تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

وتلبيس أحكامهم وآياتنا الآفاقيّة الاخر بإخفائها عن النّاس وعن أنفسهم وآياتنا التّدوينيّة بإخفائها وتحريفها وتأويلها الى ما يوافق باطلهم (مُعاجِزِينَ) النّاس عن إعلان حقّهم وإظهار آية حقّهم أو معاجزين المدّعين لدلالة الآيات على الحقّ عن ادّعائهم أو معاجزين الله وخلفاءه ، وقرئ معجزين بمعنى مثبّطين عن الايمان وعن النّظر الى دلالة الآية على الحقّ (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ) تنوين عذاب للتّفخيم والتّهويل ، والرّجز مطلق العذاب وحينئذ يكون من للتّبعيض ، أو بيانيّة ويكون تنكيره للتّفخيم ، أو المراد منه عبادة الأوثان ويكون من للتّعليل أو للابتداء ، أو المراد منه الشّرك ويكون التّنكير للتّفخيم والتّنويع ولفظة من كسابقها ، والمراد بالشّرك العظيم هو الشّرك بالولاية ، أو المراد منه القذر ويكون لفظة من كسابقها واليم قرئ بالرّفع صفة لعذاب وبالجرّ صفة لرجز (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) يرى بمعنى يعتقد أو يعلم والمراد بالعلم الّذى أوتوه هو النّور الّذى يقذفه الله في قلب من يشاء ولذلك قال تعالى : أوتوا العلم ولم يقل كسبوا العلم واولى درجات هذا العالم هو النّور الّذى يجعل الإنسان متحيّرا في امره لا يدرى ما يقول ولا ما يفعل فيسكت عن الكلام ويتحيّر في طلب أصله كيف يطلب ، ولذلك قال (ص) حين سئل عن العلم : انّه الإنصات (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَ) قرئ الحقّ منصوبا وعليه فالّذى انزل إليك مفعول اوّل ليرى وهو ضمير الفصل والحقّ مفعوله الثّانى وقرئ الحقّ مرفوعا وعليه يجوز ان يكون الّذى انزل إليك صفة للعلم ومفعول يرى محذوفا وجملة هو الحقّ مستأنفة ، ويجوز ان يكون الموصول مفعولا ليرى ويكون يرى متعدّيا لواحد ، أو المفعول الثّانى محذوفا وهو الحقّ جملة مستأنفة ، ويجوز ان يكون الموصول مفعولا اوّلا وجملة هو الحقّ مفعولا ثانيا والمراد بالّذى انزل اليه (ص) جملة ما انزل اليه أو المعهود ممّا انزل اليه في ولاية علىّ (ع) والمراد بالّذين أوتوا العلم علىّ (ع) أو جملة المؤمنين (وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) عطف على جملة هو الحقّ أو عطف على جملة يرى الّذين أوتوا العلم ويكون حينئذ ضمير الفاعل راجعا الى البعض المستفاد من الّذين أوتوا العلم يعنى يهدى كلّ بعض منهم بوجوده وفعله وقوله وخلقه وحاله كعلىّ (ع) وبعض المؤمنين أو ببعضها كبعض آخر منهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذه الجملة مقابلة لقوله تعالى ويرى الّذين أوتوا العلم وهما معطوفتان وفيهما معنى التّعليل وكان المناسب للمقابلة ان يقول ويقول الّذين كفروا لكنّه للاشعار بثبات أقوال المؤمنين وأفعالهم واستمرارها أتى هناك بالمضارع وللدّلالة على عدم ثبات أقوال الكافرين وأفعالهم فانّها كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض أتى بالماضي هاهنا (هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ) بأمر عجيب كانوا يعنون النّبىّ (ص) ويستهزؤن به (إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) بالبعث بعد الموت (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) في نسبة ذلك الى الله أو في ادّعاء الرّسالة من الله (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) اى جنون لا يقول ما يقول عن قصد وشعور (بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم (فِي الْعَذابِ) الّذى جعلهم كالمجنون في عدم الاعتناء بقولهم (وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ) نسبة البعد الى الضّلال مجاز عقلىّ يعنى انّهم مفترون وانّهم كالمجنون لا الرّسول (أَفَلَمْ يَرَوْا) اى الم ينظروا أو عموا فلم يروا؟ (إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) سماء الأرواح وارض الأشباح فانّ الإنسان من اوّل الخلقة متوجّه الى عالم الآخرة وعالم الأرواح ومدبر عن عالم الأشباح ، وأيضا ارض الطّبع تحت قدميه فهي كشيء خلفه وسماء الطّبع فوق رأسه فهي بما بين يديه أشبه أو لفظة من تبعيضيّة والمعنى الم ينظروا الى ما بين أيديهم؟ حالكونه بعضا من السّماء وبعضا من الأرض ، أو ابتدائيّة والمعنى الم يروا الى ما بين أيديهم من الحوادث الماضية؟

٢٦١

حالكونه ناشئا من حركات السّماء وتأثّرات الأرض أو من الحوادث الآتية؟ على اختلاف تفسير ما بين أيديهم وما خلفهم والإنسان ان نظر الى سماء الطّبع وما فيها من الكواكب وما منها من الآثار الحادثة في الأرض ونظر الى ارض الطّبع وما يحدث فيها بواسطة اشعّة الكواكب ودوران الأفلاك أيقن انّ له مبدء حكيما ومرجعا باقيا ، وكذلك ان نظر الى نفسه وبدنه واتّصالهما وتعانقهما وتعاشقهما ، ونظر الى انحلال البدن واستكمال النّفس بكمالاتها اللّائقة بها أيقن بفناء البدن وبقاء النّفس وانّ لهما محدثا مدبّرا حكيما عليما قادرا مختارا (إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ) الجملة بدل عن قوله الى ما بين أيديهم نحو بدل الاشتمال فيكون العامل معلّقا عنه والمعنى الم يروا الى السّماء والأرض والى انّا ان نشأ نخسف بهم الأرض (أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أو الجملة مستأنفة معترضة (إِنَّ فِي ذلِكَ) النّظر والفكر أو في ما بين أيديهم وما خلفهم من السّماء والأرض أو في قدرتنا على خسف الأرض وإسقاط الكسف من السّماء (لَآيَةً) دالّة على المبدء والمعاد (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) الى باطنه مشتغل بنفسه عن غير نفسه أو منيب الى ربّه بالرّجوع الى ولىّ امره أو الى ولىّ امره بالتّوبة على يده والبيعة معه (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) جملة حاليّة أو معطوفة على مقدّر والمعنى ، لم لا ينظرون الى ما بين أيديهم؟ أو الى ما خلفهم من الحوادث الماضية؟ حتّى أيقنوا بالمبدء العليم الحكيم ، والحال انّا آتينا داود منّا فضلا يدلّ على ذلك أو التّقدير لقد أحدثنا في ما مضى آيات عجيبة دالّة على كمال قدرتنا وخبرتنا ولقد آتينا داود منّا فضلا (يا جِبالُ) حال أو مستأنف أو بدل تفصيلىّ من آتينا والكلّ بتقدير القول اى قلنا يا جبال (أَوِّبِي) رجّعى نداءه بالتّسبيح بصدائك (مَعَهُ وَالطَّيْرَ) قرئ بالرّفع عطفا على الجبال أو على المستتر في اوّبى واكتفى عن التّأكيد بالمنفصل بفاصل ما ، وقرئ بالنّصب عطفا على محلّ جبال أو على الضّمير المجرور على ضعف في العطف على الضّمير المجرور بدون اعادة الجارّ ، أو مفعولا معه ، وقد مضى الآية مع بيانها في سورة الأنبياء (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) مثل الشّمعة يطيعه في اىّ شكل أراد (أَنِ اعْمَلْ) ان تفسيريّة أو مصدريّة (سابِغاتٍ) دروعا واسعات واكتفى بالسّابغات لشهرة صنع الدّروع من الحديد من داود (ع) (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) في حلقها ونسجها ومساميرها بحيث يمكن لبسها وتمنع السّيف والسّهم والسّنان من النّفوذ فيها ، ولا يكون ثقيلا يعجز اللّابس عن حملها ، ولا خفيفا لا يمنع المذكورات من النّفوذ (وَاعْمَلُوا صالِحاً) ضمّ اهله أو عشيرته أو أمّته معه في الخطاب ، وتنكير صالحا امّا للتّحقير والاكتفاء منهم بصالح ما أو للتّفخيم والاشعار بالصّالح الحقيقىّ الّذى هو الولاية (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلِسُلَيْمانَ) اى ألنّا لسليمان (ع) (الرِّيحَ) بمعنى سخّرناها له (غُدُوُّها) اى سيرها في طرف الصّبح (شَهْرٌ وَرَواحُها) اى سيرها في طرف العصر (شَهْرٌ) قيل كانت الرّيح تحمل كرسيّه أو بساطه فتسير به بالغداة مسيرة شهر وبالعشىّ مسيرة شهر (وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) اى الصّفر ، قيل : أسال له النّحاس من معدنه ينبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سمّاه عينا وكان ذلك باليمن (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) اى بين يدي سليمان (ع) (بِإِذْنِ رَبِّهِ) الضّمير للموصول أو لسليمان (وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) في الدّنيا أو في الآخرة (يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) اى قصور رفيعة سمّيت بها لمنعها من الاستيلاء عليها والقدرة على المحاربة فيها (وَتَماثِيلَ) اى صور ، عن الصّادق (ع) : والله ما هي تماثيل الرّجال والنّساء ولكنّها الشّجر وشبهه (وَجِفانٍ) جمع الجفنة بمعنى القصعة (كَالْجَوابِ) جمع الجابية الحوض الضّخم (وَقُدُورٍ

