تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

أَشَدُّ وَأَبْقى) من النّسيان والحشر أعمى ومن ضيق المعيشة حتّى انّها تعدّ في مقابل عذاب الآخرة نعمة ، وقد مضى قصّة آدم (ع) في سورة البقرة وفي سورة الأعراف مع اختلاف يسير في بعض الفقرات بحسب اللّفظ مع ما ذكر هاهنا (أَ) لم ينههم (فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) والتّقدير الم ينبّههم فأ لم يهد لهم على الخلاف في الهمزة والعاطف انّها بتقدير المعطوف عليه قبل الهمزة والهمزة على تقدير التّأخير من العاطف أو بتقدير المعطوف عليه بعد الهمزة والهمزة في محلّه وفاعل لم يهد ضمير الله أو الرّسول (ص) وحينئذ يكون جملة (كَمْ أَهْلَكْنا) في محلّ المفعول معلّقا عنها الفعل على جواز التّعليق في غير الفعل القلبىّ أو على جعل لم يهد بمعنى لم يعلم ، أو فاعل لم يهد ضمير مجمل يفسّره مضمون جملة كم أهلكنا ، أو الفاعل نفس الجملة بمضمونها ، وقرئ نهد بالنّون اى أفلم نهد نحن كم أهلكنا (قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) يعنى إهلاك الأمم الماضية ينبغي ان يكون عبرة لهم وهاديا لهم الى اليقين باهلاك أنفسهم والتّزوّد لما بعد هلاكهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ) حال أو مستأنف جواب للسّؤال عن حالهم أو عن علّة الهداية (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإهلاك بأنواع الإهلاك (لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) لذوي العقول النّاهية أو المنتهى إليها لكلّ موجود في العالم الصّغير أو في العالم الكبير وقد فسّر اولو النّهى بالأئمّة (ع) أينما وقع (وَلَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ) اى كلمة الوعد بتأخير العذاب للامّة المرحومة أو بعدم العذاب مع كون محمّد (ص) فيهم (لَكانَ) ذلك الإهلاك بأنواع الإهلاك (لِزاماً) اى لازما واللّزام بكسر اللّام اسم مصدر أو مصدر لازم وصف به مبالغة (وَأَجَلٌ مُسَمًّى) لأعمارهم وأمد بقائهم في الدّنيا أو لعذابهم وهو يوم القيامة أو يوم بدر أو أحد أو فتح مكّة وهو عطف على كلمة والفصل للاشعار باستقلال كلّ منهما بنفي لزوم العذاب (فَاصْبِرْ) اى إذا كان عذابهم بسبب وعد الامهال وانقضاء الأجل مؤخّرا فاصبر (عَلى ما يَقُولُونَ) في دينك أو في الخداع بك أو في وصيّك وغصب حقّه ومنعه منه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) قد مضى انّ المراد بالتّسبيح سواء علّق على الله أو الرّبّ أو اسم الرّبّ ، وسواء عدّى باللّام أو بنفسه أو أطلق ، وسواء كان اللّام بعده للتّعليل أو للتّقوية كان المراد تنزيه اللّطيفة الانسانيّة عن تشبّث التّعيّنات والتّعلّق بالكثرات وتلك اللّطيفة هي الرّبّ في العالم الصّغير وهي اسم الرّبّ وبتنزيهها ينزّه الله عمّا لا ينبغي ان يعتقد في حقّه ، ولمّا كان تنزيه الله تعالى راجعا الى سلب النّقائص الّتى هي حدود الوجود وهي راجعة الى سلب السّلوب كان تنزيهه عبارة عن سلب السّلوب ، وسلب السّلوب ، ليس الّا سعة الوجود ، وسعة الوجود راجعة الى سعة صفاته تعالى بحيث لا يشذّ وجود ولا صفة وجود من وجوده وصفاته وكان تسبيحه عين تحميده ولذلك قلّما يذكر تسبيح الّا ومعه الحمد بلفظه أو بمعناه وامره (ص) بالتّسبيح بسبب الحمد أو بالاشتغال بحمده أو متلبّسا بحمده لذلك يعنى نزّهه (ع) عن حدود الكثرات في عين ملاحظة كمالات الكثرات له تعالى والّا لم يكن تسبيحك تسبيحا له بل كان تنقيصا له (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ) ان كان المراد بهذا التّسبيح التّسبيح الّذى كان في ضمن الصّلوات كان المراد بالتّسبيح قبل طلوع الشّمس صلوة الفجر (وَقَبْلَ غُرُوبِها) يعنى صلوة العصر (وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ) الآناء جمع الإني بكسر الهمزة وفتحها وجمع الانو بكسر الهمزة وسكون النّون في الجميع بمعنى السّاعات يعنى صلوة المغرب والعشاء ونوافل اللّيل (فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ) صلوة الظّهر ونوافلها ، وتسمية وقتها بالاطراف لكونه طرفي نصف النّهار ، أو المراد مطلق صلوة التّطوّع في النّهار ، وان كان المراد مطلق التّسبيح كان المراد استغراق الأوقات

٤١

وذكر قبل طلوع الشّمس وقبل غروبها للاهتمام بهذين الوقتين (لَعَلَّكَ تَرْضى) قرئ مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ) من أصناف النّعم الصّوريّة ومستلذّات القوى الحيوانيّة وهو خطاب لمحمّد (ص) على ايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، ويجوز ان يكون الخطاب عامّا على بعد (أَزْواجاً مِنْهُمْ) هو مفعول به لمتّعنا والمعنى لا تمدّن عينيك الى ما متّعنا أصنافا من النّاس أو هو حال من ما أو من ضمير به والمعنى لا تمدّنّ عينيك الى ما متّعنا به حالكونه أصنافا من النّعم والمستلذّات ومنهم حينئذ يكون مفعولا به سواء جعلت من التّبعيضيّة اسما أو قائما مقام الموصوف المحذوف لقوّة معنى البعض فيه (زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا) منصوب على الذّمّ أو بدل من محلّ ما متّعنا ووجه الإتيان به التّصريح بفناء ما متّعهم به وذمّه وذمّهم والاشعار بانّ المنهىّ النّظر الى ما يتمتّع به في الدّنيا ، وامّا نعيم العقبى أو قرب المولى فينبغي ان يكون مطمح الانظار (لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) لنعذّبهم أو نختبرهم لانّ كثرة الأموال سبب لعذاب صاحبه لاهتمامه بجمعها وحفظها حتّى انّهم يحرّمون على أنفسهم الحظوظ البدنيّة لأجل حفظها وجمعها واستنمائها ولخوف فنائها وسرقتها حتّى انّهم يحرّمون طيب المنام لخوف زوالها ولانّ كثرة المال تورث كثرة الحقوق والتّعبّد بأدائها فرضا وندبا والتّقييد به ذمّ آخر وتسلية اخرى للمؤمنين (وَرِزْقُ رَبِّكَ) الّذى أعطاك أو تترقّبه (خَيْرٌ) امّا مجرّد عن التّفضيل أو المقصود تفضيل رزق الرّبّ على زعم من طمح نظره الى متاع الدّنيا وعدّه خيرا ، أو متاع الدّنيا خير بشرط ان يكون مع الايمان (وَأَبْقى) هذا أيضا على زعمهم والّا فلا بقاء لمتاع الدّنيا (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ) يعنى اجعل رزق ربّك مطمح نظرك ولا تكتف بنصيب نفسك منه بل اجعل أهلك متوجّهين اليه وطالبين له وأمرهم بالصّلوة الّتى هي أنموذج ذلك الرّزق حتّى يطلبوه ويتوجّهوا اليه ، واهله (ص) كلّ من انتسب اليه بالبيعة العامّة أو الخاصّة ، ومن انتسب اليه بالبيعتين وبالنّسبة الجسمانيّة اولى باهليّته ممّن لم يكن له نسبة جسمانيّة ، ومن انتسب بالبيعتين اولى ممّن انتسب بالبيعة العامّة فقط ، وعلىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) كانوا اولى من غيرهم ولذلك كان (ص) بعد نزول هذه الآية يأتى باب علىّ (ع) الى تسعة أشهر وقت كلّ صلوة ويقول : الصّلوة رحمكم الله ، أو المراد بأهله أصحاب الكساء ولذلك كان يأتى باب علىّ (ع) دون غيره ، وقال ابو جعفر (ع) : امره الله تعالى ان يخصّ اهله دون النّاس ليعلم النّاس انّ لأهله عند الله تعالى منزلة ليست للنّاس فأمرهم مع النّاس عامّة ثمّ أمرهم خاصّة (وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) لمّا كان ادامة الصّلوة امرا صعبا لا يتيسّر الّا لمن كان متمكّنا في مقامات الآخرة امره (ص) خاصّة بالصّبر عليها دون اهله ، وأتى بالصّيغة الدّالّة على المبالغة والتّكلّف (لا نَسْئَلُكَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه (ص) قال : كيف اصطبر على الصّلوة وقد كلّفت رفع حاجتي في المأكول والمشروب والملبوس لنفسي ولغيري من عيالي؟ ـ فقال لا نسألك (رِزْقاً) لنفسك ولغيرك (نَحْنُ) لا غيرنا (نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) عن الاشتغال عن الصّلوة بغيرها ، ولمّا كثر استعمال العاقبة في العاقبة المحمودة صارت بحيث كلّما أطلقت يتبادر منها العاقبة المحمودة (وَقالُوا) عطف على نفتنهم والتّفاوت بالمضىّ والمضارعة للاشارة الى انّ هذا القول وقع منهم ، أو عطف باعتبار المعنى كأنّه قال تعالى فتنّاهم به وقالوا (لَوْ لا يَأْتِينا) محمّد (ص) في ادّعاء نبوّته (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ) دالّة على صدقه في نبوّته كأنّهم لم يعتدّوا بما رأوا منه أو حملوه على السّحر (قالُوا) تركهم بلا بيّنة (وَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى) يعنى انّه أتى بالقرآن الّذى هو مبيّن

٤٢

جميع ما في الصّحف الاولى من العقائد والأخلاق والعبادات والسّياسات والحال انّ محمّدا (ص) أمّيّ لا يعرف كتابا وما اختلف الى عالم يعلّمه الكتب الماضية يعنى لا يريدون بقولهم هذا الدّلالة على صدقه وقبول نبوّته بل يريدون إلزامه امرا يعجز عن الإتيان به أو الاستهزاء به (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل محمّد (ص) أو القرآن أو من قبل الاحتجاج بمحمّد (ص) وكتابه (قَبْلِ) ادلوا حجّتهم علينا و (لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) يدعونا إليك وينبّهنا من غفلتنا ويخرجنا من جهلنا (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) اى رسلك وخلفاءك وكتبك وأحكامك (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ) نهون بالعذاب في الدّنيا (وَنَخْزى) في الآخرة ، أو من قبل ان نذلّ في الانظار ونخزى في أنفسنا ، أو من قبل ان نذلّ ونستحيى من أعمالنا عندك (قُلْ كُلٌ) منّا ومنكم (مُتَرَبِّصٌ) لما نؤل اليه ولما يظهر من العاقبة (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ) منّا ومنكم اى سيظهر عليكم من كان من أصحاب الصّراط وكائنا في الصّراط اعنى المتحقّق بالولاية وصاحب القلب (وَمَنِ اهْتَدى) الى الصّراط وصار مقامه مقام إلقاء السّمع واكتفى بمفهوم المخالفة عن التّصريح بمخالفه يعنى من لم يكن كذلك.

