الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

الشيخ محمد جواد البلاغي

الهدى إلى دين المصطفى - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد جواد البلاغي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

اغفالا ان الله لم ينزل شريعة على القدماء وكيف تتفوه وتقول؟.

«يه ١ ج ص ١٨ س ١٦» قد استفاق نوح من سكره ، ولم يعد الى هذه الخطيئة.

قل عن أي كتاب إلهامي تنقل ذلك؟ أفتدعي أنت الإلهام لنفسك؟ أم جاءك نوح وتاب على يدك من شربه للخمر؟

وأما قولك : فأنت ترى انها كانت جائزة ، والتوراة والإنجيل ناطقان بأنها حرام قطعا.

فلما ذا غفلت أو تغافلت عن اضطراب التوراة والإنجيل في هذا الشأن فإنهما وان وجد في مضامينهما ما يعطي حرمتها وقبحها سيما بالنسبة للأنبياء كما سنسجله إن شاء الله في المقدمة العاشرة في موانع النبوة.

ولكن فيهما ما يناقض ذلك وينقض عليك قولك هذا.

قل فما معنى الأمر في شريعة تقريب القرابين أن يسكبوا معها سكيب خمر للرب «انظر أقلا خر ٢٩ : ٤٠ ولا ٢٣ : ١٣ وعد ١٥ : ٥» وسكيب مسكر للرب «عد ٢٨ : ٧» ، وأكد حكم السكيب في التاسع والعشرين من العدد وغيره أكثر من عشر مرات.

وكيف يكون الحرام قربانا لله؟ وكيف يأمر الله شعبه بأن يعدوا للقرابين شيئا محرما وجوده مجلبة للغواية والشرور والفساد بل الرحمة وحكمة اصلاح الناس يقتضيان الأمر بإعدامهما عن أعينهم خصوصا بني اسرائيل الذين لا حاجز لهم من تقواهم عن التمرد على الله كما عرفت في المقدمة الخامسة.

وأيضا ما معنى دعاء موسى على بني اسرائيل ان لم يعمل بوصايا الله بقوله في الثامن والعشرين من التثنية ٣٩ كروما تغرس وتشتغل وخمرا لا تشرب ولا تجنى لأن الدود يأكلها (٥١) ولا تبقى لك خمرا ولا قمحا ولا زيتا».

وأيضا ما معنى دعائه لهم بالبركة في قوله في الثالث والثلاثين من التثنية (٢٨) تكون عين يعقوب الى أرض حنطة وخمر وسماؤه تقطر ندى.

١٠١

فهل يكون هذا كله مع كون الخمر محرمة ، أو ليس يعطي هذا انها من النعم المباحة ومتاعهم الشهي حتى يدعى عليهم بفقدانها ويدعى لهم بوجدانها.

وما معنى ما يذكر من أن داود النبي قسم على كل واحد من رجال بني اسرائيل رغيف خبز وكأس خمر وقرص زبيب «٢ صم ٦ : ١٩ و ١ أي ٦ : ٣» ، وما وجه اهداء زق الخمر الى داود «٢ صم ١٦ : ١» ، وما وجه اسكاره لاوريا «٢ صم ١١ : ١٣» أفلا يصح الاحتجاج بذلك لجواز شرب الخمر كما ينقل عن المسيح الاحتجاج لجواز أكل تلاميذه من الزرع في يوم السبت بأكل داود من خبز التقدمة الذي لا يحل الا للكهنة «مت ١٨ : ١ ـ ٥».

وأيضا ما معنى المنقول من جلوس المسيح ووالدته وتلاميذه في قانا الجليل في مجلس العرس الذي تسكب فيه الخمر وتدار الراح في الأقداح حتى يفعل السكر بالألباب ما يفعل ، وينال من العقول ما ينال ، ولم يكف ذلك حتى طلبت منه والدته اذ نفذ الخمر أن يصنع لهم بمعجزة خمرا ، فعمل لهم ستة أجران من الخمر الجيد وسقوا منه ، وكان ذلك بعد أن اعتمد من يوحنا بمعمودية التوبة ، ونزل عليه الروح القدس ، وتبعه اندرواس وبطرس وننثائيل ، وفيلبس «انظر الى ثالث متى والثاني والثالث من يوحنا».

وأيضا ما معنى المنقول عن كلام المسيح في شأن جيله في سابع لوقا (٣٢) يشبهون أولادا جالسين في السوق ينادون بعضهم بعضا ويقولون زمرنا لكم فلم ترقصوا نحنا لكم فلم تبكوا ٣٣ لأنه جاء يوحنا المعمدان لا يأكل خبزا ولا يشرب خمرا فتقولون به : شيطان (٣٤) ، جاء ابن الانسان يأكل ويشرب فتقولون : هو ذا انسان أكول ، وشريب خمر ، ونحوه في حادي عشر متى.

أو ليس صريح هذا الكلام وفحواه ان المسيح ـ وحاشاه ـ كثير الشرب للخمر المسكر بخلاف يوحنا.

