تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

شركاء لخوفكم ، أو المعنى فأنتم ومماليككم في الرّزق سواء من كلّ الجهات سوى اعتبار نسبة المالكيّة إليكم وتخافونهم كخيفتكم من الأحرار ، وينبغي لكم ان ترضوا بشراكتكم ولا ترضون فكيف يرضى الله بشراكة مماليكه له مع انّهم ليسوا مساوين له بجهة من الجهات ولا يخافهم بشيء من الخوف (كَذلِكَ) التّفصيل والتّمثيل لاشراكهم (نُفَصِّلُ الْآياتِ) في كلّ شيء (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يحقّقون في العلم والإدراك بعد ما خرجوا من مقام التّقليد أو لقوم يدركون ادراك الإنسان لا ادراك الحيوان سواء كان ذلك الإدراك تقليدا أو تحقيقا ، فانّ التّعقّل يستعمل في الإدراك الانسانىّ المطلق كما يستعمل في الإدراك العقلانىّ الّذى لا يكون الّا بالتّحقيق دون التّقليد ، قيل : كان سبب نزولها انّ قريشا والعرب كانوا إذا حجّوا يلبّون وكانت تلبيتهم لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك انّ الحمد والنّعمة لك والملك لا شريك لك ، وهي تلبية إبراهيم والأنبياء (ع) فجاءهم إبليس في صورة شيخ فقال لهم : ليست هذه تلبية اسلافكم قالوا : وما كانت تلبيتهم؟ ـ قال : كانوا يقولون : لبّيك اللهمّ لبّيك لا شريك الّا شريكا هو لك ، فتفرّق قريش من هذا القول فقال لهم إبليس : على رسلكم (١) حتّى آتى على آخر كلامي ، فقالوا : ما هو؟ فقال : الّا شريك هو لك تملكه وما يملكك ، الا ترون انّه يملك الشّريك وما ملكه ، فرضوا بذلك وكانوا يلبّون بهذا قريش خاصّة فلمّا بعث الله عزوجل رسوله (ص) أنكر ذلك عليهم وقال : هذا شرك فأنزل الله تعالى : (ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) اى ترضون أنتم فيما تملكون ان يكون لكم فيه شريك وإذا لم ترضوا أنتم ان يكون لكم فيما تملكون شريك فكيف ترضون ان تجعلوا لي شريكا فيما أملك (بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) وهذا اضراب عن مقدّر كأنّه قيل : هل لهم برهان مع وضوح بطلان الإشراك؟ ـ فقال : ليس لهم برهان بل اتّبع الّذين ظلموا أنفسهم بالاشراك بالله ما لم يأذن به الله ، ووضع الظّاهر موضع المضمر ذمّا لهم بذلك (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) يعنى فأضلّهم الله بالخذلان ولا يهدى أحد من اضلّه الله (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) ينصرونهم من عذاب الله (فَأَقِمْ) اى إذا لم تكن تهدى من اضلّ الله ولم تكن تنصرهم فلا تحزن عليهم وانصرف عن الاهتمام بالخلق وأقم عن الانحراف لهم (وَجْهَكَ لِلدِّينِ) اى الطّريق الى الله (حَنِيفاً) ظاهرا أو خالصا وهو حال عن الوجه ، أو عن المضاف اليه الوجه ، أو عن الدّين والمراد بالدّين هو الطّريق الى الله التّكوينىّ وهو الولاية التّكوينيّة أو الطّريق الى الله التّكليفىّ وهو الولاية التّكليفيّة وقد فسّر اقامة الوجه للدّين بإقامته في الصّلوة جانب القبلة من غير التفات الى اليمين والشّمال وبالولاية (فِطْرَتَ اللهِ) منصوب على الإغراء أو على المدح أو بتقدير خذ ، أو مصدر لفعل محذوف دلّ عليه المذكور بعده ، والفطرة هي الخلقة الّتى خلق النّاس بل جميع الموجودات عليها وهي الولاية السّارية في كلّ الموجودات تكوينا المطابق لها الولاية التّكليفيّة الّتى كلّف بها جميع الاناسىّ (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) والتّفاسير المختلفة الّتى وردت عن المعصومين (ع) في الآية راجعة الى ما ذكرنا (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) فلا تحزن على ما قالوا في وصيّك ومنعه عن مقامه فانّه لا يقدر أحد على تبديل الولاية التّكوينيّة والتّكليفيّة (ذلِكَ) المذكور من اقامة الوجه للدّين أو ذلك الدّين الحنيف أو الولاية التّكليفيّة هو (الدِّينُ الْقَيِّمُ) لا غير (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) انّ الدّين القيّم هو الولاية الّتى هي الطّريق الى الله فلذلك تمسّكوا بصورة الإسلام وتوقّفوا عليها واهتمّوا بها واعرضوا عن الولاية الّتى هي الدّين حقيقة ، وصورة الإسلام ليست الّا هداية إليها (مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) الى هذا الدّين الّذى هو الطّريق من القلب الى الله فانّهم على الاستمرار في الانابة من الكثرات اليه بصنع الله الّذى اتقن كلّ شيء فانّهم على الدّوام في الزّكاة الّتى هي تصرّم الفعليّات النّاقصة وبذلها تكوينا والصّلوة الّتى هي التّلبّس بالفعليّات الكاملة الّتى هي الانابة الى القلب

__________________

(١) اى قفوا مكانكم واستمعوا حتّى يتمّ كلامي.

٢٢١

وطريقه ، أو منيبين الى الله فانّ الانابة الى طريق القلب والانابة الى الله والانابة الى القلب شيء واحد والتّفاوت اعتبارىّ وهو حال من فاعل أقم بضميمة الامّة الى الرّسول (ص) أو من النّاس (وَاتَّقُوهُ) اى الدّين أو الله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) قد مضى معنى الصّلوة وإقامتها في اوّل البقرة (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بالله في الوجوب أو في العبادة أو في الطّاعة أو في الدّين أو في اقامة الصّلوة (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) اى طريق توجّههم أو طاعتهم أو صلوتهم أو ولايتهم بان اتّخذ كلّ منهم طريقا أو طاعة أو صلوة غير ما للآخر ، فاختلف كلّ مع الآخر ، أو فرّق كلّ دينه بان جعل لنفسه طرقا عديدة أو طاعات عديدة (الى الآخر) ، أو فرّق كلّ دينه على اهوية عديدة كرجل متشاكس فيه رجال ، وقرئ فارقوا دينهم اى طريقهم الانسانىّ الّذى فطرهم الله عليه وهو الولاية التّكوينيّة أو فارقوا ولايتهم التّكليفيّة بعدم العمل بما وصل إليهم من ولىّ أمرهم ، أو فارقوا عليّا (ع) وقد سبق في آخر سورة الانعام بيان تامّ لهذه الآية (وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) الجملة حاليّة أو صفة لشيعا ، أو مستأنفة لبيان حالهم ، أو التّعليل لتفرّقهم.

اعلم ، انّ الإنسان لمّا كان فطريّ التّعلّق فان تنبّه وعلم انّ كمالاته الانسانيّة غير حاصلة له وانّ ما هو الحاصل له ليس كمالا كاملا له ، بل له كمالات مفقودة غير متناهية فان افتقد ما فقده ولم يكن المفتقد الّا السّالك الى الله بقدم الصّدق لم يكن فرحا بما عنده بل كان منزجرا مدبرا عنه ، ومن لم يكن مفتقدا لما فقده لم يكن له تعلّق الّا بما كان حاصلا له من الكمالات الصّوريّة من العلوم والعقائد والصّفات والأخلاق والمكاشفات والأموال والأولاد فكان كلّ حزب بما لديهم فرحون حتّى الكنّاس بكماله في كنسه ، والسّاحر في سحره ، والتّاجر في تجارته ، والعالم في علمه ، والعابد في عبادته ، والزّاهد في زهده ، والعارف في عرفانه (وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) لما يرتفع حينئذ حجاب النّفس ومانع الرّجوع والسّلوك الى الله (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) نعمة بعد الخلاص من ذلك الضّرّ (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ) لا كلّهم لانّ بعضهم لا يغلب عليهم الواهمة ولا تمنعهم من شكر النّعمة كما كانوا حال الضّرّ لا يمنعهم الواهمة عن الالتجاء ودعاء كشف الضّرّ (بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) بربّهم المطلق يسوّون الأصنام والكواكب والاهوية ، أو بربّهم المضاف يسوّون غير ولىّ أمرهم (لِيَكْفُرُوا) اى بحصول كفرانهم ، أو اللّام للغاية وليست داخلة على العلّة الغائية يعنى فيحصل لهم بعد الإشراك الكفران (بِما آتَيْناهُمْ) من كشف الضّرّ والنّعمة (فَتَمَتَّعُوا) التفات للمبالغة في التّهديد (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) انّ اشراككم أو تمتّعكم كان وبالا عليكم (أَمْ أَنْزَلْنا) بل أنزلنا (عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجّة أو ذا سلطنة من الملائكة (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) لفظة ما موصولة أو مصدريّة والمعنى فهو يتكلّم بالاشراك الّذى كانوا يشركون ، أو باشراك شريك كانوا به يشركون ، أو بكونهم الله يشركون ، أو بكونهم بعلىّ (ع) يشركون في الولاية وهذا هو المنظور (وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) نعمة وسعة في المال والأولاد أو صحّة في الجسم والأولاد (فَرِحُوا بِها) لتعلّقهم بما عندهم من النّفس وقواها وملائماتها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) من رحمة الله (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) حتّى يشكروا في السّرّاء ويسألوا في الضّرّاء ولا يفرحوا بالموجود ولا ييأسوا حين فقدانه (إِنَّ فِي ذلِكَ) اى في اختصاص البسط والتّقدير بالله تعالى الّذى من شأنه ان يراه كلّ راء لظهور آثاره من حيث انّه يرى انّ صاحبي الحيل الدّقيقة في تحصيل المعيشة محرومون عن السّعة في المعيشة وصاحبي البلاهة والبلادة مرزوقون سعة المعيشة (لَآياتٍ) عديدة دالّة على علمه تعالى وعنايته بخلقه وتدبيره لهم وحكمته في تدبيره وعجزهم عن تحصيل ما أرادوا

