الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

أقول : قد قدمنا لك في الباب الأول من هذه المقدمة ما يدل بأوضح دلالة على أن مثل هذه المخادعة والتزوير والكذب المتكرر على الأب النبي العاجز الكال البصر مناقضة لورود النبوة على يعقوب خصوصا مع دلالة هذا العمل المذكور عنه على ضعف الإيمان والمعرفة بالله بسبب البناء على أن بركات الله التي هي من مفاتيح النبوة وسلسلة عهده مع ابراهيم تستلب من الله ونبيه اسحاق بمثل هذه المخادعات والتزويرات القبيحة ، فلا بد من القول بكون هذه الحكاية ليست من الوحي ولا صادقة مضافا إلى سخافتها في نفسها ومنافاتها لجلال الله الحكيم الغني علام الغيوب لأنه إن فرضت هذه البركة وما يتبعها من الشئون العظيمة مقدرة من الله ليعقوب ، كما عن وحي ملاخي عن قول الله أحببت يعقوب وأبغضت عيسو «مل ، ١ : ٢ و ٣» ، وكما عن الوحي لامهما من قول الرب لها وهي حبلى بهما ، ان الكبير يكون عبدا للصغير «تك ٢٥ : ٢٣ ورو ٩ : ١١ و ١٢».

سألنا أهل العقول السليمة انه هل يصح في حكمة علام الغيوب أن يقدر هذه البركة التي هي زمام النبوة أو نفسها لمن تنسب له هذه المخادعات والتزويرات والأكاذيب الناشئة عن ضعف الإيمان والمعرفة بالله أو عدمهما كما ذكرنا ، مع أن اللسان الكاذب مكرهة للرب «١ م ٦ : ١٦ و ١٧» وكراهة الرب شفتا كذب «أم ١٢ : ٢٢» ، ، وكيف يجتمع هذا مع كون الله أحب يعقوب؟

وأيضا في التاسع عشر من الأمثال (٥) المتكلم بالأكاذيب لا ينجو (٩) المتكلم بالأكاذيب يهلك.

قل فكيف قدرت له هذه البركة العظيمة «انظر تك ٢٧ : ٢٧ ـ ٣٠».

هذا وان فرض أن أمر هذه البركة موكول الى جعل إسحاق وانها تكون حيثما يجعلها سواء كان مخدوعا أو مختارا.

سألنا أيضا أهل العقول السليمة كيف يوكل الله العليم الحكيم أمر هذه البركة مع عظيم شأنها إلى جعل اسحاق ، مع ان اسحاق أراد وعزم وجزم على

١٢١

أن يجعلها لعيسو مبغوض الله ثم جعلها توهما وانخداعا بالكذب ليعقوب بتوهم انه عيسو فاتبع الله اسحاق على وهمه ، أفيعجز الله عن جعل البركة في محلها ولا يعلم حيث يجعل رسالته؟.

أفيغفل العاقل عن كون هذه القصة خرافة مخالفة للعقل ، مجعولة مكذوبة على الوحي؟.

١٢٢

الفصل السادس

في نبوة يوسف وما جاء في شأنه

أما نبوته فيدل عليها من القرآن الكريم ذكر الله له في عداد الأنبياء الذين فضلهم على العالمين من ذرية ابراهيم «انظر سورة الانعام ٨٤ ـ ٨٦ ونص على نبوتهم بقوله تعالى ٨٩: (أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ).

وأما ما جاء في شأنه فقد قال الله تعالى في سورة يوسف في شأنه مع امرأة العزيز ٢٤ (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ).

فقال المتكلف «يه ١ ج ص ٥» ان القرآن نسب ليوسف ما هو منزه عنه بقوله : ولقد همت به وهم بها أي قصدت مخالطته وقصد مخالطتها.

قلت أولا : من أين للمتكلف أن المراد قصد مخالطتها ولما ذا لا يكون المراد انه هم بها ضربا ونحو ذلك من وجوه المدافعة عن قداسته.

«وثانيا» ان قوله تعالى : (وَهَمَّ بِها) معلق على عدم رؤيته لبرهان ربه الذي هو العصمة. فمعنى الآية انه لو لا أن رأى برهان ربه وكان معصوما لهم بها لأجل وجود الدواعي الكثيرة من شبابه وجمال المرأة ورغبتها فيه وخلو المكان والفتها.

ولعل المتكلف إنما لم يذكر في نقله للآية تتمتها ، وهو قوله تعالى : (لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ) لأجل التفاته ، إلا أن التتمة تنقض غرضه خصوصا ما في

١٢٣

التتمة من قوله تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) سيما وقد حكى الله عنه قبل الآية المذكورة قوله : (مَعاذَ اللهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ).

وحكى جل شأنه عن المرأة ٣٢ (راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ) ٥١ (أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) فصراحة القرآن تدل على نزاهة يوسف في هذه الحادثة مطلقا.