سورة الأنبياء

مكّيّة كلّها وهي مائة واثنتا عشرة آية

[الجزء السّابع عشر]

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ) قرب منه ككرم وقربه كسمع واقترب بمعنى لكن في اقترب معنى المبالغة (لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ) نسبة القرب والبعد الى الأفعال ليست الّا باعتبار أوقاتها ، ووقت الحساب هو وقت القيامة ، ولمّا كانت القيامة واقعة في طول الزّمان لا في عرضه وكانت مقوّمة له لا من أبعاضه لم يكن قربها وبعدها بحسب الزّمان بل كانت قريبة من الزّمان وان كانت الزّمانيّات متفاوتة النّسبة إليها بانّ بعضها يكون قريبا منها وبعضها بعيدا ولهذا التّفاوت قال (ص) : بعثت انا والسّاعة كهاتين ، بخلاف سائر الأنبياء (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) عن الحساب وعن التّهيّؤ له (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ) للحساب (مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) في باطنهم بزجر الملك الزّاجر ونهى العقل النّاهى والواردات النّفسانيّة من الهموم والغموم والمنامات المنذرة والمبشّرة ، وفي الخارج بالواردات الخارجة من الابتلاءات والامتحانات والدّوائر الدّائرة الّتى قلّما يخلوا الإنسان منها ، وبتذكيرات الأنبياء والأولياء (ع) والعلماء رضى الله عنهم من الإنذارات والتّبشيرات (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) بآذانهم الباطنة أو الظّاهرة (وَهُمْ يَلْعَبُونَ) به بان يجعلوه كالاسمار الّتى لا حقيقة لها

٤٣

أو بغيره لعدم الاعتداد به (لاهِيَةً) مشغولة (قُلُوبُهُمْ) بغيره ، أو لاهية من اللهو ، والفرق بينه وبين اللّعب انّ اللّعب هو الفعل الّذى لا يكون له غاية عقلانيّة ويكون له غاية خياليّة ، واللهو ما لا يكون له غاية عقلانيّة ولا خياليّة وان لم يكن خاليا عن الغاية في نفس الأمر غير مستشعر بها (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى) عطف على اقترب والنّجوى السّرّ وجمع النّجى بمعنى المسارّين وتعليق الأسرار بها للمبالغة في الإخفاء أو لانّهم أخفوا مناجاتهم كما أخفوا ما تناجوا به ، وانّما أخفوا التّكلّم في رسالته لانّهم كانوا في شكّ من امره والشّاكّ لا يمكنه التّسليم حتّى لا يتكلّم ولا يمكنه الإجهار بالرّدّ والقبول لعدم إقباله على شيء منهما ، أو لانّهم خافوا اطّلاع المؤمنين وافتضاحهم به (الَّذِينَ ظَلَمُوا) بدل من الضّمير أو فاعل والواو علامة الجمع ، أو منصوب على الذّمّ ، أو الاختصاص ، ووجه الإتيان به التّصريح بوصف ذمّ لهم والتّسجيل عليهم بالظّلم (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) فلا يكون رسولا فما يصدر منه ممّا هو خارج عن المجرى الطّبيعىّ ليس الّا سحرا (أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) اى تقبلونه وتقبلون عليه (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) انّه بشر لا يجوز رسالته وانّ ما يأتى به سحر أو أنتم البصراء الحكماء لا ينبغي ان تغترّوا بدعوى يكون برهان بطلانها معها (قالَ) لهم اسرّوا القول أو اجهروا به فانّه لا يخفى على الله لانّ (رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ) ظرف المقول أو ليعلم أو حال من القول أو من فاعل يعلم (وَهُوَ السَّمِيعُ) لكلّ مسموع لا سميع سواه (الْعَلِيمُ) بكلّ معلوم لا عليم سواه فيسمع أقوالهم سواء اسرّوا بها أو اجهروا ، ويعلم أحوالهم وضمائرهم اخفوها أم لم يخفوها ، (بَلْ قالُوا) عطف على اسرّوا (الى آخرها) فانّه في معنى قالوا ان هذا الّا بشر مثلكم ، وكلامه الّذى أتى به سحر ، واضراب عنه الى قولهم الّذى هو ابعد من القرآن (أَضْغاثُ أَحْلامٍ) اى القرآن صور الخيالات الّتى رآها المخبّط الّذى لا عقل له كالخيالات الّتى يراها النّائم من غير حقيقة لها (بَلِ افْتَراهُ) اختلقه من عند نفسه ونسبه الى الله تعالى وهذا عطف على قالوا أضغاث أحلام بتقدير قالوا واضراب في الحكاية عن القول الابعد الى الأبعد منه ، أو عطف على أضغاث أحلام واضراب في المحكىّ وكان من قولهم فحكى الله ذلك لنا وعلى اىّ تقدير فهو انتقال من الأبعد الى الأبعد من القرآن فانّ خيالات المخبّط لا تكون مطابقة للواقع ولكن لم تكن قرينة لقصد من القائل بخلاف الاختلاق (بَلْ هُوَ شاعِرٌ) اى مموّه يظهر ما لا حقيقة له بصورة الحقّ بتمويهه وهذا ابعد فانّ الشّعر يزيد على الاختلاق بكونه قرينا لتصرّف في إظهاره وهذا أيضا عطف على قالوا بتقدير قالوا أو على المحكىّ (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ) ان كان صادقا (كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) بالآيات الظّاهرة مثل العصا واليد البيضاء والنّاقة واحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص (ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها) يعنى باقتراحهم للآيات بقرينة ذكره بعد اقتراحهم الآيات (أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ) ان أتاهم محمّد (ص) بما اقترحوا (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً) ردّ لانكارهم كون البشر رسولا كما انّ الفقرة الاولى كانت ردّا لاقتراحهم (نُوحِي إِلَيْهِمْ) كما نوحى إليك ، قرئ يوحى بالياء وبالنّون (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قد مضى في سورة النّحل تفصيل وتفسير لهذه الآية (وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ) بل كانوا كلّهم معرضا للموت غير خالدين في الدّنيا ، ردّ لقولهم ما لهذا الرّسول يأكل الطّعام ويمشى في الأسواق؟! ولاستغرابهم طروّ المرض والموت على الرّسول المشعر به قولهم هل هذا الّا بشر مثلكم (ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ) اى وعدنا لهم بالنّصر في قولنا انّا لننصر رسلنا وبالمنّ والامامة وايراث

٤٤

ما في الأرض في قولنا : (وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) (الآية) وبالاستخلاف في الأرض والتّمكين في الدّين وتبديل خوفهم امنا في قولنا (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (الآية) وبالانجاء من أعدائهم والظّفر عليهم وغير ذلك (فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ) الإسراف ضدّ القصد والقصد استعمال الأموال والأعضاء والقوى والمدارك فيما ينبغي بقدر ما ينبغي لا ناقصا منه ولا زائدا عليه ، فالإسراف بهذا المعنى اعمّ من التّقتير والتّبذير ، وقد يستعمل الإسراف في مقابل التّقتير والتّبذير فانّ التّبذير صرفها فيما لا ينبغي صرفها فيه ، والتّقتير التّقصير في صرفها فيما ينبغي أو على قدر ما ينبغي ، والإسراف صرفها فيما ينبغي زائدا على قدر ما ينبغي ، والمعنى الاوّل هو المراد هاهنا لانّ المراد بالإسراف هاهنا عدم الانقياد للأنبياء (ع) والتّقتير في صرف المدارك والقوى في جهة الانقياد لهم وفيه ترغيب للانقياد للنّبىّ وتهديد عن المخالفة له (ص) (لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً) بعد ما أتمّ التّرغيب والتّخويف خاطب قريشا أو العرب (فِيهِ ذِكْرُكُمْ) اى صيتكم وشرفكم أو سبب ذكركم بين الخلق أو سبب تذكّركم للآخرة (أَنْزَلْنا) تعرضون (فَلا تَعْقِلُونَ) انّ فيه ذكركم أو لا تصيرون عقلاء فتصيرون ظالمين (وَكَمْ قَصَمْنا) الجملة حاليّة وكم خبرية أو استفهاميّة والقصم الكسر وهو كناية عن الإهلاك سواء أريد من قوله تعالى (مِنْ قَرْيَةٍ) أهل القرية باستعمالها مجازا في أهلها ، أو بتقدير من أهل قرية ، أو أريد نفس القرية ويكون كسرها كناية عن هلاك أهلها (كانَتْ ظالِمَةً) صفة قرية أو جواب للسّؤال عن حال القرية ، أو عن علّة القصم وعلى اىّ تقدير فهو يفيد التّعليل (وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) عطف على كم قصمنا من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال (إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ) اى يهربون (لا تَرْكُضُوا) جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول كأنّه قيل : فما ينبغي ان يقال لهم؟ ـ قال تعالى يقال توبيخا وتهكّما : لا تهربوا (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ) أترفته النّعمة أطغته ، واترف فلان على البناء للفاعل اصرّ على البغي ، واترف فلان على البناء للمفعول ترك ونفسه يصنع ما يشاء ، أو تنعّم لا يمنع من تنعّمه ، أو تجبّر (وَمَساكِنِكُمْ) وقيل : انّ الملائكة بعد نزول العذاب بهم من القتل وغيره قالوا ذلك استهزاء (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) اى يسألكم السّائلون من دنياكم كما كانوا يسألونكم قبل ذلك ، أو لعلّكم تسألون عن نعمكم كيف فعلتم بها ، أو تسألون عن نعمكم ما لها لا تدفع العذاب عنكم؟ أو لعلّكم يسألكم الأنبياء (ع) الايمان بهم كما كانوا قبل ذلك يسألونكم ، وعلى اىّ تقدير فهو للاستهزاء بهم (قالُوا يا وَيْلَنا) بعد احساس العذاب قالوا ذلك ، والويل الفضيحة أو هو كلمة تفجّع ، أو الوقوع في الهلكة وحلول الشّرّ وهو منادى بجعله كذوى العقول ، أو المنادي محذوف والتّقدير يا قوم انظروا ويلنا (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) استيناف في مقام التّعليل يعنى اعترفوا بعد معاينة العذاب بظلمهم لأنفسهم أو لانبيائهم أو للخلق بمنعهم عن الانقياد للأنبياء (ع) أو بغير ذلك ولا ينفعهم ذلك بعد معاينة العذاب (فَما زالَتْ تِلْكَ) الدّعوى الّتى هي نداء الويل (دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً) كالنّبت الحصيد ولذلك لم يجمع أو شبّههم بالزّرع الواحد المشتمل على ساقات عديدة فوحّد الحصيد (خامِدِينَ) وصف لحصيدا أو مفعول بعد مفعول لكون مفعول جعل خبرا في الأصل كناية عن الاستيصال ، قيل : كانت الآية في أهل قرية من اليمن أرسل الله إليهم نبيّا فقتلوه فسلّط الله عليهم بختنصّر فهزموا من ديارهم فردّهم الملائكة فقتل صغارهم وكبارهم حتّى لم يبق لهم اسم ورسم ، وذكر في اخبار : انّ هذه الآية نزلت في ظهور القائم (ع) فانّه إذا خرج الى بنى أميّة بالشّام وهربوا الى

