او من يحرص بتعصبه لدعواها حتى يفرغها بتلفيقه في قالب بداهة الوجدان.

ولا يعتمد أيضا في امر الموانع على من يدعوه الحسد والعناد الى تخييلها بأباطيله للعيان. أو من يدعوه الهوى الى سترها بحجب الكتمان ، بل ليعتبر لتأييد الشواهد باعتراف الخصوم بنحو منها. وليعتبر لتأييد الموانع بالتزام جامعة الاتباع بما يؤول إليها. ثم ليتثبت في امر النقل ويدقق في جميع طبقاته لئلا يكون فيها ما يمنع من كونه متواترا. ويحقق في سائر منقولات هذا النقل لئلا يكون فيها ما يلزم منه كذبه وفساده ويكشف بنحو اجمالي عن فساد دعوى التواتر فيه. وليحقق في شأن المنقول من الشاهد للرسالة والمانع منها حسب قانون العقل الذي ذكرناه لئلا يشتبه عليه الشاهد بما ليس بشاهد والمانع وما ليس بمانع.

وليحذر كل الحذر في هذا المقام العظيم كله من مخادعات الشيطان ومهاجمات جنوده التي ذكرناها. بل يتجرد لمقاومة الشيطان محافظا على حدود منعته فان ميل الانسان مع الهوى قد دل الشيطان على جميع عوراته التي يؤخذ منها ، فان قصر الانسان فيما شرحناه فازل الشيطان عن الحق في مقام النظر قدمه وثناه عن الهدى فلا يلومن إلا نفسه حيث استحق بتقصيره العقاب العظيم واستوجب الحرمان وقرت بضلاله وهلاكه عين الشيطان. ذلك هو الخسران المبين. اعاذنا الله من ذلك وكل طالب للهدى ودين الحق انه ولي التوفيق.

٢٢٣

فان ثبتت عنده نبوة النبي فليعد النظر لأخذه بشريعته وتعاليمه فيهما ليميز بين الحق منهما وبين ما زوره تلاعب الأيام عليهما ، ثم يميز بين ما هو الثابت في حقه منهما وبين ما هو منسوخ بشريعة صادقة من نبوة لا حقة ليعرف بصدق النظر ما هو حكم الله الفعلي في حقه فيتعبد الله به ويطلب صلاحه وسعادته في الدارين بسببه.

فصل : في انموذج النظر

حسبما شرحنا من قوانينه تمرينا للذهن

انا قد حاولنا إثبات النبوات وكتبها وشرائعها بحججها من غير توقف لثبوت نبوة أو ثبوت آثارها على تصديق النبوة التي بعدها ، فوجهنا النظر الى نبوة الأنبياء الذين هم قبل موسى فلم نجد لدعواهم النبوة وحجتها ولا لشرائعهم ولا لكتبهم أثرا يعتد به في غير النبوات التي بعدهم ولئن كان لها أثر عند أهل الملل من بعد موسى فإنما هو من نبواتهم وكتبها.

فوجهنا النظر الى نبوة موسى وكتابه وشريعته وما حدث بعده من النبوات والكتب والشرائع.

فنظرنا أولا في رسالة موسى وكتابه وشريعته فوجدنا معاصرينا من اليهود متفقين في نقلهم على ان موسى ادعى الرسالة من الله وظهرت على يده المعجزات العظيمة وأنزل الله عليه كتاب التوراة وبعثه بالشريعة ، وان التوراة الدارجة الآن هو الكتاب المنزل من الله عليه لبيان الشريعة وغيرها.

وهم متفقون أيضا على أن هذه النقول قد تلقوها متواترة في أجيالهم وطبقاتهم يدا عن يد إلى الجيل السامعين من موسى دعوى الرسالة المشاهدين لمعجزاته ، ويؤيد نقل اليهود المعاصرين ومن قاربهم نقل طبقات المسلمين وطبقات النصارى عن طبقات اليهود ولكنه منقطع ينتهي في أثناء سلسلة التواتر الى طبقات اليهود دون غيرهم وذلك ظاهر فان المسلمين أولهم من العرب والعجم وجملة من الامم الذين ينكرون نبوة موسى ومعجزاته وكذا النصارى في أممهم.

٢٢٤

بل نقول ان نقل المسلمين والنصارى لمعجزات موسى إنما أصله وحقيقة مأخذه إنما هو الاعتماد على نبواتهم ، ولذا ترى المسلمين لا يعرفون من معجزات موسى إلا ما جاء في القرآن الكريم ، فينحصر حصول التواتر بنقل اليهود ، وعلى كل حال فان نقل اليهود يمكن باعتبار كثرتهم في أجيالهم أن يكون من المتواتر ما لم يمنع من ذلك مانع أو نجد فيه ما يكذبه ويشهد بعدم كونه من النقل المتواتر.

فوجهنا نظرنا الى الفحص وابتدأنا بالنظر في الموانع فوجدنا في عاشر يوحنا عن قول المسيح ما يقدح بعمومه في رسالة موسى ورعايته للأمة ويصمه بالعيب المانع من النبوة فانه بعد ما ذكر الرعاية الحميدة والاختلاس «يو ١٠ : ١ ـ ٦» قال ٧ الحق أقول لكم اني أنا باب الخراف ٨ جميع الذين أتوا قبلي هم سراق ولصوص انتهى.