١٢٤

الفصل السابع

في رسالة موسى وما قيل في شأنه

أما رسالته في القرآن الكريم فغنية عن البيان ، ويكفي مما يدل على بعثته ورسالته وكتابه ومعجزاته ودعوته ما اقتصه الله جل شأنه في سورة الاعراف ١٠١ ـ ١٥٥ ـ ولا حاجة إلى بيان رسالته من العهدين فإنها العنوان والأساس لهما.

وأما ما قيل في شأنه فقد قال الله جل اسمه في شأنه في سورة القصص ١٤ (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ١٥ قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ).

فقال المتكلف «يه ١ ج ص ٤١» فقتل القبطي مع انه لم يكن ذلك مباحا له ولم يكن قتله على سبيل الخطأ بل كان قتل عمد وعدوان لقوله هذا من عمل الشيطان. وقوله : (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) وقوله في سورة الشعراء ١٩ : (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).

أقول : لا يخفى ان بني اسرائيل حينئذ كانوا مؤمنين بالله موحدين له يعرفونه باسمه المقدس (اهيه الذي اهيه. ويهوه إله ابراهيم واسحاق ويعقوب) وهم شعب الله «انظر إلى ثالث الخروج» وأبناء الله أي أولياءه «خر ٤ : ٢٣»

١٢٥

وكان المصريون مشركين يعبدون البهائم «خر ٨ : ٢٦».

فلما رأى موسى الذي من شيعته في الدين مع الذي من عدوه في الدين يقتتلان حسن منه دفاع المشرك عن الموحد فوكزه فقضى عليه. ولا يتبين من الآية انه وكزه ليقتله بل سوقها يعطي انه أراد به مجرد الضرب للدفاع فصادف قتله خطأ فيجوز في نفس الواقعة أن يكون دفاع موسى للقبطي جائزا ، ويجوز أيضا أن يكون قتله جائزا ولو لأجل دفاع عابد الوثن عن الموحد خصوصا والعادة تقضي أن يكون القبطي هو الظالم المعتدي لكون بني اسرائيل حينئذ تحت عبودية المصريين القاسية وهذا الدفاع والقتل كان على حين غفلة من أهل المدينة يمكن ستره في وقته بحيث لا يتعقبه ضرر فعلي ليكون حراما من هذه الجهة ، ولكن كان الأفضل لموسى تركه سترا على نفسه المقدسة أو على بني اسرائيل من تجسس المصريين وتهمتهم أو اخبار الإسرائيلي إذا غضب وساء خلقه ، فلما مات القبطي وعلم موسى انه وقع في خلاف الأفضل قال انه من عمل الشيطان يعني اغواء المصري على العدوان أو اغواء الإسرائيلي على المقاومة أو إقدامه على خلاف الأفضل ليثير الشيطان شر المصريين على بني اسرائيل فقال على وتيرة الصديقين الذين يفزعون من تركهم الأفضل (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) ليعود إلى مقامه الرفيع فغفر له. وأما قوله (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) فلا دلالة فيه على أنه فعل حراما لأنا قد قدمنا في الفصل الثاني من عصمة نوح أن المعنى الموضوع له لفظ الضلال بل والمستعمل فيه غير مختص بمعصية الله ومخالفة أمره ونهيه اللازمين بل هو إضاعة الطريق ويختلف بإختلاف متعلقه.

ومن الواضح أن النبي بعد أن يهديه الله بنور النبوة إلى الحق اليقين. ويكشف له بمشاهداتها عن أسرار اللاهوت والملكوت يرى أنه كان قبلها كالميت الذي أحياه الله.

والجماد الذي نعشه بروح القدس فيحق له أن يصف حاله فيما قبلها بالضلال الذي هو اضاعة الطريق عما اهتدى إليه بنور الوحي.

فالظاهر من سوق الآية وما قبلها ان موسى لما أخبر فرعون بأنه رسول

١٢٦

رب العالمين وأمره بأن يرسل معه بني اسرائيل ألقى عليه فرعون جملة من الكلام تتضمن أمرين «أحدهما» الامتنان عليه بتربيتهم وايوائهم له «وثانيهما» التهكم على دعواه الرسالة وإنكارها بأنهم هم الذين ربوه من الطفولية ولبث فيما بينهم سنين من عمره وآخر أمره كفر نعمتهم وفعل فعل الأشرار فقتل منهم نفسا فمتى جاءته النبوة فأجاب موسى عليه‌السلام بما معناه اني في آخر مكثي معكم حينما فعلت الفعلة وقتلت النفس لم أكن رسولا بل كنت من الضالين عن هدى الرسالة إلى الحق اليقين ، ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكما وجعلني من المرسلين.

وأما التربية والمكث بينكم فقد كان ذلك من آثار استعبادكم القاسي لقومي المؤمنين أولاد الأنبياء ، فتلك نعمة تمنها علي ان عبدت بني اسرائيل «انظر سورة الشعراء ١٥ ـ ٢٢» ، وهب ان ما ذكرناه مع وضوحه احتمالا في الآيات والواقعة ، فلما ذا لا يمنع المتكلف من أن يقول جازما ان قتل موسى للقبطي لم يكن مباحا ولم يكن خطأ بل كان قتل عمد وعدوان.

