تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

المفعول ومن كان متّهما في نسبه ، نزلت في زيد بن حارثة الكلبىّ عتيق رسول الله (ص) وسبب ذلك على ما نقل عن القمى عن الصّادق (ع) انّ رسول الله (ص) اشترى زيدا بعد تزويجه خديجة (ع) فلمّا نبّئ (ص) دعا زيدا الى الإسلام فأسلم وكان يدعى مولى محمّد (ص) فأتى حارثة أبا طالب (ع) وقال له : قل لابن أخيك : امّا ان يبيعه ، وامّا ان يفاديه ، وامّا ان يعتقه ، فلمّا قال ذلك أبو طالب (ع) لرسول الله (ص) قال: هو حرّ لوجه الله فليذهب حيث شاء ، فقام حارثة وأخذ بيد زيد وقال : يا بنىّ الحق بشرفك وحسبك فقال : لست أفارق رسول الله (ص) أبدا فغضب أبوه وقال : يا معشر ـ قريش اشهدوا انّى برئ منه وليس هو إبني فقال رسول الله (ص) : اشهدوا انّ زيدا إبني ارثه ويرثني وكان يدعى زيد بن محمّد (ص) فلمّا هاجر رسول الله (ص) زوّجه زينب بنت جحش وأبطأ عنه يوما فأتى رسول الله (ص) منزله فاذا زينب جالسة وسط حجرتها تسحق طيبا بفهر لها ، فنظر إليها رسول الله (ص) وكانت جميلة فوقعت في قلب رسول الله (ص) فقال : سبحان خالق النّور وتبارك الله أحسن الخالقين ، ثمّ رجع وجاء زيد الى منزله فأخبرته زينب بما وقع فقال زيد : هل لك ان اطلّقك حتّى يتزوّجك رسول الله؟. فقالت : أخشى ان تطلّقنى ولم يتزوّجنى رسول الله (ص) فجاء زيد الى رسول الله فقال : هل لك ان اطّلق زينب حتّى تتزوّجها؟ ـ فقال : لا ، اذهب واتّق الله وأمسك عليك زوجك ثمّ حكى الله عزوجل فقال : أمسك عليك زوجك واتّق الله وتخفى في نفسك ما الله مبديه وتخشى النّاس والله احقّ ان تخشاه فلمّا قضى زيد منها وطرا زوّجناكها (الى قوله) وكان امر الله مفعولا فزوّجه الله تعالى من فوق عرشه فقال المنافقون : يحرّم علينا نساء أبنائنا ويتزوّج امرأة ابنه زيد ، فأنزل الله عزوجل في هذا : وما جعل أدعياءكم أبناءكم (الى قوله) يهدى السّبيل وسيأتى في هذه السّورة اخبار أخر في كيفيّة تزويج رسول الله (ص) زينب لزيد ولنفسه (ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ) من غير اعتقاد لكم به ومن غير حقيقة له في الواقع فلا تأثير لهذا القول في ترتّب الأحكام الشّرعيّة (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَ) الثّابت الّذى له حقيقة في نفس الأمر وينبغي ان يعتقد (وَهُوَ) لا غيره (يَهْدِي السَّبِيلَ) الى الحقّ (ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ) بان تقولوا زيد بن حارثة دون غير آبائهم وان كان الغير يدعونهم أبناءهم (هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) اعدل من غير شوب ظلم وتجاوز عن الحقّ (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ) فادعوهم إخوانا (وَمَوالِيكُمْ) فادعوهم احبابا (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ) بدعائهم الى غير آبائهم قبل النّهى أو بعد النّهى بالنّسيان عن النّهى أو بسبق اللّسان (وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) اى فيما تعمّدت قلوبكم أو ما تعمّدت قلوبكم مبتدء خبره محذوف (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) يغفر للمخطئ وللمتعمّد بعد التّوبة ويرحمه تفضّلا منه عليه (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ) مستأنف جواب لسؤال ناش من نفى بنوّة زيد لمحمّد (ص) وانّ نسبة البنوّة لمحمّد (ص) قول بأفواههم من غير حقيقة له كأنّه قيل : إذا لم يكن لنسبة بنوّة زيد الى محمّد (ص) حقيقة فما النّسبة بينه وبين أمّته حتّى يقال : انّه ابو أمّته؟ ـ فقال تعالى جوابا لهذا السّؤال : انّ المنفىّ هو الابوّة الجسمانيّة والأحكام الشّرعيّة القالبيّة من حرمة نكاح حليلة الابن انّما هي للابوّة والبنوّة الجسمانيّتين وامّا الابوّة الرّوحانيّة الّتى تحصل بحصول صورة من الأب في وجود الابن بواسطة البيعة العامّة أو الخاصّة وبتلك الصّورة يحصل نسبة الابوّة والبنوّة فانّما هي ثابتة له (ص) بالنّسبة الى كلّ الامّة ، ولمّا كانت تلك الكيفيّة الحاصلة بالبيعة صورة نازلة منه (ص) وهي تصير الفعليّة الاخيرة للابن وشيئيّة الشّيء تكون بالفعليّة الاخيرة وتلك الفعليّة تكون اولى باسم ذلك الشّيء من سائر فعليّاته السّابقة لاستهلاكها تحت تلك الفعليّة وتكون تلك الفعليّة صورة نازلة من محمّد (ص) كان محمّد (ص) اولى

٢٤١

بمن باع معه احدى البيعتين من سائر فعليّاته الّتى تنسب اليه وتكون نفسه عبارة عنها فالنّبىّ يكون اولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع ما ينسب إليهم من الأعمال والأقوال والأحوال والأخلاق والأحكام والآلام ، ولا تظننّ انّه (ص) حينئذ يكون اولى بهم في معاصيهم لانّ المعاصي ناشئة عن الحدود والنّقائص ، والحدود والنّقائص انّما هي ناشئة من الفعليّات السّابقة وراجعة الى الاعدام لا الى الفعليّات فأنفسهم تكون اولى بها من الفعليّة الأخيرة وقد سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) تحقيق وتفصيل تامّ للولادة الرّوحانيّة ، ومن هذا يعلم انّ خلفاء محمّد (ص) الّذين كانوا مأمورين بأخذ البيعة العامّة أو الخاصّة عن الخلق كانوا اولى بمن بايعوا معهم من أنفسهم مثل محمّد (ص) وكانوا آباء لمن آمنوا بهم من غير فرق ولذلك ورد : انّ الائمّة كانوا بعد محمّد (ص) اولى بالمؤمنين مثل محمّد (ص) من أنفسهم (وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ) قرأ الصّادق (ع) هاهنا : وهو أب لهم.

بيان في الابوّة الرّوحانيّة والقالبيّة

اعلم ، انّه (ص) لمّا صار بحسب مقام بشريّته محكوما بحكم روحه بحيث لم يكن له بحسب مقام قالبه الّا آثار روحه وكان نسبته الى أمّته نسبة الابوّة كان جاريا على قالبه حكم الابوّة الرّوحانيّة فكان أزواجه بالنّسبة الى أمّته مثل أزواج الآباء بالنّسبة الى الأولاد ولذلك كنّ محرّمات على أمّته وان كانت أمّته بالنّسبة اليه بحسب مقام بشريّتهم غير محكومين بحكم الفعليّة الاخيرة الّتى كانوا بحسبها أبناء له فلا يجرى على قوالبهم حكم أرواحهم ولم يكن أزواجهم بالنّسبة اليه مثل أزواج الأبناء بالنّسبة الى الآباء ، مع انّه (ص) بحسب قالبه حكمه بالنّسبة إليهم حكم الآباء بالنّسبة الى الأولاد ولذلك قال تعالى شأنه : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) يعنى انّه أب لجهاتهم الرّوحانيّة ورجالكم الّذين هم محكومون بحكم القوالب غير منسوبين اليه بالبنوّة فليس هو أبا لرجالكم القالبيّة وان كان أبا لامّته من حيث انّهم رجال روحانيّون الهيّون ولذلك قال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ) يعنى من حيث ايمانهم وأزواجه أمّهاتهم يعنى أمّهات المؤمنين من حيث ايمانهم ، لا يقال : ان كان الرّسول (ص) بحسب قالبه محكوما بحكم زوجه فينبغي ان لا يجوز له نكاح نساء أمّته ولا نكاح أزواج أمّته لانّا نقول : هو (ص) محكوم بحسب قالبه بحكم روحه لكنّ أمّته ليسوا محكومين بحكم أرواحهم فلم تكن أمّته أولادا له بحسب قوالبهم وشرف امومة المؤمنين وشرف مضاجعة الرّسول (ص) مانع من ان لا تكون أزواجه أمّهات للامّة ومحرّمات عليهم بحسب قوالبهم ، ولكن ليس هذا الحكم اى جريان حكم النّسبة الرّوحانيّة على القوالب الجسمانيّة جاريا بين المؤمنين والمهاجرين يكون بعض منهم اولى ببعض من قراباتهم الجسمانيّة في الوصاية أو في الامارة أو في الإرث أو غير ذلك بل (وَأُولُوا الْأَرْحامِ) الجسمانيّة (بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ) في ذلك من الأقرباء الرّوحانيّة (فِي كِتابِ اللهِ) اى القرآن أو مطلق كتبه المنزلة من السّماء أو في كتابه العلوىّ من اللّوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات أو في مفروض الله أو في احكام الرّسالة ، وقد مضت الآية في آخر سورة الأنفال وقد ذكر هاهنا موافقا لما ورد في الاخبار انّها نزلت لنسخ التّوارث بالهجرة والنّصرة لكن لا اختصاص لها بالتّوارث ولا بالامامة ولا بسائر الحقوق بل تجري في كلّ حقّ وإحسان وإنفاق ، وما ورد هاهنا انّها نزلت في الامرة وانّها جرت في ولد الحسين (ع) من بعده بيان لاهمّ مواردها (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) ذكر المهاجرين بعد المؤمنين من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بالخاصّ ولفظة من بيان لاولى الأرحام أو هي من التّفضيليّة (إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً) استثناء متّصل مفرّغ يعنى انّ اولى الأرحام بعضهم اولى ببعض في كلّ الأمور الّا في فعلتكم الى أوليائكم في الدّين معروفا فانّهم حينئذ يصيرون اولى بتلك الفعلة من اولى الأرحام أو في كلّ حال الّا في حال ان تفعلوا ، أو استثناء منقطع يعنى لكن فعلتكم الى أوليائكم معروفا تكون حسنا والمراد بالفعلة المعروفة الوصيّة وجعل الأولياء أوصياء ، أو الوصيّة بشيء للأولياء (كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً) اى في الكتاب العلوىّ من اللّوحين أو في الكتاب التّدوينىّ

