تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

يدعوه رغبا ، وبعضهم يدعوه رهبا ، وان يراد انّهم يدعونه في وقت رغبا وفي وقت رهبا ، وانّهم يدعونه جامعين للوصفين وهذا هو المراد هاهنا فانّ الكامل يكون دائما بين الخوف والرّجاء والرّهبة والرّغبة.

اعلم ، انّ الإنسان بل مطلق الحيوان من اوّل استقرار نطفته ومادّة وجوده في مقرّها واقع بين قوّة قبول الفناء والبقاء والاستنزال والاستكمال والنّقصان والزّيادة ، وكلّ موجود بفطرة وجوده راغب في بقائه واستكماله وازدياده هارب من فنائه واستنزاله ونقصانه ، وإذا كان الموجود شاعرا بالشّعور البسيط كأكثر أنواع الحيوان أو بالشّعور التّركيبىّ كافراد الإنسان كان بحسب شعوره أيضا حين عدم الغفلة هاربا عن منافياته ، راغبا في ملائماته ، والكامل هو الّذى لم يكن غافلا عن منافياته وملائماته ، ومن لم يكن غافلا عن ذلك المذكور كان دائما في الرّهب والرّغب والهرب والطّلب والخوف والرّجاء والخيفة والتّضرّع والفرار والالتجاء والتّوبة والانابة ، والتّبرّى والتّولّى ، وقد يصير الإنسان غافلا بحسب الشّعور التّركيبىّ عن وجوده وكمال وجوده ونقصانه وقد يكون مغترّا وقد يكون آئسا والثّلاثة مذمومة فانّ الممدوح هو السّير والسّلوك بين الخوف والرّجاء والكمال هو استواء الخوف والرّجاء بحيث لا يزيد أحدهما على الآخر كما في الخبر (وَكانُوا لَنا) لا لغيرنا (خاشِعِينَ) قد مضى معنى الخشوع ، والفرق بينه وبين الخضوع والتّواضع في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها) عطف أو بتقدير فعل كسوابقه وهي مريم (ع) كانت حفظت نفسها من ان ينظر الى عوراتها ومن ان يتصرّف فيها بالحلال أو الحرام (فَنَفَخْنا فِيها) اى في الّتى أحصنت فرجها بان نفخ رسولنا الّذى هو بمنزلة أنفسنا في جيب مدرعتها كما في الخبر بعضا (مِنْ رُوحِنا) الّتى هي ربّ نوع الإنسان واضافتها الى نفسه تعالى لتشريفها أو منفوخا ناشئا من روحنا (وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً) دالّة على علمنا وقدرتنا وحكمتنا بان حملت من غير فحل ومن دون زوال بكارتها وتكامل الجنين في رحمها في ساعة واحدة مثل كمال الجنين في تسعة أشهر ، وتكلّم ابنها وشهادته على طهارة أمّه وعدم تولّده من السّفاح في اوّل تولّده وشهادته على نبوّته في ذلك الزّمان (لِلْعالَمِينَ) لعدم حاجتها الى عقل أو تذكّر أو تأمّل ونظر أو تسليم وانقياد أو تطهير أو لبّ أو اعتبار (إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قلت لهؤلاء الأنبياء أو العباد بعد بعث الأنبياء؟ ـ فقال قلت لهم : انّ هذه أمّتكم ، أو حال عن الأفعال السّابقة على سبيل التّنازع وكلا الوجهين بتقدير القول اى قلنا للأنبياء بعد قبول أمرهم واجتماع جمع على شريعتهم : هذه أمّتكم ومؤتمّون بكم ، أو قلنا للخلق أو لمن اتّبعهم : هؤلاء الأنبياء مأموموكم ، أو قلنا للأنبياء أو للاتباع : هذه الطّريقة الّتى هي التّوحيد والتّسليم طريقتكم ، أو هو جواب لسؤال مقدّر أو حال بتقدير القول ، وخطاب للحاضرين في زمان محمّد (ص) والمعنى انّ هذه الجماعة من الأنبياء المذكورين ائمّتكم واسوتكم ، أو هذه الطّريقة طريقتكم (أُمَّةً واحِدَةً) جماعة واحدة من حيث الطّريقة أو طريقة واحدة غير متفرّقة (وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا) عطف على القول المقدّر اى قلنا انّ هذه أمّتكم أمّة واحدة وتقطّعوا (أَمْرَهُمْ) اى امر دينهم أو امر إمامتهم بان جعل كلّ لنفسه دينا وطريقا أو إماما ومقتدى ، أو امر اتباعهم بان جعل كلّ منهم اتباعهم لأهوية عديدة (بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ) جواب لسؤال مقدّر ووعد ووعيد كأنّه قيل : ما يصير حالهم؟ ـ قال : كلّ إلينا راجعون أو حال مفيدة لهذا المعنى يعنى رجوع الكلّ إلينا فنجازيهم على حسب أمرهم وطريقهم ، وصيغة تقطّعوا للمبالغة في الفعل ، وبينهم ظرف لغو متعلّق بتقطّعوا ، أو مستقرّ حال من أمرهم والمعنى فرّقوا امر دينهم أو امر إمامتهم أو اتّباعهم بينهم (فَمَنْ يَعْمَلْ)

٦١

الفاء للتّرتيب في الاخبار (مِنَ الصَّالِحاتِ) بعضا من الصّالحات (وَهُوَ مُؤْمِنٌ) بالايمان العامّ والبيعة العامّة النّبويّة أو بالايمان الخاصّ والبيعة الخاصّة الولويّة (فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ) كفران السّعى كناية عن ضياعه علّق عدم ضياع السّعى على عمل شيء من الصّالحات به يظهر اثر الايمان على البدن أو النّفس مقيّدا بقبول الدّعوة الظّاهرة أو الدّعوة الباطنة وإذا اعتبر مفهوم القيدين صار المعنى : من لم يعمل شيئا من الصّالحات سواء لم يعمل شيئا من السّيّئات أو عمل بعضها أو كلّها ، وسواء كان مؤمنا أو كافرا ، ومن عمل شيئا من الصّالحات أو جميعها ولم يكن مؤمنا ضاع سعيه وهو هكذا كما يدلّ عليه الاخبار ، فليس الأمر كما يقوله القلندريّة من انّك إذا عرفت فاعمل ما شئت ، فلا تصغوا إخوتي الى أقاويل البطّالين من المتصوّفة والقلندريّة واعملوا بلوازم ايمانكم ما قدرتم ثمّ تفوزوا ان شاء الله بنتائج ايمانكم وأعمالكم (وَإِنَّا لَهُ) اى لذلك البعض من الصّالحات أو لسعيه (كاتِبُونَ) أو لأجل من يعمل من الصّالحات كاتبون في صحائف عمله ما يعمله (وَحَرامٌ) قرئ حرام بفتح الفاء والمدّ وحرم بكسر الحاء وسكون الرّاء ، وحرم بصيغة الفعل المبنىّ للمفعول (عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) قرئ انّهم بفتح الهمزة وكسرها وحرام خبر مقدّم أو مبتدء مكتف بمرفوعه عن الخبر وانّهم مبتدء مؤخّر أو فاعل مغن عن الخبر ، أو حرام خبر مبتدء محذوف والمراد بالقرية أهلها بطريق المجاز في الحذف أو المجاز في اللّفظ والمعنى ممتنع على أهل قرية أهلكناهم عن الحيوة الانسانيّة عدم رجوعهم الى جزائنا وعقوبتنا أو رجوعهم الى ثوابنا على ان يكون لا زائدة أو الى الانسانيّة أو الى الدّنيا أو ذلك المذكور من عدم ضياع السّعى حرام على قرية أهلكناها لانّهم لا يرجعون الى الانسانيّة أو الى دار الثّواب ، أو أهلكناها لانّهم لا يرجعون عن غيّهم على ان يكون تعليلا لاهلكناها وكون انّهم بتقدير اللّام موافق معنى لقراءة كسر همزة انّ وكان الأوفق بمقابلة القرين الاوّل بحسب الظّاهر ان يقول تعالى : ومن عمل من السّيّئات أو من لم يعمل من الصّالحات سواء كان مؤمنا أم لا أو من لم يؤمن سواء عمل من الصّالحات أو لم يعمل فلا شكر لسعيه لكنّه عدل عنه وادّاه بحيث أفاد هذا المعنى مع شيء زائد وهو هلاكتهم عن الانسانيّة وإهلاك الله لهم وامتناع رجوعهم الى الانسانيّة أو الى دار الثّواب (حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ) غاية لعمل الصّالحات أو لعدم كفران السّعى أو لحرمة الرّجوع أو لحرمة عدم الرّجوع أو لعدم الرّجوع عن الغىّ والمراد بانفتاح يأجوج ومأجوج انفتاح سدّهم وقد سبق في سورة الكهف بيان يأجوج ومأجوج وتأويلهما ووجه منع صرفهما (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ) مرتفع من الأرض (يَنْسِلُونَ) اى يسرعون والضّمير ليأجوج ومأجوج أو للنّاس ، وقرئ من كلّ جدث ينسلون وهو يؤيّد إرجاع الضّمير الى النّاس فانّ الجدث بمعنى القبر.

اعلم ، انّ أمثال هذه من الرّموز الّتى رمزوها الأقدمون من الأنبياء والحكماء والمنظور من حكاياتها ليس الّا التّنبيه على المرموز اليه وليس النّظر من الله تعالى ولا من خلفائه الى صورة السّمر ، والمراد بيأجوج ومأجوج في العالم الصّغير جنود إبليس المتولّدة من الجنّيّة الّتى أتى بها لابن آدم وبقبول الولاية يجعل صاحب الولاية سدّا بينهم وبين بنى آدم الّذين تولّدوا من الحوراء الّتى أتى بها لابنه الآخر ، وإذا قرب السّاعة انفتح السّدّ وخرج يأجوج ومأجوج واستغرقوا تمام صفحة النّفس وأكلوا ما وجدوا فيها وهرب بنو آدم من صفحة النّفس فرارا منهم فلا يبقى تلّ ووهد الّا كان يأجوج ومأجوج مسرعين فيه وكان النّاس مسرعين منه (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ) يعنى ساعة الاحتضار وظهور القائم عجّل الله فرجه والقيامة الصّغرى (فَإِذا هِيَ) الإتيان بالفاء وإذا المفاجاة لتأكيد لصوق الجزاء بالشّرط ، والضّمير للقصّة أو مبهم يفسّره الأبصار (شاخِصَةٌ) مبتدء مكتف بالمرفوع عن الخبر أو خبر مقدّم

