تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

العذاب تحزن عليهم ولا ينبغي ان تحزن عليهم لانّ عدم ايمانهم وطاعتهم مسبوق بمشيّتنا (وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ) فانّ الله ناظر إليك وإليهم والى مكرهم ولا ينفذ مكرهم الّا بمشيّتنا وإذا شئنا نفاذه كان لحكم ومصالح راجعة إليك (وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ) وعد العذاب أو وعد القيامة أو الرّجعة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) استبطؤا العذاب أو السّاعة استهزاء بقرينة ردف لكم بعض الّذى تستعجلون أو سألوا عن وقتها استهزاء (قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) قرب منكم أو تبعكم (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) من العذاب ، قيل : هذا البعض عبارة عن القتل والأسر يوم بدر أو العذاب عند الموت أو الّذى في البرازخ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) فلذلك يمهلهم لعلّهم يتوبون وينعم عليهم بأنواع النّعم الظّاهرة والباطنة لعلّهم يشكرون (وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) لا يشعرون بالنّعم لأنّهم كالأنعام ف (لا يَشْكُرُونَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ) ممّا يخفونه من غيرهم من النّيّات والعزمات والإرادات والأخلاق والأحوال والخيالات والخطرات ، أو يعلم ما تكنّ صدورهم من أنفسهم من المكمونات الّتى لا شعور لهم بها (وَما يُعْلِنُونَ) من الأقوال والأفعال أو ما يعلنون على غيرهم وعلى أنفسهم حتّى يكون الخيالات والخطرات فيما يعلنون (وَما مِنْ غائِبَةٍ) مصدر أو اسم مصدر بمعنى ما غاب أو اسم خالص بمعناه أو وصف بمعنى خصلة أو ذرّة غائبة (فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ظاهر بنفسه أو ظاهر ما فيه أو مظهر ما فيه ، وهذا من قبيل التّعميم يعنى يعلم ما تكنّ صدورهم وما يعلنون بل جميع الذّرّات الغائبة عن جميع الخلق في السّماوات والأرض (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ) كلام منقطع عن سابقه لفظا ومعنى أو جواب لسؤال مقدّر عن علّة الحكم ولذلك لم يأت بأداة الوصل (أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من الجنّة وأوصافها ، والجحيم وآلامها ، والخلود وعدمه ، والتّشبيه والتّنزيه ، وسائر الأوصاف الرّبوبيّة والنّبىّ الموعود الّذى بشرّ به موسى (ع) وسائر الأنبياء (ع) واحكام التّوراة الّتى يخفون أكثرها واختلفوا فيها (وَإِنَّهُ لَهُدىً) ذو هدى أو هاد أو سبب هداية ، أو حمله على القرآن للمبالغة (وَرَحْمَةٌ) سبب رحمة (لِلْمُؤْمِنِينَ) فانّ غيرهم لا ينتفعون به أو يكون ضلالة ونقمة عليهم (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يفعل الله بهم في اختلافهم؟ ـ فقال : يقضى (بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ) الّذى يكون لائقا بهم لا بحكمهم الّذى اخترعوه من عند أنفسهم (وَهُوَ الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنع من نفاذ حكمه (الْعَلِيمُ) الّذى يعلم دقائق استحقاقهم (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) يعنى فانظر الى قضائه النّافذ فيهم وتصريفه التّامّ لهم على ما يشاء واسترح من تعب النّظر الى أفعالهم وتوكّل على الله في أمورك وجملة أفعالهم وأقوالهم (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) فلا تشكّ فيما أنت فيه فيزول توكّلك ، وهذا تسلية له (ص) ولامّته ومنع لهم عن الارتياب (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) جواب سؤال مقدّر كأنّه قال : أفلا أقول شيئا؟ ـ فقال : لا تقل لهم شيئا لانّهم موتى و (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) يعنى أنت لا تقدر على أسماعهم لانّهم موتى عن الانسانيّة وهم لا يقدرون على سماع نداء الإنسان لانّهم صمّ عن نداء الإنسان ، وقرئ لا تسمع بالخطاب والصّمّ بالنّصب (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) فلا يفهمون الاشارة أيضا ومدبرين حال تأكيدىّ أو غير تأكيدىّ (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) لعجزهم عن رؤية الطّريق كلّما أريتهم الطّريق (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) اى من يشرف على الايمان أو من يصدّق ويذعن بآياتنا

