الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

وأما رسل العهد الجديد فقد مر عليك في أواخر المقدمة الخامسة شيء مما وصمهم به كتابهم.

فتبصر أيها العاقل فيما ذكرنا عن العهدين في شأن أنبيائهما وانظر نظر الطالب للحق الراغب في السعادة الخائف من الهلكة ، فهل ترى ذلك كله يمكن أن يكون من الوحي الإلهي وتنزيل العليم الحكيم فإن الله عليك رقيب ، وللمتكلف كلام قد آن أوان التعرض له.

قال «يه ج ص ٤٢ و ٤٣» ان الله عزوجل المذكور في التوراة قدوس ظاهر يعاقب على أقل خطيئة بخلاف الإله المذكور عندهم «يعني المسلمين» فإنه يتساهل بالخطايا ويغفرها وحاشا لله الحق من ذلك فإن عدله وقداسته يستلزمان عقاب أصغر الخطايا ما لم يكفر عنها بالذبيحة.

أقول : أنا بفضل الله وبركة الإسلام دين الحق لنبرأ قلوبنا وألسنتنا وأقلامنا وننزهها عن فرض تعدد الآلهة ، ولكنا نقول : ان الله الذي لا إله إلا هو العليم الغني الحكيم اللطيف الخبير اختار من خلقه بلطفه وحكمته وعلمه بعباده رسلا مطهرين مقدسين بررة مبرءين عن الارجاس والقبائح ليكونوا أدلاء على معرفته ، وهداة الى الحق وقدوة للخلق باعثين لهم بما تقتضيه الحكمة الإلهية ، ومصلحة الوقت على التقوى والصلاح ليعرفوا الحق وينكروا الباطل ، ويهتدوا بهداهم الى الرشد والعدل والصلاح فينالوا سعادة الدارين.

فإن صدر من هؤلاء الرسل المطهرين من خلال الاولى والأفضل ما يرونه لحسن معرفتهم بجلال الله منافيا لما ينبغي للعبد العارف من الانقياد الى مولاه عدوا ذلك على أنفسهم زلة تحطهم عما يرغبون فيه من المقام الرفيع وفزعوا مما صدر منهم الى الله مولاهم بالتوبة وطلب المغفرة والرحمة وان لم يفعلوا حراما ويتركوا واجبا فيغفر لهم ذلك ولا يحطهم به عما يجتهدون له من رفيع المقام وحسن الزلفى فإنه أكرم مسئول وأوسع معط.

ونقول : ان الله تقدست أسماؤه أعلى شأنا وأوسع رحمة وعلما وأتقن حكمة ولطفا من أن يرسل للغاية المذكورة من يكذب ، أو يستعمل الخداع والتزوير ،

١٦١

أو يستهين بالرسالة ومواعيد الله ، ويصفه بالإساءة ويتحكم عليه بالمغفرة لمن أشرك به ، ويرضى بمحوه من كتابه ، أو يصنع وثنا للعبادة ويعبده ويدعو لعبادته أو يبرر نفسه ويصف الله جل شأنه بالجور ويطلب المحاكمة معه ، أو يزني بالمحصنات من نساء أصحابه المحامين عنه المجاهدين في سبيل الله ، ويحاول أن يلصق ولد الزنا بغير أبيه ، ويسعى في قتل الزوج ، أو يتزوج بالمشركات والنساء الكثيرة المحرمة عليه في الشريعة بحيث وقع في أغلب عمره بالزنا بهن ومال قلبه الى الشرك وذهب وراء آلهة اخرى وعظم شعائر الأوثان ومعابدها وهو معنى عبادتها ، أو من يكذب في التبليغ عنه أو من يسميه خداعا ، أو من هو شريب الخمر المحرمة ويعين على شربها ويكذب ويصدر منه ما لا يرضاه أولو العفة ويقول بتعدد الآلهة تعالى الله عن ذلك وتقدست رسله عن هذه الأوهام الباطلة.

وأما قول المتكلف ان عدل الله وقداسته يستلزمان عقاب أصغر الخطايا ما لم يكفر عنها بالذبيحة فنقول فيه :

«أولا» ان رحمة الله وغناه يقتضيان الغفران للتائب المنيب إذا وجده مولاه أهلا لذلك ، وأين يذهب العبد إلا الى مولاه الكريم الرحيم ، نعم إن كانت الخطيئة من نحو الظلم للعباد كان مقتضى العدل أن لا يضيع حق المظلوم وذلك لا ينافي المغفرة للتائب إذا كان أهلا لها.

«وثانيا» إن كان العدل والقداسة يستلزمان ما ذكره فليوضح لنا هو أو غيره وجها معقولا لحل الذبيحة لعقدة هذه الملازمة.

ثم ان أراد من الذبيحة ذبيحة العهد القديم فإن الله لغني عن جميع العالم وعنها وعن رائحة السرور للرب «لا ١ : ٩ و ١٣ و ١٧» ، وان كثرة المعاصي المنسوبة للأنبياء في العهدين ليناسب تكفيرهم عنها بالذبائح ما في أول اشعيا عن قول الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ١١ اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات.

وان أراد ذبيحة العهد الجديد أعني المسيح المصلوب بزعمه سألناه أيضا كيف يعقل أن تنحل بهذه الذبيحة عقدة ما ذكره من الملازمة.

١٦٢

وأيضا ما هو ومن هو المانع لله عن جوده ورحمته بغفران خطايا التائب المنيب إلا بالتكفير بالذبيحة.

وأيضا ما حاجة الله الى الفداء والتكفير حتى يجعل ابنه بزعمهم تعالى عن ذلك عرضة للإهانة والصلب والاستهزاء كما يقول العهد الجديد مع ما كان عليه المسيح بمقتضاه من الاضطراب والخوف والاكتئاب والبكاء وطلبه من الله أن تعبر عنه كأس المنية «انظر مت ٢٦ : ٣٦ ـ ٤٦ ومر ١٤ : ٣٢ ـ ٤٢ ولو ٢٢ : ٣٩ ـ ٤٥».