٦٢

(أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا) لا الّذين آمنوا فانّهم عن الأهوال ذلك اليوم آمنون فانّ الكفّار لهول ذلك اليوم وعدم أنسهم به يبقى أبصارهم مفتوحة لا تطرف ، وامّا المؤمن فانّه لانسه بالآخرة وبما يرى في ذلك اليوم كأنّه لا يرى امرا هائلا غريبا ولا يكون له امر هائل إذا كان كاملا ، وغير الكامل قد يرى أهوال ذلك اليوم لكن لا من حيث ايمانه بل من حيث كفره (يا وَيْلَنا) بتقدير القول اى قائلين يا ويلنا (قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا) الوعد ولم نكن نتفكّر فيه ونقبله ونستعدّ له (بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ) بل لم نكتف بالغفلة من هذا وكنّا عاملين لضدّ هذا وقد خلقنا الله تعالى للعمل لهذا والانس به (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول كأنّه قيل : ما يقال لهم؟ ـ فقال الله تعالى نقول : انّكم وما تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) اى حالكون ما تعبدون بعضا من غير الله أو ما تعبدون من دون اذن الله ، وفائدة التّقييد إخراج المطاعين بإذن الله كالأنبياء وأوصيائهم (حَصَبُ جَهَنَّمَ) والحصب الحطب ومطلق ما يرمى به في النّار ، أو لا يكون الحطب حصبا حتّى يسجر به (أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ) لام لها زائدة للتّقوية والجملة تأكيد للجملة الاولى والمراد بالخطاب المخاطبون وما يعبدون بطريق التّغليب (لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) مستأنف جواب لسؤال مقدّر ناش من سابقه كأنّه قال : فما حال هؤلاء الآلهة؟ ـ فقال : لو كانوا الهة ما وردوها ، أو مستأنف منقطع عن سابقه لفظا ومعنى وردّ من الله على الحاضرين المخاطبين بعد التّسجيل على الآلهة بالورود في النّار ، أو جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول كأنّه قيل : ما يقال حين الورود؟ ـ فقال تعالى : يقال لهم : لو كان هؤلاء آلهة ما وردوها (وَكُلٌ) من العابدين والمعبودين (فِيها خالِدُونَ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ) تنفّس شديد لشدّة التّعب (وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ) لشدّة الهول وعدم استشعارهم بالأصوات أو لصممهم أو لا يسمعون ما ينفعهم ويريحهم ، والاشكال بانّ المعبودين سوى الله لا يكون كلّهم مستحقّين للنّار فانّ الشّمس والقمر وسائر النّجوم والملائكة وعيسى (ع) قد عبدوا وليسوا مستحقّين للنّار ولا راضين بعبادة النّاس لهم مدفوع بانّ الخطاب لعابدى الأصنام أو بأنّهم مستثنون من هذا الحكم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ) فانّه بمنزلة الّا الّذين سبقت كما أشير الى هذا الوجه في الخبر ، أو بانّ المعبود حقيقة في تلك العبادات هو الشّيطان المعنوىّ والجنّىّ الّذى كان قرين العابد في عبادته كما قال تعالى خطابا للملائكة (أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ ، قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ)(إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) جواب لسؤال مقدّر ولذلك اكّده استحسانا (أُولئِكَ) تكرار المبتدأ باسم الاشارة البعيدة تفخيم لشأنهم (عَنْها مُبْعَدُونَ) اى عن عذابها ومسيس ألمها حتّى لا ينافي قوله (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) ، وما قيل : انّ هذه ناسخة لتلك بعيد جدّا (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) الحسيس صوت يحسّ به والجملة حال أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر أو خبر بعد خبر (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) فزع القيامة الكبرى فانّه أفزع من فزع القيامة الصّغرى ، وقيل : هو النّفخة الاخيرة ، وقيل : هو حين يؤمر بالعبد الى النّار وهما راجعان الى الاوّل ، وقيل : هو عذاب النّار إذا أطبقت على أهلها وهو عقيب القيامة الكبرى (وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) قائلين (هذا يَوْمُكُمُ) اى دولتكم أو يوم ثوابكم (الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ).

اعلم انّ الحسن المطلق هو الولاية المطلقة وكلّ ما كان متّصلا بالولاية أو منتهيا إليها من فعل أو قول أو خلق

٦٣

أو حال أو علم أو اعتقاد أو وجدان أو شهود فهو حسن بحسنها ، فمعنى قوله انّ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى انّ الّذين فاقت وغلبت على فعليّاتهم فعليّة الولاية الّتى هي الحسنى وتقدّمت على كلّ فعليّاتهم ، أو انّ الّذين سبقت على وجودهم الطّبيعىّ في العوالم العالية لانتفاعهم منّا الحسنى الّتى هي الولاية بان قدّرنا لهم ذلك ومنّا لغو متعلّق بسبقت أو مستقرّ حال من الحسنى وعلى المعنى الاوّل كان من غلب على فعليّاته فعليّة الولاية محكوما عليه بالبعد من النّار دون من لم يغلب فعليّة الولاية في وجوده وهذا هو الموافق لاعتقاد الشّيعة ومذهبهم ، فانّ من لم يغلب الولاية على فعليّاته يردّ في البرازخ على نار الدّنيا وعلى اىّ تقدير كان المراد من تولّى عليّا (ع) وعليه اخبار كثيرة فعن النّبىّ (ص) انّه قال لعلىّ (ع) : يا على أنت وشيعتك على الحوض تسقون من أحببتم وتمنعون من كرهتم وأنتم الآمنون يوم الفزع الأكبر في ظلّ العرش ، يفزع النّاس ولا تفزعون ويحزن النّاس ولا تحزنون وفيكم نزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) (الآية) وفيكم نزلت : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (الآية) وبهذا المضمون عدّة اخبار وفي بعض الاخبار فالحسنة ولاية علىّ (ع) ، وفي خبر عن الصّادق (ع) يبعث شيعتنا يوم القيامة على ما فيهم من ذنوب وعيوب مبيضّة مسفرة وجوههم مستورة عوراتهم آمنة روعاتهم ، قد سهلت لهم الموارد وذهبت عنهم الشّدائد ، الحديث ، وفي حديث طويل عن النّبىّ (ص) مخاطبا لعلىّ (ع) : وفيكم نزلت هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ) ظرف للا يحزنهم ، أو لتتلقّيهم أو لتوعدون أو حال عن اليوم ، أو عن العائد المحذوف من توعدون أو معمول لا ذكر مقدّرا (كَطَيِّ السِّجِلِ) اى الصّحيفة الّتى يكتب فيها الحساب أو الملك الّذى يرفع اليه كتب الأعمال أو هو اسم لكاتب للنّبىّ (ص) ، وقرئ السّجل كالدّلو والسجلّ كالعتلّ وهما لغتان فيه (لِلْكُتُبِ) قرئ بالافراد والجمع واللّام للتّعليل اى لأجل الكتابة ، أو للتّقوية اى للمكتوب أو للمكتوب فيه ، وطىّ السّماء عبارة عن افنائها أو لفّها كلفّ الطّومار (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) لفظة ما كافّة أو مصدريّة ولا فرق بينهما في المعنى ، والخلق بمعناه المصدرىّ ، أو بمعنى المخلوق ، وليس المقصود فردا لا على التّعيين من الخلق أو المخلوق بل المراد جنس الخلق أو جميع افراده واوّل خلق مفعول لبدأنا أو لنعيد المقدّر الّذى يفسّره المذكور ، أو ظرف لبدأنا أو لنعيده المؤخّر والمعنى كما بدأنا الخلق في اوّل مراتب الخلق أو نعيد الخلق في اوّل مراتب الخلق والمراد اوّل مراتب الخلقة أو اوّل افراد الخلق ، واوّل مراتب الخلقة في جملة العوالم مرتبة المشيّة ، واوّل افراد الخلق هو الّذى يكون في المشيّة المسمّى بالفرد اللّاهوتىّ ، واوّل الخلق في عالم الخلق مقابل الأمر هو المادّة المستعدّة المتميّزة من بين الموادّ لشيء مخصوص كالنّطفة المستقرّة في الرّحم وضمير نعيده راجع الى الخلق ان كان بمعنى المخلوق ، أو الى المخلوق المستفاد من الخلق ، أو لفظة ما موصولة والعائد محذوف ، واوّل خلق حال عن العائد المحذوف ، أو مفعول به أو فيه لبدأنا أو لنعيد المقدّر والمعنى كالّذي بدأناه حالكونه اوّل خلق ، أو كالّذي بدأناه في اوّل مراتب الخلق ، أو كالكيفيّة الّتى بدأنا بها اوّل الخلق نعيده ، والمنظور تشبيه الاعادة بالابداء في جواز تعلّق الارادة والإمكان ، أو تشبيه المعاد بالمبتدء في كونه عاريا ممّا خوّله الله ايّاه (وَعْداً) مفعول مطلق لمحذوف (عَلَيْنا) إنجازه أو ثابتا حتما علينا (إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) جواب لسؤال مقدّر مؤكّد استحسانا (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) الزّبور كتاب داود (ع) والكتاب السّماوىّ ومطلق الكتاب والألواح العالية من اللّوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات ، والذّكر مصدر بمعنى التّذكّر وكلّ ما يتذكّر به من الأقلام العالية والألواح الرّوحانيّة والجسمانيّة والكتب السّماويّة ، والإنسان الكامل والولاية والنّبوّة والتّوراة ، ومن بعد الذّكر متعلّق بكتبنا أو ظرف

٦٤

مستقرّ حال من الزّبور ، أو خبر مقدّم وانّ الأرض (الى آخر الآية) مبتدء مؤخّر والجملة مفعول كتبنا لكونه بمعنى القول ، وهذا بعيد جدا ووجوه اعتبار المعنى في كلّ من وجوه اعتبار اللّفظ بحسبه ، والعباد الصّالحون شيعة علىّ (ع) فانّهم يملكون ارض العالم الصّغير حين ظهور القائم (ع) بالموت الاضطرارىّ أو الاختيارىّ ، ويملكون ارض الفردوس كذلك ، ويملكون ارض العالم الكبير بالتّصرّف فيها باىّ نحو شاؤا بعد ظهور القائم (ع) ولذلك فسّر الآية بأصحاب القائم عجّل الله فرجه (إِنَّ فِي هذا) الوعد بإيراث الأرض أو في هذا القرآن أو في هذا الزّبور أو في هذا المذكور من الوعيد والوعد (لَبَلاغاً) اى كفاية أو بلوغا الى المقصود (لِقَوْمٍ عابِدِينَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) عطف أو حال وفيه معنى الاستدراك فانّه توهّم من قوله لقوم عابدين اختصاص الكتاب والنّصح والمواعظ بالعابدين فاستدرك هذا التّوهّم وقال : أرسلناك رحمة للعالمين فمن تعرّض لها أخذ نصيبا منها ومن اعرض عنها حرم منها ، والعابد متعرّض لها وذكر في الاخبار في وجه كونه رحمة للعالمين انّه (ص) بعث بالتّعريض لا بالتّصريح ، وانّ قومه أمهلوا ولم يتوعّدهم العذاب ولم يصرّح لهم بأمر كانوا يخالفونه فيعذّبوا كولاية علىّ (ع) وانّه رفع المسخ والخسف من هذه الامّة ، والتّحقيق انّ وجود خلفاء الله في الأرض رحمة من الله على أهل الأرض وبركة ورفع لبلائهم لانّهم بفنائهم من انانيّاتهم وبقائهم بوجود الهىّ اخروىّ صاروا عين الرّحمة الالهيّة ، وكونهم في الأرض عبارة عن وجود تلك الرّحمة في الأرض على جملة موجودات الأرض (قُلْ إِنَّما يُوحى) منقطع عن سابقه لفظا لكنّه مرتبط معنى كأنّه قال : إذا كنت رحمة للعالمين فقل لهم انّما يوحى (إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) وبلّغهم التّوحيد الّذى هو أصل جميع أنواع الرّحمة والحصر اضافىّ أو ادّعائىّ كأنّه لا يعدّ سائر أقسام الوحي من الوحي (فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مخلصون العبادة من الإشراك لله تعالى ، وقرئ في قراءة أهل البيت مسلّمون بتشديد اللّام بمعنى مسلّمون الوصيّة لعلىّ (ع) ، وعلى هذا يجوز ان يقال في تفسير الآية : انّما إلهكم بحسب مظاهره وخلفائه اله واحد من دون تعدّد وشراكة لغيره فهل أنتم مسلّمون الولاية لهذا الإله الواحد الّذى هو علىّ (ع) (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن التّوحيد أو تولّوا عن وصيّتك وولاية خليفتك (فَقُلْ) لهم (آذَنْتُكُمْ) اى أعلمتكم الحرب (عَلى سَواءٍ) اى حالكونكم على استواء معنا في الاعلام حتّى تتأهّبوا مثلنا للقتال أو أعلمتكم التّوحيد أو الولاية حالكونكم متساوين في ذلك الاعلام ، والاختلاف انّما نشأ من قبلكم لا من عدم تسويتى بينكم أو حملتكم باعلام الولاية على سواء الطّريق أو على امر مستوى النّسبة الى جميع الأمور وهو الولاية (وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ) اى الحرب الّتى توعدونها أو القيامة أو عذاب الآخرة أو ايراث الأرض (إِنَّهُ يَعْلَمُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : أفلا يعلم الله ذلك؟ ـ فقال : انّه يعلم (الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ) في نفوسكم من القول ، أو جواب لسؤال مقدّر عن علّة عدم علمه (ص) فقال : لانّ الله لا غيره يعلم الجهر من القول والخفايا منه ، وهذا من المخفيّات المغيبات ، والمراد بالجهر من القول هو الكلام المجهور والمكتوم ضدّه ، أو المراد بالمجهور مطلق القول الّذى يظهر على اللّسان ، والمكتوم ما كان من قبيل حديث النّفس ، أو المجهور مطلق ما يظهر على النّفس سواء كان بطريق حديث النّفس أو جاريا على اللّسان ، والمكتوم ما لم يظهر على النّفس بعد ، أو المجهور مطلق ما يظهر على الأعضاء من الأفعال والأقوال ، والمكتوم ما لم يظهر على الأعضاء من الأحوال والأخلاق والعلوم ، أو المجهور مطلق ما ظهر على النّفس من الأفعال والأقوال والصّفات والأحوال والعلوم ، والمكتوم ما لم يظهر على النّفس بعد من المكمونات الّتى لم يطّلع الإنسان