٢٦٢

راسِياتٍ) ثابتات على الاثافىّ لا تنزل عن مكانها لعظمها (اعْمَلُوا) اى قائلين اعملوا (آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) الكثير الشّكر الّذى لا يغفل عن النّعمة والانعام وتعظيم المنعم وصرفها في وجهها ومع ذلك لا يمكن لأحد أداء الشّكر حقّه ، لانّ الشّكر نعمة أعظم من كلّ نعمة يشكر عليها (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) اى الارضة وهي بتحريك الرّاء دويبة معروفة تأكل الخشب وتجعله كالأرض وفعلها يسمّى أرضا بمعنى أكل الخشب وجعله كالأرض لانّها تجعل سطح الخشب من الطّين الّذى تجعله عليه كالأرض واضافتها الى الأرض اضافة الفاعل الى الفعل أو اضافة الفاعل الى ما يجعل المنفعل مثله ، ومفعول دلّهم راجع الى الجنّ أو الى الانس أو الى المجموع (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) اسم آلة من نسأه إذا طرده أو دفعه أو ساقه (فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) روى عن الرّضا (ع) : انّ سليمان بن داود (ع) قال ذات يوم لأصحابه : انّ الله تعالى وهب لي ملكا لا ينبغي لأحد من بعدي سخّر لي الرّيح والانس والجنّ والطّير والوحوش وعلّمنى منطق الطّير وآتاني من كلّ شيء ، ومع جميع ما أوتيت من الملك ما تمّ لي سرور يوم الى اللّيل وقد أحببت ان ادخل قصرى في غد فاصعد أعلاه وانظر الى ممالكي ولا تأذنوا لأحد علىّ لئلّا يرد علىّ ما ينغّص علىّ يومى ، قالوا : نعم ، فلمّا كان من الغد أخذ عصاه بيده وصعد الى أعلى موضع من قصره ووقف متّكئا على عصاه ينظر الى ممالكه مسرورا بما اوتى فرحا بما اعطى إذ نظر الى شابّ حسن الوجه واللّباس قد خرج عليه من بعض زوايا قصره فلمّا بصر به سليمان (ع) قال له : من أدخلك الى هذا القصر؟ وقد أردت ان أخلو فيه اليوم؟ فبإذن من دخلت؟ ـ قال الشّابّ : أدخلني هذا القصر ربّه وباذنه دخلت ، فقال : ربّه احقّ به منّى : فمن أنت؟ ـ قال انا ملك الموت ، قال : وفيما جئت؟ ـ قال : جئت لا قبض ، قال : امض لما أمرت به فهذا يوم سروري ، وابى الله عزوجل ان يكون لي سرور دون لقائه ، فقبض ملك الموت روحه وهو متّكى على عصاه ، فبقي سليمان (ع) متّكئا على عصاه وهو ميّت ما شاء الله والنّاس ينظرون اليه وهم يقدّرون انّه حىّ فافتتنوا فيه واختلفوا ، فمنهم من قال : قد بقي سليمان (ع) متّكئا على عصاه هذه الايّام الكثيرة ولم يتعب ولم ينم ولم يأكل ولم يشرب ، انّه لربّنا الّذى يجب علينا ان نعبده ، وقال قوم : انّ سليمان (ع) ساحر وانّه يرينا انّه واقف متّكئ على عصاه بسحر أعيننا ، وليس كذلك فقال المؤمنون : انّ سليمان (ع) هو عبد الله ونبيّه يدبّر الله امره بما يشاء فلمّا اختلفوا بعث الله عزوجل الارضة فدبّت في عصاه فلمّا أكلت جوفها انكسرت العصا وخرّ سليمان (ع) من قصره على وجهه ، فشكرت الجنّ للارضة صنيعها فلأجل ذلك لا توجد الارضة في مكان الّا وعندها ماء وطين وذلك قول الله عزوجل : (فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) تأكل منسأته يعنى عصاه فلمّا خرّ تبيّنت الجنّ ان لو كانوا (الآية) ثمّ قال الصّادق (ع) ، والله ما نزلت هذه الآية هكذا وانّما نزلت فلمّا خرّ تبيّنت الانس انّ الجنّ لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين ، وعن النّبىّ (ص) : عاش سليمان بن داود سبعمائة سنة واثنتى عشرة سنة (لَقَدْ كانَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا المذكور من حوادث السّماء والأرض الدّالّة على علمه تعالى وقدرته وحكمته كان من نعم الله تعالى وانعامه فهل وقع من نقمه ما يدلّ على ذلك؟ ـ فقال تعالى : (لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) لأولاد سبأ بن يشحب بن يعرب بن قحطان ، عن النّبىّ (ص) انّه سئل عن سبأ أرجل هو أم امرأة؟ ـ فقال : هو رجل من العرب ولّد عشرة تيامن منهم ستّة وتشاءم منهم اربعة فامّا الّذين تيامنوا فالأزد وكندة ومذحج والأشعرون وأنمار وحمير ، قيل : ما أنمار؟ ـ قال : الّذين منهم خثعم وبجيلة ، وامّا الّذين تشاءموا فعاملة وجزام ولخم وغسّان (فِي مَسْكَنِهِمْ) وقرئ في مساكنهم وهو موضع سكناهم ، قيل : كان باليمن ويقال له مأرب بينه وبين صنعاء مسيرة ثلاث

٢٦٣

(آيَةٌ) دالّة على قدرة الحقّ وعنايته بخلقه وثوابه وعقابه في الدّنيا والآخرة (جَنَّتانِ) جماعتان من البساتين (عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ) لبلدهم في مسيرة عشرة ايّام كلّ واحدة كأنّها بستان واحد لتضامّها والتفافها مقولا فيهم (كُلُوا) أو هو مستأنف بتقدير القول كأنّه قيل : ما قيل لهم؟ ـ أو ما قلت يا ربّ لهم؟ ـ فقال : قيل أو قلنا : كلوا (مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ) هذه أيضا مستأنفة في مقام التّعليل اى هذه بلدة طيّبة (وَرَبٌّ غَفُورٌ) وقرئ الكلمات الأربع بالنّصب على الحاليّة أو على المدح (فَأَعْرَضُوا) عن الشّكر بل ملّوا عن النّعمة كما سيأتى (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) قد فسّر العرم بالسّدّ الّذى يبنى في الاودية وهو جمع بلا واحد أو واحده العرمة ، وبالجرز (١) الذّكر الّذى خرّب سدّهم ، وبالمطر الشّديد ، وبواد كان السّدّ فيه ، قيل : انّ بحرا كان في اليمن وكان سليمان (ع) امر جنوده ان يجروا لهم خليجا من البحر العذب الى بلاد الهند ففعلوا ذلك وعقدوا له عقدة عظيمة من الصّخرة والكلس حتّى يفيض على بلادهم وجعلوا للخليج مجاري فكانوا إذا أرادوا ان يرسلوا منه الماء أرسلوه بقدر ما يحتاجون اليه ، وكانت لهم جنّتان عن يمين وشمال عن مسيرة عشرة ايّام فيها يمرّ المارّ لا يقع عليه الشّمس من التفافها ، فلمّا عملوا بالمعاصي وعتوا عن امر ربّهم ونهاهم الصّالحون فلم ينتهوا بعث الله عزوجل على ذلك السّدّ الجرز وهي الفأرة الكبيرة فكان تقلع الصّخرة الّتى لا تستقلّها الرّجال وترمى بها فلمّا رأى ذلك قوم منهم هربوا وتركوا البلاد فما زال الجرز تقلع الحجر حتّى خرّبت ذلك فلم يشعروا حتّى غشيهم السّيل وخرّب بلادهم وقلع أشجارهم (وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) مرّ بشع قيل المراد به امّ غيلان (وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) لمّا كان ثمر السّدر ممّا يؤكل وصفه بالقلّة وسمّى بدل الجنّتين بالجنّتين للتّهكّم (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) فتنبّهوا يا أمّة محمّد (ص) ولا تكفروا نعمة النّبوّة والولاية اللّتين هما كبستانين حافّتين ليمينكم وشمالكم ولا تكفروا نعمة صفحتي النّفس العمّالة والعلّامة ولا تكفروا نعمة الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة النّبويّة ، والايمان الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة ، ولا تكفروا نعمة احكام الشّريعة القالبيّة ، ولا نعمة آثار الطّريقة القلبيّة (وَهَلْ نُجازِي إِلَّا الْكَفُورَ) قرئ نجازى بالنّون والكفور بالنّصب ، ويجازى بالياء مبنيّا للمفعول والكفور بالرّفع (وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) اى بلاد الشّام وقيل مكّة (قُرىً ظاهِرَةً) يعنى متواصلة يظهر بعضها لبعض لقربها واتّصالها (وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) بحيث ينتقل كلّ من الغادي والرّائح من قرية الى قرية اخرى من غير تعب في السّير (سِيرُوا فِيها) حال بتقدير القول أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول (لَيالِيَ وَأَيَّاماً) الى الشّام أو الى مكّة (آمِنِينَ) من الجوع والعطش ومن السّرّاق وقطّاع الطّريق (فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) بلسان الحال حيث عملوا بالمعاصي وكفروا النّعمة أو بلسان القال والحال جميعا بان أظهروا الملال من النّعمة والعافية وسألوا بعد المسافة في الاسفار ليتطاولوا فيها بحمل الزّاد وما يحتاج اليه في الاسفار على الفقراء ، وقرئ ربّنا بالنّصب وبعّد بصيغة الأمر من التّفعيل وبعد بصيغة الماضي من الثّلاثى المجرّد ، وربّنا بالرّفع وباعد بصيغة الماضي من المفاعلة ، والقراءة المشهورة ربّنا بالنّصب وباعد من المفاعلة بصيغة الأمر ، وإذا كان بصيغة الخبر كان مقصودهم عدم الاعتداد بالنّعمة وطلبا للمزيد مع الكفران (وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بكفران النّعمة (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) جمع الحديث على الشّذوذ ، أو جمع الاحداث جمع الحدث ،

__________________

(١) ـ الفأرة الكبيرة ، والأرض الجرز التي لا تنبت.

٢٦٤

أو جمع الاحدوثة بمعنى الأمر الغريب يعنى جعلناهم بحسب حالهم ومآلهم من غرائب الدّهر بحيث يتحدّث النّاس بهم وبحالهم (وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) فرّقناهم كلّ تفريق حتّى لحق كلّ ببلد ، قيل : لحقّ غسّان منهم بالشّام ، وأنمار بيثرب ، وجزام بتهامة والأزد بعمّان (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالّة على قدرتنا على الخسف وإسقاط الكسف وعلى علمنا وحكمتنا وتدبيرنا لأمور عبادنا ، وجزاء كلّ منهم بحسب حاله ، وعلى انّا نجزى الشّكور بالمزيد والكفور بسلب النّعمة (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن المعاصي وعلى الطّاعات وعلى المصائب فانّ غير الصبّار لكونه أسيرا للشّهوات والغضبات وموردا للبلايا لا يكون له فراغ حتّى يتأمّل في ذلك ويستدلّ بها على شيء آخر (شَكُورٍ) ناظر في النّعمة الى الانعام والى المنعم وامّا الغافل عن المنعم والانعام فلا يدرك من النّعمة وزوالها وتغيّرها تصرّف المنعم فيها حتّى يستدلّ من النّعمة وتبدّلاتها على صفات المنعم وعلمه وحكمته وقدرته.

اعلم ، انّ الآيات القرآنيّة كالآيات العظمى الآفاقيّة من الأنبياء والأولياء (ع) لها ظواهر وبواطن الى سبعة ابطن الى سبعين الى سبعين الف بطن الى ما شاء الله ، ولها تنزيل وتأويل ولتأويلها تأويل الى سبعة الى ما شاء الله ، وتنزيل هذه الآية قد ذكر ، وقد ورد عن الصّادق (ع) في تنزيلها انّه قال : هؤلاء قوم كانت لهم قرى متّصلة ينظر بعضهم الى بعض وأنهار جارية واموال ظاهرة فكفروا نعم الله عزوجل وغيّروا ما بأنفسهم من عافية الله ، فغيّر الله ما بهم من نعمة و (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) ، فأرسل الله عليهم سيل العرم ففرّق قراهم وخرّب ديارهم وذهب بأموالهم وأبدلهم مكان جنّتيهم جنّتين ذواتي أكل خمط وأثل وشيء من سدر قليل وتأويلها بحسب الصّغير والكبير كثير ، فانّ النّفس الحيوانيّة بعد تجلّى العقل عليها بالنّفس الانسانيّة يجعل الله بينها وبين القرى المباركة الّتى هي العقول والأرواح قرى ظاهرة من مراتب النّفس الانسانيّة ومراتب القلب فتسأل بلسان حالها بالتّولّى عن تلك القرى والتّوغّل في المشتهيات الحيوانيّة بعد السّفر بينها وبين القرى ، أو تستبعد بتوغّلها في تلك المشتهيات السّفر الى تلك القرى فتثبّط الى الأرض الحيوانيّة وتتوحّش من السّفر إليها ، وأيضا افراد الإنسان بعد البلوغ واستكمال النّفس الحيوانيّة بالنّفس الانسانيّة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم مشايخ الائمّة (ع) قرى ظاهرة هي شيعتهم ورواة أحاديثهم ونقلة أخبارهم فيتولّون عنهم ويسألون بلسان حالهم بعد الاسفار والمشقّة والاخطار ، أو يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم الائمّة (ع) قرى ظاهرة هم مشايخ الائمّة (ع) الّذين نصبهم الائمّة (ع) لهداية الخلق وأخذ العهد منهم بالبيعة على أيديهم والتّوبة عندهم وعلى أيديهم أو افراد الإنسان بعد الإسلام والبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم مشايخ الائمّة (ع) أو هم الائمّة (ع) قرى ظاهرة ، أو افراد الإنسان بعد الايمان والبيعة الخاصّة الولويّة وقوبل الدّعوة الباطنة يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم الائمّة (ع) مشايخ وناقلين لاخبارهم ، أو يجعل الله بينهم وبين القرى المباركة الّذين هم الائمّة بنورانيّتهم وظهور ملكوتهم على نفوس بايعيهم قرى ظاهرة من مراتب ذكرهم وفكرهم ، أو من مراتب نفوسهم الى مراتب قلوبهم الّتى فيها يظهر ائمّتهم بنورانيّتهم ، أو افراد الإنسان بعد ما يظهر عليهم ائمّتهم بنورانيّتهم يجعل الله لهم قرى ظاهرة هي مراتب نورانيّة ائمّتهم بينهم وبين مقام ولاية ائمّتهم فيمزّق كلّ هؤلاء ، كما يشاهد من النّاس غير المؤمنين بالبيعة الخاصّة الثّابتين على ايمانهم المسافرين على القرى الظّاهرة من تفرّقهم كلّ التّفرّق بحسب المقصد والمذهب والارادة والمشتهى بحيث يلعن بعضهم بعضا ويبغض ويكفّر بعضهم بعضا قلّما يتّفق منهم اثنان ، وان اتّفق اتّفاقهم بالنّسبة الى بعض المؤمنين كان اتّفاقهم كاتّفاق الكلاب الواقعة على الجيف من حيث انّها يبغض كلّ للآخر ويعقر كلّ للآخر ، وإذا رأت إنسانا من بعيد مع انّه متأذّ من جيفتها تتّفق في الحمل عليه ونهشه وقتله ، أعاذنا الله من غضبه وكفران نعمه.