٢٢٢

وتسخّرهم لغيرهم (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالبيعة الخاصّة فانّه بهذا الايمان يفتح باب القلب وبفتحه يدرك من الآيات حيثيّة كونها آيات (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) يعنى إذا كان البسط والتّقدير بيده تعالى فلا تبخل بما في يدك وآت كلّ ذي حقّ حقّه وقد مضى الآية مع تفصيل في تفسيرها في اوّل سورة بنى إسرائيل (ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) يعنى إعطاء الحقّ لذي الحقّ ومنه إعطاء الامامة لعلىّ (ع) وإعطاء السّعة في الصّدر والقلب لمستحقّيها خير للسّالكين الى الله والطّالبين لوجهه الّذى هو ملكوت ولىّ أمرهم ، وان كان شرّا للمنافقين الّذين رضوا بالحيوة الدّنيا واطمأنّوا بها (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فانّ الفلاح منحصر في البائعين بالبيعة الخاصّة السّالكين الى الله تعالى الطّالبين لظهور ملكوت ولىّ أمرهم (وَما آتَيْتُمْ) هذا خبر في معنى النّهى ولذلك حسن عطفه على الأمر ، ولمّا كان النّبىّ (ص) أصلا في الخطاب الاوّل بل كان أصل الحقوق الخلافة وكان إعطاؤه منحصرا فيه (ص) خصّه هناك بالخطاب ، ولمّا كان المنظور من الحكم الثّانى أمّته جمعهم معه بالخطاب أو صرف الخطاب عنه (ص) إليهم (مِنْ رِباً) ما من شأنه ان يردّ مع الزّيادة من قرض أو هديّة لقصد العوض ، وخصّ هذا في الاخبار بالهديّة الّتى يتوقّع المكافاة عليها بأزيد منها فانّه ورد عن الصّادق (ع) قال : الرّبا رباءان ، ربا يؤكل وربا لا يؤكل ، فامّا الّذى يؤكل فهديّتك الى الرّجل لتصيب منه الثّواب أفضل منها فذلك الرّبا بالّذى يؤكل وهو قول الله عزوجل وما آتيتم من ربا (الآية) وامّا الّذى لا يؤكل فهو الّذى نهى الله عنه وأوعد عليه النّار ، وعن الباقر (ع) هو ان يعطى الرّجل العطيّة أو يهدى الهديّة ليثاب أكثر منها فليس فيه أجر ولا وزر ، وقرئ : أتيتم بالقصر بمعنى ما جئتم اليه لاعطائه من ربا (لِيَرْبُوَا) قرئ بالياء التّحتانيّة مفردا من الثّلاثىّ المجرّد ، وبالتّاء الفوقانيّة جمعا من باب الأفعال (فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ) اى هديّة أو صدقة أو قرض (تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) قد مضى قبيل هذا انّ المراد بوجه الله هو ملكوت ولىّ الأمر (فَأُولئِكَ) التفات من الخطاب الى الغيبة تفخيما لهم بالإتيان باسم الاشارة البعيدة (هُمُ الْمُضْعِفُونَ) يعنى انّه يربو عند الله ويربو في الدّنيا ، فعدل عن يربو عند الله للاشارة الى الزّيادة في الدّنيا وفي الآخرة ، عن أمير المؤمنين (ع) : فرض الله الصّلوة تنزيها عن الكبر ، والزّكاة تسبيبا للرّزق ، وعن الصّادق (ع) : على باب الجنّة مكتوب : القرض بثمانية عشر ، والصّدقة بعشرة ، ولا اختصاص للرّبا بالمال ولا للزّكوة بل يجريان في الأعمال والعرض والجاه والقوى وقوّتها (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) جملة منقطعة عن سابقها (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) فما لكم تبخلون (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) فما لكم تجمعون وتدخّرون (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) فما لكم لا تدّخرون لحيوتكم الباقية بالإعطاء من الفانيات والارباء عند الله (هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) الزام لهم على الإقرار بعجز الشّركاء وابطال شراكتهم (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) قرئ بالغيبة والخطاب (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) الفساد ضدّ الصّلاح وهو في كلّ شيء ان يكون على ما يقتضيه طبيعته ، والفساد ان يكون خارجا عمّا يقتضيه طبيعته ، وقد يستعمل الفساد في أخذ المال ظلما وفي الجدب والمراد بظهور الفساد كثرته بحيث لم يكن من شأنه ان يكون مخفيّا أو غلبته على الصّلاح ، أو على العدل أو على الرّخاء ، والمراد بالبحر نفس البحر أو القرى الواقعة فيها وعلى سواحلها (بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) يعنى انّ الفساد في الأرض ليس الّا بشوم اعمال الاناسىّ فيها سواء أريد بالفساد خروج الأشياء عن المجرى الطّبيعىّ أو الظّلم والجدب ، قال الصّادق (ع) : حيوة دوابّ البحر بالمطر فاذا كفّ المطر ظهر الفساد في البرّ والبحر وذلك إذا كثرت الذّنوب والمعاصي ، وقال الباقر (ع) : ذلك والله حين قالت الأنصار : منّا أمير ومنكم أمير (لِيُذِيقَهُمْ) الله أو الفساد

٢٢٣

(بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) اى جزاء بعض أعمالهم فانّ جزاء الكلّ لا يكون الّا في الآخرة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن المعاصي (قُلْ) يا محمّد (ص) (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) كانوا يعملون السّيّئات فأذاقهم الله بعض جزائها حتّى تعتبروا بذلك وتتيقّنوا بانّ الأعمال لا تكون بلا جزاء لا في الدّنيا ولا في الآخرة ، وقد سبق مكرّرا تفسير الأرض بأرض العالم الصّغير والعالم الكبير وارض القرآن والاخبار والسّير الماضية (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) يعنى انّ شركهم ابتلاهم بسوء العاقبة في الدّنيا والآخرة فانتهوا عن الشّرك واحذروا عن سوء عاقبته (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) كرّره لانّ كلّ واحد تفريع على امر وللاهتمام بإقامة الوجه للدّين ، ولانّ الاوّل خطاب له (ص) وهذا خطاب له وتعريض بامّته (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) اى لا يردّه الله أو لا يردّه ولا يمنعه أحد من تصريف الله (يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتصدّعون اى يتفرّقون وقد مضى بيانه في هذه السّورة عند قوله ويوم تقوم السّاعة يومئذ يتفرّقون (مَنْ كَفَرَ) بيان لتفرّقهم أو بيان لعلّة تفرّقهم (فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) اى يسوّون منازلهم في الجنّة ويصلحونها بأعمالهم لأنفسهم لا لغيرهم ، عن الصّادق (ع) انّه قال : انّ العمل الصّالح ليسبق صاحبه الى الجنّة فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) علّة لاقم وجهك أو للقيّم أو ليأتى يوم أو لقوله لا مردّ له أو ليصدّعون والمراد بالايمان الايمان العامّ الحاصل بالبيعة العامّة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة ، وبالعمل الصّالح الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، أو المراد بالايمان الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الولويّة ويكون قوله (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اشارة الى العمل بما أخذ عليه في عهده وبيعته (مِنْ فَضْلِهِ) يعنى لا يكون جزاؤهم بسبب عملهم فانّه لا يدخل أحد الجنّة بعمله بل يكون بمحض فضله (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) سوق العبارة كان مقتضيا ان يقول : ويجزى الّذين كفروا لكنّه عدل الى هذا اشارة الى انّ جزاء الكافرين ليس من الغايات بالذّات انّما هي من تبعة أعمالهم وكفرهم وقد مضى مكرّرا انّ أمثال هذا يستعمل في معنى يبغضهم وان كان بمفهومه اعمّ منه (وَمِنْ آياتِهِ) الجملة معطوفة على جملة الله الّذى خلقكم فانّه في معنى من آياته ان خلقكم ثمّ رزقكم ثمّ أماتكم (الى آخرها) (أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ) يعنى إرسال الرّياح لحمل السّحاب وتحريكه الى ما اراده من الأمكنة ثمّ امطار الأمطار وتوسعة الرّزق عليكم بها من جملة آياته الدّالّات على مبدء عليم حكيم قدير مريد رؤف رحيم (وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) عطف على مبشّرات فانّه في معنى ليبشّركم به (وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) اى بأمره للرّياح فانّه لو لا الرّياح لما جرى الفلك على متن الماء سواء كان تلك الرّياح بأمر من الله أو بصنع من النّاس كالفلك الّتى تجري بالابخرة المصنوعة (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يجرى الفلك في البحر أو بمطلق ما يحصل من الأمطار والرّياح (وَلَعَلَّكُمْ) تتنبّهون بانّ تلك النّعم من الله وان لا يقدر أحد على أمثاله ف (تَشْكُرُونَ) نعمه (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) كما أرسلناك الى قومك فجئتهم بالبيّنات فكذّب الأقوام رسلهم كما كذّبك قومك (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) من أقوام الرّسل فليحذر قومك من تكذيبك ومن انتقامنا ، واصبر أنت والمؤمنون على أذاهم فانّا ننصركم وننتقم من المجرمين (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) ومن كان حقّا على الله ان ينصره على عدوّه فلا يحزن من معاداة أحد وهو تسلية تامّة للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتفخيم لشأنهم من حيث انّه تعالى جعلهم

٢٢٤

ذوي حقّ عليه ، عن النّبىّ (ص) : ما من امرء مسلم يردّ عن عرض أخيه الّا كان حقّا على الله ان يردّ عنه نار جهنّم يوم القيامة ، ثمّ قرأ : وكان حقّا علينا نصر المؤمنين ، وعن الصّادق (ع) قال : حسب المؤمن نصره ان يرى عدوّه يعمل بمعاصي الله (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) جملة مستأنفة في مقام التّعليل (فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ) الله (فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ) سائرا وواقفا ، سريعا وبطيئا ، غليظا ورقيقا ، ذا مطر وثلج وبرد وخاليا عن ذلك (وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) قطعا متراكمة بعد بسطه أو يبسطه تارة ويجعله كسفا اخرى (فَتَرَى الْوَدْقَ) اى المطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعنى بلادهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) بمجيء الخصب (وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر (مِنْ قَبْلِهِ) تأكيد (لَمُبْلِسِينَ) لآيسين من المطر والخصب (فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعميم بعد التّخصيص للتّأكيد (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا) على الزّروع وسائر النّبات والأشجار الّتى هي آثار رحمة الله وبها احياء الأرض (رِيحاً فَرَأَوْهُ) اى اثر رحمة الله أو السّحاب (مُصْفَرًّا) يعنى مصفرّ الأوراق بالرّيح الحارّ أو خاليا من المطر (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) بالله وانعامه من حيث انّهم لا يتفكّرون انّه تعالى رحيم بعباده ولا يفعل بهم ما يفعل الّا لغاية راجعة إليهم وانّه ليس منه الّا الرّحمة ولكن قد تصير الرّحمة في بعض القوابل نقمة وليست الّا من قبل القابل «ف» هم ليسوا احياء بالحيوة الانسانيّة ولا سامعين ولا مبصرين بالسّمع والبصر الانسانيّين و (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) عن الحيوة الانسانيّة فلا تحزن على عدم سماعهم ولا تلومنّ نفسك في عدم هدايتهم (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) يعنى انّ حيوتهم حيوة حيوانيّة وانّهم صمّ عن السّماع الانسانىّ (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) يعنى انّ الصّمّ إذا كانوا مقبلين يمكن افهامهم بالاشارة وهؤلاء صمّ وكانوا مدبرين ولو كانوا مقبلين يفهّمهم الله كما قيل :