٦٥

عليها (وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ) اى لعلّ امر الولاية أو عليّا (ع) أو ما توعدون ، أو جهالة وقت ما توعدون ، أو تأخير العذاب امتحان لكم ، أو ضلال ، أو فضيحة ، أو إذابة وتخليص (وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ) اى تمتّع أو ما يتمتّع به يعنى هو جامع بين الوصفين أو فتنة لبعض ومتاع لبعض الى وقت يقتضيه مشيّته وهو مدّة كونكم في حجب التّعيّنات وقيد الحيوة الدّنيا (قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ) يعنى اخرج من مشيّتك وكل أمورك الى ربّك واسأله الإصلاح بالحقّ ، وقرئ قال على الماضي وربّ بضمّ الباء واحكم على وزن التّفضيل واحكم على الماضي (وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ) المتساوى الرّحمة بالنّسبة الى الحقير والخطير والبرّ والفاجر (الْمُسْتَعانُ) الّذى يستعين به الجامد والنّامى ، والشّاعر وغير الشّاعر ، والمطيع والعاصي في جميع الأمور خصوصا (عَلى ما تَصِفُونَ) من تكذيبي وعدّ كتابي من الأساطير ، أو من الإشراك بالله ، أو من انكار البعث أو من انكار الولاية والاتّفاق على ان لا تتركوا هذا الأمر لعلىّ (ع) وقرئ يصفون بالغيبة.

سورة الحجّ

مكّيّة الّا آيات ، وقيل : مدنيّة غير آيات نزلت في السّفر ، وقيل : غير ستّ آيات ،

وقيل : غير اربع آيات ، وورد في فضلها عن النّبىّ (ص) : انّ من قرأ سورة الحجّ اعطى

من الأجر كحجّة حجّها ، وعمرة اعتمرها بعدد من حجّ واعتمر فيما مضى وفيما بقي ،

وعن ابى عبد الله (ع) : من قرأها في كلّ ثلاثة ايّام لم يخرج من سنة حتّى يخرج الى بيت الله

الحرام وان مات في سفره دخل الجنّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ) اى سخط ربّكم وعقوبته بترك مخالفة أو امره ونواهيه (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ) استيناف في مقام التّعليل والمراد بالسّاعة ساعة ظهور القائم عجّل الله فرجه عند الاحتضار بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ وساعة القيامة الصّغرى أو ساعة القيامة الكبرى وظهور الولاية الكلّيّة كما أشير الى الكلّ في الخبر (شَيْءٌ عَظِيمٌ) فانّ حال الاحتضار وزلزلته في العالم الصّغير امر لا يتحمّله النّفوس البشريّة والمدارك الحيوانيّة لانّها لخراب النّفوس البشريّة والمدارك الحيوانيّة والمبانى الدّانية (يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ) لغاية الدّهشة والوحشة (كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ) مع انّ المرضعة تجعل نفسها فداء لرضيعها (وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ

٦٦

حَمْلَها) والمراد بذات الحمل كلّ ما كان فيه شيء آخر مكمونا لانّه يوم تخرج الأرض أثقالها ومكموناتها (وَتَرَى النَّاسَ سُكارى) زائلى العقول من غاية الحيرة والوحشة (وَما هُمْ بِسُكارى) حتّى يكونوا ملتذّين بلذّة السّكر وكيفه (وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ) فلذلك يزول عقولهم لا لكيف المسكر (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ) جملة حاليّة أو مستأنفة على مجيء الواو للاستيناف أو معطوفة على مقدّر كأنّه قال : فمن النّاس من يسلّم ويخاف ويسلّم من هولها ومن النّاس من لا يسلّم ويجادل (فِي اللهِ) اى في ذاته وصفاته واحكامه ومظاهره وخلفائه ، ومنها المجادلة في احكام العباد والنّظر فيها بالرّأى والاستحسان من دون اذن من الله واجازة من خلفائه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) فانّ العلم بالله وصفاته واحكامه وخلفائه لا يحصل الّا بالشّهود والوجدان وهم قاصرون فيه أو بالتّقليد لصاحب الشّهود والوجدان وهم مستنكفون منه (وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) عطف فيه معنى التّعليل يعنى يجادل بغير علم لانّه يتّبع كلّ شيطان عات طاغ وباتّباعه لا يحصل له الّا الجهل والعتوّ فلا يحصل له علم ولا تقليد لأهل علم (كُتِبَ عَلَيْهِ) مستأنف أو صفة بعد صفة أو حال بتقدير قد (أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) ثمّ خاطب الزّنادقة من منكري البعث بعد التّحذير عن وحشة البعث فقال (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) قد مضى انّ الرّيب هو التّزلزل في الاعتقاد الثّابت والاضطراب فيه وهو مقدّمة الشّكّ وكثيرا ما يستعمل في الشّكّ (مِنَ الْبَعْثِ) اى بعث الأموات واحيائهم في يوم الحساب فتفكّروا فيما سلف عليكم من الأحوال حتّى تعلموا جواز البعث فانّكم قد علمتم النّشأة الاولى فلو لا تذكّرون (فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ) يعنى انظروا في مادّة خلقتكم فانّ جزءها الأعظم كان التّراب الّذى هو اخسّ العناصر ثمّ استكمل ذلك التّراب في مراتب استكماله وكلّ استكمال كان موتا لكم عن صورة وبعثا في صورة اخرى حتّى بلغتم الى أقصى مراتب الكمال البشرىّ وموتكم عن البشريّة وبعثكم بالملكيّة مثل موتاتكم السّابقة وبعثاتكم (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ) قطعة دم جامدة (ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ) قطعة لحم غير متماسك الاجزاء كاللّحم الّذى يمضغ ، وإدخال من على المادّة يدلّ على انّ المادّة ليست هي الإنسان ولا جزء منه بل الإنسان اسم للفعليّة الاخيرة الّتى هي الرّوح وانّ النّفس الانسانيّة جسمانيّة الحدوث كما عليه الفلاسفة لا انّها قديمة أو خلقت سابقة على الأبدان كما عليه جمع من المتكلّمين والفقهاء ، وما ورد من خلق الأرواح قبل الأبدان انّما هو بحسب نشأتها المجرّدة لا بحسب نشأتها المتعلّقة وليس التّعلّق وصفا عرضيّا للنّفوس كما قيل بل هو مرتبة من مراتب ذواتها ونشأة من نشآت وجوداتها (مُخَلَّقَةٍ) تامّة الخلقة ويدلّ عليه وزن التّخليق الدّالّ على المبالغة (وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ) غير تامّة الخلقة ، أو باقية الى تمام زمان خلقته في الرّحم وهو الزّمان المعهود للجنين في الرّحم وغير باقية بل ساقطة أو خارجة سالمة قبل تسعة أشهر (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) كيفيّة بعثكم من هذا البعث المشهود لكم ، وحذف المفعول ليذهب ذهن السّامع كلّ مذهب ممكن كأنّه قال لنبيّن لكم حكمتنا وقدرتنا وعلمنا ورأفتنا وتوانينا في الأمور وإماتاتنا واحياءاتنا وبعثكم ونشركم وجزاءكم وحسابكم (وَنُقِرُّ) قرئ بالرّفع والنّصب من باب الأفعال ومن الثّلاثىّ المجرّد بالتّكلّم والغيبة وليكن الثّلاثىّ المجرّد المتكلّم مأخوذا من قررت الماء إذا صببته ، والمرفوع منه معطوف على خلقنا أو حال بتقدير مبتدء أو مستأنف والمنصوب معطوف على نبيّن كأنّه قال : غرضنا في التّأنّى والتّدريج في الخلقة بيان حكمتنا وقدرتنا على البعث وتقرير نطفكم (فِي الْأَرْحامِ) مدّة ليكون دليلا على بقائكم

٦٧

في البرازخ وقبل البعث مثل بقائكم في الأرحام (ما نَشاءُ) اى مدّة مشيّتنا ، أو نقرّ الّذى نشأ من النّطف ونزيل ما نشاء من الأرحام (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) اقلّه ستّة أشهر وأكثره تسعة أشهر ، وفي خبر إذا حاضت المرءة في حملها زاد ايّام الحمل على التّسعة بقدر ايّام الحيض ، وفي خبر آخر : إذا جاءت به لاكثر من سنة لم تصدّق ولو ساعة واحدة ، وعن العامّة أكثره آخر اربع سنين (ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) حال عن المفعول وافراده امّا على تقدير نخرج كلّ واحد منكم أو بلحاظ انّه اسم جنس يطلق على الواحد والأكثر ، أو باعتبار انّه في الأصل مصدر مطلق على الواحد والكثير (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا) عطف على محذوف اى لتبقوا وترضعوا وتمنوا ثمّ لتبلغوا ، أو متعلّق بمحذوف اى ثمّ ننميكم ونبقيكم لتبلغوا (أَشُدَّكُمْ) كما لكم في القوّة والعقل ، قد مضى انّ الاشدّ هو وقت كمال جميع القوى البدنيّة والنّفسانيّة وهو من ثماني عشرة سنة أو من اوّل البلوغ الى ثلاثين أو أربعين وهو مفرد على لفظ الجمع ، أو جمع لا واحد له من لفظه ، أو واحده الشّدّة بالكسر كالنّعمة والانعم ، أو الشّدّ كالكلب والأكلب أو الشّدّ كالذّئب والاذؤب لكنّه لم يسمع هذان (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى) جملة حاليّة أو عطف باعتبار المعنى كأنّه تعالى قال : منكم من يقرّ بمادّته في الأرحام ، ومنكم من يسقط ، ومنكم من يتوفّى قبل البلوغ أو حين البلوغ (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) اى أرذل أوقات العمر وهو وقت الخرافة وعدم التّفطّن بدقائق المقصود والمصنوع وهو يختلف بالنّسبة الى الأشخاص فربّ معمّر لا يصير خرفا في المائة أو أكثر ، وربّ رجل يصير خرفا في الخمس والسّبعين ولذلك اختلف الاخبار في بيان وقت أرذل العمر (لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً) اللّام للغاية لانّ عدم العلم بعد العلم من الغايات العرضيّة لا انّه علّة غائيّة لانّ العلّة الغائيّة للإبقاء هي الاستكمال بالعلم والعمل ، لا زوال العلم بعد الاستكمال به ، أو هو علّة غائيّة بمعنى انّ العلوم الدّنيويّة والإدراكات البشريّة الحاصلة بالمدارك الدّنيويّة من الموذيات في الآخرة ويبقى الله بعض عباده لان يضعف مداركه الدّنيويّة ويزول عنها مدركاتها ليكون على راحة منها في الآخرة ولذلك كان خير ابن آدم في ان يبقى بعد البلوغ الى الشّيخوخة كما في الخبر لانّ بقاء الإدراكات الدّنيويّة موذ لصاحبها في الآخرة ، ونعم ما قيل :