وأيضا ما معنى المنقول من قوله لتلاميذه بعد أن شرب من الكأس وأعطاها لهم ، وأقول لكم من الآن : لا أشرب من نتاج الكرمة هذا الى ذلك

١٠٢

اليوم حينما أشربه معكم جديدا في ملكوت أبي «مت ٢٦ : ٢٩ ومر ١٤ : ٢٥ ولو ٣٢: ١٨» حيث عبر عن الخمر في هذا الكلام بعد أن شربها تعبير الشريب المغرم بها المودع لها المتألم على فراقها.

وأيضا ما معنى المنقول عن الرسل من حصرهم اللازم على الامم باجتناب ما ذبح للأصنام والدم والمخنوق والزنا «اع ١٥ : ٢٩».

وان اقترحت فوق هذا من صراحة العهدين ففي ثاني عشر التثنية (١٧) لا يحل لك أن تأكل في أبوابك عشر حنطتك وخمرك وزيتك ـ (١٨) بل امام الرب إلهك تأكلها في المكان الذي يختاره الرب.

وفي رابع عشر التثنية (٢٣) وتأكل امام الرب إلهك في المكان الذي يختاره ليحل اسمه في عشر حنطتك وخمرك وزيتك (٢٤) ، ولكن اذا طال عليك الطريق حتى لا تقدر أن تحمله ـ (٢٥) فبعه بفضة وصر الفضة في يدك واذهب الى المكان الذي يختاره الرب إلهك (٢٦) وانفق الفضة في كل ما تشتهي نفسك من البقر والغنم والخمر والمسكر وكل ما تطلب منك نفسك ، وكل هناك امام الرب إلهك وافرح أنت وبيتك.

حتى جرى اليهود بعد رجوعهم من سبي بابل على تقديم رفائع الخمر ، وعشر الخمر الى بيت المقدس حسب الشريعة «انظر نح ١٠ : ٣٧ و ٣٩ و ١٣ : ١٢».

فإن قلت لا أكتفي بهذه الصراحة حتى يحضر الاله في مجلس الشرب ويسقي الناس الخمر بمجلس أنبيائه ورسله.

قلت : ان مزاعمك تقتضي وقوع ذلك فإن الذي زعمت في مقدمة الجزء الأول من كتابك وغيرها أنه الاله الذي توشح الطبيعة البشرية ليرفع قدرها قد ذكر الكتاب الذي تحامى عن الخدشة في الهاميته انه قد جلس في قانا الجليل في مجلس الشرب والسكر هو وعدة من رسله وسقى الناس زيادة على خمرهم اذ عمل لهم بمعجزة ستة أجران من الخمر .... اللهم اني أعوذ بقدسك وجلال وجهك من التعرض لمثل هذا لغير الجدل الذي تدعو إليه ضرورة الوقت ،

١٠٣

ومعارضة فلتات الأوهام ارشادا لعبادك المغرورين الى الهدى والصواب.

فأقول للمتكلف ليعتبر السامع :

أفتقول ان التوراة والإنجيل ناطقان بأن الخمر حرام قطعا ويكون كل هذا فيهما؟ أم تقول : ان هذا كله مدسوس في العهدين ليس من الوحي وكلام النبوة في شيء؟ أم تقول : ان العهدين غير خاليين من التناقض والاضطراب والتهافت.

وأما قوله المتكلف «يه ١ ج ص ١٤» ، أما المسيح فلم يشرب «أي من الخمر» إلا شيئا لا يعتد به في عيد الفصح مرة في السنة حسب شريعة موسى.

فهو قول مخالف للأناجيل الرائجة في دلالتها على أن المسيح وحاشاه شريب خمر كما تقدم أي كثير الشرب لها ، وكونه حضر مجلس العرس المعقود لشرب الخمر وعربدة السكر هو وعدة من تلاميذه وزادت في الطنبور نغمة إذ ذكرت انه عمل لهم بطلب والدته ستة أجران من الخمر الجيد ، وحاشا قدسه من هذا كله.

وأيضا أين يوجد من شريعة موسى حكم شرب الخمر في عيد الفصح ، أو ليست التوراة الرائجة هي التي يزعمون انها كتاب شريعة موسى ، وان كل ما لم يذكر فيها لا حقيقة له.

وأما قول المتكلف عقيب كلامه المتقدم ، فكان كل واحد من بني اسرائيل يشرب شيئا طفيفا لا يعتد به في هذا العيد تذكارا لمراحمه تعالى.

فيحق أن يقال فيه ان سكر بني اسرائيل الذي استغاث منه أشعيا النبي في الثامن والعشرين من كتابه ، وذكر أن الأنبياء والكهنة ابتلعتهم الخمر وتاهوا من المسكر حتى ضلوا في الرؤيا وقلقوا في القضاء ، أيضا كان كله تذكارا لمراحمه تعالى.