٤٥

الرّوم فيقول لهم الرّوم : لا ندخلكم حتّى تتنصّروا فيعلّقون في أعناقهم الصّلبان فيدخلونهم فاذا حضر بحضرتهم أصحاب القائم (ع) طلبوا الامان والصّلح فيقول أصحاب القائم (ع) : لا نفعل حتّى تدفعوا إلينا من قبلكم منّا ، فيدفعونهم إليهم فذلك قوله تعالى : (وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) يسألونهم عن الكنوز وهو اعلم بها فيقولون : يا ويلنا انّا كنّا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتّى جعلناهم حصيدا خامدين (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ) غير ناظرين الى غاية عقلانيّة وحكم ودقائق متقنة فانّ اللّعب هو الفعل الّذى يكون له غاية لكن غايته لم تكن الّا خياليّة كلعب الأطفال كما انّ اللهو هو الفعل الّذى لم يكن له غاية خياليّة ظاهرة والمقصود انّ السّماء والأرض وما بينهما من كثرة الحكم والدّقائق في خلقها وكثرة المصالح المترتّبة عليها لا يمكن إحصاء غاياتها المتقنة المحكمة فليس خلقتها لعبا بل كانت لتكميل النّفوس وإتمام فعليّاتها حتّى تستحقّ الجزاء من الثّواب والعقاب (لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا) شرطيّة فرضيّة يعنى لو أردنا اتّخاذ اللهو لاتّخذناه بطريق أحسن من هذا بحيث لا يطّلع عليه غيرنا ولم نتّخذ السّماء والأرض المشهودتين لكلّ أحد لهوا ، وفسّر اللهو بالزّوج ردّا على من جعل بينه وبين الجنّة نسبا وصهرا ، وبالولد ردّا على من اثبت له الولد ، ويؤيّد هذا التّفسير ما يأتى كما يأتى (إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) تأكيد للشّرطيّة الاولى والجزاء محذوف ، وقيل : ان نافية (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ) يظنّ انّ الأنسب بتوافق المتعاطفين ان يقول بل قذفنا بالحقّ على الباطل لكن نقول انّ المراد بالحقّ هو الحقّ المخلوق به الّذى هو المشيّة المسمّاة بالولاية المطلقة ، والسّماء اعمّ من سماء عالم الطّبع ، وسماء عالم الأرواح ، ونفس عالم الأرواح في العالم الكبير والصّغير ، وهكذا الأرض وما بينهما اعمّ ممّا في الكبير والصّغير ، وكما انّ المشيّة الّتى هي اضافة الله الاشراقيّة حقّ لا شوب باطل فيها كذلك جميع التّعيّنات والمهيّات باطلة لا شوب حقّ فيها وانّ الله تعالى بمضمون قوله تعالى : (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) ينفق كيف يشاء على سبيل الاستمرار يطرد بإضافته الاشراقيّة بطلان التّعيّنات والمهيّات وبطلان القوى والنّقائص والاستعدادات ويفنيه وكما انّه تعالى يطرد بخلقه سماوات الأرواح وأراضي الأشباح بطلان المهيّات بقذف الحقّ عليها ابتداء كذلك يطرد ذلك عنها استمرارا فانّها من أنفسها في فناء لا بقاء لوجودها آنين ، ومن موجدها في بقاء بسبب تجدّد إضافات الوجود عليها ، وكما يطرد بخلقتها البطلان ابتداء واستمرارا عن المهيّات يطرد بخلقتها البطلان والنّقائص عن القوى والاستعدادات الّتى تكون في عالم الأكوان ، وللاشارة الى انّه تعالى يطرد البطلان عن المهيّات والاستعدادات استمرارا أتى بالمتعاطفين متخالفين ، ولفظ القذف اشعار بانّه تعالى لقوّة قدرته لا مانع يمانعه عن إيصال الحقّ (فَيَدْمَغُهُ) دمغه كمنع ونصر شجّه حتّى بلغت الشّجّة الدّماغ فهلك (فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) مضمحلّ (وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) الله به أو من وصفكم الله باللّعب في فعاله من دون ترتّب غايات محكمة عليها ، وبالصّاحبة والولد (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى انّه تعالى خالقهم ومالكهم وغايتهم فكيف يكونون شركاءه أو صاحباته أو ولده وهو حال في موضع التّعليل ومؤيّد كون المراد بنفي اللهو نفى الولد والصّاحبة (وَمَنْ عِنْدَهُ) يعنى الملائكة المقرّبين الّذين لهم مقام العنديّة بالنّسبة اليه تعالى ، وهو عطف على من في السّماوات عطف المفرد أو مبتدء خبره قوله (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ) وعلى الاوّل يكون لا يستكبرون حالا عن من في السّماوات ومعطوفه ، أو حالا عن من عنده فقط والمراد بمن عنده هم المقرّبون المجرّدون عن السّماوات والأرض الطّبيعتين ، وتأدية ما في السّماوات والأرض عن الّتى هي لذوي العقول من باب التّغليب ، أو لانّه يستفاد كون غيرهم له بطريق

٤٦

اولى والمعنى لا يستكبرون عن عبادته فكيف يكونون معبودين كما قال بعض أو بنات له تعالى أو بنين (وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) حسر كضرب وفرح أعيا كاستحسر ، وكنصر وضرب كشف وانكشف (يُسَبِّحُونَ) ينزّهون الله عن النّقائص بلسان حالهم وقالهم وبفطرة وجودهم ولعدم جامعيّة الملائكة اقتصر على التّسبيح ولم يذكر الحمد لهم (اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) اى في اللّيل والنّهار يعنى دائما فانّ غذاءهم التّسبيح ، وعالم الملائكة المقرّبين مشتمل على ليل ونهار لائقين به وان كان مجرّدا عن اللّيل والنّهار المحسوسين فانّ الملائكة المقرّبين بجهاتهم الوجوبيّة وجهاتهم الامكانيّة وبوجوداتهم وتعيّناتهم نهار وليل ، ويسبّحون الله بجميع جهاتهم وجميع مراتبهم (لا يَفْتُرُونَ) لا يضعفون عن التّسبيح فانّ التّسبيح كما قيل جعل لهم كالانفاس لنا (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) يعنى هذه حال من في السّماء من انّهم لا يدّعون الآلهة لأنفسهم ولا ينبغي لهم لانّهم عباد أذلّاء تحت قدرة الله بل هؤلاء المشركون اتّخذوا آلهة من الأرض يصحّ لهم الآلهة ويدّعون الآلهة (هُمْ يُنْشِرُونَ) يعنى يفعلون فعل الآلهة ، والإتيان بالضّمير المتقدّم للاشارة الى الحصر الاضافىّ بالنّسبة الى من في السّماء ، والنّشر بمعنى الحيوة والأحياء ، والأنشار الأحياء وقرئ ينشرون بفتح الياء وضمّها (لَوْ كانَ فِيهِما) اى في السّماء كما يقول من يقول بآلهة الملائكة والكواكب ، والأرض كما يقول من يقوم بآلهة الأصنام والعجل وبعض الاناسىّ وإبليس ، وكما يقول الثّنويّة (آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ) ليست الّا استثنائيّة لعدم صحّة الاستثناء لفظا ومعنى لعدم شمول الآلهة لكونه جمعا منكّرا في الإيجاب ، وللزوم جواز صحّة تعدّد الآلهة مع الله بحسب مفهوم مخالفة الاستثناء (لَفَسَدَتا) لكون الآلهة حينئذ تامّى القدرة والّا لم يكونوا الهة واقتضاء تماميّة القدرة صحّة تدافع كلّ وتمانعه عن مراد الآخر ، فان قيل انّ مرادهما يكون قرينا للحكمة فيكون مراد كلّ مرادا للآخر فلا يكون تدافع ، يقال : الاستدلال بصحّة التّدافع لا بوقوعه ، وصحّة التّدافع مستلزمة لصحّة الفساد فيهما ، وهذا هو استدلال المتكلّمين وبيانهم للآية وهو كما ترى.

والتّحقيق في بيان الآية ان يقال : انّها اشارة الى برهان تامّ يسمّى برهان الصّدّيقين وطريقهم وهو برهان الفرجة الّذى أشار اليه الصّادق (ع) من لزوم الفرجة واستلزام فرض آلهين آلهة ثلاثة واستلزام الثّلاثة خمسة وهكذا فانّه لو فرض الهين فامّا ان يكونا قديمين قوّيين أو حادثين ضعيفين ، أو يكون أحدهما قديما قويّا والآخر حادثا ضعيفا ، والأخيران خلاف الفرض ومثبتان للتّوحيد ، وان كانا قديمين واجبين والوجوب من صفات الوجود ، والوجود كما سبق في اوّل الكتاب متأصّل في التّحقّق ، وتحقّق كلّ متحقّق يكون بتحقّقه ، وسبق انّ الوجود حقيقة واحدة لا تكثّر فيه بوجه من وجوه التّكثّر ، وانّ تكثّره لا يكون الّا بضمائم ، فاذا كان القديمان واجبين بالذّات كانا مشتركين في حقيقة الوجود ، وتعدّدهما وافتراقهما لا يكون الّا بضميمة ولا اقلّ من انضمام ضميمة الى واحد منهما حتّى يصحّ الافتراق بالإطلاق والانضمام ولا يكون الضّميمة من سنخ المهيّات والّا لزم ان يكون الكلّ ممكنا حادثا هذا خلاف الفرض ، بيان الملازمة انّ المركّب تابع لاخسّ اجزائه والمهيّة من حيث ذاتها لا تكون الّا ممكنة ، والممكن لا يكون الّا حادثا فالكلّ الّذى صارت المهيّة جزء له لا يكون الّا ممكنا حادثا ولا تكون من سنخ العدم وهو واضح فيكون من سنخ الوجود فيصير المفروض الهين ثلاثة ولمّا كانت الثّلاثة مشتركة في حقيقة الوجود فلا يكون التّعدّد الّا بضمائم واقلّها ضميمتان فيصير الثّلاثة خمسة ، وننقل الكلام الى الخمسة فتصير تسعة وهكذا الى ما لا نهاية له وهذا البرهان بعد إتقان المقدّمات من اسدّ البراهين وأتمّها لانّه يؤخذ من النّظر الى نفس حقيقة الوجود من غير اعتبار شيء آخر معها ، وكما لا يحصل المعرفة التّامّة بالله الّا برفع الحجب والمظاهر ونفى الأسماء والصّفات وكشف سبحات الجلال

٤٧

من غير اشارة وذات للعارف كما ورد عنهم (ع) اعرفوا الله بالله يعنى لا بمظاهره وأسمائه وصفاته لا يحصل العلم التّامّ بالله الّا برفع النّظر عن المعاليل والتّوجّه الى الله وتحقيق حقيقته حتّى يقال علمت الله بالله ، والحاصل انّه لو كان الواجب متعدّدا لزم انقلاب الواجب ممكنا وفيه بطلان العالم وفساد السّماوات والأرض لانّها ممكنة والممكن ما لم يستند الى واجب لم يوجد ، أو صيرورة المتعدّد واحدا وهو المطلوب ، أو عدم انتهاء عدد الواجب الى حدّ وهو خلاف المدّعى (فَسُبْحانَ اللهِ) يعنى إذا كان التّعدّد مورثا لابطال السّماوات والأرض فتنزّه الله تنزّها (رَبِّ الْعَرْشِ) الّذى هو جملة المخلوقات (عَمَّا يَصِفُونَ) اى عن الّذى يصفونه به من الشّريك أو عن وصفهم له بالشّريك (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) حال أو جواب لسؤال مقدّر أو معترضة والمقصود انّه لا يحكم عليه بالسّؤال عنه في أفعاله ليكون دليلا على ألهته (وَهُمْ يُسْئَلُونَ) يعنى يحكمون عليهم ليكون دليلا على عدم آلهتهم والضّمير راجع الى المعبودين أو الى العابدين والمعبودين ، أو الى العابدين فقط للتّهديد ، أو المعنى لا ينبغي ان يسأل عمّا يفعل لانّه لا يفعل ما يفعل الّا لحكم ومصالح عديدة متقنة لا يمكن احصاؤها وهم ينبغي ان يسألون بجهلهم بالغايات وعدم اهتدائهم الى المصالح (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً) دون بمعنى تحت وفوق وبمعنى امام ووراء من الاضداد وبمعنى غير وبمعنى المكان القريب من الشّيء والمناسب هاهنا ان يجعل دون بمعنى امام أو عند يعنى بمعنى المكان القريب حتّى يكون تأسيسا ، فانّ قوله تعالى (لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ومن عنده أبطل تجويز كون شيء في العالم إلها عبد أم لم يعبد ، وقوله تعالى (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ) أبطل تجويز جعل شيء بالمواضعة من عند أنفسهم آلها فان اتّخاذ الآلهة من الأرض سواء جعل من الأرض صفة لآلهة أو متعلّقا باتّخذوا يشعر بكون الاتّخاذ بالمواضعة من عند أنفسهم ، لا من عند الله ، وقوله تعالى أم اتّخذوا من دونه آلهة يشعر بكون الاتّخاذ بالمواضعة الإلهيّة وباذنه وأجازته كما إذا قيل جعلوا أميرا لهم من ملكهم ، وقيل : جعلوا أميرا لهم من عند الملك ، فانّ الاوّل يدلّ على انّ الجعل كان بالمواضعة من عند أنفسهم ، والثّانى يدلّ على كون ذلك بإذن الملك وتقديم من دونه هاهنا على الآلهة لشرافته بإضافته الى الله تعالى وهو حال من آلهة أو متعلّق باتّخذوا (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) لمّا كان الاتّخاذ بالمواضعة من عند أنفسهم يستدعى صحّة الآلهة في نفس الأمر للمأخوذ آلها أبطل آلهة المأخوذين آلهة اوّلا بقوله على سبيل الانكارهم ينشرون وأبطل آلهة مطلق ما يتصوّر آلها ثانيا بقوله لو كان فيهما (الآية) بعد ما أبطل الآلهة مطلقا قبل ذلك بقوله : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ) (الى آخرها) ولمّا كان الاتّخاذ بالمواضعة الإلهيّة لا يستدعى صحّة الآلهة في نفس الأمر بل يكفى صحّة كون المأخوذ آلها بإذن الله مظهرا لآلهة الله بخروجه من حدود نفسه وظهور ربّه فيه قال قل هاتوا برهانكم على اذن الله في آلهة شيء ممّا اخذتموها آلهة ، ولمّا كان الأمر للتّعجيز والمقصود منه نفى البرهان على المدّعى قال (هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ) في مقام التّعليل لعدم البرهان يعنى هذا القرآن ذكر من معى موجود وأحكامهم (وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي) ولم يكن في احكام من معى ولا في احكام من قبلي ما يدلّ على اذنه تعالى في اتّخاذ ما أخذتموه الهة (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ) الاوّل تعالى وصفاته حتّى يعلموا اذنه وترخيصه في آلهة شيء أو لا يعلمون الحقّ الثّابت فيتفوّهون بما يتخيّلون من غير علم بحقّيّته كالمجنون ، والتّقييد بالأكثر لانّ الاقلّ منهم يعلمون بطلان الآلهة ويقولون بآلهتها لأغراض نفسانيّة ، وقرئ الحقّ بالرّفع خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف (فَهُمْ مُعْرِضُونَ) عن الحقّ لذلك (وَما أَرْسَلْنا) جملة حاليّة (مِنْ قَبْلِكَ مِنْ

