تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

وحقّهم ، وبأمير المؤمنين (ع) وأولاده (ع) المنتشرة في الخلق فضائلهم ، وبعلم آل محمّد (ص) الّذى كان معطّلا لا يجدون له أهلا ، وبمجدهم وسائر صفاتهم المشهورة لكلّ أحد ، وبولاية علىّ (ع) ونبوّة محمّد (ص) ، وبحقيقة الدّين الّتى كانت معطّلة في كلّ شريعة ، وبالملّة الّتى كانت مرتفعة في زمان كلّ نبىّ وبعده (أَ) يتثبّطون عن المشي بالأرجل أو عن السّير بالانظار (فَلَمْ يَسِيرُوا) بأرجلهم أو بأنظارهم (فِي الْأَرْضِ) اى ارض العالم الكبير ، أو الصّغير أو ارض القرآن والاخبار ، أو ارض السّير وأحوال الماضين فينظروا الى أحوال الماضين محسنيهم ومسيئيهم فيكون ذلك النّظر مورثا لتفكّرهم وحصول العقول لهم (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) يعنى فيحصل لهم مقام التّحقيق أو مقام التّقليد والانقياد فان كلّا منهما كمال تامّ للإنسان (فَإِنَّها) الضّمير للقصّة أو مبهم يفسّره الأبصار (لا تَعْمَى الْأَبْصارُ) الّتى في الرّؤس بترك السّير والنّظر (وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) أو لا تعمى الأبصار ان عميت لانّ لها كوّة الى الدّنيا وكوّة الى الآخرة ، وإذا عميت عميت منها الكوّة الّتى الى الدّنيا وليس المقصود ابصارها بل المقصود ابصار الكوّة الّتى الى الآخرة ولكن تعمى القلوب ان عميت يعنى تعمى الكوّة الّتى الى الآخرة ان عميت القلوب ، في خبر عن السّجّاد (ع) : انّ للعبد اربع أعين عينان يبصر بهما دينه ودنياه ، وعينان يبصر بهما امر آخرته ، فاذا أراد الله بعبد خيرا فتح له العينين اللّتين في قلبه فأبصر بهما الغيب وامر آخرته ، وإذا أراد الله به غير ذلك ترك القلب بما فيه ، وعن الصّادق (ع) : انّما شيعتنا أصحاب الاربعة الأعين ، عينان في الرّأس وعينان في القلب ، الا وانّ الخلائق كلّهم كذلك الّا انّ الله عزوجل فتح أبصاركم وأعمى أبصارهم ، وعن الباقر (ع) : انّما العمى عمى القلب ثمّ تلا الآية (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) المتوعّد به وذلك انّ رسول الله (ص) أخبرهم انّ العذاب أتاهم فقالوا : فأين العذاب؟ والجملة عطف على لم يسيروا (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ) تقرير لتأنّيه وامهاله وبيان لسبب تأنّيه أو تهديد عن طول العذاب وطول ايّامه وقد مضى في بنى إسرائيل وسيجيء في سورة السّجدة تحقيق لسعة الايّام الرّبوبيّة (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها) أمهلت أهلها كما أمهلت قومك (وَهِيَ ظالِمَةٌ) مثل قومك (ثُمَّ أَخَذْتُها) في الدّنيا قبل الاحتضار بأنواع المؤاخذة وحين الاحتضار بحضور ملائكة العذاب وملك الموت (وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) فاعذّبها في الآخرة بأنواع العذاب الموعودة في الآخرة (قُلْ) بعد تسليته (ص) بانّ له في تكذيب قومه أسوة بالأنبياء وانّ المكذّبين مؤاخذون وانّ المستعجلين بالعذاب يمهلون لكن يؤاخذون في الدّنيا والآخرة امره (ص) ان يعلن دعوته وان ينادى قومه ولا يكترث بتكذيبهم فقال قل (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر الحجّة والصّدق أو مظهر لصدقى وإنذاري (فَالَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ والبيعة العامّة النّبويّة وهو عطف من الرّسول (ص) أو من الله على قول الرّسول وهذا هو الظّاهر من قوله والّذين سعوا في آياتنا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) الّتى أخذوها منّى بعد البيعة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) الكريم من كلّ شيء ما يجمع فضائله (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) بالرّدّ والابطال والمنع والجحود (مُعاجِزِينَ) من عاجز عدوّه إذا تسابقا في الدّفع والتّعجيز (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) عطف على يستعجلونك بالعذاب وتسلية اخرى له (ص) (مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍ) في قراءة أهل البيت (ع) ولا محدّث وقد سبق تحقيق وتفصيل لمراتب الإنسان والفرق بين المحدّث والنّبىّ والرّسول في سورة البقرة عند قوله

٨١

(وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) ولقد بيّنا هناك الاخبار الواردة في الفرق بين الرّسول والنّبىّ والمحدّث والامام بانّ الرّسول يسمع الصّوت ويرى في المنام ويعاين الملك في اليقظة ، وانّ النّبىّ يسمع الصّوت ويرى الملك في المنام ولا يعاين ، وانّ المحدّث والامام يسمع صوت الملك ولا يرى ولا يعاين (إِلَّا إِذا تَمَنَّى) شيئا من مشتهيات القوى الحيوانيّة أو الانسانيّة من جهة الدّنيا أو من جهة الآخرة (أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ) شيئا خلاف متمنّاه إذا حصل أو قرب حصوله والآية تسلية للرّسول (ص) ممّا فعله منافقوا أمّته أو يفعلونه به وبشريعته وكتابه وخليفته وعترته فانّ امنيّته (ص) ان لا يخالف امره ، ولا يعصى ربّه ، ولا يغيّر شريعته وكتابه ، وان يتّبع خليفته ، ويودّ عترته ، فانّه روى بطريق الخاصّة عن أمير المؤمنين (ع) في حديث فيذكر جلّ ذكره لنبيّه (ص) ما يحدثه عدوّه في كتابه من بعده بقوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ) (الآية) انّه ما من نبىّ تمنّى مفارقة ما يعاينه من نفاق قومه وعقوقهم والانتقال عنهم الى دار الاقامة الّا ألقى الشّيطان المعرض بعداوته عند فقده في الكتاب الّذى انزل عليه ذمّه والقدح فيه والطّعن عليه فينسخ الله ذلك من قلوب المؤمنين فلا تقبله ، ولا يصغي اليه غير قلوب المنافقين والجاهلين ، ويحكم الله آياته بان يحمى أوليائه من الضّلال والعدوان ومشايعة أهل الكفر والطّغيان الّذين لم يرض الله ان يجعلهم كالأنعام حتّى قال بل هم اضلّ ، وروى عن ابن عبّاس وغيره بطريق العامّة انّ النّبىّ (ص) لمّا تلا سورة والنّجم وبلغ الى قوله (أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى) ألقى الشّيطان في تلاوته تلك الغرانيق العلى وانّ شفاعتهنّ لترجى فسرّ بذلك المشركون فلمّا انتهى الى السّجدة سجد المسلمون وسجد أيضا المشركون لمّا سمعوا من ذكر الهتهم ما أعجبهم ، وقيل : انّ تمنّى بمعنى تلا يعنى ما من نبىّ الّا إذا تلا آيات كتابه ألقى الشّيطان في تلاوته فانّه يستعمل تمنّى الكتاب بمعنى قرأه ، وهذا الخبر المروىّ منهم ان صحّ فهو مؤوّل بما لا ينافي مقام النّبىّ ، والغرانيق جمع مفرده الغرنيق بضمّ الغين وفتح النّون أو كزنبور أو كقنديل أو كسموئل أو كفردوس أو كقرطاس والكلّ بمعنى الشّابّ الحسن الأبيض (فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) اى المبدّلون في كتابه أو شريعته بان ينسخ ما أرادوا ممّا ألقوا من القلوب أو ما يلقى الشّيطان أو الكفّار في تلاوته بان ينسخ اثره من القلوب أو ما يلقى الشّيطان في متمنّاه حين تمنّى علىّ (ع) وفاطمة (ع) أو ما يلقى الشّيطان في متمنّياته من الجهة الدّنيويّة الحيوانيّة بان ينسخ تلك الجهة من نظره (ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ) بان لا تتغيّر ولا تتبدّل ولا تزول عن قلوب المؤمنين ولا عن نظر النّبىّ (ص) (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم صلاح عباده في ان يخلّى الشّيطان حتّى يلقى ما يريد في متمنّى النّبىّ (ص) ليختبر بذلك الخالص والمغشوش فيتميّز المؤمن عن المنافق (حَكِيمٌ) لا يفعل الّا لغايات متقنة والّا بالنّظر الى استعدادات مكمونة قدّم المعطوف قبل تمام المعطوف عليه لئلّا يتوهّم متوهّم انّ هذا الجعل خال من الحكمة (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ) يعنى ليس ما يلقى الشّيطان خارجا عن اختيارنا وان كان غير مرضىّ لنا وانّما خلّينا بينه وبين ما أراد إلقاءه لنجعل ما يلقى الشّيطان (فِتْنَةً) الفتنة الاختبار والضّلال والإثم والكفر والفضيحة والعذاب والإضلال وإذابة الذّهب والفضّة والمحنة والاختلاف في الآراء ، والكلّ مناسب هاهنا فانّ الكلّ يمكن ان يراد (لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ) الّذين لم يبق لقلوبهم استعداد الصّحّة (وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ) الجملة حاليّة والمراد بالظّالمين الصّنفان المذكوران ، ووضع الظّاهر موضع المضمر اشارة الى وصف ذمّ آخر لهم والمعنى ألقى الشّيطان ذلك لنجعل ما يلقيه فتنة والحال انّهم لا يرجى لهم الخير لكونهم في معاداة أو خلاف بعيد (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) الّذى هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء أو العلم الّذى هو تميز دقائق الكثرات

٨٢

وأحكامها (أَنَّهُ) اى الإلقاء أو الملقى هو (الْحَقُ) النّازل (مِنْ رَبِّكَ) بصورة الباطل وعلى لسان الشّيطان أو يده أو الضّمير راجع الى كتاب النّبىّ (ص) أو دينه أو استخلافه ويكون التّعريض بالقرآن أو دين محمّد (ص) أو استخلافه أو خليفته (فَيُؤْمِنُوا بِهِ) اى يذعنوا به وينقادوا له أو يبيعون معه البيعة الخاصّة أو العامّة (فَتُخْبِتَ) اى تتّبع وتطمئنّ أو تخشع وتتواضع (لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) مقابل انّ الظّالمين لفي شقاق بعيد يعنى انّ الله لهادى الّذين أسلموا الى ولاية علىّ (ع) فانّ الصّراط المستقيم هو الولاية تكوينا وتكليفا ، أو انّ الله لهادى الّذين آمنوا بقبول الولاية والبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب الى صراط مستقيم في كلّ الأمور حتّى في القرآن وما يلقيه الشّيطان في ما يتمنّاه الرّسول (ص) وما يلقيه الشّيطان (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو بك أو بكتابك أو بما قلت في خليفتك أو بالولاية في مرية (مِنْهُ) الضّمير راجع الى مرجع ضمير انّه الحقّ من ربّك (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ) يعنى ساعة الموت وهي ساعة ظهور القائم (ع) وقيام القيامة الصّغرى (بَغْتَةً) اى فجاءة (أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ) قيل المراد يوم بدر لانّه لم يكن فيه خير للكفّار فكان عقيما من الخير ، أو لم يكن مثله للكفّار في الشّدّة وخلاف الحسبان فكان عقيما من المثل ، وقيل : المراد به يوم القيامة وسمّى عقيما لانّه لا ليل له أو لا نظير له ، أو لانّه لا يلد خيرا للكفّار ولا شرّا للأبرار (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ) يوم الاحتضار أو يوم القيامة وهو المناسب لما بعده فلا بدّ ان يفسّر السّاعة أو اليوم العقيم بيوم القيامة (لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) تفصيل لحكمه تعالى (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) لمّا كان المقام مقام التّشديد على الكفّار ومن يلقى في متمنّى المؤمنين أتى في جانب الكفّار بالفاء في الخبر وأتى باسم الاشارة فيه (وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) بعد ما آمنوا (ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) لاجتماع جهات الخير فيه لانّه مالك لجميع الأرزاق ومعط لما يستحقّه المرزوق ، وبقدر ما يحتاج اليه ، ولعلمه بحاجات المرزوق جملة ، ولاعطائه بلا عوض ولا غرض من المرزوق وغيره ، ولاعطائه ما يحتاج المرتزق في ارتزاقه كما قيل :