٢٤٢

الالهىّ النّازل إليكم من القرآن والكتب السّالفة (وَإِذْ أَخَذْنا) عطف على في كتاب الله أو على في الكتاب ، أو على مقدّر والتّقدير : النّبىّ اولى بالمؤمنين في ذلك الزّمان وفي وقت أخذنا ميثاق النّبيّين ، أو التّقدير أولوا الأرحام بعضهم اولى ببعض في هذا الزّمان ووقت أخذ الميثاق من النّبيّين ، أو معطوف على مقدّر تقديره : تذكّر ذلك واذكر إذ أخذنا (مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ) في هذا العالم بأخذ الأنبياء وأوصياءهم (ع) بالبيعة منهم الميثاق أو في عالم الذّرّ بأخذنا بأنفسنا ميثاقهم (وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) ذكر هؤلاء الخمسة بعد ذكر الأنبياء عموما للاهتمام بشأنهم لكونهم اولى العزم من الأنبياء (ع) (وَأَخَذْنا) جملة حاليّة بتقدير قد ، أو عطف على أخذنا ، أو مستأنف على مجيء الواو للاستيناف (مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) ضمير منهم راجع الى النّبيّين (ع) أو الى المخصوصين المذكورين بعد النّبيّين (لِيَسْئَلَ) الله أو السّائل (الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ) اى عن كيفيّته ومقداره حتّى يجازيهم بحسبهما (وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) عطف أو حال ولم يقل ويسأل الكافرين أو يعذّب الكافرين للاشعار بانّ سؤال الكافرين وعذابهم ليس من الغايات الذّاتيّة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ناداهم اوّلا تنشيطا لهم حتّى يكونوا على تيقّظ لاستماع ما يأتى (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) يعنى الأحزاب فانّ أبا سفيان جمع الأحزاب من الاعراب قريش والقبائل الّتى كانت حول مكّة وبنى غطفان من النّجد وبنى قريظة وبنى النّضير من حول المدينة (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) شديدة الهبوب بحيث لا تبقى خيمة ولا نارا لهم ، وشديدة البرد بحيث لا يتمالكون من بردها (وَجُنُوداً) من الملائكة (لَمْ تَرَوْها) لعدم إمكان رؤية الملائكة للنّاظر البشرىّ (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً) من حفر الخندق والخروج من المدينة وتجبين بعض لبعض وارادة بعض للفرار وقولهم انّ بيوتنا عورة وما هي بعورة ، وقرئ لما يعملون اى ما يعمله قريش من التّخريب عليكم (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى المدينة وهو جانب المشرق والشّمال (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) وهو جانب المغرب والجنوب فانّ بنى غطفان جاؤا من فوقهم وقريش من اسفلهم (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت وتحيّرت من شدّة الخوف والدّهشة لكثرة الأعداء (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) كناية عن اضطراب القلوب فانّ القلوب عند غلبة الخوف تضطرب وتتحرّك من أسفل الى أعلى ، وإذا أريد المبالغة في اضطرابها يقال بلغت في تحرّكها من أسفل مقامها الى الحناجر (وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأنواع من الظّنّ أو المظنونات العديدة المتخالفة ، وقرئ الظّنون بحذف الالف في الوصل ، وقرئ بحذف الالف في الوصل والوقف ، والمراد بالظّنون ظنّ كذب محمّد (ص) ، وظنّ تكذيب الله لمحمّد (ص) وظنّ الاستيصال ، وظنّ الغارة على المدينة ، وظنّ صدق محمّد (ص) والاطمينان بالله والنّصرة من الله والغلبة على الأعداء وهزيمتهم (هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) بكثرة الجنود من الأعداء مع قلّتهم وبالظّنون المتخالفة وارادة الفرار (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) وكان المنظور من ذلك الابتلاء وهذا الزّلزال خلوص ايمان المؤمن وظهور نفاق المنافق (وَإِذْ يَقُولُ) عطف على إذ جاءتكم (الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظّفر وإعلاء الدّين والسّلطنة على أهل الأرض (إِلَّا غُرُوراً) وعدا مموّها باطلا يغرّنا به (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ) ليس هاهنا مقام قيام لكم (فَارْجِعُوا) الى منازلكم (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) للرّجوع (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا

٢٤٣

عَوْرَةٌ) العورة الخلل في الثّغر وغيره والمعنى انّ بيوتنا ذوات عورة (وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من الزّحف (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ) يعنى لو دخل الأعداء بيوتهم أو المدينة غالبا عليهم (مِنْ أَقْطارِها) من جوانب البيوت أو المدينة (ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ) اى الكفر أو المقاتلة مع المسلمين (لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها) مع الفتنة أو في المدينة أو البيوت أو ما تلبّثوا في إعطاء الفتنة أو بسبب إعطاء الفتنة لعدم وثوقهم بدينهم (إِلَّا يَسِيراً) اى الّا تلبّثا يسيرا أو زمانا يسيرا (وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ) على يد محمّد (ص) (مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به والنّقض له (قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) فانّه لا بدّ من الموت أو القتل لكلّ أحد ولا ينجو أحد من أحدهما (وَإِذاً) يعنى إذا فررتم (لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبّطين عن الغزو وعن الموافقة مع الرّسول (ص) ولفظة قد للتّحقيق (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً) منهم أو اتيانا أو زمانا أو بأسا قليلا والمراد بالبأس الحرب (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) الشّح بالتّثليث البخل والحرص ، وجاء من باب علم ونصر وضرب والمعنى بخلاء على خيركم أو بخلاء ثابتين على ضرركم أو حريصون على ضرركم (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في رؤسهم من شدّة الخوف (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ) نزول (الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) سلقه بالكلام آذاه ، شبّه الالسنة بالاسنّة واثبت لها الحدّة استعارة بالكناية وتشريحا للاستعارة يعنى انّهم جمعوا بين البخل والجبن وشدّة الأذى حين الأمن (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) حال من الالسنة أو من فاعل سلقوكم أو منصوب على الذّمّ (أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) إخلاصا (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) الّتى عملوها في ظاهر الإسلام (وَكانَ ذلِكَ) الحبط (عَلَى اللهِ يَسِيراً يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) بعد ما أرسل الله عليهم الرّيح والملائكة وبعد هزيمتهم لشدّة خوفهم ودهشتهم (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ) كلّ قادم عليهم من المدينة (عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) في الكرّة الثّانيّة أو لو بقوا فيكم ولم يرجعوا الى المدينة في الحال الحاضر (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) وقد ذكر قصّة الأحزاب وجماعاتهم من الاعراب ومجيئهم الى المدينة وقتل عمرو بن عبد ودّ وهزيمتهم وجبن المنافقين من أصحاب رسول الله (ص) وتجبينهم لغيرهم في المفصّلات ، من أراد فليرجع إليها (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) اى خصلة حسنة ينبغي ان يتأسّى بها أو هو من باب التّجريد مثل رأيت بزيد أسدا (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) بدل من قوله تعالى لكم بدل البعض من الكلّ ، أو اللّام للتّبيين بتقدير مبتدء محذوف (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) يعنى تلك الاسوة لا تكون الّا لمن جمع بين رجاء الله وذكره كثيرا وهذه الجملة معترضة بين حكاية حال المسلمين والأحزاب جاء الله بها تلطّفا بالمسلمين وتعريضا بالمنافقين وتذكيرا للخالصين (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ) الخالصون (الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) بخلاف غير الخالصين فانّهم قالوا ما وعدنا الله ورسوله الّا غرورا (وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ)

٢٤٤

جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال الخالصين؟ أيكونون متساوين؟ ـ فقال : من المؤمنين رجال (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) عند البيعة مع محمّد (ص) بالإجابة له في شروطه والمعنى قالوا ما عاهدوه صدقا لا كذبا كالمنافقين أو صدقوا فيما عاهدوه (فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) للنّحب معان كثيرة منها الخطر العظيم والحاجة والوقت والنّوم والشّدّة والمدّة والموت والأجل والنّذر ، والكلّ مناسب هاهنا فانّ المراد قضاء عمره (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) النّحب (وَما بَدَّلُوا) ما عاهدوا الله عليه (تَبْدِيلاً) شيئا من التّبديل ، فيه تعريض باهل النّفاق وقد ورد أخبار كثيرة انّ الآية نزلت في حمزة وجعفر وعبيدة وعلىّ (ع) ، وفي بعض الاخبار انّها نزلت في المؤمنين من شيعة آل محمّد (ص) ، وفي خبر عن الصّادق (ع) المؤمن مؤمنان ، فمؤمن صدق بعهد الله ووفى بشرطه وذلك قول الله عزوجل : رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه وذلك لا يصيبه أهوال الدّنيا ولا أهوال الآخرة وذلك ممّن يشفع ولا يشفع له ، ومؤمن كخامة الزّرع يعوجّ أحيانا ويقوم أحيانا ، فذلك ممّن يصيبه أهوال الدّنيا وأهوال الآخرة ، وذلك ممّن يشفع له ولا يشفع ، وفي خبر عنه (ع) : لقد ذكركم الله في كتابه فقال : من المؤمنين رجال صدقوا (الآية) انّكم وفيتم بما أخذ الله عليه ميثاقكم من ولايتنا وانّكم لم تبدّلوا بنا غيرنا ، وعنه (ع) انّه قال ، قال رسول الله (ص) : يا علىّ (ع) من احبّك ثمّ مات فقد قضى نحبه ، ومن احبّك ولم يمت فهو ينتظر ، وما طلعت شمس ولا غربت الّا ظلّت عليه برزق وايمان (لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ) تعليل لصدقوا ومن الغايات المترتّبة عليه يعنى صدقوا فيصير صدقهم مورثا لان يجزيهم الله أجرهم وان يجعلهم الله ميزانا لنفاق المنافق ويعذّبهم بنفاقهم (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) ان تابوا ورجعوا عن النّفاق الى الصّدق ، أو ان وفّقوا للتّوبة ، أو تعليل لوعدنا الله ، أو لصدق الله ، أو لقوله ما زادهم الّا ايمانا ، وحينئذ يكون أيضا من الغايات المترتّبة عليه ، أو تعليل لقوله لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة أو لقوله جاءتكم جنود أو لارسلنا عليهم ريحا ، أو لكان الله بما تعملون بصيرا أو لجاءوكم من فوقكم أو لابتلى المؤمنون والفاصل لمّا كان من متعلّقات المعلول لم يكن مانعا من تعلّق العلّة بها وعملها فيها (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) تعليل لقوله أو يتوب عليهم (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) حال عن واحدة من الجمل السّابقة المناسبة له أو عطف على قوله قالوا هذا ما وعدنا الله أو على قالت الاعراب أو على يقول أو على ابتلى المؤمنون أو على زلزلوا أو على زاغت الأبصار أو جاؤكم أو جاءتكم يعنى اذكروا نعمة الله إذ ردّ الله الّذين يعنى الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ) حقدهم (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) منكم من ظفر وغنيمة (وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بإرسال الرّيح والملائكة عليهم ، وفي اخبار كثيرة انّ المعنى كفى الله المؤمنين القتال بعلىّ بن ابى طالب (ع) يعنى في تلك الغزوة أو مطلقا فانّه دخل على الكفّار وهن بقتل عمرو بن عبد ودّ وتقوّى المؤمنون ولم يبق لهم حاجة الى القتال بحيث يقتل المؤمنون في القتال ولذلك ورد : ضربة علىّ يوم الخندق أفضل من عبادة الثّقلين (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) لا يمكن لأحد مدافعته وممانعته عن مراده (عَزِيزاً) غالبا كلّ غالب (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) يعنى ظاهروا الأحزاب (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ) وهم بنو قريظة فانّهم نقضوا عهد الرّسول (ص) وظاهروا الأحزاب وقصّتهم وقصّة نقض عهدهم بوسوسة حىّ بن اخطب الّذى كان من بنى النّضير ونزولهم من صياصيهم وقتلهم وأسر نسائهم وذراريهم مذكورة في المفصّلات (وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) وهي

