تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

به الى الجنّة ونعيمها أو الى الله وقربه من الأعمال الحسنة أو من جاء بوصف الاهتداء الى الدّين وهذا جواب لادّعاء كان مذكورا فانّهم كثيرا كانوا ينسبون محمّدا (ص) الى الضّلال أو جواب لسؤال ناش من قوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) (الآية) كأنّه قيل : من الّذى يجيء بالحسنة؟ ومن الّذى يجيء بالسّيّئة؟ ـ (وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وخالف بين الفقرتين لإيهام انّ الضالّ واقف في جهنّام نفسه ، والمهتدى مهاجر من دار شركه الى ربّه (وَما كُنْتَ) عطف باعتبار المعنى فانّ المقصود من قوله : (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ) (الآية) تسليته كأنّه قال : أنت على الهدى وما كنت (تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ) يعنى النّبوّة والقرآن (إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) استثناء مفرّغ في موضع التّعليل أو منصوب بنزع الخافض اى الّا برحمة من ربّك أو استثناء منقطع والمعنى لكن أعطيت الكتاب رحمة من ربّك (فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ) فانّ الكتاب نعمة والنّبوّة نعمة عظيمة فلا تصرفهما في أعداء المعطى ، وهذه وما بعدها خطاب له (ص) على ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ) التّكوينيّة من احكام الرّسالة وغرائب الآخرة بان لا تعمل بها وتنسيها وعن آياته التّدوينيّة بان لا تعمل بها وتتركها (بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ) بالقول بتذكير الآيات وبالافعال والأخلاق والأحوال بالعمل بالآيات ، أو المعنى ولا يصدّنّك عن آيات الله النّازلة في علىّ (ع) وادع الى علىّ (وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) بولاية علىّ (ع) (وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) من الأصنام والكواكب والاهوية ، أو لا تدع مع علىّ (ع) في ولايته وليّا آخر وهذه تأكيد لقوله : ولا تكوننّ من المشركين (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تعليل للنّهيين السّابقين (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ) تعليل لقوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إِلَّا وَجْهَهُ) اى الّا وجه الله أو وجه ذلك الشّيء وان كان رجوع الضّمير الى الله جاز ان يكون المراد وجه الله الّذى به يتوجّه الى الأشياء وان يكون وجه الشّيء الّذى به يتوجّه الى الله يعنى كلّ شيء هالك الّا وجه ذلك الشّيء الّذى به يتوجّه الى الله فيكون الاضافة لأدنى ملابسة. اعلم ، انّ الوجه اسم لما يتوجّه به ولا اختصاص له بوجه بدن الإنسان وانّ في كلّ شيء لطيفة غيبيّة الهيّة هي مقوّمة لذلك الشّيء ، ومبقية ومشخّصة له ، وهي فاعليّته تعالى وقضاءه وعلمه ، وتلك اللّطيفة هي تحفظه وتربّيه وتبلّغه الى كماله الخاصّ به ان لم يعقه عائق ، والى تلك اللّطيفة أشار من قال بالفارسيّة :

يكى ميل است با هر ذرّه رقّاص

كشاند ذرّه را تا مقصد خاص

دواند گلخنى را تا بگلخن

رساند گلشنى را تا بگلشن

وإليها أشار الآخر بقوله :

گر ز چاهى عكس ماهى وانمود

سر بچه در كرد وآنرا مى ستود

در حقيقت مادح ماه است أو

گر چه جهل أو بعكسش كرد رو

مدح أو مه راست نى آن عكس را

كفر شد آن چون غلط شد ماجرا

وهذه اللّطيفة هي الّتى بها يتوجّه الأشياء الى غاياتها وكمالاتها الخاصّة بها ، وبها يتوجّه الإنسان الى الآخرة والى الله تعالى والى خلفائه (ع) ، وبها يتوجّه الله الى الأشياء والى الإنسان فتلك اللّطيفة بوجه وجه الأشياء وبوجه وجه الله ، ولمّا كانت تلك اللّطيفة هي المسمّاة بالولاية التّكوينيّة المعبّر عنها بالحبل من الله وهي ما بها توجّه الأشياء تكوينا ، وللإنسان توجّه آخر تكليفىّ وذلك التّوجّه التّكليفىّ لا يكون الّا بالولاية التّكليفيّة المعبّر عنها بالحبل من النّاس لانّها لا تحصل الّا بتوسّط المظاهر البشريّة بالبيعة الخاصّة الولويّة وبها يدخل الايمان في القلب ويحصل نسبة الابوّة والبنوّة بين المظاهر وبايعيهم صحّ تفسير الوجه في الآية بالدّين اى الولاية التّكليفيّة أو الحاصل بالولاية التّكليفيّة

٢٠١

وبالأنبياء والأولياء (ع) وبكلّ مطيع لله ولرسوله (ص) ، وقد فسّر وجه الله في اخبار كثيرة بالأنبياء والائمّة (ع) وبدين الله وبمن أطاع الله ورسوله (ص) ، إذا عرفت هذا فاعلم انّ الحدود والتّعيّنات اعتباريّات محضة لا وجود لها حقيقة وانّما الوجود والبقاء لتلك اللّطيفة ، ولذلك قيل : الأعيان الثّابتة ما شمّت رائحة الوجود أبدا وانّما هي باقية على ما هي عليه من انّها ليست موجودة من ذواتها وانّما الوجود لتلك اللّطيفة بالذّات ولها بالعرض فهي اى الأشياء المتكثّرة الممتازة الّتى هي عين تلك الحدود هالكة اى غير موجودة من الأبد الى الأزل وتلك اللّطيفة موجودة من الأبد الى الأزل فالباقي من كلّ شيء هو تلك اللّطيفة ، والهالك كلّ ما سواها من الحدود والاعتبارات (لَهُ الْحُكْمُ) لا لغيره لانّ غيره هالك (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) لا الى غيره والضّميران المجروران صحّ رجوعهما الى الوجه والى الله لانّ تلك اللّطيفة هي الحاكمة في الأشياء وعلى الأشياء وإليها يرجع وجود كلّ شيء بعد ملاحظة فناء جميع حدوده.

سورة العنكبوت

مكّيّة كلّها ، وقيل : مدنيّة كلّها ، وقيل : مكّيّة الّا عشر آيات من اوّلها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم) قد مضى في اوّل البقرة تفصيل تامّ لجملة فواتح السّور (أَحَسِبَ النَّاسُ) استفهام إنكارىّ توبيخيّ (أَنْ يُتْرَكُوا) قائم مقام المفعولين لحسب (أَنْ يَقُولُوا) لان يقولوا ، أو بان يقولوا ، أو في ان يقولوا ، أو هو بدل من ان يتركوا بدل الاشتمال (آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) لا يبتلون ولا يمتحنون حتّى يظهر لطيفة ايمانهم ويخلص حقيقة ولايتهم وهذا لا يكون فلا ينبغي هذا الحسبان بل ينبغي لمن آمن بقبول الرّسالة أو الولاية ان يوطّن نفسه على الامتحان كالمريض الّذى يسلّم بدنه الى الحجّام والفصّاد للشّرط وجرح الفصد ، وهذا الامتحان قد يكون بالتّكاليف البدنيّة والماليّة ، وقد يكون بالمصائب في الأنفس والأموال ، وقد يكون بأذى الخلق شتما وضربا واجلاء وقتلا (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) ممّن ادّعى الايمان العامّ بالبيعة العامّة النّبويّة أو الايمان الخاصّ بالبيعة الخاصّة الولويّة والجملة حاليّة واللّام لام القسم (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) الفاء سببيّة اى فتنّاهم بسبب انّه ينبغي ان يعلم الله (الَّذِينَ صَدَقُوا) والعلم هاهنا بمعنى العرفان ومتعدّ الى مفعول واحد ، أو المفعول الثّانى محذوف ، والتّقدير ليعلمنّ الله الّذين صدقوا صادقين أو متميّزين من غيرهم (وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) وقرئ وليعلمنّ المنافقين وقرئ في كليهما بضمّ الياء وكسر اللّام من اعلم بمعنى جعله ذا علامة ، أو من العلم بمعنى العرفان ، أو من العلم المتعدّى الى المفعولين (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا) الآية الاولى تسلية للمؤمنين وهذه تخويف للمسيئين (ساءَ ما يَحْكُمُونَ مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ) اى يرغب ويطلب أو يخاف ويهرب فانّ الرّجاء قد يستعمل بمعنى الخوف فيكون تهديدا وترغيبا (فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) فليثبت الرّاغب على رغبته ، وليزعج الخائف عمّا يخوّفه (وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم القاليّة والحاليّة (الْعَلِيمُ) بجميع أعمالكم ونيّاتكم فليحذر المسيء وليرغب المحسن وهذه الجملة جواب لسؤال

٢٠٢

مقدّر كأنّه قيل : هل يقع لقاء الله (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ) جملة حاليّة أو معطوفة لاستدراك توهّم نشأ من ترغيبه تعالى في العمل وتخويفه من المعصية فانّه يتوهّم منه انّ الله ينتفع بالطّاعة ويستضرّ بالمعصية (إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) لا ينتفع بطاعتهم ولا يستضرّ بمعصيتهم (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) عطف على من جاهد (الآية) نحو عطف التّفصيل على الإجمال ورفع لتوهّم نشأ من قوله : فانّما يجاهد لنفسه كأنّ متوهّما توهّم انّ المجاهد ينتفع بمجاهدته من دون التفات من الله وفعل منه بالنّسبة اليه ولم يذكر المقابل لقوله : ومن جاهد فانّما يجاهد لنفسه فانّ الموافق للمقابلة والمقصود ان يقال : ومن تقاعد فانّما يتقاعد على نفسه ولم يذكر المقابل هاهنا أيضا فانّ المنظور بحسب اقتضاء المقام ان يقول : والذين كفروا وعملوا السيئات لنجزينهم جهنم لعدم الاعتناء بهم وبذكرهم ولانّ حكمهم يعلم بالمقايسة والمقابلة ولاكتفائه عن ذكرهم في مقابل المؤمنين بقوله : ومن النّاس من يقول (الآية) وبقوله : وقال الّذين كفروا (الآية) كأنّه اجلّ شأن المؤمنين من ان يذكر المنافقين والكفّار في مقابلهم ومقارنين لهم (لَنُكَفِّرَنَ) اى لنزيلنّ (عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) كلّها (وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ) قد مضى تحقيق هذه الآية في أواخر سورة التّوبة وفي غيرها (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) قد مضى في سورة البقرة وفي سورة النّساء بيان للوالدين وتعميم لهما وبيان للإحسان إليهما ، ولمّا كان الاهتمام بتعظيم الوالدين ولا سيّما الرّوحانيّين بعد تعظيم الله وتوحيده أكثر من سائر الطّاعات بل لا يصدق الطّاعة على عمل لم يكن فيه تعظيم الوالدين الرّوحانيّين بعد تعظيم الله كرّر الله تعالى التّوصية بإحسان الوالدين وقرنه بتوحيده ونهى الإشراك به في كثير من مواضع الكتاب ، ولمّا ذكر حال الّذين آمنوا وعملوا الصّالحات ولم يكن يحصل الايمان الّا بالبيعة العامّة النّبويّة أو البيعة الخاصّة الولويّة وبكلّ منهما يحصل الابوّة والبنوّة الرّوحانيّتان ولم يكن في الأعمال الصّالحة عمل أصلح من الإحسان الى الوالدين الرّوحانيّين عطف عليه التّوصية بإحسان الوالدين ، ولمّا كان الوالدان الجسمانيّان بعد الوالدين الرّوحانيّين أعظم حقّا من كلّ ذي حقّ لم يكن في الأعمال الصّالحة أصلح من الإحسان إليهما بعد الإحسان الى الوالدين الرّوحانيّين (وَإِنْ جاهَداكَ) اى الوالدان الرّوحانيّان على ما ورد في الخبر فيكون الضّمير راجعا الى الوالدين الرّوحانيّين السّفليّين بطريق الاستخدام وهما الشّيطان والنّفس واظلالهما ، أو الوالدان الجسمانيّان (لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) ونذكر بعض الاخبار في سورة لقمان في ذيل هذه الآية ان شاء الله تعالى (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في موضع تعليل للسّابق (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ) كرّره اهتماما بشأنهم (وَمِنَ النَّاسِ) في موضع والذين قالوا آمنا ولم تؤمن قلوبهم (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللهِ) يعنى إذا أوذي حالكونه في طاعة الله ، أو إذا أوذي في حقّ الله وفي الايمان به بان آذاه إنسان أو اصابه ضرّ في بدنه وماله جعل فتنة النّاس مثل عذاب الله وانصرف عن طاعة الله والايمان به وهذا هو عين النّفاق (وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ) بالفتح والغنيمة (لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ) كما هو ديدن طالبي الدّنيا كلّما وجدوا إضرارا بدنياهم انصرفوا وإذا ظنّوا انتفاعا في دنياهم أقبلوا (آمَنَّا) ليس الله يعلم نيّاتهم ولا يعذّبهم عليها (وَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ) ليظهر علمه بهم أو ليميّزهم ، كرّر هذا أيضا اهتماما بالتّرغيب والتّرهيب (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) هذا في موضع والّذين كفروا (لِلَّذِينَ آمَنُوا

