الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأما قول المتكلف فلو لم يكن مذنبا لما استغفر من ربه فهو شطط لأنه ليس في الآية الشريفة ان رسول الله استغفر عن ذنب فعله وإنما في الآية قوله تعالى (وَاسْتَغْفِرِ اللهَ) فيجوز أن يكون الاستغفار المأمور به هو الاستغفار للمبطل من المتداعيين اشعارا للعباد برفع أضغان التداعي أو اشارة الى أن مخاصمة المبطل الخائن خروج عن وظيفة القضاء وأمر يحتاج الى الاستغفار ، فما حال من يجادل عن الخائنين كل ذلك ليتأدب قضاة الامة بهذه الآداب كما جاء قوله تعالى في خطاب رسول الله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

وأما قول المتكلف ولو كان نبيا لعرف الحرامي الحقيقي من أول الأمر فهو شطط أيضا.

أما أولا فإن اضطراب رواية القصة لا يسمح لها بشيء من الثبوت حتى يبنى على أساسها.

وثانيا : من اين يلزم في النبي أن يكون عالما بكل شيء من أول الأمر في الأحكام والموضوعات بل إنما يعلم بسبب اعلام الوحي.

أفلم ينظر المتكلف في كتب وحيه ان يشوع النبي لم يكن يعلم بالسرقة من الغنيمة؟ ولا بالسارق حتى أعلمه الوحي بالسرقة؟ وعين عخان بالقرعة فاستنطقه فاعترف بالسرقة ، ودله على موضع دفنها ، «انظر سابع يشوع».

وان موسى كليم الله لم يعلم ان جلد وجهه صار يلمع في كلام معه «خر ٣٤ : ٤٩» ، وقد يشاء الله أن لا يعلم رسله ببعض الأشياء الى آخر الأمر «ففي ثالث عشر مرقس ٣٢» :

وأما ذلك اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحد ولا الملائكة الذين في السماء ولا الابن إلا الأب.

«شطط الغرور» قال المتكلف «يه ٤ ج ص ٢٥١ و ٢٥٢» ارتياب محمد في الله قال في القرآن (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ ..) ، وقال أيضا :

٢٠١

(وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) واستنتج علماء المسلمين من هاتين العبارتين أن محمدا مثل الامة في حق صدور المعصية منه وتقدم في الجزء الأول بعض أعماله ومقتضى القانون الذي وضعه المعترض وهو الشك في الإله كفر ، إن محمدا ورد في القرآن انه شك وأشرك وخسر وكفر وافترى وامترى وضل وجهل وكذب الى غير ذلك.

أقول : وقد تشبث لهذه الجرأة على قدس رسول الله بما توهمه من قوله تعالى في سورة يونس ٩٤ (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) ـ أي في نبأ نوح وقومه ونبأ موسى وهارون مع فرعون ـ. (فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ).

وقوله تعالى : (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ ، وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ) ونحو ذلك.

فأقول أما قوله تعالى (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) ، فلا يفيد سوق الآية ولا لفظها إلا تثبيت التوحيد ورفع أوهام الغلو برسول الله ، وتمام الآية (يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً).

وأما قوله تعالى : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) فقد قدمنا لك في أوائل هذا الفصل دلالتها ومرماها فراجع.

وأما قوله تعالى : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) الآية ، فان إن الشرطية فيه للتعليق على فرض الشك والمراد من ذلك تلقين الحجة لرسول الله فيما أوحى إليه وإعلامه بأن ما اوحى إليه في شأن نوح وقومه وموسى مذكور في الكتب التي لم تطلع عليها أنت ولا قومك. بل لنا أن نقول أن صورة الخطاب وإن كانت لرسول الله ولكن المقصود من ذلك قومه الذين لا اطلاع لهم على الكتب السابقة.

ولا نجيب عن الآية الشريفة بأنها مثل ما يحكى عنه قول المسيح «ان

٢٠٢

كنت اشهد لنفسي فشهادتي ليست حقا» «يو ٥ : ٣١» لأنه حكى عن قول المسيح شهادته لنفسه وقوله أنا هو الشاهد لنفسي «يو ٨ : ١٨» ولا دليل من القرآن على ان رسول الله شك فيما انزل إليه ، كما تدل التوراة الرائجة على ان موسى وحاشاه شك في وعد الله وأجاب بالاستهزاء والسخرية كما ذكرناه في أواخر الفصل السابع في عصمة موسى فراجعه.

وأما النواهي الواردة في القرآن الكريم عن الشرك والامتراء والجهل والمظاهرة للكافرين ونحو ذلك فهي مثل ما تذكره التوراة من النواهي الواردة عن خطاب الله لموسى لا يكن لك آلهة اخرى امامي. لا تسجد لهن ولا تعبدهن لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا. لا تقتل ، لا تزن لا تسرق ، لا تشهد على قريبك شهادة زور ، لا تشته امرأة قريبك «خر ٢٠ : ٣ ـ ١٧» لا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم ، لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر «خر ٢٣ : ١ و ٢».

فإن كل من له فهم مبرأ عن رجاسة العصبية ورذيلة الغرور يعلم ان الخطاب بهذه النواهي لا يدل على أن المخاطب قد كان فعل الشيء المنهي عنه. بل يعرف انها إذا خوطب بها النبي فهي لتأسيس الشريعة وبيان تعاليمها للأمة وقد بقي للمتكلف ما هو من قبيل هذا مما يتشبث له بأخبار الآحاد المضطربة المردودة في الجامعة. وقد أخرنا التعرض لها إلى المحال المناسبة لذكرها على أن الناظر العارف يتضح له وجه بطلانها مما شرحناه هاهنا والله الموفق.