سينه خود را برو صد چاك كن

دل از اين آلودگيها پاك كن

(وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً) خالية عن النّبات والجملة خطاب لغير معيّن وعطف على الجزاء ، أو على الشّرط والجزاء ، كأنّه خاطبهم جميعا في مقام الاستدلال على جواز البعث فقال : وترون الأرض هامدة (الآية) أو الخطاب لمحمّد (ص) وعطف باعتبار المعنى وتعريض بالمنكرين للبعث كأنّه قال : ترى النّطفة وتقليباتها وإماتاتها واحياءاتها فكيف تنكر البعث وترى الأرض هامدة؟! (فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ) تحرّكت ونشطت ، شبّه الأرض في استسقاء الماء وتحريك الحبوب والعروق للنّبت والنّموّ بمن شرب ونشط وتحرّك نشاطا (وَرَبَتْ) انتفخت وارتفعت بالنّبات (وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) اى صنف (بَهِيجٍ) حسن رائق (ذلِكَ) المذكور من تقليبات النّطفة وطروّ حالاتها وإماتاتها واحياءاتها وحيوة الأرض بعد موتها بانزال الماء عليها (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) يعنى بانّ للعالم مبدء قادرا عليما حكيما ذا عناية ورأفة بخلقه ولو لا ذلك المبدء لما وقع هذه التّقليبات الّتى يعجز عن ادراك دقائقها وادراك نضد أسبابها الحكماء العقلاء (وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى) يعنى بسبب انّ عادته تعالى احياء الموتى اىّ ميّت كان فاذا لم يدع الأرض الميتة ولا النّطفة الميتة ويحييهما فكيف يدع الإنسان الّذى هو أشرف الكلّ

٦٨

ولا يحييه بعد موته (وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) يعنى ذلك بسبب انّ شيمته احياء الموتى مع انّه قادر على ذلك فلا يدع البتّة الإنسان ميّتا (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) يعنى ذلك بسبب انّ عالم المادّة برمّتها متجدّدة ذاتا وصفة من النّقص الى الكمال وهذا معنى كون الكون في التّرقّى والمتجدّد من النّقص الى الكمال يخرج لا محالة من حجبه الّتى هي الحدود المانعة من الحضور عند ربّه والخارج من الحدود يقوم عند الرّبّ وليست السّاعة الّا القيام عند الرّبّ المضاف الّذى هو قائم آل محمّد (ص) (لا رَيْبَ فِيها) لا ينبغي الرّيب فيها أو لا يبقى الرّيب فيها بعد ملاحظة ترقّيات النّطف والحبوب والعروق أو جنس الرّيب منفىّ عنها بمعنى انّ من تصوّر السّاعة لا يرتاب فيها ، ومن ارتاب فيها لم يتصوّر السّاعة فالسّاعة غير مرتاب فيها ، والمرتاب فيها غير السّاعة (وَأَنَّ اللهَ) شيمته انّه (يَبْعَثُ) لا محالة (مَنْ فِي الْقُبُورِ) كما ترى من بعثه جميع القوى المكمونة في النّطف والأراضي فكيف يدع الإنسان الّذى هو أشرف الموجودات ولا يبعث الأرواح والقوى المكمونة في بدنه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ) جملة حاليّة أو مستأنفة أو معطوفة على مقدّر مثل سابقتها ، وتكريرها للاستغراق بكلّ منهما من جهة غير جهة الاخرى فتكون كلّ لافادة معنى غير مفاد الاخرى (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ).

اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب وإدراكه في كلّ مرتبة غير الإدراك الّذى في المرتبة الاخرى فانّه في مقام نفسه المحتجبة عن المعاني الغيبيّة لا يكون إدراكه الّا بصور المعلومات المغايرة للمعلومات المحتملة للمطابقة لها ولعدم المطابقة وفي هذه المرتبة تسمّى إدراكاته بالتّصوّر والأوهام والشّكوك والظّنون والعلوم العاديّة والتّقليديّة واليقينيّة ولكن في عرف الشّرع تسمّى جملة تصديقاته الظّنيّة واليقينيّة بالظّنون لما تكرّر سابقا انّ العلوم في تلك المرتبة لمّا كانت مغايرة للمعلومات ومنفكّة عنها وجائزا زوالها كالظّنون تسمّى ظنونا ، فان كان إدراكه بجولان نفسه وترتيب مقدّمات وفكر ونظر من نفسه يسمّى علما برهانيّا ، وان كان بالتّسليم والأخذ من الغير يسمّى تقليديّا ، والتّقليد امّا يكون بالاستماع من المقلّد أو بمشاهدة كتاب منه ، والى الثّلاثة أشار بقوله (بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) ، وقدّم العلم لانّه أشرف من التّقليد من حيث نفسه وان كان التّقليد من حيث الخروج عن الانانيّة والتّسليم أشرف منه فانّ العلم الحصولى لا يخلو من شوب الانانيّة الّتى هي نحو من التّفرعن وادّعاء الآلهة ، وادّى العبارة بالهدى والكتاب المنير للاشعار بانّ التّقليد ان كان ممّن يصحّ تقليده بان يكون مجازا من الله ومعلوما صدقه يصحّ التّوسّل به والاعتماد عليه في التّكلّم والجدال ، وامّا ان كان ممّن لا يصحّ تقليده من أمثاله واقرانه ومن آبائه ومعلّميه فلا يجوز الاعتماد عليه ، ويجوز ان يراد بالكتاب المنير العلم الشّهودىّ الحضورىّ الّذى يكون في مرتبة القلب والرّوح لصاحب الشّهود والعيان فانّ المشهود في تلك المرتبة كالمكتوب الحاضر في صفحة عند النّفس في الأعيان ، وعلى هذا يكون الأقسام الثّلاثة بترتيب الأشرف فالأشرف (ثانِيَ عِطْفِهِ) كناية عن الاعراض والاستكبار (لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) قرئ يضلّ من باب الأفعال ، ومن الثّلاثىّ المجرّد ، وسبيل الله هو الولاية ، والنّبوّة أيضا سبيل الله لانّها سبيل الولاية (لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) بليّة فضيحة لانّ حال الجدل وارادة الغلبة على عباد الله والاستكبار عن العباد بلاء عظيم ولظى من جحيم وهو لأنهما كه في غيّه لا يستشعر بألمه (وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) واختلاف المتعاطفتين بالاسميّة والفعليّة للاشعار بانّ الخزي لازم جداله غير محتاج الى جعل جاعل وانّه ثابت له في الدّنيا من دون اعتبار تجدّد بخلاف عذاب الآخرة فانّه محتاج الى الجعل ومتجدّد كلّما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودا غيرها قائلين له

٦٩

(ذلِكَ) الخزي والعذاب (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) بسبب الّذى قدّمته يداك ، أو بتقديم يديك شنائع الأعمال وليس بدون استحقاق واستعداد منك فيكون ظلما ، ولمّا كان أكثر الأعمال جارية على اليدين نسب جميع الشّنائع من الأفعال والأقوال والأحوال والأخلاق الى اليدين (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) عطف على ما قدّمت يداك ، ونفى الظّلم كناية عن العدل يعنى ذلك بسبب انّه عادل والعدل يقتضي إعطاء كلّ مستحقّ حقّه وانّك استحققت الخزي والعذاب ، والظّلّام للنّسبة كالتمّار لا للمبالغة (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ) الحرف الطّرف والجانب ، شبّه العابد الشّاكّ في امره المتزلزل في عبادته بالغازى الغير العازم على القتال الشّاكّ المتزلزل من امر الغلبة الّذى يكون دائما على طرف من الجنود فان كان فتح وغلبة يوافق الجند والّا يفرّ وصحّ تفسيره بالشّاكّ في الله وبمن اقرّ بالله وشكّ في محمّد (ص) ، وبمن تزلزل في امره وترقّب الخير والشّرّ بحسب دنياه كما قال (فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ) والمراد بالخير الخيرات البدنيّة وبالفتنة الشّرور البدنيّة ، ويجوز ان يراد بالحرف الكسب يعنى من النّاس من يعبد الله مشتملا على كسب منه للدّنيا والخيرات البدنيّة في عبادته يعنى يجعل عبادته وسيلة لدنياه فان أصابها اطمأنّ والّا انقلب مكبّا على وجهه (خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ) خسر بمعنى ضلّ وصار مغبونا وباع بنقصان رأس المال ونقص المال مثل أخسر في الأخير ، ونصب الدّنيا والآخرة على الظّرفيّة في الجميع ، أو على الظّرفيّة في غير الأخير وعلى كونه مفعولا به في الأخير ، أو على التّشبيه بالمفعول به في الجميع ، أو في غير الأخير مثل حسن الوجه ، بنصب الوجه ، وخسرانه في دنياه بإنفاد عمره الّذى هو بضاعته الثّمينة بلا عوض فانّ العوض في الدّنيا هو التّلذّذ بمناجاة الله وفراغ القلب عمّا يشوّشه وطهارته عن الحقد والحسد والبخل وسائر الرّذائل ، وفي الآخرة نعيمها وجنّاتها ورضوان من الله وهو أكبر ، وهذا العابد محروم من الكلّ ، على انّه لا يستلذّ بمستلذّاته الحيوانيّة أيضا في الدّنيا لعدم اطمينانه واضطرابه في كلّ حال (ذلِكَ) الخسران الّذى هو الحرمان عن مستلذّات الإنسان في الدّنيا والآخرة ، وعن مستلذّات الحيوان (هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللهِ) اى من دون اذن الله أو من للتّبعيض والظّرف مستقرّ حال من قوله (ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ) لانّ مدعوّه ومعبوده في الحقيقة هوى نفسه وهو يزعم انّه يعبد الله في طرف من الدّين وهوى نفسه لا يقدر على ضرّه ولا على نفعه والآية تعريض بمن اقرّ بمحمّد (ص) ورسالته ولم يقرّ بقوله في علىّ (ع) ولا بعلىّ (ع) (ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ) نسبة البعد الى الضّلال مجاز عقلىّ والحصر هاهنا وفي قوله ذلك هو الخسران المبين حقيقىّ أو ادّعائىّ (يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ) يدعو بتضمين يقول ، ولمن ضرّه مبتدء واللّام موطّئة للقسم وقوله (لَبِئْسَ الْمَوْلى) خبره ولامه لام جواب القسم اخّرت الى الخبر كراهة الجمع بين اللّامين كما قيل ، أو خبر الموصول محذوف اى يقول من ضرّه أقرب من نفعه مولاي ولبئس المولى ابتداء كلام ، أو بتضمين يزعم أو يعلم ويكون الجملة بجزئيها مفعولين له يعنى بعد ما يظهر له في الآخرة امر مدعوّه يقول أو يعلم من ضرّه أقرب من نفعه بئس المولى ويكون الفعل إذا كان بمعنى يزعم أو يعلم ويكون الجملة بجزئيها مفعولين له يعنى بعد ما يظهر له في الآخرة امر مدعوّه يقول أو يعلم من ضرّه أقرب من نفعه بئس المولى ويكون الفعل إذا كان بمعنى يزعم أو يعلم معلّقا عن مفعوليه بواسطة اللّام ، أو يدعو تأكيد ليدعو السّابق واللّام موطّئة مثل السّابق الّا انّه لا تعلّق حينئذ للجملة بيدعو (وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ) المعاشر المصاحب (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كان الأوفق بالمقابلة ان يقول : ومن النّاس من يؤمن بالله