٢٠٣

اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) قيل : كان الكفّار يقولون للمؤمنين : كونوا معنا فانّ الّذى تخافون أنتم منه ليس بشيء فان كان حقّا نتحمّل نحن ذنوبكم فيعذّبهم الله عزوجل مرّتين مرّة بذنوبهم ومرّة بذنوب غيرهم (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ) أثقال ذنوبهم (وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) من غير ان ينقص من أثقال المفترين شيء (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) اى ليؤاخذنّ فانّ السّؤال كثيرا ما يستعمل في المؤاخذة والعقوبة (عَمَّا كانُوا) عن كونهم أو عن الّذى كانوا أو عن شيء كانوا (يَفْتَرُونَ) من الشّركاء في الوجوب أو في العبادة أو في الطّاعة أو في الولاية أو من الأقوال والأفعال الّتى يفترونها على الله (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) لمّا ذكر حال المؤمنين والمنافقين والكافرين بنحو كلّىّ أراد ان يبيّن حالهم بامثلة جزئيّة وبدأ بنوح (ع) والمؤمنين به والكافرين به لانّه اوّل نبىّ كان حكاية رسالته وانكار قومه وهلاكهم معروفة عندهم (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) عن الباقر (ع) انّه كان يدعوهم سرّا وعلانية فلمّا أبوا وعتوا قال : ربّ انّى مغلوب فانتصر (فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ) اى الّذين آمنوا معه ، أو دخلوا في الفلك معه (وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ) اى جعلنا السّفينة من حيث صنعها من غير بحر وماء ومن حيث انجائها وإنجاء أهلها آية للعالمين بحيث بقي آثارها في الأفواه والاخبار وانتشرت في العالم (وَإِبْراهِيمَ) عطف على نوحا أو بتقدير اذكر أو ذكّرهم (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ) من تقليد الآباء وأخذ الدّين بالرّسم والعادة وعبادة الأصنام من غير حجّة ، وخير امّا خال من معنى التّفضيل أو الإتيان بصيغة التّفضيل لاعتقادهم بانّ ذلك خير (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ) من عند أنفسكم من دون برهان (إِفْكاً) اى كذبا في ادّعاء انّها الهة أو معبودات أو شفعاء وهذا ابتداء كلام من الله أو هو من قول إبراهيم (ع) (إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً) فاذا كانوا لا يملكون لكم رزقا (فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ) لانّه هو الّذى يملك رزق كلّ مرزوق ، وهذا أيضا يحتمل كونه من قول إبراهيم (ع) ومن قول الله تعالى (وَاعْبُدُوهُ) لاستحقاقه بمالكيّة الرّزق (وَاشْكُرُوا لَهُ) لانّه المالك للنّعم كلّها ومعطيها (إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تعليل لسابقه (وَإِنْ تُكَذِّبُوا) يجوز فيه الوجهان أيضا ، ويجوز ان يكون هذا ابتداء كلام وخطاب من الله تعالى لامّة محمّد (ص) ومعترضة بين حكايات قول إبراهيم (ع) يعنى ان تكذّبوا فلا غرو فيه فانّ هذا ديدن اسناخكم من القديم (فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ) اى تبليغ رسالته (الْمُبِينُ) وليس عليه حفظكم من التّكذيب وسائر المعاصي (أَوَلَمْ يَرَوْا) قرئ بالغيبة على تقدير القول أو على كونه ابتداء كلام من الله معترض بين الحكاية ، وقرئ بالخطاب على انّه من الحكاية وموافق لسابقه أو على انّه ابتداء كلام من الله معترض (كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) يعنى كيف يبدأ الله الخلق من العناصر أو من عالم الأرواح ثمّ يعيده الى العناصر أو ثمّ يعيده اليه ورؤيتهم لذلك برؤية انّهم لم يكونوا في اوّل خلقتهم على شيء من صفات الاخرويّين ويتدرّجون في صفات الكمال ويستكملون بصفات الرّوحانيّين ، أو المعنى على التّوبيخ يعنى ينبغي لهم ان يستكملوا نفوسهم حتّى يشاهدوا اعادة الله ايّاهم (إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ قُلْ) خطاب لإبراهيم أو ابتداء كلام خطاب لمحمّد (ص) (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) ارض الطّبع ،

٢٠٤

أو ارض القرآن والاخبار ، أو ارض سير الأمم الماضية ، أو ارض وجودكم حتّى تشاهدوا حال المكذّبين والمصدّقين ، أو تعلموا حالهم من مشاهدة آثارهم ، أو تشاهدوا إبداء الخلق وإعادته (فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ) يعنى حتّى تعلموا انّ الله ينشئ النّشأة الآخرة فان شهود الإبداء يؤدّى الى العلم بالنّشأة الآخرة كما قال : لقد علمتم النّشأة الاولى فلو لا تذكّرون (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فما لهم ينكرون الاعادة مع انّها مشهودة لهم (يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) حاليّة أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر (وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ) الله عن ادراككم وعذابكم (فِي الْأَرْضِ) حالكونهم في الأرض أو هو ظرف لمعجزين (وَلا فِي السَّماءِ) لو كنتم في السّماء أو هو كناية عن الآخرة (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لا في الدّنيا ولا في الآخرة فما لكم تعبدون غيره وتتوسّلون بغيره وقد مضى مكرّرا بيان الولىّ والنّصير وانّ النّبىّ بنبوّته وخليفته بخلافة النّبوّة نصير ، والولىّ بولايته وخليفته بخلافة الولاية ولىّ يتولّى إصلاح العبد وتربيته (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ وَلِقائِهِ) من حيث انّها آيات من الآيات التّكوينيّة في الآفاق والأنفس وأعظمها الآيات العظمى من الأنبياء والأولياء (ع) والآيات التّدوينيّة من الكتب السّماويّة واحكام النّبوّة والرّسالة ، وهذا ابتداء كلام من الله ان لم يكن سابقه من الله (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) هذا مقابل لقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (الآية) لكن مقابلته له في اللّفظ وعطفه عليه بعيد بحسب اللّفظ ، وقوله : (أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي) دعاء عليهم أو اخبار بانّه ينبغي ان يئسوا ، أو اخبار بانّهم يائسون بالفعل من رحمته (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) قوم إبراهيم (ع) (إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ) كما سبق قصّته فأجمعوا ان يحرّقوه فجمعوا الحطب أكثر ما يكون ثمّ أوقدوا النّار ثمّ اسقطوه فيها (فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) على ما سبق تفصيله (إِنَّ فِي ذلِكَ) الإنجاء (لَآياتٍ) دالّات على مبدء عليم حكيم قادر محيط (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بإحدى البيعتين أو لقوم يذعنون بالله وملائكته وكتبه ورسله (ع) واليوم الآخر (وَقالَ) إبراهيم (ع) أو قال الله (إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) قرئ مودة بينكم بالنّصب والاضافة وبالرّفع والاضافة وبالنّصب منوّنة وبنصب بينكم يعنى انّ اتّخاذ الأوثان الهة ليس عن اعتقاد دينىّ وطلب شفيع اخروىّ وخوف عقاب الهىّ بل محض المودّة الدّنيويّة وان يحبّكم اقرانكم ورؤساكم مثل أكثر المتزهّدين في دين الإسلام يتجشّمون مرارة الزّهد وتعب منع النّفس عن لذائذها محض المراياة والصّيت وان يقولوا في حقّه (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ) بعض العابدين (بِبَعْضٍ) آخر منهم ، أو بعض العابدين والمعبودين ببعض آخر منهم ، أو يكفر العابدون بالمعبودين (وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) أو يكفّر كلّ بعض من العابدين والمعبودين بكلّ بعض ويلعن كلّ بعض كلّ بعض فانّ العابدين لمّا كان عبادتهم للأصنام مودّة بينهم في الحيوة الدّنيا ولم يكن في عبادتهم جهة الهيّة بل كان عبادتهم لها ساترة للجهة الالهيّة ويظهر يوم القيامة انّ توادّهم وعبادتهم كانت مانعة لهم عن موائدهم الاخرويّة ومؤدّية لهم الى العذاب الأليم كانت تورث بغض كلّ للآخر ولعن كلّ للآخر والمعبودون ينكرون عبادتهم لهم وينسبونهم الى الاهوية والجنّة ويلعنونهم لانّهم يلعنهم اللّاعنون (وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الاقتصار هاهنا على النّاصر لانّ في النّار ليس الّا النّصرة ان كانوا ينصرون وامّا الولاية فانّها بعد الخروج من النّار (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ) من وطني مع إبراهيم (ع) الى الشّام ومن موطن نفسي بايمانى على يد إبراهيم (ع) (إِلى