وان المتكلف قد غالطه وهمه بأن يدرك مقصوده في التمويه بالتشبث بأقوال بعض المفسرين ونحوها مما لا تقيم له الجامعة الإسلامية وزنا فقال : «يه ٣ ج ص ٥» الشيطان قرين محمد ، وتشبث بنقله عن بعض المفسرين قولهم : انه كان لرسول الله عدو من شياطين الجن كان يأتيه بصورة جبرائيل وانه يسمى الأبيض.

وليت شعري كيف ترى المتكلف يصول ويتحمس لو جاء في كتاب إلهامي عند المسلمين أو سيرة تسالموا عليها أن الشيطان تصرف برسول الله كما جاء في الاناجيل التي تسالم النصارى على إلهاميتها في شأن المسيح وحاشاه من أنه بعد أن

٢٠٣

اعتمد من يوحنا بمعمودية التوبة وانفتحت السموات وأتاه روح الله وروح القدس مثل حمامة جسمية وصوت من السماء هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به وامتلأ من الروح القدس أصعده الروح إلى التربة أربعين يوما ليجرب من ابليس.

أو تدري ما معنى ذلك؟ هو أن يروض نفسه ويؤدبها على مخالفة الشيطان وهوى النفس الذي هو شبكته لئلا يقوى الشيطان عليه بالغواية.

فإن قلت : ما حاجة المسيح إلى التجربة من ابليس والتأديب للنفس عن اتباع الهوى ، مع أن المتكلف يزعم انه ابن الله والاقنوم الثاني وهو والله واحد ، والإله الذي تقمص الطبيعة البشرية ليرفع قدرها ، بل الكلمة الذي كان عند الله وكان هو الله كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس «يو ١ : ١ ـ ٥».

قلت : لا أدري ومن ذا الذي يدري؟ فاستمع الى تمام الكلام فان الشيطان بعد تجربة الأربعين يوما أصعد المسيح الى جبل عال وأراه جميع ممالك المسكونة في لحظة من الزمان ، وقال له ابليس : أعطيك هذا السلطان كله واسجد لي ، ثم جاء به من البرية إلى اورشليم وأقامه على جناح الهيكل وقال له : ان كنت ابن الله فاطرح نفسك من هاهنا «مت ٤ : ٣ ـ ١١ ولو ٤ : ٣ ـ ١٣».

فإن قلت : ان من كان في مزاعم المتكلف وأصحابه بالمنزلة التي ذكرناها عنهم من الالوهية ولوازمها كيف يطمع فيه ابليس أن يسجد له بعد تجربة أربعين يوما ، وانا لنرى أن من كان من الصالحين فيه شيء من النعمة والتوفيق الإلهي ليندحر عنه ابليس ولا يطمع في اغوائه إلا بالاختلاس والمخادعة من ناحية التقوى ، فكيف يطمع بالمسيح في السجود له؟ وكيف لم يجبه المسيح على مزاعم المتكلف وأصحابه بقوله اخسأ يا شيطان فاني أنا الاله المستحق للسجود ولي ملكوت كل الموجودات وبي كان كل شيء وبغيري لم يكن فهي في قبضة سلطاني. ولما ذا أخفي هذه الحقيقة والحال انه لم يكن معهما أحد من اليهود ليخاف منه ، بل قال له : انه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه تعبد ، ومن هو

٢٠٤

إله المسيح ومعبوده إذا كان المسيح إلها.

وكيف يتصرف الشيطان بالإله؟ فمرة يصعده الى جبل ومرة يأتي به من البرية ويقيمه على جناح الهيكل. وكيف أراه كل المسكونة في لحظة من الزمان؟ أفلم يكن يراها من يقال : انه إله؟ أفيكون الشيطان أقدر على ذلك من الإله؟.

قلت : لا أدري سل عما عندك في هذا الشأن ممن يبشر لا بحكمة كلام ويقول استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة «١ كو ١ : ١٧ ـ ٢٦» فانا إذ قيدنا العقل بالتمييز بين الممكن والممتنع لم نستطع جوابا لسؤالك على موضوعه ، واستمع لباقي الكلام ولا تقطع اطراده فان نص الرابع من لوقا ١٣ ولما أكمل ابليس كل تجربة «أي مع المسيح» فارقه الى حين.

وفي النسخة المطبوعة سنة ١٨١١ م مضى عنه الى زمان.

وفي ترجمة هنري مارتن بالفارسية «مدتي أز وى جدا گشت».

وفي ترجمة بروس «تا مدتي أز او جدا شد».

ولم يعلم من الاناجيل مقدار زمان المفارقة ، ولعله كان يوما وأهملت الاناجيل ذكر الاقتران بعده كما اهمل كل من الاناجيل كثيرا مما ذكره الآخر.

وفي سادس عشر متى عن قول المسيح في شأن بطرس ٢٣ اذهب عني يا شيطان انت معثرة لي لأنك لا تهتم بما لله بل بما للناس ونحوه في «مر ٨ : ٣٣» مع ان بطرس هو الرسول المعطى له بناء الكنيسة ومفاتيح ملكوت السموات «مت ١٦ : ١٧ ـ ٢٠» ورعاية الامة «يو ٢١ : ١٥ ـ ١٧».

وفي الثاني والعشرين من لوقا عن قول المسيح لسمعان بطرس في شأن الصليب ومقدماته والقيامة من القبر ٣١ سمعان سمعان هو ذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة.