وعبد بنو اسرائيل العجل تذكارا لمراحمه تعالى ، وزنوا ببنات مواب وذبحوا لآلهتهن تذكارا لمراحمه تعالى ، وعبدوا البعل والعشتاروت وآلهة الكنعانيين

١٠٤

وغيرهم تذكارا لمراحمه تعالى ، وذبحوا أولادهم للأصنام تذكارا لمراحمه تعالى ، وجعلوا بيوت المأبونين عند بيت الرب تذكارا لمراحمه تعالى وخربوا بيت المقدس ونجسوه تذكارا لمراحمه تعالى ، وتمادوا على ارتداداتهم وأحوالهم المذكورة في المقدمة الخامسة تذكارا لمراحمه تعالى ، وأظرف من هذا كله أن المتكلف كان شاعرا بما في العهدين من تلويث قدس الأنبياء وخصوص المسيح بشرب الخمر فحاول أن يموه على البسطاء المغفلين ويلوث قدس خاتم المرسلين بشربها فتشبث لذلك بأخبار آحاد لم يتحقق سندها ولم يفهم مدلولها ، ولو أنها صحت وكانت لها مداخلة في اصول الدين لكانت أجنبية عن مقصوده الممتنع عليه.

فقال «يه ١ ج ص ١٣» ان محمدا شرب الخمر ، وذكر عن ابن عباس ان رسول الله «ص» أتى السقاية في مكة وقال اسقوني من هذا فقال العباس : ألا نسقيك مما في البيوت؟ فقال «ص» : لا ولكن اسقوني مما يشرب منه الناس فأتى بقدح من نبيذ فذاقه فقطب ثم قال هلموا وصبوا فيه الماء ، ثم قال : زد فيه مرة أو مرتين أو ثلاثا ، ثم قال إذا صنع أحد منكم هكذا فاصنعوا به هكذا.

وذكر عن ابن مسعود ان رسول الله «ص» عطش وهو يطوف بالبيت فأتى بنبيذ من السقاية فشمه ثم دعا بذنوب من ماء زمزم «أي دلو» فصب عليه ثم شربه فقال له رجل : أحرام هذا يا رسول الله؟ فقال لا.

وقد غفل المتكلف أو تغافل عن ان اسم النبيذ مأخوذ من النبذ وهو الطرح ، قد كان النبيذ على قسمين :

«أحدهما» أن يطرح التمر أو الزبيب في الماء في الأواني التي تصبر على التمادي إلى أن يبلغ حد الإسكار كأواني الدبا وهو القرع اليابس والمزفت وهي أوان تطلى بالزفت ، والحنتمة وهي أوان خزفية تدهن بالقلى ونحوها فيترك زمانا طويلا الى أن يبلغ حد الإسكار.

«وثانيهما» ان ماء الحجاز كان مرا مضرا فيطرح فيه لمداواة طعمه وطبعه ما يتمكن الاعرابي منه في ذلك الزمان وهو قليل من التمر فإن ترقى فالزبيب

١٠٥

بمقدار الكف أو أقل يطرحونه في السقاء غدوة فيشربونه عشيا ويطرحونه عشيا ، فيشربونه غدوة ، حينما يؤثر طعم التمر أو الزبيب في الماء حلاوة ما.

وقد تضافرت الاخبار الكثيرة بأن رسول الله «ص» كان ينهى عن نبيذ الدبا والمزفت والحنتمة بسبب أنه يصبر عليه حتى يبلغ حد الإسكار ، ويرخص في نبيذ الأسقية وهو أن يطرح في السقاء كف ونحوه من التمر أو الزبيب فيشرب في يومه أو صبيحة ليلته حينما يطيب طعم الماء بحلاوة التمر أو الزبيب لأن أسقية البيوت لا تحتمل أن تشغل زمانا طويلا بالنبيذ ، ولا تقوى على بقائه الى أن يختمر ويتعفن ويبلغ حد الإسكار.

انظر الى مسند أحمد وغيره من كتب الحديث ، فعلى المتكلف في تشبثه بما ذكر من الحديثين ان صحافي الجامعة الإسلامية ان يعين دلالتهما على أن النبيذ المذكور فيهما كان من القسم المسكر المخمر لا الذي ذكرنا انه يطرح فيه قليل من التمر أو الزبيب لمحض تطييب طعم الماء على عادة أهل الحجاز.

ونحن نقول : ان المتعين كون النبيذ فيهما من هذا القسم ، لا القسم المسكر لوجوه :

أولها : انه لو كانت في مكة مصانع للنبيذ المسكر كمصانع اوروبا لما وسعت كفاية الالوف العديدة من الحجيج في الأيام الكثيرة وهو يعطي مجانا لهم ، وكيف يقوى العباس على ذلك؟

وثانيها : ان السقاية في مكة كانت لإرواء الحجيج من العطش لا أنها حانوت خمار.

وثالثها : ان هذه الواقعة إن كانت فإنما تكون بعد فتح مكة في أواخر أيام النبي «ص» ، ومقتضى الأخبار التي يذكرها المتكلف «يه ١ ج ص ٢٣ و ٢٤» ان الخمر حرمت في أوائل الهجرة.

وفي ما ذكره عن ابن مسعود ان رسول الله «ص» قال فيما شربه انه ليس بحرام ، مع ان حرمة النبيذ المسكر كانت حينئذ مقررة معلومة في الإسلام.

١٠٦

ورابعها : الذي يكشف الحجاب ما صح نقله عن جعفر الصادق وهو الإمام السادس من أهل البيت حيث قال في نبيذ السقاية : ان العباس كانت له حبله وهي الكرم ، فكان ينقع الزبيب غدوة فيشربونه بالعشي وينقعه بالعشي ويشربونه غدوة يريد أن يكسر به غلظ الماء على الناس.