٢٦٥

وقد ورد عن الباقر (ع) انّه قال : بل فينا ضرب الله الأمثال في القرآن فنحن القرى الّتى بارك الله فيها وذلك قول الله عزوجل فيمن اقرّ بفضلنا حيث أمرهم ان يأتونا فقال : وجعلنا بينهم وبين القرى الّتى باركنا فيها ، اى جعلنا بينهم وبين شيعتهم القرى الّتى باركنا فيها قرى ظاهرة ، والقرى الظّاهرة الرّسل والنّقلة عنّا الى شيعتنا وفقهاء شيعتنا وقوله سبحانه : وقدّرنا فيها السّير فالسّير مثل للعلم سير به فيها ليالي وايّاما مثل ما يسير من العلم في اللّيالى والايّام عنّا إليهم في الحلال والحرام والفرائض والأحكام آمنين فيها إذا أخذوا عن معدنها الّذى أمروا ان يأخذوا منه آمنين من الشّكّ والضّلال والنّقلة من الحرام الى الحلال ، والاخبار في هذا المعنى واردة منهم كثيرا (وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) الّذى أظهره عند قوله لاغوينّهم أجمعين وعند قوله لاضلّنّهم ولامنّينّهم (الآية).

اعلم ، انّ تنزيل هذه الآية في أهل سبا لكن تأويلها في منافقي أمّة محمّد (ص) فانّه ورد عن ابى جعفر (ع) انّه قال : لمّا أخذ رسول الله (ص) بيد علىّ (ع) يوم الغدير صرخ إبليس في جنوده صرخة لم يبق منهم أحد في برّ ولا بحر الّا أتاه فقالوا : يا سيّدنا ومولينا ، ماذا دهاك؟ فما سمعنا لك صرخة أوحش من صرختك هذه؟ ـ فقال لهم : فعل هذا النّبىّ فعلا ان تمّ لم يعص الله أبدا ، فقالوا : يا سيّدنا ان كنت لآدم ، فلمّا قال المنافقون ينطق عن الهوى ، وقال أحدهما لصاحبه : اما ترى عينيه تدوران في رأسه كأنّه مجنون ، يعنون رسول الله (ص) صرخ إبليس صرخة بطرب فجمع أولياءه فقال : اما علمتم انّى كنت لآدم من قبل؟ ـ قالوا ، نعم ، قال : نعم نقض العهد ولم يكفر بالرّبّ وهؤلاء نقضوا العهد وكفروا بالرّسول (ص) ، فلمّا قبض رسول الله (ص) واقام النّاس غير علىّ (ع) لبس تاج الملك ونصب منبرا وقعد في الزّينة وجمع خيله ورجله ثمّ قال لهم : اطربوا لا يطاع الله حتّى يقام امام ، وتلا ابو جعفر (ع) : ولقد صدّق عليهم إبليس ظنّه (الى آخر الحديث) وبهذا المضمون مع اختلاف في اللّفظ اخبار كثيرة (فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) دفع لما يتوهّم من استقلال إبليس في تصرّفه كما توهّمته الابليسيّة والثّنويّة يعنى انّ سلطانه عليهم ليس الّا بإذننا وتسليطنا على من شئنا تسليطه عليه وليس هذا التّسليط (إِلَّا لِنَعْلَمَ) اى ليظهر علمنا أو ليظهر متعلّق علمنا (مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) أو لنعلم في مقام المعلوم من يؤمن بالآخرة متميّزا ممّن هو منها في شكّ (وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) دفع لما توهّم من قوله لنعلم من حصول العلم له بعد ما لم يكن يعنى لا حاجة لربّك الى هذا الامتحان فانّه على كلّ شيء حفيظ فيعلم كلّ شيء بجميع صفاته وآثاره فتسليط الشّيطان ليس الّا لظهور معلومه عليكم (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) شركاء لله (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون اذن الله أو حالكونهم عبادة من غير الله يعنى قل ادعوهم في حوائجكم (لا يَمْلِكُونَ) حال أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر (مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) فلا يملكون ولا يقدرون على جلب نفع لكم ولا على دفع ضرّ (وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) في شيء منهما ولا في شيء ممّا فيهما يعنى لا يملكون شيئا فيهما لا بالاستقلال ولا بالشّراكة فهو بمنزلة الاضراب والتّنزّل من الصّفة العليا الى الدّنيا (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) اضراب من العليا الى الدّنيا أيضا كأنّه قال بل لا مدخليّة لهم فيهما بنحو المظاهرة لله (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ) اضراب آخر كأنّه قال : بل ليس لهم شافعيّة أو مشفوعيّة عنده لأنّه لا تنفع الشّفاعة (عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) في الشّافعيّة أو في المشفوعيّة ولم يأذن لهم في الشّافعيّة أو في المشفوعيّة ، وقد سبق في مطاوى ما أسلفنا انّ الامامات وبيان الأحكام للأنام والقضاوات والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر واجراء التّوبة وأخذ الصّدقات وأخذ البيعة من العباد لله والرّياسات الدّينيّة كلّها نحو شفاعة عند الله وليس شيء

٢٦٦

منها جائزا ومباحا الّا لمن اذن الله له بلا واسطة كالأنبياء (ع) أو بواسطة كالاوصياء (ع) فالويل! ثمّ الويل! لمن نصب نفسه علما للنّاس وتصدّى المحاكمات أو الفتاوى أو الامامة أو أخذ الصّدقات أو أخذ البيعة من العباد من غير اذن واجازة من الله فانّه مفتر على الله ومن أظلم ممّن افترى على الله كذبا. نسب الى القمىّ انّه قال : لا يشفع أحد من أنبياء الله وأولياء الله (ع) ورسله (ع) يوم القيامة حتّى يأذن الله له الّا رسول الله (ص) فانّ الله عزوجل قد اذن له في الشّفاعة من قبل يوم القيامة والشّفاعة له وللائمّة (ع) ثمّ بعد ذلك للأنبياء ، وعن الباقر (ع) في حديث : ما من أحد من الاوّلين والآخرين الّا وهو محتاج الى شفاعة رسول الله (ص) يوم القيامة ثمّ قال : انّ رسول الله (ص) الشّفاعة في أمّته ولنا الشّفاعة في شيعتنا ، ولشيعتنا الشّفاعة في أهاليهم وانّ المؤمن ليشفع في مثل ربيعة ومضر ، وانّ المؤمن ليشفع حتّى خادمه يقول : يا ربّ حقّ خدمتي كان يقيني الحرّ والبرد (حَتَّى إِذا فُزِّعَ) غاية لمحذوف تقديره فالخلق في الحيرة والوحشة حتّى إذا فزّع (عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا) اى بعضهم لبعض أو قالوا للملائكة أو للشّافعين (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) وفي خبر عن الباقر (ع) وذلك انّ أهل السّماوات لم يسمعوا وحيا فيما بين ان بعث عيسى بن مريم (ع) الى ان بعث محمّد (ص) فلمّا بعث الله جبرئيل (ع) الى محمّد (ص) سمع أهل السّماوات صوت وحي القرآن كوقع الحديد على الصّفا فصعق أهل السّماوات فلمّا فرغ من الوحي انحدر جبرئيل (ع) كلّما مرّ باهل سماء فزع عن قلوبهم يقول كشف عن قلوبهم فقال بعضهم لبعض : ماذا قال ربّكم؟ ـ قالوا الحقّ وهو العلىّ الكبير ، وعلى هذا فالتّقدير استمع جبرئيل الوحي وصعق الملائكة من سماعه فانحدر جبرئيل حتّى إذا مرّ باهل السّماوات وفزّع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربّكم؟ (قُلْ) يا محمّد إلزاما لهم على الإقرار بالمبدء الخالق الرّازق (مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) بتهيّة الأسباب السّماويّة والارضيّة لارزاقكم الانسانيّة والحيوانيّة والنّباتيّة أو من السّماوات بالرّزق الانسانىّ ومن الأرض بالرّزق النّباتىّ والحيوانىّ (قُلِ اللهُ) إذ لا جواب لهم سواه (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بعد ما أبطل الشّركاء وأبطل جواز دعوتهم أتى بضلالة اتباع الشّركاء بنحو يكون أقرب الى الإنصاف وابعد من المشاغبة ، فانّ المعنى المستفاد من هذه العبارة بعد ما سبق من إظهار عجز الشّركاء معنى قولنا نحن على هدى وأنتم في ضلال مبين لكنّه أتى بكلمة أو التّفصيليّة المفيدة للتّقسيم في جانب المسند اليه والمسند جميعا لئلّا يشاغب الخصم ويشتدّ مخاصمته وإنكاره فكأنّه قال : (إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) بنحو اللّفّ والنّشر ، واختلاف حرفي الجرّ في جانب المسند للاشعار بانّ المهتدى مستول على صفاته ومحيط بها ، والضّالّ مغلوب لصفاته ومحاط لها (قُلْ) بطريق الإنصاف في المجادلة (لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا) بنسبة الاجرام الى أنفسكم (وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) بنسبة العمل دون الاجرام إليهم (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا) في القيامة حتّى يكون وعدا ووعيدا لكم ولهم (ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِ) بحكومة حقّة (وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ) يعنى قل أظهروا شركاءكم لله حتّى يظهر عليكم انّه ليس لها من وصف الشّراكة لله شيء (كَلَّا) كلام من الله لردعهم عن الإشراك أو جزء مقول قوله (بَلْ هُوَ اللهُ) المعبود بالحقّ لا غيره (الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يجوز ان يكون في مقابله ثان (الْحَكِيمُ) الّذى يعجز عن ادراك دقائق صنعه ولطائف علمه عقول العقلاء فكيف يكون مصنوعه أو مصنوعكم شريكا له مع اتّصافه بالجهل وعدم الشّعور فضلا عن الحكمة (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) كافّة حال مقدّم عن النّاس بمعنى كلّهم نحو جاء النّاس كافّة كأنّ معناه حالكون النّاس كافّة بعمومه كلّ فرد من الخروج عن