وقد قدمنا لك في المقدمة الخامسة عن الاناجيل ما تذكره في شأن شكهم بالمسيح عند حادثة الصليب ، وعدم مواساتهم له بسهر ليلة وتفرقهم عنه ،

٢٠٥

وتركهم له وحده ، وإنكار بطرس له ، وشكهم جميعا في قيامه من القبر ، فإن راجعته واطلعت على تفصيله تعرف أن الأناجيل تقول في شأنهم انه لم يبق في غربلة الشيطان لهم حبة حنطة على الغربال وان لسان حالها لينشد في حقهم :

مخضت الوطاب على زبدة

فلم ألف إلا مخيضا صراحا

وفي الثاني عشر من كورنتوش الثانية عن قول بولس الرسول العظيم عند النصارى ٧ ولئلا ارتفع بفرط الاعلانات اعطيت شوكة في الجسد ملاك الشيطان ليلطمني لئلا ارتفع من جهة هذا تضرعت الى الرب ثلاث مرات أن يفارقني.

وفي ترجمة هنري مارتن بالفارسية «وأز اينجا كه مبادا أز غايت مشاهده مغرور شوم نشتري در جسم بجهت بي قراري داده شد كه فرستاده شيطانست تا مرا مشت زند كه مبادا مغرور شوم».

وفي ترجمة بروس «خاري در جسم من داده شد فرشته شيطان تا مرا لطمه زند مبادا زياده سر افرازي نمايم».

ثم انظر إلى الرابعة عشر من رابع غلاطية ، وفي ثاني تسالونيكي الاولى ١٨ لذلك أردنا أن نأتي إليكم انا بولس مرة ومرتين وإنما عاقنا الشيطان.

فلو ان أحدا قال للمتكلف ان كتاب وحيكم يقول : ان بطرس شيطان ويقول الشيطان قرين بولس لما تعدى وحده في الجدل ، وحاشا المسيح وحوارييه مما نقلناه عن كتب المتكلف ، ولكن انظر الى المتكلف كيف يتغاضى عما ذكر فيها وهو يقول : انها كلام الله السميع العليم. ويتشبث للبهتان على قدس رسول الله بأقوال من لا يتبع قوله في الدين والجامعة الاسلامية ولو تألف من أمثاله ألف ألف مجمع فلا يعدو مثل كلامه هذا أن يكون عند الجامعة خرافة مردودة.

٢٠٦

المقدمة التاسعة

في بيان ما تثبت به الرسالة وتقوم به لله على النا

الحجة وبيان ما يلزم فيها وما لا يلزم

يلزم فيها ان تكون مقتضية لتصديق المدعوين بالرسالة وايمانهم بصدق مدعيها بحسب حالهم ووقتهم كافية في الاحتجاج عليهم قاطعة لمعاذيرهم.

ويلزم أيضا ان تكون معلومة عند الدعوة وطلب التصديق اما بأن تكون سابقة في الزمان ولكنها معلومة أو يمكن تحصيل العلم بها للمدعوين ، كما لو نص الرسول السابق المسلم الرسالة عند المدعوين بالنص الصريح المشخص المعين على رسالة المدعي ، وكان ذلك النص معلوما عند المدعوين أو يمكن لهم تحصيل العلم به عند الفحص بشرط أن لا يكون محتملا للاشتباه والاشتراك وإلا فلا حجة فيه ، واما أن تكون سابقة في الزمان على الدعوة مستمرة إلى حينها ، كما لو كفت أحوال مدعي الرسالة أخلاقه الحميدة في الشهادة على صدقه في دعواه للمشاهد لها وغيره الذي يمكنه تحصيل العلم بها ، واما أن تحدث عند الدعوة وطلب التصديق حسب ما تقتضيه الحكمة بشرط أن تكون معلومة للمدعوين أو يمكنهم تحصيل العلم بها.

وإذا تبصرنا بهدى العقل وتصفحنا الكتب المنسوبة الى الإلهام وجدناهما لا يسمحان بأن نتشهى ونقترح على الحجة المذكورة ان تكون علة تامة لتصديق كافة المدعوين وإيمانهم فعلا ، لأن في الناس من المتعصبين من أوقعوا أنفسهم في أسر العصبية وعبوديتها ونبذوا عقولهم وراء ظهورهم فلا ينتفعون بها ، ومن

٢٠٧

المقلدين من أماتوا بداء التقليد قلوبهم ، وأعموا عيون بصائرهم ، وهؤلاء لا يستضيئون بنور عقولهم ، ولا يوجهون نظرهم الى طلب الحق ليهتدوا إليه (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً) الاعراف «١٢٣ و ١٢٤».

وانظر الى العهدين فكم ترى في نقلهما من هؤلاء امما لم تنفع فيهم بواهر المعجزات المتكررة والآيات المتظافرة مهما بلغت فلا يجدي معهم إلا أن يصرف الله نفوسهم بقدرته القاهرة الى الإيمان ويلجئهم بغير اختيار منهم عليه ويطبعهم عليه كما يطبع الحجر الأبيض على البياض وهذا خلاف ما جرت عليه حكمة الله في خلقه لعباده.

ولا يسمحان أيضا بأن تقترح في الحجة على الرسالة ان تكون دائما من قسم الفعل المعجز الخارق للعادة فإن ذلك غير لازم بل يكفي نص الرسول المسلم الرسالة عند المدعوين على رسالة الرسول الذي يدعوهم نصا معينا مشخصا لا يحتمل الاشتراك والاشتباه وذلك لأجل حكم العقل بعصمة الرسول في التبليغ ، فعصمة الرسول الناص حجة كافية في تصديق الرسول المنصوص عليه وصدقه بدعواه الرسالة.