ومن الظرائف في مسألة الفداء انه لما كان من أقوال التوراة ملعون من لا يقيم كلمات هذا الناموس ليعمل بها «تث ٢٧ : ٢٦» جاء عن بولس في ثالث غلاطية ١٣ المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب ملعون كل من علق على خشبة انتهى.

أفليس للسائل أن يسأل عن الكيفية المعقولة لهذا الفداء والافتداء ، وعن موافقته لعدل الله وقداسته المستلزمين للعقاب على أصغر الخطايا ، وعن كيفية كون المسيح وحاشاه لعنة لأجلهم ، وعن توقف فدائهم على كونه وحاشاه لعنة مع الزعم بأنه ابن الله جل شأنه والاقنوم الثاني لله بل الإله الذي تقمص الطبيعة البشرية ليرفع قدرها ، وعن حسن ذلك وعدم منافاته لعدل الله وقداسته ، وعن جواز ذلك بالنسبة لمن يزعمونه إلها ، وعن مناسبة ذلك للمكتوب المشار إليه فإنه في الحادي والعشرين من التثنية ٢٢ وإذا كان على إنسان خطيئة حقها الموت فقتل وعلقته على خشبة ٢٣ فلا تبت جثة على الخشبة بل تدفنه في ذلك اليوم لأن المعلق ملعون من الله فلا تنجس أرضك انتهى.

وانظر هل يسب المسيح أعداءه أكثر من هذا «فإن قيل» ان هذا المكتوب المشار إليه غير هذا «قلنا» ها هما العهدان بأيدينا ، فأين يكون المكتوب المشار إليه فيهما.

ولم يكتف المتكلف بما ذكره هاهنا في سر الفداء وخيل له وهمه ان هذا من الحقائق البينة والمعقولات الممكنة التي ينشرح لها العقل بالقبول فقال «يه ٢ ج ص ٢٩٠ و ٢٩١» وإذا قيل ما هي الغاية من تجسده وصلبه «قلنا» ان الغاية

١٦٣

هي أن يكفر عن خطايا كل من يؤمن به لأن الجميع أخطئوا واحتاجوا الى من يكفر عن خطاياهم لأننا إذا نظرنا الى العالم رأينا انه لم يسلم أحد من اقتراف الخطيئة وعقاب الخطيئة هو الموت في جهنم الى الأبد لأن المولى سبحانه وتعالى طاهر قدوس وعدله يستلزم عقاب الخطيئة بهذه الكيفية ، فالمسيح احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب ، ووفى ما كان علينا من الدين رحمة منه لأن الله هكذا أحب العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن بل تكون له الحياة الأبدية ، فطريقة الخلاص موافقة للعدل الإلهي ولكمالات الله.

أقول : أو تدري من يريد بالمتجسد المصلوب في كلامه هذا هو من تكرر في مزاعمه في كتابه بأنه الإله الذي تقمص الطبيعة البشرية ليرفع قدرها فإن أردت الإيضاح قال لك هو اقنوم الابن ، فإن قلت : وما اقنوم الابن قال لك ان الله لواحد والاقانيم ثلاثة الأب والابن والروح القدس والثلاثة هم واحد فالله واحد ثلاثة فإن قلت : كيف يكون الواحد ثلاثة ومن الباذل ومن المبذول إذا كان الثلاثة واحد ومن المصلوب ومن المتجسد قال لك اسكت ولا تكثر في سؤالك فإن هذه الامور لا يدركها العقل ، وليست من وظيفته بل تؤاخذ من تعليم القسوس المؤيدين بروح القدس بلا تعقل لها ، فقد قال بولس الرسول : لأنه إذا كان العالم في حكمة الله لم يعرف الله بالحكمة استحسن الله أن يخلص المؤمنين بجهالة الكرازة ، لأن جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس «١ كو : ٢١ و ٢٥».

فإن قلت له : إذا كان عقاب الخطيئة هو الموت في جهنم الى الأبد لأن المولى سبحانه وتعالى طاهر قدوس وعدله يستلزم عقاب الخطيئة بهذه الكيفية والمسيح احتمل في جسده ما كنا نستوجبه من العقاب ، ووفى ما كان علينا من الدين رحمة منه ، أفكان الوفاء أو المحتمل عنا من نحو العقاب الذي استوجبناه والدين الذي كان علينا وهو الموت في جهنم إلى الأبد ، وننسب هذا الى المسيح الفادي أم هو من غير هذا النحو ، فإن كان من غير هذا النحو سألنا كيف وأنت تقول : ان عدل الله الطاهر القدوس يستلزم العقاب بهذه الكيفية.

وأيضا أفلا يكون هذا الوفاء من المخادعة الجزافية.

١٦٤

وأيضا إذا كان هذا الفداء من الابن رحمة منه ، أفلم يكن عند الأب شيء من هذه الرحمة ليغفر لنا بدون تحمل ابنه لعقاب الخطيئة.

وأيضا من هو الأب؟ ومن هو الابن؟ وأنت تقول : ان الثلاثة واحد وبالنتيجة يرجع الكلام الى ان الأب تحمل ما تقول ولازم قولك انه تحمل الموت الأبدي في جهنم.

«قلت» : سيقول لك المتكلف هذا كلام تجديف فانا نبشر لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صلب المسيح «١ كو ١ : ١٧» فإن الكتاب يقول : صار المسيح لعنة لأجلنا كما سمعت.

فان قلت : ان لي على هذا الكلام وما ذكرته سابقا من نحوه سؤالات كثيرة ، قلت : أو على عهدة الجواب في مثل هذا واني سائل مثلك وقد أجبتك عن البعض بما أعلمه من حالهم ومقالهم وكتبهم ، فجاهد في الله يهدك الى سبيله.