٢٦٧

تحته ، أو صفة لمفعول مطلق محذوف اى رسالة كافّة للنّاس بمعنى مانعة لهم عن اتّباع اهويتهم ، أو حال عن مفعول أرسلنا وحينئذ يكون المعنى ما أرسلناك الّا مانعا للنّاس عن اتّباع اهويتهم والتّاء تكون حينئذ للمبالغة (بَشِيراً) للمؤمنين ولمن استعدّ للايمان من حيث ايمانهم واستعدادهم (وَنَذِيراً) للكافرين وللمؤمنين والمستعدّين من حيث كفرهم وغفلتهم (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) رسالتك أو عموم رسالتك أو ليس لهم جهة علم حتّى يعلموا رسالتك فلذلك ينكرون رسالتك ، عن الصّادق (ع) في حديث : وأرسله كافّة الى الأبيض والأسود والجنّ والانس ، وعنه (ع) انّه قال لرجل : أخبرني عن الرّسول (ص) كان عامّا للنّاس؟ أليس قد قال الله عزوجل في محكم كتابه وما أرسلناك الّا كافّة للنّاس ، لأهل الشّرق والغرب وأهل السّماء والأرض من الجنّ والانس هل بلّغ رسالته إليهم كلّهم؟ ـ قال : لا أدري ، قال : انّ رسول الله (ص) لم يخرج من المدينة فكيف أبلغ أهل الشّرق والغرب؟! ثمّ قال : انّ الله تعالى امر جبرئيل (ع) فاختلع الأرض بريشة من جناحه ونصبها لرسول الله (ص) فكانت بين يديه مثل راحته في كفّه ينظر الى أهل الشّرق والغرب ويخاطب كلّ قوم بألسنتهم ويدعوهم الى الله عزوجل والى نبوّته بنفسه فما بقيت قرية ولا ـ مدينة الّا ودعاهم النّبىّ (ص) بنفسه. وفي كثير من الاخبار مضمون انّه لا يبقى ارض الّا نودي فيها بشهادة ان لا اله الّا الله ، وانّ محمّدا رسول الله (ص) لكن في الرّجعة أو في ظهور القائم (ع) (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) اى وعد الجمع بيننا ويوم فتح الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب الّتى تدّعون انّها نازلة من السّماء أو من الكتب الدّالّة على رسالتك (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) لو شرطيّة محذوفة الجواب أو للتّمنّى ولا جواب لها والجملة حاليّة وتسلية له (ص) ولامّته وتهديد لهم وقد مضى بيان للآية في اوّل الانعام عند قوله : (وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ)(يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ) يتحاورون ويتجاوبون (يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) يعنى الاتباع (لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) مخاطبين لهم (لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ) فانّكم صددتمونا عن الايمان (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) مجاوبين (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ) الهدى بتوسّط الرّسل ، أو المراد بالهدى الرّسل أنفسهم (بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) أنكروا ان كانوا صدّوهم واسندوا عدم هديهم الى اجرامهم فانّه لولا اجرامهم لما اثّر فيهم صدّ الصّادّين ، بمعنى انّ استعدادهم الفطرىّ لقبول تقليد من لا يصحّ تقليده واجرامهم الكسبىّ منعهم عن التّوجّه الى الفطرة الانسانيّة وقبول قول من يعين تلك الفطرة ويقوّيها وصرفهم الى قبول قول من لا يصحّ قبول قوله عند من له ادنى شعور والتفات الى الآخرة (وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بعد ما لم يقدروا على جوابهم والمحاجّة معهم وعلى نسبة تقصيرهم الى الرّؤساء نسبوا تقصيرهم الى مكر اللّيل والنّهار كما هو عادة النّساء في نسبة تقصيرهم الى الغير ، أو مقصودهم من هذا الكلام الرّدّ على الرّؤساء في نسبة الضّلال الى اجرامهم ، والمعنى ليس ضلالنا باجرامنا بل بتكرار مكركم في اللّيل والنّهار وهذا المعنى أوفق بقوله (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا) اى الرّؤساء أو الاتباع أو الجميع (النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) حتّى لا يطّلع كلّ على الآخر ، وروى انّهم يسرّون النّدامة في النّار إذا رأوا ولىّ الله ، فقيل : يا بن رسول الله (ص) وما يغنيهم اسرارهم النّدامة وهم في العذاب؟ ـ قال : يكرهون شماتة الأعداء (وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ) الإتيان بالماضي في تلك الأفعال لتحقّق وقوعها ، أو للاشارة الى انّها

٢٦٨

بالنّسبة الى محمّد (ص) قد وقعت (فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وإظهارا لذمّ آخر لهم (هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اى نفس ما كانوا أو جزاء ما كانوا يعملون والجملة حاليّة بتقدير القول أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم يجعل الأغلال في أعناقهم؟ ـ فقال : ما يجزون الّا ما كانوا يعملون لكنّه ادّاه بصورة الاستفهام لتأكيد النّفى (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها) اى متنعّموها (إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ) لانّ كلّ الفساد يفشو من المتنعّمين وامّا الاتّباع فليس لهم شأن الّا النّظر الى الرّؤساء ومن كان مثريا في الدّنيا لعدم العقل الانسانىّ وعدم استعمال العقل الجزئىّ الّذى يكون لهم (وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً) فان كان ما تدّعونه حقّا من الرّسالة فنحن اولى بذلك لكثرة أموالنا وكثرة أولادنا فانّ تلك الكثرة تدلّ على تفضّل الله بالنّسبة إلينا وقربنا منه وتعيّننا في رياستنا (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لقربنا من الله وفضله علينا فلمّا لم يرسلنا الله علم انّه لا رسالة وانّكم كاذبون ، ولو فرض صدق ما تقولون من العذاب في الآخرة فلسنا بمعذّبين لقربنا من الله ، أو المعنى ما نحن بمعذّبين وأنتم تقولون لو عصينا عذّبنا الله فنحن بسبب عدم العذاب اولى بالرّسالة ، أو المعنى نحن أكثر أموالا وأولادا ، وهذا يدلّ على فضل الله بالنّسبة إلينا فلم نكن نحن بمعذّبين لفضل الله بالنّسبة إلينا ، فلا حاجة لنا إليكم والى رسالتكم (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) بملاحظة حال نظام الكلّ وليس لكرامة الغنىّ ولا لهوان الفقير (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك أو لا يعلمون سرّ ذلك (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) حتّى تكونوا بذلك مستحقّين للرّسالة أو غير معذّبين (إِلَّا مَنْ آمَنَ) اى الّا اموال من آمن وأولاده (وَعَمِلَ صالِحاً) بان يتحمّل المال لله وينفقه لله ويربّى الأولاد لله (فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ).

اعلم ، انّ المؤمن لمّا كان متوجّها الى الله مؤتمرا بأمر الله منتهيا بنهي الله كان توجّهه الى الأموال والأولاد من حيث ايمانه تحمّلا لمشاقّها من حيث امر الله وعدم إهمالها مع الانزجار عنها من حيث نهى الله وصرف الوجه عن جهة التّوحيد بأمر الله ونهيه توجّه الى الله مع مراعاة حقوق كثرات وجوده وكثرات خارج مملكته ، والتّوجّه الى الله بتلك الكيفيّة تكميل لصفحتى النّفس المجرّدة والمتعلّقة وتتميم لجهة الوحدة والكثرة فيكون مستحقّا من الجهتين وموجبا للأجر من الحيثيّتين فيكون اجره مضاعفا بالنّسبة الى من لم يكن له ذلك بخلاف الكافر فانّ توجّهه الى الأموال والأولاد اغفال عن الفطرة وإهلاك للّطيفة الانسانيّة ولذلك كانت عذابا له في الحيوة الدّنيا وسببا لزهوق أرواحهم وهم كافرون فكانت نقمة عليه لا نعمة ، ولذلك ورد عن الصّادق (ع) انّه قال لمن ذكر الأغنياء ووقع فيهم : اسكت ، فانّ الغنىّ إذا كان وصولا برحمه وبارّا بإخوانه أضعف الله له الأجر ضعفين لانّ الله يقول : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ) (فقرأ الى آخر الآية) وورد انّ أبا بصير قال : ذكرنا عند ابى جعفر (ع) من الأغنياء من الشّيعة فكأنّه كره ما سمع منّا فيهم ، فقال : يا أبا محمّد إذا كان المؤمن غنيّا رحيما وصولا له معروف الى أصحابه أعطاه أجر ما ينفق في البرّ اجره مرّتين ضعفين لانّ الله عزوجل يقول وما أموالكم (فقرأ الآية الى آخرها) (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا) مقابل لسابقه باعتبار المعنى كأنّه قال الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات من صاحبي الأموال والأولاد حالهم كذا ، والّذين يسعون من صاحبي الأموال والأولاد أو من النّاس على الإطلاق في آياتنا الآفاقيّة التّكوينيّة والتّدوينيّة وآياتنا الانفسيّة خصوصا الآيات العظمى من الأنبياء (ع) وخلفائهم (ع) (مُعاجِزِينَ) الله أو معاجزين الأنبياء والأولياء (ع) أو معاجزين المؤمنين المقرّين

٢٦٩

بالآيات (أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) هذه الآية بالنّسبة الى شخص واحد باعتبار وقتين من أوقاته ويدلّ عليه تقييد يقدر بقوله له وسابقتها بالنّسبة الى اشخاص متعدّدة فلا تكرار ، أو هذه خطاب للمؤمنين وتلك للكافرين ويدلّ عليه التّقييد بقوله : من عباده فلا تكرار أيضا ، أو هذه تكرير للأولى وتأكيد له باعتبار انّ هذا المطلب مطلب عظيم هم عنه غافلون (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) تجرئة على الإنفاق وتحذير عن التّقتير ، عن النّبىّ (ص) : من صدّق بالخلف جاد بالعطيّة ، وعن علىّ (ع) : من بسط يده بالمعروف إذا وجده يخلف الله له ما أنفق في دنياه ويضاعف له في آخرته ، وقيل للصّادق (ع) : انّى أنفق ولا ارى خلفا ، قال : افترى الله عزوجل اخلف وعده؟ ـ قيل : لا ، قال : فبم ذلك؟ ـ قيل : لا أدري؟ قال (ع) : لو انّ أحدكم اكتسب المال من حلّه لم ينفق درهما الّا اخلف عليه (وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) ممّن تنظرون اليه من وسائط الرّزق وممّا تعدّونه وسائط الرّزق من الأسباب السّماويّة والارضيّة ومن القوى العمّالة في إيصال الرّزق الحقيقىّ الّذى هو الجوهر المتشبّه بجوهر البدن الى المرتزق الحقيقىّ الّذى هو خلل الأعضاء ، هذا في الرّزق النّباتىّ ، وهكذا الحال في الرّزق الحيوانىّ والانسانىّ ، فانّ كلّ من كان غيره من الرّازقين ليس الّا آلة إيصال الرّزق ، والرّازق حقيقة هو الله تعالى شأنه فانّه اعطى المرتزق أسباب الارتزاق وآلاتها ، واعطى الرّزق الصّورىّ صورة وكيفيّة بها يرتزق المرتزق ، وهو الّذى يعطى الرّزق بغير عوض ولا غرض ولا منّة بخلاف غيره من وسائط الرّزق كما قال المولوىّ :

لقمه بخشى آيد از هر كس بكس

حلق بخشى كار يزدانست وبس

حلق بخشد جسم را وروح را

حلق بخشد بهر هر عضوى جدا

وقال أيضا

روزى بيرنج جوى وبى حسيب

كز بهشتت آورد جبريل سيب

بلكه رزقي از خداوند بهشت

بى صداع باغبان بى رنج كشت

زانكه نفع نان در آن نان داد اوست

بدهدت آن نفع بى توسيط پوست

(وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ) عطف على محذوف متعلّق بيخلفه أو بخير الرّازقين اى في الدّنيا ويوم نحشرهم ، أو متعلّق بمحذوف عطف على قل اى اذكر يوم نحشرهم (جَمِيعاً) الاتباع والمتبوعين في الضّلالة (ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ) اختار الملائكة من بين المعبودين بالذّكر لانّهم أشرف المعبودين وابصرهم بحال العابدين وأعلمهم بنيّاتهم ، وما أجابوا كان ذلك جواب السّائرين سواء كانوا شاعرين أو غير شاعرين (أَهؤُلاءِ) المدّعون لعبادتكم (إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ قالُوا سُبْحانَكَ) عن شراكة أمثالنا (أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ) نزّهوا الله تعالى اوّلا عن شراكة أمثالهم وأنكروا الرّضا بعبادتهم ثانيا واضربوا عن ذلك وعن عبادتهم لهم المستفادة من تنزيه الله ومن إظهار عدم الرّضا بفعلهم واثبتوا عبادتهم للجنّ (أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) لا بنا وانّما اشتبه عليهم الجنّة والملائكة ووهموا في ذلك وعبدوا الجنّة بزعم انّهم الملائكة.