٤٨

رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) لمّا كان الوحي خاصّا بالرّسول والعبادة عامّة له ولامّته أفرد ضمير اليه وخاطب الجميع في الأمر بالعبادة ، ويجوز ان يكون قوله وما أرسلنا عطفا باعتبار المعنى ويكون فيه معنى الاضراب والتّرقّى كأنّه تعالى قال حين قال هاتوا برهانكم هذا ذكر من معى وذكر من قبلي ليس لهم برهان على الاتّخاذ لانّ برهان هذا المطلب ليس الّا الوحي وليس في الوحي اذن وترخيص في اتّخاذ آله سواه بل ما أرسلنا قبلك من رسول الّا نوحى اليه بالتّوحيد وخلع الأنداد لا بالاشراك واتّخاذ الأنداد (وَقالُوا) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : قالوا اتّخذنا آلهة ، أو جعل الله لنا آلهة وقالوا (اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) يعنى القائلين بانّ الملائكة بنات الله والقائلين بانّ عزيرا ابن الله ، والمسيح ابن الله (سُبْحانَهُ) تنزّه تنزّها عن الصّاحبة والولد (بَلْ) الملائكة والمسيح وعزير (عِبادٌ) لله (مُكْرَمُونَ).

اعلم ، انّ الأشياء كما سبق مكرّرا حقائقها وذواتها عبارة عن فعليّاتها الاخيرة ، واسماؤها وأحكامها جارية على تلك الفعليّات ، وانّ الإنسان إذا بايع البيعة الخاصّة الولويّة يحصل له فعليّة هي فعليّته الاخيرة ، وتلك الفعليّة تنعقد بالولاية كانعقاد اللّبن بالانفحة ، وبذلك الانعقاد يحصل له نسبة الى صاحب الولاية والبيعة ويعبّر عن تلك النّسبة بالبنوّة والابوّة وبحكم المنطوق الصّريح من قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) ، يصدق على تلك النّسبة انّها نسبة بين العبد وبين الله ، وبهذا الاعتبار قالت اليهود : نحن أبناء الله ، وبهذا الاعتبار وباعتبار انّ النّسبة الجسمانيّة والاضافة المعبّر عنها بالأبوّة والبنوّة كانت منتفية عن المسيح ، وباعتبار انّ بدنه صار محكوما بحكم روحه قالت النّصارى : المسيح ابن الله ولم يقولوا في غيره ذلك ، وهكذا الحال في عزير ، ولمّا كان الاتباع تفوّهوا بهذا القول من غير تحقيق وتحصيل ولم يدركوا من الولادة الّا الولادة الجسمانيّة المستلزمة لمفاسد كثيرة في حقّه تعالى ردّ الله تعالى عليهم واثبت العبديّة لهم لا الولادة والسّنخيّة (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ) الباء بمعنى في أو للسّببيّة (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) كان الأوفق بالمعطوف عليه ان يقول ويعملون بامره لكنّه أراد الحصر في المسند اليه وحصر عملهم في كونه بأمره فغيّر الأسلوب (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) المراد بما بين أيديهم كما أسلفنا مكرّرا امّا الدّنيا أو الآخرة (وَما خَلْفَهُمْ) يعلم بالمقايسة وهو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يعلم الله جهة دنياهم وجهة آخرتهم حتّى يجوز له الأمر فيما يحتاجون اليه في دنياهم وآخرتهم؟ ـ فقال : يعلم ذلك منهم (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) الله طينته فانّ الشّفاعة غير مقصورة على من آمن أو المعنى الّا لمن ارتضى الله ان يشفع له (ص) فيكون في معنى من ذا الّذى يشفع عنده الّا باذنه (وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ) لا من غير خشيته (مُشْفِقُونَ) الخشية كما سبق خوف مع ترحّم فانّها حالة ممتزجة من لذّة الوصال والاستشعار بالفراق ، أو الفوات والإشفاق كذلك الّا انّه قد يلاحظ الهيبة في الخشية والاعتناء في الإشفاق والمعنى انّهم لا جهة خوف فيهم سوى جهة الخشية من الله فعلى هذا يكون من للتّعليل ، والتّقديم للحصر ، أو المعنى انّهم لأجل الخشية من الله مشفقون في أهلهم ، أو على خلق الله ، أو المعنى انّهم على خشيته مشفقون يعنى انّهم بواسطة ادراك لذّة الوصال في الجملة في الخشية يحبّون الخشية ويخافون فوتها فيكون لفظ من صلة للاشفاق فانّه قد يتعدّى بعلى إذا لوحظ فيه جهة الترّحّم ، وقد يتعدّى بمن إذا لوحظ فيه معنى الخوف (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ) من الخلق أو من العباد المكرمين (إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ) ظرف لغو متعلّق بيقل اى من يقل من غير اذنه انّى اله بمعنى المربّى في الطّاعة ولذلك فسّر انّى آله بانّى امام ، أو ظرف مستقرّ صفة لآله ولفظة من للتّبعيض اى آله ثابت بعضا من غيره

٤٩

(فَذلِكَ) اسم الاشارة البعيدة لتوهينه وتبعيده عن ساحة الحضور (نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) لآل محمّد (ص) بغصب حقّهم أو الظّالمين بمعنى الحقّ عن المستحقّ وإعطائه لغيره فانّه لا يكون الّا عن الانانيّة الّتى هي نحو آلهة في مقابل الله تعالى ومغايرة له تعالى (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا) التّقدير الم ينظر الّذين كفروا ولم يروا (أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما) يعنى انّ السّماوات والأرض الطّبيعيّتين كانتا منضمّتين مجتمعتين في وجود واحد جمعىّ في مقام المشيّة ، ثمّ في مقام العقول ، ثمّ في مقام النّفوس ففتقناهما في مقام الطّبع وفصّلناهما ، أو سماوات الأرواح وأراضي الأشباح كانتا رتقا في مقام المشيّة والعقول والنّفوس ففصّلناهما ، أو السّماوات والأرض الواقعتين في العالم الصّغير كانتا رتقا في النّطفة والجنين ففتقناهما ، أو السّماوات والأراضي كانتا رتقا غير ممطرة وغير منبتة ففتقناهما بالمطر والنّبات ، وعلى بعض التّفاسير استعمال الرّؤية امّا بجعلها بمعنى العلم ، أو بادّعاء انّ الرّتق والفتق من الحسّيّات أو كالحسّيّات ، وعدم الرّؤية من عدم الالتفات (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍ) عطف على فتقنا والتّقدير جعلنا من مائها كلّ شيء حىّ بالحيوة الحيوانيّة أو بالحيوة النّباتيّة والحيوانيّة وخلق الحيوان من الماء الّذى هو النّطفة الّتى هي مادّة له وخلق النّبات من الماء الّذى هو سبب لخلقه وانباته ، أو التّقدير جعلنا بعد الفتق من الماء كلّ شيء حىّ (أَ) يعرضون عن تلك الآيات الّتى هي آيات علمه وحكمته وقدرته وتصرّفه تعالى في الجليل والحقير (فَلا يُؤْمِنُونَ) ولا يذعنون به (وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ) بعد فتقهما (أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ) قد سبق الآية بتنزيلها وتأويلها (وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً) جمع الفجّ الطّريق الواسع بين الجبلين ، أو مطلقا كالفجاج بالضّمّ ويستفاد من تنزيل الآية السّابقة وتأويلها بيان هذه (سُبُلاً) بدل من فجاجا (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الى معايشهم ومصالحهم ومنافعهم ودفع مضارّهم والى بلادهم الصّوريّة ومواطنهم الحقيقيّة (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) من الاندراس والفناء الى الوقت المعلوم ، أو من الوقوع على الأرض ، أو من استراق السّمع (وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ) فانّ الآيات الدّالّة على وجود الصّانع وعلمه وحكمته واعتنائه بخلقه وقدرته كثيرة وهم مثل أهل زماننا كانوا لا يعتبرون بها بل كانوا عنها معرضين (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) الّذين هما من آياتها وبها يناط أكثر الآثار السّفليّة ، والجملة عطف على قوله : هم عن آياتها معرضون ، أو حال عن الفاعل المستتر في معرضون أو عن آياتها ، كما انّ قوله وهم عن آياتها معرضون حال عمّا سبق والمعنى جعلنا السّماء سقفا محفوظا كثير الآيات والحال انّهم معرضون عن آياتها غير ناظرين إليها والحال انّا خلقنا اللّيل والنّهار اللّذين هما مشهودان لهم وهما من آيات السّماء ويترتّب عليهما حكم ومصالح كثيرة ولا ينبغي الغفلة والاعراض عنهما (وَ) خلقنا (الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) اللّذين هما من أعظم آياتها ولا يتكوّن متكوّن الّا بتأثيرهما ، وكلّ من نظر إليهما بالتّأمّل الّذى هو من شأن الإنسان يدرك انّهما أعظم قدرا وأكثر أثرا واشدّ ظهورا من ان يغفل عنهما أو لا يدرك منهما دلالتهما على مبدء عليم حكيم قدير (كُلٌ) من الشّمس والقمر (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) كان الظّاهر ان يقول : كلّ في فلك يسبح ان قدّر كلّ منهما أو يسبحان أو يسبح ان قدّر كلّهما بمعنى كليهما لكنّه تعالى للاشعار بكثرة افراد كلّ من الشّمس والقمر طولا كما ورد : انّ وراء عين شمسكم هذه تسعا وثلاثين عين شمس ، ووراء قمركم هذا تسعة وثلاثين قمرا ، وبكثرة افرادهما عرضا كما شاع في زماننا من حكماء الافرنج انّ الكواكب بعضها شموس منيرة بذاتها ، وبعضها أقمار مستنيرة من غيرها ، أتى بالعبارة هكذا ليكون المعنى كلّ جماعة من افراد الشّمس وافراد القمر في نوع من الفلك روحانىّ أو جسمانىّ يسبحون فانّ

٥٠

الأفلاك كالكواكب كما تكون طبيعيّة تكون روحانيّة كما قيل :

آسمانهاست در ولايت جان

كارفرماى آسمان جهان

والإتيان بضمير ذوي العقول للاشارة الى انّها ذو وشعور وعلم كما قيل :

خرمگس خنفسا حمار قبان

همه با جان ومهر ومه بى جان

واستعمال السّباحة لتشبيه الفلك بالبحر والنّهر وتشبيه الكواكب بالسّابح (وَما جَعَلْنا) التفات من الغيبة الى التّكلّم كما كان ما قبله التفاتا من التّكلّم الى الغيبة وهو عطف أو حال عن سابقه وانكار لما قالوا من انّا نتربّص به ريب المنون كأنّه قال : وخلقنا اللّيل والنّهار المفنيين بتعاقبهما كما هو مشهود لك وللجميع جميع النّفوس والمواليد وما جعلنا (لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ) خارجا من سنّة افناء اللّيل والنّهار حتّى تترقّب أو يترقّبوا لك الخلود (ما) ينتظرون موتك دون موتهم (فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) تعليل لانكار الخلود (وَنَبْلُوكُمْ) عطف على كلّ نفس ذائقة الموت ، أو على ما جعلنا والاختلاف بالاسميّة والفعليّة أو بالمضىّ والاستقبال للاشعار بانّ الاختبار مستمرّ من الماضي الى الاستقبال (بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ).