نى غلط گفتم كه گر كر سر نهد

پيش وحي كبريا سمعش دهد

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ) اى يذعن أو يؤمن بالبيعة العامّة أو الخاصّة (بِآياتِنا) وأعظمها الأنبياء والأولياء (ع) وأصل الكلّ علىّ (ع) (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون لك أو مسلمون بالبيعة الاسلاميّة أو مسلمون لوصيّك (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) مستأنف في مقام الامتنان وإظهار الآيات كأنّه قال الله لا غيره الّذى خلقكم (مِنْ ضَعْفٍ) وهذا من جملة آياته فما لكم تصرفون عنه الى غيره يعنى خلقكم من مادّة ضعيفة فاذا أنتم أقوياء خصماء ، أو جعل الضّعف بمنزلة مادّته مبالغة في ضعف مادّته ، وقرئ في الكلّ بضمّ الضّاد وفتحها والمعنى واحد (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) في سنّ الكهولة (وَشَيْبَةً) في سنّ الهرم أو كليهما في سنّ الهرم (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوّة وشيبة وشبيبة وليس خلقه ما يشاء غير منوط بحكمة فانّه لا يشاء الّا ما هو الأصلح بحال خلقه (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بخلقه وما فيه صلاحهم (الْقَدِيرُ) على ما يشاء فلا يشاء الّا ما يعلم انّ فيه صلاحهم (وَيَوْمَ تَقُومُ) عطف على قوله الله الّذى خلقكم ، أو حال بتقدير مبتدء يعنى هذا كيفيّة خلقتهم وامتداد أمدهم ويوم تقوم (السَّاعَةُ) اى القيامة الصّغرى أو الكبرى (يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ) منهم لغاية دهشتهم واختلال مداركهم من وحشتهم (ما لَبِثُوا) في الدّنيا ان كان المراد بالسّاعة ساعة الاحتضار ، أو في الدّنيا والبرازخ ان كان المراد القيامة الكبرى بعد البرازخ (غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ) الانصراف عن الحقّ وممّا كان معلوما لهم مشهودا غير غائب (كانُوا) في

٢٢٥

دنياهم (يُؤْفَكُونَ) عن الحقّ الّذى هو مشهود لهم من امر الآخرة وصحّة الرّسالة وصدق الامامة والخلافة (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) عطف على جملة كذلك كانوا يؤفكون ، والإتيان بالماضي للاشارة الى تحقّق وقوعه ، أو للاشارة الى انّه قد مضى بالنّسبة الى مقام المخاطب الّذى هو محمّد (ص) والايمان اى الإذعان والانقياد ، أو المراد بالعلم العلم بأحكام الرّسالة وقبولها فانّه كثيرا يستعمل العلم في قبول احكام الرّسالة والعلم بها تقليدا أو تحقيقا ، وبالايمان الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة فيكون في معنى قوله قال الّذين أوتوا الإسلام بقبول الدّعوة الظّاهرة والايمان بقبول الدّعوة الباطنة ، أو المراد بالعلم العلم التّحقيقىّ ، وبالايمان الايمان الشّهودىّ الّذين لا يجتمعان الّا في من صار خليفة لله كما عن الرّضا (ع) حين يصف الامامة فانّه قال : فقلّدها عليّا (ع) بأمر الله عزوجل على رسم ما فرض الله تعالى فصارت في ذرّيّته الأصفياء الّذين آتاهم الله تعالى العلم والايمان بقوله : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) اى مكتوب الله وهو عالم الطّبع وعالم البرازخ والبدن الطّبيعىّ والبدن البرزخىّ فانّ الكلّ كتاب الله الّذى كتبه بيده (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ) يعنى لبثتم من اوّل خلقتكم في عالم الطّبع والبرازخ الى يوم القيامة الكبرى (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) ولا يعلم أمد ذلك الّا الله وأنتم لغاية وحشتكم لم يبق لكم شعور بتلك المدّة الطّويلة (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تلك المدّة ولا هذا اليوم لتحيّركم وعدم بقاء شعور لكم ، وعلى ما بيّنا الآية لا حاجة فيها الى التّكلّفات الّتى ارتكبها المفسّرون (فَيَوْمَئِذٍ) هذا من جملة قول الّذين أوتوا العلم أو هو من قول الله (لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ) اى لا هم يسترضون فانّه من العتبى بمعنى الرّضا ، لا من العتب بمعنى الأمر الكريه ، أو لا هم يلامون على ان يكون من العتاب بمعنى الملامة يعنى لا يلامون لاسقاطهم عن درجة الملامة (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ) يتّعظ به وينذر ويبشّر به ولكنّهم لا يتّعظون ولا ينذرون (وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ) عطف أو حال (بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ) ايّها الرّسول (ص) والمؤمنون (إِلَّا مُبْطِلُونَ) يعنى انّهم لغاية شقوتهم يزيد الأمثال والإنذار في عنادهم بحيث إذا رأوا آية منك دالّة على صدقك أنكروها ونسبوك الى الابطال (كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) اى لا يتّصفون باوّل مراتب العلم فانّ من لا يتّصف باوّل مراتب العلم الّذى هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء يكون مطبوعا على قلبه وان كان مليّا بجملة المدركات الكسبيّة (فَاصْبِرْ) يا محمّد (ص) على إنكارهم ونسبتك الى الابطال ، أو فاصبر على إنكارهم لخلافة خليفتك (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرتك وإظهار دينك على الأديان أو بنصرة خليفتك واحقاق حقّه (حَقٌ) لا يتغيّر (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) اى لا يحملنّك على الجهل ولا يصرفنّك عمّا أنت عليه من الحقّ.

٢٢٦

سورة لقمان

مكّيّة وقيل : سوى ثلاث آيات وهي قوله : ولو انّ ما في الأرض (الى آخرهنّ)

وهي ثلاث وثلاثون آية أو اربع وثلاثون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) قد مضى في اوّل البقرة وفي غيرها ما فيه غنية عن تفسير تلك الآيات (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الاشتراء يستعمل في المعاوضة المطلقة سواء كان العوضان من الأعيان أم غيرها ، وسواء كان قرينا بصيغة خاصّة أم لا ، فيصدق على بذل الأموال على الوعّاظ والقصّاص والنقّال للاسمار ، وعلى بذل القوى والاستعدادات والاعمار في الاستماع الى ما فيه حظّ النّفس والخيال دون العقل ، سواء كان المسموع من القرآن والاخبار أو من الأباطيل والأسمار ، ولهو الحديث عبارة عمّا يشغلك عن الله والآخرة من الأقوال اللّسانيّة والأفعال الاركانيّة والأحاديث النّفسيّة سواء كان ذلك الشّاغل قرآنا وخبرا من المعصوم وعبادة شرعيّة أو كان لغوا في ذاته ومعصية فانّ في كلّ قول وفعل جهة عقلانيّة وجهة شيطانيّة ، فان كان الاستماع أو الاشتغال به من جهته العقلانيّة كان ذلك حديثا صحيحا عقلانيّا ، وان كان صورته صورة الأباطيل والعصيان ، وان كان الاستماع أو الاشتغال به من جهته الشّيطانيّة كان ذلك لهو الحديث ، وان كان صورته صورة القرآن والاخبار المعصوميّة ، ومقصوده تعالى هاهنا انّ القرآن وآياته هدى ورحمة للمحسنين وضلال ونقمة للمسيئين لكنّه عدل عن ذلك تنزيها للقرآن عن نسبة الإضلال والنّقمة اليه وتصريحا بانّ الضّلال والنّقمة ليس الّا من قبل أنفسهم فانّهم بسوء استعدادهم وصنيعهم يضلّون بالقرآن الّذى هو هداية من الله ويصير القرآن في أسماعهم كالاسمار لهو الحديث (لِيُضِلَ) قرئ بفتح الياء وضمّها ، واللّام مثل اللّام في ليكون لهم عدوّا وحزنا ، أو هي اللّام الدّاخلة على العلّة الغائيّة فانّ من النّاس من يشتغل بالملاهي وليس مقصوده الضّلال أو الإضلال أو كان مقصوده الاهتداء لكن يضلّ ويضلّ من حيث لا يشعر ، ومنهم من يشتغل لقصد الإضلال كمن يحصّل العلم لا فساد الشّريعة (عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ) بالاشتراء أو بغير علم بانّ الاشتراء المذكور ضلال وإضلال ، أو بغير علم بضلاله وإضلاله ، أو متّصفا بغير علم ، وحينئذ يكون تنكير العلم للجنس أو لفرد مّا لكن يكون مستغرقا لوقوعه بعد غير الّذى هو في معنى النّفى ، أو يكون التّنوين للتّفخيم اى بغير علم عظيم هو العلم بالولاية (وَيَتَّخِذَها) اى يتّخذ سبيل الله وليس سبيل الله الّا سبيل الولاية (هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي

٢٢٧

أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل بعد ما ذكر جزاء المسيئين : ما جزاء المحسنين؟ ـ فقال : انّ الّذين آمنوا بالبيعة العامّة أو بالبيعة الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على وفق ما أخذ عليهم في بيعتهم ، ووضع الظّاهر موضع المضمر للفصل بين هذا الحكم وبين ذكر المحسنين ، وللاشارة الى انّ المحسن ليس الّا من آمن وعملوا الصّالحات (لَهُمْ) لا لغيرهم (جَنَّاتُ النَّعِيمِ خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) بيان لعزّته وحكمته ، عن الرّضا (ع) انّه قال : ثمّ عمد ولكن لا ترونها ، وقد مضى هذا في اوّل سورة الرّعد (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) قد مضت الآية في اوّل سورة النّحل (وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) اى من كلّ صنف فانّ كلّ صنف باعتبار ما دونه وما فوقه يسمّى زوجا أو كلّ نبات باعتبار كونه برّيّا وبستانيّا زوج (كَرِيمٍ) الكرم في كلّ شيء بحسبه وكرم النّبات باعتبار كثرة منافعه بدأ بخلق السّماوات فانّها أشرف من الأرض ، ثمّ بذكر خلق الأرض في ضمن إلقاء الرّواسىّ عليها ، ثمّ بذكر خلق المواليد من الأشرف الى الاخسّ (هذا) المذكور من السّماوات والأرض والجبال والمواليد (خَلْقُ اللهِ) اى مخلوق الله (فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) حتّى يكونوا مستحقّين للشّراكة معه وللعبادة لهم فانّ الشّريك لا بدّ وان يكون مثل الشّريك الآخر في شيء من صفاته (بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) التفات من الخطاب الى الغيبة ووضع الظّاهر موضع المضمر توصيفا لهم بالظّلم في اشراكهم ، وبيانا لعلّة الحكم ، ولفظ بل اضراب من تعجيزهم الى التّصريح بضلالهم (وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ) عطف على جملة خلق السّماوات فانّه لمّا عدّ أصول النّعم الّتى أنعم بها على عباده ذكر الشّاكر على نعمه وعدّ شكره حكمة فانّ الحكمة هي دقّة النّظر في القوّة العلّامة وإتقان الصّنع في القوّة العمّالة ، ولم يكن الشّكر الّا من دقّة النّظر وإتقان الصّنع القلبىّ والبدنىّ فانّه كما سبق في سورة البقرة عند قوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي) عبارة عن ملاحظة انعام المنعم في النّعمة وملاحظة حقّ المنعم في الانعام المستلزم لتعظيم المنعم وصرف النّعمة لما خلقت لأجله وليس هذه الملاحظة الّا دقّة النّظر ولا ذلك التّعظيم والصّرف الّا إتقان الصّنع القلبىّ والبدنىّ وقد ذكر في نسبه انّه كان ابن باعورا من أولاد أزد بن أخت ايّوب (ع) أو خالته عاش حتّى أدرك داود (ع) (أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) بملاحظة حقّه وعظمته في كلّ ما له مدخليّة في وجودك وبقائك وهو كلّ موجود في العالم الكبير من المحسوسات وغير المشهودات ، وفي العالم الصّغير من كلّ ماله مدخليّة في وجودك أو في كمال وجودك ، ولفظة ان تفسيريّة وتفسير للحكمة فانّها كما تكون تفسيرا للمجمل المحذوف تكون تفسيرا للمجمل المذكور ، أو مصدريّة بتقدير اللّام ، أو تكون مع ما بعدها بدلا من الحكمة (وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) جملة حاليّة أو معطوفة على جملة (لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ) (الآية) ، أو على الحكمة ، أو على ان اشكر على ان يكون ان مصدريّة ، ويكون بدلا وعليهما فليقدّر قبلهما مضاف حتّى تصير مفردة والتّقدير ان اشكر لله ومضمون من يشكر فانّما يشكر لنفسه ، أو عطف على اشكر سواء جعلت ان تفسيريّة أو مصدريّة لكن بتقدير القول والتّقدير ان اشكر لله وقل لغيرك : من يشكر فانّما يشكر لنفسه لانّ نفعه عائد اليه (وَمَنْ كَفَرَ) كفران النّعم بترك ملاحظة المنعم وتعظيمه في النّعمة وترك صرفها في وجهها لا يضرّ الله شيئا (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عن حمد الحامدين وشكر الشّاكرين (حَمِيدٌ) بنفسه حمد أم لم يحمد ، وفي خبر شكر كلّ نعمة وان عظمت ان يحمد الله عزوجل عليها ، وفي خبر : وان كان فيما أنعم عليه حقّ ادّاه ، وفي خبر : من أنعم الله عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدّى

٢٢٨

شكرها ، وفي خبر اوحى الله عزوجل الى موسى (ع) : يا موسى اشكرني حقّ شكري فقال : يا ربّ وكيف أشكرك حقّ شكرك وليس من شكر أشكرك به الّا وأنت أنعمت به علىّ؟ ـ قال : يا موسى الآن شكرتني حين علمت انّ ذلك منّى.

شرح في أحوال لقمان

وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن لقمان وحكمته الّتى ذكره الله عزوجل فقال : اما والله ما اوتى لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال ولكنّه كان رجلا قويّا في امر الله مستودعا في الله ساكتا سكّيتا عميق النّظر طويل الفكر حديد النّظر مستغن بالعبر لم ينم نهارا قطّ ولم يره أحد من النّاس على بول ولا غائط ولا اغتسال لشدّة تستّره وعمق نظره وتحفّظه في امره ولم يضحك من شيء قطّ مخافة الإثم ، ولم يغضب قطّ ولم يمازح إنسانا قطّ ، ولم يفرح بشيء أتاه من امر الدّنيا ولا حزن منها على شيء قطّ ، وقد نكح من النّساء وولد له الأولاد الكثير وقدّم أكثرهم افراطا فما بكى على موت أحد منهم ، ولم يمرّ برجلين يختصمان أو يقتتلان الّا أصلح بينهما ، ولم يمض عنهما حتّى تحابّا (أو تحاجزا) ولم يسمع قولا قطّ من أحد استحسنه الّا سأل عن تفسيره وعمّن اخذه فكان يكثر مجالسة الفقهاء والحكماء وكان يغشى القضاة والملوك والسّلاطين فيرثي للقضاة ممّا ابتلوا به ، ويرحم الملوك والسّلاطين لغرّتهم وطمأنينتهم في ذلك ، ويعتبر ويتعلّم ما يغلب به نفسه ويجاهد به هواه ويحترز به من الشّيطان ، وكان يداوي قلبه بالتّفكّر والعبر وكان لا يظعن الّا فيما ينفعه ، ولا ينظر الّا فيما يعينه ، فبذلك اوتى الحكمة ومنح العصمة وانّ الله تبارك وتعالى امر طوائف من الملائكة حين انتصف النّهار وهدأت العيون بالقائلة فنادوا لقمان حيث يسمع ولا يراهم ، فقالوا : يا لقمان هل لك ان يجعلك الله خليفة في الأرض تحكم بين النّاس؟ ـ فقال لقمان : ان أمرني ربّى بذلك فالسّمع والطّاعة لانّه ان فعل بى ذلك أعانني عليه وعلّمنى وعصمنى ، وان هو خيّرنى قبلت العافية ، فقالت الملائكة : يا لقمان لم قلت ذلك؟ ـ قال : لانّ الحكم بين النّاس باشدّ المنازل من الدّين وأكثر فتنا وبلاء وما يخذل ولا يعان ويغشاه الظّلم من كلّ مكان وصاحبه منه بين أمرين ، ان أصاب فيه الحقّ فبالحرىّ ان يسلم ، وان اخطأ أخطأ طريق الجنّة ، ومن يكن في الدّنيا ذليلا ضعيفا كان أهون عليه في المعاد من ان يكون فيه حكما سريّا شريفا ، ومن اختار الدّنيا على الآخرة يخسرهما كلتيهما تزول هذه ولا يدرك تلك ، قال : فعجبت الملائكة من حكمته واستحسن الرّحمن منطقه ، فلمّا امسى وأخذ مضجعه من اللّيل انزل الله عليه الحكمة فغشّاه بها من قرنه الى قدمه وهو نائم وغطّاه بالحكمة غطاء فاستيقظ وهو احكم النّاس في زمانه ، وخرج على النّاس ينطق بالحكمة ويبثّها فيهم قال : فلمّا اوتى الحكم بالخلافة ولم يقبلها امر الله عزوجل الملائكة فنادت داود (ع) بالخلافة فقبلها ولم يشترط فيها بشرط لقمان (ع) فأعطاه الله عزوجل الخلافة في الأرض وابتلى فيها غير مرّة كلّ ذلك يهوى في الخطاء ويقيله الله تعالى ويغفر له ، وكان لقمان يكثر زيارة داود (ع) ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه ، وكان داود يقول له : طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة وصرفت عنك البليّة ، واعطى داود الخلافة وابتلى بالحكم والفتنة ، ولمّا كان الحكمة لا تحصل الّا بمعرفة امام الزّمان فسّرها الصّادق (ع) بمعرفة امام زمانه ، ولمّا كانت لا تحصل بحسب جزءها العلمىّ الّا بالفهم والعقل فسّرها الكاظم (ع) بالفهم والعقل ، وقد ذكر من حكم لقمان ووصاياه لابنه وغيره في المفصّلات من أراد فليرجع إليها (وَإِذْ قالَ) عطف على قوله تعالى لقد آتينا فانّه في معنى اذكر إذ آتينا لقمان الحكمة وإذ قال (لُقْمانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ) قدّم من مواعظه وآثار حكمته النّهى عن الإشراك لانّ التّوحيد أصل جملة المواعظ وأساس جميع أنواع الحكم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) لانّه لا يغفره الله ويغفر ما دون ذلك فانّ ظلم العبد لنفسه بتقصيره في حقوق الله يغفره الله ، وظلمه لغيره في ماله أو بدنه أو عرضه لا يدعه الله لكن ليس لا يغفره الله فانّه بعد المقاصّة مغفور بخلاف الشّرك فانّه ناش من انانيّة النّفس وما دام للنّفس انانيّة لا يغفرها الله ، فأعظم أقسام الظّلم هذا القسم (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ) يعنى وصّيناه بالإحسان إليهما فانّ هذه العبارة مستعملة

٢٢٩

في هذا المعنى وقد مضى في سورة البقرة وسورة النّساء عند قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) بيان الوالدين والإحسان إليهما واقسامهما (حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً) حمل ضعف أو واهنة (عَلى وَهْنٍ) فانّه كلّما يمضى من زمان حمل الولد يحصل وهن آخر (وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ) اى في انقضاء عامين على الأغلب وعلى ما ينبغي ان يفطم والجملتان معترضتان جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل كما انّ مجموع قوله تعالى (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ) (الى قوله) (يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ) (الآية) كان معترضا للاشعار بالاهتمام بأمر الوالدين كالاهتمام بأمر التّوحيد كما مضى في السّورتين المذكورتين انّه تعالى لكمال الاهتمام بأمر الوالدين قرنهما بتوحيده وبالنّهى عن اشراكه في عدّة مواضع (أَنِ اشْكُرْ لِي) ان تفسيريّة أو مصدريّة وبدل مع ما بعدها عن الوالدين بدل الاشتمال (وَلِوالِدَيْكَ) ولكمال الاهتمام بالوالدين ذكر شكر الوالدين قرينا لشكره (إِلَيَّ الْمَصِيرُ) في مقام التّعليل ولم يقل ان اشكر لي واشكر لوالديك لئلّا يتوهّم انّ شكر الوالدين امر مغاير لشكر الله بل شكر الله ليس الّا شكر الوالدين كما عن الرّضا (ع) فانّه قال امر بالشّكر له وللوالدين فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله أقول : وليس ذلك الّا من جهة كون شكر الله مندرجا في شكر الوالدين (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) لمّا كان الوالدان التّكوينيّان كما مضى في سورة البقرة والنّساء بحسب كلّ مرتبة من مراتب وجود الإنسان وكلّ شأن من شؤنه غير الوالدين بحسب المرتبة الاخرى والشّأن الآخر وهكذا بحسب التّكليف والاختيار كان الشّيطان والنّفس والديه كما انّ العقل والنّفس ومحمّدا (ص) وعليّا (ع) كانا والديه ، فكما يجوز ان يكون المراد بالوالدين الوالدين الجسمانيّين يجوز ان يراد بهما الوالدان الرّوحانيّان ، وكما يجوز ان يراد الوالدان التّكوينيّان يجوز ان يراد التّكليفيّان فجاز ان يراد بالوالدين في قوله ووصّينا الإنسان بوالديه الجسمانيّان والرّوحانيّان ، وبالضّمير في قوله وان جاهداك الجسمانيّان أو الرّوحانيّان اللّذان هما والداه بحسب مقام جهله تكوينا أو تكليفا بطريق الاستخدام ، وقد ورد اخبار كثيرة دالّة على انّ محمّدا (ص) وعليّا (ع) أفضل آباء هذه الامّة وانّ حقّهما أعظم من حقّ آبائهم الجسمانيّين ، وانّ من أرضاهما ارضى الله والديه الجسمانيّين ، فعن جعفر بن محمّد (ع) : من رعى حقّ أبويه الأفضل محمّد (ص) وعلىّ (ع) لم يضرّه ما ضاع من حقّ أبوي نفسه وسائر عباد الله فانّهما يرضيانهما بشفاعتهما ، وعن علىّ بن محمّد (ع) : من لم يكن والدا دينه محمّد (ص) وعلىّ (ع) أكرم عليه من والدي نسبه فليس من الله في حلّ ولا حرام ولا قليل ولا كثير ، وعن أمير المؤمنين (ع) انّه قال : الوالدان اللّذان أوجب الله لهما الشّكر هما اللّذان ولّدا العلم وورّثا الحكم ، وامر النّاس بطاعتهما ثمّ قال : الىّ المصير فمصير العباد الى الله والدّليل على ذلك الوالدان ثمّ عطف على ابن حنتمة (١) وصاحبه فقال في الخاصّ والعامّ : وان جاهداك ان تشرك بى يقول في الوصيّة وتعدل عمّن أمرت بطاعته فلا تطعهما ولا تسمع قولهما ، ثمّ عطف القول على الوالدين فقال : وصاحبهما في الدّنيا معروفا ، يقول عرّف النّاس فضلهما وادع الى سبيلهما وذلك قوله واتّبع سبيل من أناب الىّ ثمّ الىّ مرجعكم قال الى الله ثمّ إلينا فاتّقوا الله ولا تعصوا الوالدين فانّ رضاهما رضا الله وسخطهما سخط الله ، وقد ورد اخبار كثيرة في حفظ حقّ الوالدين الجسمانيّين أيضا وطاعتهما والتّرحّم عليهما والدّعاء لهما وان كانا لا يعرفان الحقّ ، روى انّه جاء رجل الى النّبىّ (ص) فقال : أوصني ، فقال (ص) : لا تشرك بالله شيئا وان حرقت بالنّار الّا وقلبك مطمئنّ بالايمان ووالديك فأطعهما وبرّهما حيّين كانا أو ميّتين وان امراك ان تخرج من أهلك ومالك فافعل فانّ ذلك من الايمان ، وعن الصّادق (ع) : برّ الوالدين واجب وان كانا مشركين ولا طاعة لهما في معصية الخالق ولا لغيرهما فانّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق

__________________

(١) حنتمة بالحاء المهملة والنون والتاء المثناة الفوقانية هي بنت ذي الرمحين امّ عمر.