٢٠٥

رَبِّي) في الولاية وهو مقام القلب والعقل (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَوَهَبْنا لَهُ) بعد هجرته الى الشّام ومكثه بها مدّة طويلة (إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بعد إسحاق (ع) (وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) اى الرّسالة أو جنس الكتاب السّماوىّ (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا) بان صار عزيزا في الدّنيا وأعطيناه أموالا كثيرة من اموال الدّنيا وجعلنا له لسان صدق في الدّنيا بانّه ليس أحد الّا وهو يمدحه (وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) الّذين لم يبق عليهم شوب فساد (وَ) أرسلنا (لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) بتعرّضكم للمارّة لأجل الفاحشة فيمتنعون عن السّفر على بلادكم أو تقطعون سبيل الولد أو تقطعون السّبيل بنهب اموال المارّة ، وقيل : كانوا يرمون ابن السّبيل بالخزف فايّهم اصابه كان اولى به ويأخذون ماله وينكحونه ويغرمونه ثلاثة دراهم وكان لهم قاض يقضى بذلك (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) عن الرّضا (ع) : كانوا يتضارطون في مجالسهم من غير حشمة ولا حياء ، وقيل: المراد به جملة القبائح فانّه كان مجالسهم تشتمل على أنواع القبائح مثل الشّتم والصّفع والقمار وضرب المخراق وحذف الأحجار على من مرّ بهم وضرب المزامير وكشف العورات واللّواط ، وقيل : انّهم كانوا يأتون الرّجال في مجالسهم (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ) تهكّما به (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بالولد بعد اليأس منه (قالُوا) لإبراهيم (ع) بعد التّفصيل الّذى وقع بينهم كما سبق (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية لوط (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً) بعد ما جادلهم في عدم إهلاكهم وبعد ما قال لهم ان كان فيها واحد من المؤمنين اهلكتموهم؟ ـ وقالوا له : لا ، قال : انّ فيها لوطا (قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ) زاد ان هاهنا لتأكيد لصوق الجزاء بالشّرط بخلاف حكاية الرّسل مع إبراهيم (ع) فانّ التّأكيد لم يكن هناك مطلوبا ولم يكن أخبارهم باهلاك قوم لوط الّا بعد مدّة من ورودهم عليه (رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) ورد عليه المساءة بسبب مجيئهم لما كان يعلم من حال قومه وتفضيحهم للمارّة (وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) كناية عن ضيق الخلق وعدم الطّاقة فانّ طويل اليد يسع من الأعمال ما لا يسعه قصيرها (وَقالُوا) بعد ما رأوا مساءته (لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) ممّا تخاف وتحزن عليه (إِنَّا مُنَجُّوكَ) من هذه القرية أو من العذاب الّذى جئنا له (وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الإتيان بالماضي لتحقّق وقوعه (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) عذابا منها (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) هي منزل لوط بقي عبرة للسّيّارة أو اثر تقليب القرى وخرابها (وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ) في المعاشرة والقبيلة (شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزّلزلة الشّديدة فيها الصّيحة (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ وَعاداً وَثَمُودَ) اى اذكر ، أو ذكّرهما ، أو أرسلنا إليهما فحذف حرف الجرّ ونصبا (وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) بعض مساكنهم عند المرور عليها أو تبيّن لكم من مساكنهم ما فعلنا لهم (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) الّذى ينبغي ان يسلكه الإنسان وهو سبيل الآخرة وسبيل

٢٠٦

الولاية (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) قادرين على الأبصار أو ذوي بصر أو ذوي فطانة وبصيرة باطنيّة (وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ) اى ذكّرهم أو اذكر أو أرسلنا إليهم (وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) فائتين أو معجزين (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) الحاصب الرّيح للّتى تجمد التّراب أو المراد من الحاصب من يسقط الحصباء فان كان المراد به الرّيح كان المراد قوم هود فانّه تعالى اهلكهم بريح صرصر عاتية وان كان المراد به المعنى الثّانى كان المقصود قوم لوط (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) كاهل مدين وقوم صالح (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) كقوم نوح وفرعون وقومه (وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ) متعلّق باتّخذوا أو حال من قوله تعالى : (أَوْلِياءَ) اى اتّخذوا أولياء حالكون الأولياء بعضا من غير الله (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) ولمّا كانت الولاية تطلق على ولاية المعاشرة وهي المحابّة بين الخلق والمؤالفة وتطلق على قبول السّلطنة والحكومة الحاصل بالبيعة العامّة أو الخاصّة وكلّ منهما يعتمد الصّاحب فيه على الصّاحب الّذى تولّاه ويجعله ظهرا لنفسه وحصنا لوقت حاجته ، كانت قد تمثّل بالبيت وقد تمثّل بالحبل وقد تمثّل بالحصن ، وقد يقال لها الظّهر والوليجة والمعتمد والاستن وغير ذلك وإذا كانت الولاية بالبيعة الالهيّة حصل من الوالي في المولّى عليه صورة ملكوتيّة هي ما بها الاتّصال بين الوالي والمولّى عليه وهي حافظته من كلّ آفة وهي حصنه المانع من تصرّف الشّيطان نحو تصرّف يخرجه من تلك الولاية وبتلك الاعتبارات تسمّى بالحبل والبيت والحصن وغير ذلك ، وإذا لم تكن الهيّة أو لم تكن حاصلة بالبيعة كان اعتماد المولّى عليه على الوالي واتّصاله به وتحفّظه من الآفات بولايته من محض تخيّل المولّى عليه لا من امر حاصل من الوالي فيه وما كان محض تخيّل المولّى عليه لم يكن له اثر فيه في نفس الأمر وكان كالعنكبوت الّتى تتّخذ من ريقها بيتا ليحفظها عن الحرّ والبرد ومن سائر الآفات الواردة عليه من سائر الحشرات ومن الرّياح وغيرها والحال انّه لا يحفظها من شيء من ذلك (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) انّ تلك الولاية ليست الّا محض التّخيّل من غير امر حاصل منها في نفس الأمر لامتنعوا منها ، أو لفظة لو للتّمنّى ، أو المعنى لو كانوا من أهل العلم لعلموا انّ كلّ ما يدعونه ليس غير الله وانّما هو بحسب مداركهم الجزئيّة يتراءى غير الله (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) ما نافية وما تدعون منقطع عن سابقه أو متّصل به ويعلم معلّق عن العمل فيه وهذا أوفق بالمعنى الأخير لقوله لو كانوا يعلمون يعنى انّ كلّما تدعونه وتتخيّلون انّه غير الله ليس غير الله بل الظّاهر فيه هو الله والباطن فيه أيضا هو الله لكنّكم لتقيّدكم وتحدّدكم بالمدارك الجزئيّة الّتى لا تدرك الّا الكثرات المتغايرات المتحدّدات لا تدركون منها الواحد الأحد المقوّم لها وتدعونها من حيث انّها متغايرات كلّ من الآخر والكلّ مع الله والله يعلم ذلك ويعلم انّ المقوّم للكلّ والظّاهر فيه والباطن فيه هو الله ، وانّ كلّ ما يدعونه كانوا في تلك الدّعوة داعين لله لا غيره ، ولمّا كان العبادة بنيّة العابد والنّيّة لا تكون الّا بالعلم بالمنوىّ وهؤلاء لا يعلمون ذلك حتّى ينووا عبادة الله في تلك العبادة كانوا مؤاخذين في تلك الدّعوة والعبادة لا مأجورين وقد مضى في سورة البقرة عند قوله تعالى (وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) ما يبيّن هذا المطلب ويحقّقه وقد قيل بالفارسيّة بيانا لهذا المطلب :

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست

يقين كردى كه دين در بت پرستيست

اگر كافر ز بت آگاه بودى

چرا در دين خود گمراه بودى

أو لفظة ما موصولة والمعنى ظاهر ، أو مصدريّة ومن شيء بيان للمصدر والشّيء عبارة عن الدّعاء اليسير أو ما

٢٠٧

استفهاميّة مفعول تدعون (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يغلبه شيء حتّى يكون معبودا من دونه (الْحَكِيمُ) الّذى صنع صنع المخلوقات بنحو لا تكون خالية منه ومع ذلك لا يدركه الّا قليل من عباده فيها للطفه في صنعه وهذا المعنى يناسب كون ما نافية (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) اى مثل العنكبوت ونظائره ، أو مثل العنكبوت وأمثال الأمم الماضية وأنبيائهم (ع) (نَضْرِبُها لِلنَّاسِ) لتنبيههم وتذكيرهم (وَما يَعْقِلُها) اى ما يدركها من جهة المقصود منها والنّظر الى غاياتها (إِلَّا الْعالِمُونَ) الّذين فتح الله عليهم باب العلم بولاية علىّ (ع) الحاصلة لهم بالبيعة الخاصّة الولويّة ، وامّا غيرهم فلا يدركون من الأمثال والأسمار والحكايات الّا ظواهرها الّتى هي مبعّدة لهم عن المقصود ومدركة بالخيال دون العقل ، عن النّبىّ (ص) انّه تلا هذه الآية فقال : العالم الّذى عقل عن الله فعمل بطاعته واجتنب سخطه (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِ) قد مضى مكرّرا هذه الآية (إِنَّ فِي ذلِكَ) اى في خلق السّماوات والأرض بحيث يتمّ بخلقهما امر المواليد واستمرار الفيض من الواهب الفيّاض بحيث لولاهما لما استتمّ امر المواليد ولما استمرّ الفيض ولما وجد غاية الإيجاد وهو الإنسان أو في خلق السّماوات والأرض متلبّسات بالغايات الحقّة أو بالتّنضيدات الحقّة الّتى لا شوب باطل فيها (لَآيَةً) عظيمة أو المراد بها الجنس اى آيات عديدة (لِلْمُؤْمِنِينَ) بالبيعة العامّة أو الخاصّة أو للمذعنين بالله والآخرة (اتْلُ) جواب لسؤال مقدّر كما انّ قوله تعالى (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) (الآية) كان جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل لتعقّل الأمثال آية ومنبّه؟ ـ فقال جوابا : خلق الله السّماوات والأرض بالحقّ وفي خلقهما آيات عديدة منبّهة على تعقّل الأمثال كما انّ فيها آيات عديدة دالّة على مبدء عليم حكيم قدير مريد رحيم رؤف وكأنّه قيل بعد ذلك : هل لنا منبّه على تذكر الآيات المودعة في خلق السّماوات والأرض؟ ـ فقال تعالى : اتل خطابا لمحمّد (ص) على : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة أو خطابا عامّا (ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) بتوسّط جبرئيل أو ما اوحى إليك بسبب محمّد (ص) (مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ) حتّى تستعدّ لتذكّر الآيات وتمتّع من الملاهي الّتى تحجبك عن تذكّر الآيات (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) قد مضى في اوّل البقرة وفي سورة النّساء عند قوله (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) تفصيل لمعانى الصّلوة ومراتبها وإقامتها ، ولمّا كانت الصّلوة القالبيّة بالمواضعة الالهيّة مانعة من الاشتغال بغيرها ولو كان مباحا كانت ناهية عن الفحشاء والمنكر القالبىّ بالمواضعة ، والصّلوة القلبيّة المأخوذة من صاحب اجازة الالهيّة تكون مانعة عن الفحشاء والمنكر في مرتبة القلب ، وكذلك الصّلوة الصّدريّة الّتى هي السّكينة القلبيّة المسمّاة بالفكر والحضور عندهم وهي ملكوت ولىّ الأمر واوّل مقام معرفة علىّ (ع) بالنّورانيّة تنهى حالا أو باللّسان عن جملة الفحشاء والمنكر ، وصلوة المصلّى الّذى هو مستغرق في شهود جمال الوحدة ناهية له عن الالتفات الى غير الله وهذا الالتفات هو منكره في ذلك المقام ، والصّلوة الّتى هي عبارة عن الرّسول (ص) أو الامام (ع) تنهى عن الفحشاء والمنكر اللّذين هما مقابلان لهما من أصناف البشر وقد فسّر الصّلوة بكلّ وفسّر الفحشاء والمنكر بأعداء الرّسول (ص) والامام (ع) ، نقل : انّها ما لم تنه الصّلوة عن الفحشاء والمنكر لم تزدد من الله عزوجل الّا بعدا ، وروى انّ فتى من الأنصار كان يصلّى الصّلوات مع رسول الله (ص) ويرتكب الفواحش ، فوصف ذلك لرسول الله (ص) فقال : انّ صلوته تنهاه يوما ، فلم يلبث ان تاب ، وعلى هذا كان معنى الآية انّ الصّلوة تنهى في المستقبل صاحبها عن الفحشاء والمنكر (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) ان أريد بالصّلوة الصّلوة القالبيّة كان المراد بذكر الله ذكر الله للعبد ، أو الذّكر القلبىّ ، أو الذّكر الّذى هو الفكر ، أو ذكر أوامره ونواهيه عند كلّ فعال الّذى يحمل العبد على الامتثال والانتهاء ، وان كان المراد الصّلوة القلبيّة كان المراد بذكر الله ذكر الله للعبد أو واحد ممّا ذكر بعد الذّكر القلبىّ وهكذا الحال في سائر مراتب الصّلوة ، وان كان المراد بالصّلوة الرّسول (ص)