ويكفي أيضا ان يكون مدعي الرسالة على نحو يمتاز به عن سائر البشر في تهذيب جميع أخلاقه واستجماعه لصفات الكمال وطهارته عن جميع الرذائل والنقائص منزها عن الميل مع الهوى مبرءا عن الإثم والتخلق والتصنع والتزوير فان هذا كاف في الحجة على صدقه ومقتض لأن يؤمن به من لم تعم العصبية عينيه أو يصم التقليد اذنيه.

وان قلت : ان ذلك من نحو المعجز الخارق لعادة الطبيعة البشرية فلا نضايقك فيما تقول.

وبمقتضى العهد الجديد ان إيمان الناس بيوحنا المعمدان كان على أحد هذين الوجهين حتى أقبل عليه جمهور اليهود وغيرهم مصغين لبشائره ووعظه معتمدين منه بمعمودية التوبة.

٢٠٨

ففي عاشر يوحنا ٤١ ان يوحنا «المعمدان» لم يفعل آية واحدة مع انه عن قول المسيح نبي وأعظم من نبي «مت ١١ : ٩ ولو ٧ : ٢٦» ومرسل من الله «يو ١ : ٦» وليس في الناس نبي أعظم منه «لو ٧ : ٢٨» وكان جميع الشعب من بني اسرائيل ما عدا من كان يأكل الدنيا باسم الدين واثقين بأنه نبي «انظر لو ٢٠ : ٦ ومر ١١ : ٣٢» ، وان إيمانهم لا بد أن يكون على أحد الوجهين اما لأجل نص أبيه زكريا عليه بأنه نبي الله العلي «لو ١ : ٧٦». واما لأجل ما كان عليه يوحنا من تهذيب الأخلاق واجتماع صفات الكمال وحسن جده واجتهاده في خدمة الله وإرشاده عباده الى الهدى والتوبة والطاعة وكونه القدوة في جميع الكمالات وشرف النفس وطهارة العفة.

وان كثيرا من أنبياء العهد القديم قد أذعن الناس بنبوتهم وأصغوا الى تبليغهم عن الله ، مع انه لم يذكر في العهدين ان ذلك كان مقترنا بفعل المعجز أو النص المشخص اللذين هما حجة أيضا على الرسالة فتصفح العهدين في حال صموئيل ، وداود ، وسليمان ، واشعيا ، وارميا ، وحزقيال ، وهوشع ، ويوئيل ، وعاموس ، وعوبديا ، ويونان ، وميخا ، وناحوم ، وحبقوق ، وصفنيا ، وحجى ، وزكريا ، وملاخي.

وتبصر في ان العهدين قد ذكرا من غير هؤلاء جملة من الأنبياء واستقصيا في ذكر معجزاتهم.

فإن قلت : ان الكثير أو الكل من هؤلاء المذكورين قد ذكر العهدان في شأنهم انهم قد تنبئوا عن الوحي بأمور من الغيب فوقعت في المستقبل على نحو ما اخبروا وهذا من نحو المعجز.

قلت : لما ذا نسيت ان الحجة التي هي محل الكلام إنما هو ما كان مقتضيا لتصديق الناس في أول أمر التبليغ وطلب التصديق وان الذي تذكره لو صح فإنما ينكشف كونه معجزا بعد وقوع ما اخبروا به على طبق الخبر وان البعض الكثير مما تشير إليه إنما تبين صدقه بمقتضى العهدين وانتفى عنه احتمال الكذب بعد موت النبي الذي اخبر به بمدة أو بمئات من السنين ، والبعض الآخر إنما تبين صدقه بمقتضى العهدين وانتفى عنه احتمال الكذب بعد سنين من أول

٢٠٩

الدعوة وطلب التصديق.

ومثل هذا لا يكون حجة على الرسالة لمن يطلب منهم التصديق في أول التبليغ ، ولا يكون حينئذ مقتضيا لتصديقهم وإيمانهم ، وأنه حينئذ لمردد بين كونه دالا على صدق مدعي الرسالة في دعواه إذا وقع المخبر به وبين كونه دالا على كذبه فيها إذا لم يقع ، كما أعطت التوراة علامة على ذلك «تث ١٨ : ٢١ و ٢٢».

ولا يسمح العقل والنقل أيضا ان نقترح كون الحجة على الرسالة مشاهدة لكل المدعوين أو المطلوب منهم الإيمان بذلك الرسول وإن كانوا أجيالا عديدة.

فإن المدار على حصول العلم بها على النحو الذي تكون به حجة كافية للرسالة فانه لا يجد العقل فرقا في كونها حجة بين كونها معلومة بالحس أو بالنقل المتواتر ، وعلى ذلك جرت حجج رسل العهدين.

فإن معجزات موسى إنما شاهدها جيله من بني اسرائيل مع أن الإيمان به كان مطلوبا من أجيالهم ، على انه من البعيد عادة أن يكون جميع بني اسرائيل رجالا ونساء قد شاهدوا معجزات موسى حينما كان الإيمان مطلوبا منهم. وان معجزات المسيح حتى أشياعه الخمسة آلاف من قليل الخبز والسمك إنما كانت مشاهدة لبعض الناس في سوريا مع ان الإيمان به كان مطلوبا من جميع الناس في شرق الأرض وغربها.

نعم : لا ننكر ان المعجزات يختلف حالها بالنقل المتواتر ، فإن منها ما لا يشك من نقلت له في كونها معجزة كانشقاق البحر الأحمر لبني اسرائيل وعبورهم على اليابسة والماء عن يمينهم ويسارهم مع غرق فرعون وجنوده على أثرهم ، ومنها ما تختلج فيه الشكوك ولو تواتر نقل أصله وذلك مثل ما في ثالث يوحنا من جعل المسيح للماء خمرا.