اعلم ، انّ الإنسان ذو مراتب ولكلّ مرتبة منها شرّ وخير خاصّان بها فانّ المرتبة الحيوانيّة خيراتها ملائمات شهواته وغضباته ، والمرتبة البشريّة خيراتها ملائمات هذه لكن مع عدم الخروج عن انقياد العقل ، والمرتبة القلبيّة ملائماتها العلوم والأوصاف الجميلة ، وشرور كلّ منافراته ، وهكذا ، وقد يكون خير مرتبة شرّا لمرتبة اخرى ، وقد يكون خيرا وقد لا يكون شرّا ولا خيرا ، ومعنى الابتلاء الاختبار والخلاص ممّا لا ينبغي ان يكون مع الإنسان ، والاختبار بشرّ المراتب واضح والاختبار بخيرها بان ينظر هل يشكر ويتوجّه في الخير الى مفيض الخير أو يطغى ويلهو عنه ، فانّ في الشّكر خلاصا للطّيفة الانسانيّة من الشّوائب وللنّفس من الرّذائل ، وفي الطّغيان خلاصا للّطيفة السّجينيّة من شوائب العلّيّين وللنّفس من شوب الخصائل (فِتْنَةً) مصدر من غير لفظ الفعل (وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) وعد ووعيد وهو عطف على كلّ نفس ذائقة الموت ومفيد للتّعليل لانكار الخلود مثل سابقه ، روى انّ أمير المؤمنين (ع) مرض فعاده إخوانه فقالوا : كيف نجدك يا أمير المؤمنين (ع)؟ ـ قال : بشرّ ، قالوا : ما هذا كلام مثلك! قال (ع) : انّ الله تعالى يقول ونبلوكم بالشّرّ والخير فتنة ، فالخير الصّحّة والغنى ، والشّرّ المرض والفقر (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو بك أو بعلىّ (ع) (إِنْ يَتَّخِذُونَكَ) هو جواب لاذا ولم يأت بالفاء في الجواب مع لزوم الفاء في الجواب المنفىّ بان امّا لتقدير الفاء أو لحذف الجواب بقرينة هذه الجملة والتّقدير اتّخذوك هزء ان يتّخذونك (إِلَّا هُزُواً) مهزوّا به وهو مصدر بمعنى اسم المفعول (أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ) حال بتقدير القول اى قائلين : أهذا الّذى كان بيننا وكان ضعيفا فينا هو الّذى يذكر آلهتكم بسوء ويعيبهم؟! والحال انّهم اولى بالاستهزاء لانّهم معرضون عن الله وعن خلفائه (وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ) تكرار المسند اليه بالضّمير للتّأكيد وللحصر الادّعائىّ كأنّهم لا كافر سواهم ، وتقديم الظّرف على عامله لشرافته بالاضافة الى الرّحمن وللحصر أيضا يعنى انّ للأشياء جهتين ، جهة ذكر الرّحمن وجهة ذكر الشّيطان وهوى النّفس وأنت تعيب عليهم الهتهم بجهتها الشّيطانيّة لا بجهتها الرّحمانيّة فأنت اولى بالتّصديق والتّبجيل وهم كافرون من الأشياء جهة ذكرها للرّحمن ناظرون الى جهة ذكرها للشّيطان ، فهم اولى بالاستهزاء واحقّ بالتّوهين ، أو المراد بالذّكر القرآن أو الرّسالة أو الولاية فانّ الكلّ ذكر لله ، والباء في قوله بذكر الرّحمن سببيّة أو صلة كافرون (خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ) جملة منقطعة عن سابقها لفظا ومعنى ، أو مرتبطة معنى جواب لسؤال

٥١

كان مذكورا أو مقدّرا كأنّه (ص) قال : أو أمّته قالوا مستبطئين لمؤاخذتهم الى م تمهلهم؟ ـ فقال : خلق الإنسان من عجل وهذه عبارة دائرة في العرب والعجم إذا أرادوا المبالغة في امر يقولون : انّه خلق من هذا الأمر كأنّه جعل ذلك الأمر مادّة خلقته ، وفي الخبر انّ آدم (ع) لمّا نفخ فيه الرّوح أراد ان يقوم قبل إتمام النّفخ فقال تعالى : خلق الإنسان من عجل (سَأُرِيكُمْ آياتِي) في مؤاخذة المستهزئين (فَلا تَسْتَعْجِلُونِ) في حلول العذاب بهم ، وهذه الآية بهذا التّفسير تدلّ على انّ قوله خلق الإنسان من عجل مرتبط معنى بسابقها (يَقُولُونَ) عطف على قوله أهذا الّذى يذكر آلهتكم فانّه في التّقدير يقولون : أهذا الّذى يذكر الهتكم كما أشرنا اليه ويقولون استهزاء بنحو آخر (مَتى هذَا الْوَعْدُ) الّذى تعدون من وعد القيامة أو وعد العذاب (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في وعدكم (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أتى بالاسم الظّاهر تصريحا بكفرهم واشعارا بعلّة الحكم (حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ) حين مفعول يعلم ولو للشّرط والجزاء محذوف والمعنى لو يعلمون وقت احاطة النّار بهم في الجحيم أو في البرزخ وعدم قدرتهم على دفعها لعلموا اىّ منهم ومنكم احقّ بالاستهزاء أو لما استهزؤا أو لما استعجلوا الوعد ، أو لو للشّرط وحين ظرف والمعنى لو يكون لهم علم في وقت احاطة النّار بهم يعلمون ما حلّ بهم من العذاب أو لو للتّمنّى وحين على الوجهين (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعنى لا يقدرون على دفع العذاب بأنفسهم ولا يعينهم معين آخر (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً) اضراب عن عدم علمهم المستفاد من لو يعلمون أو اضراب عن عدم كفّهم والضّمير للنّار أو للعدة أو للقيامة المعهودة بينهم (فَتَبْهَتُهُمْ) اى تحيّرهم بحيث لا يبقى لهم شعور وتدبير لدفعها (فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها) عن أنفسهم (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لتدبير دفعها أو لتوبة ومعذرة ، أو لجبران ما فات منهم بالأعمال الصّالحة (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ) تسلية له (ص) عن استهزاء قومه (فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) اى القول والعمل الّذى كانوا به يستهزؤن ، أو العذاب الّذى كانوا به يستهزؤن (قُلْ) ردّا عليهم في اتّخاذ الآلهة (مَنْ يَكْلَؤُكُمْ) اى يحفظكم (بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ) اى من عقوبته أو من قبله ان أراد بكم سوء والمقصود حملهم على الإقرار بعجز الآلهة ، وهذه الآية مثل سوابقها تعريض بمن اتّخذ من دون علىّ (ع) أولياء (بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ) تذكّر ربّهم المطلق أو ربّهم المضاف أو عمّا يذكّرهم به ربّهم من الآيات الآفاقيّة والانفسيّة والآيات العظمى الّتى أعظمها علىّ (ع) ، أو المراد بذكر ربّهم القرآن أو محمّد (ص) أو علىّ (ع) ابتداء (مُعْرِضُونَ) ولهذا لا يتذكّرون انّ آلهتهم عاجزون وان ليس الحافظ من سخط الله الّا الله (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : الهم آلهة تكلؤهم من عقوبة الرّحمن أو حالكونها من قبل الرّحمن أم لهم آلهة (تَمْنَعُهُمْ) من عذابنا أو من حوادث الزّمان حالكونها (مِنْ دُونِنا) من غيرنا أو حالكونها من عندنا (لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ) استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما شأن آلهتهم؟ ـ فقال : لا يستطيعون نصر أنفسهم فكيف بغيرهم (وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) اى يحفظون من : اصحب فلانا واصطحبه اى حفظه ومنعه ، والمعنى انّ آلهتهم لا يستطيعون نصر أنفسهم وليسوا بأنفسهم محفوظين من قبلنا ، أو ليسوا محفوظين من عذابنا لا بأنفسهم ولا بغيرهم (بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ) يعنى ليس لهم آلهة بل متّعنا هؤلاء (وَآباءَهُمْ) بالأموال والأولاد والاعمار والصّحّة والأمن (حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فاغترّوا بتمتيعنا واتّبعوا أهواءهم (مَتَّعْنا) اغترّوا بتمتيعنا وغفلوا عن الرّجوع إلينا

٥٢

(فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ) برسلنا (نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها) باذهاب النّفوس النّازلة من عالم الأرواح إليها المثقّلة لها الّتى تزيدها عن قدرها ، ولمّا كان النّفوس السّفليّة الشّيطانيّة كأنّها لا تنقل من الأرض بالموت فسّر نقصان الأرض بموت العلماء في أخبارنا ، وقيل : انّ المعنى ننقصها من أطرافها بظهور المسلمين على الكافرين بنقصان ديار المقاتلين وأراضيهم وازدياد ديار المسلمين وأراضيهم لكن هذا لا يناسب سوق العبارة في المقام (أَفَهُمُ الْغالِبُونَ) على أمرنا وحكمنا وقد مرّت الآية في سورة الرّعد (قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ) بسبب وحي الله الىّ بالإنذار لا بسبب الهوى كما انّ تخويفاتكم تكون بالهوى أو أنذركم بما أوحى الىّ لا بما أتخيّل من نفسي مثلكم ولكن لا ينفعكم إنذاري لانّكم صمّ (وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ) اى النّداء (إِذا ما يُنْذَرُونَ) فلا ينتفعون (وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ) يعنى انّهم يستعجلون بالعذاب ولئن مسّتهم نفحة من عذاب ربّك ، النّفحة الدّفعة من نفح الطيّب ونفح الرّيح بمعنى هبّت ، ونفح العرق نزا والنّفحة من العذاب القطعة منه (لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا) كالعاجز عن الدّفع والاستنصار من غير توسّل بالالهة (إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) يعنى اعترفوا بظلمهم في اتّخاذ الآلهة من دون الله أو الأولياء من دون ولىّ الأمر (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ) الميزان ما يوزن ويقاس به مقدار الشّيء وحاله سواء كان ذلك ذا الكفّتين أو القبّان أو الزّرع أو مقياس البنّاء والمسّاح ، أو احكام الشّرائع والملل ، أو آداب الطّريق والسّلوك ، أو كتب الله السّماويّة ، أو وجود خلفاء الله تعالى بأعمالهم وأقوالهم وأحوالهم وأخلاقهم ومراتب وجودهم ، ولمّا كان الموازين في الآخرة كثيرة بحسب النّشئات ومراتب الأشخاص جمع الموازين بالجمع الدّالّ على الكثرة وقد سبق في اوّل سورة الأعراف تحقيق وتفصيل للوزن والميزان ، والقسط بمعنى العدل ومن المصادر الّتى يوصف بها ، يستوي فيه الواحد والجمع والمؤنّث والمذكّر (لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) اى في يوم القيامة ، أو للنّاس في يوم القيامة ، أو لحساب يوم القيامة (فَلا تُظْلَمُ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب ، أو بثواب في موقع العقاب ، أو بعكس ذلك (نَفْسٌ شَيْئاً) هو مفعول ثان لتظلم أو قائم مقام المصدر (وَإِنْ كانَ) العمل (مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) اى مقدار حبّة من خردل ، وقرئ مثقال حبّة بالرّفع على جعل كان تامّة (أَتَيْنا بِها) وقرئ بالمدّ من باب الأفعال أو المفاعلة (وَكَفى بِنا حاسِبِينَ وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ) الجملة معطوفة على قوله لئن مسّتهم ، أو على قوله ونضع الموازين ، والاوّل اولى لتوافق المتعاطفين في الإنشاء ، فانّ لام لقد آتينا موطّئة للقسم ، والثّانى أوفق بحسب تناسب المعنى فانّ وضع الموازين ليوم القيامة يناسب إتيان الفرقان لموسى لانّه أيضا ميزان فكأنّه قال : نضع الموازين القسط ليوم القيامة وآتينا موسى في الدّنيا الميزان القسط الّذى هو التّوراة الفارقة بين الحقّ والباطل (وَضِياءً وَذِكْراً) من قبيل عطف أوصاف عديدة لشيء واحد على ان يكون الفرقان والضّياء والذّكر أوصافا للتّوراة ، أو من قبيل عطف المتباينات ان أريد بالفرقان التّوراة أو فلق البحر ، أو سائر المعجزات وبالضّياء والذّكر غيرها (لِلْمُتَّقِينَ) متعلّق بآتينا ، وكون الفرقان للمتّقين لكونهم منظورين من إتيانه ومنتفعين به ، أو صفة لضياء وذكرا ، أو لذكرا فقط (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) صفة بيانيّة للمتّقين ، وبالغيب حال من ربّهم أو من فاعل يخشون ، والباء للظّرفيّة ، أو للمصاحبة ، أو الباء للسببيّة ، والظّرف لغو متعلّق بيخشون اى يخشون بسبب غيب أعمالهم من حيث الصّحّة والبطلان أو بسبب غيب جزاء أعمالهم ، أو بسبب غيب موارد وعده ووعيده عنهم (وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ) قد مضى قبيل هذا بيان الخشية والإشفاق (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ) كثير البركة