وقال الله تعالى في سورة الشعراء حكاية عن موسى لما أرسله إلى فرعون ١١ (قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ١٢ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ١٣ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ ١٤ قالَ كَلَّا فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ).

فقال المتكلف «يه ١ ج ص ١٤» ان هذا يدل على أنه لما أمر الله موسى اعتذر عن التوجه بسبب العقدة التي في لسانه وقتله أحد المصريين فطلب من المولى أن يرسل إلى أخيه هارون بأن يبلغ الرسالة والقصة مأخوذة من التوراة وإنما دأب القرآن الاستخفاف بالخطايا فلم يذكر غضب الله على موسى كما ذكرته التوراة ، فموسى ترك الأفضل.

أقول : ليس في الآيات شيء من الدلالة على اعتذار موسى عن التوجه إلى ما ارسل إليه ، وإنما كان كلامه هذا حرصا على حصول الغرض من رسالته وطلبا لليقين بحصوله بإبداء الموانع منه ، ولم يطلب تحويل الرسالة عنه إلى هارون إذ لا دلالة في قوله : ارسل إلى هارون على طلب الاستبدال به بل غاية

١٢٧

ما يدل على طلب الرسالة لهارون ، وان الموارد الاخر من القرآن لتشهد بأنه طلب الرسالة لهارون معه ليكون ذلك أنجح لحصول الغرض ، فقد حكى الله عنه في سورة القصص قوله ٣٤ : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ ٣٥ قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) وفي سورة طه ٣٠ (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي ٣١ هارُونَ أَخِي ٣٢ اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي ٣٣ وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي) ـ ٣٦ (قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى). بل يدل في خصوص المورد ما تقدم من قوله تعالى : «كلا» أي لا تخف من القتل ولا يصلون أليك بسوء فاذهبا بآياتنا فإن قوله تعالى : (فَاذْهَبا بِآياتِنا) دال بواسطة الفاء التفريعية على أن الأمر بذهابهما معا إجابة لمطلوب موسى وإيتاء لسؤله بقوله : «فارسل إلى هارون» وكاشف عن أن المطلوب لموسى هو إرسال هارون معه لا الاستبدال به.

ولئن تنزلنا قلنا لذي المعرفة : أفلا يكون ما ذكرنا في دلالة الآيات احتمالا يمنع المتكلف عن جزمه في دعواه ولكنه قد امتلأ سمعه وقلبه من صراحة التوراة الرائجة في نقلها استعفاء موسى من الرسالة بلسان غير لين ولا موافق للأدب فصار يحمل ذلك على عاتق القرآن وحاشا وكلا. ففي رابع الخروج (١٠) فقال موسى للرب : استمع أيها السيد لست أنا صاحب كلام منذ أمس ولا أول أمس ولا من حين كلمت عبدك ، بل أنا ثقيل الفم واللسان (١١) فقال له الرب : من صنع للإنسان فما أو من يصنع أخرس أو أصم أو بصيرا أو أعمى؟ أما هو أنا الرب (١٢) فالآن اذهب وأنا اكون مع فمك واعلمك ما تتكلم به (١٣) فقال استمع أيها السيد ارسل بيد من ترسل (١٤) فحمى غضب الرب على موسى وقال : أليس هارون اللاوي أخاك أنا أعلم انه هو يتكلم الى آخره.

وانك لترى ان سوق الكلام القول المنسوب الى موسى أخيرا : «استمع أيها السيد أرسل بيد من ترسل» يعطي ما معناه اني لا أعتمد على هذا الوعد ولا أصغي الى هذه الحجة ، بل اختر لرسالتك رسولا غيري. وحق أن يحمي غضب الله لذلك اللهم اني أعوذ بك أن انسب مثل هذا لقدس رسولك

١٢٨

وكليمك موسى. وأن انسب لجلال وجهك أن ترسل من يرد عليك بمثل هذا الرد.

وأما قول المتكلف فيما تقدم من كلامه إنما دأب القرآن الاستخفاف بالذنوب فنقول فيه : ان القرآن الكريم كلام الله العليم الحكيم لم يجر على مجرى العهدين الرائجين في الوقيعة بقدس موسى والأنبياء ونسبة فضائح الذنوب والكفر إليهم كما سنذكر بعضه في هذه المقدمة إن شاء الله ولم يكن القرآن ليجمع على العقل والنقل بين المتناقضين وهما الرسالة وقبائح الذنوب.

وأما قوله : ان موسى ترك الأفضل فهو من الظرائف أفما ذكر عنه في التوراة في خطابه مع الله يعد من ترك الأفضل ، أو أن ترك الأفضل يستدعي غضب الله ، ولعل المتكلف سمع من المسلمين بلفظ ترك الأفضل ولم يصل الى حقيقة المراد منه.

وأما ما ورد في القرآن الكريم في سورة الكهف ٦٤ ـ ٨٢ في الحكاية عن شأن موسى والرجل الذي آتاه الله شيئا من علم الغيب من قوله تعالى : (فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً) الى قوله تعالى : (وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) فقد حاول المتكلف «يه ١ ج ص ٤٢» أن يجعل فيه قدحا بقدس موسى وأنى له ذلك.