وما في سابع لوقا من احياء المسيح ابن الأرملة في نايين من الموت.

وما في حادي عشر يوحنا من إحياء المسيح لعازر من الموت ، فإن هذه المقامات الثلاثة معرض للشكوك واحتمال التصنع والتواطؤ فيها ، ولا يرتفع

٢١٠

الشك في واقعة قلب الماء خمرا إلا بأن يخبر جماعة يبلغ عددهم حد التواتر المفيد للعلم ويبينوا انهم شاهدوا الماء في الاجران ، وانه انقلب في الحال خمرا مسكرا من دون مداخلة عمل أو تصرف.

ولا يرتفع الشك أيضا في واقعتي إحياء الميتين المذكورين إلا باخبار جماعة يبلغ عددهم حد التواتر المفيد للعلم وهم من العارفين المميزين بين الموت وغيره كالأطباء ونحوهم ويشهدون بأنهم شاهدوا موت الميتين يقينا ولم يكن يحتمل التصنع والاغماء ونحوه ، أو يخبروا في واقعة لعازر بأنهم شاهدوه منتفخا منتنا بانتفاخ الأموات ونتنهم ثم أحياه المسيح بعد ذلك.

فإن قلت : إذا كان بعض الذين تشملهم دعوة الرسول لم يشاهد المعجز والحجة على الرسالة ولم يحصل له العلم به من النقل وان جد واجتهد بالفحص أو علم بمبدئه لكنه ليس من أهل التمييز بين كونه من قسم المعجز أو من قسم السحر أو من قسم المهارة في الصناعة كما يشتبه على البربري الوحشي إذ رأى الفونغراف انه هل هو من المعجز أو من السحر أو من ممكنات الصناعة؟ فهل من كان على أحد هذه الأحوال مكلف بالإيمان بذلك الرسول ومعاقب على عدمه ، أو هو غير مكلف ولا معاقب.

قلت : أولا اما مثال البربري الوحشي فيمكن له تحصيل العلم والتمييز بالرجوع إلى أهل الخبرة والتمييز الذين يركن إليهم في اموره ويطمئن بهم في معلوماته على وجه يعلم ويميز كون الشيء المشار إليه معجزا أو سحرا أو من ممكنات الصناعات البديعة.

وثانيا : ان في هذا المقام مخادعات للشيطان ، ومغالطات للهوى ومخالسات للعصبية ، ومعثرات للتقليد قد ضل بسببها كثير من الناس ، فمن فرض انه لم يقصر بجده في طلب الحق ، ولم يصده عند انقياده الى الشيطان أو الهوى أو العصبية أو التقليد ، وإنما حجبه عن الوصول الى الحق قصوره وان صدق في الجد مبلغ جهده في طلبه فهذا الانسان غير معاقب والله من ورائه محيط وهو بكل شيء عليم لا يكلف نفسا إلا وسعها.

ولا يسمح العقل والنقل أيضا بأن نقترح على المعجز كونه من نحو خاص

٢١١

لأن الغرض منه هو كونه دالا على صدق الرسول وحجة على الناس وأي نحو منه كان وافيا بهذا الغرض.

صح في الحكمة أن يكون حجة على الرسالة فانظر الى ما تضمنه العهدان من اختلاف معجزات أنبيائهما وشواهدهم على الرسالة كمعجزات موسى لبني اسرائيل ولفرعون ، ومعجزات ايليا واليشع والمسيح.

بل قد توجب الحكمة الإلهية اختلافها مراعاة لمصلحة الوقت وحال المدعوين بحسب أزمانهم وأحوالهم ومعرفتهم.

ولا يسمحان أيضا بأن نشترط في المعجز أن يكون معتضدا بالاشارة من النبي السابق ، لأن هذا الشرط يلزم منه بطلان النبوات بأجمعها فان النبوة الاولى منها لا اشارة إليها إذ ليس قبلها نبوة فتبطل فيبطل ما بعدها من النبوات ولا ينفعها الاشارة من النبوة التي بعدها لأن مقتضى هذا الشرط ان النبوات المتأخرة لا تثبت لكي تنفع اشارتها حتى يثبت ما قبلها بما له من الشروط. ويكفي من العهدين في الدلالة على بطلان هذا الاشتراط ما دل منها على كفاية المعجز في الدلالة على النبوة والرسالة.

ففي رابع الخروج «١ ـ ١٠» ان الله جعل لموسى آية العصا واليد البيضاء حجة لرسالته على بني اسرائيل ومقتضيه لايمانهم به ، وقد كفى ذلك وآمن لأجله بنو اسرائيل «خر ٤ : ٣٠ و ٣١».

وفي خامس يوحنا عن قول المسيح ١٦ لأن الأعمال التي أعطاني الأب لأكملها هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي ان الأب قد أرسلني.

وفي ثاني الأعمال عن قول بطرس ٢٢ يسوع الناصري رجل قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما انكم أيضا تعلمون.

ولا يسمح العقل والنقل أيضا بأن نقترح على المعجز ان لا يصدر إلا بعد الطلب والاقتراح لأن الغرض منه على نحو الغرض من النص واعجاز كمالات الرسول إنما هو اقتضاؤه لايمان المدعوين كما ذكرنا.

٢١٢

وهذا الغرض يحصل مع تقدمه على طلب المدعوين فإنه قد تقتضي الحكمة تقدمه تعظيما لشأن الرسول وبيانا لكرامته على الله.