لقمه بخشى آيد از هر كس بكس

حلق بخشى كار يزدانست وبس

حلق بخشد جسم را وروح را

حلق بخشد بهر هر عضوى جدا

كوه طور اندر تجلّى حلق يافت

تا كه مى نوشيد ومى را برنتافت

اين گهى بخشد كه اجلالى شود

از دغا واز دغل خالي شود

ولانّ الرّزق ليس الّا في يده ولانّ رزقه فوق ما يتصوّر المتصوّرون في الحسن والالتذاذ به أتى بهذه الجملة معطوفة أو حالا بعد توصيف الرّزق بالحسن تفخيما لشأن رزقه وتأكيدا لحسنه (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً) مفعول به أو مفعول مطلق والمفعول به محذوف ، وقرئ مدخلا من المجرّد ومن باب الأفعال (يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ) بأحوال المقاتلين لهم وبأحوالهم لكنّه (حَلِيمٌ) لا يعجل بعقوبة المقاتلين ويرضى من عباده الحلم وعدم تعجيل المكافاة ممّن أساء إليهم أو قاتلهم ، أتى به هاهنا عطفا أو حالا مقدّمة لما بعده (ذلِكَ) قد مضى قبيل هذا نظيره (وَمَنْ عاقَبَ) اى جازى الظّالم (بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ) اى بمثل ما ظلم به سمّاه عقابا مع انّ العقاب يستعمل في الجزاء

٨٣

بمشاكله قوله : من عاقب (ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ) اى على من عاقب مكافاة أو على من ظلم ابتداء فانّه وان لم يذكر صريحا لكنّه مذكور بالالتزام (لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) اى لينصرنّ الله المعاقب أو الظّالم ابتداء (إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى ينصر الله المعاقب المقتصّ الّذى بغى عليه لانّه عفوّ لزلاته اللّازمة له من اتّباعه الهوى في الاقتصاص حيث كان المرضىّ منه العفو أو ينصر الظّالم بعد البغي عليه لانّه يعفو عن ظلمه بعد ما عوقب بمثل ظلمه (ذلِكَ) يعنى الاذن في القصاص والنّصر للمقتصّ ان بغى عليه أو للظّالم بعد الاقتصاص منه ان بغى عليه «ب» سبب (بِأَنَّ اللهَ) لا غيره (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) اى يدخل ليل الاقتصاص مكان نهار العفو ، أو ليل الظّلم مكان نهار العدل ، أو ينقص من ليل الرّذائل ويزيد في نهار الخصائل (وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ويدخل أو ينقص من نهار الخصائل ويزيد في ليل الرّذائل فاقتصاص المقتصّ وظلم الظّالم كلاهما كانا بتسخير الله وامره التّكوينىّ فان فعل بأحدهما زائدا على قدر التّرخيص يعاقب بنصر من بغى عليه وقد مضى في سورة آل عمران تفصيل للّيل والنّهار في نظير الآية (وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقوله الباغي والمقتصّ والمقتصّ منه (بَصِيرٌ) بما يفعله (ذلِكَ) الإيلاج والسّمع والبصر (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) الكامل في الحقّيّة بحيث لا يشوبه باطل (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الاهوية والآمال الدّاعية للأصنام والأصنام والكواكب والعناصر وخصوصا رؤساء الضّلالة (هُوَ الْباطِلُ) الكامل في البطلان بحيث لا يشوبه حقّ ، والحقّ الّذى لا يشوبه بطلان لا يعزب عن حيطة وجوده وعلمه وقدرته شيء من الأشياء فيبصر كلّ المبصرات ويسمع كلّ المسموعات ويقدر على كلّ المقدورات (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ) الّذى يعلو كلّ شيء ويحيط به فيعلمه ويقدر على التّصرّف فيه بأىّ نحو شاء (الْكَبِيرُ) الّذى كلّ كبير حقير عنده ومطيع ومنقاد لأمره (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) تقرير لعلوّه وكبره واحاطة علمه وسمعه وبصره (فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لا يخفى تعميم الماء والسّماء والأرض واخضراره بين الصّوريّة والمعنويّة في الكبير والصّغير (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) في ذاته فلا يدركه مدرك لطيف في صفاته لطيف في فعاله فلا يدرك دقائق صنعه والغايات المترتّبة عليه والحكم المودعة فيه الّا هو (خَبِيرٌ) يعلم بخبرته دقائق كلّ موجود ومصالح كلّ مصنوع (لَهُ) بدوا ورجوعا وملكا (ما فِي السَّماواتِ) يعنى السّماوات وما فيها كما سبق مكرّرا انّه إذا قيل لزيد : ما في الصّندوق؟ ـ يقصد الصّندوق وما فيها خصوصا إذا كان ما في الصّندوق نفيسا (وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) بذاته من غير حاجة له الى ما في السّماوات وما في الأرض في ذاته أو في محموديّته (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ) تقرير لمالكيّته ومبدئيّته وغنائه عمّا في الأرض وانّ إيجاد ما في الأرض وتسخيره للإنسان والخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (وَالْفُلْكَ) قرئ بالنّصب عطفا على ما في الأرض أو على اسم انّ ، وبالرّفع مبتدءا (تَجْرِي) مستأنف أو حال أو خبر (فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ) التّكوينىّ فانّ طفوّ الأخشاب وخرقها للماء وتحريك الرّياح أو البخار لها كلّها بأمره التّكوينىّ (وَيُمْسِكُ السَّماءَ) من الأفلاك والكواكب والسّحاب وامطارها كلّها في أحيازها ومراكزها (أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ) اى من الوقوع عليها (إِلَّا بِإِذْنِهِ) يعنى إذا اذن الله في وقوعها على الأرض تقع عليها فلا بدّ من تعميم السّماء والأرض حتّى يصحّ هذا بان يقال : انّ الله يمسك السّماء من الأفلاك

٨٤

وكواكبها وآثارها ، ومن النّفوس والعقول والأرواح وآثارها من الوقوع على أرض التّراب وعلى أراضي الموادّ من جملة العناصر والأفلاك والنّطف والبذور والعروق وجملة المواليد الّا باذنه فان لم يأذن لم يتّصل اثر بذي اثر ولا قوّة بذي قوّة ولا طبع بذي طبع ، ولا نفس وعقل بذي نفس وعقل (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تعليل لتسخيره الأشياء للإنسان وإمساك السّماء ، والفرق بين الرّأفة والرّحمة بان يجعل إحداهما سجيّة الرّحمة والاخرى أثرها الظّاهر على الأعضاء وان كان يستعمل كلّ في كلّ كسائر السّجايا (وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ) من الجماديّة بالحيوة الحيوانيّة ، أو من الحيوانيّة بالحيوة البشريّة ، أو من البشريّة بالحيوة الانسانيّة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن الحيوة الحيوانيّة والبشريّة عند الموت ، أو عن الحيوة الانسانية أيضا عند النّفخة الاولى (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالحيوة الانسانيّة أو البهيميّة أو السّبعيّة أو الشّيطانيّة عند الرّجعة (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) نعمة الأحياء الاوّل ، ولذلك لا يتنبّه لنعمة الأحياء الثّانى وهو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال الإنسان أيشكر أم يكفر؟ ـ أو انّ الإنسان لجحود يعنى سجيّتة الجحود لانّه يجحد الاعادة والمبدء مع الادلّة الواضحة على الإبداء والاعادة (لِكُلِّ أُمَّةٍ) كلام منقطع عن سابقه لفظا ومعنى أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل جعل الله طريقا الى ادراك الأحياء بعد الاماتة أو الى الوصول الى خيراته بعد الأحياء الثّانى؟ ـ فقال : لكلّ أمّة (جَعَلْنا مَنْسَكاً) عبادة أو شرعة من العبادات أو ذبيحة يتقرّبون بها ، أو مكان عبادة ، أو محلّ ذبح وقربان (هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ) اى امر عبادتك أو امر حجّك أو شريعتك أو مساجدك أو ذبيحتك فانّ كلّ أمّة كان ذلك لهم وقد اختلفوا في الكلّ بحسب اقتضاء الوقت والمكان والحال يعنى لا ينبغي لهم ان ينازعوك ولا ينبغي لك ان تضطرب بمنازعتهم وتتوانى في دعوتهم فاثبت على ما أنت عليه (وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ) الجملة استيناف جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل (وَإِنْ جادَلُوكَ) في امر الذّبيحة أو في مكانها أو في أكل الذّبيحة دون الميتة بقوله : ما لكم تأكلون ما تقتلون بأيديكم ولا تأكلون ما يقتله الله؟ أو في سائر ما فسّر المنسك به (فَقُلِ) على سبيل المتاركة وعدم التّعرّض للمجادلة (اللهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ اللهُ يَحْكُمُ) استيناف في مقام التّعليل كأنّه قيل : لم تركت الجواب والتّعرّض للجدال؟ ـ فقال : لانّ الله يحكم (بَيْنَكُمْ) اى بيننا وبينكم أو بينكم ايّها المتخالفون (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) اى فيما كنتم تخالفون معى أو فيما كنتم تختلفون بينكم (أَلَمْ تَعْلَمْ) من جملة ما امر الرّسول (ص) ان يقوله لهم ، أو ابتداء كلام من الله معهم والخطاب عامّ أو خاصّ بالرّسول (ص) (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) فيعلم اختلافكم فيحكم بينكم (إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ) تأكيد لعلمه تعالى أو تعليل له (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) جواب سؤال عن حاله تعالى أو عن علّة ثبته ذلك في الكتاب (وَيَعْبُدُونَ) عطف على جملة ان جادلوك كأنّه قال : ويجادلونك ويعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) ظرف لغو متعلّق بيعبدون ، ولفظة من ابتدائيّة اى يعبدون من دون اذن الله أو حال من قوله (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) ولفظة الباء سببيّة ، أو بمعنى مع ، أو بمعنى في ، والسّلطان بمعنى الحجّة والبرهان ، أو بمعنى الاستقلال والسّلطنة ، والقيد تقييد لا بيان يعنى يعبدون عبادة اعمّ من عبادة عبوديّة وعبادة طاعة معبودا ومطاعا لم ينزل معه برهانا على جواز طاعته أو عبادته من الأصنام والكواكب والعناصر والمواليد من النّبات والحيوان والإنسان يعنى انّهم ان عبدوا ما كان معه حجّة الهيّة واذن الهىّ في معبوديّته ومطاعيّته لم يكونوا مذمومين ، نسب الى موسى بن