إلا انه يكفي في دفع هذا المانع توقف منعه على ثبوت نبوة المسيح والعلم بأن هذا المنقول من قوله ، بل يكفي في بطلانه عجالة انه جاء في الأناجيل عن أقوال المسيح ما يناقضه في شأن موسى ، ويكفي من ذلك صراحتها بكون المسيح متبعا لشريعة موسى عاملا بالفصح وأعياد التوراة آمرا باتباع أقوال الكتبة لأنهم جلسوا على كرسي موسى «مت ٢٣ : ٢» جاعلا قول التوراة من عند الله وتكليم الله لموسى وقول الرب «مت ٢٢ : ٣١ ومر ١٢ : ٢٦ ولو ٢٠ : ٣٧».

فصرفنا النظر الى تعاليم موسى لعلما يوجد فيها شيء من الموانع فنظرنا في سند التوراة الدارجة التي هي بنقل اليهود كتاب تعاليمه فوجدناها مساوية لدعوى موسى للرسالة وظهور المعجز على يده في اتفاق اليهود ودعواهم التواتر على أن جميعها كتاب موسى عن الوحي ، وانهم قد تسلموا نقلها متواترا عن أجيالهم يدا بيد الى الجيل المعاصرين لموسى ، فأحرزنا من ذلك ان هذا النقل المتحد في الأمرين لا يمكن أن يذعن بتواتره في بعض منقولاته مع كذبه في المنقول الآخر ، فلزمنا في مقام النظر التفحص عن هذه المنقولات إذ لعل ما يوجد فيها من الموانع ما هو مساو في السند لصورة الحجة فلا يبقى اعتماد على

٢٢٥

هذا النقل المتساوي فيهما.

وإذ تفحصنا وجدنا في تعليم التوراة عن قول الله لا تذكروا اسم آلهة اخرى ولا يسمع من فمك «خر ٢٣ : ١٣» لتعلم ان الرب بهره هو الإله ليس آخر سواه «تث ٤ : ٣٥» أنا أنا هو وليس إله معي «تث ٣٢ : ٣٩».

ووجدنا أيضا في التوراة عن قول موسى عن قول الله ان موسى يكون إلها لهارون «خر ٤ : ١٦» وجعله إلها لفرعون «خر ٧ : ١».

وفي التوراة أيضا ان موسى استعفى من الرسالة بخطاب مع الله غير جار على الأدب ، ولم يثق بوعد الله حتى حمى غضب الله عليه ، وقال لله لما ذا أسأت الى هذا الشعب لما ذا ارسلتني؟

وقال أيضا لما ذا أسأت الى عبدك؟

وقال في شأن عبدة العجل : والآن ان غفرت لهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت ، وشك في قدرة الله على اشباع بني اسرائيل من اللحم وخاطب الله بما يشبه الانكار لذلك.

وذكرت التوراة أيضا ان موسى وهارون لم يؤمنا بالله. وعصيا قوله. وخاناه كما ذكرنا ذلك تفصيلا في الفصل السابع من المقدمة الثامنة ، وهذا لا يجتمع مع الرسالة كما ذكرناه في المقدمة المذكورة : مضافا الى ان في التوراة الرائجة ما يمتنع ان يكون من الإلهام كما سمعت فيما مضى وسيمر عليك ان شاء الله ، مضافا الى شهادة ارميا : بأن شريعة الله وتوراته حولها الى الكذب قلم كذب الكتبة. كما سمعت في المقدمة السادسة ، ثم تحققنا أيضا في خصوص سند التوراة فوجدناه بحكم المقدمة الخامسة وشهادة المقدمة السادسة واوليات المقدمة الثالثة عشر فتحقق لنا انه منقطع لا يمكن في العادة للعاقل ان يحتمل اتصاله الى موسى بل لا بد من ان يكون نقل مجموع التوراة الدارجة عن موسى كاذبا لا اعتداد به.

فيتضح من ذلك ان دعوى اليهود تواتر نقلهم لدعوى موسى الرسالة وظهور المعجز على يد غير صحيحة. وذلك لأجل التنافي بين منقولاتهم التي

٢٢٦

يدعون فيها التواتر فيعلم كذب احدهما او كليهما اجمالا. ولأجل ظهور الكذب على بعض منقولاته.

لكنا قلنا : يمكن ان تكون دعوى اليهود صادقة في اتصال النقل والتواتر لدعوى موسى للرسالة وظهور المعجز على يده. وان ظهر انقطاع النقل بل والكذب في نقل التوراة. وذلك لأجل اكتشاف الداعي الى الكذب في نقل التوراة وهو حرص الكهنة ورؤساء الدين على ابقاء صورة الشريعة وآثار موسى بعد تلاشيها وانطماسها بدواهي التقلبات والانقلابات المشروحة في المقدمة الخامسة فلفقوها من أوهامهم ومن النقول المشتبه صدقها بكذبها وكابروا في حفظ اسمها وعنوانها بدعوى تواترها.

ومع ذلك لا يعدو أمر موسى في دعواه الرسالة وظهور المعجز على يده من حيث نقل اليهود ان يكون احتمالا وظنا لا يصلح ان يكون حجة في اصول الدين.

ولو ان نقل اليهود له افاد العلم وكان حجة لما ثبت عندنا الا مجرد نبوة موسى ولا أثر لذلك الا وجوب الايمان به فقط اذ لم تصل إلينا منه شريعة معلومة ولا كتاب معلوم.

ثم وجهنا نظرنا الى دعوة المسيح وانجيله وتعليمه وشريعته فوجدنا المعاصرين من النصارى متفقين في النقل على انه ادعى الرسالة وظهرت على يده المعجزات وانزل عليه الإنجيل.

ومتفقين أيضا على أنهم قد تسلموا هذا النقل مسلسلا عن اجيالهم يدا عن يد الى الكثيرين من جيل المسيح السامعين لدعواه الرسالة والمشاهدين لمعجزاته.