٢٣٠

(وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً) صحابا معروفا يعرفه العقلاء بالحسن ، والمعروف بالنّسبة الى أنواع الوالدين يختلف فانّ المعروف بالنّسبة الى محمّد (ص) وعلىّ (ع) ان لا تخالف قولهما لا في الظّاهر ولا في الباطن وان تطيعهما في كلّ ما امراك به ، وان تحبّهما وتبايع معهما ، وترابط معهما المرابطة القلبيّة بان تكون متوجّها إليهما ومتذكّرا لهما ومصوّرا لصورتهما في كلّ حال ، والمعروف بالنّسبة الى والديك الجسمانيّين لا يخفى على أحد (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) يعنى لا يكن صحابتك المعروفة مخرجة لك من طريق الولاية وصارفة لك من توجّهك الى طريق قلبك فانّ الاهتمام بشأن الوالدين ليس الّا لسلامة البقاء على طريق القلب وطريق الولاية فلا يكن اهتمامك بالوالدين مخرجا لك عن الولاية (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ) ضمير انّها للقصّة أو للاشراك والتّأنيث باعتبار الخبر الّذى هو مثقال حبّة فانّ المثقال بصحّة سقوطه يكسب التّأنيث من المضاف اليه ، أو باعتبار الخصلة كأنّه قال : انّ خصلة الإشراك ، وقيل : انّ الضّمير للعمل سيّئة كان أو حسنة باعتبار الخصلة ، وقرئ مثقال بالرّفع بجعل الضّمير للقصّة وكون كان تامّة (فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ) يعنى تكن في جوف أصلب الأشياء (أَوْ فِي السَّماواتِ) يعنى في ابعد الأماكن (أَوْ فِي الْأَرْضِ) اى في أقرب الأماكن إليكم (يَأْتِ بِهَا اللهُ) يحضرها ويحاسب عليها ، قيل : انّ ابن لقمان سئل فقال : أرأيت الحبّة تكون في مقل البحر أيعلمها الله؟ ـ فقال : انّها اى الحبّة الّتى سألتها ان تك مثقال حبّة (الآية) ، وقيل : انّ المراد انّ الرّزق ان كانت مثقال حبّة من خردل يأتيك بها الله (إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ) في علمه وعمله فيعلم مثقال حبّة من خردل وان كانت في أخفى الأماكن وأصلبها أو أبعدها أو أقربها ويقدر على الإتيان بها من تلك الأماكن لدقّته في عمله (خَبِيرٌ) ويجوز ان يكون المراد باللّطيف لطفه في عمله ، وبالخبير لطفه في علمه ، وعن الصّادق والباقر (ع) : اتّقوا المحقّرات من الذّنوب فانّ لها طالبا لا يقولنّ أحدكم أذنب واستغفر الله انّ الله يقول : ان تك مثقال حبّة من خردل (الآية) (يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ) قد مضى في اوّل البقرة وفي سورة النّساء عند قوله (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) بيان تامّ لاقسام الصّلوة وإقامتها (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ) قد مضى في سورة البقرة عند قوله (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) بيان للأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر (وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ) من البلايا أو المشقّة والأذى في الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر (إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ممّا ينبغي ان يعزم عليه لكونه فرضا من الله أو فرضا تكوينيّا للنّفس الانسانيّة وللاهتمام بهذه الأمور أتى بقوله : انّ ذلك من عزم الأمور بين المتعاطفات (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ) لا تمل خدّك عنهم في المعاشرة معهم ولا تعرض عمّن يكلّمك استخفافا به ، وقيل : المعنى لا تذلّ للنّاس طمعا فيما عندهم (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً) المرح شدّة الفرح اى تكبّر عنهم فرحا بما عندك (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ) الاختيال والفخر متقاربا المفهوم فانّهما خصلتان ناشئتان من ملاحظة النّفس وانانيّتها والفرح بها ، وملاحظة الغير وتحقيره في جنب نفسه لكن في الاختيال ملاحظة النّفس غالبة ، وفي الفخر ملاحظة الغير وتحقيره غالبة (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ) يعنى عن الاسراع فانّ المقصود التّوسّط بين الاختيال الظّاهر بالتّأنّى في المشي وبين خفّة النّفس وعدم وقارها الظّاهر بالاسراع في المشي (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ) اى انقص من صوتك ولا ترفعه قدر ما يمكن لك رفعه فالمقصود التّوسّط بين الخفض بحيث لا يسمعه من أردت إسماعه ولا يزيد على قدر إسماعه (إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ)

٢٣١

اشدّها زجرا (لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) عن الصّادق (ع) انّه قال : هي العطسة القبيحة والرّجل يرفع صوته بالحديث رفعا قبيحا الّا ان يكون داعيا أو يقرأ القرآن وقد اقتصر تعالى شأنه من حكاية مواعظه على ما هو أصل أصول الدّين وهي الإشراك بالله أو الإشراك بالنّبوّة أو الولاية وعلى ما هو أصل أصول الأعمال الشّرعيّة من اقامة الصّلوة والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر والصّبر عليها أو على البلايا ، لكنّ المقصود الصّبر على الصّلوة وما بعدها حتّى يمكن عدّه من جانب الأعمال الشّرعيّة القالبيّة لانّ الصّبر على البلايا معدود من الأخلاق النّفسيّة وعلى ما هو أصل أصول آداب المعاشرة وقد ذكرنا قبيل هذا انّ ما نقل من مواعظه كثيرة من أراد فليرجع الى المفصّلات (أَلَمْ تَرَوْا) جواب لسؤال مقدّر ناش من قوله لقد آتينا لقمان الحكمة كأنّه قيل : لقد آتيت لقمان الحكمة فما لنا لم نؤت الحكمة؟ ـ فقال تعالى : قد آتيناكم أسباب حصول الحكمة فيكم من مدارككم الظّاهرة ومدارككم الباطنة وتسخير جميع ما في السّماوات وجميع ما في الأرض لكم بحيث يمكن لكم الاستدلال بها على مبدء عليم قدير حكيم مريد رحيم رؤف لطيف في علمه وعمله متقن لصنعه ، وعلى انّ الإنسان أشرف الموجودات ، وانّ الكلّ مخلوق لأجل بقائه وانتفاعه ، وان ليس المقصود منه تعمير هذه الدّار الفانية والّا كان مثل سائر المواليد موجودا لأجل غيره ، وانّه ينبغي له ان لا يتوقّف على تعيّش هذا العالم بل لا بدّ ان يجعل تعيّشه في الدّنيا مقدّمة للآخرة ، وانّ كلّ ما لم يكن مقدّمة للآخرة من جهات هذا العالم فهو فان غير باق لا ينبغي للعاقل ان يتوسّل به ويتوقّف عليه وليس الحكمة الّا هذا فان لم تتفكّروا ولم تتّصفوا بها كان من قبلكم (أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ) من الكواكب والملائكة الموكّلة بالسّماوات وكواكبها بحيث لم يتوانوا آنا ما من تحريك الأجسام الّتى بها وبتحريكها يتولّد المواليد وتبقى (وَما فِي الْأَرْضِ) من الدّوابّ والنّبات والمعادن بحيث لا يتأبّى من تصرّفكم باىّ تصرّف شئتم فما في السّماوات مسخّر لله لأجل انتفاعكم وما في الأرض مسخّر لله ولكم لأجل انتفاعكم (وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) النّعم الظّاهرة كلّ ملائم لك له تعلّق بظاهرك المحسوس من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركوب والمنكوح والعزّ والعرض والحشمة والصّيت والمدارك الظّاهرة والأعضاء وغير ذلك ، وأشرف الكلّ ما له تعلّق بظاهرك ومع ذلك يكون جالبا للنّعم الباقية الاخرويّة من الرّسول ورسالته وقبول رسالته بالبيعة العامّة والدّعوة الظّاهرة واحكام رسالته والعمل بها ، والنّعم الباطنة ما له تعلّق بباطنك من المدارك الباطنة والإدراكات الدّقيقة بالتّفكّرات الدّقيقة والنّفس والقلب والعقل والاستعداد للخروج من هذه الدّار ، وأشرف الكلّ الولىّ (ع) وولايته وقبول ولايته بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة واحكام الولاية ، وقد أشير الى ذلك في الاخبار فعن الباقر (ع) امّا النّعمة الظّاهرة فالنّبىّ (ص) وما جاء به من معرفة الله وتوحيده وامّا النّعمة الباطنة فولايتنا أهل البيت (ع) وعقد مودّتنا ، وعن الكاظم (ع) : النّعمة الظّاهرة الامام الظّاهر والباطنة الامام الغائب ، وكأنّه كان اشارة الى الفكر المصطلح للصّوفيّة من ظهور ملكوت ولىّ الأمر على صدر السّالك (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ) قد مضى الآية بتمام اجزائها في سورة الحجّ (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) اعرضوا و (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) كما كان عليه أهل كلّ زمان فانّه إذا قيل لهم : اتّبعوا ولىّ أمركم وعالم وقتكم يقولون : نحن على ما كان عليه أسلافنا (أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) يعنى لا ينبغي التّقليد لمن لم يكن حاله معلوما لك بل ينبغي ان يكون الإنسان مقلّدا لعالم حىّ قد ميّز حاله وعلم انّه مجاز من المعصوم بواسطة أو بلا واسطة ولا اقلّ من العلم بانّه يفعل ما يقول ويقول ما يفعل ، ولا يكون كالمدّعين الّذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم (وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى)