٨٥

جعفر (ع) انّه قال : لمّا نزلت هذه الآية (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) جمعهم رسول الله (ص) ثمّ قال : يا معشر الأنصار والمهاجرين انّ الله تعالى يقول : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ) والمنسك هو الامام ، ولكلّ أمّة نبيّها حتّى يدركه نبىّ الا وانّ لزوم الامام وطاعته هو الدّين وهو المنسك ، وعلىّ بن ابى طالب (ع) إمامكم بعدي فانّى أدعوكم الى هداه فانّه على هدى مستقيم فقام القوم يتعجّبون من ذلك ويقولون واذن لننازعنّ ولا نرضى طاعته أبدا وكان رسول الله (ص) يضيق به فأنزل الله عزوجل (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ) (الى آخر الآيات) وعلى هذا فليفسّر الآيات هكذا لكلّ أمّة جعلنا إماما هم مقتدون به وجعلنا لامّتك عليّا (ع) إماما يقتدون به فلا ينازعنّك في امر إمامته وادع الى ربّك في الولاية انّك لعلى هدى مستقيم في ولاية علىّ (ع) واستخلافه وان جادلوك في ولاية علىّ (ع) فلا تجادل معهم وقل : الله اعلم بما تعملون بعدي في حقّ علىّ (ع) الله يحكم بينكم اى بين علىّ (ع) واتباعه وبينكم فيما كنتم فيه من امر الولاية تختلفون ، ويعبدون بعد وفاتك عبادة طاعة من دون اذن الله تعالى خليفة لم ينزّل الله على خلافته حجّة أو لم يجعل في وجوده سلطنة على غيره (وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ) اى خليفة ليس لهم به من جهة خلافته ومطاعيّته (عِلْمٌ) يعنى انّ المطاع لا بدّ وان يكون مأذونا من الله وان يحصل للمطيع علم بكونه مأذونا من الله فمن أطاع مطاعا علم انّه لم يكن مأذونا من الله أو مطاعا لم يعلم انّه مأذون أو غير مأذون كان مشركا وظالما ، لانّه وضع طاعته الّتى هي أعظم الحقوق في غير موضعها الّذى هو من لم يكن مأذونا من الله أو لم يعلم مأذونيّته ومنعها عن ذيحقّه الّذى هو الامام المأذون من الله (وَما لِلظَّالِمِينَ) الّذين وضعوا طاعتهم غير موضعها (مِنْ نَصِيرٍ) في امر الآخرة فانّ النّصير هو الامام أو من نصبه الامام للنّصرة (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) في ولاية علىّ (ع) (بَيِّناتٍ) واضحات أو موضحات لولايته (تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بولايته (الْمُنْكَرَ) المنكر من كلّ شيء ما لا يرضاه العقل أو العرف (يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا) لشدّة غيظهم (قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ) الخبر الشّديد المورث لغيظكم (النَّارُ) قرئ بالرّفع خبرا لمحذوف أو مبتدء خبر ما بعده ، وقرئ بالنّصب على الاختصاص وبالجرّ بدلا من شرّ (وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) نسب الى الكاظم (ع) انّه قال في قول الله تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) (الآية) كان القوم إذا نزلت في أمير المؤمنين (ع) آية في كتاب الله فيها فرض طاعته أو فضيلة فيه أو في اهله سخطوا ذلك وكرهوا حتّى همّوا به وأرادوا به وأرادوا برسول الله (ص) أيضا ليلة العقبة غيظا وخنقا وغضبا وحسدا حتّى نزلت هذه الآية يعنى الآية السّابقة (يا أَيُّهَا النَّاسُ) بعد ما أوعد الكفّار بولاية علىّ (ع) نادى النّاس عموما فقال (ضُرِبَ مَثَلٌ) لبيان حالهم وحال علىّ (ع) (فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ) بالتّعاون مثل حال منافقي الامّة بحال الأصنام الّتى لا تقدر على احقر ما يكون (وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ) الّذى هو مثل علىّ (ع) في ضعف حاله وفي كونه كرّارا غير فرّار كلّما ذبّ آب (شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ) الّذى يدعو مثل هذا المدعوّ الّذى لا يقدر على شيء حقير (وَالْمَطْلُوبُ) الّذى لا يقدر على خلق احقر ولا دفعه عن نفسه (ما قَدَرُوا اللهَ) حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر والمقصود بقرينة المقابلة ما قدروا عليّا (ع) (حَقَّ قَدْرِهِ) حيث عدلوا به مثال الأصنام الّتى

٨٦

لا تقدر على شيء (إِنَّ اللهَ) في مظهر خليفته الّذى هو علىّ (ع) (لَقَوِيٌ) ذو قدرة على اىّ مقدور أراد (عَزِيزٌ) لا يمنعه مانع من مراده فكيف تشركون بهذا القوىّ العزيز مثل هذا الضّعيف العاجز الّذى لا يمنع مثل الذّباب عن السّلب منه ، ولو لم يكن هذا التّمثيل مرادا وكان المراد انّ الأصنام الّتى تلطّخونها بالزّعفران لا تقدر على خلق مثل الذّباب وان يسلبها الذّباب الزّعفران لا يستنقذوه منه لما كان لقوله ضرب مثل فاستمعوا له مساغا ، وعلى ما ذكرنا لم يكن حاجة الى تأويل في قوله ضرب مثل ولا بيان لقوله ضعف الطّالب والمطلوب وقد أشير في الخبر الى ما ذكرنا (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ) يعنى انّ اصطفاء الرّسل (ع) سواء كانوا من الملائكة أم من النّاس مقصور على الله فما لكم لا تكلون امر الخلافة الّتى هي رسالة من الله الى الله وتختلقون بآرائكم خليفة (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) بأقوال جميع العباد من الملائكة والنّاس فله ان يصطفى للرّسالة لانّه يسمع ما يقوله الرّسول والمرسل إليهم (بَصِيرٌ) بدقائق مكمونات الكلّ فلا يخفى عليه شيء من المكمونات حتّى تقع خيريّة على غير الأصلح ويقع الخطاء في اختيار الخليفة بخلافكم ، ويجوز على ما فسّرنا الآية السّابقة ان يفسّر هذه الآية هكذا الله في مظهر خليفته الّذى هو علىّ (ع) يصطفى من الملائكة رسلا مرسلا الى الأنبياء والأوصياء (ع) والى العوالم من عالم الطّبع والملكوتين لتدبير أمورها وقضاء ما يلزم قضاؤه ، ومن النّاس رسلا الى العباد من الأنبياء والرّسل ومن أوصيائهم ومشايخهم انّ الله في مظهر علىّ (ع) سميع بصير ، وقد تكرّر فيما مضى انّ عليّا (ع) بعلويّته هو المشيّة وهي تسمّى بوجهها الى الخلق بعلىّ (ع) وبوجهها الى الغيب بالله (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) يعنى يعلم في مظهره الّذى هو علىّ (ع) ما بين أيديهم اى ما بين أيدي النّاس أو ما بين أيدي الملائكة والنّاس من الدّنيا أو الآخرة أو من الماضي أو المستقبل (وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللهِ) في مظهره (تُرْجَعُ الْأُمُورُ) وقد ورد في خطبة منه (ع) إياب الخلق الىّ وحسابهم علىّ ثمّ نادى عليّا (ع) ورسله الّذين هم المؤمنون حقيقة تلطّفا وتشريفا لهم وتفخيما لشأنهم بذكر اوصافهم الفخيمة وفضله العظيم بالنّسبة إليهم فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا) ركوع الصّلوة أو تواضعوا لربّكم (وَاسْجُدُوا) سجدة الصّلوة أو تواضعوا غاية التّواضع لربّكم (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) اى اخرجوا من انانيّاتكم بركوعكم وسجودكم وصيروا أحرارا من عبوديّة أنفسكم وعبيدا لربّكم (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) قد مضى مكرّرا انّ التّرجّى من الله واجب. اعلم انّ الآية الشّريفة اشارة الى مراتب السّالكين وأسفارهم فانّ أسفارهم وان كانت لا حدّ لها ولا نهاية لكنّها بحسب الامّهات محصورة في اربعة كما أسلفنا ذلك مكرّرا ، الاوّل السّفر من الخلق الى الحقّ وفي هذا السّفر ينكسر الانانيّة الّتى هي من الخلق بحيث لم يبق نسبة الفعل الى نفس السّالك بل يرى الفعل من الفاعل الظّاهر في وجوده وحينئذ ينتهى سفره من الخلق الى الحقّ ، وبعد هذا يكون السّفر من الحقّ الى الحقّ وفي هذا السّفر ينكسر انانيّته الّتى هي رؤية الوجود لذاته ورؤية ذاته وما دام ذاته تكون باقية يكون سفره من الحقّ الى الحقّ ولم يكن عبدا لبقاء انانيّة ما عليه فاذا انتهى في هذا السّفر بحيث لم يبق له ذات واثر من ذاته صار عبدا لله فانيا من ذاته ويكون سفره بعد ذلك في الحقّ ، فان أدركته العناية الالهيّة وأبقاه بعد فنائه يصير محسنا وفاعلا للخيرات فانّه في السّفر الاوّل والثّانى بواسطة بقاء الانانيّة لم يكن فعله خيرا على الإطلاق ، وفي السّفر الثّالث لم يكن فعله منه حتّى يكون فاعلا لشيء وفي هذا السّفر وهو السّفر بالحقّ في الخلق يكون له انانيّة بانانيّة الله وفاعليّة بفاعليّة الله ويكون فعله خيرا على الإطلاق والى هذه الاربعة أشارت الآية فانّه تعالى أشار بقوله : (ارْكَعُوا) الى السّفر من الخلق الى الحقّ ، وبقوله : (اسْجُدُوا) الّذى هو خروج من الانانيّة حتّى من

٨٧

نسبة الذّات الى النّفس الى السّفر من الحقّ الى الحقّ ، وبقوله : (وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) الى السّير بالحقّ في الحقّ ، وبقوله : (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) الى السّير بالحقّ في الخلق ، ولا ينافي ذلك الخطاب كمال الكامل حتّى ينافي تفسير الآية بالأئمّة (ع) فانّ الكامل لكونه جامعا لجميع المراتب يكون له على سبيل الاستمرار سير من الخلق الى الحقّ وسير مع الحقّ في الخلق ، وقد أشرنا في المقدّمات وفي تفسير الفاتحة وفيما بعدها الى الاسفار وكيفيّة السّلوك فيها (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ) لمّا كان الخطاب لآل محمّد (ص) خاطبهم بهذا الخطاب والّا فمثل هذا التّكليف لغيرهم تكليف بما لا يطاق بل يقال لهم : جاهدوا في الله حقّ جهادكم لا حقّ جهاده فانّ حقّ الجهاد في الله على الإطلاق وحقّ الجهاد اللّائق بالله ان لا يبقى شيء من انانيّة العبد ويبقى بعد فنائه بحيث يلاحظ الحقّ في الخلق والخلق في الحقّ من دون نقصان لشيء منهما ، ولحاظ الوحدة والكثرة على ما ينبغي لا يتيسّر الّا لصاحب الجمع المطلق يعنى صاحب الولاية الكلّيّة والرّسالة الكلّيّة كما قيل :