٢٠٨

أو الامام (ع) كان المراد بذكر الله ذكر الله للعبد أو مقام نورانيّتهما فانّه ذكر الله حقيقة (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ)

الجزء الحادي والعشرون

فيعلم صلوتكم وذكركم لله ويجازيكم على حسبهما على انّهما ينبّهانكم على تذكّر الآيات والجملة حاليّة (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي) بالمجادلة الّتى (هِيَ أَحْسَنُ) من المجادلات أو بالطّريقة الّتى هي أحسن ، أو بالكلمة الّتى هي أحسن والجدل والجدال بمعنى القتل فانّ المجادل يريد ان يقتل المجادل له الى مذهبه وذلك يتصوّر بالسّيف والضّرب والحبس والمكالمة بالشّتم والخشونة وابطال الحقّ وإثبات الباطل ولكنّه خصّ في العرف بصرف الخصم عن مذهبه بالمباحثة والمكالمة العلميّة ، والمراد باهل الكتاب كلّ من آمن بنبىّ وكلّ من انتحل ملّة الهيّة فيشمل أهل ملّة الإسلام ومنتحليها كما يشمل الزّردشتيّين والمهاباديّين ، أو المراد المعروفون بهذا الاسم وهم اليهود والنّصارى لكن يشمل الحكم أهل الإسلام بطريق التّعريض أو بطريق القياس الاولوىّ ، ولمّا كان أهل الملّة الالهيّة ومنتحلوها بواسطة نسبتهم الى نبىّ أو انتحالهم النّسبة اليه ذوي حرمة في الجملة خصّهم بالذّكر من بين أقسام الكفّار اشعارا بانّ المشركين لا حرمة لهم ولا مداراة معهم ، والمجادلة الحسنة ان لا يظهر باطلا ولا يبطل باطلا بباطل ولا يقول ما يغيظ المجادل ولا يعنته ولا يزجره ، ولا يقول ما لا يتحمّله ، وينصف في حقّ أظهره خصمه ولا يردّه ولا يتكلّم بما يخجله ، ولا يكون همّه الغلبة عليه بل يكون همّته إصلاحه ولو كان ذلك بان يجعل نفسه مغلوبة ان رأى صلاحه ولينه في ذلك (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) في المجادلة أو ظلموكم بالمقاتلة أو ظلموا أنفسهم باللّجاج وعدم الاستماع الى حقّكم وهذا ترخيص في المجادلة بغير الأحسن مع الظّالمين منهم مثل قوله : (لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) لكن لا ينبغي الخروج من حقّ أو الدّخول في باطل (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) بالإقرار بحقّيّة كتابهم ودينهم حتّى تكسر سورة لجاجهم (وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) بإظهار الاتّحاد معهم في المبدء والمعبود حتّى يدلّ ذلك على انّكم متّحدون معهم غير مغايرين لهم فيرغّبهم ذلك في مخالطتكم وموادّتهم لكم (وَنَحْنُ لَهُ) اى لآلهكم الّذى هو إلهنا (مُسْلِمُونَ) لا لغيره حتّى تعادونا بذلك وقد سبق في سورة النّحل عند قوله : (وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) شطر من بيان الآية (وَكَذلِكَ) اى مثل إنزال الكتاب إليهم ، أو مثل إنزال الأمر بالمجادلة بالّتى هي أحسن ، أو مثل إنزال الأمر بان تقولوا آمنّا بالّذى انزل إليكم (الى آخر الآية) (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) اى كتاب النّبوّة أو القرآن (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) اى القرآن وهم آل محمّد (ص) أو فالّذين آتيناهم احكام النّبوّة بقبول الرّسالة بالبيعة العامّة أو بقبول الولاية بالبيعة الخاصّة ، أو فالّذين آتيناهم الكتاب اى الانتعاش أو الاستعداد لأمور الآخرة تكوينا (يُؤْمِنُونَ بِهِ) اى يذعنون أو يؤمنون بالبيعة العامّة أو الخاصّة بالقرآن أو بمحمّد (ص) أو بكتاب النّبوّة أو بعلىّ (ع) فانّه المنظور من كلّ منظور (وَمِنْ هؤُلاءِ) يعنى من أهل الكتاب وهم اليهود والنّصارى أو من هؤلاء المشركين أو من هؤلاء الّذين آتيناهم القرآن وآمنوا به بالبيعة (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) اى يؤمن بإحدى البيعتين أو يذعن قلبا بمحمّد (ص) أو بالقرآن أو بأحكام النّبوّة أو بعلىّ (ع) (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) الّتى أعظمها علىّ (ع) (إِلَّا الْكافِرُونَ) وهذا تعريض بمنافقى الامّة الّذين جحدوا عليّا (ع) (وَما كُنْتَ تَتْلُوا) جملة حاليّة أو معطوفة وردّ لمن زعم أو قال انّه اخذه من غيره أو التقطه

٢٠٩

من كتب السّابقين (مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل القرآن (مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ) اى القرآن أو الكتاب المطلق (بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) يعنى لكان ارتيابهم في موقعه والّا فهم كانوا مرتابين ومن أعظم آيات صدقه في دعواه انّه (ص) كان يتيما فقيرا راعيا لم يختلف الى معلّم ولم يختلط مع عالم ولم يتعلّم الخطّ ولم يكن في كتّاب وقد جاء بكتاب وشريعة قد حار في درك دقائقهما الحكماء ، وعجز عن استقصاء العلوم المندرجة فيهما العلماء ، واستحضر عن بلوغ لطائفهما العرفاء ، واعترف ببراعة كتابه في البلاغة البلغاء ، وعن مولانا ومقتدانا علىّ بن موسى الرّضا (ع) : ومن آياته انّه كان يتيما فقيرا راعيا أجيرا لم يتعلّم كتابا ولم يختلف الى معلّم ثمّ جاء بالقرآن الّذى فيه قصص الأنبياء (ع) وأخبارهم حرفا بحرف ، واخبار من مضى ومن بقي الى يوم القيامة (بَلْ هُوَ) اى كتاب النّبوّة أو كتاب الولاية والقرآن صورتهما وهو اضراب عن قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) (الآية) فانّه لا يدلّ على أزيد من الايمان التّقليدىّ وهذا يدلّ على الايمان التّحقيقىّ بالكتاب بل على التّحقّق بالكتاب على طريقة اتّحاد العاقل والمعقول يعنى هو بنفسه (آياتٌ) دالّات على المبدء وصفاته وعلى الرّسالة وأحكامها وصدق الآتي ، أو المراد انّ صاحب الرّسالة وصاحب الولاية بولايتهما ونورانيّتهما آيات (بَيِّناتٌ) واضحات أو موضحات (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) لم يقل في صدور الّذين كسبوا العلم اشعارا بانّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء وليس يحصل بكسب ، نعم الكسب يعدّ الرّجل لقذف هذا العلم ، وأتى بالفعل مبنيّا للمفعول للاشارة الى انّ الفاعل لا يحتمل ان يكون غير الله تعالى والمراد بمن أوتوا العلم هم الأوصياء (ع) كما في اخبار كثيرة عنهم (ع) (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) كرّر هذا للاهتمام بالتّعريض بالامّة واشعارا بانّ الجاحد كما انّه كافر ظالم أيضا (وَقالُوا) عطف بلحاظ المعنى كأنّه قال جحد الظّالمون الآيات وقالوا (لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ) لهم بالتّنزّل عن مقامك الولوىّ وبإظهار العجز بحسب مقامك البشرىّ (إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) وليس شيء منها عندي حتّى آتى بمقترحكم (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ظاهر أو مظهر لإنذاري وصحّته وقد مضى انّ الرّسول (ص) لا بدّ وان يكون ذا شأنين ، شأن الإنذار برسالته وشأن التّبشير بولايته لكنّه لمّا كان شأن الرّسالة فيه غالبا كان قد يتكلّم بشأن الرّسالة ويحصر شؤنه فيه كما انّه حصر جملة شؤنه هاهنا في الإنذار الّذى هو شأن الرّسالة لا الولاية (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) انّك كنت يتيما غير مختلف الى أحد ولم تتعلّم من أحد ولم يكفهم في الدّلالة على صدقك حتّى يقترحوا آية اخرى (أَنَّا) لا غيرنا (أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ) احكام الرّسالة أو صورة القرآن مع انّك كنت أمّيّا وكتابك كان مشتملا على دقائق الحكم بحيث يعجز عن إدراكها العقلاء والحكماء حالكونهم (يُتْلى عَلَيْهِمْ) وليس مخفيّا عليهم (إِنَّ فِي ذلِكَ) الانزال أو في ذلك الكتاب أو في ذلك المذكور من استمرار تلاوة الكتاب (لَرَحْمَةً) من حيث دلالته على صدق رسالتك (وَذِكْرى) لحقّيّتك اى دلالة حقّيّتك (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بإحدى البيعتين أو لقوم يذعنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، واللّام لتبيين مفعول الرّحمة والذّكرى يعنى غير المؤمنين لكونهم غير متوجّهين الى الآخرة وغير مهتمّين بالله وبمن يدعو الى الله لا يتأمّلون فيه ولا يتفكّرون في دلالته فيستمعونه استماع الأسمار فلا ينتفعون به ولا يتذكّرون ، روى انّ أناسا من المسلمين أتوا رسول الله (ص) بكتف كتب فيها بعض ما يقوله اليهود فقال: كفى بها ضلالة قوم ان يرغبوا عمّا جاء به غير نبيّهم الى ما جاء به غير نبيّهم فنزلت الآية (قُلْ) لهم بعد ما لا ينفع فيهم هذه الآيات إظهارا لاعراضك عنهم والتجائك الى ربّك حتّى يكسر سورة لجاجهم فانّ الإصرار على الدّعوة مع اللّجوج يزيد في لجاجته (كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) فان كنت كاذبا يعلم كذبي

٢١٠

ويعذّبنى عليه ، وان كنتم أنتم كاذبين يعلمه ويعذّبكم عليه (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فاحذروا من العناد معه ومع رسوله (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) جملة حاليّة أو معطوفة وبمنزلة النّتيجة (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) بمثل ما قالوا عند توعيدك بالعذاب فائتنا بما تعدنا أو بقولهم ان كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السّماء (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) يعنى عدم إتيان العذاب ليس لما قالوا من انّه ليس ما قلت حقّا ولا لكرامتهم علينا بل لانّ لكلّ امر وقتا لا يتجاوزه (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ) في الدّنيا وفي حال بقائهم مثل إتيان العذاب ببدر وغيرها ومثل البلايا في الأموال والأنفس أو في حال احتضارهم على أيدي الملائكة أو في الآخرة في البرازخ أو في القيامة (بَغْتَةً) من غير تقدّم امارة له أو من غير استشعار منهم باماراته لانهماكهم في الملاهي (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمجيئه حين إتيانه ، أو لا يشعرون في الحال بانّه يأتيهم بعد والّا لما سألوه (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) كرّر هذا القول للاشعار بانّ الاوّل كان بحسب عذاب الدّنيا والثّانى بحسب عذاب الآخرة ، أو لانّ الاوّل كان مقدّمة للتّهديد بإتيان العذاب والثّانى للتّهديد بإحاطته بهم في الحال ولكنّهم لا يشعرون به ، أو المنظور من التّكرير المبالغة في تسفيههم بالتّجرّى على ما ينبغي التّحرّز عنه ولو كان محتملا غير متيقّن (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) وضع المظهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وإظهارا لكفرهم بنفاقهم يعنى انّهم كافرون وكلّ كافر واقع في وسط جهنّم ومعذّب بأنواع عذابها وان كان لا يشعر به فهم في استعجالهم في العذاب واقعون في العذاب.