بيان للاتّصال بالملكوتين العليا والسّفلى

اعلم ، انّه قد تكرّر فيما سبق انّ عالم الطّبيّعة واقع بين الملكوتين العليا والسّفلى ، وانّ عالم الجنّ مثل عالم الملائكة محيط بالدّنيا ومتصرّف فيها ، وانّه لا فرق في ذلك بين الجنّة والملائكة ، ولذلك اشتبه على الملائكة حال إبليس فظنّوا انّه منهم ، وانّ من راض نفسه بقلّة الطّعام والشّراب والنّوم والكلام والعزلة عن الخلق ، فان كان بأمر آمر الهىّ يتّصل بعالم الملائكة ويتشبّه بهم في الاحاطة والاطّلاع على ما لم يطّلع عليه البشر والتّصرّف في العناصر

٢٧٠

ومواليدها باىّ تصرّف شاء وتقليب الأعيان عن وجوهها على انّه يخبره الملائكة ويعينونه فيما لم يقدروا على العلم به والتّصرّف فيه وان لم يكن رياضته بأمر آمر الهىّ أو كان لكنّه خرج عن تحت امره واستبدّ في رياضته ومشاهدته برأيه سواء كان تحت امر آمر شيطانىّ أو لم يكن ، وسواء كان رياضته بطريق الشّرائع وعلى قانون النّواميس الالهيّة أو لم تكن اتّصل لا محالة بعالم الجنّة والشّياطين ، وتشبّه بهم في الاحاطة والتّصرّف ، وقدر على ما لم يقدر غيره ، وعلم ما لم يعلمه غيره ، وعبد المتصرّف في العالم المشهود له بظنّ انّه الله أو انّه ملك عظيم من ملائكة الله وسمّى عبادته عبادة الملك ولذلك أنكر الملائكة عبادتهم لهم واثبتوا عبادتهم للجنّ ، واعلم أيضا ، انّ كلّ عابد غير الله لا يعبده الّا بإطاعة الشّيطان المعنوىّ سواء كان المعبود الّذى هو غير الله ملائكة الله أو غيرهم من الجماد والنّبات والحيوان والإنسان والجانّ والشّيطان ، فالعابد غير الله يعبد اوّلا الشّيطان وبعبادة الشّيطان يعبد غير الله فهو في عبادة غير الله عابد للشّيطان حقيقة لا لمعبوده لانّه لولا الشّيطان لم يعبده (فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ) الفاء للتّرتيب في الاخبار أو جزاء شرط مقدّر يعنى إذا كان اليوم أنكر المعبودون عبادة العابدين وتحيّر كلّ في امره واضطراب غاية الاضطراب فاليوم لا يملك (بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) لانّ الأمر كلّه في ذلك اليوم بيد الله بخلاف يوم الدّنيا فانّه قد يتوهّم انّ بعضا يقدر على نفع بعض أو ضرّه والخطاب للملائكة وعابديهم أو لمطلق المعبودين والعابدين ، أو لمطلق الرّؤساء والمرءوسين ، أو للجنّة وعابديهم (وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) من المعبودين والمطاعين بان لم يكن معبوديّتهم ومطاعيّتهم بإذن من الله والعابدين والمطيعين بان لم يكن عبادتهم وطاعتهم واشراكهم بإذن من الله (ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ) عطف باعتبار المعنى ولذلك التفت من الخطاب الى الغيبة يعنى كانوا إذا قيل لهم : اتّقوا النّار الّتى يوعدكم الله قالوا : ان هذا الّا كذب ، وإذا تتلى أو صرف للخطاب عنهم الى محمّد (ص) وبيان لحال أمّته وعطف أيضا باعتبار المعنى ، والمعنى كانوا إذا تتلى عليهم آياتنا كذّبوها وإذا تتلى على قومك (آياتُنا بَيِّناتٍ) في الوعد والوعيد أو في الأحكام المعاديّة أو المعاشيّة (قالُوا ما هذا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ) بهذا الّذى يظهره علينا (أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ) ويجعلكم تابعين لنفسه في مبتدعاته ، نسبوا عبادتهم للمعبودين الى عبادة آبائهم استظهارا بحقّيّتها تسليما لحقّيّة فعل آبائهم (وَقالُوا ما هذا) الّذى يقول (إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرىً) على الله (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) وضع الظّاهر موضع المضمر ذمّا لهم وبيانا لعلّة الحكم (لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا) الّذى يقوله فيما ابتدعه (إِلَّا سِحْرٌ) اى علوم دقيقة ، أو ان هذا الّذى يظهره علينا من المعجزات الّا سحر حاصل من تمزيج القوى الطّبيعيّة مع القوى الرّوحانيّة ، أو ان هذا الّذى يقول في حقّ ابن عمّه الّا صرف لما قاله الله تعالى عن وجهه (مُبِينٌ وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها) يقرءونها حتّى ينسبوا صحّة مذهبهم وانكار مذهبك الى تلك الكتب (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ) حتّى ينسبوا ذلك الى قول النّذير فلا يقولون الّا عن عصبيّة بطريقهم ، وعن تقليد آبائهم من غير تحقيق لمذهبهم ولما قالوا في مذهبك ، ومن غير تحقيق لتقليدهم (وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ) يعنى انّ هؤلاء كذّبوك وليس تكذيبهم امرا غريبا فانّ الّذين قبلهم كذّبوا رسلهم لكن بينهم وبين من قبلهم فرق عظيم ، فانّ من قبلهم أوتوا من الأموال والقوّة والأولاد وطول الاعمار ما به افتتنوا واغترّوا وأنكروا ، وهؤلاء ما بلغوا معشار ما آتيناهم من ذلك ، أو المعنى وما بلغ السّابقون معشار ما آتينا هؤلاء من المعجزات والدّلائل على صدق الرّسل (ع) ، أو المعنى وما بلغ الرّسل (ع) السّابقون معشار ما آتينا محمّدا (ص) وآل محمّد (ع) من الفضل ، عن هشام بن عمّار رفعه قال ، قال

٢٧١

المعصوم : كذّب الّذين من قبلهم رسلهم (ع) وما بلغ ما آتينا رسلهم معشار ما آتينا محمّدا (ص) وآل محمّد (ع) فيكون الآية تسلية للرّسول (ص) بخلاف الوجهين السّابقين فانّهما يفيدان التّسلية ضمنا ، ويكون لتفضيح قومه يعنى انّ الرّسل الماضين قد كذّبوا والحال انّك اولى بالتّكذيب منهم لانّ ما آتيناك اولى بالحسد ممّا آتيناهم ، وليس التّكذيب لامثالك الّا من جهة الحسد عليهم ، أو المعنى ما بلغ الرّسل (ع) معشار ما آتينا محمّدا (ص) من دلائل الصّدق فيكون مثل الوجهين السّابقين في الدّلالة على تفضيح القوم (فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) يعنى انّك أو انّكم يا أمّة محمّد (ص) ان لم تشاهدوا نكيري وإنكاري عليهم فقد سمعتم أخبارهم وشاهدتم آثار مؤاخذتى لهم فليحذر قومك عن تكذيبك ومؤاخذتى (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ) بكلمة واحدة أو خصلة واحدة (أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ) عن اعوجاجكم أو عن قعودكم عنه (مَثْنى وَفُرادى) وهذه بدل من واحدة وقد ورد في اخبار كثيرة انّ المراد بالواحدة ولاية علىّ (ع) وحينئذ يكون ان تقوموا بتقدير اللّام أو بدلا منها بدل الاشتمال أو بدل الكلّ من الكلّ فانّ الولاية بوجه هي القيام لله وبوجه مستلزمة للقيام لله ، روى عن يعقوب بن يزيد انّه قال : سألت أبا عبد الله (ع) عن قول الله عزوجل : قل انّما أعظكم بواحدة؟ ـ قال : بالولاية ، قلت : وكيف ذاك؟ ـ قال : انّه لمّا نصب النّبىّ (ص) أمير المؤمنين (ع) للنّاس ، فقال : من كنت مولاه فعلىّ مولاه ، اعتبس رجل وقال : انّ محمّدا (ص) ليدعو كلّ يوم الى امر جديد وقد بدأ باهل بيته يملّكهم رقابنا ، فأنزل الله عزوجل على نبيّه قرآنا فقال له : قل انّما أعظكم بواحدة ، فقد ادّيت إليكم ما افترض ربّكم عليكم ، قلت : فما معنى قوله عزوجل ان تقوموا لله مثنى وفرادى؟ ـ فقال : امّا مثنى يعنى طاعة رسول الله (ص) وطاعة أمير المؤمنين (ع) ، وامّا قوله فرادى يعنى طاعة الامام من ذرّيّتهما من بعدهما ، ولا والله يا يعقوب ما عنى غير ذلك ، وعلى هذه الرّواية يكون مثنى وفرادى حالين من الله والمعنى قل انّما أعظكم بواحدة يعنى بولاية علىّ (ع) ان تقوموا لطاعة الله في مظاهره حالكون الله مثنى باعتبار مظاهره كزمان الرّسول (ص) فانّ الرّسول (ص) وأمير المؤمنين (ع) كانا مظهرين في ذلك الزّمان لله وطاعة كلّ كان طاعة الآخر وطاعة الله ، وفرادى كزمان سائر الائمّة (ع) فان كلّا كان في زمانه مظهرا لطاعة الله وكان فردا فانّ الامام الآخر كان صامتا غير داع ، أو يكونان حالين من فاعل تقوموا يعنى ان تقوموا لله حالكون كلّ منكم ذا وجهين ، وجه قبول الرّسالة ووجه قبول الولاية كما في زمان الرّسول (ص) ، أو ذا وجه واحد هو وجه قبول الولاية ، فانّ احكام الرّسالة مقدّمة لقبول الولاية كما ورد : انّ الله رخّص فيها ولم يرخّص في الولاية ، وعلى التّفاسير السّابقة يكونان حالين عن فاعل تقوموا ، والاختصاص بهاتين الحالين لانّ الازدحام يفرّق الخاطر ولا يبقى له حالة الفكر ، ويدلّ على تفسير الواحدة بالولاية قوله تعالى : (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ) فانّه ما سأل على رسالته اجرا الّا المودّة في القربى يعنى اتّباع أوصيائه وقبول ولايتهم ، يعنى ما سألتكم من الأجر على التّبليغ من المودّة في القربى فانّه نافع لكم لانّكم ان اتبعتموهم نجوتم من عذاب الآخرة وبوركتم في دنياكم وأنعم عليكم في عقباكم كما قال : (لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) بحسب الآخرة والأرض بحسب الدّنيا وليس الايمان الّا قبول الولاية كما تكرّر في مطاوى ما سلف (ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) يعنى بعد القيام لله وخلوص الوهم والمتفكّرة من حكومة الشّيطان وتصرّفه ينبغي ان تتفكّروا (ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ) جملة معلّق عنها تتفكّروا يعنى ان تتفكّروا في انّه ما بصاحبكم من جنّة وتعلموا انّه في كمال العقل والتّدبير (إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) عذاب البرازخ أو القيامة أو الجحيم (قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ) الّذى هو عائد الىّ ونافع لي