جمع صورت با چنين معنى ژرف

مى نيايد جز ز سلطان شگرف

(هُوَ اجْتَباكُمْ) استيناف في مقام التّعليل (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) عطف على قوله هو اجتبيكم ويفيد التّعليل أيضا والدّين كما سبق مكرّرا عبارة عن صورة الملّة الّتى هي الأحكام القالبيّة الاسلاميّة ، وعن احكام الايمان القلبيّة ، وعن طريق النّفس الى القلب ، والقلب الى الرّوح ، والرّوح الى العقل ، وهكذا ، وما جعل الله لأحد في شيء من ذلك حرجا فانّ التّكليف بقدر الوسع ، وإذا بلغ السّالك الى الطّريق كان له وسعة لا يتصوّر سعة مثلها فانّه ما دام يكون سالكا الى الطّريق يكون في ضيق وحرج وقبض وقلق ، وإذا بلغ الى الطّريق الى الله وهو مثال شيخة وملكوته تبدّل ضيقه بالسّعة وقبضه بالبسط وقلقه بالاطمينان ، وتبعه بالرّاحة ، رزقنا الله وجميع المؤمنين (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ) في هذا اشارة الى انّ تنزيل الآية لأهل بيت محمّد (ص) كما فسّروها لنا وإذا أريد بالأبوّة الابوّة الرّوحانيّة كان التّفسير صرفا من التّنزيل الى التّأويل وتصدق هذه النّسبة على من صار منتسبا الى إبراهيم (ع) بالبنوّة ، وهذا الانتساب لا يكون الّا إذا صدق الاتّصال بالبيعة العامّة ان لم نقل بلزوم البيعة الخاصّة الولويّة في صدق هذه النّسبة (هُوَ) اى إبراهيم (ع) أو الله (سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) يعنى من قبل هذا الزّمان أو من قبل القرآن أو من قبل هذا العالم في العوالم العالية (وَفِي هذا) الزّمان أو القرآن أو العالم ، وتسمية إبراهيم (ع) لهم مسلمين في هذا الزّمان بواسطة بقاء هذا الاسم لهم منه في هذا الزّمان (لِيَكُونَ) تعليل للأوامر السّابقة ، أو للمدائح اللّائقة ، أو للمجموع يعنى جاهدوا ليكون (الرَّسُولُ) واجتبيكم ليكون الرّسول (ص) (شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) هذا أيضا يدلّ على اختصاص الآية بالأئمّة (ع) (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قد مضى في اوّل البقرة بيان الصّلوة وأقسامها وإقامتها وبيان الزّكاة وأطوارها وايتائها (وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ) بالاعتصام بالولاية فانّ الاعتصام بالله باعتبار مقام الغيب لا يتصوّر للإنسان ما كان شاعرا بذاته فالمراد الاعتصام بخلفائه والاعتصام بطريقه الّذى هو طريق الولاية (هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى) يعنى إذا كان موليكم فنعم المولى (وَنِعْمَ النَّصِيرُ) هو.

٨٨

سورة المؤمنون

وهي مائة وثماني عشرة آية أو تسع عشرة آية

الجزء الثّامن عشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) بالايمان الخاصّ والبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة فانّ المؤمن بمعنى المسلم ان كان واقفا على إسلامه غير سألك أو واصل الى الايمان لم يكن له فلاح ولم يكن منفعته سوى المنافع الرّاجعة الى الدّنيا من حفظ الدّم وجواز التّناكح والتّوارث والمعاملة نحو معاملة المسلمين من عدم جواز غيبته وهتك عرضه وغير ذلك ، والتّوصيف بالأوصاف الآتية يدلّ على ارادة الايمان الخاصّ (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) الصّلوة بمعنى الدّعاء اى دعاء الله للحضور عند الدّاعى وبمعنى كلّ ما به يدعى الله من فعل أو قول أو هيئة أو فكر أو تخيّل ولمّا كانت الصّلوة المشروعة القالبيّة مركّبة من هيأت وافعال وأقوال كلّها ما به يدعى الله للحضور عنده سمّيت صلوة ، وكذلك الذّكر المأخوذ من صاحب الاجازة سواء كان جليّا أم خفيّا ، وهكذا الفكر المصطلح للصّوفيّة من تمثّل ملكوت الشّيخ عند السّالك سواء كان بتعمّل من السّالك أو بغير تعمّل منه ، ولمّا كان المقصود من دعاء الله باىّ صورة كان دخوله في بيت قلب الدّاعى أو حضور الدّاعى عنده ، وحضور السّالك عند الله لا يكون الّا بكسر انانيّته والخروج من وجوده ولا يكون ذلك الّا بالمحبّة لله واستشعارا لهيبته منه قال الّذين هم في صلوتهم خاشعون لانّ الخشوع حالة حاصلة من محبّة من يخشع له واستشعار الهيبة منه ولا تكون هذه الحال الّا مع كسر انانيّة الخاشع فلو لم يخشع الدّاعى في دعائه كان دعاؤه لغوا فالمصلّى بالصّلوة القالبيّة الشّرعيّة لمّا كان قيامه في الصّلوة قيام من يقوم عند الملك المقتدر ، وتكبيره إظهارا واستشعارا بعظمة الله بمعنى ان ليس في ذكره سوى الله ولذلك سمّى بتكبيرة الإحرام وكان أقواله كلّها دعاء وتضرّعا على الله وركوعه وسجوده تواضعا لعظمة الله كان هذا العمل منه لغوا واستهزاء بالله ان لم يكن حاله موافقا لفعله ، ولذلك عقّب قوله الّذين هم في صلوتهم خاشعون بقوله (وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) مقدّما على قوله (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ) مع انّ الأنسب بذكر الصّلوة ان يكون الزّكاة عقيبها ، واللّغو فعل أو قول لا يعتدّ به ولا يترتّب عليه فائدته المطلوب منه ، ولمّا كان فائدة الصّلوة الخروج من الانانيّة والعروج الى الملكوت والحضور عند المعبود وكان الاشتغال بالغير والتفات الخيال الى الكثرات منافيا لتلك الفائدة ومسقطا لها كان الصّلوة بهذه الحال لغوا ، فعلى هذا كان قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ) تأكيدا لمفهوم قوله (الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) ، وقد سبق في اوّل البقرة تفصيل تامّ للصّلوة وأقسامها والزّكاة وأنواعها ، واللّام

٨٩

في قوله للزّكوة فاعلون زائدة للتّقوية أو هي للتّعليل ، والزّكاة هاهنا بمعنى النّماء أو الطّهارة أو الصّلاح أو التّنعّم أو فضول المال الّذى تخرجه لتطهّر باقيه ولم يقل للزّكوة مؤتون ليذهب ذهن السّامع الى كلّ المعاني والمحتملات (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ) جمع الفرج بمعنى العورة وهي كلّ سوأة من المرء والمرأة ينبغي حفظها عن النّظر إليها والمراد حفظها عن الوطي أو عن النّظر إليها (إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ) لمّا جعل متعلّق الحفظ مثل الإطلاق والاسترسال استثنى المجرور بعلى نحو الاستثناء المفرّغ يعنى الّذين هم حافظون فروجهم عن الإطلاق وعدم الإمساك الّا على أزواجهم يعنى لا يحفظونها عن الإطلاق على أزواجهم ، وقيل : انّ لفظة على هاهنا مثل على في قوله : احفظ علىّ عنان فرسي فانّ الحبس على الأزواج يفيد هذا المقصود (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من الإماء لا العبيد وجاء بما للاشعار بانّهنّ من تلك الحيثيّة كسائر الحيوان في معاملتهنّ معاملة غير ذوي العقول ، والآية مجملة فانّها مطلقة عن بيان الحالات الّتى تحرم الأزواج والإماء في تلك الحالات (فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ) نفى اللّوم عنهم مع انّ المضاجعة ان كانت بأمر الله ومن الجهة الّتى ارتضاها الله كان صاحبها مأجورا لانّ أكثر النّاس لم تكن مضاجعتهم الّا محض تشهّى النّفس كسائر أفعالهم فلم يكن لهم أجر فيها (فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ) المذكور من الاسترسال على الأزواج والمماليك (فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ) اى الظّالمون أو المتجاوزون عن حدود الله (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ) الأمانات كما في سورة النّساء وسيأتى في سورة الأحزاب عبارة عن كلّ ما استودع عند إنسان ليكون محفوظا سالما ناميا لصاحبه ، وإذا طالبه صاحبه سلّمه له ، وتصدق على الأمانات الصّوريّة الّتى يستودعها بعض النّاس عند بعض وعلى الأمانات الّتى استودعها الله عند عباده وإمائه تكوينا من الامانة الاصليّة الّتى هي اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة الّتى عرضها الله على السّماوات والأرض والجبال فأبين من حملها وحملها الإنسان ومن سائر ما أنعم الله به على عباده من الأعضاء والجوارح والقوى والمدارك والعلوم والمناسك التّكوينيّة ، ومن الأمانات الّتى استودعها الله عند عباده بتوسّط خلفائه ومظاهره من الأحكام القالبيّة النّبويّة ، والقلبيّة الولويّة ، والاذكار الجليّة والخفيّة ، وودائع الوصاية الّتى استودعها كلّ امام لإمام آخر والمراد بالعهد كما سبق مكرّرا هو البيعة العامّة والخاصّة فانّ العهد المنظور اليه والمسؤل عنه هو الميثاق الّذى يحصل بين الإنسان وبين الله بتوسّط مظاهره بالبيعة على أيديهم وسائر العهود والعقود مثل النّذور والعهود وسائر العقود الواقعة بين العباد مقصوده تبعا ، ومراعاة الامانة بان لا يقصّر في حفظها وانمائها ان كانت صاحبة نماء وبتحمّل ما تحتاج اليه من المأكول والمشروب أو المخزن وإغلاق الباب والنّقل من مكان الى مكان ان كانت ممّا تحتاج الى ذلك ، ومراعاة العهد بان لا يتركه ولا يترك شروطه ولا ينقضه (وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ) قرئ مفردا وجمعا (يُحافِظُونَ) ولمّا كان المفرد المضاف الغير المراد به فردا معيّنا أو فردا ما مفيدا للعموم لم يكن بين الجمع والمفرد فرق ، والمحافظة المواظبة على الشّيء بالذبّ عنه والحفظ له عن الضّياع والمحافظة على الصّلوات القالبيّة والصّدريّة والقلبيّة بالذّبّ عنها ودفع الشّياطين الجنّيّة والانسيّة عن المداخلة فيها وحفظ أوقاتها وحفظ حدود كلّ منها والدّوام عليها على كلّ بحسبه بان لا يترك الصّلوة القالبيّة في أوقاتها ولا يغفل عن الصّلوات الصّدريّة والقلبيّة الذّكريّة والفكريّة ، وكرّر ذكر الصّلوة بذكرها اوّلا بوصف الخشوع فيها الّذى هو من أحكامها الباطنة ، وأخيرا بوصف الحفظ عليها الّذى هو اعمّ من حفظ صورتها وأحكامها الظّاهرة وحفظ معنيها وأحكامها الباطنة للاهتمام بشأنها ، وللاشارة الى انّها ينبغي ان تكون مفتتح الكلّ ومختتمها ، والإتيان بالمضارع هاهنا للاشارة الى انّ مخلّات الصّلوة الباطنة والظّاهرة متجدّدة الحدوث استمرارا والمحافظة عليها من إخلال مخلّاتها ينبغي

٩٠

ان تكون متجدّدة الحدوث استمرارا بخلاف سائر الأوصاف (أُولئِكَ) العظماء المحضرون باوصافهم العظيمة (هُمُ الْوارِثُونَ) حقيقة لا غيرهم فانّ وراثة غيرهم ان كانت من قبيل وراثة الأموال الصّوريّة أو الدّركات الاخرويّة الجحيميّة لم تكن معدودة من الوراثة ، وان كانت من قبيل وراثة درجات الجنان لم تكن وراثة بل كانت تطفّلا لأولئك العظام فأتى باسم الاشارة البعيدة اشارة الى تفخيمهم وإحضارا لهم باوصافهم الحميدة ، وأتى بضمير الفصل تأكيدا للحكم واشعارا بالحصر ، وتعريف المسند أيضا يفيد الحصر (الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ) لم يقل هم الوارثون للفردوس لإيهام انّهم هم الوارثون لجميع ما يمكن ان يورّث ليكون أبلغ في مدحهم ، والفردوس يطلق على الاودية الّتى تنبت ضروبا من النّبت ، والبستان الّذى يكون فيه جميع ما يكون في البساتين ، وعلى طبقات الجنان ، وعلى الطّبقة العليا منها ويؤنّث ويذكّر وهو عربيّ أو رومىّ أو سريانىّ معرّب (هُمْ فِيها خالِدُونَ) أتى به اشارة الى تمام النّعمة فانّ تمامها بعدم زوالها.