ومتفقين أيضا بهذا الاتفاق في النقل على ان الأناجيل الأربعة الدارجة هي من تعاليم المسيح واحواله الواقعية ، وانها قد كتبها رسل ملهمون عن الروح القدس ادعوا الرسالة وظهر على يدهم المعجز وانهم «اعنى النصارى» تسلموا هذا كله مسلسلا من نقل اجيالهم الى الكثيرين السامعين من هؤلاء الرسل

٢٢٧

دعواهم الرسالة ، والمشاهدين لظهور المعجز على ايديهم ، وأن هذه الكتب الأربعة من كتابتهم.

ومتفقين أيضا بهذا الاتفاق على أن أعمال الرسل ، وأربعة عشرة رسالة لبولس ، وواحدة ليعقوب واثنتين لبطرس ، وثلاثا ليوحنا وواحدة ليهوذا.

ورؤيا يوحنا على ما شرحناه في المقدمة الأولى هذه كلها كتب رسل ملهمين ادعوا الرسالة وظهر على يدهم المعجز ، وانهم تسلموا هذا كله مسلسلا من نقل اجيالهم الى الكثيرين السامعين من هؤلاء الرسل دعوى الرسالة المشاهدين لظهور المعجز على ايديهم ، وان هذه الكتب المذكورة من كتابتهم.

وجدنا النصارى المعاصرين أيضا يدافعون أشد المدافعة في أقوالهم وكتاباتهم على الخدشة في سند هذه الأناجيل والكتب ، ويحامون عنها بدعوى تواتر النقل لكونها كتبا إلهامية صادرة من رسل ملهمين.

فقلنا لننظر أولا في الموانع عن رسالة المسيح وهؤلاء الرسل فوجدنا اليهود يقدحون في نسب المسيح وولادته الطاهرة فتمتنع رسالته بحكم «تث ٢٣ : ٢» ، ويدل عليه اعتبار العقل فإن هذا الأمر منقصة منفرة للناس فيمتنع للرسالة التي هي إتمام للحجة من الله على الناس أن يكون فيها مثل هذا الأمر المنفر.

وأيضا يصفون قدس المسيح بالضلال والسحر ، وكذا بعض الوثنيين حتى عدوا من كتبه كتاب الشعبذات والسحر ، وانه في مدة بقائه بمصر تعلم النيرنجات ، ويكيلون لباقي الرسل بنحو هذا المكيال.

فقلنا : لننظر أولا في الحجة على رسالة المسيح وموانعها الداخلية فإن تمت الحجة لم تعارضها هذه الموانع الخارجية بل يوضح تمام الحجة كذب دعوى هذا المانع.

فقد قضت العادة بأن كل من نهض لدعوة جديدة أو رئاسة جديدة محقا كان او مبطلا لا بد أن ينهض له مقاومون يرمونه بالعيب والضلال فاشتبه حق هذا لقدح بباطله ، وخصوصا ان قدح اليهود وغيرهم في نسب المسيح في غير محله ، لأن الذي يدعونه أمر غيبي ، وان كانت العادة تعضده إلا ان اليهود

٢٢٨

معترفون بأن الله قادر على خلق الولد في رحم أمه من غير فحل.

وقد ظهرت قدرة الله في شأن آدم وحوا بأعظم من ذلك ، وان الطبيعة التي سخرها الله بقدرته صالحة لمثل هذا.

فقد وجدنا في الحيوانات المعتاد تخلقها بآلات التناسل قد تتخلق بغيرها كما هو المشاهد في «الفار» إذ يتخلق من الطين ، والدجاج قد يبيض ويفرخ من غير فحل ، فإن اخبر نبي بتولد إنسان من غير فحل وجب تصديقه لاخبار الصادق بأمر ممكن في قدرة الله جل شأنه مع صلاحية الطبيعة لمثله خصوصا مع وقوع ما هو من هذا القبيل ، هذا وان لم يخبر به النبي فلا ينبغي أن يستلب حقه من الامكان والاحتمال وإن كان على خلاف العادة خصوصا إذا كانت المرأة الوالدة من المعروفات بالدين والعفاف.

دع هذا فنظرنا في هذا الاتفاق من النصارى المعاصرين المتساوي في جميع منقولاته على نحو احد بحيث لا يمكن ان يكون متواترا في بعض منقولاته كاذبا في المنقولات الأخر فوجدناه مختل الاركان متناقض المنقولات مضطربا فيها مشتملا على ما يكذب بعضه بعضا وعلى واضحات الموانع من رسالة المسيح ولنذكر لك من ذلك شيئا يسيرا. فان الاستقصاء يفضي الى السئام والملل والخروج عن المقصود من وضع الكتاب والمقدمة. فاستمع من ذلك الى امور :

الأول : شهادة التاريخ بأن بعض منقولات هذا النقل ما ليس متواترا بل هو منقطع قد تواطأ على صحته بعض السلف بتلفيق الأدلة والمؤيدات بزعمهم فتبعهم الخلف واستعاروا له اسم التواتر.

ولنقتصر من نقل ذلك على ما نقله اظهار الحق فإنه الميسور تعجيله فقد نقل من ذلك موارد :

المورد الاول عن جيروم في مقدمته على كتاب يهوديت ان سبعة كتب وبعض الفقرات مما يدعي المعاصرون والمتأخرون تواتره قد كانت مشكوكة فانعقد مجلس العلماء المسيحيين لتحقيق أمرها بأمر السلطان قسطنطين في بلدة نائس «نيقية» سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين فلم يتحقق وهي ست رسائل

٢٢٩

العبرانيين ، وبطرس الثانية ، ويوحنا الثانية ، والثالثة ، ويعقوب ، ويهوذا والسابع رؤيا يوحنا بل سلم من دونها كتاب يهوديت «المردود عند البروتستنت» قال : ثم انعقد مجلس «لوديسا» ـ اي لاوديقية ـ سنة ثلاثمائة وأربع وستين فأوجب التسليم للست رسائل المذكورة ، وأبقى رؤيا يوحنا على الشك إلى أن انعقد مجلس «كارتهيج» ـ اي قرتاجنة ـ ستة ثلاثمائة وسبع وتسعين فسلم رؤيا يوحنا.