ونتيجة ما تقدم : ان العقل والنقل دالان بأوضح دلالة على لزوم عصمة الرسول عن الخطايا والقبائح والتمرد على الله فلا يجتمع للكتاب المنسوب للوحي والإلهام أن يصرح برسالة شخص ونبوته ، ثم ينسب بصراحته له الفعل القبيح عقلا أو شرعا ، ودونك القرآن فهل تجد فيه ما هو صريح في نسبة الفعل الحرام أو ترك الواجب أو فعل القبيح الى من صرح برسالته خصوصا وقد نبهناك على معاني ألفاظه ومرامي مقاصده ودلائل شواهده ، ولئن وجد فيه ما يوهم ذلك ابتداء فإن قرينة العقل والنقل وخصوص القرائن المتصلة لتكبح ذلك الوهم وتصرف عنه ايهام اللفظ.

وأما العهدان فكم وكم ترى في صريحهما من نسبة الخطايا الكبائر ومفضعات الجرائم الى من صرحا بنبوتهم ورسالتهم ونزول الوحي للتبليغ عليهم ، ولا يجتمع لهما الصدق في وصفهم بالرسالة ونزول الوحي عليهم للتبليغ ونسبتهم الى ما ذكراه من الخطايا كما شرحنا بعضه في فصول هذا الباب ، فإن بداهة العقل والنقل لتحكم بكذبهما في أحد الامرين لا محالة ،

١٦٥

فاختر لنفسك فإن اخترت كذبهما في وصف هؤلاء بالرسالة لزم كذبهما على الوحي بأجمعهما لأن مدارهما على رسالة موسى والمسيح وهما العمدة في محل الكلام.

١٦٦

الفصل السادس عشر

في عصمة خاتم المرسلين محمد «ص»

وما يتعلق بها

اعلم ان المتكلف حاول أن يلوث قدس رسول الله «ص» بعبادة الاصنام قبل النبوة والميل الى ذلك بعدها فتشبث لذلك بآراء فاسدة وروايات آحاد مضطربة متعارضة محفوفة بأسباب الوهن والخلل وصار يحمل على ذلك بتشهيه واقتراحه بعض الآيات التي لا ربط لمدلولها بمراده ، وسود بذلك وجه ست صحائف «انظر يه ١ ج ص ٦٠ ـ ٦٥» ، وجاء في خلال ذلك بما يشوه وجه التحقيق ويشين شرف الكاتب ، وما ضره لو فاز مع ذلك بحسن الأدب أقلا ، فاستدل لعبادة الاصنام بقوله تعالى في سورة الضحى ٧ (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) وقال : فهذه العبارة ناطقة بأنه كان على عبادة عشيرته.

أقول : هل ترى المتكلف يدعي ان معنى الضلال في اللغة هي عبادة الأوثان أو عبادة ما يعبده الأهل والعشيرة ، أو ليس يعلم كل مترعرع باللسان العربي ان معنى الضلال مساوق لمعنى التيه واضاعة الطريق ، ويختلف المراد منه باعتبار متعلقه ، فيقال : ضل الرجل عن التوحيد إذا عبد غير الله وضل عن الشريعة إذا جهل أحكامها أو خالفها ، وضل عن الجادة إذا تاه ، وضل عن الصواب إذا خبط وخلط ، وضل عن الرشد إذا تحير في اموره ، وضد الضلال هو الهدى ، ويختلف المراد منه أيضا باعتبار متعلقه على نهج ما تقدم. فعلى المتكلف ان أراد أن لا يضل في الدعوى أن يبين المراد بالضلال من صريح لفظ الآية حتى يدعى ان العبارة ناطقة بمدعاه ، بل نقول لما ذا لا يكون المراد من الآية ووجدك قبل

١٦٧

النبوة واعلان الوحي ضالا عما اوحى أليك من الشريعة المتكلفة لأحسن التهذيب والتكميل وأتقن النظام للدين والدنيا فهداك الله إليها بنور النبوة واعلام الوحي ودفع عنك الحيرة فيما كنت تطلبه من الهدى الى شريعة الحق لتحمل عليها الناس.

وما المرجح لما يدعيه المتكلف على هذا لو لا الهوى ، ولما ذا يخلط «يه ١ ج ص ٦١» بين الدين والشريعة فإن الخلاف الذي ذكره عن جامع الجوامع إنما هو باعتبار الاختلاف بين شريعة نوح وابراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام من حيث الناسخ والمنسوخ في الاحكام العملية ، ولا اختلاف في دين هؤلاء ولا غيرهم من الأنبياء من حيث التوحيد والمعارف اللاهوتية أصلا ولم يقل ذو رشد باختلافهم في ذلك.

ثم قال المتكلف : من أقوى الأدلة على حيدانه «يعني رسول الله «ص» عن عبادة الحق وميله الى الاصنام هو مدحه لآلهة قريش وتقديم العبادة لها.

أقول : المنشأ في تشبث المتكلف في ذلك هي الرواية المقطوعة الفاحشة الاضطراب المشوشة في نقلها وألفاظها حيث أرسلها بعض المفسرين ، وهو أن رسول الله (ص) قرأ في سورة النجم في مجلس لقريش فلما بلغ قول الله تعالى ١٩ : (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ٢٠ وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) قرأ بعده (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى) فلما سمعت قريش ذلك فرحوا به. ومضى رسول الله في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في آخرها وسجد المسلمون بسجوده. وسجد جميع من في المسجد من المشركين وقد سرهم ما سمعوا.

وكأن المتكلف يذعن بصدق هذه الحكاية أكثر من إذعانه بصدق ما في العهدين حتى عدها من أقوى الأدلة ، وكأن لم يشعر بأن أهل العلم والدراية والنظر من المسلمين قد جبهوا هذه الحكاية بالرد ، وسماها المرتضى خرافة وقال النسفي : ان القول بها غير مرضي ، وفي تفسير الخازن ان العلماء وهنوا أصل القصة وذلك انه لم يروها أحد من أهل الصحة ، ولا أسندها ثقة بسند صحيح او سليم متصل ، وإنما رواها المفسرون والمؤرخون المولعون بكل غريب ، الملفقون من الصحف كل صحيح وسقيم ، والذي يدل على ضعف هذه القصة

١٦٨

اضطراب رواتها ، وانقطاع سندها واختلاف ألفاظها ، انتهى كلامه.