اعلم ، انّ الإنسان من بدو خلقته الّتى هي خلقة نطفته واولى مادّته وقرارها في قرار مكين يكون بالقوّة في جميع ما يمكن ان يحصل للإنسان وكلّ آن يحصل له فعليّة من فعليّات الانسانيّة الّتى هي فعليّات الولاية ، وكلّ فعليّة تحصل له تكون مرتبة من الولاية التّكوينيّة الّتى هي سارية في جميع الموجودات وبكلّ بعد من مرتبة المادّة وقرب من الولاية يحصل له فعليّة من فعليّات الولاية ويخلع عنه نقص وعدم من اعدام المادّة ، وحصول كلّ فعليّة له نحو وراثة من أبيه الّذى هو الولاية المطلقة الّتى هي المشيّة وهذا الخلع وتلك الوراثة مستمرّ ان له الى أو ان المراهقة وزمان البلوغ وتميز الخير والشّرّ الانسانيّين ، فاذا وصل الى ذلك وقع بين تصرّف الملك والشّيطان وبين النّسبة الى الرّحمن والنّسبة الى الشّيطان بالقوّة فاذا تصرّف فيه الشّيطان صار نسبته اليه بالفعل وكلّما حصل له فعليّة من تصرّف الشّيطان صار تلك الفعليّة ارثا له من الشّيطان ، وكلّما زاد تصرّف الشّيطان اشتدّ فعليّة النّسبة الى الشّيطان واشتدّ بحسبها الفعليّات الحاصلة له من الشّيطان حتّى إذا حصل له جميع الفعليّات المناسبة لدركات النّيران وتمكّن في اتّباع الشّيطان فيصير وارثا لجميع مال الشّيطان وجميع مراتبه بحيث يصير الشّيطان من اجزائه واظلاله ، وإذا تصرّف فيه الرّحمن صار نسبته اليه بالفعل وكلّما حصل له فعليّة من تصرّف الرّحمن صار تلك الفعليّة ارثا له من الرّحمن ، لكن لمّا كان الشّيطان أقرب اليه حين البلوغ من الرّحمن جعل الله وسائط بينه وبين خلقه من الأنبياء والأوصياء (ع) حتّى يكونوا بظاهر بشريّتهم موافقين للعباد ويكون العباد مدركين لهم بمداركهم الحيوانيّة حتّى يأنسوا بهم ويتوسّلوا الى الله بالتّوسّل بهم ويكون الرّسل (ع) وخلفاؤهم معاونين لهم في قبول تصرّف الرّحمن ، فمن توسّل بهم بالبيعة العامّة أو البيعة الخاصّة تعرّض لتصرّف الرّحمن وحصّل النّسبة بينه وبين الرّحمن وبتلك النّسبة يصير ابنا لمن بايع معه البيعة العامّة أو الخاصّة وكلّما حصل له من جهة تلك النّسبة من الفعليّات كان فعليّة الولاية والرّحمن وكان ارثا له من صاحب الولاية المطلقة حتّى حصل له جميع فعليّات الولاية المطلقة من طبقات الجنان ، والفرق بين هذا الإرث والإرث الدّنيوىّ الصّورىّ انّ الإرث الصّورىّ لا يحصل للإنسان ما دام المورّث لم يرفع يده بالموت عن المال الموروث وعن الوارث ، وما لم ينقطع النّسبة بينه وبين الوارث ، وانّ الإرث المعنوىّ لا يحصل للإنسان ما لم يشتدّ النّسبة بينه وبين الوارث وما لم يضع المورّث يده على الوارث وبحسب اشتداد النّسبة وقوّة وضع اليد يكون زيادة الإرث وكثرة المال الموروث وهذا الإرث موجب لسعة المورّث وكثرة ماله بخلاف الإرث الصّورىّ ، ولمّا كان لكلّ إنسان قوّة فعليّة الجحيم والجنان وكان دركات الجحيم ودرجات الجنان الّتى كان للإنسان قوّة الوصول إليها بمنزلة ماله المملوك له بالقوّة ، وإذا وصل الى إحديهما ترك الاخرى ترك الميّت ماله لوارثه ، ورد انّ منازل أهل الجنان في الجحيم

٩١

يرثها أهل الجحيم في الجنان يرثها أهل الجنان يعنى يرث كلّ من المتناسبين منازل الآخر وبهذا التّناسب يصحّ اطلاق التّوارث فعلى ما ذكر كان معنى الآية الّذين يرثون الفردوس من صاحب الولاية المطلقة أو من متناسبيهم من أهل الجحيم (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ) عطف على قد أفلح المؤمنون ووجه المناسبة بينهما انّ فلاح المؤمن عبارة عن خلاصه عن نقائص المادّة وشوائب العدم وخروجه عن القوّة الى الفعليّة واوّل مراتب خلقته أيضا خلاص من العدم وعن نقائص المادّة وخروج من القوى الى الفعليّات فكأنّه علّل صحّة فلاحه بهذا العطف وقال : انّ فلاحه مثل خلقته المشهودة لكم بحسب آثارها فانّ النّشأة الآخرة مثل النّشأة الدّنيا ، ويجوز ان يكون حالا بهذا المعنى ، والسّلالة ما انسلّ من الشّيء ونكرّ السّلالة والطّين للاشعار بانّهما كانا نوعين خاصّين من السّلالة والطّين ، ومن الاولى ابتدائيّة متعلّقة بخلقنا والثّانية بيانيّة أو تبعيضيّة متعلّقة بمحذوف صفة لسلالة ، أو ابتدائيّة متعلّقة بسلالة ، أو بمحذوف صفة لسلالة ، أو هي مع ما بعدها بدل من قوله من سلالة ، والمراد بالإنسان الجنس وبالسّلالة النّطفة قبل انفصالها من الأصلاب والتّرائب وقبل ان تسمّى نطفة ، وبالطّين طين آدم أو الغذاء مطلقا أو الغذاء المهضوم في المعدة أو الكيد أو العروق أو الأعضاء فانّ الكلّ بوجه تراب خليط بالماء خلطة أتمّ وأبلغ من الطّين المعروف ، وقيل : المراد بالإنسان آدم (ع) ابو البشر ، وبالسّلالة التّراب المأخوذ من أديم الأرض (ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً) مستقرّا (فِي قَرارٍ) القرار والقرارة بفتحهما ما يستقرّ فيه الشيء (مَكِينٍ) من المكان بمعنى الموضع أو من المكانة بمعنى المنزلة عند الملك ، أو من التّمكّن بمعنى الاقتدار ، والمراد بالقرار المكين الرّحم (ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ) اى صيّرنا النّطفة (عَلَقَةً) أو خلقنا من النّطفة علقة (فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً) أتى بثمّ في الفقرة الاولى للاشارة الى امتداد الزّمان من اوّل استقرار النّطفة في الرّحم الى صيرورتها دما منعقدا بخلاف صيرورة العلقة مضغة فانّه لا تراخى بين العلقة والمضغة (فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً) يعنى صيّرنا وصوّرنا اوّلا صورة العظام فانّه ما لم يتميّز العظام في بدن الجنين لا يتصوّر تصوير اللّحوم فانّ اللّحوم في كلّ موضع بنحو مخصوص وليس تميّزها وخصوصيّاتها الّا بتميّز محالّها الّتى هي العظام وخصوصيّاتها (فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) أتى بثمّ للاشعار بتراخي مرتبة الإنشاء عن الخلق فانّ الخلق يستعمل في المكوّنات المادّيّات ، والإنشاء في المجرّدات ، وقد يخصّ الخلق بما يحتاج الى مادّة ومدّة كالمواليد ، والاختراع بما يحتاج الى المادّة دون المدّة كالسّماوات والعناصر ، والإنشاء بالمتقدّرات المجرّدة عن المادّة والمدّة ، والإبداع بالمجرّدات عن الكلّ وبكلا المعنيين يكون الإنشاء أعلى درجة من الخلق ، وللاشارة الى انّ إنشاء نفس الإنسان ليس كصيرورة العلقة مضغة بلا فرجة بل لا يكون إنشاء نفس الإنسان ممتازة عن بدنه الّا آخر ايّام الحمل أو اوّل ايّام الوضع فيكون بين كسوة العظام لحما وبين إنشائه نفسا تراخ (فَتَبارَكَ اللهُ) بمعنى تنزّه وتقدّس وهذه كلمة خاصّة بالله بهذا المعنى يقال في مقام التّعجّب من الشّيء وتعظيمه وان كان أصله من البركة بمعنى النّماء والزّيادة في الخيرات ، عقّب الإنشاء بهذه الكلمة للاشارة الى انّ إنشاء نفس الإنسان امر عظيم ينبغي ان يتعجّب منه وينزّه منشئه عن وصمة النّقص ، والتفت من التّكلّم الى الغيبة ولم يقل تباركنا لانّ هذه الكلمة صارت كالامثال في مخاطباتهم ولا تتغيّر (أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) يعنى انّ الخالقيّة الحقيقيّة ان كانت منحصرة في الله فوسائطه لخلقه من الملائكة والقوى والصّنّاع كثيرة والله تعالى أحسن الكلّ لعدم احتياجه في خلقه الى شيء من مثال سابق ومادّة ومدد وآلة وقوى وجوارح وأعضاء (ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ) وجه الإتيان