والمتكلف لم تسعه المكابرة بتكذيب إظهار الحق ولا توهين جيروم لأنه ادخره للاستشهاد بكلامه ، وصرح «يه ١ ج ص ١٤٨ س ٧» بأنه كان مشهورا بالتحقيق والتدقيق في عصره وهو الجيل الرابع للمسيح ولكنه لما ألجأه الوقت أن يكتب شيئا ما قال «يه ١ ج ص ٨٢» مداولة المجالس في الكتب الموضوعة قال : «يعني اظهار الحق» التأم مجلس العلماء المسيحيين للنظر في الكتب المشكوكة.

قلنا : يؤخذ من كلامه انه لا خلاف في الكتب الموحى بها وهو الصواب الى ان قال المتكلف : ولم يحصل أدنى خلاف بين اعضاء المجلس النيقاوي على صحة الكتب المقدسة انتهى.

وأقول : كيف اخذ المتكلف من كلام اظهار الحق أو جيروم انه لا خلاف في الكتب الموحى بها مع تصريحه في النقل عن جيروم ان الكتب السبعة المذكورة كانت مشكوكة وبقيت على الشك بعد المجلس الاول فسلم منها في المجلس الثاني ستة وبقي السابع مشكوكا إلى المجلس الثالث.

أفيقول المتكلف : ان هذه الكتب السبعة ليست من الكتب الموحى بها هذا وان اراد المتكلف ان سكوت اظهار الحق أو جيروم عن الباقي من كتب العهد الجديد يدل على انها مسلمة في جميع الاعصار.

قلنا : متى سكت اظهار الحق او جيروم او غيرهم عن باقي الكتب كما سنذكره في الموارد الآتية وأنها بمرأى المتكلف ومسمعه وقد تعرض لها ، ولكني اخبرك ان ظني القوي ان المتكلف لا يدري ما ذا قال هاهنا ، واما قوله : ولم يحصل ادنى خلاف بين اعضاء المجلس النيقاوي على صحة الكتب المقدسة

٢٣٠

فنقول فيه ان اراد من المجمع النيقاوي هو مجلس نائس المذكور.

قلنا : ان نقل جيروم ابعد عن التعصب من دعوى المتكلف وهو اعرف بالأمور القريبة من عصره ومشهور بالتحقيق والتدقيق وهو مثبت والمتكلف نافي. وان اراد من المجمع النيقاوي غير مجلس نائس المذكور فلا يضرنا لأنا لا ننكر ان مجامع النصارى قد اتفقت في بعض الأدوار على صحة هذه الكتب بل اتفقت في ادوار كثيرة على صحة كتب كثيرة حتى نبغت فرقة البروتستنت في القرن السادس عشر فانفردت بدعوى كذبها. وقد تعرض المتكلف أيضا للمجمع النيقاوي المذكور «يه ٣ ج ص ٢٤٦» فلم يجسر على مخالفة جيروم في النقل ولكنه تكلم بما لا دخل له بالمقام كاستشهاده بكثرة الأساقفة على انتشار الديانة المسيحية وان الكتب الموحى بها هي التي تكتب بإلهام الروح القدس وان كتاب يهوديت ليس منها.

المورد الثاني : عن وارد كاتلك قال في كتابه : صرح جيروم في مكتوبه ان بعض العلماء من المتقدمين كانوا يشكون في الباب الآخر من انجيل مرقس ، وبعض القدماء كانوا يشكون في بعض الفقرات من الباب الثاني والعشرين من لوقا ، وعن المحقق نورتن في كتابه المطبوع في بلدة بوستن سنة ١٨٣٧ ص ٧٠. في هذا الإنجيل «يعني مرقس» عبارة واحدة قابلة للتحقيق «وهي من الفقرة التاسعة من الباب الأخير الى آخر الإنجيل».

والعجب من كريسباخ انه ما جعلها معلمة بعلامة الشك في المتن وأورد في شرحه ادلة على كونها الحاقية «ثم نقل ادلته وقال» فثبت منها ان هذه العبارة مشتبهة سيما إذ لاحظنا العادة الجبلية للكاتبين بأنهم كانوا ارغب في ادخال العبارات من اخراجها انتهى.

قال المتكلف «يه ١ ج ص ١٢٣» : ان القول بأن العلماء كانوا يشكون في الإصحاح الأخير من انجيل مرقس هو افتراء محض غاية الأمر ان غريغوريوس اسقف «نسا» في كبدوكية قال : ان انجيل مرقس ينتهي بقوله «وخافوا» «والصواب خائفات» وغض الطرف عن الاثنتي عشرة آية الأخيرة لأنه لم يجدها في بعض نسخ الفاتيكان ، ومن المؤكد انها كانت موجودة في نسخ كريسباخ ولكنها

٢٣١

كانت مكتوبة بين قوسين.

فأقول : هب المتكلف كذب إظهار الحق او وارد كاتلك او معتمده جيروم في شك بعض العلماء المتقدمين في آخر مرقس ولكنه اعترف بأن اسقف «نسا» قد اخرج اثنتي عشرة فقرة من آخر مرقس جزما والاعتذار بأنه لم يجدها في بعض نسخ الفاتيكان اعتذار واه لا محصل له إلا القدح بتثبت الأساقفة وقصورهم بل وتقصيرهم في معرفة الحقائق والمحافظة على الكتب الإلهامية بزعمهم.