٢٣٢

قد مضى اوّل الآية في سورة النّساء مع تفصيل وتحقيق في بيانها وآخرها في سورة البقرة (وَإِلَى اللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ) يعنى عاقبة جملة الأمور ينتهى الى الله بمعنى انّ إيجاد الاملاك والأفلاك والعناصر ليس الّا لإيجاد المواليد ، وجميع الحركات الاراديّة والطّبيعيّة وسكناتها وجميع المواليد ليست الّا لإيجاد الإنسان وقد خلقه الله لأجل نفسه ، أو المعنى كلّ امر ينتهى عاقبته الى الله بمعنى انّ كلّ فعل غايته ينتهى الى امر ليس هو مقصودا بذاته بل هو مقصود لأجل الغير الى ان ينتهى الى غاية الغايات ونهاية النّهايات ، أو المعنى ينتهى عاقبة كلّ الأمور الى الله في النّظر واللّحاظ بمعنى انّ النّاظر إذا نظر الى امر وجده صادرا عن فاعل ، وإذا نظر الى ذلك الفاعل وجده مسخّرا لغيره في ذلك الفعل ، وهكذا الى ان ينتهى الى المسخّر الحقيقىّ الّذى هو الله فيكون فاعل كلّ امر هو الله لكنّه يكون في هذا اللّحاظ عاقبة جملة الفواعل (وَمَنْ كَفَرَ) يعنى بالولاية فانّ إسلام الوجه لله ليس الّا بالولاية فالكفر المقابل لاسلام الوجه لله لا يكون الّا بالكفر بالولاية بترك البيعة مع ولىّ الأمر أو إنكاره يعنى من كفر بعلىّ (ع) (فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ) فانّه لا يضرّك ولا يضرّ عليّا (ع) ولا يفوتنا لانّه (إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا) لانّا عالمون بدقائق أعمالهم وخفاياها (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) اى المكمونات الّتى في الصّدور من القصور والنّيّات أو من الاستعدادات الّتى لا شعور لصاحبيها بها فكيف بأعمالهم ودقائق أعمالهم وخفاياها (نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كان الله عالما بأعمالهم فما لنا نراهم متمتّعين بأنواع النّعم معافين من أنواع البلاء؟ ـ فقال نمتّعهم قليلا حتّى نأخذ بذلك التّمتّع ما أعطيناهم وما بقي فيهم من بقيّة الله حتّى يخلصوا للنّار (ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) لانّه لا جواب لهم سواه يعنى ان سألت مشركي مكّة والّا فالزّنادقة ومنكروا المبدء لا يقولون ذلك (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) الّذى لا ينكره ولا ينكر خلقه لظهوره وظهور برهانه من أشرك به ، أو المعنى ان سألت الخلق طرّا من خلق السّماوات والأرض قالوا كلّا بلسان حالهم النّاطق تكوينا : انّ الله خالقهما وان لم يكن لهم شعور بهذا اللّسان ونطقه لكنّك لفتح مسامعك الاخرويّة لسماع الكلمات التّكوينيّة تسمع نطقهم بذلك وشهادتهم فقل الحمد لله على شهادة الكلّ بذلك وعلى فتح مسامعي الاخرويّة لتلك الشّهادة ، وفي الاخبار اشارة الى هذا المعنى فعن رسول الله (ص) كلّ مولود يولد على الفطرة يعنى على المعرفة بانّ الله عزوجل خالقه فذلك قول الله عزوجل ولئن سألتهم (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) لا علم لهم بل ادراكاتهم ليست الّا جهالات ، أو لا يعلمون انّ ألسنتهم ناطقة بذلك لعدم شعورهم بألسنتهم التّكوينيّة الاستعداديّة (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا حال السّماوات والأرض فما حال ما في السّموات والأرض؟ (إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِيُ) استيناف في مقام التّعليل أو جواب لسؤال آخر عن حاله كأنّه قيل : اله حاجة إليها؟ فخلقها لحاجته؟ ـ فقال : انّ الله هو الغنىّ لا غنىّ سواه فلا يكون له جهة حاجة (الْحَمِيدُ) الّذى لا حميد سواه بمعنى انّ كلّ ما يتصوّر ان يكون له من صفات الكمال كان حاصلا له وكلّما ما يتصوّر ان يكون متّصفا به من سلوب النّقائص كان متّصفا به فلا يتصوّر جهة حاجة لمثل هذا (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ) جملة حاليّة أو معطوفة لتأكيد هذا المعنى (مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) قد مضى بيان هذه الآية في آخر سورة الكهف فلا نعيده (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) في مقام التّعليل يعنى انّه عزيز وعزّته مانعة من ان تعدّ مقاماته أو تنفد كلماته جملة مراتب الاعداد وجملة السّائلات الّتى يصحّ ان تكون مدادا ، والنّباتات الّتى يصحّ ان تكون أقلاما فانّه لو غلب شيء على مقاماته أو كلماته كانت متناهية وكلّما كان متناهيا كان فانيا غير غالب (حَكِيمٌ)

٢٣٣

لا يخرج تلك الكلمات الغير المتناهية الّا بقدر استعداد موادّها واستحقاق أعيانها الثّابتة (ما خَلْقُكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ان كانت الكلمات غير متناهية فكيف يحاسب الله تعالى كلّها في يوم واحد؟ ـ فقال : ما خلقكم جميعا (وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) اى كخلق نفس واحدة وبعثها ، وقيل : بلغنا والله اعلم انّهم قالوا : يا محمّد (ص) خلقنا أطوارا نطفا ثمّ علقا ثمّ انشأنا خلقا آخر كما تزعم وتزعم انّا نبعث في ساعة واحدة ، فقال الله : ما خلقكم ولا بعثكم الّا كنفس واحدة انّما يقول له كن فيكون (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) جواب سؤال مقدّر في مقام التّعليل يعنى انّه سميع لكلّ مسموع ، بصير لكلّ مبصر ، فانّ حذف المفعول ليس الّا للتّعميم ومن كان كذلك كان لا يشغله شأن عن شأن فلا يمنعه خلق نفس ولا بعثها عن خلق اخرى وبعثها (أَلَمْ تَرَ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) والجملة جواب لسؤال آخر مقدّر في مقام التّعليل للجملة الاولى أو لقوله : (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ أَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) قد مضى بيان إيلاج اللّيل والنّهار في آل عمران (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي) جملة حاليّة أو مستأنفة لبيان حالهما (إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) يعنى كلّ يجرى دورة الفلك الى وقت معيّن مضبوط بحيث يستخرج المستخرجون دوراتهما ومدّة دوراتهما سنين قبل وقوعها ولا يقع تخلّف في استخراجهم ، أو المعنى كلّ يجرى الى أجل مسمّى عند الله وهو وقت خراب الدّنيا وطىّ السّماء كطىّ السّجلّ للكتب (وَأَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وليس هذا الّا لانّ الله لا يشغله شأن عن شأن ولا وصف عن وصف ولا علم عن علم (ذلِكَ) العلم بكلّ شيء وإيلاج اللّيل في النّهار والنّهار في اللّيل وتسخير الكواكب (بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُ) بحقيقة الحقّيّة فانّ الحقّ بحقيقة الحقّيّة كما يقتضي الوجوب الذّاتىّ يقتضي الاحاطة بجميع الأشياء والعلم بالكلّ على السّواء وعدم ممانعة شأن من شأن وعلم من علم (وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ) من الشّركاء من الأصنام والكواكب وغيرها أو من شركاء علىّ (ع) في الولاية هو (الْباطِلُ) فانّه لو كان شوب حقّيّة فيها لزاحمته تعالى في شؤنه وفي علومه ، أو ذلك المذكور من الجدال بغير علم الى قوله : انّ الله خبير بما تعملون بانّ الله هو الحقّ وانّ ما يدعون من دونه الباطل (وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) كعلوّ النّفس بالنّسبة الى قواها واعضائها وككبرها كذلك فلذلك يكون خبرته بالكلّ على السّواء وتصرّفه في الكلّ سواء (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل لعلوّه وكبره يعنى انّك يا محمّد (ص) ترى ببصيرتك انّ الفلك تجري على الماء بتسبيبات رقيقة كان الطّبيعيّون عميانا منها وينسبون جريها الى الأسباب الطّبيعيّة غفلة عن الأسباب الالهيّة ، أو الخطاب عامّ والمعنى ينبغي ان ترى يا من يمكن منه الرّؤية (لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ) على النّظر الى انعام الله والتّوجّه الى تسبيب الله فانّ غيره لا يدرك من آياتها شيئا (شَكُورٍ) ناظر الى انعام الله وتعظيمه في انعامه والمراد بالصّبّار الشّكور هو المؤمن الّذى ليس ساهيا عن صلوته فانّ في الخبر : الايمان نصفان نصف صبر ونصف شكر ، وقيل : المراد راكب البحر فانّه بين خوف ورجاء وصبر وشكر (وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ) من البحر (كَالظُّلَلِ) مرتفعا فوق رؤسهم (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اى طريق الدّعاء أو الطّاعة أو الطّريق مطلقا ، وقد تكرّر فيما سلف انّه إذا ارتفع مانع الفطرة من الخيال وحيله خلص الانسانيّة لربّه وخلص الطّريق الى الله من الطّرق الشّيطانيّة (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ) اى منهم من يبقى على خلوصه ومنهم من يعود اليه خياله وحيله ويجحد آيات ربّه (وَما يَجْحَدُ

٢٣٤

بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ) اى غدّار فانّ الختر الغدر أو اقبحه والخديعة (كَفُورٍ) كثير السّتر للطّريق اى الولاية وهي طريق القلب الى الله أو كفور للنّعم (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ) قرئ يجزى من الثّلاثىّ المجرّد بمعنى لا يقضى ، ومن باب الأفعال بمعنى لا يكفى (وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ) اى مولود شأنه ان يكون جازيا عن أبيه وعن أقربائه (عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بإتيان القيامة ونشر الكتاب والحساب والمجازاة فيها (حَقٌ) لا شوب كذب فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) عن آخرتكم واليوم الموعود لكم حتّى تغفلوا عنه وعن العمل له (وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) اى الشّيطان بأن طوّل آمالكم وارجاكم التّوبة عند الموت واجرأكم على معاصي الله وجمع الدّنيا من الحلّ والحرام (إِنَّ اللهَ) لا غيره (عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) عن الصّادق (ع) هذه الخمسة أشياء لم يطّلع عليها ملك مقرّب ولا نبىّ مرسل وهي من صفات الله تعالى ، وفي نهج البلاغة فهذا هو علم الغيب الّذى لا يعلمه أحد الّا الله ، وقيل : انّ الحارث بن عمرو أتى رسول الله (ص) فقال : متى قيام السّاعة؟ وانّى قد ألقيت حبّا في الأرض فمتى السّماء تمطر؟ وحمل امرأتى ذكر أم أنثى؟ وما اعمل غدا؟ واين أموت؟ فنزلت هذه الآية. اعلم ، انّ في الاخبار دلالة على انحصار علم هذه الأشياء الخمسة في الله واستدلّوا على الانحصار بهذه الآية وقد بلغ إلينا انّ الأنبياء وأوصياءهم (ع) وبعض اتباعهم كانوا يخبرون ببعض هذه الخمسة ، وظاهر هذه الآية لا تدلّ على ثبوت العلم لله تعالى في موت الأنفس ومحلّ موتها فضلا عن الدّلالة على حصر العلم به فيه تعالى فنقول : قد فسّرت السّاعة بساعة الموت والاحتضار ، وهي القيامة الصّغرى ، وبساعة ظهور القائم (ع) وبالقيامة الكبرى ، وانّ السّاعة من السّوع بمعنى الضّياع والهلاك ، وكلّ ذلك فيه معنى الضّياع لضياع التّعيّنات عند الموت وعند ظهور القائم (ع) وعند القيامة الكبرى ، امّا ساعة الموت فقد كانوا يخبرون عنها بل الحذّاق من الاطبّاء كانوا يخبرون عنها ، وامّا ظهور القائم (ع) فانّه ملازم للموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ لانّه من يمت يره ويظهر القائم (ع) أيضا عند القيامة الكبرى ، والقيامة الكبرى لا يعلمها النّبىّ والوصىّ والمؤمن من حيث نبوّته ووصايته وايمانه ، ولكن لمّا كان للآلهة درجات والكاملون بعد الخروج من جهة خلقيّتهم يسيرون في الجهة الحقّيّة ودرجات الآلهة حتّى يقفوا بعد الكمال على الأعراف ، والأعراف مقام القيامة الكبرى ، لم يكن استبعاد في علمهم بساعة القيامة الكبرى للعباد من حيثيّة الآلهة لا من الحيثيّة الخلقيّة وتنزيل الغيث والعلم بوقت نزوله ومكانه وقدره قد يجيء من الأنبياء وأوصيائهم (ع) واتباعهم لكن لا من الحيثيّة الخلقيّة بل من حيثيّة الآلهة ، وهكذا الحال في البواقي ، فالعلم بهذه الخمسة وبكلّ ما غاب عن المدارك البشريّة ليس الّا لله سواء كان العلم بها في المظاهر الالهيّة أو في مقام المشيّة أو في مقام الاحديّة ، ونسب الى الائمّة انّهم قالوا : انّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التّفصيل والتّحقيق الّا الله ، وامّا دلالة الآية على علمه تعالى وحصر العلم بها فيه تعالى فنقول : تقديم المسند اليه وتقديم الظّرف في قوله : انّ الله عنده علم السّاعة يدلّ على الحصر ، وعطف ينزّل الغيث على المسند يدلّ على حصر تنزيل الغيث ، وتنزيل الغيث مستلزم للعلم به ، والعدول عن علم تنزيل الغيث للاشارة الى حصر تنزيل الغيث مع الاشارة الى العلم به وقوله (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) مع قوله : ما تدري نفس يدلّ على حصر العلم بموت الأنفس ومحلّ موتها فيه تعالى.