٥٣

والخيرات وهو ميزان أهل هذا الزّمان في الدّنيا (أَنْزَلْناهُ) قد مضى انّ الإتيان بالايتاء في وصف كتاب موسى (ع) وبالانزال والتّنزيل في وصف كتاب محمّد (ص) تشريف للقرآن (أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) بعد وضوح صدقه وحجّته وبعد كونه ذا نظير في السّابقين (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ) ما به رشده من الحجج والبراهين أو الرّشد اللّائق بحاله من الاهتداء الى كمالاته (مِنْ قَبْلُ) اى من قبل القرآن أو من قبل موسى (وَكُنَّا بِهِ) اى برشده أو بإبراهيم (عالِمِينَ إِذْ قالَ) ظرف لآتينا أو لعالمين (لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ) جمع التّمثال بالكسر وهو الصّورة والأغلب استعماله فيما لا روح له (الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) اللّام بمعنى على أو للتّقوية فانّ العكوف يتعدّى بنفسه ويكون بمعنى الحبس ، وبعلى ويكون بمعنى الإقبال ، ويجوز ان يتضمّن معنى العبادة فيكون اللّام للتّقوية أيضا (قالُوا) في الجواب مثل أهل كلّ زمان (وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ) فانّ النّاس لغلبة المدارك الحسّيّة عليهم لا يتجاوزون عن المحسوس ولا يتأمّلون في المحسوس وفي صحّته وبطلانه خصوصا فيما رأوه من اوّل التّمييز من الآباء والامّهات والكبار من القوم ويتلقّونه بالقبول ويتمسّكون به من غير حجّة ولذلك اكتفوا في الجواب بذكر تقليد الآباء من غير إبراز حجّة فانّ السّؤال وان كان بلفظ ما الدّالّ على طلب الحقيقة لكنّ المقصود كان انكار عبادتها وينبغي ان يجيبوا بما يصحّح العبادة لها.

اعلم ، انّه كما نقل كان بين أوصياء آدم وشيث وبين نوح رجال صالحون كان النّاس يأنسون بهم فلمّا ارتحلوا دخل النّاس حزن شديد فصنع بعض الصّلحاء لأنس النّاس ورفع حزنهم تماثيل أولئك الصّلحاء وكانوا يزورونها ويأنسون بها ، فلمّا تمادى الزّمان وارتحل الآباء وبقي التّماثيل للأولاد وأولاد الأولاد جاء الشّيطان إليهم وقال : كان آباؤكم يعبدون هذه التّماثيل واغترّوا بها وبعبادتها ، وقيل : كان تلك التّماثيل تماثيل الكواكب كانوا يزورونها ويتوسّلون بها في حوائجهم كما انّ شريعة العجم المنسوبة الى مهاباد كانت على ذلك ، (قالَ) إبراهيم (ع) ردّا لهم في عبادتهم وفي تقليدهم (لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) يعنى تصدق أم تمزح؟ ـ (قالَ) بعد انكار ربوبيّتها لحصر الرّبوبيّة في الله (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ) ادّى الدّعوى بحيث يدلّ عقد الحمل على صحّتها ، وتوصيف المحمول بالّذى فطرهنّ يدلّ على صحّة عقد الحمل (وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) يعنى ليس قولي هذا عن مزاح ولعب بل عن جدّ ومواطاة قلب (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) اى لأفعلنّ بها في خفية ما لا يلائمها (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) حال مؤكّدة أو مقيّدة باعتبار انّ التّولية بمعنى الإقبال والأدبار ، وهكذا التّولّى ، قيل : انّما قال ذلك في السّرّ من أصحاب نمرود ولم يسمع ذلك الّا رجل منهم فأفشاه ، وقيل : كان موعد عيد لهم فكرهوا خروج إبراهيم (ع) معهم ووكّلوه ببيت الأصنام ، أو انّه تمارض كما في الآية وتخلّف عنهم فخرجوا صغيرهم وكبيرهم الى عيد لهم فدخل بيت الأصنام وأخذ القدوم وكسر الأصنام (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً) الجذاذ بتثليث الجيم اسم من الجذّ بمعنى القطع والاستيصال وقرئ هاهنا بالضّمّ والكسر (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) في الخلقة أو في التّعظيم وعلّق الفاس في عنقه وخرج (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ) اى الى إبراهيم أو الى الكبير (يَرْجِعُونَ) فيسألون إبراهيم عن حال الأصنام وكسرهنّ ولينبّههم على جهلهم بذلك أو يسألون الكبير فيتنبّهون انّه ليس قابلا للسّؤال فضلا عن العبادة (قالُوا) جواب

٥٤

لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما قالوا بعد ما رجعوا الى الأصنام ووجدوها مكسّرة؟ ـ فقال : قالوا (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) ان كان من استفهاميّة فالوقف هاهنا ، وان كان موصولة فقوله (إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) خبره ، وان كان شرطيّة فهو جزاؤه لكن بتقدير الفاء والمقصود انّه ظالم على نفسه بجعلها عرضة للقتل والسّياسة ، أو ظالم على آلهتنا (قالُوا سَمِعْنا) يعنى قال بعضهم في جواب هذا القائل : سمعنا قبل ذلك (فَتًى يَذْكُرُهُمْ) ويعيب فيهم (يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ قالُوا) اى قال القوم للجماعة الّذين قالوا سمعنا فتى يذكرهم (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ) فاكشفوه بالإتيان به على أعين جميع النّاس حتّى يعرفوه (لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ) بما سمعتم منه أو لعلّهم يشهدون على إقراره بان يقرّ بهذا الفعل فشهدوا على إقراره أو لعلّهم يحضرون عذابه وعقوبته فجاؤا به وساءلوه (قالُوا) في حمله على الإقرار (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ) ما انا فعلته (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) لمّا كان السّؤال عن الفاعل بعد كون الفعل مسلّم الوقوع كان الموافق للجواب ان يقول : بل كبيرهم فعل ليكون اثباتا للفعل المسلّم للكبير ونفيا له عن غيره لكنّه قدّم الفعل لانّه أراد ان يبرز الفعل مبرز المفروض ، لانّ هذه القضيّة من القضايا الفرضيّة المتداولة في العرب والعجم ، والأنسب بالقضايا الفرضيّة ان يكون الفعل فرضيّا أيضا فانّها في التّقدير هكذا بل فعله كبيرهم ان كان ما تقولون من انّهم آلهة حقّا لانّ كسر الإله لا يتمشّى الّا من الإله ولانّ الكبير ينبغي ان ينفى الغير عن الآلهة ويكسره لاقتضاء كلّ منهم التّفرّد بما فيه كماله ، وقيل : انّها قضيّة مفروضة وشرطها قوله ان كانوا ينطقون ، وقيل : انّ المراد به التّعجيز والإلزام وليس باخبار حتّى يكون كذبا ، وقيل : انّ الوقف على فعله وكبيرهم ابتداء كلام وهو بعيد لفظا ومعنى فانّ التّقدير حينئذ فعله من فعله ويكون جوابا بالفعل عن السّؤال عن الفاعل ويكون حذفا للفاعل أو إضمارا له من غير قرينة ومرجع ، وروى انّه ما فعله كبيرهم وما كذب وقد علم وجهه ونسب الى الخبر انّ إبراهيم كذب ثلاث كذبات قوله : انّى سقيم ، وقوله : بل فعله كبيرهم ، وقوله في سارة لمّا أراد الجبّار أخذها وكانت زوجته انّها أختي (فَسْئَلُوهُمْ) يعنى فاسئلوا جميعهم (إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) والأمر للإلزام والإقرار بعدم النّطق حتّى يقرّوا بعدم الآلهة ، والإتيان بضمائر ذوي العقول كان موافقا لاعتقادهم أو للاستهزاء (فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ) يعنى صرفوا وجوههم عن إبراهيم (ع) وتوجّه بعضهم الى بعض ، أو رجعوا الى عقولهم من عاداتهم وأدركوا بعقولهم صدق مقالته (فَقالُوا) اى قال بعضهم خطابا لجميعهم (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) في نسبة الآلهة الى ما لا يقدر على دفع الضّرّ عن نفسه ولا على النّطق ، أو في نسبة الظّلم الى من كسر الأصنام ، أو في ارادة السّوء بمن كسرها ، أو في السّؤال عن إبراهيم لا عن الأصنام وليس إبراهيم ظالما كما تفوّهتم به بقولكم : من فعل هذا بآلهتنا انّه لمن الظّالمين (ثُمَ) انتقلوا من عقولهم الى أنفسهم وعاداتها واهويتها و (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) شبّههم في الانصراف من العقول الى عادات النّفوس بمن نكس عن الاستقامة فجعل رأسه في الأسفل ورجليه في الأعلى واعترفوا بما هو حجّة عليهم قائلين (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا إبراهيم (ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) يعنى بعد ما اعترفوا بأنّهم هم الظّالمون حاجّوه بما هو حجّة عليهم (قالَ) إبراهيم (ع) (أَ) تجهلون أو لا تعقلون (فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) هو في محلّ المصدر أو منصوب بنزع الخافض (وَلا يَضُرُّكُمْ) يعنى بعد ما علم انّهم لا يقدرون على دفع الضّرّ عن أنفسهم على انّهم لا يقدرون على جلب النّفع ودفع الضّرّ عن الغير ، وما لا ينطق ولا ينفع ولا يضرّ لا يستحقّ العبادة (أُفٍ