وينجر إلى القدح أيضا بسند العهد الجديد لأنه لم يكن لعموم الناس قبل القرن السادس عشر حظ في تداوله ، كما حدث بعد ذلك وإنما كان أمره مختصا بالأساقفة ومن تحت أيديهم من القسوس وغيرهم ، على انه لم تكن قبل ناشئة البروتستنت كتب تختص بعنوان الفاتيكان وإنما كان أمر الكتب في هرج ومرج نسكن سورته المجامع وبعد مجلس كارتهيج أي قرطاجنة صار الفاتيكان وغيره واجب التسليم الى القرن السادس عشر.

وأيضا هب ان المتكلف كذب «نورتن» في نقله عن شرح كريسباخ ولكنه اعترف بأن الفقرات المذكورة كانت مكتوبة في نسخته بين قوسين ، ومن المعلوم من الاصطلاح في رسم العهدين ان الجعل بين هلالين إنما هو علامة على ان ما بينهما غير موجود في اصح النسخ وأقدمها وهو أعظم من الشك.

ومن اراد الحكومة بين المتكلف وبين وارد كاتلك ونورتن فليحقق في كتابات جيروم وكريسباخ فان المتكلف قد أنكر الفقرة الثالثة من ثاني التكوين في تقديس اليوم السابع وتبريكه «انظر يه ٤ ج ص ١٧٤ س ٣» فهل يؤتمن بعد ذلك على نقل؟.

المورد الثالث : عن «ص ٢٠٥» من المجلد السابع المطبوع سنة ١٨٤٤ م من كاتلك هولد كتب استادلن في كتابه ان كافة انجيل يوحنا تصنيف طالب من طلبة المدرسة الاسكندرية بلا ريب.

والمحقق برطشنيدر قال : ان هذا الإنجيل كله وكذا رسائل يوحنا ليست من تصنيفه بل صنفها واحد في ابتداء القرن الثاني.

٢٣٢

والمحقق المشهور كروتيس قال : ان هذا الإنجيل كان عشرين بابا فالحق كنيسة افسس الباب الحادي والعشرين بعد موت يوحنا.

وعن هورن في الباب الثاني من القسم الثاني من المجلد الرابع من تفسيره المطبوع سنة ١٨٢٢ م انه قال الحالات التي وصلت إلينا في باب زمان تأليف الأناجيل من قدماء مؤرخي الكنيسة أبتر وغير معينة لا توصلنا إلى أمر معين ، والمشايخ القدماء الأولون صدقوا الروايات الواهية وكتبوها وقبل الذين جاءوا من بعدهم مكتوبهم تعظيما لهم ، وهذه الروايات الصادقة والكاذبة وصلت من كاتب الى كاتب آخر وتعذر تنقيدها بعد انقضاء المدة انتهى.

ولم يتعرض المتكلف للكلام على هذا النقل «انظر يه ١ ج ص ١٣٤» الى آخره.

المورد الرابع : عن هورن «ص ٢٠٦ و ٢٠٧» من المجلد الثاني من تفسيره المطبوع سنة ١٨٢٢ م ، لا توجد في الترجمة السريانية الرسالة الثانية لبطرس ، ورسالة يهوذا ، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ومشاهدات يوحنا ، ومن الآية الثانية الى الآية الحادية عشر من ثامن يوحنا ، والآية السابعة من الباب الخامس من الرسالة الاولى ليوحنا.

وعن وارد كاتلك «ص ٣٧» من كتابه المطبوع سنة ١٨٤١ م ذكر راجرس وهو من اعلم علماء بروتستنت أسماء كثيرين من علماء فرقته الذين اخرجوا الكتب المفصلة من الكتب المقدسة باعتقاد انها كاذبة الرسالة العبرانية ورسالة يعقوب ، والرسالة الثانية ، والثالثة ليوحنا ، ورسالة يهوذا ومشاهدات يوحنا.

وقال داكتر بلس من علماء بروتستنت : ان جميع الكتب ما كانت واجبة التسليم الى عهد يوسى بيس واصر على أن رسالة يعقوب ورسالة يهوذا ، والرسالة الثانية لبطرس ، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ليست من تصنيفات الحواريين ، وكانت الرسالة العبرانية مردودة الى مدة والكنائس السريانية ما سلموا ان الرسالة الثانية لبطرس ، والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ، ورسالة يهوذا وكتاب المشاهدات وما سلموا كونها واجبة التسليم وكذا حال كنائس

٢٣٣

العرب لكننا نسلم.

وعن لاردنر «ص ١٧٥» من المجلد الرابع من تفسيره سرل وكذا كنيسة اورشليم في عهده ما كانوا يسلمون كتاب المشاهدات ، ولا يوجد هذا الكتاب في الفهرست القانوني الذي كتبه.

ثم قال «ص ٣٢٣» ان مشاهدات يوحنا لا توجد في الترجمة السريانية القديمة وما كتب عليه بارهي بريوس ولا يعقوب شرحا وترك «أي بدجسو» في فهرسته الرسالة الثانية لبطرس والرسالة الثانية والثالثة ليوحنا ورسالة يهوذا ومشاهدات يوحنا وهذا هو رأي السريانيين الآخرين.

وعن «ص ٢٠٦» من المجلد السابع من كاتلك هولد ان روز كتب «ص ١٦١» من كتابه ان كثيرا من محققي بروتستنت لا يسلمون كون كتاب المشاهدات واجب التسليم.