اعلم ، انّ النّفس الانسانيّة بمقتضياتها الحيوانيّة أنموذج الجحيم ولهباتها وأنواع عذابها فان كان الإنسان الواقع في مقام النّفس وهو الّذى يكون في الغيب من الله ومن الآخرة منقطعا عن الولاية ومستورا منه الوجهة الولويّة كان واقعا في جهنّم وواقفا عليها ومحاطا بها ، وان لم يكن منقطعا عن الولاية بان كان مؤمنا بها كانت عليه بردا وسلاما ولم يحسّ بها أو احسّ بها وبآلامها لكن تكون تطهيرا له عن شوائبه الغريبة ، وكون النّفس الانسانيّة أنموذج الجحيم ووجوب عبور الإنسان عليها وعنها أحد وجوه قوله تعالى : (إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) وهي الجسر الممدود على متن جهنّم وقد مضى في سورة التّوبة بيان اجمالىّ في نظير هذه الآية لاحاطة جهنّم بالكافرين (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) مفعول للكافرين أو ظرف لمحيطة أو ظرف لفعل محذوف وهو اذكر أو ذكّرهم (مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ) قرئ بالغيبة وبالتّكلّم (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة على يد محمّد (ص) البيعة العامّة أو على يد علىّ (ع) البيعة الخاصّة (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) فاذا لم يتيسّر لكم عبادتي في ارض فاخرجوا منها الى ارض يمكن لكم توحيد عبادتي (فَإِيَّايَ) دون غيري (فَاعْبُدُونِ) عن الصّادق (ع) : إذا عصى الله في ارض أنت بها فاخرج منها الى غيرها (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) في مقام التّعليل (ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) قد مضى بيان الصّبر والتّوكّل مشروحا وكذلك بيان جريان الأنهار من تحت الجنّات (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) لا تحصى نوعا وفردا (لا تَحْمِلُ) الخطاب عامّ أو خاصّ بمحمّد (ص) أو بمن يزعم ان لا مدخليّة في الأمور لشيء سوى الأسباب الطّبيعيّة كالطّبيعيّة اعتقادا أو حالا كأكثر النّاس (رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) فانّ الإنسان في بادي النّظر يظنّ انّ الرّزق منوط بالأسباب الطّبيعيّة لكن دقيق النّظر يحكم

٢١١

بان لا مدخليّة لشيء من الأسباب الطّبيعيّة في ارتزاق الإنسان وليس الارتزاق الّا بالأسباب الالهيّة وانّ الأسباب الطّبيعيّة حجب على الأسباب الالهيّة ونعم ما قيل :

اى گرفتار سبب بيرون مپر

ليك عزل آن مسبب ظن مبر

هر چه خواهد آن مسبّب آورد

قدرت مطلق سببها بر درد

اين سببها بر نظرها پرده هاست

كه نه هر ديدار صنعش را سزاست

ديده بايد سبب سوراخ كن

تا حجب را بر كند از بيخ وبن

تا مسبّب بيند اندر لا مكان

هرزه بيند جهد وأسباب دكان

(وَهُوَ السَّمِيعُ) لأقوالكم القاليّة والحاليّة والاستعداديّة الّتى لا شعور لكم بها (الْعَلِيمُ) بمقدار الاستعداد وقدر الاستحقاق وعمدة أسباب الرّزق هي السّماوات والأرض والشّمس والقمر (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) اى المتقيّدين بالأسباب الغافلين عن مسبّب الأسباب (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) اللّاتى بها توليد المواليد وارتزاق المرتزقين (لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) منه الى الأسباب ولا يكتفون به من الأسباب (اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) اى لمن يبسط أو لغيره ممّن يشاء فانّ من فيمن يشاء فانّ من فيمن يشاء مطلق يجوز إرجاع الضّمير اليه من غير اعتبار التّقيّد ببسط الرّزق والجملة حاليّة أو مستأنفة وتعليل لانكار الصّرف عنه في طلب الرّزق ، أو تعليل لجملة الله يرزقها وايّاكم (إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم ما يصلح عباده من بسط الرّزق وقبضه (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها) لمّا كان الأسباب القريبة للرّزق بعد السّماوات والأرض والشّمس والقمر هو امطار الأمطار واحياء الأرض بانبات النّبات أتى به بعد السّؤال عن السّماوات والأرض وتسخير الشّمس والقمر (لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ) بعد إقرارهم بذلك (الْحَمْدُ لِلَّهِ) شكرا لانعامه عليك بتبصيرك ذلك ، أو قل لهم بعد ذلك: جميع الصّفات الّتى يحمد عليها لله فانّ جميع الخيرات المنتشرة المحسوسة الّتى لا يتجاوز مداركهم عنها محصورة في خلق السّماوات والأرض والشّمس والقمر وامطار الأمطار وإنبات النّبات فهؤلاء لا يجحدون الله وتسبيبه لاسباب الرّزق (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فيتوسّلون بالأسباب وينصرفون عن مسبّبها لعدم تعقّلهم لا لانكارهم (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ) الجملة حاليّة أو معطوفة باعتبار المعنى كأنّه قال : انّه هيّأ أسباب الحيوة الدّنيا الدّانية الّتى حيوة جميع إحيائها مشوبة بالممات ، ووجودها مشوب بالاعدام ، وجدّها لهو أو لعب ولم يتركها بدون تهيّة أسباب الوجود والبقاء والتّعيّش باعتراف المقرّ والمنكر فكيف بالحيوة الآخرة الّتى حيوة جميع اجزائها عين ذواتهم ، ووجودها خالص من شوب النّقص ولذّاتها مبرّأة من شوب الألم فانّ الحيوة الدّنيا حيوة بالعرض (وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ) بجميع اجزائها (لَهِيَ الْحَيَوانُ) محصورا فيها الحيوة أو المعنى انّهم مهتّمون بأمر الحيوة الدّنيا الّتى يرون انّها كلعب الأطفال غير باقية وغير مترتّب عليها فائدة وانّ الدّار الآخرة لهي الحيوان (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لامتنعوا من الاهتمام بأمر الحيوة الدّنيا ولكانوا مهتمّين بأمر الحيوة الآخرة أو لفظ لو للتّمنّى وقد مضى الفرق بين اللهو واللّعب وانّ الاوّل ما لا يكون له غاية لا عقلانيّة ولا خياليّة ، والثّانى ما لا يكون له غاية عقلانيّة ويكون له غاية خياليّة وان كان الاوّل أيضا لا يخلو عن غاية خفيّة (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال إذا كانوا في البرّ مطمئنّين كانوا غافلين عن الله والآخرة مهتمّين بأمر الحيوة الدّنيا فاذا ركبوا في الفلك وخافوا على الحيوة الدّنيا (دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) اى الطّريق اليه لا الملّة أو الإسلام أو الايمان فانّ الآية عامّة لذوي الملل الالهيّة

٢١٢

وغيرهم (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ) بالله أو بالآخرة أو بالدّين أو يصيرون مشركين (لِيَكْفُرُوا) هذا من قبيل فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّا وحزنا اى صار غاية اشراكهم الكفران (بِما آتَيْناهُمْ) من نعمة الإنجاء أو مطلق النّعم (وَلِيَتَمَتَّعُوا) في حيوتهم الدّائرة فانّ من كان متذكّرا لأنعم الله وانعامه لا يتيسّر له التّمتّع بمستلذّات الحيوانيّة (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عقوبة الإشراك ووبال التّمتّع في الحيوة الحيوانيّة أو سوف يعلمون انّ ذلك كان خطاء ووبالا (أَ) يكفر أهل مكّة بنعمه ويشركون به (وَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً) اى لهم فانّ الحرم قديما وحديثا كان بالمواضعة آمنا اهله من الصّدمات الواردة على سائر البلاد وسائر العرب وكان آمنا بمشيّة الله من تعرّض المتعرّضين له مثل تعرّض ملك اليمن لخرابه (وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) بالقتل والأسر (أَ) أهواءهم يتّبعون (فَبِالْباطِلِ) الّذى هو أهواءهم اوّلا ، والشّياطين ثانيا ، والأصنام والكواكب أو شركاء الولاية ثالثا (يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ) الّتى هي جعل الحرم آمنا لهم أو جملة نعم الله أو الولاية الّتى هي أصل كلّ النّعم (يَكْفُرُونَ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) مفعول به لافترى إذا كان على التّجريد ، أو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل وهذه العبارة تستعمل في اظلميّة المفترى وان كانت بمفهومها اللّغوىّ اعمّ منه ، والافتراء على الله اعمّ من ان يجعل ما لم يأذن به شريكا له أو يفتي أو يقضى بين النّاس أو يؤمّ النّاس به أو يترأّس من غير اذن واجازة من الله وخلفائه ، فانّ الاجازة من الله أو خلفائه تجعل وجود المجاز كالانفحة الّتى تورث في كلّ لبن وصل إليها كيفيّة بها تنعقد وتصير جبّنا وبدون الاجازة لا يؤثّر ملاقاة العالم ولا قوله ولا البيعة معه بل يكون العالم اضرّ على ضعفاء العقول من جيش يزيد لعنه الله على أصحاب الحسين (ع) لانّ ملاقاة العالم حينئذ والبيعة معه يبطل استعداد الملاقى في الأغلب ، ومن هذا يعلم حال من يقول : لا حاجة لي الى الاجازة بل النّاس محتاجون الى إجازتي (أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِ) اى الأمر الثّابت أو الولاية فانّها الحقّ حقيقة وسائر الأشياء حقّيّتها لا تكون الّا بها (لَمَّا جاءَهُ) من نبىّ وقته (ع) بنصبه وتعيينه لولىّ الأمر (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال المفترى والمكذّب واين يكون مقامه؟ ـ فقال : حاله انّه كافر فانّه ما لم يستر الحقّ ووجهته لا يمكنه الافتراء والتّكذيب ، وكلّ كافر مثواه جهنّم ، لكنّه ادّاه بهذه العبارة تأكيدا له واشعارا بانّ كفر مثله لا حاجة له الى البيان (وَالَّذِينَ جاهَدُوا) عطف على قوله : ومن أظلم فانّه في معنى لا أظلم ممّن ترك المجاهدة فينا واستبدّ برأيه وتوسّل بانانيّته بالافتراء علينا والتّكذيب للحقّ ، والّذين جاهدوا بالقتال الظّاهر أو بالقتال الباطن ، أو أتعبوا أنفسهم أو بالغوا في الجهد والتّعب (فِينا) اى في طلبنا أو في محبّتنا أو في طريقنا الّتى هداهم خلفاؤنا إليها أو في تعظيمنا أو في التّوسّل بنا بالتّوسّل الى خلفائنا (لَنَهْدِيَنَّهُمْ) اى لنسلكنّهم أو لنوصلنّهم أو لنرينّهم (سُبُلَنا) المعوجّة والمستقيمة جميعا (وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشارة الى قياس اقترانىّ يعنى من هديناه سبلنا جميعا صار محسنا أو من جاهد فينا كان محسنا ، وكلّ من كان محسنا كان الله معه لانّ الله مع المحسنين ، أو المراد بالمجاهدين من كان في الطّريق وفي السّفر الاوّل والثّانى ، والمراد بالمحسن من سار في الخلق بالحقّ ومن سار في السّفر الرّابع فانّه المحسن على الإطلاق كما مضى في سورة المائدة عند قوله تعالى (ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) والمعنى الّذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ، والّذين وصلوا إلينا ثمّ عادوا الى الخلق كان الله الّذى هو غيب عن المجاهدين حاضرا معهم ، ووجه الالتفاتات في تلك الآيات موكول الى ذوق النّاظر ، والله موفّق للرّشاد.