٢٤٥

ارض خيبر افتتحها الله بالصّلح من دون وطئ خيل وجمل بعد بنى قريظة ، وقيل : هي مكّة ، وقيل : هي الرّوم وفارس ، وقيل : هي كلّ ارض تفتح الى يوم القيامة ، وقيل : هي كلّ ما أفاء الله على رسوله (ص) ممّا لم يوجف بخيل ولا ركاب (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً يا أَيُّهَا النَّبِيُ) خطاب آخر خاصّ به (ص) ناداه بعد ما قالت بعض نسائه حفصة أو زينب بنت جحش ان طلّقنا وجدنا أكفاء في قومنا ، وسببه على ما قاله القمىّ انّه لمّا رجع رسول الله (ص) من خيبر وأصاب كنز آل ابى الحقيق قالت أزواجه : أعطنا ما أصبت فقال لهنّ رسول الله (ص) : قسّمته بين المسلمين على ما امر الله فغضبن وقلن لعلّك انّك ترى ان طلّقتنا انّا لا نجد الأكفاء من قومنا يتزوّجونا؟ فانف الله تعالى لرسوله (ص) فأمره الله تعالى ان يعتزلهنّ فاعتزلهنّ رسول الله (ص) في مشربة امّ إبراهيم تسعة وعشرين يوما حتّى حضن وطهرن ثمّ انزل الله هذه الآية فقال : (قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) لا للمسيئات الخارجات بالسّيوف فقامت امّ سلمة اوّل من قامت فقالت : قد اخترت الله واخترت رسوله (ص) فقمن كلّهن فعانقنه وقلن مثل ذلك فأنزل الله تفخيما لشأنه (ص) وتخييرا له ترجى من تشاء منهنّ وتؤوي إليك من تشاء (يا نِساءَ النَّبِيِ) ثمّ قطع مخاطبة النّبىّ (ص) وخاطب أزواجه تفخيما لشأنهنّ من حيث انّهنّ أزواج النّبىّ (ص) (مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ) قبحها أو ظاهرة على الانظار كالخروج بالسّيف وقد فسّرت في الاخبار بالخروج بالسّيف وبالخروج على علىّ (ع) تعريضا بفعلة عائشة (يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) يعنى في الآخرة والّا فعلىّ (ع) أحسن أسرها في الدّنيا بعد ما قاتل وقتل مقاتليها وقال في حقّها : ولها حرمتها ، (وَكانَ ذلِكَ) التّضعيف (عَلَى اللهِ يَسِيراً) ولمّا كان المقام للتّهديد أتى بالتّيسير قبل ذكر تضعيف الأجر للمحسنات منهنّ لئلّا يتوهّم انّه لتضعيف الأجر.

الجزء الثّانى والعشرون

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) من يتواضع أو يطع (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً) ما ، أو صالحا عظيما هو ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) كلّ ذلك بشرافة قرب النّبىّ (ص) فانّ عصيان القريب من الرّسول (ص) أعظم قبحا وطاعته أعظم اجرا (يا نِساءَ النَّبِيِ) تشريف آخر لهنّ بتكرار النّداء والخطاب (لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) بسبب قرب النّبىّ (ص) وشرافته (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) ان كنتنّ على سجيّة التّقوى ، أو اتّقيتنّ سخط الله ، أو اهوية النّفس والطّرق المختلفة النّفسانيّة (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) اى لا تظهرن قولكنّ لمخاطبيكنّ بحيث يظهر معها محبّتكنّ لهم (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) فيكنّ (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) اى بعيدا من الرّيبة (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) قرئ بكسر القاف وحينئذ يجوز ان يكون من الوقار ومن القرار ، وقرئ بفتح القاف وحينئذ يكون من القرار فانّ قرّ استعمل من باب علم ومن باب ضرب (وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) تلويح بعائشة وفعلتها بالنّسبة الى علىّ (ع) فانّه كما روى عن النّبىّ (ص) عاش يوشع بن نون بعد موسى ثلاثين سنة وخرجت عليه صفوراء بنت شعيب زوجة موسى (ع) فقالت : انا احقّ منك بالأمر فقاتلها فقتل مقاتليها وأحسن أسرها ، وانّ ابنة ابى بكر ستخرج على علىّ (ع) في كذا وكذا ألفا من أمّتي فيقاتلها فيقتل مقاتليها ويأسرها ويحسن أسرها

٢٤٦

وفيها انزل الله تعالى : (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) يعنى صفوراء بنت شعيب (ع) (وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما امركنّ ونهيكنّ (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) جواب لسؤال مقدّر كأنّ أهل البيت (ع) سألوا ، ما يريد بأمر نساء النّبىّ (ص) ونهيهنّ والاهتمام بشأنهنّ؟ ـ فقال تعالى في الجواب : انّما يريد الله بالاهتمام بأمر نساء النّبىّ (ص) تطهير أهل بيته الّذين هم أصحاب الكساء ، أو هم الائمّة وشيعتهم فانّ المقصود من جميع الأوامر والنّواهى الّتى وردت في الشّريعة المطهّرة تطهير أهل البيت (ع) يعنى الائمّة وشيعتهم فانّ الكلّ مقدّمة للولاية والبيعة الخاصّة الولويّة ، وصاحبوا الولاية هم الائمّة (ع) وخلفاؤهم ومن أجازوهم لاخذ البيعة أو لتبليغ الأحكام القالبيّة ، وقابلوا الولاية شيعتهم الّذين بايعوا معهم البيعة الخاصّة الولويّة ، وعن طريق العامّة والخاصّة ورد اخبار كثيرة في تفسير أهل البيت بأصحاب الكساء الّذين هم علىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وقد ورد عن طريق الخاصّة : انّها جرت بعدهم في الائمّة (ع) عن الصّادق (ع) انّه قال يعنى الائمّة وولايتهم من دخل فيها دخل في بيت النّبىّ (ص) ولكنّ الله عزوجل انزل في كتابه لنبيّه (ص) انّما يريد الله (الآية) وكان علىّ (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وفاطمة (ع) فأدخلهم رسول الله (ص) تحت الكساء في بيت امّ سلمة ثمّ قال : اللهمّ انّ لكلّ نبىّ أهلا وثقلا ، وهؤلاء أهل بيتي وثقلي ، فقالت امّ سلمة : الست من أهلك؟ فقال انّك على خير ولكن هؤلاء أهلي وثقلي ، وقال في آخر الحديث : الرّجس هو الشّكّ والله لا نشكّ في ربّنا أبدا ، وقد ذكر في المفصّلات الاخبار ، من أراد فليرجع إليها ، وللاشارة الى انّ المقصود أهل البيت (ع) قال : عنكم لا عنكنّ ، وللاهتمام بشأن أهل البيت (ع) وانّ المنظور من تأديب نساء النّبىّ (ص) تطهير أهل البيت جاء بهذه الجملة معترضة بين احكام نساء النّبىّ (ص) (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ) حتّى تكنّ على ذكر من الله (وَالْحِكْمَةِ) حتّى تكنّ حكيمات في اموركنّ (إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) في صنعه (خَبِيراً) أو المراد باللّطف هو الدّقّة في العلم والعمل والجملة جواب لسؤال مقدّر وتعليل لقوله اذكرن ما يتلى (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) وهذا تعليل لما سبق من قوله ومن يقنت منكنّ (الى آخر الآيات) والمراد بالمسلمين صورة من بايع على يد محمّد (ص) أو خلفائه البيعة العامّة النّبويّة بقبول الدّعوة الظّاهرة والانقياد تحت احكام الشّريعة ، وحقيقة من انقاد باطنا تحت احكام الشّريعة بحيث لا يتأتّى منه خلافها ، وبهذا المعنى ورد عن النّبىّ (ص) : المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المؤمن صورة من بايع على يد محمّد (ص) أو خلفائه البيعة الخاصّة الولويّة بقبول الدّعوة الباطنة والانقياد تحت احكام الطّريقة وقبول احكام القلب ، وحقيقة من صار متخلّقا بالأخلاق الحسنة ومتطهّرا من الرّذائل وصار أمينا في قومه رحيما كريما وزينا حيّيا ، الى غير ذلك من الأخلاق ، وبهذا المعنى ورد عن النّبىّ (ص) : المؤمن من امن جاره بوائقه ، وما آمن بى من بات شبعان وجاره طاو ، وورد : المؤمن من ائتمنه المؤمنون على أموالهم وأنفسهم ، وقد سبق في اوّل البقرة تفصيل للإسلام والايمان وانّ الايمان يدخل بسبب كيفيّة في القلب بتلك الكيفيّة يقع نسبة الابوّة والبنوّة بين المؤمن ومن بايع على يده ، ويقع الأخوّة بين البائعين والإسلام ما عليه المناكح والمواريث وحقن الدّماء وأشار اليه تعالى بقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) اى المتواضعين أو القائمين في الصّلوة ، أو المطيعين والمطيعات (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) اى الخارجين في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم وأخلاقهم من الاعوجاج (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ)

٢٤٧

على المصائب أو الطّاعات أو عن المعاصي (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) قد مضى تحقيق معنى الخشوع والفرق بينه وبين الخضوع والتّواضع في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ)(وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) من الاعراض الدّنيويّة والقوى البدنيّة والحشمة والجاه وكلّ ما ينسبه الإنسان الى نفسه ومن انانيّاتهم (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) عن الوجود المنسوب إليهم بانتهاء تقويهم عند ابتداء حشرهم الى الرّحمن (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) فروجهم بعد حشرهم الى اسم الرّحمن بعودهم الى الكثرات وملاحظة العورات الّتى كانت لهم حين رجوعهم الى الحقّ تعالى وغفلتهم عنها (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) روى انّ أسماء بنت عميس لمّا رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن ابى طالب عليه‌السلام دخلت على نساء رسول الله (ص) فقالت : هل فينا شيء من القرآن؟ قلن : لا ، فأتت رسول الله (ص) فقالت : يا رسول الله انّ النّساء لفي خيبة وخسار فقال : وممّ ذلك؟ ـ قالت : لانهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرّجال فأنزل الله تعالى هذه الآية.

اعلم ، انّ الآية اشارة الى جميع مراتب السّلوك بعد الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الولويّة ودخول الايمان في القلب فانّ الإسلام تنبّه وسبب للهداية الى الايمان ولا بدّ من حصوله للإنسان حتّى يحصل له الايمان ، والايمان الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، ونفس تلك البيعة سبب للتّوجّه الى الله ، وبعد التّوجّه الى الله يكون السّلوك الى الطّريق أو الى الله ، واوّل ما يحصل بعد الايمان للسّالك هو المحبّة لله والاستشعار بعظمته وعظمة مظاهره والاستشعار بالهيبة منه ، ويحصل من ذلك الاستشعار التّواضع الّذى هو حالة حاصلة من امتزاج الهيبة والمحبّة مع غلبة الهيبة ، ويحصل من تلك الحالة الطّاعة ، وليس المراد بالقنوت هاهنا الّا التّواضع أو الطّاعة أو القيام في الصّلوة ، وبالقنوت يحصل الخروج من الاعوجاج وبالصّدق والخروج من الاعوجاج يحصل الصّبر في موارده ، وبالصّبر يحصل الخشوع الّذى هو حالة حاصلة من امتزاج الهيبة والمحبّة مع غلبة المحبّة ، وبغلبة المحبّة يحصل التّصدّق وطرح ما يمنع المحبّ عن خدمة المحبوب ، وبذلك الطّرح يحصل الصّوم الّذى هو انتهاء التّقوى ، وبانتهاء التّقوى يحصل الرّجوع والبقاء بعد الفناء ومراعاة حقوق الكثرات من المنع والإعطاء والبذل والحفظ ، وفي مراعاة الكثرات وحقوقها يحصل الذّكر الكثير ، فانّ الذّكر الكثير هو الّذى يكون بتذكّر الأمر والنّهى الالهيّين عند كلّ فعل ، ولا يكون ذلك الّا بعد الرّجوع الى الكثرات بالله وهو آخر الاسفار الّتى تكون للسّلّاك (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) عطف على مقدّر مستفاد من السّابق كأنّه قال : فما كان لمؤمن ولا مؤمنة ان يدعوا تلك المغفرة العظيمة وذلك الأجر العظيم وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اى ما صحّ وما جاز (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) اى حكم الله أو حتم أو بيّن (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) اسم للاختيار ويقع على المختار أيضا (مِنْ أَمْرِهِمْ) لانّهما اولى بهم وابصر بأمرهم وارحم بهم منهم نزلت حين خطب الرّسول زينب بنت جحش لزيد مولاه وغضبت هي وأخوها وقالت : بنت عمّتك تنكحها لمولاك؟ فلمّا نزلت قالت : رضيت وجعلت أمرها بيده ، وقيل : نزلت في امّ كلثوم بنت عقبة بن ابى معيط وكانت وهبت نفسها للنّبىّ (ص) فقال : قد قبلت وزوّجها زيد بن حارثة فسخطت هي وأخوها وقالا : انّما أردنا رسول الله فزوّجنا عبده فنزلت : وقد مضى في سورة القصص انّ نزول الآية ان كانت في شيء غير الخلافة فالمنظور منها الخلافة يعنى ما كان لأحد ان يختار الامام من عند نفسه على من اختاره الله ورسوله (ص) للامامة (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) في ما يختارانه لهم يعنى في الامامة الّتى يختارانها لهم (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً وَإِذْ تَقُولُ) عطف على مقدّر عامّ أو خاصّ والتّقدير