وأما سر تقطيبه صلوات الله عليه في رواية ابن عباس فليس لأن النبيذ الذي اعطي له كان من القسم المسكر ، بل لأن حلاوة التمر والزبيب كانت زائدة على المتعارف من نبيذ الأسقية ، فان الحلاوة إذا ظهر أثرها مع مرارة الماء كانت من المهوعات فزاد عليها من الماء إلى أن ردها إلى النحو المتعارف ، وأرشدهم إلى أن هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه هذا النحو من المشروب لإصلاح طعم الماء.

ولو تنزلنا وفرضنا ان النبيذ المذكور في الروايتين كان من القسم المسكر لكانتا دليلا على أنه صلوات الله عليه كان يعاف المسكر ويشمئز ويقطب وجهه الشريف منه ولم يشربه حتى أخرجه عن موضوعه وصورته بإراقة الماء الكثير عليه ... أفبهذا يتشبث الكاتب ويقول بملء فمه ومهوى قلمه ان رسول الله «ص» شرب الخمر.

وقد فات المتكلف الشنب فإن في أخبار الآحاد التي لا تقيم لها الجامعة الإسلامية وزنا ما يساعفه على مقصوده بعض المساعفة ، فقد روى في مسند أحمد ان رجلا كان إذا قدم المدينة أهدى لرسول الله «ص» خمرا فقدم مرة ومعه زق خمر ليهديه إلى رسول الله «ص» فقيل له : ان الخمر قد حرمت ولكن ما ذا يعمل الوهم من هذا الخبر في مقابلة متواترات الآثار ومعلومات السير بأن قدس رسول الله لا تحوم حوله هذه الأوهام.

وقد جاء عنه صلوات الله عليه في مستفيض الحديث من طريق أهل البيت قوله «ص» : أول ما نهاني عنه ربي شرب الخمر وعبادة الأوثان ، وكفاك أن مشركي قريش والعرب قد تمحلوا في تكذيب رسول الله «ص» وكابروا الوجدان وغالطوا العيان بدعواهم انه صلوات الله عليه مجنون ولو أنه صلوات

١٠٧

الله عليه كان يمكن أن يرمي بشرب الخمر والمسكر لتيسر لهم أن يقولوا بلا مكابرة للوجدان ان ادعاءه «ص» للرسالة والوحي إنما هو من سورة الخمر وعربدة السكر وخيالات الخمار ، ولكنه كان صلوات الله عليه ولم يكن لقائل فيه مغمز ، فيا ذا الرشد والفكر الحر الذي لم يستأسر للعصبية والتقليد.

سألتك بفضيلة الصدق وشرف النفس هل كان من الرشد وأدب المكاتب أن يتغاضى هذا المتكلف عما لوثت به الكتب الإلهامية في نحلته قدس الأنبياء وخصوص المسيح بشرب الخمر وحضور مجلس السكر صريحا ويتشبث لتلويث قدس رسول الله بهذه الأوهام ، ولقد شذ بنا الكلام عن وضع المقدمة ولكنه بفضل الله لم يشذ عن إحقاق الحق والهدى إلى الرشد.

١٠٨

الفصل الثالث

في شأن ابراهيم وما قيل فيه

أما رسالته ففي القرآن الكريم بقوله تعالى في سورة الحديد ٢٦٠ (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ) ، وقوله تعالى في سورة مريم ٤٢ (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) ، وقوله تعالى في سورة البقرة ١١٨ : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).

وأما دينه وايمانه فيكفي فيه من القرآن قوله تعالى في سورة الانعام ١٦٢ (قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

وأما كتابه وبعض مضامينه ، فقد أشار إليه بقوله تعالى في سورة النجم ٣٧٠ : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى) ٣٨ (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي) وفي ـ ٥٦ وفي سورة الأعلى عند ذكر بعض المضامين العالية ١٨ (إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى).

وفي ثاني عشر التكوين (١) ، وقال الرب لابرام : اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي اريك (٢) فأجعلك امة عظيمة واباركك واعظم اسمك وتكون بركة ، (ومقتضى الأصل العبراني : وكن بركة) (٣) ، وابارك مباركيك ولا عنك اللعنة وتتبارك فيك جميع قبائل الامم.

وفي سابع الأعمال عن قول استفانوس «٢ ـ ٤» ان هذا الخطاب كان

١٠٩

حينما كان إبراهيم بين النهرين في أرض الكلدانيين قبل ما سكن حاران.

وفي سابع عشر التكوين «٩ ـ ١٤» وقال الله لإبراهيم وجعل له شريعة الختان وعهده ولذريته وخدمه وعبيده.

وفي الثامن عشر عن قول الله (١٩) لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا وعدلا.

وهذا هو حقيقة الرسالة في هذا المقام ، ويوضح أمرها ما في السادس والعشرين من التكوين عن قول الله لإسحاق (٥) من أجل ان إبراهيم سمع لقولي وحفظ ما يحفظ لي أوامري وفرائضي وشرائعي.