وفي ثاني يوحنا في حديث قلب المسيح للماء بمعجزة خمرا ١١ هذه بداءة الآيات التي فعلها يسوع في قانا الجليل وأظهر مجده فآمن به تلاميذه ، ولم تكن بطلب المدعوين لأجل التصديق وإنما كانت بطلب أمه.

ولا يسمحان بأن نقترح على المعجز أن يصدر عند كل طلب واقتراح فان الطالب للحق بصدق النية يكفيه العلم بالمعجز الأول كما قدمنا ، وأما المتمرد المستهزئ فانه لا فائدة في صدور المعجز ، ثانيا إجابة لاقتراحه وتشهيه ولا غاية إلا جعل آيات الله عرضة للمستهزءين وهذا خلاف الحكمة في المعجز.

ففي سادس عشر متى عن قول المسيح لما جاءه الفريسيون والصدوقيون فسألوه أن يريهم آية من السماء ٤ جيل شرير فاسق يلتمس آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي «وانظر مر ٨ : ١١ و ١٢ ولو ١١ : ١١ و ٢٩».

ولا يسمحان بأن نقترح على الرسول أن يكون قادرا مختارا على فعل الآيات والمعجزات متى شاء ومتى طلبت منه لأنه إنسان لا يقدر بطبيعته إلا على ما يقدر عليه سائر البشر.

وأما أمر الآيات فبيد الله يجريها على ما تقتضيه حكمته البالغة.

وفي خامس يوحنا ١٩ فأجاب يسوع وقال لهم الحق الحق أقول لا يقدر الابن أن يعمل من نفسه شيئا ٣٠ أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئا.

وفي سادس مرقس في شأن المسيح في وطنه ٥ ولم يقدر أن يصنع هناك ولا قوة واحدة.

المعجز ما هو؟

فالمعجز هو ما يظهره الله على يد رسوله من الفعل الخارق للعادة بحيث يعجز عنه سائر البشر بما عندهم من دقائق الفلسفة والحذاقة في الصناعة والمهارة في الفنون وبذلك يعرف أن الله هو الذي أظهره بقدرته الباهرة على يد الرسول

٢١٣

تصديقا لرسالته.

وأما شهادته بصدق الرسول في دعواه الرسالة فهو من المرتكزات في الأذهان كما لا يخفى ، وعليه كافة أهل الملل القائلين بالنبوات.

وانا معاشر المسلمين قد بينا وجه ارتكازه في الاذهان إذ قد أوضحنا البرهان في اصولنا على أن الله لا يظهر المعجز المذكور على يد الكاذب بدعوى الرسالة لامتناع ذلك في عادة الله بحسب حكمته وغناه وقدسه جل شأنه لان إظهار المعجز على يد الكاذب بدعوى الرسالة قبيح ، ويمتنع صدور القبيح من الله القدوس ، الغني ، الحكيم ، العليم.

وإلى الآن لم أطلع على ما عند أهل الكتاب من البرهان العقلي على ذلك ، وان الاحتجاج له بالكتاب المنسوب إلى الالهام لا يفيد شيئا وذلك لتوقف ثبوت الالهامية للكتاب على ثبوت الرسالة وهي متوقفة على معرفة الوجه لشهادة المعجز على صدق دعوى الرسالة.

على ان كتب العهدين وإن ذكرت في بعض مضامينها شهادة المعجز على الرسالة لكن في بعض مضامينها ما يعارض ذلك ويشوش بيانه ويكدر صفوه فانهما قد سميا المعجز بالآية. والقوة. والاعجوبة «انظر أقلا الى خر ٤ : ٨ و ٧ : ٣ ويو ٢ : ١١ واع ٢ : ٢٢ وعب ٢ : ٤» ومع ذلك قد نسبا صدور الآية والاعجوبة والقوة إلى الكاذبين بدعوى النبوة ، وإلى الداعي للشرك وإلى الدجال الأثيم «انظر أقلا إلى تث ١٣ : ١ و ٢ ومت ٢٤ : ٢٤ ومر ١٣ : ٢٢ و ٢ تس ٢ : ٩».

فإن قلت : ومضافا إلى ذلك قد ورد في التوراة ان سحرة مصر وعرافيها قد طرحوا عصيهم فصارت ثعابين كما فعل هارون «تك ٧ : ١١ و ١٢» وفعلوا أيضا بسحرهم مثل ما فعل هارون ، فاصعدوا الضفادع على أرض مصر «تك ٨ : ٦ و ٧».

وغاية الأمر انهم لم يقدروا أن يخرجوا البعوض من أرض مصر وان عصا هارون ابتلعت عصيهم.

٢١٤

فكيف يعرف الناس ان فعل موسى وهارون كان من المعجز الخارج عن طاقة البشر بما عندهم من الحكمة والفلسفة؟ وانه فعل الله لأجل تصديقهما بدعوى الرسالة.

وكيف يكون حجة من الله على صدق دعوى الرسالة؟ وهل يختلج في أذهان الناس في مسابقة هذا الميدان إلا أن موسى كان أحذق وأتقن من السحرة والعرافين في الحكمة وفن السحر ، وقد جاء في العهد الجديد عن استفانوس المملوء من الروح القدس ان موسى بواسطة تربيته في بيت فرعون تهذب بكل حكمة المصريين ، وكان مقتدرا في الأقوال والأعمال «ا ع ٧ : ٢٢».

قلت : أعلي تحمل ثقل ما في العهدين الرائجين؟ أم قد ضمنت لك صحة جميع ما فيها.