٥٥

لَكُمْ) بعد ما بان قبح صنيعهم بحيث لا يمكنهم انكار قبحه أظهر الانزجار منهم ومن معبوداتهم ، وافّ كلمة انزجار وبه يظهر التّضجّر (وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ قالُوا) بعد العجز عن الحجّة كما هو ديدن أهل كلّ زمان من التّوسّل بالقتل والشّتم وسائر التّهديدات مثل التّكفير والتّفسيق بعد العجز عن الحجّة والعلم بالخطيئة من أنفسهم (حَرِّقُوهُ) يعنى بعد ما استشار نمرود منهم قالوا : حرّقوه ولذلك قال الصّادق (ع) : انّ فرعون إبراهيم (ع) وأصحابه كانوا لغير رشده وكان فرعون موسى وأصحابه لرشده ، فانّه لمّا استشار أصحابه في موسى (ع) قالوا : ارجه وأخاه وأرسل في المدائن حاشرين (وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ) يعنى لا تنظروا الى مقالته فانّكم لا تقدرون على محاجّته وانصروا آلهتكم ، قيل : فجمعوا له الحطب حتّى انّ الرّجل منهم ليمرض فيوصى من ماله لاشتراء الحطب والمرأة تغزل فتشتري به حطبا فلمّا ، أرادوا ان يلقوا إبراهيم في النّار ولم يقدروا على قربها لشدّتها جاء إبليس ودلّهم على المنجنيق وهو اوّل منجنيق صنعت فوضعوه فيها ثمّ رموه في النّار فلمّا رموه فيها (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً) فانّ النّار وان كانت بالنّسبة إلينا جمادا لا يصحّ خطابها وأمرها لكنّها بالنّسبة اليه تعالى عاقلة شاعرة مأمورة (وَسَلاماً) في الخبر انّ إبراهيم بعد ما قال الله كوني بردا اضطربت أسنانه حتّى قال وسلاما (عَلى إِبْراهِيمَ) لو لم يقل على إبراهيم لصارت بردا وسلاما الى آخر الأبد على كلّ أحد ولذلك كانت تحرق غير إبراهيم وفي الخبر لمّا وضعوه في المنجنيق التقى معه جبرئيل في الهواء فقال : يا إبراهيم هل لك الىّ من حاجة؟ ـ فقال إبراهيم : امّا إليك فلا ، وامّا الى ربّ العالمين فنعم ، وانحطّ جبرئيل وجلس معه يحدّثه في النّار ونظر اليه نمرود فقال : من اتّخذ إلها فليتّخذ مثل اله إبراهيم ، فقال عظيم من عظماء أصحاب نمرود انّى عزمت على النّار ان لا تحرقه فخرج عمود من النّار نحو الرّجل فأحرقه فآمن له لوط ، نقل انّه بعد ما أتى بإبراهيم (ع) الى نمرود وعلم نمرود انّه ابن آزر فقال لآزر : خنتني وكتمت هذا الولد عنّى ، فقال : هذا عمل أمّه فدعا نمرود أمّه فقال لها : ما حملك على ان كتمتني امر هذا الغلام حتّى فعل بآلهتنا ما فعل؟ ـ فقال : ايّها الملك نظرا منّى لرعيّتك قال : وكيف ذلك؟ ـ قالت رأيتك تقتل أولاد رعيّتك فكان يذهب النّسل فقلت : ان كان هذا الّذى يطلبه دفعته اليه ليقتله ويكفّه عن قتل أولاد النّاس ، وان لم يكن يبق لنا ولدنا وقد ظفرت فشانك فكفّ عن أولاد النّاس وصوّب رأيها ، ووجه عدم إحراق النّار لإبراهيم (ع) ما أشرنا اليه في اوّل سورة بنى إسرائيل وفي غيرها من غلبة الملكوت على الملك وبعد غلبة الملكوت على الملك يرتفع حكم الملك فلا يحرق النّار الملكيّة الجسم الملكوتىّ (وَ) من تلك الغلبة يقع طىّ الأرض والسّير على الماء والهواء من غير غرق وسقوط و (أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) لانّهم فعلوا ما يطفئون به نور الله في الأرض فجعلنا غاية جهدهم حجّة صدق إبراهيم ودليل خسرانهم ، ولمّا رأوا انّه لم يحرقه النّار امر نمرود ان ينفوه من بلادهم وان يمنعوه من الخروج بماشيته وماله فحاجّهم إبراهيم عند ذلك فقال : ان أخذتم بماشيتى ومالي فانّ حقّى عليكم ان تردّوا علىّ ما ذهب من عمرى في بلادكم واختصموا الى قاضى نمرود فقضى على إبراهيم (ع) ان يسلّم إليهم جميع ما أصاب في بلادهم وقضى على أصحاب نمرود ان يردّوا على إبراهيم (ع) ما ذهب من عمره في بلادهم فأخبر بذلك نمرود فأمرهم ان يخلّوا سبيله وسبيل ماشيته وماله وان يخرجوه ، وقال : انّه ان بقي في بلادكم أفسد دينكم واضرّ بالهتكم (وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ) يعنى نجّيناهما الى الشّام ، قيل : بركته العامّة ان أكثر الأنبياء بعثوا منه فانتشرت بركاتهم الدّنيويّة

٥٦

والاخرويّة في العالم وانّه أشرف بقاع الأرض من حيث النّعم الصّوريّة (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ) بعد خروجه الى الشّام وبقائه فيها مدّة مديدة (وَيَعْقُوبَ نافِلَةً) عطيّة فانّ النّافلة العطيّة والغنيمة والنّفل النّفع (وَكُلًّا) اى كلّ الاربعة أو الثّلاثة أو الاثنين (جَعَلْنا صالِحِينَ وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) لا بأمر الشّيطان ولا بأمر أنفسهم ولا بشراكة شيء منهما (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ) مثل الوحي الى رسلنا فانّهم كانوا رسلا (فِعْلَ الْخَيْراتِ) مطلقة (وَإِقامَ الصَّلاةِ) مخصوصة أسقط التّاء عن المصدر لقيام المضاف اليه مقامه (وَإِيتاءَ الزَّكاةِ) مخصوصة لكون الصّلوة والزّكاة اهمّ الخيرات بل لان ليس الخيرات الّا الصّلوة والزّكاة ولذلك صرّح بهما بعد ذكرهما عموما (وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) لا لغيرنا من الشّيطان والنّفس والهوى ، اشارة الى مقام الإخلاص الّذى هو قرّة عين السّالكين (وَلُوطاً) عطف على كلّا أو على مفعول جعلناهم عطف المفرد ، أو منصوب من باب الاشتغال ، والجملة معطوفة على جملة كلّا جعلنا صالحين (آتَيْناهُ حُكْماً) حكمة عمليّة (وَعِلْماً) تنكير الحكم والعلم للاشارة الى انّ ما آتاه كان يسيرا من كثير (وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ) في اسناد عمل الخبائث الى القرية مجاز عقلىّ أو في اطلاق القرية على أهلها مجاز لغوىّ ، أو هو مجاز في الحذف (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ) بفتح السّين اسم من المسماءة ، واضافة القوم اليه للاشعار بالمبالغة في مساءتهم كأنّهم صاروا قوما له ومنتسبين اليه (فاسِقِينَ وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا) في دار رحمتنا أو في رحمتنا الّتى هي الولاية بان حقّقناه بها (إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) المستعدّين لذلك فلم يكن فعلنا جزافا من غير سبب (وَنُوحاً) عطف على لوطا ، أو على مفعول نجّينا ، أو بتقدير سمعنا أو شرّفنا أو اذكر أو ذكّر (إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ) تكرار نجّينا للتّأكيد ولعطف اهله على المفعول ، ولتعيين ما نجّى منه فانّه نجّى (مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) الّذى لم يبتل أحد من الأنبياء به وهو غرق تمام الدّنيا وأهلها أو شدّة أذى قومه (وَنَصَرْناهُ) اى نجّيناه بالنّصرة (مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) الآفاقيّة من الآيات العظام والصّغار والانفسيّة من الواردات الالهيّة والزّاجرات العقلانيّة والملكيّة والمنامات المنذرة والمبشّرة (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ وَداوُدَ) عطف على نوحا أو هو بتقدير فعل محذوف مثل نوحا (وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ) في الزّرع أو الكرم (إِذْ نَفَشَتْ) بدل من إذ يحكمان أو ظرف ليحكمان (فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) جملة حاليّة بتقدير قد أو معطوفة على يحكمان أو نفشت والإتيان بالمضارع بعد إذ وفى القضايا الماضية لجعل إذ منسلخة عن المضىّ أو لتصوير الماضي بصورة الحال المشهودة ، والمقصود من قوله (وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) اى عالمين أو حاضرين انّ حكمهم لم يكن في غببة منّا حتّى لا يتميّز الحقّ من الباطل عندنا ، أو كانا عالمين حين الحكم بانّهما كانا في مشهدنا فلم يتفوّها بآرائهما بل بوحي منّا فلا يقول أحد انّهما حكما بالاجتهاد وخالفا أحدهما الآخر كما قيل ذلك ، والإتيان بضمير الجمع في قوله لحكمهم للاشعار بانّ الحاكمين كانوا متعدّدين لانّ داود (ع) جمع جميع أولاده للامتحان ، ويجوز إرجاع الضّمير الى المتحاكمين والى مجموع الحاكمين والمتحاكمين (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) يعنى أوحينا الى سليمان الحكومة أو الغنم من حيث حكم الإضرار بحسب اقتضاء الوقت فكان حكمه ناسخا لما كان سابقا فلم يكن تفهيمنا سليمان تجهيلا لداود (ع)

٥٧

ولذلك قال (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) عن الصّادق (ع) انّه كان اوحى الله عزوجل الى النّبيّين (ع) قبل داود الى ان بعث الله داود (ع) اىّ غنم نفشت في الحرث فلصاحب الحرث رقاب الغنم ولا يكون النّفش الّا باللّيل فانّ على صاحب الزّرع ان يحفظ زرعه بالنّهار وعلى صاحب الغنم حفظ الغنم باللّيل فحكم داود بما حكم به الأنبياء من قبله فأوحى الله عزوجل الى سليمان (ع) اىّ غنم نفشت في زرع فليس لصاحب الزّرع الّا ما خرج في بطونها وكذلك جرت السّنّة بعد سليمان وهو قول الله تعالى وكلّا آتينا حكما وعلما فحكم كلّ واحد منهما بحكم الله عزوجل ، وفي خبر آخر عنه (ع) : اوحى الله الى داود اتّخذ وصيّا من أهلك فانّه قد سبق في علمي ان لا ابعث نبيّا الّا وله وصىّ من اهله وكان لداود أولاد عدّة ، وفيهم غلام كانت أمّه عند داود وكان لها محبّا فدخل داود عليها حين أتاه الوحي فقال لها : انّ الله اوحى الىّ يأمرني ان اتّخذ وصيّا من أهلي ، فقالت له امرأته فليكن إبني ، قال : ذلك أريد وكان السّابق في علم الله المحتوم عنده انّه سليمان فأوحى الله تبارك وتعالى الى داود ان لا تعجل دون ان يأتيك أمري فلم يلبث داود ان ورد عليه رجلان يختصمان في الغنم والكرم واوحى الله عزوجل الى داود ان اجمع ولدك فمن قضى بهذه القضيّة فأصاب فهو وصيّك من بعدك ، فجمع داود ولده فلمّا ان قصّ الخصمان قال سليمان يا صاحب الكرم متى دخلت غنم هذا الرّجل كرمك؟ ـ قال : دخلته ليلا ، قال : قد قضيت عليك يا صاحب الغنم بأولاد غنمك وأصوافها في عامك هذا ، ثمّ قال له داود فكيف لم تقض برقاب الغنم وقد قوّم ذلك علماء بنى إسرائيل فكان ثمن الكرم قيمة الغنم ، فقال سليمان : انّ الكرم لم يجتثّ من أصله وانّما أكل حمله وهو عائد في قابل فأوحى الله عزوجل الى داود انّ القضاء في هذه القضيّة ما قضى سليمان به ، يا داود أردت امرا وأردنا امرا غيره فدخل داود على امرأته فقال : أردنا امرا وأراد الله تعالى امرا غيره ولم يكن الّا ما أراد الله فقد رضينا بأمر الله عزوجل وسلّمنا ، وكذلك الأوصياء ليس لهم ان يتعدّوا بهذا الأمر فيجاوزوا صاحبه الى غيره ، وورد غير ذلك باختلاف في اللّفظ وفي المعنى (وَسَخَّرْنا) التّسخير قد مضى في سورة البقرة انّه جعل ارادة المسخّر تابعة لارادة المسخّر (مَعَ داوُدَ الْجِبالَ) ظرف لغو متعلّق بسخّرنا أو مستقرّ حال من الجبال ، وامّا تعلّقه بيسبّحن فانّه بعيد للزوم تخلّل الاجنبىّ بين المعمول المقدّم والعامل ، وتعلّقه بسخّرنا يدلّ على انّ داود مثل الجبال مسخّر له تعالى ، وجعله حالا من الجبال يشعر بكون الجبال مسخّرة لداود (ع) (يُسَبِّحْنَ) حال أو مستأنفة ، قيل : يجوز ان يكون من التّسبيح ومن السّباحة (وَالطَّيْرَ) عطف على الجبال أو مفعول معه ، وقرئ بالرّفع على انّه مبتدء محذوف الخبر ، أو عطف على المرفوع المتّصل على ضعف (وَكُنَّا) من قبل ذلك (فاعِلِينَ) أمثال ذلك فلا يبعد ان نفعل بداود ذلك وأمثاله (وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ) اى ما يلبس ، والمراد به الدّرع بقرينة قوله تعالى (لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ) وهو بدل من لكم نحو بدل الاشتمال ، وقرئ ليحصنكم بالياء التّحتانيّة والضّمير حينئذ لداود أو للبوس أو لله بطريق الالتفات ، وقرئ بالتّاء الفوقانيّة والضّمير للصّنعة أو للبوس باعتبار المعنى فانّ معناه الدّرع ، وقرئ بالنّون (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) يعنى إذا كان الأمر على هذا المنوال فاشكروا لله تلك النّعمة العظيمة (وَ) سخّرنا (لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً) شديدة الهبوب بحيث كان غدوّها شهرا ورواحها شهرا مع انّها كانت رخاء وتحريكها كان في لين (تَجْرِي بِأَمْرِهِ) بأمر سليمان (إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها) اى الشّام ، قيل : كان سليمان يسير من الشّام بكرة واليه رواحا (وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ)