٢١٣

سورة الرّوم

مكّيّة كلّها ، وقيل : سوى قوله : فسبحان الله حين تمسون (الآية) وهي ستّون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) اى ادنى أرضهم من ارض فارس أو ارض العرب (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) قرئ الفعلان مبنيّين للمفعول ، وقرئ الاوّل مبنيّا للمفعول والثّانى مبنيّا للفاعل وهي القراءة المشهورة ، وقرئ بالعكس ، قيل : انّ الفرس غزت الرّوم فوافوهم باذرعات وقيل : بالجزيرة فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكّة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا : أنتم والنّصارى أهل كتاب ونحن وفارس أمّيّون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم وليظهرنّ عليكم ، فنزلت ، وفي خبر : انّ رسول الله (ص) بعد ما هاجر الى المدينة وأظهر رسالته كتب كتابا الى ملك الرّوم وكتابا الى ملك فارس فعظّم ملك الرّوم كتاب الرّسول (ص) وعظّم رسوله ، وأهان ملك فارس كتابه (ص) وأهان برسوله ، وكان بين الرّوم والفرس مقاتلة فغلبت الفرس الرّوم فساء ذلك المسلمين لما كانوا احبّوا ملك الرّوم وأبغضوا ملك الفرس ، فنزلت الآية : الم غلبت الرّوم يعنى غلبتها فارس في ادنى الأرض وهي الشّامات وما حولها وهم يعنى فارس من بعد غلبهم الرّوم سيغلبون يعنى يغلبهم المسلمون (فِي بِضْعِ سِنِينَ) وهي ما بين الثّلاث الى العشر فلمّا غزا المسلمون فارس وافتتحوها فرح المسلمون بنصر الله عزوجل قيل : أليس الله عزوجل يقول في بضع سنين وقد مضى من نزول الآية سنين عديدة حتّى افتتح المسلمون في إمارة عمر فارس؟ ـ فقال الامام : الم أقل لك انّ لهذا تأويلا وتفسيرا والقرآن ناسخ ومنسوخ اما تسمع لقول الله عزوجل (لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ) يعنى اليه المشيّة في القول ان يؤخّر ما قدّم ويقدّم ما أخّر في القول الى يوم تحتّم القضاء بنزول النّصر فيه على المؤمنين ، وبناء ما ذكر على قراءة الفعلين مبنيّين للمفعول ، وروى عن أهل البيت (ع) انّ قوما ينسبون الى قريش وليسوا من قريش بحقيقة النّسب ، وهذا ممّا لا يعرفه الّا معدن النّبوّة وورثة علم الرّسالة وذلك مثل بنى أميّة ذكروا انّهم ليسوا من قريش وانّ أصلهم من الرّوم وفيهم تأويل هذه الآية الم غلبت الرّوم معناه انّهم غلبوا على الملك وسيغلبهم على ذلك بنو العبّاس ، وبناء هذا على قراءة غلبت مبنيّا للفاعل وسيغلبون مبنيّا للمفعول.

اعلم ، انّ القرآن كما سبق في الفصل الحادي عشر والثّانى عشر في اوّل الكتاب ذو وجوه بحسب معانيه وذو وجوه بحسب ألفاظه وقراءاته ، وانّه يجوز ان يكون مرادا بجميع وجوهه ومنزلا بجميع قراءاته وانّه كثيرا ما يختلف المعاني والوجوه اختلافا تامّا مؤدّيا الى ارادة الضّدّين من اللّفظ بحسب حقائقه ومجازاته وتعريضاته وكناياته فعلى هذا صحّت التّفسيرات المختلفة الّتى وردت عنهم (ع) باعتبارات القرائات الثّلاث وصحّ تفسير الرّوم ببني أميّة بناء على تشبيههم باهل الرّوم في الكثرة ، أو في الاهتمام بالدّنيا واعتباراتها ، أو في أخذ المذهب محض الرّسم والملّة ، أو في اختلاف المذاهب وكثرتها ، وصحّ تفسيره باهل المودّة والسّلامة ، وصحّ تفسيره بملك النّفس واهويتها المتضادّة المتخالفة ، وعلى هذا

٢١٤

التّفسير والتّفسير الاوّل ورد : انّ فرح المؤمنين بنصر الله يكون عند قيام القائم عجّل الله فرجه ، وفي خبر : فرح المؤمنون في قبورهم بقيام القائم (ع) ومعنى قوله تعالى لله الأمر من قبل انّه لا يخرج الأمر من قدرته من قبل غلبتهم ومن بعد غلبتهم ، أو من قبل ان يقضى ومن بعد ان يقضى ، فانّه يتصرّف فيه متى لم يمضه باىّ نحو شاء فيكون اشارة الى جواز البداء (وَيَوْمَئِذٍ) يوم غلبة الرّوم ، أو مغلوبيّة فارس بالمسلمين أو مغلوبيّة بنى أميّة أو مغلوبيّة جنود الجهل واهوية النّفس بظهور القائم (ع) (يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ) فلا اختصاص بنصره بالمؤمن بل ينصر المؤمن تارة والكافر اخرى لكنّ المنظور من نصرهما صلاح المؤمن وإصلاحه (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يدفع عن مراده (الرَّحِيمُ) الّذى لا يفعل ما يفعل الّا برحمته ، وصيرورة الرّحمة في بعض القوابل غضبا وعذابا انّما هو من قبل القابل (وَعْدَ اللهِ) اى وعد الله نصرهم وفرح المؤمنين وعدا (لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) عدم خلف وعده ، أو نصره للمؤمنين ، أو نصره لمن يشاء ، أو كيفيّة وعده ، أو كيفيّة نصره ، ولذلك لا يرون من النّصر الّا الغلبة في الظّاهر دون الغلبة في الباطن ولذلك قال (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أو المعنى أكثر النّاس لا علم لهم فانّ العلم هو الإدراك الاخروىّ الّذى يكون في الاشتداد الى جهة الآخرة وصاحب هذا الإدراك قليل وأكثر النّاس ادراكهم مقصور على ما يعينهم في حيوتهم الدّنيويّة دون الحيوة الاخرويّة أو لم يكن ادراكهم للأمور الاخرويّة في الاشتداد الى جهة الآخرة بل كان مصروفا عن جهة الآخرة الى جهة الدّنيا ولذلك قال تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا) ، ولفظة من بيانيّة أو ابتدائيّة أو تبعيضيّة اى يعلمون امرا ظاهرا يدركه المدارك الظّاهرة الحيوانيّة وهو عبارة عن الحيوة الدّنيا ولوازم بقائها أو أمرا ظاهرا هي الآثار النّاشئة من الحيوة الدّنيا من مقتضياتها وملائماتها ومنافراتها ، أو أمرا هو بعض من الحيوة الدّنيا وقد عدّ في الاخبار مثل علم النّجوم من جملة ذلك ، ونعم ما قيل :

مرغ جانش موش شد سوراخ جو

چون شنيد از گربگان أو عرّجوا

زان سبب جانش وطن ديد وقرار

اندر اين سوراخ دنيا موش وار

هم در اين سوراخ بنّائى گرفت

در خور سوراخ دانائى گرفت

پيشه هائى كه مر أو را در مزيد

اندر اين سوراخ كار آيد گزيد

زانكه دل بركند از بيرون شدن

بسته شد راه رهيدن از بدن

(وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ) الّتى هي باطن الحيوة الدّنيا وجهة غيبها وبعض منها (هُمْ غافِلُونَ) الإتيان بضمير الفصل لتأكيد الحكم وللاشعار بالحصر ، واستعمال الغفلة دون الجهل وأمثاله للاشعار بانّ الآخرة معلومة لكلّ أحد بل مشهودة لهم في النّوم حين الرّؤيا خصوصا عند الرّؤيا الصّادقة بل في اليقظة بالآثار الدّالّة على وجودها من التّقليبات والدّوائر الّتى تكون في العالم الكبير وفي العالم الصّغير ، وعدم النّظر والتّوجّه إليها ليس الّا محض الغفلة عنها لا للجهل بها ، وقد مضى في الفصل الاوّل والثّانى والثّالث في اوّل الكتاب وعند قوله تعالى : (لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) ، من سورة البقرة تحقيق وتفصيل للعلم والفرق بينه وبين الجهل المشابه للعلم ، من أراد فليرجع إليها (أَ) لم يرجعوا الى مداركهم الباطنة (وَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) في حقّ أنفسهم حتّى يجدوا انّ فيها سماء وأرضا يعنى روحا وجسدا وانّ حيوة الجسد الّتى هي الحيوة الدّنيا ليست الّا بالحيوة الرّوحيّة الّتى هي الحيوة الاخرويّة حتّى يعلموا الآخرة ولا يكونوا غافلين عنها ، أو المعنى أو لم يتفكّروا عند أنفسهم حتّى يعلموا (ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ) اى سماوات الأرواح (وَالْأَرْضَ) اى ارض الأشباح (وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ) الّذى هو حقيقة الحيوة الدّنيا والآخرة