٩٢

بثمّ ظاهر (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ) جمع الطّريقة بمعنى السّماء لانّ كلّ سماء طريقة ومطارقة اى مطابقة للأخرى ، أو لانّ السّماوات مسير للكواكب أو بمعنى الاخدودة في الأرض شبه الطّريق والمقصود انّكم شاهدتم طبقات الأرض الّتى مررتم عليها من المراتب المذكورة وقد خلقنا فوقكم طبقات السّماء ولا بدّ لكم من المرور عليها قبل الموت أو بعد الموت فأعدّوا أنفسكم للمرور عليها واطلبوا لأنفسكم دليلا للمرور عليها فانّكم بها أجهل منكم بطرق الأرض (وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ) اى المخلوق أو إيجاد الخلق (غافِلِينَ) حتّى نهمل ما يحتاج الخلق اليه ولم نخلقه لهم فاطلبوا ما تحتاجون اليه في السّير على طرق السّماء تجدوا (وَأَنْزَلْنا) عطف فيه معنى التّعليل (مِنَ السَّماءِ) اى من جهة العلو أو من السّحاب (ماءً بِقَدَرٍ) بحيث تنتفعون به ولا يفسد أماكنكم ولا زراعاتكم به ولا نمنعكم بحيث لا يحصل ما به معاشكم ومدد حيوتكم فانّه لو كان المطر متتاليا متكاثرا أفسد الابنية والزّروع ، وهكذا القنوات والعيون والسّيول والبحار لو كثرت مياهها بحيث أحاطت بوجه الأرض لافسدت وأهلكت ولو لم يكن ماء أصلا لم تكن حيوة أبدا ، وإنزال الماء بقدر دليل عدم غفلتنا عن الخلق ، ولا يذهب عليك انّ إنزال ماء الحيوة الحيوانيّة والبشريّة من سماء الأرواح وإسكانه في ارض البدن الحيوانىّ والانسانىّ منظور أيضا (فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ) ليستقى به زراعاتكم وبهائمكم وتنتفعون به في سائر منافعكم (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) فأبقيناه في الأرض ترحّما عليكم (فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) الفاكهة الثّمر بأنواعها رطبها ويابسها (وَمِنْها) اى من الجنّات أو من الفواكه (تَأْكُلُونَ) خصّ الجنّات من بين ما يحصل بسبب الماء ثمّ خصّ من الجنّات النّخيل والأعناب بالذّكر لاعجاب العرب بالجنّات وبالنّخيل والأعناب منها وعدم معرفتهم من الجنّات شيئا تعتدّ به سواها (وَشَجَرَةً) قرئ بالنّصب عطفا على جنّات وبالرّفع خبر مبتدء محذوف اى من المنشئات شجرة ، أو مبتدء خبره تنبت بالدّهن (تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ) قرئ بفتح السّين والمدّ وبكسر السّين والمدّ والقصر ، والطّور الجبل أو فناء الدّار والمراد به الجبل الّذى ناجى موسى ربّه فيه ، وسيناء اسم الموضع الّذى به هذا الجبل ، أو اسم حجارة مخصوصة في ذلك الموضع ، وقيل : المراد بالسّيناء الجبل المشجّر يعنى الكثير الشّجر ، وقيل : المراد الجبل الحسن ، وقيل : السّيناء بمعنى البركة ، ومعنى طور سيناء جبل البركة وهو ما بين مصر وايلة ، وقيل : طور سيناء جبل بالشّام ، وفي أخبارنا اشارة الى انّ طور سيناء نجف الكوفة ، وانّه الموضع الّذى فيه مشهد أمير المؤمنين (ع) فعن الباقر (ع) انّه كان في وصيّة أمير المؤمنين (ع) ان أخرجوني الى الظّهر فاذا تصوّبت أقدامكم واستقبلتكم ريح فادفنوني فهو اوّل طور سيناء ، وعن الصّادق (ع) : الغرىّ قطعة من الجبل الّذى كلّم الله عليه موسى (ع) تكليما ، وقدّس عليه عيسى (ع) تقديسا ، واتّخذ عليه إبراهيم (ع) خليلا ، واتّخذ محمّدا (ص) حبيبا ، وجعله للنّبيّين مسكنا ، فو الله ما سكن بعد أبويه الطّيّبين آدم ونوح (ع) أكرم من أمير المؤمنين (ع) ، والمراد بالشّجرة الّتى تخرج من طور سيناء شجرة الزّيتون وخصّها بالذّكر لانّها كثيرة النّفع للعرب فانّها (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) قرئ من الثّلاثىّ المجرّد وحينئذ يكون الباء للتّعدية أو للمصاحبة ، وقرئ تنبت من الإنبات بمعنى النّبت أو متعدّيا ، ويكون المفعول محذوفا اى تنبت الثّمر بالدّهن (وَصِبْغٍ) اى ادام فانّ ثمرها ادام (لِلْآكِلِينَ) قيل : المراد شجرة الزّيتون وهو مثل رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) فالطّور الجبل والسّيناء الشّجرة (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) اعتبارا واستدلالا على عنايته تعالى بكم وكمال حكمته وقدرته والجملة معطوفة على قوله :

٩٣

لقد خلقنا ، أو على قوله : أنزلنا من السّماء فانّهما في معنى ان يقال : انّ لكم في خلقكم ، وانّ لكم في إنزال الماء من السّماء لعبرة (نُسْقِيكُمْ) قرئ بضمّ النّون وفتحها والجملة مستأنفة أو حاليّة (مِمَّا فِي بُطُونِها) من الألبان (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) بسبب تسخيرها لكم من الظّهور والاصواف والشّعور والأوبار والتّجمّل بها (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) اى من لحومها وشحومها (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) في البرّ والبحر لمّا كان المراد تعداد النّعم بنحو الاعتبار بها أضاف الى الانعام الفلك (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) لمّا ذكر صنعه في خلق الإنسان وتدبيره لإمكان بقائه ونبّهه على بقائه بعد موته ذكر غاية النّعم وأصلها وأشرفها وهي إرسال الرّسل للهداية الى خير السّبل ليكون بقاؤه أتمّ بقاء وعلى أشرف أنحاء البقاء (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) قرئ غيره بالرّفع والجرّ (أَفَلا تَتَّقُونَ) اى أتعبدون الأصنام فلا تتّقون سخطه (فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) يعنى قال الرّؤساء للاتباع (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) يعنى لا فرق بينه وبينكم حتّى يكون مستحقّا للتّفضّل عليكم ويستحقّ الرّسالة دونكم (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) فيجعلكم اتباعا لنفسه (وَلَوْ شاءَ اللهُ) ان يرسل علينا رسولا (لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً) للرّسالة (ما سَمِعْنا بِهذا) اى بإرسال رسول من البشر أو بما يدعوننا اليه من التّوحيد (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) حتّى لا نستغرب منه ولا ننكره (إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ) جنون (فَتَرَبَّصُوا بِهِ) فاحتملوا منه وانتظروا افاقته (حَتَّى حِينٍ قالَ) الرّسول (رَبِّ انْصُرْنِي) عليهم (بِما كَذَّبُونِ فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ) بعد دعائه وإجابتنا له وامهالنا لهم مدّة متمادية حتّى رجع عنه من كان داخلا في دينه (أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) جمع العين بمعنى الباصرة أو بمعنى الدّيدبان ، والباء بمعنى في اى اصنعها في حضرة أعيننا ، أو للسّببيّة والمعنى اصنعها بسبب إمداد ملائكتنا ، وعلى الاوّل يكون الظّرف لغوا متعلّقا باصنع أو مستقرّا حالا من المفعول أو الفاعل (وَوَحْيِنا) بتعليمك صنعها (فَإِذا) صنعتها و (جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ) الّذى جعلت فورانه بالماء علامة لإهلاك قومك وغرقهم (فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ) قرئ كلّ منوّنا وبالاضافة اى من كلّ نوع من الحيوان مشتمل على الذّكر والأنثى (اثْنَيْنِ) ذكرا وأنثى لئلّا يستأصل النّوع (وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) قد سبق الآية في سورة هود (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لمّا كان المنقطع الفطرة كالعضو الفاسد الّذى يؤذى صاحبه ويفسد ما يجاوره وبقطعه يسلم سائر الأعضاء ويستريح البدن وصار قومه بعد كمال شقاوتهم كالاعضاء الفاسدة وبقطعهم واستيصالهم يستريح الملائكة وخلفاء الله امره تعالى بالحمد على نعمة استيصالهم والّا فنوح (ع) كما كان يجادل الله في دفع العذاب عن قومه كان يحزن على هلاكهم لا انّه كان يشكر على استيصالهم (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي) من السّفينة ومن مقام الحضور والإطلاق الى مقام الغيبة والكثرات (مُنْزَلاً) قرئ من الانزال ومن النّزول وهو مصدر أو اسم مكان أو اسم زمان (مُبارَكاً) بالبركة لي في مالي وأولادي وأعواني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ) قد ورد قراءة هذه الآية وقت النّزول في منزل (إِنَّ فِي ذلِكَ) القصص أو في إرسال نوح (ع) ودعوته وإهلاك قومه (لَآياتٍ) عديدة على المبدء وتوحيده وعلمه وقدرته وتوانيه بالنّسبة الى العاصين من خلقه ورحمته وتدبيره

٩٤

(وَإِنْ كُنَّا) اى انّه كنّا (لَمُبْتَلِينَ) يعنى كنّا قديما ممتحنين عبادنا بالشّرّ والخير أو كنّا ممتحنين في إرسال نوح (ع) وتوانينا في إهلاك قومه (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ) هم قوم هود أو قوم صالح (فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هو هود أو صالح (أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) ان تفسيريّة وتفسير لارسلنا لانّ فيه معنى القول (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) مضى الآية قبيل هذا (وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ) قولا كمنكرى البعث أو فعلا وحالا كأكثر أهل كلّ زمان (وَأَتْرَفْناهُمْ) أنعمنا عليهم بنعمة أبطرتهم (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ) ذكروا الجملتين لتأكيد التّشابه واستغراب التّفضيل (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) لضياع بضاعتكم الّتى هي عقولكم بإطاعة بشر مثلكم (أَيَعِدُكُمْ) استبعاد لهذا الوعد لعدم إقرارهم بالمعاد (أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ) انّكم الثّانى تأكيد للاوّل أتى به لطول الكلام والفصل بين انّ الاولى وخبرها ، أو انّكم الثّانى مبتدء خبره الظّرف المتقدّم والجملة خبر انّ الاولى ، أو انّكم الثّانى فاعل فعل محذوف جواب للشّرط ، أو هو مبتدء محذوف الخبر والجملة جواب للشّرط بتقدير الفاء ، أو هو فاعل للظّرف والظّرف خبر انّ الاولى ، أو خبر انّ الاولى محذوف وانّ الثّانية مع خبرها تأكيد لانّ الاولى وخبرها (هَيْهاتَ هَيْهاتَ) قرئ هيهات بتثليث التّاء منوّنا وغير منوّن وبسكون التّاء وبإبدالها هاء ساكنة وفي هيهات اثنتان وخمسون لغة هيهات وأيهات ، وهيهان وايهان ، وهيهات وهايهان ، وآيهات وآيهان ، مثلّثات الاخر منوّنات وغير منوّنات ، وهيهات ساكنة الآخر بالتّاء وبالهاء وايها وايآت وهي اسم للبعد ، أو اسم فعل بمعنى بعد سواء جعل مفردا أو جمعا لهيه وهو كلمة طرد وزجر ، وإذا كان اسما للبعد كان (لِما تُوعَدُونَ) خبره ، وإذا كان اسما للفعل كان ضمير الفاعل مستترا فيه وكان لام لما توعدون للتّبيين (إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل (نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ) اى مذعنين أو لقوله موقنين (قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ قالَ) الله اجابة لدعائه (عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً) الغثاء ما احتمل السّيل من الزّبد والهالك والبالي (فَبُعْداً) بعدوا بعدا حذف الفعل وأقيم المصدر مقامه والقياس فبعدا لهم لكنّه وضع المظهر موضع المضمر للاشعار بعلّة الحكم وذمّ آخر لهم فقال (لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) واللّام للتّبيين وهو اخبار أو دعاء عليهم والمعنى انّ الهلاكة ثابتة للقوم الظّالمين (ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ) فأهلكوا في موعدهم المقدّر لهم فانّ قوله (ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ) كناية من إهلاكهم في موعد إهلاكهم وتهديد للحاضرين (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا) هو من الوتر ضدّ الشّفع والتّاء مبدل من الواو كتاء تقوى وهو وصف أو مصدر والالف للتّأنيث مثل التّقوى أو للإلحاق وعليهما قرئ غير منوّن ومنوّنا والمعنى أرسلنا رسلنا واحدا واحدا لكنّ المواترة لا تستعمل الّا إذا كان بين الأشياء تعاقب بتراخ فانّه إذا لم يكن بينها تراخ يقال بينها مداركة ومواصلة (كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في العقاب والإهلاك (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدّث بهم ويسمر بقصصهم وهو