٧٠

ويعمل الصّالحات لكنّه عدل الى هذه العبارة لافادة هذا المعنى وجزائهم بعبارة واحدة ولتشريفهم بالابتداء بجزائهم وبعدم جعلهم قرينا ومقابلا لغيرهم من الأصناف الماضية كأنّهم أشرف من ان يذكروا مقابلين لهم والمراد بالايمان الايمان العامّ الّذى هو بمعنى الإسلام الّذى لا يحصل الّا بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة فيكون العمل الصّالح اشارة الى البيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة والايمان الخاصّ الّذى لا يحصل الّا بالبيعة الخاصّة ، أو المراد به الايمان الخاصّ فيكون العمل الصّالح اشارة الى العمل بما أخذ عليه في بيعته فانّ الله يدخل الّذين آمنوا بالبيعة على يد علىّ (ع) ودخول الايمان في قلبه وامتيازه عن غيره بحصول فعليّة الولاية في وجوده (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مرّ مرارا بيان كيفيّة جريان الأنهار من تحت الجنّات (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) لا مانع له من مراده وقد مرّ هذه الآية مع تفصيل تامّ في بيانها عند قوله تعالى : (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) من سورة البقرة (مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) اى من كان من النّاس يظنّ ان لن ينصره الله فيغيظه ذلك أو من يطرؤ عليه ما يغيظه فيظنّ ان لن ينصره الله (فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ) اى بحبل (إِلَى السَّماءِ) سماء بيته ليخنق نفسه (ثُمَّ لْيَقْطَعْ) نفسه بالاختناق (فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ) في اختناق نفسه (ما يَغِيظُ) اى ما يغيظه أو فليمدد بسبب اى حبل الى السّماء الدّنيا فليجتهد في الوصول الى السّماء ثمّ ليقطع اى ليستعمل تميزه فلينظر هل يذهبنّ كيده وحيلته ما يغيظ ، أو من كان من المؤمنين يظنّ ان لن ينصره الله محمّدا (ص) فيغيظ لذلك فليمدد بسبب الى سماء بيته لاختناق نفسه أو السّماء الدّنيا لحيلة نصر محمّد (ص) ثمّ ليقطع نفسه أو ليميز فلينظر ، أو من كان من الكافرين أو المنافقين يظنّ ان لن ينصره الله محمّدا (ص) وكان يغيظ لظنّ نصره فليمدد بسبب الى سماء بيته لاختناق نفسه ، أو الى السّماء الدّنيا لدفع نصره فلينظر (الى آخر الآية) (وَكَذلِكَ) الانزال في بيان البعث مع البرهان الواضح على بيانه وفي بيان حال المجادل في الله بغير دليل والعابد على حرف من الدّين والمؤمن الثّابت على الدّين (أَنْزَلْناهُ) اى القرآن (آياتٍ بَيِّناتٍ) واضحات أو موضحات لحال النّاس وصفات الله وخلفائه (وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) عطف على كذلك بتقدير اللّام أو عطف على الضّمير المفعول اى أنزلنا إليك انّ الله يهدى من يريد ، وفاعل يريد ضمير للموصول أو لله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة على يد محمّد (ص) فانّ الايمان صار اسما للإسلام في بدو الإسلام لكون المسلم مشرفا على الايمان (وَالَّذِينَ هادُوا) كانوا على اليهوديّة (وَالصَّابِئِينَ) الخارجين عن الدّين وهم الّذين عبدوا الكواكب ، وقيل : انّهم يزعمون انّهم على دين نوح (ع) (وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) الأصنام أو غيرها بالله (إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ) اى يميّز (بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) وان كانوا في الدّنيا متشابهين غير ممتازين وانّ الثّانية مع مدخولها خبر لانّ الاولى (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) استيناف في مقام التّعليل (أَلَمْ تَرَ) منقطع عن سابقه لفظا ومعنى أو مرتبط بسابقه جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل للتّمييز بين الفرق المختلفة ولقدرته على كلّ شيء كأنّه قيل : هل يقدر على التّمييز بين النّفوس الكثيرة المتشابهة مع كثرتها وشدّة تشابهها؟ ـ فقال : يقدر على ذلك لانّك ترى كلّ النّفوس البشريّة بل كلّ الموجودات العلويّة والسّفليّة مع كثرتها وتشابهها مسخّرة له ساجدة له ، والخطاب لمحمّد (ص) وحينئذ يكون الرّؤية على معناها والاستفهام للإنكار والتّقرير على المنفىّ ، أو الخطاب لغير معيّن ويكون الاستفهام للتّوبيخ يعنى لا ينبغي لك ان لا ترى (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ) اى يخضع

٧١

غاية الخضوع ، والخضوع في كلّ بحسبه ، وغاية الخضوع للمختارين ان يخرجوا من إراداتهم واختياراتهم وانانيّاتهم ، ويدخلوا تحت اختيار المسجود له وانانيّته ، ولمّا كان السّقوط على التّراب ظهور ذلك الخروج سمّى سجدة الصّلوة سجودا ، ولمّا كان كلّ الموجودات بفطرة وجودها مسخّرة تحت امر الحقّ تعالى كان الكلّ ساجدة له بفطرة وجودها فيسجد له (مَنْ فِي السَّماواتِ) جملة تكوينا واختيارا (وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) تماما تكوينا وبعضهم اختيارا أيضا (وَالشَّمْسُ) بجريها (وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ) مطلق ما ينبت من الأرض أو خصوص ما له ساق كما هو معناه اللّغوىّ (وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) عطف على من في السّموات فيكون المعنى وكثير من النّاس اختيارا ، أو مبتدء خبره ما بعده والجملة معطوف على جملة الم تر (وَكَثِيرٌ) ابتداء كلام على ان يكون كثير من النّاس من عطف المفرد ، أو تكرير وتأكيد للاوّل (حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ) خبر للاوّل أو الثّانى (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) جملة معطوفة أو حاليّة (إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في مقام التّعليل قد مضى في سورة البقرة عند قوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) بيان تامّ لهذه الآية (هذانِ خَصْمانِ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال من يجادل في الله والمؤمنين الّذين يجادلون الكفّار معهم في الله؟ ـ فقال : هذان خصمان والخصم في الأصل مصدر يطلق على المؤنّث والمذكّر والمثنّى والمجموع ، أو هو وصف كذلك وقد يثنّى ويجمع كما هنا (اخْتَصَمُوا) اى تجادلوا (فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا) يعنى الّذين يجادلون في الله بغير علم (قُطِّعَتْ) كناية عن الخياطة واستعمله هاهنا تهكّما واستهزاء (لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ) وأتى بالماضي للاشعار بتحقّق وقوعه (يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ) الحميم الماء الحارّ والماء البارد ضدّ (يُصْهَرُ بِهِ) اى يشوى أو يذاب به (ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ) يعنى يصل اثره من ظاهرهم الى باطنهم فيشوى باطنهم وظاهرهم ، وتقديم الباطن للاهتمام به في مقام التّهديد (وَلَهُمْ) اى خاصّة بهم (مَقامِعُ) جمع المقمعة كالمكنسة العمود من الحديد وجمع المقمع كالمكحل الخشبة الّتى يضرب بها رأس الفيل (مِنْ حَدِيدٍ) التّقييد به للتّصريح بانّه جمع المقمعة لا المقمع (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها) اى من النّار أو من المقامع بمعنى الخروج من عذابها (مِنْ غَمٍ) لا من شوق فانّهم ان اشتاقوا وأرادوا الخروج من شوق الى المراتب العالية خرجوا لا محالة فانّ قائد الشّوق يقودهم ولا يدعهم في الجحيم (أُعِيدُوا فِيها) بتلك المقامع (وَ) يقال لهم (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) اى النّار الحريق المحرقة على ان يكون الحريق اسما للمصدر أو وصفا يستوي فيه المذكّر والمؤنّث ، أو عذاب الماء الحميم الحريق (إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) كان حقّ العبارة ان يقول والّذين آمنوا وعملوا الصّالحات قطّعت لهم ثياب من النّعيم أو لهم جنّات (الى آخرها) لكنّه عدل الى هذه العبارة تشريفا للمؤمنين بجعلهم ارفع شأنا من ان يجعلوا قرينا للكافرين ، وافادة لهذا المعنى مع تشريفهم بنسبة معاشرة الجزاء الى الله ، واشعارا بانّ جزاء الكافرين من لوازم أعمالهم وجزاء المؤمنين بمحض التّفضّل من الله ، ولم يقتصر على الايمان كما اقتصر في جانب الكفّار على الكفر لانّ الكفر كان في العقوبة بخلاف الإسلام فانّه ان لم يقترن بالعمل الصّالح الّذى هو الولاية أو من جملته الولاية لم يكف في الجزاء بل كان صاحبه مثل المرجين لأمر الله غير محكوم عليه بشيء الى وقت الموت بخلاف من تولّى عليّا فانّهم محكوم عليهم بأنّهم يدخلهم الله (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) قد مضى مكرّرا انّ المراد

٧٢

من تحت عماراتها أو أشجارها أو قطعها أو المراد بالأنهار الأنهار المعنويّة تجري من كلّ مرتبة على ما دونها من مراتب الجنان الى عالم الطّبع (يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً) قرئ بالنّصب وبالجرّ (وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ) يعنى ارشدهم الله الى الأقوال الّتى يطيب بها نفوسهم من الاذكار والتّحيّات والأفكار والتّخيّلات وهو مثل جملة لباسهم فيها حرير عطف على تجري ، أو يحلّون ان لم يكن جملة يحلّون صفة بعد صفة ، أو هما مع جملة يحلّون أحوال مترادفة أو متداخلة ، وإذا كان معناه يهدون فيها الى الطّيّب من القول فالإتيان بالماضي لتحقّق وقوعه ، وان كان معناه هدوا في الدّنيا فهو على معناه (وَهُدُوا إِلى صِراطِ) الله (الْحَمِيدِ) أتى بعنوان الحميد للاشارة الى انّ المؤمن العامل بالصّالحات لاستكماله في أوصافه الحميدة وجنوده الكثيرة يهدى الى الله من حيث محموديّته بخلاف المجذوب الغير العامل فانّه يهدى اليه من حيث سبّوحيّته وقدّوسيّته ولذلك قال تعالى خطابا لنبيّه (ص) (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) يعنى فاستنّوا بسنّتى واعملوا بعملي تصيروا مثل الله متّصفين بالصّفات الحميدة ويحببكم الله حينئذ لاتّصافكم بصفاته وكان المشايخ الحقّة من السّلف والخلف يأمرون السّلّاك بحفظ النّواميس الشّرعيّة والعمل بجميع الفرائض والسّنن الواردة في الشّريعة فلا يصغي الى ما قالته المتصوّفة من القلندريّة الاباحيّة انّ الشّريعة حجاب ، وانّ العارف لا حاجة له الى العمل ، وانّ الواصل إذا عمل كان العمل منه قبيحا (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) منقطع لفظا ومعنى عن سابقه ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : قد عرفنا حال الكافر المطلق والمؤمن فما حال الكافر الصّادّ عن سبيل الله؟ ـ فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ) أتى بالمضارع اشعارا بانّ الكفر امر وحدانىّ ثابت بخلاف الصّدّ فانّه امر متجدّد الحصول ، وللاشارة الى انّ الكافر يصير شيمته الصّدّ على سبيل الاستمرار التّجدّدى (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) هو سبيل القلب الّذى تكوينيّه ولاية تكوينيّة وتكليفيّة ولاية تكليفيّة ولا سبيل لله سواه ، وكلّما عدّ سبيل الله أو فسّر سبيل الله به فهو سبيل الله لكونه سبيلا الى سبيل القلب (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الصّورىّ أو المعنوىّ وهو القلب (الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً) مفعول ثان لجعلنا أو حال وقوله (الْعاكِفُ فِيهِ) مرفوعه سواء جعل سواء وصفا أو مصدرا في معنى الوصف وقد مضى وجه كون الكعبة موضوعا لانتفاع النّاس في آل عمران ، وقرئ سواء بالرّفع فيكون خبرا مقدّما أو مبتدء مكتفيا بمرفوعه عن الخبر (وَالْبادِ) بإسقاط الياء في الوقف واجرائه حال الوصل على الوقف والمراد بالبادى مطلق المسافر يعنى الخارج الى البادية سواء سكن البادية أم لا ، والمراد بالمسجد الحرام الحرم وما حواه أو مكّة أو المسجد نفسه وفي أخبارنا تصريحات بانّ المراد مكّة ودورها لا يجوز أخذ الأجر عليها ولا يجوز ان يجعل عليها أبواب وانّ اوّل من جعل على داره مصراعين معاوية وانّه صاحب السّلسلة الّتى قال الله تعالى : (فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً) ، وكان الطّارين إذا قدموا نزلوا على الحاضرين في دورهم ، وقرئ العاكف بالجرّ بدلا من النّاس وحذف خبر انّ اتّكالا على جزاء ما يأتى من قوله (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ) اى من يرد في المسجد أو في سبيل الله شيئا حذف المفعول لارادة التّعميم (بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ) بدل من قوله بإلحاد أو صلة للالحاد أو هما حالان متداخلان أو مترادفان ، أو بإلحاد صلة يرد وبظلم حال ، وقرئ يرد بفتح الياء من ورد (نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ وَإِذْ بَوَّأْنا) واذكر أو ذكّر قومك إذ بوّأنا (لِإِبْراهِيمَ) اى عيّنّا على ما ورد انّ الله أرسل ريحا فكنس مكان البيت فظهر اسّ البيت الّذى نزل لآدم (ع) من الجنّة فبنى إبراهيم (ع) البيت على ذلك أو لام لإبراهيم زائدة (مَكانَ الْبَيْتِ) اى بيت الكعبة ولمّا كان الظّاهر عنوان الباطن فايواء إبراهيم (ع) مكان البيت