وفي العشرين من التكوين عن قول الله لأبي مالك (٧) ان ابراهيم نبي وفي العهدين خليل الله «٢ أي ٢٠ : ٧ واش ٤١ : ٨ ويع ٢ : ٢٣».

وأما ما ذكر في شأنه فقد قال الله في القرآن الكريم في سورة الانعام ٧٥ (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) ٧٦ (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) ٧٧ ، (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) ٧٨ ، (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ).

قال المتكلف «يه ١ ج ص ٢٠» ان عبارة القرآن ناطقة بوقوعه «يعني ابراهيم» في عبادة الاصنام.

فأقول : ان الآيات واضحة الدلالة على ان رؤية ابراهيم للكواكب وملكوت السموات والأرض كانت أول رؤية منه لها فقال ما ذكره القرآن فأما ان يعتمد في ذلك على ما روى من أن أمه ولدته في مغارة خوفا عليه من النمرود فلما ترعرع خرج من المغارة فرأى الكوكب إلى آخر المذكور ، أو انها أول رؤية كانت في ابتداء تمييزه حال طفوليته الذي التفت به إلى عظمة شأن العالم العلوي وأجرامه وفضيلة اشراقها ونورها ، فان الله علم منه ان فطرته السليمة في أول تمييزه قد أشعرته بأن له إلها صانعا وربا معبودا ، ولكنه بعد لم يوصله التدرب

١١٠

بالنظر والتقدم بالتمييز إلى حق المعرفة ليقف عندها على اليقين ، فرحمه‌الله ولطف به وأراه ملكوت السموات والأرض ليكون بالتدبر والتدرب في النظر من الموقنين بالله ، فصار ينظر عند رؤيتها بالنظر الصائب ، ويسير متدرجا إلى حق المعرفة على جادة الصواب فأدرك فضل العالم العلوي على السفلي ، ثم أدرك فضل النير على غيره ، فإذا رأى الكوكب النير وقفت به الطفولية وعدم التقدم بالتمييز عنده فلما أفل الكوكب سدده فكره فقال : لا أحب الآفلين ولا يكون الإله متغيرا ، ولما رأى القمر بازغا مشرقا يفوق نوره نور الكوكب وقفت به الطفولية أيضا عنده فلما أفل أدرك انه ضال في نظره ، فطلب الهدى من إلهه : فلما رأى الشمس بازغة بنورها الباهر وقفت به الطفولية أيضا ، فلما أفلت أوصله التدبر إلى الحق اليقين من العرفان وخالص الإيمان ، حتى لم يمض له يومان من أول تمييز الطفولية.

ويمكن ان يكون وقوفه المذكور وقوف شك وحيرة واستعلام فيكون قوله : هذا ربي على سبيل الاستفهام ، وقد اسقط حرف الاستفهام من الآيات جريا على المتعارف من لسان العرب ، كما يشهد له الكثير من شعرهم ونثرهم ، والأقرب ان وقوفه المذكور كان وقوف فرض وتقدير إلى أن يحصل له من النظر ما يكشف عن الحق المبين ، وعلى كل حال لم يقع من إبراهيم الشرك القبيح المعاقب عليه حتى لو قلنا : بأن ما ذكرناه في شأنه كان في زمان مهلة النظر عند أول التكليف بالمعرفة ، فإن الإنسان لم يخلق عارفا بالله من أول أمره ، بل جعل الله له النظر لتحصل له فضيلة الجهاد في سبيله.

فإن قلت : من أين لك هذه الوجوه في الآيات؟ وهل هي إلا احتمال وتخمين؟.

«قلت» : يدل عليها سوق الآيات والمتكرر في القرآن من قوله تعالى في وصف إبراهيم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).

ثم أقول : هب ان هذه الوجوه احتمالات لا دليل عليها ، ولكن مع قيامها كيف يتجه للمتكلف أن يقوم غير متأثم ان عبارة القرآن ناطقة بوقوع ابراهيم في عبادة الأصنام.

١١١

وقال الله تعالى في سورة البقرة ٢٦٢ : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

فقال المتكلف في هذا الشأن «يه ١ ج ص ٢٠ س ٤» القرآن ناطق بأنه يعني ابراهيم شك في قدرة الله.

أقول : ليت شعري أين سمع المتكلف وبصره وقلبه عن قول ابراهيم بلى ولكن ليطمئن قلبي ، أفيشك عاقل بأنه إذا اجتمع العقل والحس على أمر كان أوقع في النفس وأثبت في الاعتقاد وأدخل في الاطمئنان من المعقول الصرف ، وصريح الآية ان ابراهيم كان يطلب هذه المرتبة من الاطمئنان والإيمان الكامل ، وان كان إيمانه بقدرة الله ثابتا ، ولأجل إيمانه وخلوص بيته في طلب الاطمئنان ، وأكمل أفراد الإيمان أعطاه الله مراده فقال تعالى له : خذ أربعة من الطير فصرهن أليك الآية.