٢٤٨

ما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله امرا ان يكون لهم الخيرة من أمرهم في اىّ وقت كان أو في وقت نصب علىّ (ع) بالخلافة ، وإذ تقول (لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ) بالإسلام والتّوفيق لاطاعتك وخدمتك (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بالعتق والزّوجة وبذل ما يحتاج اليه (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) مع انّك علمت انّ مختار الله ومختارك ان تصير زينب زوجتك (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) من كون نكاح زينب منك مختارك ومختار الله (وَتَخْشَى النَّاسَ) وملامتهم بان يقولوا يتمنّى زوجة الغير (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) ان كان هذا ممّا يخشى ، روى عن السّجّاد (ع) انّ الّذى أخفاه في نفسه هو انّ الله سبحانه أعلمه انّها ستكون من أزواجه وانّ زيدا سيطلّقها فلمّا جاء زيد وقال له : أريد ان اطلّق زينب ، قال له : أمسك عليك زوجك فقال سبحانه : لم قلت : أمسك عليك زوجك؟ وقد أعلمتك انّها ستكون من أزواجك (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) حاجة كانت له إليها وملّها وطلّقها وانقضت عدّتها (زَوَّجْناكَها) وفي قراءة أهل البيت (ع) زوّجتكها وهذا ادلّ على تعظيمه (ص) فانّه ادلّ على مباشرة التّزويج بنفسه دون سفرائه وخلفائه (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) اى فيما قدّر الله له قدرا حتما فانّه تعالى قدّر له (ص) قدرا حتما ان تكون زينب من أزواجه ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال زوّج رسول الله (ص) زينب زيدا فمكث عند زيد ما شاء الله ثمّ انّهما تشاجرا في شيء الى رسول الله (ص) فنظر إليها رسول الله فأعجبته فقال زيد : يا رسول الله (ص) أتأذن لي في طلاقها فانّ فيها كبرا وانّها لتؤذينى بلسانها؟ ـ فقال رسول الله (ص) : اتّق الله وأمسك عليك زوجك وأحسن إليها ، ثمّ انّ زيدا طلّقها وانقضت عدّتها فأنزل الله عزوجل نكاحها على رسوله (ص) ، وعن الرّضا (ع) في حديث انّ الله تعالى عرّف نبيّه (ص) أسماء أزواجه في دار الدّنيا وأسماء أزواجه في الآخرة وانّهنّ أمّهات المؤمنين واحد من سمّى له زينب بنت جحش وهي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى (ص) اسمها في نفسه ولم يبده لكي لا يكون أحد يقول من المنافقين انّه قال في امرأة في بيت رجل انّها أحد أزواجه من أمّهات المؤمنين وخشي قول المنافقين قال الله عزوجل : وتخشى النّاس والله احقّ ان تخشاه يعنى في نفسك وانّ الله عزوجل ما تولّى تزويج أحد من خلقه الّا تزويج حوّاء من آدم (ع) ، وزينب من رسول الله بقوله عزوجل : فلمّا قضى زيد منها وطرا زوّجناكها ، وفاطمة (ع) من علىّ (ع) ، وعنه (ع) : انّ رسول الله (ص) قصد دار زيد بن حارثة في امر اراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها : سبحان الله الّذى خلقك وانّما أراد بذلك تنزيه الله عن قول من زعم انّ الملائكة بنات الله (الى ان قال) فقال النّبىّ (ص) لمّا رآها تغتسل : سبحان الله الّذى خلقك ان يتّخذ ولدا يحتاج الى هذا التّطهير والاغتسال ، فلمّا عاد زيد ما الى منزله أخبرته امرأته بمجيء الرّسول (ص) وقوله لها : سبحان الله الّذى خلقك فلم يعلم زيد ما أراد بذلك فظنّ انّه قال ذلك لما أعجب من حسنها ، فجاء الى النّبىّ (ص) فقال : يا رسول الله (ص) انّ امرأتى في خلقها سوء وانّى أريد طلاقها ، فقال له النّبىّ (ص) : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) (الآية) وقد كان الله عزوجل عرّفه عدد أزواجه وانّ تلك المرأة منهنّ فأخفى ذلك في نفسه ولم يبده لزيد وخشي النّاس ان يقولوا : انّ محمّدا يقول لمولاه انّ امرأتك ستكون لي زوجة ، فيعيبونه بذلك فأنزل الله وإذ تقول (الآية) ثمّ انّ زيد بن حارثة طلّقها واعتدّت منه فزوّجها الله تعالى من نبيّه وانزل بذلك قرآنا فقال عزوجل : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) (الآية) ثمّ علم عزوجل انّ المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل ما كان على النّبىّ من حرج فيما فرض الله له (سُنَّةَ اللهِ) سنّ ذلك المذكور من تزويج أزواج الأدعياء أو من رفع الحرج فيما فرض لهم وأباح سنّة (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) يعنى في الأنبياء الّذين خلوا من قبلك بقرينة الّذين

٢٤٩

يبلّغون (الى آخره) (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) يعنى انّ امره قدّر سابقا في الألواح بحيث لا يكون فيه تخلّف فما لهم يلومون في امر يكون قدرا مقدورا غير متخلّف عنه (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) صفة أو بدل من الّذين خلوا ، أو خبر مبتدء محذوف ، أو مفعول فعل محذوف ، أو مفعول فعل محذوف (وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) فينبغي ان لا يخشى الّا منه (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) قد مضى بيان هذه الكلمة في اوّل السّورة عند قوله : وأزواجه أمّهاتهم ولمّا توهّم من نفى ابوّته لرجالهم انتفاء النّسبة بينه وبين أمّته استدرك ذلك بانّه (ص) ما كان أبا أحد من رجالكم الجسمانيّين ولكنّه أب لامّته من حيث انّهم مؤمنون ورجال ونساء روحانيّون فقوله تعالى (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) واقع موقع قوله تعالى ولكنّه ابو رجاله الرّوحانيّين (وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) هذه الكلمة للتّرقّى عن كونه أبا لامّته فكأنّه قال : بل هو أب لجميع المرسلين وأممهم لانّه خاتمهم والخاتم ينبغي ان يكون محيطا بالكلّ ومنسوبا الى الكلّ نسبة الأب الى الأولاد ، وقرئ هذه الكلمة بكسر التّاء وفتحها (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) لا أنتم فيعلم هو النّسبة الجسمانيّة والرّوحانيّة بين الأشياء ويعلم مقدار كلّ وحكم كلّ بحسبه وقدره لا أنتم فلا تقولوا لما يحكم الله به : لم كان كذا؟ أو لو لم يكن ذلك كذلك! فانّه ردّ من الجاهل على العالم ، أو تأمّل من الجاهل في حكم العالم (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) قد مضى في سورة البقرة بيان الذّكر ومراتبه وأنواعه ، عن الصّادق (ع) ما من شيء الّا وله حدّ ينتهى اليه الّا الذّكر فليس له حدّ ينتهى اليه (الى ان قال) فانّ الله عزوجل لم يرض منه بالقليل ولم يجعل له حدّا ينتهى اليه ثمّ تلا هذه الآية ، وعنه (ع) : تسبيح فاطمة الزّهراء من الذّكر الكثير الّذى قال الله : اذكروا الله ذكرا كثيرا ، وفي خبر : من ذكر الله في السّرّ فقد ذكر الله كثيرا (وَسَبِّحُوهُ) بالقول والفعل (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) اشارة الى استغراق الأوقات ، أو المراد التّسبيح في هذين الوقتين لشرافتهما ، وذكر التّسبيح بعد الذّكر تخصيص بعد التّعميم ، أو تقييد بعد الإطلاق ان أريد بالذّكر الذّكر اللّفظىّ أو النّفسىّ وبالتّسبيح أيضا التّسبيح القولىّ أو النّفسىّ لا التّنزيه الفعلىّ وقد مضى الفرق بين التّسبيح والتّقديس في سورة البقرة عند قوله تعالى : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) ومضى في مطاوى ما سلف انّ المراد بتسبيح الرّبّ وتسبيح اسمه وبتسبيح الله هو تنزيه اللّطيفة الانسانيّة الّتى هي اسم للرّبّ بوجه وربّ بوجه ومظهر لله بوجه واله بوجه عن حدودها ونقائصها ، وجملة الأعمال والأقوال الشّرعيّة مقدّمة لهذا التّنزيه كما انّ جملة الرّياضات والمجاهدات وسائر الأعمال القلبيّة نفس ذلك التّنزيه (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) اى يرحمكم أو ينزّل الرّحمة عليكم (وَمَلائِكَتُهُ) يعنى ويستغفر لكم ملائكته فانّ الصّلوة من العباد الدّعاء ومن الله الرّحمة ومن الملائكة الاستغفار ، وهذه الكلمة في موضع التّعليل للأمر بالذّكر الكثير (لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات نقائص المادّة وحدود الطّبع واهوية النّفس ورذائلها (إِلَى النُّورِ) اى نور الايمان والطّاعة والأخلاق الحسنة ونور عالم الإطلاق (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) لانّ فعليّتهم الاخيرة الّتى هي عبارة عن صورة نازلة عن ولىّ أمرهم رحمة من الله وجاذبة لرحمة اخرى منه كما انّها ولىّ أمرهم بوجه (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) اى يلقون حسابه وحسّابه أو يلقون مظاهره وائمّتهم (ع) لانّ المؤمن بعد طىّ البرازخ يلقى امامه سواء كان طىّ البرازخ بالاختيار وبالسّلوك حتّى حضروا عند امامهم في الدّنيا ، أو بالاضطرار ووصولهم الى الأعراف وحضورهم عند امامهم في الآخرة (سَلامٌ) لانّ المؤمن بعد الحضور عند امامه يصير سالما من جميع الآفات والنّقائص ، واضافة التّحيّة الى الضّمير من قبيل اضافة المصدر الى الفاعل أو الى المفعول اى تحيّة بعضهم لبعض ، أو تحيّة الله وملائكته لهم والجملة حاليّة أو مستأنفة