ولنكشف نقاب الغفلة عن وجه هذه الآيات ، فلا يذهب عليك ان الله جلت عظمته وعظمت آلاؤه قد قسم رحمته وفضله على عباده حسبما اقتضته حكمته في خلقه فأنعم على هذا العبد الصالح الذي يقال انه الخضر بشيء من علم الغيب وأسرار الحقائق ، وأنعم على موسى كليمه فخصه في ذلك العصر بسيادة الرسالة بالشريعة وحقائق العرفان بالله وقوانين السياسة المدنية والسيطرة على تربية الناس وتأديبهم على ذلك بالدعوة إليه والاجراء له حسب فرصة الوقت من الاجراء بالقول والفعل وعلى حكمة التمدن من مراعاة ظاهر الحال وحجبه عن علم الغيب الذي لا مسيس له بحكمة وظيفته ، فلما اجتمع موسى مع ذلك العبد الصالح طلب منه أن يطلعه على شطر مما منحه الله من علم الغيب ولم يتواطئا على أن يكون كل ذلك بأسرار الأفعال الجارية بحسب

١٢٩

ظواهرها على خلاف الشريعة التي جعل تبليغها وسيطرتها لموسى ، فكان العبد الصالح يفعل الأفعال على مقتضى حقائقها وأسرارها الغيبة ، وكان موسى يعترض فيها على مقتضى وظيفته في القوانين الشرعية والسياسات المدنية.

ولم يظهر من القرآن ان موسى كان مذعنا بعصمة ذلك العبد الصالح في جميع أفعاله عن الخطأ والجهل ليكون الاعتراض من موسى عليه منافيا للإذعان بعصمته فيسوغ لموسى السكوت عما يخالف ظاهرة الشريعة إلى ان يخبره بسره الغيبي ، ولم يظهر من القرآن ان ذلك الرجل كان رسولا واجب العصمة. نعم يظهر من القرآن ان موسى كان معتقدا بصدقه في دعواه بأن ما صدر من أفعاله المشار إليها إنما هو لكشف غيبي ، ووصول إلى حقائقها لا لغفلة أو خطأ في شريعتها.

هذا ويجوز أن يكون اعتراض موسى على وجه الاستعلام عن الحقيقة والاستكشاف لغيبها ، ويكون قوله شيئا أمرا وشيئا نكرا ، إنما هو بحسب مزاعم الناس الذين لا يعلمون بحقيقة الرجل واطلاعه على بعض الغيب فلا ينبغي لغير المتسرع في غفلاته أن يتوهم في دلالة الآيات شيئا من القدح بقدس موسى.

ثم قال المتكلف في هذا المقام «يه ١ ج ص ٤٢» والظاهر أن محمدا أخذ هذه القصة من أقوال أهل عصره أو من خرافات اليهود فإنه لا وجود لها في التوراة التي هي أقدم كتاب في الدنيا.

قلت : من أين للمتكلف حصر الحقائق والوقائع التاريخية بما ذكر في التوراة ، ومن أين له ان التوراة أقدم كتاب في الدنيا؟ أفتقبل هذه الدعاوى الكبيرة بلا برهان مقبول؟

وكأن المتكلف لا ينزه القرآن من الخرافات حتى يذكر ما في التوراة من خوف الله من آدم أن يأكل من شجرة الحياة لأنه صار مثل الله في معرفة الخير والشر «انظر تك ٣ : ٢٢».

وأكل الملائكة من الزبد واللبن والعجل الذي قدمه لهم ابراهيم «تك ١٨ : ٨».

١٣٠

ومصارعة يعقوب مع الله حتى انه لم يقدر على يعقوب فطلب منه أن يطلقه فلم يطلقه حتى باركه «انظر تك ٣٢ : ٢٢ ـ ٣٠».

ومخادعة صفوره لله حين التقى موسى وطلب أن يقتله بعد أن أرسله ووعده «انظر خر ٤ : ٢٤ ـ ٢٧» ، وفي هذا المقدار كفاية فإن الإكثار منه يخرج عن حد البحث إلى سوء القالة.

وأما قوله تعالى في سورة الشعراء ٤٢ (قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) فلم يكن قول موسى فيه لسحرة فرعون اذنا في السحر أو بعثا عليه ليكون قد فعل حراما بذلك كما زعم المتكلف ، بل إنما حقيقته اختياره التأخر في إلقائه العصا عما صمموا عليه من السحر بإلقاء حبالهم وعصيهم ، كما يفيده قوله تعالى (ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) أي ما أنتم مصممون على إلقائه حيث جمعهم فرعون ليقابلوا بسحرهم معجزة موسى ، ويكشف عن ذلك قوله تعالى في سورة الاعراف ١١٢ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ) ١١٣ قال : ألقوا ، وفي سورة طه ٦٨ (قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى) ٦٩ (قالَ بَلْ أَلْقُوا).