٢٧٢

(إِلَّا عَلَى اللهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فيعلم انّى صادق فيما أقول وانّ الأجر الّذى اطلبه منكم من المودّة في القربى نافع لكم ، وانّ اجرى الّذى هو نافع لي ليس الّا على ربّى وليس في وسعكم القيام بأدائه (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ) على الباطل فيدمغه ، أو يقذف بالحقّ الى أنبيائه (ع) أو يقذف بالحقّ الىّ على الاستمرار (عَلَّامُ الْغُيُوبِ) فيعلم الباطل ولو كان مكمونا في قلوبكم ونفوسكم فيدمغه ويعلم محالّ الحقّ فيلقيه إليها ، رضيتم أم لم ترضوا (قُلْ) مستبشرا بمجيء الحقّ وتهديدا لأهل الباطل (جاءَ الْحَقُ) يعنى الولاية فانّها حقّ بحقيقة الله كما تكرّر في ما سلف وكلّ حقّ حقّ بحقّيّته (وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ) يعنى زهق الباطل بحيث لا يتمشّى منه إبداء ولا اعادة ، ويجوز ان يكون لفظة ما استفهاميّة يعنى اىّ شيء يبدئ الباطل فيكون نفيا للابداء مثل الاوّل مع التّأكيد ، وقيل : انّ المراد بالباطل إبليس فيكون ردّا على الثّنويّة المعتقدة لإبليس وابدائه وإعادته ، وقيل : المعنى لا يبدئ الباطل لأهله خيرا في الدّنيا ولا يعيد خيرا في الآخرة ، أو المعنى ما يتكلّم الباطل بكلام مبتدء ولا بإعادة كلام الغير كالجبال ، روى عن الرّضا (ع) انّه دخل رسول الله (ص) مكّة وحول البيت ثلاثمائة وستّون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : جاء الحقّ وزهق الباطل انّ الباطل كان زهوقا ، جاء الحقّ وما يبدئ الباطل وما يعيد (قُلْ) بصورة الإنصاف معهم (إِنْ ضَلَلْتُ) فليس ضرر ضلالتي عليكم (فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي) فلا مفاخرة لي فيه عليكم (إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) يسمع أقوالي ويعلم أحوالي واستعدادي واستحقاقي (وَلَوْ تَرى) لو للتّمنّى أو للشّرط والجواب محذوف (إِذْ فَزِعُوا) من الهول أو من الصّيحة (فَلا فَوْتَ) لهم من بأسنا وأخذ ملائكتنا (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) من تحت اقدامهم بالخسف كما في الخبر عن الباقر (ع) : لكأنّى انظر الى القائم (ع) أو قد أسند ظهره الى الحجر (الى ان قال) فاذا جاء الى البيداء يخرج اليه جيش السّفيانىّ فيأمر الله عزوجل الأرض فتأخذ باقدامهم وهو قوله عزوجل : ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب (وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) يعنى بالقائم (ع) أو بمحمّد (ص) (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) اى التّناول للايمان (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فانّهم كانوا حينئذ في أسفل مراتب النّفس والايمان لا يؤخذ الّا في أعلى مراتب النّفس (وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ) بالقائم (ع) أو بمحمّد (ص) (مِنْ قَبْلُ) اى من قبل ذلك الزّمان ، أو من قبل ذلك المكان الّذى هو أسفل امكنة النّفس (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ) اى يلقون الأمر الغائب عنهم بمحض الظّنّ والتّخمين ، أو يقذفون بالغيب الغائب عنهم على الحاضر المشهود لستره (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) من الغيب (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) بأنفسهم الحيوانيّة عند الموت ، أو في القيامة ، أو في كليهما (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ) اى اسناخهم (مِنْ قَبْلُ) اى من قبلهم أو كما فعل باتباعهم من قبل بسبب متابعتهم فانّهم باتّباعهم للرّؤساء قد حرّموا على أنفسهم بعض المشتهيات وحرّموا عن جملة المشتهيات الاخرويّة (إِنَّهُمْ) اى الأشياع أو الرّؤساء أو المجموع (كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) عن النّبىّ (ص) انّه ذكر فتنة تكون بين أهل ـ المشرق والمغرب ، قال : فبيناهم كذلك يخرج عليهم السّفيانىّ من الوادي اليابس في فور ذلك حتّى ينزل دمشق فيبعث جيشين ، جيشا الى المشرق وآخر الى المدينة حتّى ينزلوا بأرض بابل من المدينة الملعونة يعنى بغداد فيقتلون فيها أكثر من ثلاثة آلاف ، ويفضحون أكثر من مائة امرأة ، ويقتلون بها ثلاث مائة كبش من بنى العبّاس ، ثمّ ينحدرون الى الكوفة فيخرّبون ما حولها ثمّ يخرجون متوجّهين الى الشّام فيخرج راية هدى من الكوفة فتلحق ذلك الجيش فيقتلونهم

٢٧٣

لا يفلت منهم مخبر ، ويستنقذون ما في أيديهم من السّبى والغنائم ، ويحلّ الجيش الثّانى بالمدينة فينهبونها ثلاثة ايّام بلياليها ، ثمّ يخرجون متوجّهين الى مكّة حتّى إذا كانوا بالبيداء بعث الله جبرئيل ، فيقول : يا جبرئيل اذهب فأبدهم ، فيضربها برجله ضربة يخسف الله بهم عندها ولا يفلت منهم الّا رجلان من جهينة فلذلك جاء القول : وعند جهينة الخبر اليقين ، فذلك قوله ولو ترى إذ فزعوا (الآية) ، وورد اخبار كثيرة في تفسير الآية بخروج المهدىّ وجيش السّفيانىّ نظير ما ذكر عن النّبىّ (ص).

سورة فاطر

مكّيّة كلّها ، وقيل : الّا آيتين ، قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) (الآية) وقوله :

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ) (الآية) خمس أو ستّ وأربعون آية.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) خالقهما (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) الى أنبيائه والى أوصيائهم بالوحي والإلهام والتّحديث والرّؤيا الصّادقة ، والى الصّالحين من عباده بالإلهام والتّحديث والرّؤيا ، والى جميع خلقه بالإلهام والرّؤيا وإصلاح أمورهم وجبران نقائصهم وإخراج نفوسهم من القوى الى الفعليّات (أُولِي أَجْنِحَةٍ) بحسب العوالم الّتى يسيرون فيها ويطيرون بها لاصلاح أمورها (مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) بحسب العوالم الثّلاثة ، الملك والملكوت والجبروت ، ولا ينافي هذا ما ورد في اخبار كثيرة انّ عدد جناح جبرئيل ستّ مائة الف جناح ، وانّ دردائيل له ستّة عشر الف جناح وغير ذلك فانّ المراد نوع الجناح وانّ أنواع جناح الملائكة ثلاثة وان كان لكلّ نوع اعداد عديدة من افراد الجناح ، وورد اخبار كثيرة في أوصاف الملائكة وكثرة عددهم وانّ لله ملكا ما بين شحمة اذنه الى عينه مسيرة خمس مائة عام بخفقان الطّير ، وانّ له ملائكة ما بين منكبى كلّ وشحمة أذنيه سبع مائة عام ، وانّ له ملائكة انصافهم من برد انصافهم من نار ، وانّ له ملائكة يسدّون الأفق بجناح من أجنحتهم دون عظم أبدانهم ، وغير ذلك من أوصاف عظمتهم ، وانّه ليهبط في كلّ يوم أو في كلّ ليلة سبعون الف ملك فيأتون البيت الحرام فيطوفون به ثمّ يصعدون الى السّماء بعد ما يأتون رسول الله (ص) وأمير المؤمنين (ع) والحسين (ع) ولا يعودون أبدا (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) اشارة الى كثرة عددهم أو الى كثرة أجنحتهم وانّ الاقتصار على هذا العدد بحسب النّوع لا بحسب الشّخص ، أو انّ الاقتصار على هذا العدد لبيان الكثرة لا للانحصار في هذا العدد ، أو اشارة الى انّ كثرة الاجنحة جزء من أجزاء جمال خلقه ويزيد في جمالهم بحسب الصّورة والهيئة والخلق وغير ذلك ما يشاء ، وقد ورد عن النّبىّ (ص) انّه الوجه الحسن والصّوت الحسن والشّعر الحسن (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) من الزّيادة في العدد والجمال والاجنحة والأخلاق ، وعن الثّمالىّ قال: دخلت على علىّ بن الحسين (ع) فاحتبست في الدّار ساعة ثمّ دخلت البيت وهو يلتقط شيئا وادخل يده من وراء السّتر فناوله من كان في البيت ، فقلت : جعلت فداك هذا الّذى أراك تلتقطه اىّ شيء هو؟ ـ قال : فضلة من زغب الملائكة نجمعه إذا خلونا نجعله مسبحا لأولادنا ، فقلت : جعلت فداك فانّهم ليأتونكم؟ ـ

٢٧٤

فقال : يا با حمزة ليزاحمونا على تكأتنا (١) وقد ورد اخبار كثيرة انّ الائمّة يرون الملائكة ويصافحونهم وقد ذكرنا في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) في ذيل بيان مراتب الإنسان والفرق بين الرّسول والنّبىّ والمحدّث ، وجه ما ورد انّ الرّسول يرى الملائكة في المنام ويسمع كلامه ويعاينه في اليقظة ، والنّبىّ يرى في المنام ولا يعاين في اليقظة ويسمع الصّوت ، والمحدّث لا يرى في المنام ولا يعاين ويسمع الصّوت ، وقد ذكرنا هناك وجه عدم منافاة هذه الاخبار لما ورد منهم انّهم يعاينون الملائكة ، من أراد فليرجع الى ما هناك (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ) جملة حاليّة من قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كأنّ الاولى كانت لعموم قدرته وهذه لعجز غيره عن ممانعته من نفوذ قدرته ، أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر لبيان هذا المعنى ، أو مستأنفة منقطعة عن سابقها لبيان قدرته وعجز غيره (فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ) من رحمة أو ما يمسك من رحمة ونقمة ، أو ما يمسك من نقمة ولعلّ هذا المعنى هو المراد لئلّا ينسب إمساك الرّحمة اليه لانّه ليس منه الّا افاضة الرّحمة على الدّوام وانّما الإمساك يعنى عدم وصول الرّحمة الى بعض القوابل ليس الّا من قبلها لا من قبل الله (فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ) الّذى لا يقدر على منازعته أحد (الْحَكِيمُ) الّذى لا يفعل ما يفعل الّا بملاحظة غايات عديدة دقيقة لا يمكن دركها الّا له والّا بإتقان في الصّنع بحيث يعجز عن ادراك كيفيّته عقول العقلاء (يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) من غاية رحمته بعباده ، كرّر تذكير نعمته عليهم حتّى لا ينسوها ويقوموا بحقّ شكرها وناداهم قبل الأمر بذكر النّعمة ليكونوا ملتذّين بندائه فيصغوا الى امره حقّ الإصغاء ، وقد تكرّر في ما سبق انّ أصل النّعمة الولاية التّكوينيّة الّتى يعبّر عنها بحبل من الله والولاية التّكليفيّة الّتى يعبّر عنها بحبل من النّاس وكلّ ما كان متّصلا بتلك الولاية فهو نعمة بسببها ، وكلّ ما كان منقطعا عن الولاية كائنا ما كان كان نقمة (هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ) جملة حاليّة عن النّعمة أو عن الله بتقدير القول أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول ، أو مستأنفة لمدح النّعمة (يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بتهيّة الأسباب السّماويّة (وَالْأَرْضِ) بتهيّة الأسباب الارضيّة ، أو من السّماء بالرّزق الانسانىّ والأرض بالرّزق الحيوانىّ والنّباتىّ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حاليّة أو مستأنفة لبيان حال الله أو لتعليل حصر الرّزق فيه أو للمدح (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) اى تصرفون عنه (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) فلا تحزن عليهم فانّ الرّسول لا بدّ وان يكذّب لعدم سنخيّته لهم وهكذا كانت سنّتنا قديما (فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) فنذكر حالهم وحال أممهم في تكذيبهم حتّى لا تحزن على تكذيب قومك (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يعنى اليه تنتهي أنت ومكذّبوك فيجازى كلّا بحسبه أو الى الله ترجع الأمور بعد النّظر الدّقيق فإليه يرجع تكذيبهم بمعنى ان ليس تكذيبهم الّا بأمر تكوينىّ وترخيص من الله لمصلحة عائدة إليك والى أمّتك فلا تضيقنّ لذلك (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ناداهم تلطّفا بهم لتهييجهم للاستماع وصرف الخطاب عنه (ص) الى المكذّبين بعد تسليته ردعا لهم عن تكذيبهم أو الى مطلق العباد وعدا ووعيدا لهم (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالثّواب والعقاب (حَقٌ) لا خلف فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فتغفلوا عن وعد الله ولا تعملوا له (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) اى الشّيطان بان يمنّيكم المغفرة ويؤخّركم التّوبة (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) فاذا كان عدوّا لكم (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) ولا توافقوه فيما يأمركم به وكونوا منه على حذر (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ)

__________________

(١) التّكأة بضمّ التّاء والتّحريك كهمزة ما يتّكئ عليه ومنه حديث أهل البيت : وانّهم يعنى الملائكة ليزاحمونا على تكأتنا. (مجمع البحرين)