واثبت برويرا يوالد : بالشهادة القوية ان انجيل يوحنا ورسائله وكتاب المشاهدات لا يمكن أن تكون من تصنيف مصنف واحد.

وعن يوسى بيس في الباب الخامس والعشرين من الكتاب السابع من تاريخه «قال» ديونيسيش اخرج بعض كتاب المشاهدات عن الكتب المقدسة واجتهد في رده وقال : هذا كله لا معنى له واعظم حجاب الجهالة وعدم العقل ونسبته الى يوحنا الحواري غلط ومصنفه ليس بحواري ولا رجل صالح ولا مسيحي بل نسبه سرنتهن الملحد الى يوحنا لكني لا اقدر على إخراجه عن الكتب المقدسة لأن كثيرا من الاخوة يعظمونه الخ.

وعن يوسى بيس في الباب الثالث من الكتاب الثالث من تاريخه ، ان الرسالة الاولى لبطرس صادقة إلا ان الرسالة الثانية له ما كانت داخلة في الكتب المقدسة في زمان من الأزمنة لكن كانت تقرأ رسائل بولس اربع عشر إلا ان بعض الناس اخرج الرسالة العبرانية.

وفي الباب الخامس والعشرين من الكتاب المذكور ، اختلفوا في ان رسالة يعقوب ورسالة يهوذا والرسالة الثانية لبطرس ، والرسالة الثانية ، والثالثة ليوحنا

٢٣٤

كتبها الإنجيليون او اشخاص اخر كان أسماءهم هذه.

وفي الباب الخامس والعشرين من الكتاب السادس من تاريخه أيضا نقل قول ارجن في شأن الرسالة العبرانية الحال الذي كان على ألسنة الناس ان بعضهم قالوا : ان هذه الرسالة كتبها كليمنت الذي كان بشب الروم وبعضهم قالوا : ترجمها لوقا انتهى كلام ارجن. قال : وأنكرها رأسا ارنيس بيشب ليس الذي كان سنة ١٧٨ م وهب بوليتس الذي كان سنة ٢٢٠ م ونوتيس برسبتر الروم الذي كان سنة ٢٥١ م وقال ترتولين برسبتر كارتهيج الذي كان سنة ٢٠٠ م انها رسالة برنيا ، وكيس برسبتر الروم الذي كان سنة ٢١٢ م عد رسائل بولس ثلاثة عشر ولم يعد هذه الرسالة ، وسائي برن بشب كارتهيج الذي كان سنة ٢٤٨ م لم يذكر هذه الرسالة ، وقال اسكالجر من كتب الرسالة الثانية لبطرس فقد ضيع وقته.

وعن تاريخ البيبل المطبوع سنة ١٨٥٠ م قال كروتيس : هذه الرسالة رسالة يهوذا الاسقف الذي كان خامس عشر من اساقفة اورشليم في عهد سلطنة ايدرين.

وعن يوسي بيس في الباب الخامس والعشرين من الكتاب السادس من تاريخه :

قال ارجن في المجلد الخامس من شرح انجيل يوحنا ان بولس ما كتب شيئا الى جميع الكنائس والذي كتبه الى بعضها فسطران او أربعة سطور.

والمتكلف لم يتمكن من انكار هذه النقول ولا القدح بناقليها ، وغاية ما تمكن في مقابلة بعضها انه لفق بعض الشواهد الواهية لصحة الكتب المذكورة باستشهاد بعض الأشخاص ببعضها ، وتصحيح بعضهم لها واشتمالها على اسم الرسول المنسوبة إليه او الوعظ وغير ذلك من التشبثات التي ليس فيها شيء يشهد بعدم الجعل «انظر يه ١ ج ص ١٥٣» إلى آخره على ان المتكلف قد غفل او تغافل عما هو الموضوع لكلام إظهار الحق فانه أورد هذه النقول وغيرها شواهد على عنوان الفصل الثاني من الباب الأول وهو انه لا يوجد عند اهل الكتاب سند متصل لكتاب من كتب العهد العتيق والجديد فكل ما فر إليه

٢٣٥

المتكلف من الاستشهادات مما يؤكد دعوى إظهار الحق على انا لو استقصينا في التعرض لتلك الشواهد لاوضحنا سخافتها في نفسها ولكنها لا تمس غرضنا بوجه ولو تمت بل تؤكد قولنا : ان دعوى النصارى المتأخرين تواتر كتبهم إلى المصادر المدعاة لا أصل لها ، بل أن النصارى مختلفون فيها ، وان من يريد منهم التصحيح يحتاج إلى أعمال الظنون والاعتماد على تقليد آحاد الناس في امر مضى له تسعة عشر قرنا.

المورد الخامس : قد ذكر إظهار الحق أيضا في المقصد الثاني من الباب الثاني شهادة كثير من محققيهم ومفسريهم وأئمتهم في أجيال مختلفة ونصهم على زيادة كثير من العهد الجديد وانه الحاقي ليس منه «انظر المقصد الثاني المذكور من الشاهد السابع والعشرين إلى آخره».

والمتكلف لما اراد ان يتكلم على هذه الشواهد لم يتمكن من جحود نقلها ولا القدح فيمن نقل عنهم فتستر باهماله لذكر من نقلت عنه فموه بإظهار نسبتها إلى إظهار الحق وصار يجيب عنها بالتلفيقات والتشبثات «انظر يه ٣ ج ص ٢٧٠ ـ ٢٩٠».

ثم جعل استشهادات إظهار الحق المشار إليها استشهادا بأقوال المسيحيين الضعيفة والآراء السقيمة وضرب المثل باعتقاد المتقدمين بكون الشمس متحركة والأرض ثابتة وقد اتضح فساده.