فسل وقل ما هو المائز بين المعجز الذي هو الحجة على الرسالة وبين السحر؟ لكي أقول لك : ان المعجز هو ما كان على نحو يعترف غير العميان بالعصبية والتقليد بأنه من الله لا من السحر. ونحوه وإن قال المتعصبون أو المقلدون مكابرة وجهلا وعنادا انه سحر ويختلف ذلك بحسب اختلاف الناس في وقتهم ومحلهم ومعارفهم.

قال المتكلف «يه ١ ج ص ٢٢٤» المعجزة هي أمر خارق للعادة داعية الى الخير والسعادة «ص ٢٢٥» يلزم أن تكون نافعة ومفيدة أو كما قال السيد الجرجاني داعية إلى الخير والسعادة. فمثل كلام الجمادات ككلام الحصى والرمان والعنب واسكفة الباب ، وحيطان البيت وكلام الشجر وشهادة الذئب لمحمد «ص» بالنبوة وكلام الظبية ليست بمعجزة فانه لا فائدة للإنسان منها وهي جديرة بأن تدرج في سلك الخرافات.

أقول : أولا قد قال المتكلف «ص ١٣» لا ننكر ان شرب الخمر حرام والتوراة والإنجيل ناطقان بانها حرام قطعا.

وجاء في ثاني يوحنا ٢ ـ ١٢ ان المسيح كان في مجلس العرس ولما نفد خمرهم استدعت منه أمه ان يصنع لهم. بمعجزه خمرا «لئلا تتعطل عبادة السكر

٢١٥

ولا تحصل سكتة في عربدته وهذيانه وفواحش آثاره» فعمل لهم ستة اجران من الخمر الجيد وكان ذلك بدء الآيات منه فآمن به تلاميذه.

فينتج من كلام المتكلف هذا وكلام يوحنا وحكايته. انه لا يلزم في المعجزة ان تكون داعية الى الخير والسعادة ، بل يجوز أن تكون مضرة في الشريعة منتهكة لحرمتها مضطهدة لصلاحها داعية الى مثل فواحش السكر وشرور مجالسه المنعقدة له لتزيد في عربدته وتقوى انبعاث مفاسده وقبائحه ويقوم الهرج والمرج من تتابع السكر واستحكام آثاره المعهودة قبحها على ساق ، ولكن المتكلف ينسى أو لا يدري بما يقول وما في كتب إلهامه.

وليت شعري ما الذي يريده المتكلف من منفعة المعجزة وفائدتها أكثر من كونها مقتضية لاهتداء الخلق إلى صدق الدعوة وبر الإيمان ، وهو معنى كونها داعية إلى الخير والسعادة ، وكل ما عدده من معاجز رسول الله من كلام الحصى الى كلام الظبية يفيد باعجازه الصريح الباهر هذه الفائدة ، ويمنح ببركته هذه المنفعة على أكمل الوجوه إذ لا يحتمل فيه التصنع والتواطؤ كدعوى إحياء الميت من دون أن يبلى بالموت. وليت شعري ما الذي أراده بقوله إذ لا فائدة للإنسان منها ، أتراه يريد من فائدة المعجزة للإنسان أن تكون مثل ابقاء مجلس العرس وادامة شرب الخمر لتأخذ شدة السكر من العقول مأخذها وتؤثر حدته ما تؤثر من مفاسدها.

وعليه فأية فائدة إذا في لعن المسيح لشجرة التين حتى يبست في الحال إذ لم يجد فيها ثمرا يسد جوعه ، وهل فيها إلا الضرر على مالكها إن كانت مملوكة ، أو على الفقراء والعابرين إن كانت من المباحثات «انظر مت ٢١ : ١٨ ـ ٢٣ ومر ١١ : ١٢ ـ ٢٤».

وأية فائدة في صيرورة يد موسى برصاء ، وأية فائدة في صيرورة عصا موسى حية «انظر الى خر ٤ : ٢ و ٣ و ٦ و ٨ و ٣٠» ، وأية فائدة للإنسان في أن عصا هارون اخرجت فروخا وأزهرت زهرا وأنضجت لوزا «عد ١٧ : ٨» وأية فائدة للإنسان في تكلم اتان بلعام ومراجعته في الجواب «عد ٢٢ : ٢٨ و ٣٠». وليت المتكلف إذ كتب كتابه كان له بعض الإلمام بكتب إلهامه ، أو أنه

٢١٦

يظن ان في الناس من يكون له اطلاع عليها ، أو انه كان يحذر من عاقبة ما يقوله ، أو انه احتشم الحقائق الإلهية والمآثر النبوية فعرف قدره ولم يوجه إليها بضاعته من الجرأة واللسان البذي.

٢١٧

المقدمة العاشرة

في ذكر الموانع للنبوة والرسالة الشاهدة

على كذب ادعائها

وهي امور «الأول» أن ينص النبي المعلوم النبوة على كذب المدعي للنبوة والرسالة ، فإن تصديق هذا المدعي تكذيب للنبي المعلوم النبوة في تبليغه لكذب هذا المدعي وهو غير جائز بالعقل والنقل واتفاق المليين القائلين بالنبوات «ومثل هذا» أن ينص النبي المعلوم النبوة على أن لا يكون نبي من هذه القبيلة أو من هذا الصنف أو في الزمان الفلاني ويكون مدعي النبوة من هذه الأقسام.

ومثله أن ينص على انحصار النبوة بهذه القبيلة أو بهذا الصنف أو بهذه البلاد أو بهذا الزمان ويكون مدعي النبوة من غيرها.

«المانع الثاني» أن يعطى النبي المعلوم النبوة علامة على كذب دعوى النبوة وتنطبق تلك العلامة على مدعيها.