فانظر يا ذا الرشد والفكر الحر إلى ما ذكرناه في القرآن الكريم وإلى ما في الخامس عشر من التكوين (٧) وقال له : «أي الله لإبراهيم» أنا الرب الذي اخرجك من أور الكلدانيين ليعطيك هذه الأرض لترثها (٨) فقال أيها السيد الرب بما ذا أعلم اني أرثها؟

وقل أي المقامين أولى بأن يكون شكا في قدرة الله وصدقه في وعده.

فهل هو ما ذكر في القرآن الكريم من طلب ابراهيم الاطمئنان وأعلى مراتب الايمان زيادة على إيمانه المطلوب في شأن المعاد العظيم أمره؟ أم هو ما ذكر في التوراة في شأن اعطاء الله أرض الكنعانيين لابراهيم ليرثها فقال ابراهيم : بما ذا أعلم اني أرثها؟

فإنه صريح في انه لا يحصل له العلم بمجرد قول الله بل يحتاج في ذلك إلى شاهد يوجب له العلم بقدرة الله على ذلك أو صدقه في وعده مع ان اعطاء الأرض لقوم بدل آخرين أمر سهل على التصديق.

ثم انظر أيضا استطرادا وتتميما لمتعلقات المقام في انتظام البرهان المذكور في القرآن على إحياء الموتى لأجل اطمئنان ابراهيم ومناسبته للمبرهن عليه بقوله

١١٢

تعالى : (فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) ، حيث أقام جل شأنه الحجة الحسية على إحياء الموتى بعد تفرق أوصالهم بإحياء الطيور بعد موتها وتفرق أوصالها على النحو العجيب والاعجاز الباهر.

وأمعن النظر في البرهان المذكور في خامس عشر التكوين ليحصل العلم لابراهيم بصدق وعد الله له بأنه يرث أرض كنعان وقدرته على ذلك (٩) فقال له : خذ عجلة ثلثية ، وعنزا ثلثية ، وكبشا ثلثيا ، ويمامة وحمامة (١٠) فأخذ هذه كلها وشقها من الوسط وجعل شق كل واحد مقابل صاحبه ، وأما الطير فلم يشقه (١١) فنزلت الجوارح على الجثث فكان ابرام يزجرها.

وقل : ما ذا يفهم من مداليل هذه الفقرات من حاصل أمر الله وبرهانه على صدقه في وعده وقدرته وأي نتيجة فيها مناسبة للمقام ، أفلا تجدها حكاية بتراء لا يفهم لها أول من آخر ، ولا حاصل ولا فائدة ، أفهكذا كلام الله العليم الحكيم؟

هذا وأما ما تشبث به المتكلف «يه ١ ج ص ٢٠ س ٧» من الرواية عن قول رسول الله نحن أولى بالشك من ابراهيم ، فيكفي في ردها مخالفتها لنص الكتاب بإيمان ابراهيم في قوله تعالى : (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) فهذه الرواية كلا شيء.

وقال الله تعالى في سورة الأنبياء ٦٣ : (قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) ٦٤ (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ).

فقال المتكلف : «يه ١ ج ص ٢٠ س ٧» ، ورد في القرآن انه «يعني إبراهيم» كذب.

قلنا : ان قول ابراهيم بل فعله كبيرهم لم يخرج مخرج القطع والاخبار الجدي ، بل هو للتوبيخ والتبكيت إذ هو معلق على قوله إن كانوا ينطقون وحاصله توبيخ المشركين على عبادة الاصنام ، ومعناه ان أصنامكم إن كانوا ينطقون ويملكون حراكا فقد فعله كبيرهم إذ لا وجه لنسبة هذا الفعل إلى دونه

١١٣

مع عدم المشاهدة وإن كانوا جمادا فلم تعبدون جمادا لا ينطق؟

ومن المعلوم ان الخبر المعلق على أمر يعلم المتكلم والمخاطب انه غير واقع ليس خبرا جديا حتى يقال انه صدق أو كذب.

«فإن قلت» : ان هذا احتمال محض في الآية ، «قلت» : أولا كونه احتمالا كاف في بطلان قول المتكلف وورد في القرآن ان ابراهيم كذب.

«وثانيا» ان دلالة العقل والنقل على عصمة النبي تعين دلالة الآية عليه ، وكونه المراد منها خصوصا مع صلاحية التركيب بدون تجوز أو خروج عن القانون.

وأما الرواية التي ذكرها المتكلف في كذب ابراهيم ثلاث مرات فلا يصح بها الجدل للمسلمين لما ذكرناه في المقدمة السابعة.

وقال الله تعالى حكاية عن ابراهيم في سورة الصافات ٨٦ : (فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ ٨٧ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ) ، وقد تشبث المتكلف هاهنا «يه ١ ج ص ٢٠» برواية استنتج منها ان ابراهيم فعل حراما بنظره في علم النجوم وكذب بقوله اني سقيم.

ولا يخفى ان الرواية لا يصح بها الجدل للمسلمين في جامعتهم بحكم المقدمة السابعة ، أما الآية الاولى فلا تدل إلا على أن ابراهيم نظر نظرة في النجوم لا في علمها الذي لا يعلم انه هل كان في زمانه محرما حتى عليه أم لا ، ولعلما كان نظره في النجوم نظر تفكر وتأمل في شأنه كما هو المعتاد للمتفكرين في شئونهم من نظرهم إلى السماء وإلى الأرض ونحو ذلك ، كما يحكى عن المسيح لما أتاه اليهود بالزانية ليرجمها انحنى إلى الأسفل وكان يكتب باصبعه على الأرض «يو ٨ : ٦».