٢٧٥

تعليل لعداوته وتأكيد للأمر بالحذر منه (الَّذِينَ كَفَرُوا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما حال حزبه؟ ـ فقال : (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) ووضع الظّاهر موضع المضمر ليكون اشارة الى انّ حزبه كافرون ولكفرهم صاروا من أصحاب السّعير (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالكفر به والبيعة مع ولىّ امره البيعة الخاصّة أو العامّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بالبيعة الخاصّة ان كان المراد بالايمان البيعة الاسلاميّة أو بالعمل بالشّروط المأخوذة عليه في بيعته ان كان المراد بالايمان البيعة الخاصّة (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ أَفَمَنْ زُيِّنَ) عطف على محذوف تقديره امن اتّبع الشّيطان ولم ير قبح ـ عمله كمن اتّبع ولىّ امره ورأى قبائح اعماله ونقائصها فمن زيّن (لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً) فضلا عن رؤية قبحه كمن لم يزيّن عمله بل رأى اعماله الحسنة قبيحة في حضرة مولاه (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ) تعليل لقوله زيّن كأنّه قيل : زيّن لاتباع الشّيطان عملهم وقبّح لاتباع الرّحمان أعمالهم لانّ الله يضلّ عن الطّريق المستوى الّذى هو عدم رؤية حسن العمل المنسوب الى النّفس (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) الى الطّريق المستقيم الّذى هو رؤية النّقص والقبح من العمل المنسوب الى النّفس كائنا ما كان إذا كان الأمر كذلك (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) فلا تهلك نفسك لتتابع الحسرات لأجل اتّباعهم للشّيطان (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) تعليل للنّهى (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) عطف على قوله انّ الله يضلّ من يشاء وتعليل لهداية بعض وإضلال بعض ورؤية بعض حسن اعماله السّيّئة ورؤية بعض قبح اعماله الحسنة كأنّه قال : الله الّذى يرسل رياح اهوية النّفوس فتثير سحابا فيحيى به بعض النّفوس ويهلك بعضا (فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ) التفات من الغيبة الى التّكلّم (إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) مستعدّ للأحياء (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) اى ارض ذلك البلد بالنّبات واخضرار الأشجار (بَعْدَ مَوْتِها) عن النّبات وعن اخضرار الأشجار وكذلك يرسل الله الرّياح النّفسانيّة والعقلانيّة ورياح حوادث الزّمان ويسوق سحاب الرّحمة بها الى بلاد نفوسكم اليابسة عن نبات الايمان فيحيى به النّفوس المستعدّة ويهلك النّفوس الجافّة القاسية (كَذلِكَ النُّشُورُ) من قبور نفوسكم وغلاف أبدانكم ومن قبور برازخكم فانّ القوى والاستعدادات المكمونة في الأبدان والنّفوس مثل الحبوب والعروق المكمونة في الأراضي وخروجها من القوّة الى الفعليّة بأمطار الرّحمة الالهيّة ، كخروج الحبوب والعروق بالنّبات والأشجار والأوراق بأمطار السّحاب (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) منقطع عن سابقه لفظا ومعنى لابداء حكم ونصح ، أو جواب لسؤال ناش من سابقه كأنّه قيل : فما يفعل من كان يريد العزّة أيطلبه من غير الله؟ مع انّ احياء نبات الأرض بيده أو لا يطلبه الّا من الله؟ ـ فقال : من كان يريد العزّة فلا يوجد العزّة الّا عند الله (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) فلا يطلب العزّة أحد من أحد الّا من الله لعدم وجدانه عند أحد غير الله (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) الكلم لكونه اسم جنس جمعىّ يعامل معه معاملة المفرد المذكّر والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لا يمكن لنا الوصول الى الله حتّى نطلب العزّة من عنده ، فقال : ان كان لا يمكن لكم الوصول الى الله بذواتكم يصل اليه كلماتكم الطّيّبة والأقوال الصّالحة من الاذكار العالية وأقوالكم لاصلاح ذات البين والنّصح للعباد والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وتعليم العلوم وهداية الخلق الى الطّريق وغير ذلك من الأقوال (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ) الاركانىّ (يَرْفَعُهُ) فقولوا قولا طيّبا واعملوا عملا صالحا تعزّوا ، وعن الصّادق (ع) : الكلم الطّيّب قول المؤمن : لا اله الّا الله ، محمّد رسول الله (ص) ، علىّ ولىّ الله (ع) وخليفة رسول الله (ص) ، والعمل الصّالح الاعتقاد بالقلب انّ هذا هو الحقّ من عند الله لا شكّ فيه من ربّ العالمين ، وعنه (ع) في هذه الآية قال : ولايتنا أهل البيت ، وأومى بيده الى صدره ، فمن لم يتولّنا لم يرفع الله له عملا ، وعن الباقر (ع) قال :

٢٧٦

قال رسول الله (ص) : انّ لكلّ قول مصداقا من عمل يصدّقه أو يكذّبه فاذا قال ابن آدم وصدّق قوله بعمل رفع قوله بعمله ، وإذا قال وخالف عمله قوله ردّ قوله على عمله الخبيث وهوى في النّار ، ولمّا كان أصل جميع الكلم الطّيّب هو كلمة الولاية والقول بها والاعتقاد بها صحّ تفسير الكلم بالولاية ، ولمّا كان أصل جميع الصّالحات هو عمل الولاية الّتى هي البيعة الخاصّة الولويّة الّتى يترتّب عليها جميع الخيرات وجميع الأعمال الصّالحات ولا يصير الصّالح صالحا الّا بها صحّ تفسير العمل الصّالح بها مع انّ الآية عامّة لجميع الكلمات وجميع الأعمال (وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : فالّذين يعملون الصّالحات يرفع أقوالهم وأعمالهم الى الله ويعزّون بها والّذين يمكرون السّيّئات كقريش ومكرهم في دار النّدوة ، أو كمنافقى الامّة ومكرهم في دفع خلافة علىّ (ع) ولكلّ من يمكر السّيّئة بالنّسبة الى العباد أو الى قوى نفسه وأهل مملكته ، فانّ كلّ من يعصى ربّه فهو يمكر في ارتكاب معصيته لإخفاء النّفس قبح فعله عليه وإظهارها حسنة لديه (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) بالفعل لكنّه لا يحسّ به مثل صاحب الخدر الّذى يحرق عضوه النّار ولا يحسّ به فانّ السّيّئة نفسها عذاب عاجل للطّيفة السّيّارة الانسانيّة ولاختفائها تحت فعليّات النّفس لا تحسّ به (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) يهلك أو يفسد لانّه من النّفس والنّفس ولوازمها هالكة فاسدة ، تسلية للرّسول (ص) في مكرهم به أو بعلىّ (ع) (وَاللهُ خَلَقَكُمْ) عطف باعتبار المعنى أو على مقدّر كأنّه قال : فالله اعزّكم بالكلم الطّيّب والعمل الصّالح ، والله اذلّكم بمكر السّيّئات ، والله خلقكم (مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) بالذّكورة والانوثة أو جعلكم أصنافا من الذّكر والأنثى ، والأبيض والأسود ، والدّميم والحسن ، والشّقىّ والسّعيد (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى) منكم أو من مطلق الحيوان (وَلا تَضَعُ) جنينها (إِلَّا بِعِلْمِهِ) فلا يعزب عنه شيء فكيف يعزب عنه مكر أولئك أو عمل المؤمنين (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتابٍ) معناه ما يبلغ عمر معمّر عمره الطّبيعىّ أو قريبا منه أو أزيد ، وما ينقص من عمره الطّبيعىّ والعمر القريب منه الّا حالكونه ثابتا في كتاب هو الكتاب الّذى كتبه الملائكة المصوّرة حين تصويره في رحم أمّه ، أو الكتاب الّذى هو عالم العقول ، أو الكتاب الّذى هو عالم النّفوس الكلّيّة أو الجزئيّة ، أو المعنى الّا حالكونه يكتب بعد إعطاء العمر ونقصانه في كتاب هو كتاب اعماله الّذى يكتبه الملائكة الموكّلة عليه ، أو هو كتاب المحو والإثبات الّذى يكتب فيه ما يظهر من استعداد المستعدّين من أهل عالم الطّبع فيه بعد ظهور الاستعداد ، وهذه الآية بهذا الوجه تدلّ على ثبوت البداء الّذى ورد في اخبار كثيرة.

تحقيق البداء

اعلم ، انّ الآيات والاخبار تدلّ بالصّراحة والاشارة على ثبوت البداء لله وقد ورد في الاخبار نسبة التّردّد في الأمر اليه تعالى ، وورد ما يدلّ على تأثّر الله من فعل العباد مثل اجابة الدّعوات وتغيير الأمر والعمر بالصّدقات والصّلات والشّكر والكفران وسائر الحسنات والسّيّئات ، وكلّ ذلك يدلّ على انّ الله قد يظهر فعلا ثمّ يتركه ويظهر غيره كالنّادم من فعله الاوّل والمظهر لغيره ، ويدلّ بعضها على كون فعل الله تابعا لفعل العباد ، ولذلك أنكرت الفلاسفة كلّ ذلك وأوّلوا ما ورد في الآيات والاخبار من أمثال ذلك لانّ ذلك كلّه يدلّ على عجز الله ونقصانه في فعله ، وجهله بعاقبة بعض أفعاله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا. فنقول : بيان ذلك يستدعى تحقيق العوالم وبيان حقيقة كلّ عالم وبيان انّ العوالم كلّها مراتب علم الله وإرادته وانّ بعض العوالم لضيقه لا يسع ظهور جميع فعليّات ما في العالم الأعلى ولا يظهر فعليّات ما في العالم الا على فيه الّا على التّعاقب ، كما انّ عالم الطّبع لا يسع ظهور فعليّات جميع الصّور فيه الّا على التّعاقب ، فاعلم ، انّ العوالم بوجه ثلاثة ، وبوجه ستّة ، وبوجه سبعة ، لانّها امّا مجرّدة ذاتا وفعلا عن المادّة والتّقدّر ، أو مجرّدة ذاتا متعلّقة فعلا أو متعلّقة ذاتا وفعلا بالمادّة ، والاولى هي عوالم العقول الطّوليّة المعبّر عنها في لسان الشّرع بالملائكة المقرّبين وعوالم العقول العرضيّة الّتى يعبّر عنها بأرباب الطّلسمات والصّافّات