٢٣٥

سورة السّجدة

وسمّيت سجدة لقمان لئلّا يلتبس بحم السّجدة وهي ثلاثون آية مكّيّة سوى ثلاث آيات

قوله تعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) (الى تمام الثّلاث).

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) قد مضى في اوّل البقرة وفي غيرها ما به الغنية عن بيان الآية هاهنا (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ) اى الكتاب أو تنزيل الكتاب (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لكونهم في زمان الفترة وخمود آثار الرّسالة وخمود أوصياء الرّسل (ع) فيه (لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ) الى الولاية الّتى هي طريق الآخرة (اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) قد مضى الآية في سورة الأعراف (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) الشّفيع بمنزلة النّصير وقد تكرّر بيانه في ما مضى (أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ) اى ينزّل الأمر مع ملاحظة حسن دبره وعاقبته من سماء الأرواح الى أراضي الأشباح على استمرار (ثُمَّ يَعْرُجُ) الأمر من الأرض (إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ).

اعلم ، انّ ايّام الآخرة ليست في عرض ايّام الزّمان بل هي في طولها بمعنى انّ ايّام الدّنيا قوالب لايّام الآخرة وهي بمنزلة الأرواح لايّام الدّنيا ، وكلّ مرتبة من مراتب الآخرة سعتها واحاطتها بالنّسبة الى مراتب الدّنيا مضاعفة ، فكلّ يوم من ايّام الآخرة بالنّسبة الى يوم من ايّام الدّنيا يضاعف سعته بعشر ومائة والف وعشرة آلاف الى خمسين ألفا هذا بالنّسبة الى ايّام الدّهر ، وامّا ايّام السّرمد فلا تحدّ بشيء لعدم نهايتها وتحدّدها ، وقد مضى شطر من تحقيق هذا المطلب في اوّل بنى إسرائيل ، والمراد بالأمر الّذى يدبّره من السّماء الى الأرض ثمّ يعرج من الأرض الى السّماء هو الوجود الفعلىّ الّذى هو المشيّة الّتى هي امره تعالى وفعله وكلمته وإضافته الى غير ذلك من الأسماء فانّه يتنزّل من سماء المشيّة الى سماء الأرواح ثمّ الى سماء النّفوس الكلّيّة ، ثمّ الى سماء النّفوس الجزئيّة ، ثمّ الى أراضي الأشباح النّوريّة ، ثمّ الى أراضي الأشباح الظّلمانيّة ، ثمّ يبتدئ في العروج من عالم الطّبع ، أو من عالم الجنّة الى أراضي الأشباح النّوريّة ، ثمّ الى أراضي الأشباح الظّلمانيّة ، ثمّ يبتدئ في العروج من عالم الطّبع ، أو من عالم الجنّة الى أراضي الأشباح النّوريّة ، ثمّ الى النّفوس الجزئيّة ، ثمّ الى النّفوس الكلّيّة ، ثمّ الى الأرواح ، ثمّ الى المشيّة (ذلِكَ) العظيم البعيد عن الانظار والأوهام والعقول (عالِمُ الْغَيْبِ) اى عالم عالم الغيب (وَالشَّهادَةِ) اى عالم الشّهادة (الْعَزِيزُ) اى الغالب الّذي لا يمنعه عن مراده مانع (الرَّحِيمُ) الّذى لا يدع عباده بلا دعوة ولا داع وان اصرّوا على مخالفته وعصيانه (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ) برحمته وعلمه وعنايته بحسب صورة ذلك الشّيء وسيرته وجعله مستعدّا لطلب كمالاته فلا يدعهم بلا داع حتّى لا يقبح نشأتهم الاخرويّة (خَلَقَهُ) بدل من كلّ شيء على قراءة سكون اللّام وصفة لشيء ، أو بدل من

٢٣٦

أحسن أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر على قراءة فتح اللّام ، وقيل : المعنى أحسن معرفة كلّ شيء مثل قوله : قيمة المرء ما يحسنه اى يحسن معرفته (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ) اى آدم أو مطلق الإنسان (مِنْ طِينٍ) لانّ الماء والتّراب أظهر أجزاء عنصره وأغلبها (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ) النّسل الخلق والولد (مِنْ سُلالَةٍ) السّلالة ما انسلّ من الشّيء والمراد ما انسلّ من الغذاء في الهضم الرّابع (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) من بيانيّة (ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ) أضاف الرّوح الى نفسه تشريفا والمراد بالرّوح هو ربّ النّوع لكنّه لمّا كان اثر ظهور هذا الرّوح هو الرّوح الحيوانىّ والنّفسانىّ وهما شبيهان بالرّيح ومتحرّكان كالرّيح استعمل النّفخ فيه وقد مضى في سورة بنى إسرائيل بيان للرّوح (وَ) بعد نفخ الرّوح في الشّهر الرّابع فيكم (جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ) لصيرورة الإنسان بعد الاتّصاف بالسّمع والبصر والفؤاد قابلا للتّخاطب التفت من الغيبة الى الخطاب (وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا) لتبعيد القائلين هذا القول عن ساحة الحضور التفت من الخطاب الى الغيبة (فِي الْأَرْضِ) بتفتّت اجزائنا واعضائنا واختلاطها بتراب الأرض (أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) لتأكيد التّعجّب والتّعجيب والإنكار كرّر الاستفهام (بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ) لمّا كان قوله تعالى قالوا ائذا ضللنا في مقام ذمّهم وانّ هذا القول منهم ليس عن علم بل محض تخمين وخيال كان في معنى ان ليس قولهم عن علم وتحقيق بل هم بلقاء ربّهم اى حسابه في الآخرة كما ورد في الخبر أو لقاء ربّهم المضاف اللّقاء الفطرىّ الّذى كان ربّهم في الولاية ملاقيا به فطرة لهم كافرون ولذلك تمسّكوا بالخيال واهويتهم واعرضوا عن العلم وآثاره (قُلْ) لهم جوابا لتعجّبهم من بعثهم بعد الضّلال في الأرض لا تصيرون ضالّين في الأرض بل (يَتَوَفَّاكُمْ) يعنى يأخذ جميعكم وجميع أجزاء وجودكم بحيث لا يبقى منكم أحد ولا جزء في الأرض ولا يضلّ منكم شيء في الأرض حتّى تقولوا كيف نبعث بعد الضّلال وانّما الضّالّ في الأرض هو مادّتكم الّتى ليست منكم (مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) اى بقبض أرواحكم وجميع اجزائكم وإحصاء أمدكم وآجالكم (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) يعنى بعد قبض ملك الموت جميع اجزائكم ترجعون الى ربّكم المضاف الّذى هو ربّكم في الولاية (وَلَوْ تَرى) لو للتّمنّى أو للشّرط ، وإذا كانت للشّرط كان الجزاء محذوفا اى لرأيت امرا عجيبا والجملة حاليّة بتقدير القول على الاوّل والخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) (إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) المضاف يقولون (رَبَّنا أَبْصَرْنا) بعد رجوعنا إليك أو في الدّنيا لكن لم نعمل قالوا ذلك اعترافا بتقصيرهم (وَسَمِعْنا) منك وقبلنا أو سمعنا في الدّنيا من أنبيائك (ع) لكن لم نعمل (فَارْجِعْنا) الى الدّنيا (نَعْمَلْ صالِحاً) بعد ما رأينا عظمتك وشاهدنا عقوبتك (إِنَّا مُوقِنُونَ) من غير شكّ وريب (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) اهتدائها ورشدها أو أسباب هديها من غير ملاحظة استعداد واستحقاق لكن لم نشأ لئلّا يكون مشيّتنا جزافا غير مسبوقة بملاحظة استعداد (وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) لئلّا يقع إرادتي جزافا ويكون عذاب المعذّبين وثواب المطيعين من جهة استعدادهم (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ) اى تركناكم (وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا) مستأنف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قال : أليس هؤلاء مؤمنين بالآيات مع وضوحها وظهورها حتّى يكونوا منسيّين؟ ـ فقال : ليس

٢٣٧

هؤلاء مؤمنين بآياتنا انّما يؤمن بآياتنا (الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً).