وأما قوله : اني سقيم فمن أين يعلم من القرآن انه كان كذبا ، ولما ذا لا يحمل على حقيقته.

وفي الثامن عشر والعشرين من التكوين ان ابراهيم قال عن سارة امرأته

١١٤

انها اخته لكن العشرين من التكوين عن قول ابراهيم (١٢) وبالحقيقة أيضا هي اختي ابنة أبي ، غير انها ليست ابنة امي فصارت لي زوجة.

وعلى ظاهر هذا لم يكذب بقوله انها اخته ، نعم قوله أنها اخته وسكوته عن جهة الزوجية خصوصا مع شهادة المقام بإنكار كونها امرأته ، وتعريضها لطمع الغير فيها يمكن أن يكون مما أباحته ضرورة الوقت لابراهيم حفظا لنفسه ، أو أنه كذب على الوحي لعصمة ابراهيم.

١١٥

الفصل الرابع

في ذكر إسحاق وما جاء في شأنه

أما نبوته فيكفي فيها من القرآن الكريم قوله تعالى في سورة مريم ٥٠ (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا) ، وفي سورة النساء ١٦١ : (وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ).

وفي السادس والعشرين من التكوين «٢ و ٢٤» ان اسحاق ظهر له الله وكلمه بما كلمه.

وأما ما ذكر في شأنه ففي السادس والعشرين من التكوين (٧) انه قال عن امرأته انها اخته وهو خلاف الواقع لأنها بنت ابن عمه بتوئيل ابن ناحور من ملكه بنت هاران «تك ١١ : ٢٩ و ٢٥ : ٢٠» وكان هذا القول منه مخافة من القتل فيمكن أن يكون جائزا لضرورة الوقت.

ولا يمكن أن يكون كذبا على الوحي لما ذكرناه من عصمة النبي ، وعلى هذا فلا وجه للوقيعة بقدس إسحاق لأجل هذا لإمكان أن يكون مباحا لضرورة الوقت ، ولما ذا لا يكون ذلك في أقل الأمر احتمالا مانعا لأهل الكتاب عن الاقدام على قداسة الأنبياء الصالحين ، أفلا ترى ما نقله في إظهار الحق عن القسيس وليم اسمت من علماء بروتستنت في كتابه المسمى بطريق الأولياء وكيف قد أطال لسانه على ابراهيم واسحاق من أجل ما نقل عنهما من قولهما عن امرأتيهما انهما اختاهما.

١١٦

فقال في شأن ابراهيم ص (٩٩) لعل ابراهيم لما انكر كون سارة زوجة له في المرة الاولى عزم في قلبه انه لا يصدر منه مثل هذا الذنب لكنه وقع في شبكة الشيطان السابقة مرة اخرى بسبب الغفلة.

وقال في شأن اسحاق ص (١٦٨) زل إيمان اسحاق لأنه قال لزوجته : انها اخته وص(٦٩) يا أسفا انه لا يوجد كمال في واحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير ، والعجب ان شبكة الشيطان التي وقع فيها ابراهيم وقع فيها اسحاق أيضا ، وقال عن زوجته: انها اخته فيا أسفا ان أمثال هؤلاء المقربين عند الله يحتاجون الى الوعظ.

وقال المتكلف «يه ١ ج ص ١٩» في شأن ابراهيم ولا ينكر انه ترك الاولى لضعف الطبيعة البشرية ، فالمولى سبحانه وتعالى هو الكامل وحده والنقص ملازم لكل إنسان مهما كان.

وقال في شأن اسحاق ص (٢١) فإذا كان هذا حال خليل الله وانه لم يسلم من الكذب فلا عجب إذا وقع اسحاق في ذات هذه الخطيئة فلم يقو على التجربة لضعف الطبيعة البشرية.

فأقول : ليت شعري إذ بنوا على صحة هذه القصص وانها من الوحي الصادق ، فلما ذا لم يحتملوا ان مثل هذا الكذب كان على وجه من الضرورة بحيث يكون مباحا أو واجبا على مثل ابراهيم واسحاق حفظا من الهلكة والقتل لنفس النبي الذي يفدى بجملة الناس.

هب انه لا يجوز مثله في شرعنا ولكن لما ذا لا يكون مباحا في شرع ابراهيم واسحاق خصوصا مع قولهم لم تكن شريعة للقدماء قبل موسى فينحصر تحريمه عليهم بحكم العقل بقبح الكذب وان قبحه مع الضرورة وخوف القتل على النبي غير معلوم ، ولما ذا لا يحتملون ذلك فيتقون الله من الوقيعة في قدس الأنبياء.