٧٣

أو تعيينه له كان عنوانا لايوائه الى القلب وتعيين محلّ القلب له لينجذب اليه ويخلص التّوحيد له ولذلك قال تعالى (أَنْ لا تُشْرِكْ) ان تفسيريّة لكون بوّأنا في معنى القول أو مصدريّة بتقدير اللّام (بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ) الظّاهر والباطن من الأصنام الظّاهرة والباطنة ومن النّجاسات الظّاهرة ولوث الرّذائل الباطنة (لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ) الدّاعين لله في القيام وبالقيام عنده أو القائمين بأمور العباد الكافين لهم (وَالرُّكَّعِ) الخاضعين لله أو المنحنين لمرمّة معاشهم والمكبّين على وجوههم غير مرتفعين رؤسهم ، أو المفتقرين المحتاجين بحسب الدّنيا أو الآخرة (السُّجُودِ) المتواضعين غاية التّواضع أو المبتلين بمرمّة معاشهم بحيث لا يمكنهم الخلاص منها في الكبير أو الصّغير (وَأَذِّنْ) بالغ في الاعلام (فِي النَّاسِ) لم يقل اذّن النّاس للاشعار بانّ أعلامه لم يكن للجميع بل لمن شاء الله ان يسمعه نداء إبراهيم فانّه روى انّ إبراهيم (ع) صعد أبا قبيس فقال : يا ايّها النّاس حجّوا بيت ربّكم فأسمعه الله من في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء فيما بين المشرق والمغرب ممّن سبق في علمه ان يحجّ وليس المراد من كان في زمانه في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء بل من كان يقع في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء الى يوم القيامة وذلك انّ إبراهيم (ع) نادى بلسانه الملكوتىّ وندائه الملكوتىّ وسمع من سمع باذنه الملكوتىّ وكلّ النّاس كانوا قبل هذا العالم في العوالم العالية من العوالم الملكوتيّة والجبروتيّة من النّفوس والعقول ، فمن سمع في تلك العوالم بتلك الآذان أجاب ، ومن لم يسمع وكان اصمّ من ذلك النّداء في تلك العوالم لم يجب ولم يحجّ في هذا العالم ، وعلى هذا جاز تفسير أصلاب الرّجال وأرحام النّساء بالعوالم العالية من العقول والنّفوس وان يكون وجودهم في الأصلاب والأرحام كناية عن وجودهم الاجمالىّ في العقول والنّفوس من دون تفصيل وتمييز ، وروى انّه لمّا امر إبراهيم وإسماعيل ببناء البيت وتمّ بناؤه قعد إبراهيم (ع) على ركن ثمّ نادى : هلمّ الحجّ فلو نادى هلمّوا الى الحجّ لم يحجّ الّا من كان يومئذ انسيّا مخلوقا ولكن نادى هلمّ هلمّ الحجّ الحجّ فلبّى النّاس في أصلاب الرّجال لبّيك داعي الله لبّيك داعي الله ، فمن لبّى عشرا حجّ عشرا ، ومن لبّى خمسا حجّ خمسا ، ومن لبّى أكثر فبعدد ذلك ، ومن لبّى واحدة حجّ واحدة ، ومن لم يلبّ لم يحجّ ، وفي خبر فأسمع من في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء الى ان تقوم السّاعة ، وورد في الخبر انّ الخطاب في قوله تعالى اذّن في النّاس لمحمّد (ص) فعن الصّادق (ع) انّ رسول الله اقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ ثمّ انزل الله تعالى (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِ) (الآية) فأمر المؤذّنين ان يؤذّنوا بأعلى أصواتهم بانّ رسول الله (ص) يحجّ في عامه هذا ، فعلم به من حضر بالمدينة وأهل العوالي والاعراب واجتمعوا لحجّ رسول الله وانّما كانوا تابعين ينظرون ما يؤمرون به فيتّبعونه أو يصنع شيئا فيصنعونه (بِالْحَجِ) اى بقصد البيت للمناسك المخصوصة (يَأْتُوكَ) لم يقل يأتوا البيت للاشارة الى انّ المقصود من تشريع الحجّ زيارة القلب وصاحبه لا زيارة البيت واحجاره كما انّ في قوله واجعل افئدة من النّاس تهوى إليهم اشارة الى ذلك ، والى هذا أشار الباقر (ع) حين رأى النّاس يطوفون حول الكعبة بقوله : هكذا كانوا يطوفون في الجاهليّة انّما أمروا ان يطوفوا ثمّ ينفروا إلينا فيعلمونا ولايتنا ومودّتهم ويعرضوا علينا نصرتهم (رِجالاً) اى مشاة قرئ بكسر الرّاء وتخفيف الجيم وضمّها وتخفيف الجيم وتشديده وكسكارى (وَ) محمولين بأنفسهم أو أحمالهم (عَلى كُلِّ ضامِرٍ) لمّا كان ما حول مكّة برار بعيدة خالية من الماء والعشب وكان كلّ فرس أو جمل أو استر أو حمار يأتى الى مكّة يضمر ويلصق بطنه بظهره

٧٤

ادّاه بلفظ الضّامر ، ولمّا لم يكن الآتون يستوعبون بافرادهم جميع الضّامرات الّتى في العالم وصفه بقوله (يَأْتِينَ) يعنى يأتين لقصد صاحبيهنّ مكّة (مِنْ كُلِّ فَجٍ) اى طريق واسع وهو في الأصل الطّريق الواسع بين الجبلين لكن اتّسع واستعمل في مطلق الطّريق (عَمِيقٍ) اى بعيد يعنى من كلّ فجّ في أطراف مكّة لا في العالم ، وهذه التّقييدات خلاف ظاهر الآية ولا بدّ منها لتصحيح تنزيلها ، فانّ ظاهر الآية هكذا اذّن في النّاس جميعا فانّ اللّام في مثله ليس الّا للاستغراق يأتوك بأجمعهم رجالا وركبانا على كلّ ضامر في العالم يأتين من كلّ فجّ عميق في العالم ، والحال انّه ما أتوا أو لا يأتى جميع النّاس ولا كلّ الضّامرات يأتين ولا كلّ الضّامرات الآتيات يأتين الى مكّة ولا كلّ الآتيات الى مكّة مركوبات للحاجّين ولا كلّ المركوبات للحاجّين يأتين من كلّ فجّ عميق في العالم ، لكنّه لمّا أراد التّنبيه على التّأويل ادّى الآية بهذه العبارة فانّها بإطلاقها وعمومها في جميع ألفاظها صحيحة بحسب التّأويل ، لانّه إذا اذّن إبراهيم (ع) الّذى في العالم الصّغير أو محمّد (ص) فيه بلسان الرّسالة أو الولاية في النّاس في العالم الصّغير بحجّ بيت الله الحرام الّذى هو القلب اسمع الله تعالى نداءه لجميع القوى الانسانيّة الموجودة والمكمونة المجرّدة عن الاختلاط بالقوى الحيوانيّة والمختلطة بها البعيدة من حرم الصّدر المنشرح بالإسلام المحتاجة في سيرها الى مكّة القلب الى ركوب القوى الحيوانيّة ، وهيّج الله بعد الأسماع جميع القوى الانسانيّة الّتى هي افراد الإنسان في العالم الصّغير وأتوا الى القلب وصاحبه وكان الحاضرون حول حرم الصّدر وبيت القلب مشاة في مجيئهم لعدم اختلاطهم بالقوى الحيوانيّة وعدم احتياجهم الى ركوبها ، وكان المتباعدون عن الحرم والبيت راكبين ومختلطين بالقوى الحيوانيّة ولذلك كان الحجّ ماشيا لأهل الحرم أفضل ويتدرّج الى الفعليّة القوى المكمونة الغير الخارجة من القوّة الى الفعل ، وبعد الخروج من القوّة الى الفعليّة تأتى الى بيت الله وتطوف حول القلب مشاة وركبانا (لِيَشْهَدُوا) اى ليحضروا (مَنافِعَ لَهُمْ) دينيّة ودنيويّة فانّ الآتي الى مكّة يعمّه الرّحمة الالهيّة الّتى تنزل من الحقّ على الحاجّين والمغفرة والبركات النّازلة ايّام الحجّ وبواسطتها يحصل له البركات الدّنيويّة وينتفع بلحوم الأضاحي ، وتنكير المنافع للاشعار بانّ المراد المنافع الحاصلة في ايّام الحجّ (وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ) قيل هي العشر الاوّل من ذي الحجّة وهي الايّام المعيّنة لمناسك الحجّ ، وقيل : هي ايّام التّشريق يوم النّحر وثلاثة بعده ، وقيل : انّ المراد بالذّكر هاهنا التّسمية على الاضحيّة ، وقيل : المراد بالذّكر الذّبح لانّ صحّة الذّبح بالذّكر فسمّى به ، والحقّ انّ المراد مطلق ذكر الله سواء كان بالتّلبية في الإحرام أو بالتّضرّع والدّعاء في ايّام الحجّ ، أو بتذكّر القيام عند الله في القيامة بواسطة مشاهدة حال الإحرام الّذى هو تذكير للقيام عند الله في المحشر ، أو بالذّكر عند الذّبح ، أو بالتّكبيرات عقيب الصّلوات الخمس عشرة اوّلها صلوة الظّهر من يوم النّحر ، والايّام المعلومات هي ايّام الحجّ من اوّل الإحرام بالحجّ الى آخر ايّام التّشريق لانّ من أحرم بالحجّ علم انّه لا يفرغ من مناسكه الّا بعد ايّام التّشريق في النّفر الاوّل أو في النّفر الثّانى (عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) وقد مضى في اوّل سورة المائدة بيان لبهيمة الانعام ، وتقييد الذّكر بقوله على ما رزقهم من بهيمة الانعام يشعر اشعارا ما بانّ المراد الذّكر على الذّبح (فَكُلُوا مِنْها) إباحة أو ندب للأكل وليس الأمر للوجوب (وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ) المراد منه هو الواقع في الشّدّة لفقره ولذلك أضاف اليه (الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) التّفث الشّعث والاغبرار وقضاؤه إزالته بالغسل والحلق وقلم الأظفار والطّيّب ، أو المراد بالتّفث مناسك الحجّ أو الإحلال من الحرام ، أو ما يلزم الإنسان في الإحرام من تبعة قول أو فعل ، وقضاؤه تداركه بما يكفّره ، أو المراد بالتّفث التّعلّقات النّفسانيّة الباقية على الإنسان في الإحرام وقضاؤه بلقاء الامام (ع) فانّ من