٢٥٠

معترضة جواب لسؤال مقدّر (وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) لا منّة فيه ولا نقص (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) متحمّلا للشّهادة ممّن أرسلت إليهم وعليهم ، أو مقدّرا لتأدية الشّهادة عليهم ولهم ، أو حاضرا عليهم في أعمالهم (وَمُبَشِّراً) للمؤمنين (وَنَذِيراً) للكافرين (وَداعِياً إِلَى اللهِ) لكلّ النّاس (بِإِذْنِهِ) قيّد الدّعاء بقوله باذنه اشعارا بانّ الدّعاء إذا لم يكن بإذن من الله كان ضلالا واضلالا (وَسِراجاً مُنِيراً) يستضاء بك ويستنير البصائر منك (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف تقديره فأنذر الكافرين وادع النّاس أجمعين وبشّر المؤمنين (بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) واقتصر على ذكر المعطوف اشعارا بانّ المقصود بالذّات هو تبشير المؤمنين (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) فيما يقولون في حقّ فقراء المؤمنين ، أو في ترك التّعرّض لأصنامهم ، أو في حقّ علىّ (ع) وخلافته (وَدَعْ أَذاهُمْ) هذه الكلمة اسم مصدر لإيذاء ومضاف الى الفاعل أو الى المفعول (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) في كلّ أمورك (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها) اى ايّام عديدة تعدّونها عليهنّ (فَمَتِّعُوهُنَ) وجوبا بنصف ما فرضتم ان كنتم فرضتم لهنّ فريضة أو بما يتمتّع أمثالهنّ ان لم تكونوا فرضتم لهنّ فريضة ، أو متّعوهنّ استحبابا بعد ما ادّيتم إليهنّ نصف مهرهنّ أو نصف مهر الأمثال (وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) اى طلّقوهنّ أو ارسلوهنّ من بيوتكم من غير أذى ومنع حقّ (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) اى مهورهنّ فانّ المهر أجر للبضع (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ) أفرد العمّ والخال دون العمّة والخالة لارادة الجنس من الخال والعمّ وتوهّم الإفراد من العمّة والخالة لو افردتا لوجود التّاء الّتى توهم الإفراد (اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) القيود الثّلاثة ليست قيودا للإحلال لما سيأتى من الاخبار انّ الله تعالى أحلّ له ما شاء من النّساء وانّما ذكر القيود تشريفا له (ص) في الاوّلين وتشريفا للنّساء في الأخير ، وقيل : انّها قيود للإحلال ، ونقل عليه خبر من طريق العامّة وانّما ذكر إحلال الأزواج مع انّهنّ كن محلّلات له وكنّ في بيوته رفعا لما قال بعض وتوهّم بعض من انّه (ص) حرّم على أمّته أزيد من اربع ونكح هو أزيد من اربع ولا ينبغي ان يكون كذلك ، والدّليل عليه قوله قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم معترضة بين بيان إحلال أزواجه (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) التفت من الخطاب الى الغيبة اشعارا بانّ هذا الحكم لشرافة النّبوّة (إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ) تأكيد لما استفيد من اختصاص هذا الحكم بحيثيّة النّبوّة ، وخالصة مصدر لمحذوف اى خلص هذا الحكم خلوصا لك ، أو اسم فاعل والتّاء للمبالغة وحال عن محذوف اى قلنا هذا الحكم خالصة ، أو حكمنا هذا الحكم خالصة ، أو التّاء للتّأنيث والتّقدير ذكرنا هذه الهبة خالصة لك ، وغير ما ذكر من وجوه اعرابها ضعيف جدّا (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) الظّرف حال من الضّمير المجرور في لك ، عن الباقر (ع) : جاءت امرأة من الأنصار الى رسول الله (ص) فدخلت عليه في منزل حفصة والمرأة متلبّسة متمشّطة فقالت : يا رسول الله (ص) انّ المرأة لا تخطب الزّوج وانا امرأة أيّم لا زوج لي منذ دهر ولا ولد فهل لك من حاجة؟ فان يك فقد وهبت نفسي لك ان قبلتني ، فقال لها رسول الله (ص) خيرا ودعا لها ، ثمّ قال : يا أخت الأنصار جزاكم الله عن رسول الله خيرا فقد نصرني رجالكم ورغبت فيّ نساؤكم ، فقالت لها : حفصة ما اقلّ حياءك واجرأك وانهمك للرّجال. ،! فقال لها رسول الله (ص) :

٢٥١

كفّى عنها يا حفصة ، فانّها خير منك رغبت في رسول الله فلمتها؟! وعيّبتها؟! ثمّ قال للمرأة انصرفي رحمك الله ، فقد أوجب الله لك الجنّة لرغبتك فيّ وتعرّضك لمحبّتى وسروري ، وسيأتيك أمري ان شاء الله ، فأنزل الله عزوجل وامرأة مؤمنة (الآية) قال فأحلّ الله عزوجل هبة المرأة نفسها لرسول الله (ص) ولا يحلّ ذلك لغيره وقد ذكر انّ هذا الحكم من خصائصه (ص) وليس لغيره ان ينكح بهبة المرأة نفسها من دون مهر ، وقيل : انّ الرّسول (ص) لم يكن عنده امرأة وهبت نفسها له ، وقيل : بل كانت عنده ميمونة بنت الحارث بالهبة ، وقيل : هي زينب بنت خزيمة المكنّاة بامّ المساكين ، وقيل : كانت امرأة من بنى أسد يقال لها امّ شريك ، وقيل : كانت خولة بنت حكيم ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : تزوّج رسول الله (ص) بخمس عشرة امرأة ودخل بثلاث عشرة منهنّ ، وقبض عن تسع فامّا اللّتان لم يدخل بهما فعمرة والشّنباء ، وامّا الثّلاث عشرة اللّاتى دخل بهنّ فأولهنّ خديجة بنت خويلد ثمّ سودة بنت زمعة ثمّ امّ سلمة واسمها هند بنت ابى أميّة ، ثمّ امّ عبد الله عائشة بنت ابى بكر ، ثمّ حفصة بنت عمر ، ثمّ زينب بنت خزيمة بن الحارث امّ المساكين ، ثمّ زينب بنت جحش ، ثمّ امّ حبيبة رملة بنت ابى سفيان ، ثمّ ميمونة بنت الحارث ، ثمّ زينب بنت عميس ، ثمّ جويرية بنت الحارث ، ثمّ صفيّة بنت حىّ بن اخطب ، والّتى وهبت نفسها للنّبىّ خولة بنت حكيم السّلمى وكان له (ص) سريّتان يقسم لهما مع أزواجه مارية القبطيّة وريحانة الخندفيّة ، والتّسع اللّواتى قبض عنهنّ عائشة ، وحفصة ، وامّ سلمة ، وزينب بنت جحش ، وميمونة بنت الحارث ، وامّ حبيبة بنت ابى سفيان ، وصفيّة وجويريّة وسودة ، وافضلهنّ خديجة بنت خويلد ، ثمّ امّ سلمة ، ثمّ ميمونة (قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي) حقّ (أَزْواجِهِمْ) من العدد والقسم (وَما مَلَكَتْ) اى في حقّ ما ملكت (أَيْمانُهُمْ) من الإماء من التّوسعة عليهنّ في المعيشة وعدم التّضييق عليهنّ في الخدمة والاقتصار على المملوكة ان لم يطيقوا الحرّة والاقتصار على حرّة واحدة ان خافوا عدم العدالة وهذه الجملة معترضة وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم احلّت للرّسول (ص) أزيد من الأربع ولم يحلّ لامّته أزيد منها؟ بل لم يحلّ لهم أكثر من واحدة ان خافوا ان لا يعدلوا؟ ـ فقال : قد علمنا سبب ذلك فيه وفيهم وليس هذا الحكم فيه وفيهم من غير سبب واستحقاق والجاهلون للأسباب يلومونه على ما فرض الله عليه (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) متعلّق بأحلّ أو بخالصة لك أو بعامل امرأة مؤمنة يعنى انّك خرجت من التّقييد وصرت مطلقا ولا ينبغي ان يكون عليك حرج فيما أردت (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) فيغفر ما يلزمك من تعدّد الأزواج من تكدّر قلبك بالكثرات وتعدّد الأزواج ، أو يغفر لمن يلومك في تعدّد الأزواج من جهله بسببه (رَحِيماً) يرحمك فيحفظك ممّا يشينك في الدّنيا من تعدّد الأزواج ، أو يرحمك في الآخرة بالتّوسعة عليك في مقاماتك ، أو يرحمهم فيحفظهم ممّا يخرجهم من الايمان في ملامتك ، أو يرحمهم في الآخرة (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) قد مضى سبب نزول هذه الآية عند قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) (الآية) والمعنى تقدّم من تشاء من نسائك في المضاجعة والإيواء إليك من غير نظر الى القسم فيكون الآية توسعة عليه في القسم بين نسائه ، أو المعنى تعزل من تشاء منهنّ بغير طلاق وتردّ إليك من تشاء بعد عزلك تسعة وعشرين يوما ، أو المعنى تطلّق من تشاء وتمسك من تشاء ، أو المعنى تترك نكاح من شئت من نساء أمّتك وتنكح من شئت منهنّ ، وعلى اىّ تقدير فالجملة جواب لسؤال مقدّر وتوسعة له (ص) بالنّسبة الى أزواجه ونكاحه ، وهل كان تخييره لنسائه بين اختيار الدّنيا واختيار الله ورسوله (ص) طلاقا لهنّ بعد اختيارهنّ الدّنيا أو كنّ محتاجات الى الطّلاق وكذلك عزله (ص) وارجاؤه لهنّ؟ فعن الباقر (ع) انّه سئل عن رجل خيّر امرأته فاختارت نفسها بانت؟ ـ قال : لا ، انّما هذا شيء كان لرسول الله (ص) امر بذلك ففعل ، ولو اخترن انفسهنّ لطلّقهنّ وهو قول الله تعالى : قل لأزواجك ان كنتنّ (الآية) (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) من دون عقد جديد (ذلِكَ)

٢٥٢

التّخيير والتّوسعة عليك ، أو ذلك الاذن في ترك القسم والتّسوية بينهنّ ، أو ذلك الاذن في ابتغاء من عزلت ، أو ذلك الاذن في نكاح الواهبات لانفسهنّ وتركك لنكاحهنّ (أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَ) اى أعين أزواجك (وَلا يَحْزَنَ) بترك القسم لهنّ وترك التّسوية بينهنّ (وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) قرئ تقرّ من الثّلاثىّ المجرّد مبنيّا للفاعل ، وقرئ من باب الأفعال مبنيّا للمفعول ، واعينهنّ بالرّفع فيهما ، وقرئ من باب الأفعال مبنيّا للفاعل ، واعينهنّ بالنّصب ، وقرئ كلّهنّ بالرّفع تأكيدا لضمير يرضين ، وبالنّصب تأكيدا لضمير آتيتهنّ (وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) جمع أزواجه أو أمّته أو الجميع معه (ص) في الخطاب ، أو صرف الخطاب عنه الى أمّته ، أو الى أمّته وأزواجه (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) عطف بمنزلة التّعليل (حَلِيماً) فلا يعاجلكم بعقوبة ما في قلوبكم لحلمه ، لا لجهله ، ولا لعجزه (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) اى من بعد الأجناس المذكورة في الآية السّابقة كما قيل وكما هو ظاهر الآية (وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) أخر غير المذكورات في الآية السّابقة ، وقيل : انّ منعه من نكاح غيرهنّ ومن تبديلهنّ مكافاة لهنّ على اختيارهنّ الله ورسوله (ص) ، وقد ورد في اخبار كثيرة مضمون ما ورد عن الباقر (ع) من انّه انّما عنى به لا يحلّ لك النّساء الّتى حرّم الله عليك في هذه الآية (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ) (الى آخرها) ولو كان الأمر كما يقولون كان قد أحلّ لكم ما لم يحلّ له لانّ أحدكم يستبدل كلّما أراد ولكنّ الأمر ليس كما يقولون من الله عزوجل أحلّ لنبيّه ان ينكح من النّساء ما أراد الّا ما حرّم في هذه الآية في سورة النّساء ، وفي بعض الاخبار : أحاديث آل محمّد (ص) خلاف أحاديث النّاس (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) حتّى على عدد الأزواج بالنّسبة إليك والى أمّتك ، والحصر في العدد والاقتصار على اشخاص معنيّة من دون الزّيادة عليهنّ ومن دون استبدالهنّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تأديب للامّة كيف ينبغي ان يعاملوا الرّسول (ص) الّذى هو أب لهم؟ وكيف يكون معاملتهم مع أزواجه؟ (لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) لعلّهم كانوا يدخلون بيوت النّبىّ (ص) وبيوت بعضهم من غير اذن واستيناس فنزلت هذه الآية وآية الأمر بالاستيناس (إِلى طَعامٍ) تعدية الاذن ب إلى لتضمين معنى الدّعوة (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) اى إدراكه ونضجه يعنى لا تدخلوا بعد الدّعوة قبل نضج الطّعام وإدراكه للأكل ، فانّ ذلك يضيّق المنزل عليه وعلى أهل بيته (وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) لما ذكر من تضييق المنزل عليه وعلى أهل بيته (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) اى لحديث محمّد (ص) أو لحديث بعضكم بعضا وهو عطف على غير ناظرين اناه ، أو حال عن عامل محذوف والتّقدير ولا تمكثوا مستأنسين لحديث (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لما ذكر من تضييق المنزل ولانّه ربما يريد الخلوة في بيته أو مع بعض نسائه (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) في ان يأمركم بالخروج (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) فيأمركم بعدم اللّبث عنده (وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً) اى نساء النّبىّ (ص) (فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) عن القمىّ انّه لمّا تزوّج رسول الله (ص) بزينب بنت جحش وكان يحبّها فأولم ودعا أصحابه وكان أصحابه إذا أكلوا يحبّون ان يتحدّثوا عند رسول الله (ص) وكان يحبّ ان يخلو مع زينب فانزل الله عزوجل : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) (الى قوله) (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) وذلك انّهم كانوا يدخلون بلا اذن ، وعن الصّادق (ع) : كان جبرئيل إذا أتى النّبىّ (ص) قعد بين يديه قعدة العبد وكان لا يدخل حتّى يستأذنه وكانت النّساء قبل ذلك يبرزن للرّجال الأجانب من غير حجاب كما