أما ضعف سندها فمن جهات كثيرة معروفة في فن الدراية ومعرفة الرجال لا يسع المقام إحصاءها ، وأما انقطاع سندها فأقله أنه لا يتجاوز في طرقه عن التابعين ومن دونهم إلا الى ابن عباس مع أنه لم يكن مولودا في الوقت المجعول للقصة او كان ابن سنتين او ثلاث.

وأما اضطرابها فقد جاء نقلها المضطرب على وجوه ١ ان النبي حين قرأها كان يصلي ٢ وأنه كان جالسا في نادي قومه ٣ حدث نفسه بها فجرت على لسانه ٤ كان يصلي عند المقام فنعس فألقى الشيطان ذلك على لسانه فتكلم. بها فتعلق بها المشركون وحفظوها ٥ ان الشيطان أخبرهم بأن نبي الله قد قرأها ٦ ان رسول الله لم يتنبه لذلك حتى أمسى وأتاه جبرائيل فقرأ عليه في جملة السورة ما ألقاه الشيطان فقال جبرائيل : ما جئتك بهذا فأوحى الله الى رسوله (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ) الآية) ، فما زال مهموما مغموما حتى نزل عليه قوله تعالى : «(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ) من نبي الآية» ٧ انه سها فقرأها ففرح المشركون بذلك فقال : لا إنما كان ذلك من الشيطان ٨ انه علق يتلوها فنزل جبرائيل فنسخها ٩ قرأها بعد قوله تعالى : (وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ١٠ قرأها بعد قوله تعالى (قِسْمَةٌ ضِيزى) ١١ انه تنبه لها عند قراءتها وقبل إكمال السورة ففزع وجزع فأوحى الله إليه الآية السادسة والعشرين من السورة (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ الآية) الآية ١٢ لم يتنبه حتى أتم السورة وسجد المشركون وحملوه فاشتدوا به بين قطري مكة يقولون نبي بني عبد مناف ١٣ جاء في لفظها : انهن لفي الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى ١٤ ، تلك الغرانيق العلى ، وان شفاعتهن لترتجى ١٥ ، ان تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ١٦ تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى ١٧ انهن الغرانيق العلى ١٨ ان شفاعتهن ترتجى ١٩ وانهن لهن الغرانيق العلى وان شفاعتهن التي ترتجى ٢٠ تلك الغرانيق العلى وشفاعتهن ترتضى ومثلهن لا ينسى ٢١ وهي الغرانيق العلى شفاعتهن ترجى ٢٢ ، وان شفاعتها لترجى ، وانها لمع الغرانيق العلى ٢٣ تلك إذا في الغرانيق العلى ، تلك إذا شفاعة ترجى ٢٤ ، تلك الغرانقة العلى وان شفاعتهن ترتجى.

١٦٩

ويزيد الاضطراب في رواية هذه القصة ما في بعض نقلها من ان الله عزى نبيه وفرج عنه بقوله تعالى في سورة الحج ٥١ (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فذكروا عن رواية ابن عباس في سبب نزولها ان رسول الله (ص) تمنى من الله ان يقارب بينه وبين قومه فألقى الشيطان على لسانه ما كان يحدث به نفسه ويتمناه ٢.

عن ابن عباس أيضا ان امنية رسول الله هي إسلام قومه ٣ كان يتمنى كف أذاهم ٤ تمنى من الله أن لا يأتيه شيء يفرق عنه قريشا ، وعلى هذا فالتمني والامنية من أفعال القلب٥.

عن ابن عباس أيضا إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ٦.

عن ابن عباس أيضا وغيره تمنى تلا وقرأ والامنية التلاوة والقراءة ٧.

عن مجاهد تمنى تكلم وأمنيته كلامه ٨ لم يذكر تمني النبي (ص) في بعض الروايات عن ابن عباس وغيره ولذا فسروا تمنى بتلى وامنيته بتلاوته واستشهد المفسرون بقول حسان :

تمنى كتاب الله أول ليلة

وآخره لاقى حمام المقادر

وقول الآخر :

تمنى كتاب الله آخر ليلة

تمني داود الزبور على رسل

وهذا بعض الاضطراب والاختلاف في أمهات المطالب من رواية هذه القصة ، ولو استقصينا الاختلاف في الألفاظ والمعاني لأدى طول الكلام الى الملل ، وخرج الكتاب عن موضوعه ، فانظر أقلا الى الدر المنثور تفسير السيوطي.

وان فيما ذكرنا كفاية لمعرفتك ان الحق أبلج ، والباطل لجلج.

ثم لنعطف الكلام الى تطبيق الآية على المدعي من القصة فنقول اما على تفسير التمني والامنية فيها بالارادة القلبية فلا تصلح لأن تكون تعزية عن الحزن

١٧٠

من أجل القول الذي القاه الشيطان كما يزعم لو فرضت مطابقتها لما ذكروه من تمني رسول الله (ص).

وأما اذا جعلنا الامنية بمعنى المتمني وهو الشيء الذي يتمناه الانسان فلا يطابق قوله تعالى (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) بعض المطابقة الا ما ذكر من ان الامنية كانت اسلام قومه (ص).

فان معنى القى الشيطان في المتمني هو ان يدخل فيه ما يضره ويشوشه ، بل نقول ان معنى قوله تعالى (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) لا بد ان يكون لتركيبه معنى واحد عرفي مقرر وهو ما يرجع الى موافقة المتمني او مخالفته. وعلى كل حال لا يطابق جميع ما قيل في بيان الامنية. وهي ان يقارب الله بينه وبين قومه ٢ اسلام قومه ٣ كف اذاهم ٤ لا يأتيه من الوحي شيء يفرقهم عنه.