٧٥

لقى امامه بملكه أو ملكوته ينسلخ من تعلّقاته ، وفي الاخبار اشارة ما الى كلّ (وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ) الّتى نذروها في ايّام الحجّ أو قبل الحجّ للحجّ ، أو قبل الحجّ مطلقا ، أو المراد بالنّذور الكفّارات الّتى تلزم مرتكبي المنهيّات في ايّام الحجّ أو المراد مطلق الكفّارات ، أو المراد المناسك فانّها كالنّذور تلزم الإنسان بعد الشّروع بوجه (وَلْيَطَّوَّفُوا) اى ليبالغوا في طواف البيت أو ليكثروا الطّواف بالبيت بعد ما تطهّروا بحسب الظّاهر من الشّعث اللّازم للإحرام وحلقوا وأزالوا الوسخ الظّاهر والوسخ الباطن من الكفّارات والتّعلّقات بلقاء الامام بملكه وبلقائه بملكوته فانّ لقاء الامام بملكوته وهو المعرفة بالنّورانيّة باب الوصول الى القلب الّذى هو بيت الله فليطّوّفوا (بِالْبَيْتِ) الظّاهر والباطن ولا يدخلوا الّا بعد الطّواف به الطّواف الواجب (الْعَتِيقِ) القديم فانّه اوّل بيت وضع للنّاس بظاهره كما في الاخبار انّه نزل من الجنّة لآدم (ع) ، وبباطنه فانّ القلب الصّنوبرىّ في ملك البدن العنصرىّ اوّل بيت وضع للنّاس في العالم الصّغير ، والقلب الرّوحانىّ كذلك ، أو العتيق من الغرق والعتيق من الكثرات وتعلّقاتها ، أو العتيق من تسلّط الجبابرة عليه في الصّغير والكبير (ذلِكَ) خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف اى الأمر ذلك أو ذلك كذلك أو مفعول فعل محذوف اى خذ ذلك (وَمَنْ يُعَظِّمْ) عطف أو حال (حُرُماتِ اللهِ) جمع الحرمة أو الحرم بالضّمّ والسّكون أو الحرم بالضّمّتين الّذى هو جمع الحرام ، أو الحرم بكسر الحاء أو الحرمات جمع الحرمة بضمّتين ، أو الحرمة كالهمزة ، وحرمات الله ما يحرم انتهاكه من امر ونهى ومكان وزمان وغيرها كالحرمين والأشهر الحرم والايّام المتبركة والشّرائع الالهيّة والكتب السّماويّة والاخبار النّبويّة والولويّة والبيعة النّبويّة والولويّة ، والمشاهد المشرّفة والمؤمن ونفس الايمان وخلفاء الله من الأنبياء وأوصيائهم (ع) ، وما ورد وقيل من اختصاصها هاهنا بمناسك الحجّ أو البيت الحرام والبلد الحرام والشّهر الحرام بقرينة ذكرها في ذيل آية الحجّ انّما هو بيان للمنظور وتخصيص له والّا فمفهومها عامّ وبعمومه ورد ، لكنّ المقصود المنظور في ذلك المقام هو هذه المذكورات (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) اى فالتّعظيم خير له من ترك التّعظيم لا من هتك الحرمة فانّه شرّ له أو الخير منسلخ عن معنى التّفضيل (عِنْدَ رَبِّهِ) لانّ تعظيم الحرمات قلّما ينفكّ في الدّنيا عن تلف الأموال أو تعب الأنفس (وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ) اى الأزواج الثّمانية (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) اى تحريمه من الميتة وما اهلّ لغير الله به والمنخنقة (الى آخر الآية) ومن البحيرة والسّائبة (الى آخر الآية) (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ) الرّجس بكسر الرّاء وسكون الجيم وبالتّحريك وبفتح الرّاء وكسر الجيم القذر والمأثم وكلّ ما استقذر من العمل ، والعمل المؤدّى الى العذاب والشّكّ والعقاب والغضب ويصحّ التّفسير بكلّ ، ويكون معنى من في قوله تعالى (مِنَ الْأَوْثانِ) في كلّ مناسبا له ، وفسّر الرّجس من الأوثان في الخبر بالشّطرنج (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) تكرار الأمر بالاجتناب للاشعار بانّ كلًّا مأمور باجتنابه على حياله ، والزّور بالضّمّ الكذب والشّرك بالله ومجلس الغناء ونفس الغناء وما يعبد من دون الله وقد فسّر الآية بشهادة الزّور وبمطلق القول الكذب وبما كان المشركون يقولونه في تلبيتهم من قولهم لبّيك لا شريك لك الّا شريكا هو لك تملكه وما ملك وبالغناء وسائر الأقوال الملهية ، وفي الاخبار تصريح ببعضها والحقّ انّه لا اختصاص للوثن بالصّنم المصنوع بل كلّما ينظر اليه ويتعلّق القلب به فهو وثن للنّفس بل كلّ هوى واقتضاء من النّفس وكلّ رأى وانانيّة منها صنمها ، ولا اختصاص للقول المسبّب أو السّبب للزّور والانحراف عن الحقّ بالغناء وشهادة الزّور بل افعال القوى النباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة وآثار الأعضاء البدنيّة وادراك المدارك الظّاهرة والباطنة والأحوال والأخلاق النّفسانيّة

٧٦

والخطرات القلبيّة وتصرّفات الواهمة كلّها أقوال القوى ، فاذا كان هذه على سبيل الاستقامة الانسانيّة يعنى كانت متّصلة بطريق الولاية أو منتهية إليها كانت أقوال الصّدق ، وإذا لم تكن على ذلك كانت أقوال الزّور كائنة ما كانت ، وعلى هذا كان المعنى فاجتنبوا الرّجس الّذى هو انانيّة النّفس الّتى هي صنمها الحقيقىّ وكلّما يتبعها من الاهوية الكاسدة والمعبودات الباطلة والمنظورات الفانية ، واجتنبوا كلّ قول أو فعل أو خاطر أو خيال أو تخيّل يكون سبب الانحراف عن الحقّ أو مسبّبا عن الانحراف ، ولمّا كان الاجتناب قيدا ورينا للنّفس وحاصلا لها من انانيّة ما ، ومورثا لانانيّة اخرى إذا كان بالتفات من النّفس وهوى منها والمطلوب التّجرّد من الانانيّة مطلقة والتّطهّر من الهوى ولو كان هوى التّقرّب الى الله قال تعالى (حُنَفاءَ) اى خالصين من الانانيّة والهوى ولو كان هوى الخلاص من الهوى (لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) تأكيد لحنفاء (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) باىّ نحو من الإشراك حتّى الإشراك بهوى الاجتناب من الهوى (فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ) تشبيه للمعقول بالمحسوس لانّ الإنسان من سماء الإطلاق وبالاشراك والتّقيّد ينزّل عن سماء الإطلاق الى ارض التّقيّد (فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ) اى طير الاهوية والآمال (أَوْ تَهْوِي) عطف على خرّ أو على تخطفه وهو الأوفق (بِهِ الرِّيحُ) اى ريح الشّهوات والغضبات والجهالات الشّيطانيّة (فِي مَكانٍ سَحِيقٍ) اى بعيد شبّه المشرك في حالاته بمن سقط من السّماء فانّ اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة بالاشراك والانانيّة تسقط من سماء الإطلاق الى ارض التّحدّد وبعد سقوطه الى مقام التّعيّن والانانيّة امّا يتصرّف فيها الآمال والبخل والحسد وأمثالها الّتى هي تتولّد في الإنسان من تركّب الشّهوة والغضب والشّيطنة ، أو تتصرّف فيها الشّهوة ، أو الغضب ، أو الشّيطنة الّتى هي كالبسائط فشبّه المتصرّف فيه الآمال والحسد وأمثالها الّتى هي كالمواليد بمن تخطفه الطّير والمتصرّف فيه الشّهوة وأمثالها الّتى هي كالعناصر في البساطة بمن تهوى به الرّيح فلفظة أو للتّنويع لا للتّخيير في التّشبيه (ذلِكَ) مضى هذه الكلمة قبيل هذا (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ) نظير من يعظّم حرمات الله وتأكيد له وقد مضى في سورة البقرة بيان للشّعائر وهي كالحرمات مطلق ما له تعلّق بالدّين وله حرمة وقد فسّرت مثل الحرمات هاهنا بملاحظة المقام بمناسك الحجّ وبالهدى مخصوصا والحقّ انّه على عمومه ورد لكنّ النّظر الى المناسك أو الى الهدى بقرينة المقام (فَإِنَّها) اى الشّعائر (مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) من قبيل اقامة السّبب مقام الجزاء فانّ التّقدير من يعظّم صار من المتّقين لانّها من تقوى القلوب ، وكون الشّعائر من تقوى القلوب مع انّ أكثرها من الكثرات الشّاغلة للقلوب عن الله باعتبار انّ للقلب وجهين وجها الى الكثرات ووجها الى الوحدة وبهذين الوجهين يصحّ منه السّلوك ويقع منه الجذب ، وبسلوكه المشار اليه بقوله تعالى (فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) يكون التّقوى منه بحفظ الكثرات وإعطاء الحقوق لأهلها ، وإعطاء الحقوق لأهلها ليس الّا بالتزام أو امره تعالى ونواهيه في الكثرات وبجذبه المشار اليه بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) يكون التّقوى منه بطرح الكثرات وترك الالتفات الى ما سوى الله فيكون تعظيم الشّعائر الّتى هي أوامر الله ونواهيه القالبيّة والقلبيّة وأنبياؤه وأولياؤه (ع) بقوالبهم الملكيّة والملكوتيّة كلّها من تقوى القلوب لا الاشتغال بالحضور فقط وطرح ما سوى الحضور (لَكُمْ فِيها) اى في الشّعائر يعنى البدن الّتى تهدى الى مكّة (مَنافِعُ) من ظهورها وأوبارها وألبانها ونتائجها (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) الى ان يجعل هديا فانّ المنافع تنقطع بعد ذلك كما قيل : أو الى وقت النّحر ، أو لكم في مناسك الحجّ منافع في الدّنيا بكثرة البركات وفي الآخرة بكثرة الأجور ، أو لكم في مطلق العبادات منافع دنيويّة بحفظ الدّماء والأموال والاعراض وصحّة التّوارث والتّناكح ، وفي الآخرة بالأجور