٢٧٧

صفّا ، والثّانية هي عوالم النّفوس الكلّيّة والجزئيّة المعبّر عنها بالمدبّرات امرا ، والملائكة الرّكّع والسّجّد ، وعوالم المثال العلوىّ والسّفلىّ ، والثّالثة هي عوالم الطّبع الّتى وجودها وجود تعلّقىّ مادّىّ ، وانّ العوالم كلّها معلولة لله تعالى ، وانّ العلّيّة ليست كما توهّمها المتوهّمون مثل علّيّة البنّاء للبناء والنّار للنّار ، والشّمس للتّبييض والتّسويد ، بل هي بالتّشأّن بمعنى انّ المعلول لا بدّ وان يكون شأنا من العلّة ومتقوّما بها لانّ تقابلهما تقابل التّضايف والمتضائفان غير منفكّين في الخارج وفي الذّهن فلو لم يكن العلّة داخلا في قوام المعلول والحال انّ المعلوليّة عين ذات المعلول كان تصوّر المعلول لمن تصوّره بكنهه منفكّا عن تصوّر العلّة ، والعلّيّة في الحقّ الاوّل تعالى عين ذاته كما انّ المعلوليّة في الممكن عين ذاته ، وانّ ذات العلّة علم وارادة كلّه كما انّه وجود كلّه ، ولمّا لم يكن قوام المعلول فارغا من العلّة كان قوامه علما وارادة لله تعالى وانّ المجرّدات الصّرفة كلّما كان لها بالإمكان كان حاصلا لها بالفعل لعدم القوّة والاستعداد فيها وانّ النّفوس الكلّيّة من حيث ذواتها وتجرّدها الذّاتىّ كلّما كان في العقل بالفعل كان فيها أيضا بالفعل لكن بنحو البساطة والوجود الوحدانىّ لا بنحو الكثرة ولذلك كانت النّفوس الكلّيّة لوحا محفوظا من التّغيّر والتّبدّل لا يتطرّق إليها المحو والإثبات ، وانّ النّفوس الجزئيّة العلويّة الّتى لها تعلّق بعالم المادّة بتوسّط عالم المثال العلوىّ لضيقها عن الاحاطة بالجزئيّات الغير المتناهية ليس كلّما فيها بالقوّة يكون بالفعل بل يتعاقب عليها الفعليّات وتخرج من القوى والاستعدادات بحسب قرب استعداداتها الى الفعليّات من أجل تعلّقها بالمادّيّات ، أو بحسب تقريب تشبّهاتها المتعاقبة بالعلويّات استعداداتها الى الفعليّات كالنّفوس الخياليّة للإنسان في انّها تتعاقب عليها الفعليّات لأجل ضيقها وعدم احاطتها بجملتها دفعة وقرب استعداداتها الى الفعليّات الطّيّبة أو الرّديّة باعداد العبادات والمعاشرين والأفكار الطّيّبة والرّديّة وغير ذلك ، وانّ النّفوس الجزئيّة العلويّة كالنّفوس الجزئيّة البشريّة لها وجه الى المادّيّات به تتأثّر منها وتستعدّ لاخذ الفعليّات من العلويّات ، ووجه الى المجرّدات به تأخذ من المجرّدات ما قرب استعداداتها منه ، وكلّما استعدّ مادّىّ من المادّيّات لحصول صورة أو كيفيّة فيه يفيض صورة تلك الصّورة أو الكيفيّة من المجرّدات على تلك النّفوس الجزئيّة العلويّة ولكن لضيقها لا يثبت فيها جميع شروطها وجميع معدّاتها وموانعها ، فاذا اتّصل بعض النّفوس البشريّة كنفوس الأنبياء وأوصيائهم (ع) في النّوم أو اليقظة بتلك النّفوس الجزئيّة يشاهد فيها ما ثبت فيها من الصّور والكيفيّات ويرى فيها وقوع الحادثة فيخبر أحيانا بتلك الحادثة ، ثمّ يرى بعد ذلك تخلّف تلك الحادثة وعدم وقوعها ويرى محوها من تلك النّفوس وثبت ضدّها فيها فيقول على سبيل المشاكلة : بدا لله تعالى فيها أو يقول حقيقة : بدا لله تعالى لانّ تلك المرتبة من النّفوس هي علم الله وإرادته ومحو الارادة الاولى وثبت الارادة الثّانيّة ليس الّا البداء وليس ذلك من جهل وعجز في الفاعل بل هو من ضيق القابل ، وقد يثبت في تلك النّفوس صورة الحادثة مع جميع الشّرائط والمعدّات والموانع لكنّ المتّصل بها لضيق مداركه عن الاحاطة بجميع ما فيها لا يدرك جميع الموانع والشّروط فيخبر بصورة الحادثة ثمّ تتحلّف الحادثة فيقول : بدا لله تعالى ، ولمّا كان تلك النّفوس المتأثّرة من المادّيّات وباعداد المادّيّات يفيض عليها من المجرّدات وكانت هي من مراتب إرادته تعالى صحّ نسبة التّردّد بواسطتها الى الله تعالى وصحّ تأثير الصّدقات والدّعوات والصّلات فيها وتغيير ما فيها ومحو المثبت وثبت الغير المثبت فيها بواسطة ذلك ، وما قاله الفلسفىّ من : انّها من الاتّفاقيّات ولا تأثّر للعلوىّ من السّفلىّ ، لا يصغي اليه ، بعد شهود أهل الشّهود وإمكان ذلك فيها ، وما ورد عن الصّادق (ع) انّه يبعث عبد المطّلب أمّة واحدة عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء (ع) وذلك انّه اوّل من قال بالبداء فالمقصود انّه اوّل من حقّق البداء في حقّه تعالى والّا فأكثر الأنبياء (ع) والسّلف كانوا قائلين بالبداء كما وصل إلينا من أخبارنا (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) كما ذكرنا انّ ذلك من لوازم وجود النّفوس الجزئيّة العلويّة

٢٧٨

لا حاجة له فيه الى تعمّل وتمهيد أسباب (وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) قد مضى في سورة الفرقان بيان للبحرين (وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ) الفلك المواخر الّتى يسمع صوت جريها أو تشقّ الماء بجؤجؤها ، أو المقبلة والمدبرة بريح واحدة (لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) اى من فضل الله بالتّجارات الرّابحة (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النّعمة الّتى أودعها الله تعالى في الفلك والبحرين (يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قد مضى بيان هذه الكلمة في اوّل سورة آل عمران (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) قد مضى الآية في اوّل الرّعد وفي غيرها (ذلِكُمُ) الموصوف بتلك الأوصاف (اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) عالم الملك مقابل الملكوت ، أو الملك بمعنى كلّ مملوك لا شركة لغيره في عالم الملك كما يقوله الثّنويّة ، ولا في شيء من المماليك كما يقوله بعض العابدين للملائكة وجميع الثّنويّة (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من دون اذنه كمن يدعو مقابلي ولىّ الأمر أو حالكونهم بعضا من غيره لكلّ معبود سواه ولم يأذن تعالى في اشراكه (ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) اى الجلدة الرّقيقة الّتى تكون على ظهر النّواة ، أو شقّ النّواة ، أو القشرة الّتى تكون فيه أو النّكة البيضاء الّتى في ظهرها (إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) الأوصاف مترتّبة في التّنزّل كأنّه تعالى اضرب عن كلّ الى الآخر (وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) على الإطلاق وهو الخبير مجملة الأمور وهو الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ناداهم تلطّفا بهم وتثبيتا لغناه وفقرهم (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) تعريف المسند لارادة الحصر ردّا لمن قال : انّ الله فقير ونحن أغنياء (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) اعلم ، انّ الفقر والحاجة في الممكن عين ذاته الوجوديّة ، بمعنى انّ وجوده وجود تعلّقىّ والتّعلّق عين ذاته لا انّ وجوده شيء والتّعلّق صفة له وهذا النّحو من الوجود لا يكون له شأن الّا الفقر والفاقة والتّعلّق ، وانّ وجوده تعالى وجود غنىّ بذاته عن كلّ ما سواه وانّ الغنى عين ذاته تعالى كسائر صفاته وهذا النّحو من الوجود لا شأن له سوى الغنى ولا يتجاوز الغناء عنه الّا به تعالى وكلّ من كان الغناء عين ذاته يكون حميدا على الإطلاق بمعنى انّه لا يكون حميد الّا وهو هو لانّه لو وجد صفة كمال لم تكن هي لله تعالى كان مفتقرا إليها فاقدا لها ولم يكن غنيّا على الإطلاق (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) هذه من القضايا الّتى يكون فيها وضع المقدّم دائما كأنّه قال : لكنّه يشاء ذلك أو من القضايا الفرضيّة الّتى لا وضع لمقدّمها كأنّه قال : لكن لم يشأ ذلك فلم يذهبكم ، على ان يكون المعنى ان يشأ يذهبكم قبل آجالكم (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) اى شديد حتّى يكون متعذّرا أو متعسّرا عليه وهذه الجملة تأكيد لغناه وفقرهم اليه (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ) اى نفس قابلة لان تزر وزرا (وِزْرَ أُخْرى) فلا تغترّوا بما قيل لكم : نحن نحمل خطاياكم ، وقوله تعالى (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) لا ينافي ذلك لانّ معناه ليحملنّ أثقالا ناشئة من اضلالهم مع انّه لا يخفّف من أثقال من اضلّوهم شيء لا انّهم يحملون أثقال من اضلّوهم فيصير الاتباع خالين من الأثقال (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) اى ان تدع نفس مثقلة من الأوزار (إِلى حِمْلِها) الحمل بالكسر ما يحمل يعنى ان تدع كلّ ما يمكن ان يدعى من الله وخلفائه ومن الشّركاء لله ومن الشّركاء في الولاية ومن كلّ نفس بشريّة ومن كلّ ما يحمل شيئا من أصناف الحيوان (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ) المدعوّ (ذا قُرْبى) له رحيما عليه بفطرة قرابته (إِنَّما تُنْذِرُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما لهم لا يخافون من سوء العاقبة

٢٧٩

مع هذه الإنذارات؟ ـ فقال : انّما تنذر يا من ينذر ، أو يا محمّد (ص) (الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) يعنى تنذر من كان فطرته الانسانيّة الّتى شأنها خشية الرّبّ باقية فيهم حالكونهم بالغيب من الرّبّ أو حالكون الرّبّ بالغيب منهم (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) الفطريّة الّتى هي الحبل من الله الّذى هو الولاية التّكوينيّة يعنى انّ الإنذار من جهات الكفر لا ينفع الّا من كان هذه حاله لا غيره (وَمَنْ تَزَكَّى) في مقام وآتوا الزّكاة لكنّه عدل الى هذا لافادة هذا المعنى مع شيء زائد (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجازيهم على اقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) في تميز الأشياء وفي تميز الحسن والقبيح والضّارّ والنّافع حتّى يتساوى الّذين لا يخشون ربّهم مع الّذين يخشون في الإنذار (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) حتّى يستوي الّذين يستنير قلوبهم بنور العلم فيخشون ربّهم بذلك مع غيرهم (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) قيل : المعنى ولا الجنّة ولا النّار ، وقيل : ولا اللّيل ولا النّهار ، أو المعنى ولا البرد ولا السّموم ، فانّ الحرور اسم للسّموم وكلّ ذينك المتقابلين كناية عن المؤمن وايمانه والكافر وكفره ، أو هو ممثّل به والمؤمن وايمانه والكافر وكفره هو الممثّل له (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) اى الأحياء بالحيوة الايمانيّة الفطريّة أو الايمانيّة التّكليفيّة اللّتين يعبّر عنهما بالحبلين وبالولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) الّتى هي قبور أجسادهم الميّتة وهؤلاء حالهم حال من كان ميّتا واقعا في قبره ، أو ما أنت بمسمع من كان منغمرا في قبور نفوسهم الحيوانيّة وأبدانهم الطّبيعيّة (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) سمعوا أو لم يسمعوا (إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) اى بالولاية فانّها الحقّ المطلق وكلّ ما سواه حقّ بحقّيّته (بَشِيراً وَنَذِيراً) للمؤمن والكافر (وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) يعنى ما اهملنا أمّة من الأمم بل بعثنا في كلّ أمّة نذيرا من نبىّ أو وصىّ نبىّ ، في حديث عن الباقر (ع) : لم يمت محمّد (ص) الّا وله بعيث نذير قال : فان قيل : لا ، فقد ضيّع رسول الله (ص) من في أصلاب الرّجال من أمّته ، قيل : وما يكفيهم القرآن؟ ـ قال : بلى ، ان وجدوا له مفسّرا ، قيل : وما فسّره رسول الله؟ ـ قال : بلى ، قد فسّره لرجل واحد وفسّر للامّة شأن ذلك الرّجل وهو علىّ بن ابى طالب (ع). اعلم ، انّه تعالى جعل غاية خلق العالم بنى آدم ، وجعل غاية خلق بنى آدم ولاية علىّ بن أبى طالب (ع) سواء كانت ظاهرة في هيكل النّبوّة أو الرّسالة أو الخلافة وليس المراد بالنّذير الّا الرّسول أو النّبىّ أو خليفتهما ، فلو لم يكن في العالم حينا نذير بطل الخلقة ولم يكن لها غاية ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فلم يكن عالم الّا وكان فيه آدم ، ولم يكن آدم الّا وكان له نذير وهكذا لم يبق العالم بلا آدم ولا نذير (وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ) فلا تحزن فانّ هذه سنّة قديمة (فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) قد مضى في آخر آل عمران هذه الكلمات (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا) برسلهم وكذّبوهم (فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) بالعقوبة لهم تهديد للمكذّبين (أَلَمْ تَرَ) الخطاب خاصّ بمحمّد (ص) ولا إشكال فانّه يرى انّ الله انزل من السّماء ماء ، أو عامّ فالمعنى انّه ينبغي ان يرى كلّ راء ذلك لانّه لو لم يكن بصره محجوبا كان يرى ذلك فهو ملوم على ان لا يرى (أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ) لمّا كان إنزال الماء من السّماء بتوسّط الأسباب الطّبيعيّة الظّاهرة على الأبصار والعقول أتى بالله بلفظ الغيبة كأنّه تعالى عند ذلك غائب عن الأبصار والظّاهر عليها هو الأسباب بخلاف إخراج الثّمرات فانّ الأسباب الطّبيعيّة فيه خفيّة عن الأبصار فكأنّ النّاظر اليه لا يرى توسّط الأسباب ويرى المسبّب عنده

٢٨٠