وأما تفسير التمني والامنية بالتلاوة فهو شيء غريب لم يسمع له شاهد إلا شاذ يقال انه لحسان فلا يحسن حمل القرآن على لغة هذا شأنها.

وأيضا ان المروي عن ابن عباس وابن الزبير ان سورة الحج التي فيها هذه الآية مدنية من دون استثناء لهذه الآية أفلا يعارض هذا ما روي من ان الآية نزلت في مكة في مساء واقعة الغرانيق وفي حينها تعزية لرسول الله من أجلها لأنه كان به رحيما؟ أم تقول ان الله الرحيم برسوله اللطيف بعباده آخر تعزية رسوله عن ورطة الغرانيق ولم ينزل فيها الآية المذكورة إلا بعد مدة من السنين وتنقل في الامكنة وتقلب في الاحوال التي فات بها مقام التعزية والتدارك ، دع هذا كله وقل كيف يذعن عاقل بصدق هذه الحكاية خصوصا على مزاعم المتكلف مع مناقضتها لما في خصوص المقام من سورة النجم في التنديد بالاصنام وبيان كونها باطلا بقوله تعالى ٢٣ (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى) وان هذه الآية لتوضح ان حكاية الغرانيق وسجود المشركين في آخر السورة مع رسول الله سرورا بمدح آلهتهم انما هي تلفيق من غير تدبر افترى المشركين يسجدون في آخر السورة فرحين مسرورين بعد ما سمعوا من التنديد بآلهتهم. والتسفيه لهم بقوله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ) الآية ، أفلم يكونوا

١٧١

أهل اللسان والمعرفة بمحاوراته؟ أفتراهم لا يفهمون مواقع الكلام مثل ... على أن هذه الحكاية بأصلها وفروعها والاستشهاد لها مخالفة لنص القرآن في نفس سورة النجم بقوله تعالى في شأن رسول الله : (٣ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى ٤ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).

فإن قلت فإذا فما يكون المعنى في الآية المذكورة قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى) الآية.

قلنا : والله أعلم الظاهر هو أن يكون المراد من الامنية هو الشيء المتمني كما هو الاستعمال الشائع في الشعر والنثر ، كما أن الظاهر من التمني المنسوب الى الرسول والنبي كما يشهد به سوق الآيات هو أن يكون ما يناسب وظيفتهما وهو تمني ظهور الهدى في الناس وانطماس الغواية والهوى وتأييد شريعة الحق ونحو ذلك فيلقي الشيطان بغوايته بين الناس في هذا المتمني الصالح ما يشوشه ويكون فتنة للذين في قلوبهم مرض ، كما ألقى بين أمة موسى من الضلال والغواية ما ألقى ، وألقى بين اتباع المسيح ما أوجب ارتداد كثير منهم وشك خواصهم فيه واضطرابهم في التعاليم وأحكام الشريعة بعده كما مر عليك شرحه في المقدمة الخامسة ، والقى بين قوم رسول الله ما أهاجهم على تكذيبه وحربه وبين أمته ما أوجب الخلاف وظهور البدع. فينسخ الله بنور الهدى غياهب الضلال وغواية الشيطان ، فيسفر للعقول السليمة صبح الحق ، ثم يحكم الله آياته ويؤيد حجته بإرسال الرسل او تسديد جامعة الدين القيم ، وإذا نورت فكرك بما ذكرناه عرفت شطط المتكلف «يه ٣ ج ص ١٦٩ ـ و ٢ ج ص ٩٧».

«ورطات المتكلف» وإذا تبصرت بما شرحناه فلا تعجب من المتكلف إذ جعل قصة الغرانيق السخيفة من أقوى أدلته فإنه قد أبدع في التحقيق وحرية الضمير حيث قارن بين هذه القصة وبين ما جاء في العهد القديم في شأن سليمان بن داود فقال «يه ١ ج ص ٦٣ س ١٩» لم يظهر نبي من الأنبياء الصادقين مثل هذا التلاعب ومسايرة الناس على شركهم وعبادتهم الكاذبة ولا مناسبة بين خطيئته «يعني قدس رسول الله وخرافة الغرانيق» وبين خطيئة سيدنا سليمان ، فسيدنا أباح لبعض نسائه الأجنبيات عبادة آلهتهن ولم يقع هو في هذه

١٧٢

العبادة انتهى.

وينبغي له أن يقول أيضا تتميما لكلامه وأستغفر الله ، ولا مناسبة أيضا بينها وبين خطيئة سيدنا هارون فسيدنا هارون بقول التوراة صنع العجل إلها يعبده بنو اسرائيل وبنى مذبحا أمامه ونادى غدا عيد للرب.

فأقول في شرح بعض كلامه انك قد سمعت حكاية الغرانيق وهي القصة التي تزداد بزعم المتكلف قوة الى قوة بانقطاع سندها وضعفه وتناقض مضامين روايتها وتلونها ، وعدم التشام آية التمني معها ومناقضة آية الاسماء والوحي لها وتكذيب العلماء المحققين لها ، وتسميتهم لها خرافة الى غير ذلك.

وفي العهد القديم الذي هو عند المتكلف كتاب وحي إلهي وكلام الله السميع العليم ما نصه ان سليمان أمالت نساءه المشركات قلبه وراء آلهة اخرى فذهب وراء عشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم رجس العمونيين ، وعمل الشر في عيني الرب ولم يتبع الرب تماما كداود أبيه وبني المرتفعات قبالة اورشليم لعشتاروت رجاسة الصيدونيين ولكموش رجاسة الموآبيّين ولملكوم كراهة بني عمون «انظر الى ١ مل ١١ : ٤ ـ ٨ و ٢ مل ٢٣ : ١٣».