٢٥٣

كانت النّساء يبرزن في الملل الباطلة للرّجال من غير حجاب ولا شكّ انّ دواعي الرّيبة تكون أكثر إذا كنّ بلا حجاب (ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ) من الرّيبة (وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) عطف للتّعليل للجمل السّابقة وللتّمهيد لما يأتى (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) لما سبق انّ أزواجه أمّهاتهم (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) كارادة نكاحهنّ بان تقولوا بألسنتكم (أَوْ تُخْفُوهُ) بان لا تظهروه بألسنتكم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) تهديد ووعيد ، عن القمىّ في نزول الآية : انّه لمّا انزل الله النّبىّ اولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمّهاتهم ، غضب طلحة فقال يحرّم محمّد (ص) علينا نساءه ويتزوّج هو بنسائنا ، لئن أمات الله محمّدا (ص) لنركضنّ بين خلاخيل نسائه كما ركض بين خلاخيل نسائنا ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) (الآية) ولا اختصاص لهذا الحكم بالمدخول بهنّ فان المعقودة الغير المدخول بها في حكم أزواج الآباء ، قيل : لمّا قبض رسول الله (ص) وولّى النّاس ابو بكر أتته العامريّة والكنديّة اللّتان لم يدخل بهما رسول الله (ص) وألحقهما باهلهما وقد خطبتا ، فاجتمع أبو بكر وعمر وقالا لهما اختارا ان شئتما الحجاب وان شئتما الباه فاختارتا الباه فتزوّجتا فجذم أحد الزّوجين وجنّ الآخر. وقد روى انّ هذا الحكم يجرى في الوصىّ أيضا يعنى لا يجوز لمن آمن به ان ينكح زوجه (لا جُناحَ عَلَيْهِنَ) استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل حكم الحجاب جار في المحارم؟ أو جواب لسؤال مذكور على ما روى انّه لمّا نزلت آية الحجاب قال الأقارب : يا رسول الله (ص) أو نكلّمهنّ نحن أيضا من وراء حجاب؟ فقال : لا جناح عليهنّ (فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَ) اى النّساء المؤمنات (وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) قد مضى في سورة النّور بيان نسائهنّ وبيان ما ملكت ايمانهنّ (وَاتَّقِينَ اللهَ) صرف الخطاب عن المؤمنين إليهنّ تنشيطا لهنّ للايتمار (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً) حتّى على نيّتكنّ وإبداء زينتكنّ (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ) استيناف جواب لسؤال ناش من الاهتمام بشأن النّبىّ (ص) وتفخيمه واسترضائه كأنّه قيل : ما بال النّبىّ (ص) وقد بالغ الله في تعظيمه وتحفّظ نسائه؟! أو ابتداء كلام منقطع عن سابقه وتمهيد لأمر المؤمنين بالصّلوة عليه (يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ).

اعلم ، انّ الاخبار في فضيلة الصّلوة على محمّد وآل محمّد وانّها أفضل من جملة الاذكار من طريق الخاصّة والعامّة أكثر من ان تحصى ، ففي بعض الاخبار : من صلّى عليه في دبر كلّ صلوة الصّبح وصلوة المغرب قضى الله له مائة حاجة ، سبعين في الدّنيا وثلاثين في الآخرة ، وفي بعضها : انّ ملكا قائم الى يوم القيامة ليس أحد من المؤمنين يقول : صلّى الله على محمّد وآله وسلّم الّا وقال الملك : وعليك السّلام ، ثمّ يقول الملك : يا رسول الله (ص) انّ فلانا يقرئك السّلام فيقول رسول الله (ص) : وعليه‌السلام ، وفي بعضها : كلّ دعاء محجوب عن السّماء حتّى يصلّى على محمّد وآل محمّد ، وفي بعضها : إذا كان ليلة الجمعة نزل من السّماء ملائكة بعدد الذّرّ في أيديهم أقلام الذهّب على محمّد الفضّة لا يكتبون الى ليلة الّسبت الّا الصّلوة على محمّد وآل محمّد ، وفي بعضها : ثواب الصّلوة عليه وآله الخروج من الذّنوب كهيئة يوم ولدته أمّه ، وفي بعضها : لم يبق عليه من ذنوبه ذرّة ، وفي بعض : من صلّى على محمّد وآل محمّد عشرا صلّى الله عليه وملائكته ألفا ، وفي بعضها : من صلّى على النّبىّ صلوة واحدة صلّى الله عليه الف صلوة في الف صفّ من الملائكة ، ولم يبق شيء ممّا خلق الله الّا صلّى على العبد لصلوة الله وصلوة ملائكته ، فمن لم يرغب في هذا فهو جاهل مغرور قد برأ الله منه ورسوله (ص) وأهل بيته (ع) ، وفي بعضها : ما في الميزان شيء أثقل من الصّلوة على محمّد وآل

٢٥٤

محمّد ، وفي بعضها : من صلّى علىّ ولم يصلّ على آلى لم يجد ريح الجنّة وانّ ريحها ليوجد من مسيرة خمس مائة عام ، وفي بعضها : إذا صلّيت العصر يوم الجمعة فقل : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الأوصياء المرضيّين بأفضل صلواتك ، وبارك عليهم بأفضل بركاتك ، والسّلام عليهم وعلى أرواحهم وأجسادهم ورحمة الله وبركاته ، فانّ من قالها بعد العصر كتب الله عزوجل له مائة الف حسنة ومحا عنه مائة الف سيّئة ، وقضى له بها مائة الف حاجة ، ورفع له بها مائة الف درجة ، وفي بعضها : صلّت الملائكة علىّ وعلى علىّ (ع) سبع سنين وذلك انّه لم يصلّ معى أحد غيره ، وفي بعضها : صلّ على النّبىّ (ص) كلّما ذكرته ، أو ذكره ذاكر عندك في أذان وغيره ، وقد أفتى كثير بوجوب الصّلوة عليه إذا ذكرته أو ذكره ذاكر عندك ،

فضيلة الصّلوة على النّبىّ (ص) واسرارها

وقد اختلف الاخبار في بيان اللّفظ الّذى يصلّى به عليه ، ويستفاد من جملتها واختلافها انّ المقصود هو التّوجّه والإقبال عليه على سبيل التّعظيم ولا اعتبار لخصوصيّة لفظ مخصوص في ذلك ولذلك اختلف الاخبار في تعيين اللّفظ ، والسّرّ في فضل الصّلوة والاهتمام بها والتّأكيد فيها عند ذكر محمّد (ص) وتفضيلها على سائر الاذكار كما أشير اليه في الاخبار انّ اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة الّتى هي الامانة العظمى الّتى أخرجها الله من خزانته الخاصّة به وامرّها على سماوات الأرواح والعقول والنّفوس وعلى أراضي الأشباح النّوريّة والأشباح الطّبيعيّة الّتى يعبّر عنها بالسّماوات الطّبيعيّة والأراضي الطّبيعيّة وجبال المواليد ، فأبين ان يحملنها لما رأين انّها من مقام الإطلاق وليس لائقا لحملها الّا ما فيه استعداد الخروج من مقام التّقيّد والحدود والوصول الى مقام الإطلاق والوجوب ، ورأين انّ كلّا منهنّ له مقام معلوم وحدّ مخصوص ليس له استعداد الخروج من ذلك المقام وهذا الحدّ ، بخلاف هيكل الإنسان ومادّة صاحب النّطق والبيان فانّه كان فيه استعداد الخروج من الحدّ والوصول الى الإطلاق فحملها الإنسان انّه كان ظلوما على جميع حدوده وتعيّناته جهولا لجميع الكثرات وحقوقها عند ظهور سلطان الله ووصول الامانة الى الخزانة وبعد الحمل رأى انّ لها سرّاقا من عالم الجنّة والشّياطين يترصّدون الفرصة لسرقتها وقطع طريقها ، وانّه لا يمكنه حفظها بدون معاون من سنخ الجنّة والشّياطين ، فسأل الله بلسان حاله حفّاظا ومعاونين فأجابه الله تعالى ووكلّ عليه من عالم الملائكة ما يكفيه في حفظها ، ورأى انّ لها سرّاقا من الشّياطين الانسيّة فسأل معاونين من اسناخهم فأجابه الله تعالى وأرسل الأنبياء والرّسل وخلفاءهم (ع) ليكونوا معاونين له في حفظها وإيصالها الى الخزانة ، وأمرهم بإعانة العباد وامر العباد باتّباعهم ، ولمّا كانت الاعانة والاتّباع في ذلك لم يكن ممكنا الّا بالاتّصال الرّوحانىّ بخلفاء الله (ع) ودخول الحافظ الّذى هو صورة نازلة منهم في قلوب العباد وهو المعبّر عنه بالايمان الدّاخل في القلب وذلك الاتّصال وهذا الدّخول اى دخول الحافظ في قلوب العباد لا يمكن الّا بالاتّصال الصّورىّ والتّوجّه التّامّ من الخلفاء والاستغفار للعباد والتّوبة والانقياد التّامّ من طرف العباد وهذه هي البيعة الّتى كانت معمولة من لدن آدم (ع) الى زمان الخاتم (ص) وكانت مقرّرة عندهم بشرائطها ، وما لم يكن العباد يبايعون احدى البيعتين لم يكونوا داخلين في الدّين ولم يسمّوا مسلمين ولا مؤمنين ، وإذا كان واحد منهم يبايع احدى البيعتين لم يكن له عمل أعظم من التّوجّه الى من بايع معه والنّظر اليه والجلوس معه والخدمة والتّعظيم له والتّأمّل في شؤنه وجذبه بحسب روحانيّته الى نفسه وانجذاب نفسه بكثرة تذكّر شؤنه اليه.