سجدة واجبة

اعلم ، انّ المذعن بالآيات من حيث انّها آيات عظمة الله وقدرته وسعته إذا ذكّر بها لم ينظر منها الى حدودها وتعيّناتها بل ينظر إليها من حيث انّها آيات عظمة الله فيتذكّر بها عظمة الله فلا يتمالك من تذكّر عظمة الله ووجدانها فيخرّ ساجدا لعظمة الله ، كما عن مولانا جعفر الصّادق (ع) انّه صاح في الصّلوة وخرّ مغشيّا عليه فسئل عن ذلك فقال : كرّرت الآية حتّى سمعتها من قائلها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته (وَسَبَّحُوا) اى نزّهوا لطيفتهم الانسانيّة الّتى هي وجه الرّبّ واسمه ومظهره ونفسه بوجه (بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) اى بسبب حمد ربّهم يعنى بسبب سعة وجوده بحيث لا يشذّ عنه وجود وتعيّن وجود فانّ التّسبيح ليس الّا تنزيه الرّبّ من النّقائص والحدود ، وتنزيهه من النّقائص والحدود ليس الّا بسعة وجوده بحيث لا يخرج منه وجود وليس ذلك الّا حمده وسعة كمالاته (وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) عن الله أو عن تسبيحه ، أو عن الخرور والسّجود ، أو عن الايمان والطّاعة ، أو لا يستكبرون في أنفسهم (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ) من جفا السّرج عن فرسه رفعه (يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قد مضى صدر الآية في سورة الأعراف وذيلها في اوّل البقرة ، عن الباقر (ع) في هذه الآية انّه قال : لعلّك ترى انّ القوم لم يكونوا ينامون ، لا بدّ لهذا البدن ان تريحه حتّى يخرج نفسه فاذا خرج النّفس استراح البدن ورجع للرّوح قوّة على العمل ، قال نزلت في أمير المؤمنين (ع) واتباعه من شيعتنا ينامون في اوّل اللّيل فاذا ذهب ثلثا اللّيل أو ما شاء الله فزعوا الى ربّهم راغبين مرهبين طامعين فيما عنده فذكر الله في كتابه فأخبركم بما أعطاهم انّه أسكنهم في جواره وأدخلهم جنّته وآمنهم خوفهم واذهب رعبهم ، وفي خبر عن الصّادق (ع) في هذه الآية انّه قال : لا ينامون حتّى يصلّوا العتمة (١) (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) وقد ذكر في اخبار كثيرة بيان ما أخفى لهم من قرّة أعين من أراد فليرجع الى المفصّلات (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل على سبيل التّعجّب : الهم ذلك؟ ـ فقال : ليس لهم ذلك فمن كان مؤمنا (كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) بيان لعدم استوائهم (فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً) اى معدّة أو منزلا (بِما كانُوا يَعْمَلُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ) عدل عن قوله لهم الجحيم نزلا اشعارا بانّ الفاسق لا اعتناء به حتّى يكون العذاب نزلا له بل العذاب من تبعة اعماله الّتى تلحقه (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها) اعلم ، انّ أهل الجحيم مثل أهل الدّنيا يريدون الخروج من الجحيم من غمّ يستولي عليهم لكن لمّا كان ارادة خروجهم من الغمّ ولم يكن لهم قائد شوق للخروج لا يخرجون بل يعادون فيها ولو كان ارادة خروجهم من الشّوق لخرجوا في أسرع زمان (وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) قيل : انّ جهنّم إذا دخلوها هووا فيها مسيرة سبعين عاما فاذا بلغوا أسفلها زفرت بهم جهنّم فاذا بلغوا أعلاها قمعوا بمقامع الحديد فهذه حالهم (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى) الأدنى من الدّنىّ بمعنى السّاقط الضّعيف أو من الدّنوّ بمعنى القرب وعلى اىّ تقدير فالمراد بالعذاب الأدنى عذاب الدّنيا ، أو عذاب القبر ، أو عذاب البرزخ لكن اداة الترجّى بعده يناسب عذاب الدّنيا (دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ) عذاب الاحتضار أو عذاب القبر أو عذاب البرزخ أو عذاب القيامة (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن غيّهم أو يرجعون في الرّجعة للعذاب الأكبر ، وفسّر العذاب الأدنى بالعذاب حين خروج الدّابّة والدّجّال ، وقد كثر الاخبار في انّ الآيات نزلت في علىّ (ع) والوليد بن عقبة فانّ الفاسق الوليد بن عقبة قال لعلىّ (ع) :

__________________

(١) العتمة بفتحين صلوة العشاء أو وقت صلوة العشاء.

٢٣٨

انا والله ابسط منك لسانا ، واحدّ منك سنانا ، وأمثل جثوّا منك في الكتيبة ، فقال علىّ (ع) : اسكت انّما أنت فاسق فأنزل الله هذه الآيات (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ) قد مرّ مرارا انّ المراد من أمثال هذه العبارة إثبات اظلميّة المفضّل عليه وان كان مفهوم العبارة اعمّ منه (ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها) مع وضوح الآيات واقتضاء التّذكير بها الإقبال عليها (إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ) يعنى انّا من مطلق المجرم منتقمون والمعرض عن الآيات بعد التّذكّر بها كان أعظم جرما من كلّ مجرم (وَلَقَدْ آتَيْنا) عطف على مقدّر اى آتيناك الكتاب ولقد آتينا (مُوسَى الْكِتابَ) كما آتيناك فليس إيتاء الكتاب امرا غريبا حتّى تكون أو يكونوا في مرية منه (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) اى من لقاء الكتاب إليك يعنى من نزوله عليك ، أو من لقاء الكتاب الى موسى (ع) ، أو من لقائك لموسى (ع) في الدّنيا قبل موتك ، أو من لقائك لموسى (ع) ليلة الإسراء ، أو في الآخرة ، أو من لقاء موسى لك كذلك ، وقيل : فلا تكن في شكّ من لقاء الأذى كما لقى موسى (ع) الأذى من قوله (وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) كما جعلنا كتابك هدى للعالمين (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) لا بأمر أنفسهم (لَمَّا صَبَرُوا) فاصبر أنت وبنوك حتّى نجعل منكم ائمّة (وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) فلا تشكّ أنت وبنوك (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ) بين بنى إسرائيل كما يفصل بين قومك فلا تحزن على اختلافهم أو بين الخلق المختلفين فيفصل بين قومك أو بين قومك (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من امر الوصاية والوصىّ ، أو من احكام الشّريعة ، أو من الكتاب وستر بعض منه وتبديل بعض ، أو من تصديق الرّسل (ع) وتكذيبهم (أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ) لقومك أو لقوم موسى (ع) والجملة معطوفة على مقدّر اى الم يتفكّروا ، وفاعل يهد ضمير كتابك أو كتاب موسى (ع) أو الله أو مبهم يفسّره قوله (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ) يسمعون أخبارهم وان لم يكونوا يرون إهلاكهم ولكن يرون آثارهم لانّهم (يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ) لمّا كان الاطّلاع على إهلاك الماضين بسماع أخبارهم استعمل السّماع هاهنا (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ) ارض جرز بالضّمّتين وجرز بالضّمّ والسّكون وجرز بالفتح والسّكون ، وجرز بالتّحريك ومجروزة لا تنبت أو أكل نباتها أو لم يصبها مطر (فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ) لمّا كان الاطّلاع على سوق ماء المطر وماء السّيل وماء الأنهار الى الأراضي بالرّؤية وهكذا إخراج الزّرع وأكل الانعام والأنفس من نباتها استعمل الأبصار وأسقط هاهنا قوله انّ في ذلك لآيات اكتفاء بما ذكر في قرينه (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ) المراد بالفتح المسؤل أو المستهزء به هو ظهور القائم عجّل الله فرجه واستنارة الأرض بنور ربّها وارتفاع الاختلاف عن أهلها ، وليس في العالم الصّغير الّا حين الموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ فانّهم لمّا أخبرهم رسول الله (ص) بظهور القائم (ع) وظهور الدّين وجعل الأديان كلّها دينا واحدا سألوا على سبيل الاستفهام أو التّهكّم والاستهزاء عنه والجملة عطف على لم يهد أو لم يروا يعنى انّ آيات هذا الفتح كثيرة من إهلاك القرون الماضية واحياء الأرض بعد موتها ولا يتفكّرون فيها ويقولون : متى هذا الفتح؟! (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذا الاخبار (قُلْ) في جوابهم لا تستعجلوا هذا الفتح فانّ (يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ) فانّه يوم بروز المكسوبات لا يوم كسب الخيرات (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ) اى عن الجواب والسّؤال معهم ، أو عن دعوتهم ، أو عن ذواتهم فانّهم لا يتأثّرون بمجاورتك (وَانْتَظِرْ) يوم الفتح (إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) لذلك اليوم.

٢٣٩

سورة الأحزاب

مدنيّة كلّها ، ثلاث وسبعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا النَّبِيُ) نداء له (ص) بايّاك اعنى واسمعي يا جارة ، أو نداء له والحكم له (ص) وعلى اىّ تقدير فهو تلطّف به وتعظيم لشأنه (اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) قيل : نزلت في ابى سفيان وعكرمة بن ابى ـ جهل وابى الأعور السّلمى قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن ابىّ بعد غزوة أحد بأمان من رسول الله (ص) ليكلّموه فقاموا وقام معهم عبد الله بن ابىّ وعبد الله بن سعد بن ابى سرح وطعمة بن ابى رقّ فدخلوا على رسول الله فقالوا : يا محمّد (ص) ارفض ذكر آلهتنا اللّات والعزّى والمناة وقل : انّ لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربّك فشقّ ذلك على النّبىّ (ص) فقال عمر بن الخطّاب : ائذن لنا يا رسول الله (ص) في قتلهم فقال : انّى أعطيتهم الامان وامر رسول الله فأخرجوا من المدينة ونزلت الآية ولا تطع الكافرين من أهل مكّة والمنافقين من أهل مدينة (إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لا ينبغي النّهى عن اجابتهم فانّ في اجابتهم مصالح عديدة من استمالتهم وخمود نائرة الحرب وسلامة المسلمين وقوّتهم وشوكتهم بذلك ومخالطة المشركين معهم واستماع آيات الله منهم وغير ذلك فقال انّ الله كان عليما بالمصالح المترتّبة على ما ينهى عنه دونكم (حَكِيماً) دقيقا لطيفا في علمه وصنعه (وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ) دون ما يقولون لك (مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ) يا أمّة محمّد أو يا محمّد (ص) وأمّته (خَبِيراً) وقرئ بالغيبة (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) لا على ما يقولون (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) لامورك فلا تكل أمورك على مشورة غيرك (ما جَعَلَ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر ناش عن الحصر المستفاد من قوله : لا تطع الكافرين واتّبع ما يوحى إليك كأنّه قيل : لا منافاة بين اتّباع الموحى وبين المداراة مع الكافرين واتّباع ما يشيرون اليه فقال : ما جعل (لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ) يحبّ ويتّبع الله بهذا ويحبّ ويتّبع بذاك الكافر ، وقيل : نزلت في ابى معمّر حميد بن معمّر بن حبيب الفهرىّ وكان لبيبا حافظا لما يسمع وكان يقول : انّ في جوفي لقلبين اعقل بكلّ واحد منهما أفضل من عقل محمّد (ص) ثمّ انهزم يوم بدر مع من انهزم وإحدى نعليه في يده والاخرى في رجله ، فقيل له في ذلك فقال : ما شعرت الّا انّهما في رجلي فعرفوا يومئذ انّه لم يكن له الّا قلب واحد وعن علىّ (ع) انّه : لا يجتمع حبّنا وحبّ عدوّنا في جوف إنسان انّ الله لم يجعل لرجل قلبين في جوفه ، فيحبّ بهذا ويبغض بهذا ، وعن الصّادق (ع) فمن كان قلبه متعلّقا في صلوته بشيء دون الله فهو قريب من ذلك الشّيء بعيد عن حقيقة ما أراد الله منه في صلوته ، ثمّ تلا هذه الآية (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ) زعمت العرب انّ من قال لزوجته : أنت علىّ كظهر أمّي صارت زوجته كأمّه في حرمة المواقعة فقال تعالى ردّا عليهم : ما جعل أزواجكم (الآية) (وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ) الدّعىّ كالغنىّ من تبنّيته فعيل بمعنى

٢٤٠