وانا لنسأل المتكلف من أين اخذ قوله قال علماء الإسلام : انه اذن لهم في السحر ، وان السحر كان جائزا.

ولا نقل للمتكلف ان العهد القديم يذكر عن ايليا النبي انه أمر أنبياء البعل «صنم» ان يذبحوا له محرقة ويدعوا باسم آلهتهم ففعلوا ذلك باقتراحه حسب العادة في عبادة المشركين من الصباح الى الظهر قائلين : يا بعل اجبنا ، كل ذلك بمحضر ايليا وبني اسرائيل ، وزاد ايليا على ذلك بقوله : ادعوا بصوت عال لأنه إله لعله نائم ونحو ذلك ، كل هذا ليظهر لهم معجزته «١ مل ١٨ : ٢٣ ـ ٣٠».

لأنا نقول لك أولا : لا قياس بين الأمرين فإن موسى لم يأذن بمقتضى القرآن بالسحر ولا اقترحه ابتداء ولا بعث عليه كما ذكرنا بخلاف ما يذكره العهد القديم عن ايليا من انه هو المقترح للعبادة الشركية للبعل والباعث عليها فسماه إلها.

١٣١

«وثانيا» ان المتكلف لا يتحاشى في هذا الحال عن أن يقول نعم ان ايليا اخطأ هاهنا وتحمل إثم العبادة الشركية وفعل خلاف الأفضل دلالة على ضعف الطبيعة البشرية كهارون وسليمان وغيرهما من الأنبياء.

وأما قوله تعالى في شأن موسى في سورة الاعراف ١٤٩ (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) فلم يعين القرآن ان أخذ موسى رأس أخيه وجره إليه كان على وجه الإهانة والإذلال في التعزير بحسب متعارف ذلك الوقت في بني اسرائيل ، بل يجوز أن يكون بحسب المتعارف من أحوال بني اسرائيل من أهون أوضاع العتاب فإن العهدين ليوضحان بنقلهما لسير بني اسرائيل انهم كان عندهم تمزيق الثياب عند الغضب والتألم بمنزلة الحولقة والتمرغ على الأرض بمنزلة الاسترجاع «انظر أقلا الى السقوط على الأرض وتمزيق الثياب من أنبيائهم وملوكهم الذين هم أولى بالوقار والتحمل «تك ٣٧ : ٢٩ و ٣٤ وعد ١٤ : ٥ و ٦ و ١٦ : ٤ و ٢٢ و ٤٥ و ٢٠ : ٦ ويش ٧ : ٦ و ٢ صم ١ : ١١ و ٣ : ٣١ و ١٣ : ٣١ و ٢ مل ٢ : ١٢ و ٥ : ٧ و ١٩ : ١ و ٢٢ : ١١ وخر ١١ : ١ ومت ٢٦ : ٦٥».

وقد كان موسى حينئذ حريا بالغضب لله إذ شاهد ذلك الأمر العظيم من قومه ، وان المتكلف «يه ٢ ج ص ٥٦ س ٤» جعل ما ذكره القرآن من فعل موسى مع هارون من فعل السفهاء.

وانظر أنت الى ما نذكره في هذا الفصل مما نسبته التوراة الرائجة لموسى في خطابه مع الله وقل انه كخطاب من يكون ، وفي خامس الخروج (٢٢) فرجع الى الرب وقال : يا سيدي لما ذا اسأت الى هذا الشعب لما ذا أرسلتني؟.

وفي الثاني والثلاثين إذ عبد بنو اسرائيل العجل نسب الى موسى انه قال لله (٣٢) والآن ان غفرت خطيئتهم وإلا فامحني من كتابك الذي كتبت.

وفي حادي عشر العدد (١١) فقال موسى للرب لما ذا اسأت الى عبدك؟ حتى انك وضعت ثقل جميع هذا الشعب علي (١٢) لعلي حبلت بجميع هذا

١٣٢

الشعب أو لعلي ولدته حتى تقول احمله في حضنك (١٥) فإن كنت تفعل بي هذا فاقتلني قتلا.

ولما وعده الله بقول التوراة عند ذلك ان يخفف عنه ثقل بني اسرائيل ويطعمهم اللحم شهرا من الزمان (٢١) فقال موسى ستمائة الف هو الشعب الذي أنا في وسطه ، وأنت قلت اعطيهم لحما ليأكلوا شهرا من الزمان (٢٢) أيذبح غنم وبقر ليكفيهم أم يجمع لهم كل سمك البحر ليكفيهم (٢٣) فقال الرب لموسى هل تقصر يد الرب الآن ترى يوافيك كلامي أم لا انتهى.

فانظر يا ذا المعرفة واللسان ولحن المحاورات ومواقع الأدب والجرأة والطلب والشك والتهكم والسخرية وسوء الأدب في الكلام ، والتفت الى مواقع هذا الكلام المنسوب لموسى مع الله وحاشاه.