ولمّا كان محمّد (ص) أصل جميع الخلفاء وكلّ الخلفاء كانوا اظلاله وشؤنه كان كلّما يحصل من جميع الخلفاء (ع) يحصل منه (ص) ، وكلّما يلزم لجميع الخلفاء من النّظر والخدمة والتّعظيم والتّذكّر والتّأمّل في شؤنهم يلزم له وحده ، وكان كلّ من بايع وأحدا من الخلفاء كان كمن بايع محمّدا (ص) فكان كلّ من دخل في الإسلام أو الايمان لم يكن له عمل أعظم قدرا وافخم اجرا من التّوجّه الى محمّد (ص) والتّذكّر له والدّعاء له وطلب الرّحمة عليه والانجذاب

٢٥٥

اليه بحيث يظهر هو أو أحد من خلفائه بحسب ملكوته على صدره ولذلك ورد عن ابى عبد الله (ع) انّه قال : جاء رجل الى رسول الله (ص) فقال : اجعل نصف صلواتي لك؟ ـ قال : نعم ، ثمّ قال : اجعل صلواتي كلّها لك؟ ـ قال : نعم ، فلمّا مضى قال رسول الله (ص) : كفى همّ الدّنيا والآخرة ، وفي خبر عنه (ع) : انّ رجلا أتى رسول الله (ص) فقال : يا رسول الله (ص) انّى جعلت ثلث صلواتي لك ، فقال له : خيرا ، فقال : يا رسول الله (ص) انّى جعلت نصف صلواتي لك ، فقال له : ذلك أفضل ، فقال : انّى اجعل كلّ صلواتي لك؟ فقال : اذن يكفيك الله عزوجل ما اهمّك من امر دنياك وآخرتك ، فقال له رجل : أصلحك الله كيف يجعل صلواته له؟ فقال ابو عبد الله (ع) لا يسأل الله عزوجل الّا بدأ بالصّلاة على محمّد وآله ، وأمثال هذه الاخبار كالقرآن ذات وجوه وهي مرادة بكلّ وجوهها بحسب مراتب النّاس فانّ الصّلوة تكون بمعنى الدّعاء ، والغائب عن الحضور لا يكون صلوته لمحمّد (ص) الّا دعاءه له ، ويكون بمعنى الصّلوة المشروعة المشتملة على الأفعال والاذكار المخصوصة ، والحاضر عند محمّد (ص) يجوز ان يكون معنى صلوته له دعاءه له وان يكون معنى صلوته له ان يكون في صلوته المشروعة غير ناظر الى غيره ، ويكون المخاطب في الصّلوة بل المتكلّم بل الفاعل محمّدا (ص) كما هو شأن من حصل له حالة الحضور عند شيخة ، ومن حصل له هذه الحالة كفى جميع مهمّاته ، بل حصل له جميع خيرات الدّنيا والآخرة ، بل يكون له الغناء عن الدّنيا والآخرة ، ولذلك كان المشايخ رضوان الله عليهم مهتمّين بتحصيل هذه الحالة للسّالكين ولم يكن للسّالكين منظور الّا حصول هذه الحال ، وكان مشايخ العجم يأمرون السّلّاك بجعل صورة الشّيخ نصب عيونهم تعمّلا حتّى يحصل بتلك التّعمّل هذه الحال ، وبعد ما يقال لهم : انّ هذا كفر وتقيّد بالصّورة واشتغال عن المعبود والمسمّى بالاسم ، يجيبون بانّ هذا كفر وتشبّه بعبادة الأصنام لكنّه كفر فوق الكفر والايمان ، واليه أشار المولوىّ قدس‌سره :

آينه دل چون شود صافىّ وپاك

نقشها بيني برون از آب وخاك

هم ببينى نقش وهم نقّاش را

فرش دولت را وهم فرّاش را

چون خليل آمد خيال يار من

صورتش بت معنى أو بت شكن

شكر يزدان را كه چون أو شد پديد

در خيالش جان خيال أو نديد

وهذا الشّعر اشارة الى انّ الحضور لدى الشّيخ وان كان ظاهره قيدا وكفرا لكنّه بحسب المعنى والواقع اطلاق عن القيد لا انّه بتقيّد به.

ومعنى الصّلوة من الله الرّحمة عليه ومن الملائكة تزكيته كما في الخبر ، أو طلب نزول الرّحمة من الله عليه ، ومن العباد طلب الرّحمة من الله تعالى عليه ، ولمّا كان المؤمن فعليّته الاخيرة هي الصّورة النّازلة من ولىّ امره وهي صورة نازلة من محمّد (ص) كان طلبه الرّحمة من الله على محمّد (ص) طلبا للرّحمة على فعليّته الاخيرة فكان صلوته على محمّد (ص) دعاء لنفسه ولذلك ورد في خبر عن الرّضا (ع) : وانّما صلوتنا رحمة عليه ولنا قربة ، ولمّا كان محمّد (ص) مظهرا تامّا لله كان من توجّه اليه وطلب الرّحمة من الله عليه توجّه الله اليه بمضمون : من تقرّب الىّ شبرا تقرّبت اليه باعا ، أكثر من توجّهه الى الله بعشر أو بمائة أو بألف أو بأكثر بحسب استعداد المصلّى ، وتوجّه الله اليه ليس الّا صلوته ونزول رحمته على العبد ، ولمّا كان الله حقيقة كلّ ذي حقيقة كان إذا توجّه الى شيء توجّه كلّ الأشياء اليه ، فاذا صلّى الله على عبد لم يبق شيء الّا وصلّى عليه خصوصا الملائكة المقرّبون لقربهم من الله تعالى ولذلك اقتصر في بعض الاخبار على ذكر الملائكة ، وفي بعضها أشير الى انّه لا يبقى شيء الّا وصلّى عليه (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) يستفاد من بعض الاخبار انّ المراد بقوله سلّموا تسليما التّحيّة الاسلاميّة ، ومن بعضها انّ المراد التّسليم والانقياد له فيما جاء به من عند الله ، ومن بعضها انّ المراد الانقياد له فيما جاء به من خلافة علىّ (ع) ، ومن بعضها انّ المراد الانقياد لوصيّه (ع) (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ

٢٥٦

وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) الجملة جواب لسؤال مقدّر وتعليل لقوله : ما كان لكم ان تؤذوا رسول الله ، وانّما قال يؤذون الله مع انّ المقصود إيذاء الرّسول (ص) اشارة الى انّ إيذاء رسول الله (ص) إيذاء لله تعالى (وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً) تعريض بمن آذى عليّا (ع) وفاطمة (ع) فانّه صلّى الله قال : فاطمة بضعة منّى فمن آذاها فقد آذاني ، وقال : من آذاها في حيوتى كمن آذاها بعد موتى ، ومن آذاها بعد موتى كمن آذاها في حيوتى ، ومن آذاها فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، وهو قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) ، وعن علىّ (ع) انّه قال وهو آخذ بشعره فقال : حدّثنى رسول الله (ص) وهو آخذ بشعره ، فقال : من آذى شعرة منك فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله فعليه لعنة الله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا) بغير معصية منهم استحقّوا بها الإيذاء (فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً) كذبا يعنى انّ أذاهم بنسبة شيء إليهم لم يفعلوه ولم يكن فيهم ، أو المقصود انّ إيذاء المؤمن ليس الّا امرا باطلا وكلّ باطل كذب وبهتان (وَإِثْماً مُبِيناً) نزول هذه الآية في إيذاء علىّ (ع) وفاطمة (ع) لا ينافي عمومها لجميع المؤمنين والمؤمنات ، قال في تفسير البيضاوي في هذه الآية : روى انّها نزلت في منافقين يؤذون عليّا (ع) ، والسّرّ في ذلك انّ المؤمن من حيث ايمانه ليس الّا ولىّ امره ، وايذاؤه من حيث ايمانه ليس الّا إيذاء ولىّ امره ، وإيذاء ولىّ أمره قرين لإيذاء محمّد (ص) وعلىّ (ع) وهو إيذاء الله (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) أدب آخر لنساء النّبىّ (ص) وسائر الامّة (قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ) كنّ لا يغطّين وجوههنّ وسائر مواضع زينتهنّ بجلبابهنّ فأمرهنّ الله تعالى بستر الوجوه والصّدور بالجلابيب حتّى يتميّزن عن سائر النّساء بذلك ، والجلباب للنّساء ثوب وسيع يلبسنه فوق الثّياب دون الملحفة أو هو الملحفة (ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ) بتميّزهنّ من الإماء والقيان وسائر النّساء (فَلا يُؤْذَيْنَ) قيل : كان سبب نزولها انّ النّساء كنّ يخرجن الى المسجد ويصلّين خلف رسول الله (ص) فاذا كان باللّيل وخرجن الى صلوة المغرب والعشاء الآخرة والغداة يقعد الشّباب لهنّ في طريقهنّ فيؤذونهنّ ويتعرّضون لهنّ (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فيغفر تقصيرهنّ فيما سلف ويرحمهنّ بتعليم آداب المعاشرة لهنّ (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) لمّا أراد تهديد أهل الرّيبة الّذين كانوا يتعرّضون للنّساء في الطّرق ضمّ معهم المنافقين والمرجفين (وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ) الّذين يرجفون اى يخوضون في اخبار الفتن ويثيرون الفتن بين النّاس (لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً) زمانا أو جوارا قليلا ، أو هو مستثنى من الفاعل (مَلْعُونِينَ) حال من فاعل لا يجاورونك (أَيْنَما ثُقِفُوا) حال آخر منه أو من مرفوع ملعونين (أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) يعنى ان لم ينتهوا يخرجوا من المدينة بأسوء حال جامعين بين اللّعن والطّرد من الرّحمة في الدّنيا والآخرة وبين التّضييق بالقتل والأخذ وبين لعن النّاس لهم وبين التّضييق عليهم بالقتل أينما ثقفوا (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء (ع) ومرجفى أممهم (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ) قد مرّ مرارا انّ السّاعة فسّرت بساعة الموت وهي القيامة الصّغرى وبساعة ظهور القائم (ع) وهي أيضا قيامة اخرى اختياريّة أو اضطراريّة وبالقيامة الكبرى وفيهما أيضا يكون ظهور القائم (ع) ، ولمّا كان كلّ ذلك في طول الزّمان لا في عرضه ولا يمكن للمحجوبين بحجب الزّمان والمكان إدراكها ، ولا يعلمها الّا من خرج من حدود الزّمان والمكان ولحق بالملإ الأعلى وعلم بعلم الله الّذى هو عند الله لا عند