٢١٥

حتّى يعلموا انّ في الدّاثرات الّتى منها الحيوة الدّنيا حقّا باقيا ثابتا فلم يغفلوا عنه وطلبوا الوصول اليه وهو جهة الآخرة والجملة معلّق عنها لم يتفكّروا فانّه في معنى لم يعلموا (وَأَجَلٍ مُسَمًّى) فانّهم وان لم يكونوا يحصل لهم بالتّفكّر علم بدثور سماوات الطّبع وأرضه في العالم الكبير لكن يحصل العلم بدثورهما في العالم الصّغير وانّ لهما أجلا معيّنا بحسب الأسباب الطّبيعيّة من العمر الطّبيعىّ وأجلا معلّقا بحسب القواطع والموانع من الوصول الى اجله الطّبيعىّ (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ولذلك يعملون الأعمال السّيّئة وإذا تفكّروا انّ اعمال هؤلاء الكثير نشأت من كفرهم بلقاء ربّهم اجتنبوا مثل أعمالهم والجملة عطف على جملة ما خلق الله السّماوات أو معلّق عنها لم يتفكّروا مثل المعطوف عليها (أَ) لم يخرجوا من أوطانهم الصّوريّة ومن بيوت نفوسهم (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) الطّبيعيّة وفي ارض وجودهم وارض القرآن والسّير الحسنة والغير الحسنة (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) والضّمائر الثّلاثة للكثير من النّاس أو لمرجع الضّمير الفاعل لقوله أو لم يتفكّروا (انُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً) بحسب البدن والمال والأعوان (وَأَثارُوا الْأَرْضَ) بتقليب وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وللزّراعة وغرس الأشجار وغير ذلك من التّصرّفات والمقصود انّهم أثاروا الأرض أكثر ممّا أثاروها بقرينة قوله تعالى : (وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها) وأبادهم الله تعالى ولم ينفعهم قوّتهم واثارتهم وعمارتهم فلا ينبغي لكم ان تغترّوا بقوّتكم واثارتكم وتعميركم (وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) اى احكام الرّسالة أو المعجزات فاغترّوا بقوّتهم وكذّبوا الرّسل مثلكم فخذلهم الله أو اهلكهم (فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بتعريضها لسخط الله (ثُمَّ كانَ) عطف على أو لم يتفكّروا باعتبار المعنى فانّه في معنى لم يتفكّروا أو على أو لم يسيروا باعتبار المعنى كأنّه قيل : لم يسيروا ثمّ كان عاقبتهم ، أو عطف على كانوا أنفسهم يظلمون يعنى كانوا أنفسهم يظلمون ثمّ كان (عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى) هذا من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بسببيّة الاساءة للسّيّئة الّتى هي أكبر الّتى هي تكذيب آيات الله والاستهزاء بها ، أو المقصود تخصيص هذا الوصف بالمسيئين منهم السّوءى لا المسيئين السّيّئة ، أو ليس من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر بل المقصود بيان حكم من أساء السّوءى من غير تعرّض للمذكورين والسّوءى تأنيث الاسوء ، أو مصدر ، ولفظة ثمّ للتّعقيب في الوجود أو للتّعقيب في الاخبار (أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ) وأعظمها الأنبياء والأولياء (ع) (وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) والاستهزاء بالآيات أعظم جرما من التّكذيب واعراب الآية انّ السّوءى خبر كان أو اسمها على اختلاف القراءة برفع عاقبة الّذين ونصبها وان كذّبوا بدل منه أو بتقدير اللّام أو السّوءى مفعول مطلق أو مفعول به لأساءوا وان كذّبوا خبر كان أو اسمها (اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) هذه جملة منقطعة ومقدّمة لقوله : يوم تقوم السّاعة (الى آخرها) والمراد بالاعادة الى البرازخ (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) يعنى بعد المكث في البرازخ ترجعون اليه لا الى غيره (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) عند الرّجوع اليه (يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ) من الخلق اى يئسون أو يتحيّرون لغاية الدّهشة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ) في الوجوب ، أو في الآلهة ، أو في العبادة ، أو في الطّاعة ، أو في الولاية ، أو في الوجود والشّهود (شُفَعاءُ) يشفعون لهم عند الله كما قال بعض المشركين : هؤلاء شفعاؤنا عند الله (وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ) الباء صلة كافرين أو سببيّة (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ) تأكيد ليوم تقوم السّاعة (يَتَفَرَّقُونَ) يعنى يتفرّقون فرقتين فرقة الى الجنّة وفرقة الى النّار ، أو المعنى انّهم كانوا مجتمعين في الدّنيا

٢١٦

على الاكل والشّرب وكيفيّتهما والوقاع والشّكل والنّوع وهكذا في البرازخ وفي القيامة وحين ظهور كلّ بصورته الملكوتيّة الّتى يحشر عليها يتفرّقون أنواعا مختلفة واشكالا متخالفة فبعضهم يحشرون على صور الخنازير بل على صور يحسن عندها القردة والخنازير ، وبعضهم على صور الكلاب وسائر السّباع ، وبعضهم على صور الحشرات ، وبعضهم على أحسن الصّور ، ويتفرّقون الى مقاماتهم في الجنّة والنّار (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) تفصيل لتفرّقهم اجمالا (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) من احبره إذا سرّه أو أنعم عليه (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ) قالا كالطّبيعيّين والدّهريّين ومنكري المعاد أو حالا كأكثر النّاس (فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) في العذاب ظرف لغو متعلّق بمحضرون أو مستقرّ حال عن فاعله (فَسُبْحانَ اللهِ) جواب لشرط مقدّر وسبحان مصدر في معنى التّسبيح أو بمعناه اللّازم ومقدّر بفعل الأمر اى إذا كان الأمر هكذا فسبّحوا الله أو فليسبّح الله سبحانا (حِينَ تُمْسُونَ) تدخلون في المساء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) اى تدخلون في الصّباح وهما وقتا اختلاط النّور والظّلمة (وَلَهُ الْحَمْدُ) جملة حاليّة أو خبر في معنى الإنشاء وعطف على سبحان الله (فِي السَّماواتِ) سماوات الطّبع وسماوات الأرواح (وَالْأَرْضِ) ارض الطّبع وارض عالمي المثال (وَعَشِيًّا) وقت العصر وهو وقت دخول فضيلة صلوة العصر الى آخر النّهار (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) تدخلون في الظّهر وهو ساعة الزّوال أو المراد وقت ارتفاع الشّمس الى انقضاء وقت فضيلة صلوة الظّهر ، خصّ التّسبيح بالمساء والصّباح لانّ هذين وقت اختلاط النّور والظّلمة وأنموذج اختلاط ظلمة الطّبع ونور الرّوح وظلمة المقام الدّانى ونور المقام العالي ، وينبغي للإنسان حينئذ تنزيه لطيفته الانسانيّة الّتى هي أنموذج الله واسمه تعالى عن الظّلام بخلاف أوقات النّهار فانّها أوقات استواء النّور من دون اختلاط الظّلام ، ولا حاجة للإنسان الى تنزيه اللّطيفة حينئذ ، ولم يذكر السّماوات لانّ السّماوات مقام تنزّه الله والواقع في تلك المقام لا حاجة له الى تنزيه ولم يذكر الأرض اتّباعا لعدم ذكر السّماوات لانّ السّماوات مقام تنزّه الله والواقع في تلك المقام لا حاجة له الى تنزيه ولم يذكر الأرض اتّباعا لعدم ذكر السّماوات والّا فالواقع في الأرض محتاج الى تنزيه اللّطيفة الانسانيّة ، ويجوز ان يكون قوله عشيّا وحين تظهرون عطفا على حين تمسون ، ويكون اشارة الى استغراق التّسبيح لجميع الأوقات واستغراق الحمد لجميع الأمكنة والمقامات ، وعليه قيل : انّ ذكر الأوقات اشارة الى الصّلوات الخمس (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) استيناف جواب لسؤال مقدّر ناش من السّابق (وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) قد مضى الآية في سورة يونس مع تفسيرها (وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) يعنى يحيى ارض الطّبع في العالم الكبير بانبات نباتها بتهييج العروق المكمونة والحبوب المستورة فيها ، وإنباتها بأنواع النّبات والأشجار وقت الرّبيع ، وارض العالم الصّغير بإحياء قواها الارضيّة الدّاثرة بالحيوة الانسانيّة ، الباقيّة بعد موتهما في الشّتاء ، وحين الصّبا وبعده الى زمان البيعة بإحدى البيعتين (وَكَذلِكَ) اى مثل إخراج الحىّ من الميّت وإخراج الميّت من الحىّ وإخراج النّبات من الأرض بإرسال الأمطار عليها (تُخْرَجُونَ) في النّفخة الثّانية أو تكون في الخروج من اوّل انعقاد نطفكم واولى موادّكم فانّه تعالى لا يزال من اوّل انعقاد النّطفة في الرّحم يخرج آنا فآنا المكمونات الّتى تكون بالقوّة في النّطفة الى الظّهور والفعليّة ، أو مثل احياء الأرض بإخراج نباتها وقواها المكمونة فيها تخرجون ، وقرئ تخرجون مبنيّا للمفعول ومبنيّا للفاعل من الثّلاثىّ المجرّد ، ورد عن الكاظم (ع) بيانا لوجه من وجوه الآية في قوله : يحيى الأرض بعد موتها ليس يحييها بالقطر ولكن يبعث الله رجالا فيحيون العدل فتحيى الأرض لإحياء العدل ولاقامة الحدّ فيه أنفع في الأرض من القطر أربعين صباحا (وَمِنْ آياتِهِ) عطف على جملة يخرج الحىّ فانّه في معنى قوله من آياته ان يخرج الحىّ من الميّت (أَنْ خَلَقَكُمْ

٢١٧

مِنْ تُرابٍ) باعتبار خلق آدم (ع) أبيكم منه أو باعتبار خلق مادّتكم ممّا يحصل من التّراب ويغلب عليه التّراب (ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) تتحرّكون وتدبّون وليس للأرض حركة ولا قدرة على الحركة.

اعلم ، انّ في خلق الإنسان الّذى له علم وارادة وقدرة واختيار واستعداد للتّصرّف في الملكوتين وتسخير أهلهما واستعداد للتّرقّى عن هذا العالم والحركة الى السّماء أو الى عوالم الأرواح من العناصر الّتى لا شعور لها ولا قدرة ولا اختيار مع كون الغالب في مادّته الماء والأرض اللّتين هما أنزلها آيات عديدة دالّة على علمه تعالى وقدرته وحكمته واحاطته وتدبيره واناطة أفعاله بغايات عديدة متقنة ، وتصريفه في عالم الأرواح وعالم الطّبع بما لا يمكن ادراك كيفيّة تصريفه وتمزيجه للقوى الرّوحانيّة مع القوى الارضيّة بحيث لا يمكن التّميز بينهما ، ويشتبه على كثير انّ القوى الرّوحانيّة ليست الّا القوى الجسمانيّة حتّى قالوا : انّ النّفس الانسانيّة جسم سار في البدن كسريان الماء في الورد (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) يعنى من جنسكم (أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا) لتميلوا (إِلَيْها) فتسكنوا عن الحركة عنها فانّ الأزواج لو لم يكن من جنسكم لكنتم نافرين عنهنّ بعد قضاء حاجاتكم (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ) ايّها الأزواج أو ايّها الاناسىّ (مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) محبّة وتعطّفا ورقّة حتّى يكون تلك المحبّة سببا لاجتماعكم وبقاء اجتماعكم وتلك الرّقّة سببا لحراسة بعضكم بعضا وللاهتمام بخيره وإصلاحه (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من خلق الأزواج من أنفسكم وجعل المودّة والرّحمة بينكم أو في جعل المودّة والرّحمة بينكم أو في إخراج الحىّ من الميّت (الى آخر الآية) (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