وانظر أين الأقوال الأخيرة من قول الله في القرآن الكريم : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

أفقول ابراهيم هذا مع اعترافه بالايمان وطلبه لاطمئنان قلبه بانضمام الحس الى العقل يكون شكا في قدرة الله ، أم هذا القول المنسوب صدوره لموسى بعد ما رأى من آيات الله العظيمة في مصر وبعد خروجهم منها ما رأى سيما وقد رأى كيف أنزل الله عليهم المن في برية سين قبل ورودهم برية سينا حسب كفاية بني اسرائيل وزيادة «خر ١٦ : ١ ـ ٦» وبمقتضى التوراة ان هذا الكلام المنسوب لموسى كان في قبروت هتاوه إذ اشتهى بنو اسرائيل اللحم بعد أشهر من نزول المن «عد ١١ : ٤ ـ ٣٤».

ثم انظر أيها الفطن الى انه هل تليق هذه الأقوال والمخاطبات لله العظيم بوظائف الأنبياء المرسلين لأجل ردع الناس عن مثل هذه الجرأة على الله ، وتعريفهم عظمة الله وحكمته وقدرته وتعليمهم ان أوامره نعمة وتكاليفه لطف ونبوته عناية ورحمة ورسالته فضل منه وتحمل مشقاتها عبادة وجهاد في سبيله وان الذي يمحى من كتابه من الهالكين.

وذكرت التوراة عن قول الله في شأن موسى وهارون انهما لم يؤمنا بالله

١٣٣

«عد ٢٠ ، ١٢» وعصيا قوله عد «٢٧ : ١٤» وخاناه «تث ٣٢ : ٥١» حتى ان موسى فرط بشفتيه «مز ١٠٦ : ٣٣» وليت شعري ما ذا فرط بشفتيه وحاشاه ومع هذا كله والمتكلف يقول ويكتب «يه ١ ج ص ٤٢ س ١٨».

أما التوراة فلم تذكر يعني في شأن موسى سوى انه اعتذر بثقل لسانه ، ولعله يقول أيضا : ان اعتذار موسى كان بألين الكلام وأحسنه أدبا فيا لهفاه على الناس لو كانت رسل الله إليهم ودعاتهم الى الحق وأدلاؤهم الى الله وهداتهم الى الرشد على مثل هذه الصفات وحاشا لله من ذلك.

١٣٤

الفصل الثامن

في رسالة هارون وما ذكر في شأنه

أما رسالته في القرآن الكريم فيكفي فيها قوله تعالى في سورة مريم ٥٤ (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) وفي سورة قد أفلح ٤٧ (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ).

وأما في العهدين ففي السابع من الخروج (١) فقال الرب لموسى انظر انا جعلتك إلها لفرعون وهارون أخوك يكون نبيك ، ولئن أبيت هذا فيكفي من التوراة صراحتها بأن الله كلم هارون في امور الشريعة ولوازم الرسالة مع موسى ومنفردا ففيها ما لفظه وكلم الله موسى وهارون وقال الله لموسى وهارون ما يزيد على ثلاثة عشر موردا «انظر أقلا خر ٧ : ٨ و ١٢ : ٤٣ ولا ١١ : ١» ، وكلم الرب هارون «لا ١٠ : ٨» ، وقال الرب لهارون : «عد ١٨ : ١ و ٢٠».

وفي الثاني عشر من صموئيل الأول (٨) أرسل الرب موسى وهارون وفي المزمور الخامس عبد المائة (٢٦) أرسل موسى عبده وهارون الذي اختاره وفي المزمور السادس عبد المائة (١٦) وهارون قدوس الرب.

وفي التوراة انه ظهرت على يده معجزة عصاه ويكفي من ذلك «خر ٧ : ١٠ و ٢٠» وانه صنع الآيات أمام عيون الشعب «خر ٤ : ٣٠».

وأما ما ذكر في شأنه فقد ذكرنا عن التوراة قولها في شأنه وشأن موسى قولها انهما لم يؤمنا بالله وعصياه وخاناه.

١٣٥

وفي الثاني والثلاثين من الخروج (١) ولما رأى الشعب ان موسى ابطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له : قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا.

(٢) فقال لهم هارون انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وائتوني بها ، فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي في آذانهم وأتوا بها هارون.

(٤) فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالازميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا هذه آلهتك يا اسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر.

(٥) فلما نظر هارون بني مذبحا امامه وقال غدا عيد الرب.

(٦) فبكروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح.

فأقول : وان ما تذكره التوراة من صنع هارون العجل إجابة لطلب بني اسرائيل منه أن يصنع لهم آلهة ، لهو بمنزلة الاخبار القولى الصريح بأن العجل إلههم ، وبمنزلة الدعوة الصريحة الى عبادته ، وزاد على ذلك في الصراحة بأن بنى مذبحا أمام العجل ونادى بالعيد على الرسم المألوف للعبادة. بل ان بناءه للمذبح ونداءه للعيد عبادة منه في الظاهر للعجل الذي تبانوا على أنه إلههم.