أفيقولون : ان الكذب بحسب كل حال وكل شريعة لا يمكن أن يكون غير قبيح وجائزا أو واجبا لأجل بعض الضرورات والدواعي الراجحة ، إذا

١١٧

فكيف أمر الله موسى وشيوخ بني اسرائيل بمقتضى نقل التوراة الرائجة أن يكذبوا على فرعون ، ويقولون له : ان إله العبرانيين التقانا فالآن نذهب سفر ثلاثة أيام في البرية لو نذبح للرب إلهنا «خر ٣ : ١٨» فعمل موسى بهذا الأمر وزاد على قول الله بقوله لئلا يصيبنا بالوباء أو بالسيف «خر ٥ : ٣» وبقوله : لأن لنا عيدا للرب «خر ١٠ : ٩» ، مع أن الغرض الحقيقي والموعد بين الله وموسى غير هذا بل هو ذهاب بني اسرائيل إلى أرض الموعد أرض الكنعانيين وما والاها وخلاصهم من عبودية المصريين «انظر إلى ثالث الخروج أقلا ٨ و ١٧».

وكأني بالمتكلف وغيره يقول : ان الغرض من سفر الثلاثة أيام ليس على ما هو المعروف من هذا التركيب ، بل المراد منه السفر الذي تقطع مسافته بالسير المتوالي الدائم في اثنين وسبعين ساعة مثلا وهو صادق على السفر إلى أرض الموعد فإن أقرب أرض الكنعانيين إلى رعمسيس منزل بني اسرائيل في مصر لا يزيد مسافته عنها على الستين فرسخا ، أي مائة وثمانون ميلا اعتياديا بكثير.

«قلت» : لئن سامحناهم في صدق ذلك وجاز من الله وموسى أن يريدا هذا الغرض المعمى من هذه العبارة البعيدة عنه جدا في المحاورات لأجل التعمية على فرعون وان فهم من الكلام ما هو المتعارف منه مما يخالف المراد فلما ذا لا يجوز لإسحاق أن يعمى مراده بقوله عن امرأته انها اخته ويريد انها اخته من حيث القبيلة والاتصال بالنسب كما سمى الادومي أخا للإسرائيلي باعتبار اجتماعهما في النسب بعيسو ويعقوب في إسحاق «تث ٢٣ : ٧».

دع هذا وقل : كيف جاز للمسيح أن يقول لاخوته حيث لم يكونوا يؤمنون به اصعدوا أنتم إلى هذا العيد ، أنا لست اصعد بعد الى هذا العيد لأن وقتي لم يكمل بعد ثم صعد الى ذلك العيد بالخفاء «يو ٧ : ١ ـ ١١».

وأما قول طريق الأولياء : لا يوجد كمال في واحد من بني آدم غير الواحد العديم النظير.

فأقول فيه : ويا أسفا ويا ليت كتبكم المنسوبة إلى الإلهام تركت قدس هذا الواحد عن التلويث ، كما سنذكر بعضه في الفصل الخامس عشر في عصمة

١١٨

وفي السابع والعشرين من التكوين (٢٥) ان يعقوب أحضر لإسحاق أبيه خمرا فشرب.

أقول : قد تقدم في الفصل الثاني في عصمة نوح ما يتعلق باضطراب المتكلف وتناقض العهدين في مسألة شرب الخمر.

فإن قال المتكلف هنا كما قال في شأن نوح ان اسحاق شرب الخمر ولما أفاق تاب من هذه الخطيئة ولم يعد.

قلنا له : يا أيها الكاتب الماهر أين توجد توبة اسحاق من العهدين؟.

١١٩

الفصل الخامس

في نبوة يعقوب وما قيل في شأنه

أما نبوته فيكفي فيها من القرآن الكريم النص عليها مع نبوة أبيه اسحاق كما تقدم في أول الفصل السابق.

وفي الخامس والثلاثين من التكوين (١) قال الله ليعقوب (٩) : وظهر الله ليعقوب (١٠) وسماه اسرائيل (١١) وقال له : وكذلك «تك ٢٨ : ١٣».

وأما ما ذكر في شأنه ففي السابع والعشرين من التكوين ما ملخصه ان اسحاق أمر عيسى ابنه البكر ان يذهب الى البرية ويتصيد له صيدا ويصنع له اطعمة كما يجب ليباركه قبل ان يموت ، فلما ذهب قام يعقوب بمشورة أمه رفقة واخذ من الغنم جديي معز وصنع لأبيه طعاما ولبس ثياب عيسى الفاخرة وألبس يديه وملاسة عنقه جلود جديي المعز ليزور على أبيه ان رقبته ويديه مشعرة على ما كانت عليه رقبة عيسى ويداه وتقدم لابيه وقال كذبا : أنا عيسو بكرك قد فعلت كما كلمتني قم اجلس وكل من صيدي لكي تباركني نفسك ، وأحضر له خمرا فشرب وقال اسحاق : هل أنت هو ابني عيسو؟ فقال يعقوب أنا هو فباركه اسحاق ، ومن جملة البركة ان دعا له بكثرة الحنطة والخمر فاستعمل يعقوب بمقتضى التوراة الرائجة هذا الخداع والتزوير وكذب على أبيه أكثر من أربع مرات حتى أوقعه مع كبر سنه وذهاب بصره في أذى الارتعاد العظيم جدا حيث علم بالخديعة «تك ٢٧ : ٣٣».

١٢٠