أفنقول ان في هذا شيئا من الشرك؟ فإن المتكلف يقول : حاشا وكلا بل غاية الأمر ان سليمان أباح لبعض نسائه عبادة آلهتهن وما ذا تقول للمتكلف لو قال تلك ان هذه الإباحة من وظائف الأنبياء والعدل مع النساء الأجنبيات؟ وما عساك تقول في سليمان وقد نص عليه العهد القديم عن قول الله ان سليمان هو يبني بيتي ودياري لأني اخترته لي ابنا وأنا أكون له أبا «١ أي ٢٨ : ٦».

والمتكلف يقول «يه ١ ج ص ١٢٢» أنه من كبار الأنبياء فلا يضر في ذلك انه ذهب وراء آلهة أخرى وعمل الشر ولم يتبع الرب وبنى مرتفعات الأوثان ، فليعتبر ذو الرشد والبصيرة.

ثم قال المتكلف «يه ١ ج ص ٦٤» كان محمد لا يتنكف عن التعبد بآلهة قومه للتقرب منهم ثم ينقلب عليها لما يرى عدم الفوز بمرغوبه ، فورد في سورة بني اسرائيل ٧٥ (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ

١٧٣

وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً).

وذكر في سبب نزولها ثلاث روايات او أربع متعارضة متناقضة كل واحدة تذكر سببا مباينا لما تذكره الاخرى وكلها تنسب الى ابن عباس انظر الى الدر المنثور وتفسير الخازن.

وأقول : وتزيد على ذلك في التعارض والتناقض رواية محمد بن كعب القرضي انها نزلت في أثناء سورة النجم في قصة الغرانيق المتقدم ذكرها.

ويا عجبا كيف يتشبث أحد بمثل هذه المتناقضات ويحاول أن يموه أمرها اللهم إلا أن يكون لا يبالي بما يقول وما يقال فيه.

وان المتكلف لم يذكر الآية التي بعد هذه الآية لأجل انه شعر بأنها تنقض غرضه الفاسد بمدلولها وهو قوله تعالى ٧٦ : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً).

وان الذي ينبغي تحصيله من معنى الآيتين بمقتضى لفظهما والنظر في مقتضى الحال من الامور المعلومة من حال رسول الله (ص) وقريش هو انه لما اشتدت وطأة رسول الله عليهم بالدعوة والتنديد بآلهتهم والتسفية لهم في عبادتها حتى اهتدى جملة منهم ومال إليه من لم تعمه العصبية صاروا يريدون منه الملاءمة معهم والكف عن الدعوة والتعرض لآلهتهم ويتوسلون الى ذلك مرة بالمشاغبة ومرة بالاضطهاد ومرة بالاستشفاع بأبي طالب وغيره. وغرضهم من ذلك بزعمهم الفاسد أن ينجر تركه لهم عن الدعوة وتبليغ الوحي الى التساهل منه والموافقة على أهوائهم التي هي افتراء على الله. فربما خطر على فكر رسول الله (ص) احتمال الصلاح في متاركتهم زمانا قليلا استصلاحا لهم وسياسة في الهدى وتلطفا في تحصيل الغرض فسدده الله الى الصواب وثبته على الجد في الدعوة والدوام عليها وأنزل عليه الآيتين المذكورتين تعريضا بإصرار المشركين والامتنان عليه بتسديده الى الصواب في كل حال ، وحاصل الآيتين ان المشركين قد كادوا باختلاف وسائلهم في طلب المتاركة من رسول الله ليحصل لهم ما توهموه من الغرض الفاسد وهي الموافقة لأهوائهم اخيرا وقاربوا بذلك ان يفتنوه

١٧٤

باحتمال الصلاح في المتاركة والكف شيئا قليلا عن الدوام في الدعوة التي أمره الوحي بها فسدده الله وثبته على ان الصلاح إنما هو بالدوام على الدعوة ولو لا هذا التثبيت لكاد رسول الله أن يركن إليهم شيئا قليلا من المتاركة لاحتمال الصلاح والنجاح ، فلم يكن المشركون ليفتنوه ولكن كادوا ، ولم يركن رسول الله إليهم شيئا قليلا ولكن كاد.

فأين منطوق الآيتين ومرماهما من مقصود المتكلف المحال. وكيف لا يقبح الاستشهاد بالاولى منهما على أن رسول الله لا يستنكف عن التعبد بآلهة قومه أفيجري في الوهم ان القرآن يسمي التعبد بآلهة المشركين شيئا قليلا.

وقد ترقى المتكلف فصار يدعي أسباب النزول حسب هواه ومشتهاه فصار يدعي أن بعض ما روي في سبب نزول الآية المتقدمة هو السبب في نزول قوله تعالى في سورة بني اسرائيل ٤١ : (وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً).

مع انه لم يرد في ذلك عن المفسرين الذين عرفت حالهم في تفسير الآية شيء من هذه الأوهام على أن صريح السوق فيما قبل هذه الآية وما بعدها ينادي بأنها كأخواتها واردة لتعليم الناس وصايا الله من قبيل ـ إياك أعني واسمعي يا جارة ـ انظر الى اطراد الوصايا في هذه السورة من الآية الثالثة والعشرين الى الخامسة والأربعين حيث قال الله جل اسمه ٢٣ : (لا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً ٢٤ وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).

أفيقول المتكلف ان الأمر بالإحسان بالوالدين كان المقصود منه رسول الله مع انه لم يدرك حياة أبويه. كلا بل أن السوق الجاري في هذه الآيات كالسوق الجاري في كثير من خطاب التوراة وخصوص العشرين من الخروج ٣ لا يكن لك آلهة اخرى امامي ٤ لا تصنع لك تمثالا منحوتا ١٧. وكذا الثالث والعشرين من الخروج والرابع والثلاثين ١١ ـ ٢٧ وغير ذلك فراجع.

ثم قال المتكلف «يه ١ ج ص ٦٥» لما كان المشركون يرون منه ميلا الى

١٧٥

آلهتهم كانوا يطلبون منه أن يذكر شفاعتها ، فكان كثيرا ما يجيب دعوتهم ثم يرجع عن ذلك ويدعى ان الله نهاه فورد في سورة الأحزاب ١ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً ٢ وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ). فلو لم يقترف ذنبا لما نهى عنه.