٢٥٧

الخلق امره الله ان يجيبهم بالإجمال ، فقال (قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللهِ) وأنتم تكونون عند النّاس ولا يعلم العلم الّذى يكون عند الله الّا من كان عند الله وعلم بعلم الله (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً) يعنى انّ السّاعة وان كانت في طول الزّمان والمتقيّدون بالزّمان متباعدون منها غاية البعد لكنّها قريبة منهم غاية القرب لانّها بمنزلة الرّوح للزّمان والزّمانيّات وروح الشّيء أقرب من كلّ شيء اليه (إِنَّ اللهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ) كان المناسب هاهنا ان يكون المراد بالكافرين الكافرين بالسّاعة (وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً يَوْمَ تُقَلَّبُ) متعلّق بقوله لا يجدون أو بيقولون (وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا) في حقّ علىّ (ع) (وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا) وقرئ ساداتنا على جمع الجمع (وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا) قرئ الرّسول والسّبيل بالألف للوقف على الفتح بالألف واجراء الوصل على حال الوقف (رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ) لضلالهم واضلالهم ايّانا (وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً) وقرئ كثيرا بالثّاء المثّلثة ، القمىّ كناية عن الّذين غصبوا آل محمّد (ص) حقّهم يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرّسولا يعنى في أمير المؤمنين (ع) والسّادة والكبراء هما اوّل من بدأ بظلمهم وغصبهم فأضلّونا السّبيلا اى طريق الجنّة والسّبيل أمير المؤمنين (ع) (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) في حقّه وآذوه ، وكان مناسب المقام من حمل الآيات في إيذاء الرّسول وإيذاء المؤمنين على إيذائه في علىّ (ع) وإيذاء علىّ (ع) وفاطمة (ع) ان يكون المعنى لا تكونوا في إيذاء الرّسول أو في إيذاء علىّ (ع) كالّذين آذوا موسى (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً) وذلك انّ موسى كان حيّيا لا يغتسل الّا في موضع لا يراه أحد فقال بعض انّه عنّين وقال بعض : انّه ليس له ما للرّجال ، وقال بعض : انّ به عيبا امّا برص أو أدرة (١) فذهب مرّة يغتسل ووضع ثوبه على حجر فمرّ الحجر بثوبه فطلبه موسى (ع) فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرّجال فبرّأه الله ممّا قالوا (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) لمّا نهى المؤمنين عن إيذاء الرّسول (ص) بنسبة ما لا يليق به اليه من انّه يريد ان يجعل ابن عمّه أميرا علينا ، أو ليس ما يقوله في حقّ علىّ (ع) من الله تعالى أو أمثال ذلك أراد ان يأمرهم بان يقولوا قولا صدقا لا شوب بطلان فيه ولا يتولّد منه شين على القائل أو المقول فيه أو أحد من المؤمنين ولا يكون فيه أذى أحد من المؤمنين (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) الّتى تعملونها ان كان فيها خلل وفساد يعنى انّ اللّسان رئيس سائر الأعضاء فان صلح وصلح ما يجرى عليه يصلح الله جميع اعمال الأعضاء (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) عن الصّادق (ع) انّه قال لعبّاد بن كثير الصّوفىّ البصرىّ : ويحك ، يا عبّاد غرّك ان عفّ بطنك وفرجك؟! انّ الله عزوجل يقول في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ) ، اعلم ، انّه لا يقبل الله منك شيئا حتّى تقول قولا عدلا ، وهذا الخبر يدلّ على انّ أهل العلم والعرفان إذا لم يكونوا مجازين في القول لا ينبغي ان يقولوا حقّا فانّ أصل سداد القول بان يكون بإذن من الله ، ولا سيّما إذا كان فيما يتعلّق بدين الله ، وإذا أجيزوا لا ينبغي ان يقولوا الّا ما علموه وعرفوه انّه حقّ ، فالويل كلّ الويل لمن تشبّه باهل الحقّ من الصّوفيّة والعلماء! فيجري على لسانه كلّ ما خطر على قلبه من غير اذن واجازة من الله في القول (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) يعنى من يطع الله ورسوله في ولاية علىّ (ع) كما في الاخبار (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) المراد بالامانة كما أشير اليه في سورتي النّساء والمؤمنون وغيرهما وفي هذه السّورة قبيل هذا اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة الّتى

__________________

(١) الأدرة بالضّمّ الفتق.

٢٥٨

لم يكن في خزانة الحقّ تعالى شأنه جو هو أبهى وأمثل منها ، فأخرجها من خزانته الغيبيّة وعرضها على سماوات العقول والنّفوس وسماوات الأفلاك الطّبيعيّة بان أمّرها عليها ثمّ عرضها على أراضي العناصر ثمّ على جبال المواليد فأبى الكلّ من حملها لما لم يكن لها بأهل ، لانّ هذه الجوهرة بذاتها كانت تقتضي محلّا مأمنا عليه حفّاظ كثيرة لكثرة سرّاقها وحسّادها ومستعدّا للخروج من التّقيّد والحدود والوصول الى عالم الإطلاق ، وكلّ تلك المذكورات امّا لم يكن مستعدّا للخروج من الحدود أو لم يكن مستعدّا أو لا مأمنا ولا عليه حفّاظ ، فأشفق كلّ منها عليها ومن فنائها وهلاكها وتضرّع على الله ان يعفيه منها ، ثمّ عرضها على المولود الأخير وغاية الكلّ ونهاية الجميع فوجده أهلا لحملة ، ونظر الإنسان الى استعداده وقوّة الخروج عن الحدود فاشتاق إليها وتقبّلها وسأل الحفّاظ والمعاونين من سنخ الجنّة والشّياطين وسأل الحفّاظ من سنخ الاناسىّ فأعطاه الله ذلك ، وبهذا البيان للامانة يجتمع المختلفات من الاخبار ويتوافق المتخالفات منها ، فقد فسّرت فيها بمطلق التّكليف ، وبالصّلوة ، وبالامامة والامارة ، وبالخلافة ، وبمنزلة محمّد (ص) وآل محمّد ، وبتمنّى منزلتهم ، وبمطلق الامانة ، وبولاية علىّ بن ابى طالب (ع) ، وبشهادة حسين بن علىّ (ع) ، وبالخلافة المغصوبة ، وباختلاف التّفاسير في الامانة يختلف تفسير الإنسان بعلىّ (ع) وحسين (ع) وآدم (ع) وغاصبي الخلافة ومطلق الإنسان وهكذا الظّلوم والجهول ، فمن أراد الاطّلاع على اختلاف الاخبار فليرجع الى كتب التّفاسير والاخبار (لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) تعليل لعرض الامانة أو لحملها الإنسان كما انّ قوله : انّا عرضنا الامانة كان تعليلا لقوله اتّقوا الله وقولوا قولا سديدا أو لقوله يصلح لكم ويغفر ذنوبكم كأنّه قال : اتّقوا سخط الله وعذابه لانّا لم نعرض الامانة على السّماوات والأرض الّا لتميّز المنافق والمشرك عن المؤمن والّا لعذاب المنافق وثواب المؤمن أو يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم لانّا لم نعرض الامانة الّا لذلك ، وتقديم عذاب المنافق ونسبة العذاب الى الله لكون السّورة نازلة في تفضيح المنافقين ولذلك كان اوّل السّورة نهيا لمحمّد (ص) عن طاعة المنافقين ، ونقل عنهم انّ سورة الأحزاب فضحت نساء قريش من العرب وكانت أطول من سورة البقرة ولكن نقّصوها وحرّفوها فادّى تعالى شأنه عذاب المنافقين كأنّه هو الغاية ، ونسب العذاب الى نفسه لذلك ، ولان يختم السّورة بثواب المؤمنين ورحمتهم (وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) فالغاية بالذّات ليست الّا مغفرة الله ورحمته للمؤمنين فهو استدراك لما يتوهّم من كون الغاية بالذّات هو عذاب المنافقين أو عذابهم ورحمة المؤمنين.

سورة سباء

مكّيّة كلّها ، خمس وخمسون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) قد مضى تفسيره في اوّل الحمد (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ) اى سماوات الأرواح

٢٥٩

وسماوات الأفلاك (وَما فِي الْأَرْضِ) اى ارض عالمي المثال وعالم الطّبع فانّ الكلّ بالنّسبة الى الأرواح أراض وارض العنصر وقد تكرّر انّ اللّام في مثل هذا تستعمل في المبدئيّة والمرجعيّة والمالكيّة وتكرّر أيضا انّه إذا قيل : لزيد ما في الصّندوق ، يدلّ على انّ الصّندوق وما فيه له خصوصا إذا كان ما في الصّندوق نفيسا (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) اى يخصّه الحمد في الدّار الآخرة أو يخصّه في آخرة مراتب الحمد فانّه يتراءى ان يكون غيره محمودا أيضا ما دام الإنسان في الدّنيا أو في مراتب الحمد وبعد النّظر الدّقيق وفي دار الآخرة الّتى يتراءى كلّ شيء كما هو يعلم انّ الحمد خاصّ به (وَهُوَ الْحَكِيمُ) في فعاله أو في فعاله وعلومه (الْخَبِيرُ) بكلّ شيء مع إتقان العمل والدّقّة في العلم (يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) اى ما يدخل في ارض عالم المثال العلوىّ من اشعّة العقول والنّفوس ، ومن صور علوم العقول والنّفوس ، ومن الإفاضات اللّاتى تفيض عليها من العالم العلوىّ الّتى بها بقاؤها ورزقها ، والّتى تفيض عنها الى ما دونها من عالم الطّبع وعالم الجنّة ويعلم ما يلج في الأرض الّتى هي جملة عالم الطّبع من اشعّة العقول والنّفوس وعالم المثال ، وممّا يفيض عليها ممّا به بقاؤها ورزقها ، ومن الصّور الّتى تفيض على أجرامها ، ومن الوجود الّذى يتجدّد على جملة اجزائها آنا فآنا ويعلم ما يلج في الأرض العنصريّة من اشعّة العقول والنّفوس وعالم المثال واشعّة كواكب الأفلاك وصور المواليد والقوى والاستعدادات الّتى تدخل فيها بعد امتزاجها بسائر العناصر وتولّد المواليد منها وهكذا الاستعدادات الّتى تدخل في جملة المواليد ويعلم المياه الّتى تدخل فيها من البحار والأنهار والأمطار وما يستحيل من الهواء إليها ومن الاجزاء الرّشيّة الهوائيّة الّتى تدخل في تجاويفها ، ومن الحبوب والعروق الّتى تدخل فيها ، ويعلم ما يلج في الأرض الّتى هي عالم الجنّة من القوى والاستعدادات ، ومن الاناسىّ الّذين يدخلون في عالمهم من الأشقياء الّذين يصيرون من سنخهم ، وممّا يفيض عليها من العلويّين ومن القوى والاستعدادات الّتى تتولّد فيها من تأثير العلويّين ، ويعلم ما يلج في عالم البرزخ المسمّى بهور قوليا في لسان الأقدمين فانّه مدينة لها الف الف باب ، وفي النّزول يدخل فيها كلّ يوم من أبوابها المشرقيّة ما لا يحصى عددهم من الملائكة النّازلة ، ويدخل فيها من تلك الأبواب ما لا يحصى ممّا يفيض على ما دونها من عالم الطّبع وعالم الجنّة ، وفي الصّعود يدخل فيها كلّ يوم بل كلّ آن ما لا يحصى عددهم من الملائكة الصّاعدين والنّفوس البشريّة المنخلعة عن الأبدان الصّاعدة الى المثال العلوىّ وعالم الأرواح ، أو النّازلة الى عالم الجنّة والجحيم (وَما يَخْرُجُ مِنْها) يمكن ان يعلم ذلك بالمقايسة (وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ) الّذى يرحم عباده وخلقه بان لا يقطع مدد حيوتهم ورزقهم منهم مع ما يرى منهم من قبائح أعمالهم ومع ما يعرج منهم الى السّماوات من الأعمال السّيّئة الّتى ينبغي ان يعذّبوا عليها (الْغَفُورُ) الّذى يستر قبائح أعمالهم عن الاناسىّ والملائكة بل عن أنفسهم (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ) اى القيامة أو ظهور القائم أو الرّجعة أنكروها واستبطأوها استهزاء (قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) قد مضى في سورة يونس (ع) تفسير الآية وقدّم الأرض هناك واخّرها هاهنا ، ووجه تقديم السّماوات ظاهر ، ووجه تقديم الأرض مضى هناك (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لا تعب فيه ولا تبعة له ، تقديم جزاء المؤمنين ونسبة الفعل الى الله اشعار بانّ الغاية جزاء المؤمنين وانّه غاية بالذّات منسوبة الى الله بالذّات ولذلك غيّر الأسلوب ولم يقل وليجزي الّذين سعوا في آيات الله وقال (وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا) الآفاقيّة من الأنبياء والأولياءعليهم‌السلام بالاستهزاء بهم وتوهينهم وإيذائهم وضربهم وقتلهم وإخفاء أحوالهم وأخلاقهم وسننهم عن النّاس

٢٦٠