٩٥

جمع الاحدوثة أو جمع الاحداث جمع الحديث ، أو جمع الحديث ابتداء مع شذوذ وحمل الأحاديث عليهم إذا كانت جمع الحديث للمبالغة في استيصالهم كأنّهم لم يبق منهم في النّاس الّا حديثهم (فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) مضى نظيره قبيل هذا (ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) التّسع أو بمعجزاتنا أو بأحكامنا (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) ظاهر أو مظهر والمراد بالسّلطان عصاه أو برهانه القولىّ أو سلطنته على قهر الأعداء (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) اى قومه مطلقا أو خواصّه (فَاسْتَكْبَرُوا) عن موسى (ع) وقبول دينه (وَكانُوا قَوْماً عالِينَ) بحسب الدّنيا بسبب غلبتهم على أهل أرضهم وعلوّهم على من كان في مصر (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) يعنى ليس لهما فضل بأنفسهما ولا بقومهما والعاقل لا يفضّل من لا جهة فضل فيه بل لنا عليهما الفضل باستعباد قومهما لانّ القبطىّ كانوا يستعبدون السّبطىّ في الأعمال أو لانّ السّبطىّ كانوا يعبدون فرعون مثل القبطىّ (فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا) بعد التّكذيب بلا فرجة (مِنَ الْمُهْلَكِينَ) عن الحيوة الانسانيّة دون الحيوانيّة أو صاروا من المهلكين بالاغراق لكن بعد حين ، والإتيان بالفاء لانّ الفاء في كلّ شيء بحسبه والإهلاك المتعقّب للرّسالة بلا فرجة ان تتمّ الرّسالة واحتجاجاتها (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) كتاب النّبوّة وأحكامها أو التّوراة (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) اى لعلّ قومه أو لعلّ فرعون وقومه وهذا يوافق تفسير الكتاب بالنّبوّة وأحكامها (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) فانّ مريم (ع) كانت من اوّل بلوغها آية لله لانّها كانت متعبّدة غير ملتفتة الى الدّنيا وملاذّها ، يأتيها رزقها من الله يأتيها فاكهة الصّيف في الشّتاء وفاكهة الشّتاء في الصّيف وحملت من غير مسيس بشر ، وكان مدّة حملها اقصر مدّة ، ساعة أو أكثر بيسير ، فانّها لم يظهر على أحد انّها كانت حاملة وحملت من غير زوال بكارتها وكون عيسى (ع) آية لا حاجة فيه الى التّفصيل (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ) مكان مرتفع ، وقرئ الرّبوة بضمّ الرّاء وفتحها ، وقرئ رباوة بضمّ الرّاء وكسرها ، والرّبوة والرّباوة بتثليث الرّاء فيهما المرتفع من الأرض (ذاتِ قَرارٍ) للماء بانبساطها واستوائها أو للنّاس بسبب انّ من كان فيها ومن دخلها يستقرّون فيها لحسن مكانها ووفور النّعم فيها (وَمَعِينٍ) اى ذات ماء جار من معن الماء إذا جرى ، أو من الماعون بمعنى المعروف ، أو اسم مفعول من العين بمعنى المدرك بالعيون لظهورها وارتفاعها والمراد بها بيت المقدس أو دمشق أو رملة فلسطين أو مصر ، وعن ابى جعفر (ع) وابى عبد الله (ع) انّها حيرة الكوفة وسوادها والقرار مسجد الكوفة والمعين الفرات (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) حال بتقدير القول أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول كأنّه قيل : ما قال الله الرّسل سواء كان الخطاب لمجموعهم دفعة في عالم الجمع وهو عالم الأرواح ، أو كان الخطاب لكلّ واحد واحد في زمانه لكنّه تعالى جمعهم في الحكاية ، وقيل : انّه خطاب لمحمّد (ص) من دون تقدير القول والإتيان بالجمع لجريه على طريقة العرف في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع ، وقد مضى مكرّرا انّ الاكل لا اختصاص له بما يعرفه العرف اكلا بل ادراك كلّ مدرك وفعل كلّ عضو وتحريك كلّ محرّك وتحرّك كلّ متحرّك أكل له ولمّا كان مراتب الإنسان كثيرة كان طيّبات كلّ مرتبة من جهتها الخلقيّة ما كانت ملائمة ملذّة لها ومن جهتها الحقّيّة ما كانت مباحة مكسوبة بأمر الله مرضيّة لله سواء كانت موافقة لسائر المراتب أو لم تكن (وَاعْمَلُوا صالِحاً) ليس المراد به فردا ما لا على التّعيين فانّ الأنبياء ان لم يكونوا مأمورين بجميع الصّالحات كانوا مأمورين بأكثرها ، ولم يكتف تعالى من سائر عباده بفرد ما من الصّالحات فكيف بالأنبياء فالمراد اعملوا صالحا عظيما فانّ التّنوين والتّنكير في أمثاله بعد ما علم انّه ليس المراد به فردا ما امّا ان يكون للتّحقير أو للتّعظيم ، والتّحقير أيضا مناف لأمر الأنبياء (ع) فالمراد هو التّعظيم

٩٦

والصّالح العظيم الّذى لا صالح الّا بصلاحه هو الولاية فعلى هذا ينبغي ان يفسّر الآية هكذا : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) الّتى هي أرزاق الأعضاء والقوى والمدارك من الأعمال القالبيّة الشّرعيّة والنّفسانيّة النّبويّة واعملوا صالحا عظيما هو الولاية والتّوجّهات والاستعدادات والإلهامات والمشاهدات المتعلّقة بها (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ) من الأعمال القالبيّة والقلبيّة (عَلِيمٌ) ويجوز ان يكون الخطاب للرّسل ويكون المقصود بالحكم أممهم من قبيل ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو يكون الأمم مقصودين معهم (وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) اى دينكم أو جماعتكم الآمّون لكم المؤتمّون بكم وسوق العبارة يقتضي ان يقال : هذه أممكم لكنّه تعالى لمّا جمع في حكاية الخطاب أو جمعهم في أصل الخطاب في العوالم العالية جمع الأمم أيضا في لفظ الامّة فانّه يطلق على الواحد والكثير ، وقرئ انّ مفتوحة الهمزة مشدّدة ومخفّفة بالعطف على ما تعملون أو بتقدير اللّام لتعليل قوله فاتّقون ، وقرئ انّ مكسورة الهمزة بالعطف على انّى بما تعملون عليم (أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) والمقصود من الآية انّا أرسلنا الرّسل وبعد ما بلّغوا وأجاب لهم أممهم ووقعوا بيننا وبين عبادنا وصاروا ذوي اضافتين اضافة إلينا واضافة الى عبادنا قلنا لهم : يا ايّها الرّسل أنتم ائمّة لعبادنا فاعملوا الأعمال القالبيّة المرضيّة للنّفوس ولنا حتّى يتأسّى بكم أممكم ولا ينزجروا منكم ولا ينفروا عنكم وعن دينكم ، واعملوا الأعمال القلبيّة الّتى بها توجّهكم إلينا واستفاضتكم منّا حتّى يتمّ تربيتكم لعبادنا بحسب الظّاهر والباطن ، لانّى بما تعملون من الأعمال القالبيّة والقلبيّة عليم ، ولانّ هذه أمّتكم فليكن المنظور من أعمالكم صلاح حالهم وانا ربّكم الّذى أفيض عليكم ما به قوامكم وما به صلاحكم وصلاح أممكم فاتّقون في عدم مراقبة حال الأمم وعدم التّوجّه الىّ لاخذ ما به صلاح الأمم (فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ) يعنى كان أمّة كلّ رسول في زمانه أمّة واحدة بواسطة مراقبة الرّسول (ع) واجتماعهم على ملّته ففرّقوا امر دينهم بعد ذهاب رسولهم باستبداد بعضهم بالرّأى وعدم انقيادهم لوصىّ رسولهم واختيار كلّ مذهبا ومسلكا كما وقع ذلك في أمّة محمّد (ص) أو تفرّقوا بفرق مختلفة لأجل امر دينهم (زُبُراً) جمع الزّبور بمعنى الفرقة ، وقرئ زبرا بفتح الباء جمع الزّبرة بمعنى القطعة مثل الغرفة والغرف يعنى فرّقوا امر دينهم قطعا مختلفة ، أو تفرّقوا حالكونهم فرقا مختلفة ، أو هو جمع الزّبور بمعنى الكتاب يعنى جعلوا دينهم كتبا يتوسّلون بها وينصرفون عن صاحب دينهم وقالوا : كفانا كتابنا كما جعل أمّة محمّد (ص) امر دينهم مستندا الى الكتاب السّماوىّ الّذى جمعوه والى كتبهم الّتى دوّنوها لتصحيح دينهم وعلى التّقادير صحّ جعل زبرا مفعولا ثانيا وحالا (كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى تفرّقوا لانّ كلّ حزب منهم كانوا بما عندهم من العلوم والمسائل والآراء معجبون فأرادوا رواج ما عندهم واستنكفوا عن صاحب دينهم (فَذَرْهُمْ) يعنى إذا كان حال الأمم على ما ذكر وحال أمّتك تصير الى ما ذكر فذر الأمم ومنافقي أمّتك (فِي غَمْرَتِهِمْ) فلا تتعرّض لهم بالرّدّ والقبول (حَتَّى حِينٍ) اى حين العذاب على يدك أو يد خليفتك أو حين الموت وظهور علىّ (ع) (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) فيستنكفون لذلك عن وصيّك (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) انّه استدراج لهم ومكر ولذا يحسبون ويستنكفون (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم لا ينبغي هذا الحسبان؟ ـ فقال : لانّا نسارع في الخيرات لهؤلاء لأولئك وقد مضى بيان هذه الكلمة في سورة الأنبياء عند قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ) يعنى بجملة آياته خصوصا آياته العظمى من الأنبياء والأولياء (ع) يذعنون ، أو الّذين

٩٧

يؤمنون بآيات ربّهم بالبيعة العامّة أو الخاصّة أو الّذين يؤمنون بالبيعة العامّة أو الخاصّة بسبب آيات ربّهم بان صارت الآيات الآفاقيّة والانفسيّة سببا لان يتوجّهوا الى الأنبياء (ع) فأسلموا على أيديهم بالبيعة العامّة ، أو الى الأولياء فآمنوا على أيديهم بالبيعة الخاصّة والّذين هم بعد الإسلام أو الايمان (وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ) المضاف وهو ربّهم في الولاية (لا يُشْرِكُونَ) بان بايعوا على أيدي غيرهم أو توجّهوا الى غيرهم أو أطاعوا غيرهم أو اتّبعوا أهواءهم (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا) يعطون ما أعطوا من الصّدقات أو من جملة الأعمال الالهيّة وقرئ يأتون ما أتوا من الثّلاثىّ المجرّد يعنى يأتون بما أتوا اى يفعلون ما فعلوا (وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ) خائفة من تقصيرهم في الأعمال لانّهم يعملون انّهم لا يستطيعون ان يجاهدوا في الله حقّ جهاده ولا يجاهدون فيه حقّ جهادهم وفسّر في أخبارنا هكذا وهو خائف راج ، ونقل انّ المؤمن جمع إحسانا وشفقة والمنافق جمع إساءة وامتنانا (أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ) يعنى قلوبهم وجلة بسبب انّهم كانوا في الرّجوع والسّلوك الى الله أو الى ربّهم المضاف ، أو قلوبهم وجلة من انّهم يرجعون بعد الى الله أو الى ربّهم المضاف مع تقصير ، أو قلوبهم وجلة من فوت الرّجوع الى ربّهم ومن انّه لا يمكنهم الرّجوع الى الحضور عند الرّبّ المضاف بالفكر المصطلح للصّوفيّة الّذى هو تمثّل صورة الشّيخ عند السّالك ، أو قلوبهم وجلة لانّهم كانوا في السّلوك الى ربّهم المضاف وكلّما قربوا منه استشعروا بعظمته أكثر من السّابق وكلّما استشعروا بعظمته اشتدّت الخشية والهيبة منه عليهم وفي خبر عن أمير المؤمنين ثمّ قال : ما الّذى آتوا ، آتوا والله الطّاعة مع المحبّة والولاية وهم في ذلك خائفون ليس خوفهم خوف شكّ ولكنّهم خافوا ان يكونوا مقصّرين في محبّتنا وطاعتنا (أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) في مقابل (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ) وانّما نسب الفعل هاهنا إليهم للاشعار بانّ عملهم واوصافهم المذكورة وان لم تكن سببا فاعليّا للخيرات ومسارعتها لكنّها سبب قابلىّ لها وانّهم ان وصلوا الى خير كان ذلك بعملهم بخلاف المسارعة هناك لانّها كانت هناك عبارة عن الأمداد بالمال والبنين وليس ذلك الّا من الله وليس مسارعة في الخيرات بل استدراجا ومسارعة من الله في العقوبة (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ)(وَهُمْ لَها سابِقُونَ) اى لأجلها متّصفون بالسّبق ، أو سابقون النّاس في القرب عند الله أو سابقون النّاس الى الطّاعة أو الثّواب أو الجنّة أو هم آخذون لها قبل الآخرة أو قبل النّاس وعلى هذا يكون اللّام زائدة للتّقوية (وَلا نُكَلِّفُ) عطف فيه رفع توهّم فانّه قد يتوهّم متوهّم انّه لا يمكن الجمع بين تلك الأوصاف بحقائقها ، أو يتوهّم انّ الفرحين بما عندهم لا يقدرون على الاقدام على الأوصاف فرفع ذلك بقوله (لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) الوسع مثلّثة الواو الجدة والطّاقة يعنى لا نكلّف نفسا الّا بقدر طاقتها أو ما يسعه طاقتها بان يكون دون طاقتها (وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ) رفع توهّم آخر فانّه قد يتوهّم انّ الأمداد بالأموال والبنين أبطرهم فلا ينبغي ان يمدّهم الله فقال : انّ امدادنا واستدراجنا كان بسوء فعلهم ولدينا كتاب هو كتاب أعمالهم الّذى يكتبه الحفظة أو كتاب هو الكتاب السّابق على وجودهم من الألواح العالية ينطق بالحقّ ، نسبة النّطق الى الكتاب مجاز أو لانّ الكتب العالية كلّها حيوة وعلم وشعور ونطق (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بزيادة العقاب أو بالعقوبة من دون استحقاق (بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ) في غفلة غامرة (مِنْ هذا) الكتاب أو ممّا ذكر من أوصاف الأخيار السّابقين أو من اتّصاف الأخيار بتلك الأوصاف أو من القرآن كما في تفسير القمّىّ (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) التّفرّق