٥٨

فكان اعطاؤنا ما نعطى لمن نعطى وامساكنا ما نمسك ممّن نمسك عن علم بالإعطاء والإمساك والمصالح المترتّبة عليهما (وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ) إظهار نعمة اخرى لسليمان وهي تسخير الشّياطين والجنّة له ، ومن معطوف على الرّيح أو مبتدء خبره من الشّياطين كانوا يغوصون في البحار لإخراج الجواهر النّفسيّة لسليمان (ع) (وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ) كبناء المدن والقصور العجيبة وعمل الجفون العظيمة كالجواب واختراع الصّنائع الغريبة وصنع ما يشاء من محاريب وتماثيل (وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ) حتّى لا يخرجوا من امره ولا يفسدوا عليه ملكه وأهل مملكته (وَأَيُّوبَ) عطف أو بتقدير فعل مثل نوحا (إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ) اى بانّى مسّنى الضّر وقرئ بكسر الهمزة بتقدير القول أو تضمين النّداء معنى القول (وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) اكتفى بإظهار حاله المقتضية للرّحمة وتوصيف ربّه بغاية الرّحمة عن سؤال العافية وهو أبلغ في مقام الطّلب وأقرب الى الحياء وأكمل في حفظ حرمة المسؤل منه ، قيل : كان ايّوب (ع) روميّا من ولد عيص بن اسحق (ع) استنبأه الله وكثّر ماله وولده فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت عليهم وذهاب أمواله وبالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة أو ثلاث عشر أو سبعا وسبعة أشهر ، وانّ امرأته كانت رحمة بنت افرائيم بن يوسف ، وفي خبر كانت بنت يوسف بن يعقوب (ع) ، وقيل : كان ايّوب في زمان يعقوب ، وتزوّج ليّا بنت يعقوب فقالت له يوما : لو دعوت الله فقال : كم كانت مدّة الرّخاء؟ ـ فقالت : ثمانين سنة ، فقال : استحيى من الله ان ادعوه وما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي ، هكذا قيل : وسيجيء في سورة ص تفصيل حاله ، (فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ) من الأوجاع والأمراض (وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ) نسب الى الخبر انّه تعالى أحيى له من ماتوا من أهله في زمان البلاء ومن ماتوا قبل بآجالهم وكذلك ردّ الله عليه أمواله ومواشيه بأعيانها وأعطاه مثلها معها ، وقيل : انّه تعالى خيّر ايّوب (ع) فاختار احياء اهله في الآخرة ومثلهم في الدّنيا فأوتى على ما اختار ، وقيل : ولد له ضعف ما كان ، وقيل : أحيى ولده وولد له منهم نوافل ، وقيل : كان له سبع بنات وثلاثة بنين ، وقيل : سبع بنات وسبعة بنين (رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا) عليه لا من استحقاق له ولا من عند المظاهر (وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ) يعنى تذكرة لهم بانّ الصّبر على العبادة في الرّخاء والشّدّة كما صبر ايّوب (ع) في الحالين مورث للنّعم الدّنيويّة والاخرويّة وموجب للفرج والسّرور (وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ) عطف أو بتقدير فعل مثل ما سبق (كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) فانّ إسماعيل (ع) صبر في بلد لا زرع به ولا أنيس من اوّل الصّبا ، وإدريس (ع) صبر على دعاء القوم مع شدّتهم في الإنكار لانّه كان اوّل من بعث إليهم ، وامّا ذو الكفل فقد اختلف فيه فقد نسب الى الرّضا (ع) انّه يوشع بن نون ، وقيل : انّه الياس (ع) ، وقيل : انّه زكريّا (ع) ، وقيل : كان رجلا صالحا ولم يكن نبيّا تكفّل لنبىّ وقته بصوم النّهار وقيام اللّيل وان لا يغضب ويعمل بالحقّ فوفى بذلك ، وقيل : كان نبيّا ولم يقصّ الله خبره ، وقيل : هو اليسع كان مع الياس وليس اليسع الّذى ذكره الله في القرآن تكفّل لملك جبّار ان هو تاب دخل الجنّة ودفع اليه كتابا بذلك وكان اسمه كنعان فسمّى ذا الكفل ، ونسب الى الخبر انّه كان من الأنبياء المرسلين وكان بعد سليمان (ع) بن داود (ع) ، والكفل بمعنى الضّعف لضعف ثوابه بالنّسبة الى أهل زمانه لشرفه وبمعنى النّصيب وبمعنى الكفالة والكلّ مناسب (وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ وَذَا النُّونِ) هو مثل ما سبق في العطف والتّقدير ، والنّون بمعنى الحوت سمّى به لابتلائه ببطن الحوت وهو يونس (ع) بن متّى (إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً) لقومه أو لربّه فانّ غاضبنى فلان بمعنى أغضبني وأغضبته ، وكان حاله مع قومه كذلك ، فانّه بعث إليهم حين كونه ابن ثلاثين وكان فيه حدّة فدعاهم ثلاثا وثلاثين ولم يقبل منه سوى تنوخا العابد وروبيل الحكيم فغضب لذلك ودعا الله على قومه حتّى

٥٩

وعده الله نزول العذاب على قومه بعد ما امره بالتّأنّى والصّبر فلم يقبل واصرّ على الدّعاء فأخبر قومه بنزول العذاب بعد المشورة مع روبيل وسؤال روبيل عنه ان يراجع ربّه ويسأل دفع العذاب عنهم وابائه عن المراجعة فلمّا صار موعد العذاب وقد اخرجوا يونس (ع) وتنوخا من بلدتهم وكانت البلدة نينوا من اعمال موصل ورأى عدم نزول العذاب عليهم غضب لذلك وغاضب قومه أو غاضب ربّه خصوصا على ما ورد انّه وكله الله تعالى الى نفسه طرفة عين (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) اى لن نضيّق أو لن نقضي عليه ما قضيناه عليه ، أو لن نكون قادرين على اخذه كما ورد انّه وكّل الى نفسه فظنّ ذلك ، ومعنى ما ورد انّه (ع) وكله الله الى نفسه فخطر على باله ذلك وسمّى الخطرة ظنّا ولا ينافي الخطرة مقام النّبوّة فانّ توبة الأنبياء من حيث ولايتهم ، وتوبة الأولياء من خطرات القلوب ، فنادى اى فضيّقنا عليه في الطّريق فدخل سفينة فساهم أهل السّفينة فخرج السّهم باسمه فألقوه في البحر فابتلعه الحوت (فَنادى فِي الظُّلُماتِ) ظلمة اللّيل ، وظلمة البحر ، وظلمة بطن الحوت ، وقيل : انّ الحوت ابتلعه حوت آخر (أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ) ان مخفّفة من المثقّلة أو تفسيريّة (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) تبرّى اوّلا من انانيّته بعد ما رأى انّ انانيّته ورأيه صارت سببا لهلاكته واثبت الآلهة والرّأى له تعالى ثمّ نزّهه عمّا يورث نقصا في رأيه ووجوده ، ثمّ اعترف بانّ دعاءه على قومه وانانيّته في مقابلة انانيّة الله كانت ظلما منه على قومه وعلى نفسه ، ولمّا كان ذلك منه كناية عن سؤال النّجاة قال تعالى (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ) يعنى من بطن الحوت أو غمّ الخطيئة والمغاضبة (وَكَذلِكَ) الإنجاء من بطن الحوت بسبب التّبرّى من الانانيّة والاستقلال بالرّأى وإثبات الانانيّة لله وتنزيهه من معرفة البشر والاعتراف بالظّلم في إثبات الانانيّة والمعرفة للنّفس (نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ) قرئ ننجي بنونين من باب الأفعال ، وقرئ نجّى بنون واحدة وتشديد الجيم وسكون الياء على انّه مضارع من باب الأفعال وأدغم النّون الثّانية في الجيم ، أو على انّه من باب التّفعيل وحذف النّون الّتى كانت فاء أو على انّه ماض مجهول منسوب الى المصدر ، وسكونه بنيّة الوقف كما قيل ، روى عن النّبىّ (ص) : ما من مكروب يدعو بهذا الدّعاء الّا استجيب له لانّ المؤمن إذا خرج من انانيّته في جنب انانيّة الله واعترف بانّ رؤية الانانيّة في جنب انانيّة الله ظلم ودعا الله في هذه الحال استجيب له لا محالة لانّه يكون حينئذ مصداقا لقوله تعالى : أجيب دعوة الدّاع إذا دعان ، وفي خبر عن الصّادق (ع) : عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع الى قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) فانّى سمعت الله يقول بعقبها : (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ وَزَكَرِيَّا) مثل ما سبق في العطف أو التّقدير (إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِ) قائلا ربّ (لا تَذَرْنِي فَرْداً) بلا ولد ولا عقب يرثني (وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ) استدراك لما يتوهّم من انّه في دعائه الولد بقوله : (لا تَذَرْنِي فَرْداً) صرف النّظر عن الله ومعيّته معه (فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ) فانّها كانت قطع حيضها لكبرها وكانت عقيمة قبل الهرم فأصلح الله رحمها وحاضت وحملت أو كانت هرمة فجعلها الله شابّة حسنة شهيّة ، أو كانت سيّئة الخلق فصيّرها الله حسنة الخلق (إِنَّهُمْ كانُوا) استيناف في مقام التّعليل والضّمير لزكريّا (ع) وزوجه ويحيى (ع) أو للأنبياء (ع) المذكورين من اوّل القصص فانّ كلّهم كانوا (يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) الّتى كانت بينهم وبين الله وبينهم وبين الخلق في العالم الصّغير والكبير (وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) ذوي رغب أو دعاء رغب أو راغبين أو للرّغبة والرّهبة ، والرّغب محرّكة من رغب اليه اجتهد في دعائه أو تضرّع عليه وهذا نظير قوله تعالى : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) ، وهذه العبارة يجوز ان يراد بها انّ بعضهم

٦٠