فإذا كان الاعتقاد في هذا المقام موافقا للقول والعمل ، كان القول والعمل عبادة ظاهرا وواقعا ، وان كان الاعتقاد مخالفا لهما كانا عبادة منه في محض الظاهر ، وينضم الى قبحها قبح الاضلال للناس وحملهم على الشرك بالله كفعل ابليس ، وعلى كل حال فالتوراة الرائجة صريحة في أن هارون وحاشاه صنع العجل ليتخذه بنو اسرائيل إلها لهم وعبده وأمر بعبادته ولم تتعرض لبيان أن اعتقاده كان مخالفا للظاهر.

وقد أنكر المتكلف «يه ١ ج ص ٣٥» على صاحب السيف الحميدي قوله ورد في سفر الخروج ان هارون صور العجل وعبده وأمر بني اسرائيل بعبادته فجعل المتكلف هذا القول افتراء على هارون فرية كبرى.

فأقول : أولا لا يخفي على الغبي ان صاحب السيف الحميدي كان

١٣٦

باعتراضه منزها لهارون والتوراة الحقيقة عن هذه النسب ، بل يقول ان هذه الأقوال افتراء على هارون قدوس الله وعلى التوراة الحقيقية كتاب الله.

«وثانيا» ان قول التوراة الرائجة فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى غدا عيد الرب قد بتره المتكلف عند نقله لهذا المقام ليموه اعتذاره البارد بأن هارون طلب من بني اسرائيل أقراط الذهب ليصرفهم ويماطلهم في مطلوبهم الى أن يأتي موسى.

أجل فلما ذا فعل وصنع العجل الذي أرادوه إلها؟ أو ليس اللازم على المؤمن فضلا عن النبي الرسول أن يبذل نفسه وما يعز عليه في المحاماة عن التوحيد ، ولما ذا لما سمعهم يقولون عنه هذه آلهتك يا اسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ورأى عكوفهم عليه على انه إله بنى مذبحا أمامه ودعى للعيد.

وان المتكلف هل يحصر العبادة بوضع خاص أو قول خاص ، أو ليس من الواضح ان أولاها وأظهرها القول والاعلام بأن هذا إله ، ثم التطوع له وترتيب آثار الالوهية ، وقد نسبت التوراة الرائجة كل هذا لهارون.

فيا أيها الذين لا يجوزون كذب النبي في التبليغ ، ولا يجوزون على الله أن يرسل النبي الكاذب في تبليغه كيف جوزتم على النبي الرسول أن يصنع وثنا لمن يدعوه إلها ويدعو الى الشرك بالله وعبادة الأوثان ويعين عليهما بفعله وجعلتم ما تضمن ذلك من الوحي والالهام.

وليت شعري كيف يجتمع هذا الذي تذكره التوراة في شأن هارون مع ما ذكرته قبل ذلك من تكليم الله لموسى في شأن هارون أيضا وزيادة عنايته به في استخدامه زيادة على النبوة والرسالة بتوظيفه للكهنوت والرئاسة الدينية للتقديس وتكفير الخطايا وتعليم الشريعة وسدانة خيمة الاجتماع وزاد في العناية بالتفصيل الضافي لثياب كهنوته للمجد والبهاء وتلوينها وتزيينها وترصيعها وكان هذا التكليم المطنب على طور سينا في صعود موسى الذي تذكر التوراة ان هارون صنع في أثنائه العجل إلها لبني اسرائيل وعبده ودعا لعبادته حينما ابطأ موسى في النزول من الجبل «انظر الى الثامن والعشرين من الخروج بتمامه ولاحظه مع «خر ٢٤ : ١٢ ـ ٣٢ : ٩».

١٣٧

واسأل المتكلف هل كان الله يعلم حينئذ بما يصنعه هارون من العجل وعبادته والدعوة إليها وتساهل معه أو تقول غير ذلك تعالى الله علوا كبيرا.

وكيف ثم كيف يجوز العقل والعقلاء أن يرسل الله رسولا ويوظفه لخدمته في الوظائف العظيمة وحفظ شريعته ويؤيده بإظهار عنايته به مع أن ذلك الرجل يساعد على الضلال والشرك ثم يظهره أو يعتقده ويدعو إليه ويغوي المؤمنين.

أترى ان واحدا من ملوك الدنيا يعتني هذه العناية بمن يعلم أنه يضل رعيته ويهيأ لهم التمرد على شريعته وسلطانه ، أو ليس أهون من ذلك أن يكون الرسول موحدا في الظاهر والباطن محافظا على التوحيد والدعوة إليه ولكنه يكذب قليلا أو كثيرا في تبليغ الأحكام التي لا تضر بأصل الايمان وجوهر الشريعة.

ومن الظرائف فرار بعضهم كصاحب ميزان الحق الى انكار نبوة هارون ورسالته فكابر في ذلك ما ذكرنا من صراحة العهدين.

ولقد صرف المتكلف فيما نحن فيه كلاما كثيرا لا ينفعه حتى في المغالطة انظر الى «يه ١ ج ص ٣٦ و ٣٧».

واستشهد أيضا حيرة منه بآيات كثيرة من القرآن الكريم تنقض عليه بصراحتها غرضه.