٩٨

في الدّين والفرح بما لديهم والاعجاب بآرائهم أو من دون ذلك الجهل والغمرة (هُمْ لَها عامِلُونَ) ممّا يكون عبادة للهوى سواء كان بصورة العبادات أو بصورة المعاصي (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ) متنعّميهم (بِالْعَذابِ) غاية لعملهم أو لكون قلوبهم في غمرة ، وخصّ المترفين لانّهم كانوا منشأ لكفرهم وكفر غيرهم ، ولانّ المترفين لا يتنبّهون ولا يتضرّعون بمؤاخذة غيرهم ، والمراد بالعذاب عذاب الموت والآخرة ، أو عذاب الدّنيا ، وفسّر بقتلهم يوم بدر وبالأخذ بالجوع حين دعا عليهم رسول الله (ص) فقال : اللهمّ اشدد وطأتك على مضر (١) واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف (ع) فابتلاهم بالقحط حتّى أكلوا الجيف والكلاب (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) جأر كمنع رفع صوته بالدّعاء وتضرّع واستغاث (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) بتقدير القول جواب لسؤال مقدّر (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ) اى لا تنصرون من قبلنا أو لا تنصرون من عذابنا (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) اى ترجعون والنّكص لا يكون الّا في الرّجوع عن الخير وقد مضى انّ النّاس كلّهم مفطورون على الخير وذاهبون على فطرة الخير ويشبّه الرّاجع عن الدّين والخير ما لم يقطع فطرته بمن يرجع عن المقصد رجوع القهقرى على عقبيه لانّه ببقاء فطرته كان وجهه الى مقصده وان كان يتنزّل عمّا كان فيه من الخيرات الحاصلة له بفطرته أو بكسبه (مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ) اى بالبيت أو ببلد مكّة ، وشهرة افتخارهم واستكبارهم بالبلد الحرام والبيت الحرام اغنت عن ذكره سابقا ، أو بالقرآن فانّ تلاوة الآيات تدلّ عليه ، أو بمحمّد (ص) فانّ كونه جاريا على ألسنتهم في محافلهم قرينة له ، ولفظ الباء على الاوّلين للسّببيّة ، أو صلة مستكبرين بتضمين مثل معنى التّكذيب ، ويجوز ان يكون متعلّقا بتهجرون ، والباء للظّرفيّة على ان يكون الضّمير للبيت أو الحرم ، أو للسّببيّة أو للإلصاق على ان يكون الضّمير للقرآن أو لمحمّد (ص) (سامِراً) اسم لجماعة السّامرين اى المتحدّثين باللّيل بما لا فائدة فيه أو اسم لمحلّ السّمر (تَهْجُرُونَ) اى تقطعون عن محمّد (ص) أو تهزأون أو تستهزئون أو تفجشون قرئ بفتح التّاء وضمّ الجيم وبضمّ التّاء وكسر الجيم (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) اى الم يكتر ثوابك وبادّعائك الرّسالة فلم يدّبّروا القرآن أو لم يدّبّروا قولك حتّى يعلموا انّه ليس من هوى نفسانىّ وامراض قلبيّة وأغراض دنيويّة (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) من الكتاب والشّريعة والرّسول حتّى كانوا لم يعرفوا ولم يسمعوا بمثله ولذلك ينكرونه (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ) بالنّسب والحسب وبالصّدق والامانة من اوّل نشوه (فَهُمْ لَهُ) لا للشّريعة والكتاب (مُنْكِرُونَ) لعدم معرفتهم بحاله (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) جنون ولذلك ينكرونه (بَلْ) ليس شيء من ذلك فانّ الشّريعة والرّسالة والكتاب كانت سيرة الهيّة جارية من لدن آدم وكان رسولهم معروفا لهم بالحسب والنّسب والصّدق والامانة بحيث لقّبوه محمّدا الأمين وكان فيهم ما لم يدّع الرّسالة اعقلهم ولكن (جاءَهُمْ بِالْحَقِ) الّذى لم يكن سنخا لهم لانّهم كانوا باطلين وسنخا للباطل (وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) لعدم سنخيّتهم له وعدم موافقته لاهوائهم (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ) الحقّ المطلق هو الله ، والحقّ المضاف مشيّته وهي فعله تعالى ثمّ الولاية ثمّ النّبوّة ثمّ الرّسالة ثمّ كلّ ما كان الحقّيّة فيه غالبة والبطلان مغلوبا (لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) لانّ أهواءهم لا تتجاوز عمّا فيه مشتهى نفوسهم من غير ملاحظة غاية لذلك المشتهى ومن غير ملاحظة حقوق من في عالمهم الصّغير ومن في العالم

__________________

(١) مضر كزفر ابو قبيلة ولقّب بمضر الحمراء لانّه ورث من أبيه الذّهب ، أو لأنّهم كانوا رفعوا في الحرب راية حمراء.

٩٩

الكبير ولو لم يراع الحقوق لفسدت السّماوات والأرض ومن فيهنّ في العالم الصّغير وفسد من في العالم الكبير وفسد سماوات العالم الكبير وأرضه لفساد غايتهما الّتى هي صلاح من فيهما (بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ) يعنى انّ انكار الحقّ الّذى جاء به محمّد (ص) امر عظيم وهؤلاء لخروجهم عن الفطرة الانسانيّة أنكروا إنكارا أعظم منه وهو إنكارهم ذكرهم وشرفهم أو وعظهم ونصحهم وقد آتينا نحن ذلك لهم فهو اضراب من الأدنى الى الأعلى ، والمراد بالذّكر الرّسول أو القرآن أو الشّريعة أو السّلطنة (فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ) الّذى اتيناهم نحن به (مُعْرِضُونَ أَمْ تَسْأَلُهُمْ) يعنى بل ليس المانع شيئا من ذلك ولكن تسألهم (خَرْجاً) فيثقل ذلك الخرج عليهم فينكرون رسالتك لذلك فلا تسألهم ذلك ان كنت تسألهم (فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ) لك من كلّ خراج فانّ خراجه كلّ ما سواه (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) قد سبق بيان كونه خير الرّازقين في سورة الحجّ (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) جملة حاليّة يعنى ليس إنكارهم لانّك تدعوهم الى صراط معوجّ فلم يقبله عقولهم كأنّه قال أم تدعوهم الى صراط معوجّ (وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وضع الظّاهر موضع المضمر لتعليل الحكم ، وللاشارة الى ذمّ آخر لهم وهو في معنى لكن الّذين لا يذعنون بالآخرة (عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) اى عادلون ولذلك ينكرون وقد فسّر الصّراط المستقيم في الآية بولاية علىّ (ع) وعدولهم عن الصّراط بعدولهم عن علىّ (ع) أو عن الامام ، وعن أمير المؤمنين (ع) انّ الله تبارك وتعالى لو شاء لعرّف العباد نفسه ولكن جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله والوجه الّذى يؤتى منه ، فمن عدل عن ولايتنا أو فضّل علينا غيرنا فانّهم عن الصّراط لناكبون (وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا) لداموا على الخصومة (فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) في طغيانهم متعلّق بلجّوا أو بيعمهون اى يتردّدون فانّ العمه بمعنى التّردّد في الضّلال والتّحيّر في الطّريق ، روى انّهم قحطوا حتّى أكلوا العلهر (١) فجاء ابو سفيان الى رسول الله (ص) فقال : أنشدك الله والرّحم الست تزعم انّك بعثت رحمة للعالمين قتلت الاباء بالسّيف والأبناء بالجوع فنزلت (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ) يعنى القتل يوم بدر أو الجوع والقتل والخوف (فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ) استكان استفعل من الكون بمعنى الذّلّ ، أو افتعل من السّكون أشبع فتحة الكاف وله النّظير في لغتهم مثل المنتزاح في المنتزح يعنى انّهم ما استكانوا حين الابتلاء (وَما يَتَضَرَّعُونَ) والحال انّ المقصود من إرسال الرّسل وإنزال العذاب تضرّع العباد واستكانتهم لربّهم فكيف يتضرّعون حين رفع العذاب عنهم وقد فسّر الاستكانة بالدّعاء وبالخضوع والتّضرّع بالدّعاء وبرفع اليدين بالدّعاء (حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ) يعنى انّ شيمتهم العتوّ في كلّ حال حتّى إذا انفتح عليهم باب من جهنّم أو باب عذاب آخر مثل عذاب فتح مكّة أو باب الى العذاب حين الموت أو حين الرّجعة كما في الخبر (إِذا هُمْ فِيهِ) اى في الباب أو في العذاب (مُبْلِسُونَ) متحيّرون آئسون عن الخير أو مبتلون بالشّرّ (وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ) التفات من التّكلّم الى الغيبة بالنّسبة الى المتكلّم ، ومن الغيبة الى الخطاب بالنّسبة الى المخاطبين وصرف للخطاب من محمّد (ص) إليهم والجملة حال أو معطوفة والمقصود انّه تعالى لم يمنعهم ما به يتدبّروا القول فلم يكن منه تعالى إهمال لما يحتاجون اليه في تدبير القول لكنّهم لكفرانهم بأنعم الله كفروا بمثل هذه النّعم الّتى هي أصل جميع النّعم ولم يستعملوها لما خلقت لأجله من

__________________

(١) العلهر كزبرج طعام يتّخذ من الدم والوبر كانوا في المجاعة يتّخذونه.

١٠٠