مراتب التّحقيق في العلم

اعلم ، انّ الإنسان بحسب افراده ذو عرض عريض وذو مراتب كثيرة وهكذا بحسب حالات كلّ فرد ذو عرض عريض ، فمنهم من يكون غافلا عن الله وآياته ولا كلام معهم ولا خطاب ولا آية لهم ولا دلالة وكأيّن من آية في السّماوات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون ، ومنهم من يتنبّه بانّ الدّنيا مقدّمة الآخرة وان ليس المقصود من الإنسان ان يتعيّش في الدّنيا كتعيّش الحيوان فيتفكّر في كيفيّة خلقته وخلقة سائر المواليد فيتنبّه من خلقتها بانّ لها مبدء قديرا عليما حكيما ، ومنهم من يستعدّ بهذا التّفكّر لافاضة الحقّ الاوّل تعالى عليه نور العلم ، فيفيض عليه نور العلم فانّ العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء فيصير صاحب اولى مراتب العلم الّتى هي تكون سببا للتّحيّر والإنصات ، فانّ اولى مراتب العلم مفسّرة بالإنصات كما عن النّبىّ (ص) والتّحيّر يصير سببا لطلب من يعلّمه طريق الوصول الى دار العلم ومعدن النّور ، ومنهم من يصل الى عالم وقته بعد طلبه وينقاد له ويستمع منه وهذه المرتبة ثانية مراتب العلم كما في الخبر المأثور عن الرّسول (ص) ، ومنهم من يخرج من مقام الاستماع الّذى هو مقام التّقليد والعلم التّقليدىّ فيجد ذوق معلوماته أو يشاهد معلوماته أو يتحقّق بمعلوماته وهذه المراتب هي مراتب التّحقيق في العلم إذا علمت ذلك فاعلم ، انّ الآيات من قوله (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (الى قوله) (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) منزّلة على مراتب افراد الإنسان ، وكلّما كان منزّلا على مراتب الإنسان بحسب افراده كان منزّلا على مراتبه بحسب أحوال شخص واحد ، وكلّما كان منزّلا على مرتبة دانية كان لصاحب المرتبة العالية أيضا لسعته واحاطته ، بخلاف ما كان لصاحب المرتبة العالية فانّه خاصّ به وليس لصاحب المرتبة الدّانية نصيب منه ، فقوله : (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) (الى قوله) (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) لصاحب التّنبّه والتّفكّر يعنى ليس له غيره ، لا انّ صاحب العلم لا يدرك تلك الآيات ولا يلتذّ بها (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اى سماوات الطّبع وأرضه أو سماوات الأرواح وارضى الأشباح في العالم الكبير أو الصّغير (وَاخْتِلافُ

٢١٨

أَلْسِنَتِكُمْ) يعنى اختلاف لغاتكم فانّه يعبّر كثيرا في العرب والعجم من اللّغات والكلمات الجارية على الألسن بالألسن أو اختلاف ألسنتكم في كيفيّة التّأدية مع انّكم من نوع واحد (وَ) اختلاف (أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) دالّات على علمه وحكمته تعالى وكمال عنايته بخلقه وقدرته وإرادته وسلطنته ووحدته ، أو دالّات على أحوال صاحب الألسن والألوان كما في الخبر (لِلْعالِمِينَ) قرئ بفتح اللّام وعليها فليخصّص بالّذين حصل لهم العلم فانّ العالمين بفتح اللّام مخصوص بذوي العقول بخلاف العالم الّذى هو مفرده فانّه اعمّ من ذوي العقول وغيرهم ، وذووا العقول في الحقيقة هم الّذين حصل لهم الشّعور الانسانىّ وليسوا الّا الّذين قذف الله في قلوبهم نور العلم ، وقرئ بكسر اللّام وهم الّذين قذف الله في قلوبهم نور العلم لا الّذين حصّلوا الصّور الادراكيّة من أمثالهم ومن الدّفاتر ، وقدّم هذا الصّنف على المستمعين باعتبار اولى مراتب العلم فانّ المستمع هو الّذى حصل له مرتبة السّماع الّذى هو ثانية مراتب العلم كما في الخبر النّبوىّ (ص) ولم يقل لقوم يعلمون كسابقه ولاحقه اشعارا بانّ حصول العلم خصوصا مرتبته الاولى تلوينا لا يكفى في ادراك تلك الآيات وروى عن الصّادق (ع) انّ الامام إذا ابصر الرّجل عرفه وعرف لونه وان سمع كلامه من خلف حائط عرفه وعرف ما هو ، انّ الله يقول : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الآية) قال وهم العلماء فليس يسمع شيئا من الأمر ينطق به الّا عرفه ناج أو هالك فلذلك يجيبهم بالّذى يجيبهم ، وهذا الخبر بيان لأحد وجوه الآية واعتبر (ع) آخر مراتب العلم ، وقرأ (ع) العالمين بكسر اللّام أو حمله على معنى يوافق كسر اللّام وجعل دلالة الآيات على أحوال صاحب الألسن والألوان وعلى هذا فليكن المراد بالسّماوات والأرض سماوات الأرواح وارض الأشباح في العالم الصّغير لتكون فيها آيات دالّات على أحوال صاحب السّماوات والأرض (وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) فائدة التّقييد بهما مع انّه لا يكون منام في غيرهما اطلاق المنام عن التّقييد فانّه لو لم يذكرهما عقيب المنام لتوهّم انّ المراد هو المنام باللّيل لكونه معدّا للمنام دون اليوم ولذلك لم يقيّد الابتغاء بهما ففي المنام المطلق آيات دالّات على حكمة الحقّ تعالى وإتقان صنعه وكيفيّة خروج النّفس من البدن بالموت ، ودالّات على عالم آخر سوى عالم الكون والفساد ، وبقاء ذلك العالم واحاطته بعالم الطّبع وكون صور جميع الأشياء ثابتة فيه وكيفيّة احاطة الحقّ تعالى بجملة الموجودات (وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) يعنى فيهما فانّ في ابتغاء الفضل الّذى فيه كمال النّفس بحسب ظنّها سواء كان المراد بالفضل السّعة وسائر ما يحتاج الإنسان اليه في الدّنيا أو كمالات الإنسان وسعة النّفس بحسب أمور الآخرة آيات دالّات على مبدء ذي كمال وسعة وفضل فانّه لو لا مبدء الكمال والفضل لم يطلب الإنسان شيئا منه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) الّذين هم صاحبوا المرتبة الثّانية من العلم وهي مرتبة الاستماع والتّقليد واليه أشار تعالى بقوله : (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) كان الموافق للسّابق واللّاحق ان يقول : ومن آياته ان يريكم البرق لكنّه لمّا لم يرد ان يقول اراءة البرق من آياته عدل عنه ، والظّرف لغو متعلّق بيريكم ، امّا جعل يريكم بتقدير ان أو واقعا موقع المصدر فيذهب بنكتة العدول عن صريح ان أو المصدر فانّه لمّا أراد ان يبيّن انّ تلك الآيات آيات لمن صار علمه تحقيقيّا ولذلك قال : يريكم وانّ البرق المشهود انّما ينشأ من الآيات الغيبيّة الّتى يكون صاحب التّحقيق منتظرا لها دائما قال : من آياته يريكم دون ان يريكم (خَوْفاً) اراءة خوف أو هو بتقدير اللّام وليس مفعولا له أو هو حال عن المفعول (وَطَمَعاً) والمقصود الخوف من الصّاعقة والطّمع في الغيث (وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يحقّقون في العلم بالخروج من حدّ التّقليد فانّ التّعقّل عبارة عن ادراك الشّيء بالعقل لا بمحض التّقليد وهم الّذين يكون لهم قلب المشار إليهم بقوله : لمن كان له قلب وهذا مقام التّحقيق في العلم

٢١٩

ووجدان آثار المعلوم والالتذاذ بالعلم وفوقه مقام الشّهود والعيان في ادراك المعلوم وهو خاصّ بالأنبياء والأولياء (ع) وفوقه مقام التّحقّق بالمعلوم وهو مقام بعض الأنبياء والأولياء (ع) (وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) لا بآلة ومقيم اى السّماء والأرض في العالم الصّغير والعالم الكبير (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) عطف على ان تقوم بتأويل مفرد اى ثمّ خروجكم من الأرض إذا دعاكم دعوة من الأرض (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) أو هو عطف على مجموع من آياته ان تقوم السّماء عطف الجملة ولم يكن حينئذ من جملة آياته ولم يقل هاهنا انّ في ذلك لآيات لقوم كذا لانّ هذه الآيات خاصّة بالمشاهدين ، وليس للعالمين الغير المشاهدين فيها حقّ ونصيب والمشاهد من حيث انّه مشاهد من صقع الله لا من جانب الخلق والله تعالى لا حاجة له الى آية فلم يقل : انّ في ذلك لآيات للمشاهدين وهذه هي الآيات العليا وليست الّا للصّنف الأعلى من الإنسان ، وقد سلف الاشارة الى انّ كلّما كانت آية للصّنف الأدنى فهي آية للصّنف الأعلى أيضا من دون عكس وقد سبق الآية في سورة النّحل مع بعض الإشارات والنّكات (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اى السّماوات والأرض ومن فيهما يعنى ليس فيهما أحد يكون شريكا له تعالى (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) خاضعون منقادون وليسوا مقابلين له كما يقول الثّنويّة بالنّور والظّلمة أو بيزدان واهريمن فلا ندّ له ولا ضدّ (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) لا غيره كما يقول الثّنويّة والابليسيّة انّ اهريمن مبدأ الشّرور (ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) اى الاعادة أسهل على الله بالقياس الى قدركم وأصولكم والّا فليس شيء عليه أصعب من شيء ، أو الضّمير المجرور راجع الى الخلق ، ومعنى كون الاعادة أسهل كونها غير محتاجة الى مادّة وآلة وتربية لحصول مادّته واقتضاء فطرته الصّعود الى أصله بخلاف الإبداء فانّه محتاج الى تهيّة مادّة وتربية العلويّات وحافظيّة الارضيّات وايتلاف المتخالفات ومزجها وكسر سورتها ، وقيل : الأهون منسلخ عن معنى التّفضيل (وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى) اى الصّفات العليا (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) عن الصّادق (ع) : ولله المثل الأعلى الّذى لا يشبهه شيء ولا يوصف ولا يتوهّم فذلك المثل الأعلى ، أو المقصود ولله المشابه الأعلى في السّماوات من أرباب الأنواع والعقول وفي الأرض من الأنبياء والأولياء (ع) روى عن الرّضا (ع) انّه قال ، قال النّبىّ (ص) لعلىّ (ع) : وأنت المثل الأعلى ، وفي خبر : نحن كلمة التّقوى وسبيل الهدى والمثل الأعلى (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الّذى لا يغلب (الْحَكِيمُ) الّذى لا يفعل ما يفعل الّا لحكم ومصالح وغايات متقنة (ضَرَبَ) الله (لَكُمْ) لانتفاعكم واتّعاظكم أو لأحوالكم في اشراككم بالله ممالكيه حتّى تتنبّهوا وتعلموا انّ هذا الإشراك خطاء محض (مَثَلاً) لحاله وحال شركائه بزعمكم (مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ) بيان للمثل كأنّه قال : المثل كون المماليك مع انّهم ليسوا مملوكين لكم حقيقة شركاء لكم (فِي ما رَزَقْناكُمْ) مع كون الرّزق منّا ونسبته إليكم محض اعتبار ولا ترضون به فكيف ترضون أو كيف يرضى الله تعالى بجعل مماليكه الحقيقيّة الّتى لا وجود لهم من أنفسهم فكيف بسائر الصّفات شركاء له في مملوكاته الحقيقيّة لكنّه عدل الى هذا تأكيدا لنفى رضاهم بشراكة مماليكهم حتّى يكون تأكيدا لنفى الشّريك لله تعالى (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) عطف على مدخول الاستفهام يعنى لستم ترضون بمساواتهم لكم فكيف ترضون أو يرضى الله بمساواة مماليكه له ، أو عطف على حزب الله والفاء للتّعقيب في الاخبار وبعض أجزاء المعطوف يكون محذوفا والتّقدير فأنتم ايّها الأحرار فيما رزقناكم مساوون للمماليك أو أنتم ايّها الأحرار والمماليك فيه مساوون ولا ترضون بشراكة المماليك لكم مع مساواتهم لكم في كلّ الجهات فكيف ترضون أو يرضى الله بشراكة المماليك له (تَخافُونَهُمْ) جملة حاليّة أو مستأنفة والمعنى هل تخافونهم (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فتجعلونهم

٢٢٠