ومنها قول الله جل اسمه في سورة طه ٨٧ ـ ٩٥ وآخرها قوله تعالى : (وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى).

أفترى المتكلف توهم من هذه الآيات وخصوص الأخيرة ان معناها ان هارون صنع العجل إلها لبني اسرائيل واجابة لطلبهم ذلك منه ، وبنى مذبحا ودعى الى العيد.

ثم ان المتكلف لما شعر بارتباكه في هذا المقام ولم يجد من طول كلامه طائلا فر الى الانتقاد بوهمه على القرآن ورسول الله ونسب «يه ١ ج ص ٣٧» الخلط والغلط بتسميته صانع العجل المذكور بالسامري وجعلها من الجهل التام

١٣٨

بالتاريخ وبعلم توقيع البلدان وادعى بغفلته «يه ٢ ج ص ٥٥» انه لم يكن في عصر موسى شيء يقال سامرة ولا سامرى.

فأقول : والذي دعى المتكلف الى هذا التهور والاقدام ما في السادس عشر من الملوك الاول في التراجم العربية الجديدة في ذكر عمري ملك اسرائيل الذي ملك بعد سليمان بن داود بخمسين سنة تقريبا (٢٤) ، واشترى جبل السامرة من شامر بوزنتين من الفضة وبنى على الجبل ودعى المدينة التي بناها باسم شامر السامرة ، فأضاف المتكلف الى ذلك بوهمه مقدمتين احداهما انه لم يقع في خلق الله في جميع الأمكنة والأزمنة منشأ للتسمية بالسامري حتى بنى عمري مدينته المذكورة ، «وثانيهما» ان القرآن تبع في تسميته صانع العجل بالسامري لما ذكرناه عن الملوك الاول ، وان دعوى هاتين المقدمتين لتحتاج الى الإلهام ولعل المتكلف يدعيه ولم يختص بهذا بل سبقه إليه المتعرب «ذ ص ٥٠» فادعى انه لا يمكن أن يكون في بني اسرائيل على عهد موسى سامري وان هذا النعت لم ينعت به إلا بعد جلاء بابل.

إذا سمعت هذا فاعلم انه كل ما جاء في العهد القديم من اسم السامرة المذكورة فإنما لفظه في الأصل العبراني «شمرون» ، وعلى ذلك جرت النسخة الفارسية المطبوعة في ادن برغ سنة ١٨٤٥ و ١٨٤٦ حتى في العهد الجديد الذي ترجمه هنري مارتن ، وعليه أيضا جرت النسخة العربية المطبوعة سنة ١٨١١ م في العهد القديم منها. والترجمة العبرانية للعهد الجديد وجرت على نهج الأصل العبراني للعهد القديم فسمت السامري «شمروني» ، والسامرية «شمرونيت» والسامريين «شمرونيم» ، «انظر أقلا مت ١٠ : ٥ ويو ٤ : ٤ و ٩ و ٨ : ٤٨».

ولا بدّ أن يتضح لك من ذلك ان سامرة وسامر تعريب شمرون في اللغة العبرانية ، وسامري تعريب شمروني ، وسامريين تعريب شمرونيم.

وحينئذ فاعلم انه لا ينحصر وجه التسمية بالسامري بالنسبة الى ما بناه عمري بعد زمان سليمان ، بل ان من المدن التي افتتحها يوشع بن نون ووقعت في سهم سبط زبولون مدينة شمرون ، وكان لها ملك فلا بد أن تكون موجودة

١٣٩

في عصر موسى لقرب الزمان «انظر الى يش ١١ : ١ و ١٢ : ٢٠ و ١٩ : ١٥» فيكون تعريبها سامرة ، والمنسوب إليها سامري ، وهذا كاف في جهل المتكلف والمعرب.

ويبقى السؤال على كثير من تراجم العهدين بالعربية ، وهو أنه لما ذا عربوا شمرون مدينة عمري بالسامرة وتركوا في التعريب شمرون التي افتتحها يوشع في تراجمهم على حالها.

دع هذا فحقيقة الحال ان من أولاد يساكر ابن يعقوب من اسمه «شمرون» «تك ٤٦ : ١٣ وعد ٢٦ : ٢٤ وأي ٧ : ٢١».

وكان بنوه من عشائر بني اسرائيل المعدودين في الجند على عهد موسى وسميت عشيرتهم في الأصل العبراني «هشمرونيم» «عدد ٢٦ : ٢٤» وبمقتضى ما ذكرنا من التعريب يكون اسمهم في العربية السامريين وواحدهم سامري ، ولئن تهازل المتكلف معجبا بعلمه ومعارفه.

وقال «يه ١ ج ص ٣٧» لا نعلم من أين أتى هذا السامري هل نزل من السماء أم طلع من الارض؟

قلنا إنا لنعذرك في مبلغ اطلاعك وتهوراتك ونخبرك بمقتضى العهد القديم انه جاء من سبط يساكر من عشيرة «هشمرونيم» باللفظ العبراني والسامريين بالعربي.

١٤٠