إلى أن قال : ولا يخفى ان المعترض «يعني إظهار الحق» أورد كل رأي سقيم وقول باطل قديم وما دري ان الدنيا في تقدم ، فكل سنة تظهر حقائق جمة بل انكشفت بالأبحاث الجديدة امور مهمة إلى ان قال : ولو كان آدم كلارك او غيره من الجيل الماضي في هذا العصر لأقلعوا عن كثير من آرائهم الساقطة.

فأقول أولا : ان المتكلف طالما ادعى ان كتبهم وصلت من السلف الى الخلف بالسند المتصل القوي «انظر أقلا عنوانه يه ٣ ج ص ١٩٢» ولم يجد ملجأ في زعمه صحتها واتصال سندها في تسعة عشر قرنا إلا بقول فلان واستشهاد فلان.

وثانيا : ان جل الذي استشهد بنقلهم إظهار الحق قد التجأ المتكلف في

٢٣٦

كتابه إلى التشبث بآرائهم ونقولهم ، انصر كتابه في أمثال هذه الموارد وراجع إظهار الحق في هذا المقام.

نعم : هؤلاء وأمثالهم من سلف المتكلف عنده على حالتين متباينتين ان استشهد إظهار الحق بكلامهم في مقام لا يتهمون به كانوا عند المتكلف من الجهلة العارين عن الفهم والعلم «انظر يه ١ ج ص ٩٥ س ٦».

وكان ما ينقله من أقوالهم رأي سقيم وقول باطل قديم وآراء ساقطة «انظر يه ٣ ج ص ٢٩١ و ٢٩٢». وان استشهد بهم المتكلف لمزاعمه كانوا أئمة فضلاء اثبات محققين مدققين ، انظر الى مدحه لهم عند ما يتشبث بأقوالهم وآرائهم.

وثالثا : ان صحة سند الكتاب وتواتر سلسلته الى مصدره انما هو امر تاريخي ولا وجهة للتقدم في فلسفته إلا مراجعة مأثورات القدماء المتصدين للبحث عنه والتنقير فيما كان في زمانهم وما قاربه من أحواله وماجرياته. وعند التعارض يحكم الاعتراف على الدعوى والاطمئنان على التهمة ، ومن الوهم الواضح قياس التاريخ بمسألة حركة الشمس او الأرض فإن وجهة التقدم في فلسفة هذا مباينة لما تقدم وإنما هي بمزاولة الرصد بالآلة وأعمال النظر في الرياضيات والطبيعيات.

وقد صار المتكلف في هذا المقام ان رأى المجمع يوافقه في مزاعمه احتفل بقراره وارتاح بالاستشهاد به كما في مجمع «ترنت» سنة ١٥٣٧ ، وان رأي المجمع صدق على ما لا يوافقه أو شك فيما يزعم المتكلف إلهاميته قال لا يسوغ الاعتماد على قرار ذلك المجمع.

وان الكتاب الذي يكتب الوحي الإلهي ويتأيد بالمعجزات في غنى عن قرار مجلس ، «انظر يه ٣ ج ص ٢٤٦ و ٢٤٧.

أقول : نعم ان كتابة الرسول او املاء للكتاب عن الوحي في غنى عن قرار مجلس ، ولكن يا حبذا لو صحت الأحلام. وكيف السبيل الى العلم بأن ما بأيدي الناس هو ذاك. وان الكلام في المجامع على كتب العهدين يجري في امرين باهظين «احدهما» اتصال سنده اتصالا علميا الى مصدره الذي ينسب إليه

٢٣٧

ومرجع هذا الى محض التحقيق التاريخي «وثانيهما» ان مصدره كتبه عن إلهام متأيد بالمعجزات ومرجع هذا الى التحقيق التاريخي والنظري وان المجمع العام النيقاوي الأول المشتمل على ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا ، لم يتحقق فيه صحة السند لسبعة من الكتب التي يزعم النصارى المتأخرون تواترها في جميع الأجيال إلى الرسل ، بل أبقوها مشكوكة النسبة إلى مصادرها وهذا مما يوضح فساد دعوى التواتر فيها.

ويكشف عن ان هذه الدعوى من اصرار المكابرات ، بل يوهن قبول ما بعده من المجامع لها ولا سيما إذا ادعت تواترها فإن هذه الامور التاريخية البعيدة العهد لا سبيل إلى حجتها بقول فلان واستشهاد فلان ، ومن هو فلان؟ حتى لو فرضنا انا علمنا قطعا انه هو القائل او المستشهد ، أهو نبي أم نخادع عقولنا حتى إذا قيل انه استشهد بفقرة نقول ان كلما يكتب على الورق معلوم النسبة إلى الإلهام ، أو قال : ان ليعقوب رسالة نقول ان كلما يكتب على الورق وهو رسالة يعقوب مثلا ، فان هذه الامور لا تثبت ثبوتا حقيقيا علميا إلا بقول المعصوم الموحى إليه بأن هذا الكتاب المعين بالإشارة الحسية وهذه الألفاظ المخصوصة هي كتاب فلان النبي.

أو يثبت ذلك بالتواتر المتصل في جميع الأجيال ، أفيقول المتكلف ان سبعة كتب من العهد الجديد الرائج هي متواترة وان شك فيها في القرن الرابع ثلاثمائة وثمانية عشر اسقفا من المنتخبين للمجمع العام للنظر في الديانة النصرانية وكتبها نظرا أوليا أو ثانويا وقد قصروا وقصروا عن الوصول الى التواتر أو أنهم كابروا بإنكاره حتى بقي الشك مستمرا الى مدة ، أيكون مثل هذا في التواتر؟.