«المانع الثالث» ان يعترف مدعي النبوة ويخبر بنبوة شخص وينص هذا الشخص على كذب ذلك المدعي للنبوة في دعواه لها لأنه ان كان هذا الشخص نبيا حقا ، فقد نص على كذب مدعي النبوة فيلزم تصديقه في ذلك وان لم يكن هذا الشخص نبيا فقد كذب مدعي النبوة في التبليغ عن الله باخباره بنبوة هذا الشخص ، والعقل وإجماع أهل الملل حاكمان بأنه لا يكذب النبي في التبليغ.

«المانع الرابع» أن يكون مدعي النبوة فاعلا للإثم وما هو قبيح في العقل أو في الشريعة التي يتدين بها لما قدمناه في الفصل الثالث من المقدمة الثامنة من

٢١٨

دلالة العقل والنقل على لزوم عصمة النبي ، ومن جملة ذلك أن لا يظهر عليه الكذب المحرم في تعاليمه واستشهاداته.

«المانع الخامس» أن لا يأتي في دعوته بما هو مخالف للعقل ومنه الدعوة الى الشرك وتعدد الآلهة وعبادة غير الله ، فان العقل لا يذعن بنبوة من هو على خلاف هداه وبديهي حكمه ، ويجحدها أشد الجحود ، وأنا ان لم نتبع موازين العقل فقد أضعنا رشدنا ، وضللنا عن السبيل الهادي الى الله ورسله وكتبه والمعارف الحقة ، وهل وراء العقل إلا الجهل؟ وهل بعد الحق إلا الضلال المبين؟

«المانع السادس» تناقض تعاليمه في بيان الحقائق وتناقض احتجاجه لها بنحو لا يكون من النسخ للحكم السابق ، فان اللازم من ذلك كذبه في التبليغ في أحد الأمرين المتناقضين وجهله في وجه الاحتجاج للأمور الإلهية.

«المانع السابع» شرب الخمر أم الشرور والقبائح والتهتك والخلاعة المنافية لوظيفة الرسول وسفارته من قبل الله على الخلق لهداهم وتكميلهم وتهذيبهم وإصلاح مدنيتهم وأخلاقهم ، كما يدل عليه اعتبار العقل وتظافر النقل ، ففي القرآن الكريم في سورة المائدة ٩٣ (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) وفي سورة البقرة ٢١٦ (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) أي الخمر والميسر.

وفي ثاني حبقوق ٥ وحقا ان الخمر غادرة.

وفي رابع هوشع ١١ الزنا والخمر والسلافة تخلب القلب.

وفي العشرين من الامثال ١ الخمر مستهزئة المسكر عجاج ومن يترنح بهما فليس بحكيم.

وفي الثالث والعشرين منه ٢٠ لا تكن بين شريبي الخمر ٢٩ لمن الويل لمن الشقاء؟ لمن المخاصمات؟ لمن الكرب؟ لمن الجرح بلا سبب؟ لمن ازمهرار العينين ٣٠ للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج ٣١ لا تنظر الى الخمر إذا احمرت حين تظهر حبابها في الكأس وساغت مرقرقة ٣٢ في

٢١٩

الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالافعوان ٣٣ عيناك تنظران الاجنبيات وقلبك ينطق بامور ملتوية ٣٤ وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس سارية ٣٥ يقول ضربوني ولم اتوجع لقد لكأوني ولم اعرف متى استيقظ اعود اطلبها بعد.

وفي خامس اشعيا ١١ ويل للمبكرين صباحا يتبعون المسكر للمتأخرين في العتمة تنهبهم الخمر ٢٢ ويل للأبطال على شرب الخمر ولذي القدرة على مزج المسكر ، وفي الثامن والعشرين منه ١ ويل لأكليل فجر سكارى افرايم المضروبين بالخمر ٧ ولكن هؤلاء أيضا ضلوا بالخمر وتاهوا بالمسكر الكاهن والنبي ترنحا بالمسكر ابتلعتهما الخمر تاها من المسكر ضلا في الرؤيا قلقا في القضاء.

وانظر الى تاسع عشر التكوين «٣٠ ـ ٣٨» وتبصر فيما جنته الخمر بزعمهم على لوط البار «٢ بط ٢ : ٧ و ٨» مما تقشعر منه الجلود وتشمئز منه حتى نفوس الفساق.

وفي الحادي العشرين من التثنية «١٨ ـ ٢١» أن كون الولد سكيرا من معايبه التي يشتكي بها والده عند شيوخ المدينة ليرجموه حتى يموت وينزع الشر.

وفي عاشر اللاويين ٨ وكلم الرب هارون قائلا ٩ خمرا ومسكرا لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم الى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا فرضا دهريا في أجيالكم ١٠ وللتمييز بين المقدس والمحلل والنجس والطاهر ١١ ولتعليم بني اسرائيل جميع الفرائض التي كلمهم الرب بها بيد موسى.

وفي أول لوقا عن قول ملاك الرب لزكريا في تمجيد ابنه يوحنا المعمدان ومدحه ١٥ لأنه يكون عظيما أمام الرب وخمرا ومسكرا لا يشرب.

وفي خامس افسس ١٨ ولا تسكروا بالخمر الذي فيه الخلاعة بل امتلئوا بالروح ، وتأمل في أن العهد القديم قد أمر بأن النذير لله لا يشرب خمرا ولا مسكرا وكل ما يعمل من جفنة الخمر بل أمر الامرأة الحاملة بالنذير بذلك «انظر عد ٦ : ٣ و ٤ وقض ١٣ : ١٤».

٢٢٠