أقول : ومن الظرائف دعوى المتكلف ان المشركين كانوا يرون ميلا من رسول الله الى آلهتهم. وليت شعري هل وجدوا خصما دائم المثابرة لآلهتهم مثل رسول الله فلا توحشه في ذلك وحدة ولا يصده عنه اضطهاد ولا تميله عنه المطامع ، كما لا يخفى ذلك على العدو والصديق ، وأظرف من ذلك دعوى المتكلف ان رسول الله كان كثيرا ما يجيب دعوة قريش الى شركهم. وهل وجد في الناس ضدا مقاوما للوثنية مثل رسول الله. وان المتكلف ليعلم انه لا يوافقه على هذه الخرافة أحد من الناس ، ولذا التجأ فيها الى الاحتجاج الذي لا يخفى حتى عليه وهنه وسخافته بقوله : فلو لم يقترف ذنبا لما نهى عنه.

أفيقول ان وصايا الشريعة ونواهيها لا تكون إلا بعد الوقوع في الذنب؟ أفلم يتدبر في شريعة التوراة؟ أفلم يتدبر في شرائع الملوك؟ أفلم يتدبر في أحكام الموالي؟.

وأظرف من ذلك نقضه بنفسه لهذا التوهم حيث قال في تتميم دعواه بزعمه ، روى ان أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا في الموادعة التي كانت بينه وبينهم وقام منهم ابن ابي ومتعب بن قشير والجد ابن القيس فقال له : ارفض ذكر آلهتنا وقل ان لها شفاعة وندعك وربك فادعى ان الله أنزل عليه ذلك.

فهل ترى المتكلف لم يشعر ان هذه الرواية تنقض غرضه لصراحتها بأن رسول الله قد جبههم في هذه الآيات بالرد وآيسهم من أمانيهم الكاذبة.

وفي تفسير البغوى : انه شق على النبي قولهم وأمر عمران يخرجهم.

وفي تفسير النسفي : همّ أن يقتلهم فنزلت (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ) يعني في قتلهم ونقض العهد ، ولعله لو قيل للمتكلف إذا فمن يشهد لك على مدعاك؟

١٧٦

لقال : أليس في قرآنكم مكتوب شهادة رجلين حق أنا هو الشاهد لنفسي ويشهد لي التعصب الذي يغريني ويورطني فإن من أوضح المعلومات التي لا يسترها غبار التزوير والتلفيق ان رسول الله كان أثقل الناس وطأة على الاصنام وأشدهم ذما لها وعيبا لعبدتها وتسفيها لأحلامهم ، لا يفتر عن ذلك ولا يداهن بل كان هذا هو العنوان لنهضته والقانون الاساسي لدعوته حتى عاداه في محض ذلك القريب والبعيد ولاقى من الاضطهاد ما لاقى.

ثم قال المتكلف. ومما يشبه هذه الحادثة قوله في سورة الزمر ٦٥ (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

أقول : كأن المتكلف قد مناه وهمه بإحراز الموفقية في المنقولات والمحسوسات حتى صار يعتمد على الحدس والتخمين. أو تراه لم يشعر بأن صدر الآية الذي حذفه مما ينقض مرامه ، فقد قال الله تبارك وتعالى : (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) الآية وان الآية لتنادي بصراحتها ان هذا الخطاب قد خوطب به رسول الله كما خوطب به كل من قبله من الأنبياء الموحي إليهم.

أفيقول : ان خطاب الأنبياء بذلك كان مما يشبه هذه الحادثة ، أو لم يتدبر ما في هذه السورة الشريفة من التشديد والتفنن في زجر المشركين عن شركهم وتوبيخهم وبيان ضلالهم فيه ، وفي المحاماة عنه والدعوة إليه ، فمرة يزجرهم الله بالحجة عليهم بالتجائهم بمقتضى فطرتهم الى ناحية التوحيد حينما يضايقهم الضر ، ثم يرجعون الى ضلالهم واضلالهم في الرفاهية ، كما في الآية الحادية عشر.

ومرة باعترافهم بأن الخالق القادر هو الله مع عجز الأنداد عن النفع والضر كما في الآية التاسعة والثلاثين.

ومرة بضرب المثل فيما يشهد به الوجدان من اختلال النظام بالشركة والشركاء كما في الآية الثلاثين.

ومرة يوبخهم ويقطع آمالهم ويخيب أطماعهم بتلقين رسول الله أعلامهم

١٧٧

بما أمره به من التوحيد وترك الأنداد وبيان النكال المعد للمشركين والبشرى للمؤمنين كما في الآية الرابعة عشر الى الآية الثانية والعشرين.

ومرة بتلقينه توبيخهم والإنكار عليهم بطمعهم في الموافقة لهم على الشرك وآيسهم من أوهام أطماعهم بتلقينه ان الله قد توعده وجميع الأنبياء قبله بالوعيد العظيم الشديد على الشرك فقال تعالى ٦٤ : (قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ ٦٥ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ) الآية ، فجاء الخطاب في هذه الآية لرسول الله وإعلامه بما اوحى إليه وإلى الأنبياء الذين من قبله مجيء الحجة والبرهان على مضمون الآية التي قبلها وهو الإنكار على المشركين فيما يدعونه إليه وتجهيلهم فيه ، بل والبرهان على التوحيد ونفي الانداد المتقدم في مضامين الآيات التي قبلها ، فأين المتكلف عن التبصر بهدى سورة الزمر (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها).

ثم قال المتكلف في شأن رسول الله «ص» ، وكما انه كان يقدم على المنكر المنهي عنه كان يتأخر عن أداء المأمور به لأنه كان يخشى بأس قومه ولما كان يرى ان موافقتهم لم تأت بفائدة ولا ثمرة كان يتخلص من ذلك بأن يدعى ان الله زجره فورد في سورة المائدة ٧١ (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ).