نتيجة ما تقدم : انه قد اتضح من نقل الموارد الخمسة المذكورة ان اتفاق المتأخرين في النقل لا يصلح لأن يكون من التواتر المفيد للعلم لأجل ظهور الخلاف في دعوى التواتر ، ونقله في سبعة من الكتب وجملة من فقرات الكتب الاخر.

وان انعقاد المجامع في أجيال النصارى للنظر في امور الكتب ولو ثانويا كما

٢٣٨

يزعم المتكلف لهو مما يقرب ان اعتمادهم في كتبهم كان على التواطؤ وقرار المجلس ولو لأجل التشبث بالشواهد ، وهذا مما يدع التواتر هباء منثورا. فإن من أركان التواتر أن يكون الاتفاق على النقل مستندا إلى النقل المسلسل في الأجيال إلى المصدر بحيث لا يحتمل أن يكون مستندا الى التواطؤ وقرار المجامع أو البحث والتشبث بالشواهد والامارات.

الأمر الثاني : ان الاناجيل التي يدعون تواتر نقلها الى المصدر الإلهامي قد وجدناها تكذبهم في دعواهم ان المسيح ادعى الرسالة العامة وظهر على يده المعجز ، وان هذا متواتر في نقلهم.

ففي خامس عشر متى عن قول المسيح ٢٤ فأجاب وقال : لم ارسل إلا إلى خراف بيت اسرائيل الضالة.

وفي صراحة الاناجيل أيضا عن قول المسيح انه لا يظهر على يده المعجز والآية مدة حياته في الأرض إلا بقيامه من الأموات بعد مكثه في بطن الأرض ثلاثة ايام ، «انظر الى مت ١٦ : ٤ ومر ٨ : ١١ و ١٢ ولو ١١ : ١١ و ٢٩».

الأمر الثالث : ان الاناجيل التي يدعون تواتر نقلها الى المصدر الإلهامي قد وجدناها تبطل احتجاجهم بأن ظهور المعجز شاهد وبرهان على الصدق في دعوى الرسالة ، فقد صرحت بأن الآية والاعجوبة والقوة التي هي عبارة عن المعجز تظهر على يد الكاذب في دعوى النبوة «انظر الى متى ٢٤ : ٢٤ ومر ١٣ : ٢٢».

أفيمكن ان يكون نقل النصارى متواتر في دعوى المسيح للرسالة العامة. وفي ظهور المعجز على يده وفي الأناجيل المشتملة على ما يكذب ذلك ويبطل الاحتجاج به. أم نتشهي ونقول انه متواتر في بعض دون بعض مما ذكرنا وان كان النقل فيهما متساويا كتساوي دعوى التواتر.

الأمر الرابع : ان العهد الجديد الذي يدعي النصارى تواتره الى المصدر الإلهامي والأنبياء المرسلين. ويحامون اشد المحاماة عن الخدشة في تواتره وصحة سنده. قد وجدناه قد تضمن ثلاثة مضامين.

٢٣٩

الأول : ان يسوع المتولد في بيت لحم من مريم العذراء المبشر به في العهد الجديد هو ابن داود ومن نسله وداود ابوه انظر اقلا الى لو ١ : ٣٢ واع ٢ : ٣٠ ورو ١ : ٣.

الثاني : ان يسوع هو المسيح الموعود به. وهذا هو العنوان لدعواه الرسالة انظر اقلا مت ١٦ : ١٦ ـ ٢٠ ومر ١٤ : ٦١ و ٦٢ ويو ٤ : ٢٥ و ٢٦.

الثالث : ان المسيح ليس ابن داود ، ففي ثاني عشر مرقس ٣٥ ثم اجاب يسوع وهو يعلم في الهيكل كيف يقول الكتبة ان المسيح بن داود ٣٦ لأن داود نفسه قال بالروح القدس. قال الرب لربي اجلس عن يميني حتى اضع اعداءك موطئا لقدميك ٣٧ فداود نفسه يدعوه بالروح ربا فمن اين هو ابنه ونحوه «مت ٢٢ : ٤١ ـ ٣٦ ولو ٢٠ : ٤١ ـ ٤٥».

ولا يخفى عليك انا إذا اخذنا بالمضمون الأول ، وهو ان يسوع بن داود ومن نسله ، مع المضمون الثاني ، وهو انه هو المسيح لموعود به ، لزم كذب المضمون الثالث ، وهو ان المسيح ليس ابن داود ، واذا اخذنا بالمضمون الثاني مع الثالث. لزم كذب المضمون الأول. وهو ان يسوع المذكور من نسل داود وابنه ، واذا اخذنا بالمضمون الأول مع الثالث ، لزم كذب المضمون الثاني وهو ان يسوع هو المسيح فتبطل دعواه الرسالة لأنها معنونة بكونه المسيح الموعود به كما لا يخفى ، فليختر المتكلف ان اي هذه المضامين الثلاثة كاذب ، مع انه من العهد الجديد المتواتر وكلام الله السميع العليم بزعم المتكلف.

وأيضا كيف يجعل داود له أربابا متعددة أحدهما يخاطب الآخر وكيف يحتج المسيح بهذا القول وينسبه الى الروح القدس ، مع انه جاء في العهد القديم عن قول الله انا انا هو الرب وليس إله معي «تث ٣٢ : ٣٩» أنا الرب وليس آخر «اش ٤٥ : ٥ و ٦ و ١٨».

فإن قلت : ان معنى الرب المراد به المسيح هاهنا هو المعلم ، قلت أجل فلما ذا لا يكون المعلم ابن داود ومن نسله ، دع هذه فإن هذا التفسير منك في هذا المقام فضولا لا يقبلونه.

٢٤٠