٧٧

وحينئذ يكون قوله الى أجل مسمّى قيدا لتحصيل الانتفاع لا لنفس المنافع (ثُمَّ مَحِلُّها) اى محلّ البدن أو مناسك الحجّ (إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) يعنى مكّة وما حولها فانّ البيت هاهنا اعمّ من الحرم أو محلّ العبادات وانتهاء حلولها ونزولها الى البيت العتيق المعتق القديم الّذى هو البيت المعمور (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً) يعنى لا بدع في الأضحيّة كما يقوله العجم وتنكر أذى الحيوان ولا في مناسك الحجّ كما يقول من لا خبرة له : انّ هذه الأفعال ليست من افعال العقلاء ، ولا في مطلق العبادات كما يقوله المتصوّفة الاباحيّة لانّا جعلنا لكلّ أمّة منسكا خاصّا من القرابين والاضحيّات ومن المناسك المخصوصة في ايّام مخصوصة أو من العبادات والأوامر والنّواهى القالبيّة والقلبيّة والرّياضات البدنيّة والنّفسيّة (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ) قد مرّ بيان لبهيمة الانعام في اوّل سورة المائدة ، والتّعليل به للاشعار بانّ المقصود من جميع العبادات وجميع الانتفاعات والالتذاذات هو تذكّر المعبود لا غير (فَإِلهُكُمْ) يعنى ان كان متعبّداتكم متخالفات فلا ينبغي لكم التّخالف والتّباغض بسبب انّ إلهكم (إِلهٌ واحِدٌ) وهذا يقتضي الاتّفاق لا الاختلاف (فَلَهُ أَسْلِمُوا) اى انقادوا أو اجعلوا أنفسكم ذوات سلامة من الآفات أو القيود الّتى تورثكم اللّجاج والعناد (وَبَشِّرِ) خطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب فيكون في معنى وبشّروا عطفا على أسلموا اى أسلموا له وبشّروا (الْمُخْبِتِينَ) من الخبت بمعنى المكان المتّسع أو من الخبيت بمعنى الحقير ولعلّ التّوصيف بالأوصاف الآتية كان باعتبار المعنيين وفسّر بالخاشعين باعتبار تحقير النّفس وبالمطمئنّ الى الله باعتبار معنى الاتّساع ، وقوله تعالى (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ) عندهم (وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) ناظر الى معنى الحقارة ، وقوله (وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ) ناظر الى معنى الاتّساع فان اتّساع القلب يورث تحمّل البلايا من غير جزع (وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) لمّا كان الصّبر هو البقاء على الحال الاولى من دون حدوث شيء وتجدّد ، واقامة الصّلوة عبارة عن دوام التّوجّه الى الحقّ الاوّل تعالى شأنه كان المناسب فيهما الإتيان باسم الفاعل ، ولمّا كان المطلوب من الإنفاق تجدّده على سبيل الاستمرار أتى به مضار عاد الّا على التّجدّد الاستمرارىّ (وَالْبُدْنَ) البدن بالضّمّ والسّكون والبدن بالتّحريك والبدن ككتب جمع البدنة كالخشبة وهي سمينة من النّوق الّتى تهدى الى مكّة أو من النّوق والبقر (جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) من جملة علائم دينه أو مناسك بيته (لَكُمْ فِيها خَيْرٌ) مثل لكم فيها منافع (فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَ) اى قياما للنّحر مقيّدة على سنّة محمّد (ص) وهي ان تعقل احدى يديها وتقوم على ثلاث أو ان تربط يداها ما بين الرّسغ الى الرّكبة (فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها) سقطت على الأرض كناية عن خروج الرّوح منها (فَكُلُوا مِنْها) ولو بقدر اكلة وليس الأمر للوجوب فهو امّا للاستحباب أو الاباحة فانّ القوم في الجاهليّة كانوا يحرّمون الاكل منها ، وقيل الأمر للوجوب (وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ) الّذى يقنع بما اعطى وبما في يده ولا يسأل (وَالْمُعْتَرَّ) اى المعترى الّذى يتعرّض للمعروف ولا يسأل (كَذلِكَ) التّسخير للذّبح والاكل (سَخَّرْناها لَكُمْ) في سائر منافعكم (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة تسخيرها أو لتذكّروا أنعامنا عليكم فتشكرونا على جميع نعمنا (لَنْ يَنالَ اللهَ) جواب لسؤال مقدّر فانّه تعالى لمّا قال : ومن يعظّم شعائر الله فانّها من تقوى القلوب وكان المنظور من شعائر الله هاهنا الاضحيّات وكان الاضحيّة ما يهراق دمه ويؤكل لحمه ووصفها الله تعالى بالاقتران بتقوى القلوب صار المقام مقام ان يسأل هل يصل الى الله لحومها ودماؤها؟ ـ فقال جوابا له :

٧٨

لن ينال الله (لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) وقيل : كانوا في الجاهليّة إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدّماء فلطّخوا حول البيت بها قربة الى الله (كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ) كرّر هذه الكلمة تأكيدا ومقدّمة لغاية اخرى هي قوله (لِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) الى تسخيرها ، أو الى مناسك بيته ، أو الى معالم دينه ، أو الى ذبح القوى البهيميّة من النّفس ، أو الى ولىّ أمركم (وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) عطف على مقدّر أو باعتبار المعنى كأنّه قيل : فكبّر الله وبشّر المحسنين في أعمالهم ، أو العاملين كأنّهم يرون الله أو المحسنين الى خلق الله ، أو الّذين شيمتهم الإحسان ، أو المؤمنين بالايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الولويّة فانّ أصل الإحسان هو الولاية الّتى هي البيعة الخاصّة الولويّة الّتى يعبّر عنها بالايمان (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) جواب لسؤال مقدّر واقع موقع التّعليل للتّبشير والتّنزيل انّه يدافع الكفّار الّذين يقاتلونهم والمقصود التّعميم لدفعه تعالى الكفّار والبلايا ومكر الماكرين وأذى الموذين وجنود الجهل من الجنّة والشّياطين عن المؤمنين ، وفي لفظ يدافع اشعار بانّ الكفّار والبلايا والموذين وجنود الشّياطين يتهجّمون على المؤمنين ولكنّ الله يدافعهم عنهم (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) يعنى يبغضهم ، هذا أيضا في مقام التّعليل كأنّه قال : انّ الله يحبّ المؤمنين ويبغض الكافرين والماكرين وجنود الشّياطين لكنّه أتى بلفظ الخوّان الكفور اشعارا بانّ من يهجم على المؤمنين فهو خوّان كفور كائنا من كان (أُذِنَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا كان الله يدافع عن المؤمنين فلا ينبغي للمؤمنين ان يقاتلوا ، فقال تعالى : اذن (لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ) من المؤمنين ، قرئ اذن مبنيّا للمفعول ومبنيّا للفاعل وعلى كلّ من القراءتين قرئ يقاتلون مبنيّا للمفعول ومبنيّا للفاعل (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) ذكر في نزول الآية انّه كان المشركون يؤذون المسلمين لا يزال يجيء مشجوج ومضروب الى رسول الله (ص) ويشكون ذلك الى رسول الله (ص) فيقول لهم : اصبروا فانّى لم اومر بالقتال حتّى هاجر فأنزل الله عليه هذه الآية وهي اوّل آية نزلت في القتال (وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) جملة حاليّة أو معطوفة على الفعليّة أو على انّ الله لا يحبّ كلّ خوّان كفور (الَّذِينَ أُخْرِجُوا) بدل أو صفة للّذين يقاتلون أو للّذين آمنوا ، أو مبتدء خبره الّذين ان مكنّاهم أو خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف ، أو مفعول فعل محذوف (مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ) من قبيل استثناء المديحة من الذّمائم المنفيّة للمبالغة في المدح والمراد بمن اخرجوا في الكبير المؤمنون حيث أخرجوا الى الحبشة اوّلا ثمّ الى المدينة ثانيا وتجري الآية في الائمّة كالحسين (ع) وأصحابه كما في الاخبار وفى المؤمنين بشرائط الجهاد والدّفاع المقرّرة في الكتب الفقهيّة (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) قرئ دفع الله من الثّلاثىّ المجرّد ودفاع الله من المفاعلة والجملة حاليّة أو معطوفة وفيها معنى التّعليل لقوله اذن للّذين يقاتلون وقد سبق في آخر سورة البقرة بيان وجوه هذه الآية عند قوله تعالى : (لَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ) معابد النّصارى لرهبانهم قدّمها على سائر المعابد في الذّكر لكونها حقّة الى زمان الرّسول (ص) ولشيوعها في ذلك الزّمان ولاختصاصها بمن لم يكن له شغل سوى العبادة (وَبِيَعٌ) معابدهم المشتركة (وَصَلَواتٌ) معابد اليهود أصلها ثلوتا بالعبريّة فعرّب وجعل صلوة وجمع على الصّلوات ، وقيل : الصّوامع معابد النّصارى في الجبال والبراري ، والبيع معابدهم في القرى ، والصّلوات معابد اليهود لكونها يصلّى فيها ، وقيل : الصّوامع معابد النّصارى ، والبيع معابد اليهود ، والصّلوات أيضا معابد اليهود ، وقيل : المراد بالصّلوات صلوات شريعة محمّد (ص) من الصّلوات

٧٩

الخمس وغيرها (وَمَساجِدُ) يعنى لو لا دفع الله النّاس بالوجوه السّابقة في سورة البقرة لفسدت الأرض وهدّم ما كان يعبد فيه في زمان كلّ نبىّ (يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللهِ كَثِيراً) وصف للمجموع أو للمساجد خاصّة كأنّ غيرها لا يذكر فيها اسمه تعالى لأجل كون الشّرائع السّالفة منسوخة (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) عطف على قوله تعالى : (لَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ) فانّه في معنى وليد فعن الله ، ونصرة العباد لله لا يكون الّا بنصرة خلفائه في العالم الكبير بطاعتهم والاقتداء بهم وتعظيمهم وتعظيم شرائعهم والّا بنصرة خلفائه تعالى في العالم الصّغير من الملك الزّاجر والعقل النّاهى والآمر واللّطيفة الانسانيّة الّتى هي خليفة الله في الأرض حقيقة ، ونصرة الله تعالى للعباد بالتّوسعة في قلوبهم والتّوفيق لطاعاته وتهيّة أسباب الظّفر على أعدائه وعلى أعدائهم الظّاهرة والباطنة ، ولمّا كان افعال العباد واوصافهم فعل الله الظّاهر في مظاهر العباد كان نصرة العباد لله هي بعينها نصرة الله للعباد وجالبة لنصرة اخرى من الله كما انّ خذلان العباد للطّيفة الانسانيّة بعينه خذلان من الله للعباد وجالب لخذلان آخر (إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌ) في مقام التّعليل لنصرة يعنى انّه قادر غير ضعيف عن النّصر (عَزِيزٌ) غالب لا مانع له من نفاذ امره (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ) صفة أو بدل من الّذين آمنوا أو من الّذين يقاتلون ، أو من الّذين اخرجوا ، أو ممّن ينصره ، أو خبر للّذين اخرجوا ، أو خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مفعول فعل محذوف والمراد بالتّمكين في الأرض الأقدار على التّصرّف فيها باىّ نحو شاؤوا (أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) قد مضى في اوّل البقرة تحقيق تامّ للصّلوة وإقامتها وللزّكوة وايتائها (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ) قد أسلفنا في سورة البقرة عند قوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ) بيانا وافيا للأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، ولمّا كان معاملة العبد الكامل بينه وبين الله مقصورا على الصّلوة والزّكاة كما أسلفنا هناك ، ومعاملته بينه وبين العباد محصورا على الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر إذا عمّم الأمر والنّهى للقولىّ والفعلىّ بالصّراحة أو الالتزام حتّى يشملا الإحسانات والتّحيّات والنّصيحات أتى في مديحتهم بهاتين الصّفتين ولم يتجاوز عن الصّنفين (وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) جملة حاليّة ومديحة اخرى ، ولام الأمور عوض عن المضاف اليه والمعنى أقاموا الصّلوة في حال كون أمورهم المذكورة أو مطلق أمورهم لله ليس فيها شوب قصد للنّفس غير الله ، أو هي عطف أو حال ، ووعد للمحسن ووعيد للمسيء من غير نظر الى المؤمنين أو غيرهم (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) عطف على مقدّر تقديره فان يصدّقوك فهو المطلوب وان يكذّبوك فلا تحزن فانّ التّكذيب شيمة الإنسان ما لم يخرج من انانيّته (فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ) أمهلتهم وأطلت عمرهم (ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) اى إنكاري عليهم ما فعلوا وتبديلى نعمتهم بالنّقمة ، أو كيف كان نقلي ايّاهم من حال تسرّهم الى حال تسوءهم (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ) خالية مشتملة (عَلى عُرُوشِها) اى سقوفها أو قصورها أو اسرّتها ، أو ساقطة خربة على عروشها يعنى خربة جدرانها على سقوفها ، أو أبنيتها الدّانية على قصورها العالية ، أو ساقطة على سرر سلاطينها (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ) عطف على قرية اى كأيّن من بئر معطّلة أهلكنا أهلها (وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) أهلكناها وقد فسّر البئر المعطّلة بالعالم الّذى لا يرجع اليه ، والقصر المشيد بالعالم الّذى يرجع اليه أو الجاهل الّذى يتشبّه بأهل العلم فيرجع اليه ، وفسّر بالإمام الصّامت والامام النّاطق ، وبالإمام الغائب والامام الظّاهر ، وبفاطمة (ع) وولدها (ع) المعطّلين عن ملكهم

٨٠