وعن الحسن : ان الله لما بعث رسوله ضاق ذرعا وعلم ان في الناس من يكذبه فقال هذه العبارة.

أقول : أما رواية الحسن فزيادة على كونها معارضة مقطوعة السند. مردودة بأن هذه الآية من سورة المائدة التي هي مدينة من آخر ما نزل من القرآن حينما أظهر الله دينه وكسرت دعوة الحق شوكة الشرك واخمدت نائرة المشركين فلا ربط لها بأصل البعثة وتكذيب المشركين ، بل أن صريح الآية ومرماها يناديان بأنها تحث على أمر هو غير أصل الدعوة وتعظم أمره ببيان ان تركه بمنزلة ترك التبليغ لأصل الدعوة وإلا فأي معنى لقوله فإن لم تبلغ أصل الدعوة فما بلغت أصل الدعوة.

وان سألت عن مرمى الآية وقصدها «قلنا» لا يمتنع أن يكون رسول الله

١٧٨

قد يؤمر بأمر سياسي وتدبير اجتماعي وقانون اصلاحي غير متعلق بحادثة وقتية يفوت الغرض منها بتأخير البيان ولا يكون في الوحي به تضييق بتعجيل التبليغ فيتربص رسول الله في تبليغه فرصة التأثر ويراعى في تأخيره سياسة الفائدة ومجال التنفيذ وعدم التشويش مراعاة لحكمة الوظيفة واعتمادا على توسعة الاطلاق فيأتيه بيان التضييق والتعجيل بصورة الحث والتشديد اشعارا للعباد بأهمية ذلك الأمر وتنويها بكبير شأنه في السياسة الدينية ونظام المدنية وانتظام الجامعة.

فلما ذا لا يحمل المتكلف الآية على هذا الوجه الواضح؟ ولما ذا يميل مع الهوى؟ ويعتل بالقيل؟ بل لنا أن نقول : ان المأمور به إذا كان عظيم الأثر في النظام العام كبير الفائدة في الاجتماع والجامعة ، فقد تقتضي الحكمة في الاشعار بأهميته والسياسة في تنفيذه وإجرائه وتثبيته في القلوب وجلبها إليه كما هو حقه أن يقرن الله الوحي به إلى الرسول المبلغ له بالحث والتشديد على تعجيل تبليغه ابتداء ومن دون سابقة له في الوحي فيجري الحث عليه على نحو فلسفي سياسي في براعة البيان ليكشف عن حسن أثره في الدين ، ومدخليته في الجامعة.

والشيعة من المسلمين يقولون : ان الآية نزلت في أمر رسول الله بنصب علي خليفة على امته من بعده وأخذ العهد له من الأمة بذلك وبالبناء عليه يتضح انطباق الآية وحسن مرماها.

ثم ان المتكلف «يه ١ ج ص ٦٦ ـ ٦٨» والمتعرب «تذ ٦٥» قد تعرضا لشأن تزوج رسول الله بزينب بنت جحش التي كانت عند مولاه زيد بن حارثة فاستفزهما ما فيهما إلى أن جاء في كلامهما بما يقبح حتى منهما فراجعه فإن الأوراق لأشرف من أن يسود وجهها بنقله.

وهاك خلاصة الأمر في القضية لا يخفى أن زيدا كان غلاما لرسول الله فجاء أبوه حارثة ليفكه من الرق ويأخذه فأبى زيد أن يتبعه رغبة في خدمة رسول الله لما رآه من بره وعظيم شأنه فشكر له رسول الله ذلك وأعتقه وعامله في البر معاملة الابن حتى دعاه الناس زيد بن محمد ، وزوجه زينب بنت جحش ، ثم طلقها زيد ولما انقضت عدتها تزوجها رسول الله حسب قوانين الشريعة المقدسة.

١٧٩

فاسأل المتكلف والمتعرب وأشباههما عن السبب في جرأتهما على رسول الله في ذلك ، فإن كان لأجل تزوجه بالمطلقة حيث منع العهد الجديد الرائج من أصل الطلاق والتزوج بالمطلقة في حجة متهافتة وتعليل عليل لا يليق بعوام الناس فضلا عن وحي الله للمسيح.

قلنا : من ذا الذي يوجب على رسول الله أن تكون أعماله وشريعته على مقتضى العهد الجديد الرائج ولا سيما في هذا الحكم الذي قد تلجلج العهد الجديد بحجته وتدافعت أقواله في نسخ مشروعيته حتى رفض تعليمه هذا عقلاء اتباعه في هذه الأعصار المتنورة فجعلوا الطلاق شريعة متبعة كما يشهد به الاحصاء ، لأجل ما وجدوه في منع الطلاق من الضرر الباهظ بنظام المدنية والاجتماع وصفاء العيش ، وانتظام أمر العائلة ، وحسن الأخلاق ، والعدل ، والحرية من أقبح القيود.

وان كان السبب هو تزوجه صلوات الله عليه بمطلقة من يدعى ابنه لأنها تكون محرمة عليه بتا وان لم يكن ابنا حقيقيا.

قلنا : من حرم ذلك؟ وفي أي شريعة جاء تحريمه هذه التوراة والعهد الجديد الرائجان وشريعة اليهود وشريعة النصارى.

فإن قالا : انه محرم بشريعة مشركي الجاهلية «قلنا» لا نضايق من يرضى لنفسه أن يتشبث بمثل هذه الواهيات ، ولكن أليس رسول الله قد جاء ليجعل شرائع الجاهلية وعاداتها الوخيمة تحت قدميه ويجري بشريعة الحق كل الامور على حقائقها. فلما ذا لا يصد المتكلف شيء مما يصد ادباء الكتاب؟ حتى كتب في هذا المقام أكثر من ثلاث مرات ان رسول الله أخذ امرأة ابنه.

هذا وإن كان السبب هو مقدمات التزويج «قلنا» لم يذكر فيها القرآن الكريم إلا قوله تعالى في سورة الاحزاب ٣٧ : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً).

١٨٠