١٨١

التّكوينيّة الحاصلة في الآفاق أو في الأنفس خصوصا الأنبياء والأولياء (ع) أو التّدوينيّة أو يؤمن بالبيعة العامّة أو الخاصّة (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) بالبيعة العامّة أو منقادون للاستماع (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) اى قول ظهور القائم عجّل الله فرجه في العالم الصّغير والعالم الكبير وفسّر بنزول العذاب بهم عند اقتراب السّاعة (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) وهذه من علامات ظهور القائم (ع) ويكون عند طلوع الشّمس من مغربها وفسّر الدّابّة بأمير المؤمنين (ع) وانّه يخرجه الله في أحسن صورة ومعه ميسم يسم به أعداءه ، وعنه (ع) : وانّى لصاحب العصا والميسم والدّابّة الّتى تكلّم النّاس ، وعنه (ع) في حديث : معها اى الدّابّة خاتم سليمان (ع) وعصا موسى (ع) تضع الخاتم على وجه كلّ مؤمن فينطبع فيه : هذا مؤمن حقّا ، وتضع العصا على وجه كلّ كافر فيكتب : هذا كافر حقّا (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً) يعنى يوم الرّجعة ويوم ظهور القائم (ع) في الصّغير أو في الكبير ، ويجوز ان يراد يوم القيامة وهو عطف على إذا أو مقدّر باذكر (مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبس اوّلهم على آخرهم حتّى يتلاحقوا (حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) اى العذاب الموعود (بِما ظَلَمُوا) الآيات اى آل محمّد (ص) (فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ) باعتذار لعدم إمكان النّطق لشدّة العذاب أو لعدم الاذن لهم في النّطق ، في خبر عن الصّادق (ع) : الآيات أمير المؤمنين (ع) والائمّة (ع) ، فقال الرّجل : انّ العامّة تزعم انّ قوله عزوجل : ويوم نحشر من كلّ أمّة فوجا عنى يوم القيامة فقال : فيحشر الله عزوجل يوم القيامة من كلّ أمّة فوجا ويدع الباقين؟ ـ لا ، ولكنّه في الرّجعة ، وامّا آية القيامة فهي وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا (أَلَمْ يَرَوْا) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يكون ذلك؟ ـ فقال : انّه سيكون فانّه لم يدعكم في الدّنيا مهملين مع انّها مقدّمة للآخرة وهيّأ لكم جميع ما تحتاجون اليه في تعيّشكم فلا يدعكم في الآخرة مهملين الم يروا (أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ) بالنّوم وسكون القوى عن هيجانها ، والرّوح عن انتشارها ، والنّفس عن خيالاتها (وَالنَّهارَ مُبْصِراً) مجاز عقلىّ أو بمعنى سبب ابصار أو بمعنى الجاعل بصيرا (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) عديدة دالّة على علمه تعالى وقدرته وحكمته ورأفته بعباده وتربيته لهم بأحسن ما يكون وعدم إهماله لهم في الدّنيا الّتى هي مقدّمة لدار آخرتهم وقنطرة للعبور الى منازلهم فلا يهملهم في الآخرة من غير حساب وثواب وعقاب أو من غير بقاء وحيوة (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) بالله أو بالآخرة (وَيَوْمَ يُنْفَخُ) عطف على يوم نحشر (فِي الصُّورِ) هو كما مضى جمع الصّورة سواء كان مخفّف الصّور بضمّ الصّاد وفتح الواو أو كان بنفسه جمعا ، أو هو قرن من حديد ينفخ فيه النّفخة الاولى لاماتة الأشياء ، والنّفخة الثّانية لاحيائها وبعثها ، ويحتمل ان يراد النّفخة الاولى ويكون قوله (فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) فزع الموت ، وقيل : ينفخ ثلاث نفخات ، نفخة الفزع ، ونفخة الاماتة ، ونفخة الأحياء ، ويجوز ان يراد نفخة الأحياء فيكون المراد بالفزع فزع الحيوة بعد الموت (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ان لا يفزعوا أو لا يموتوا ، وهم الملائكة الّذين هم باقون ببقاء الله لا ببقاء أنفسهم ، موجودون بوجود الله لا بوجود أنفسهم ، وكذلك الأنبياء (ع) الّذين كانوا على تلك الحال ، وقيل : هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل (ع) ، وقيل : روى في خبر : انّ المراد بهم الشّهداء فانّهم لا يفزعون في ذلك اليوم والمراد بالآمنين من جاء بالحسنة فانّه تعالى قال : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) كما يجيء (وَكُلٌ) من الفزعين (أَتَوْهُ داخِرِينَ) وان كان المراد بالفزع فزع الموت كان المراد به انّ كلّهم بعد احيائهم يأتونه صاغرين (وَتَرَى الْجِبالَ) الخطاب لمحمّد (ص) أو عامّ ، وان كان الخطاب لمحمّد (ص) كان المراد انّك

١٨٢

ترى الجبال ببصرك البشرىّ أو كان الكلام على ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (تَحْسَبُها جامِدَةً) اى واقفة ساكنة في أمكنتهما فانّ الجمود قد يستعمل في الوقوف عن الحركة كما يستعمل مقابل السّيلان (وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) اى تسير نحو سير السّحاب في سرعة الحركة وقطع المسافة ، وهذا يجوز ان يكون اشارة الى تجدّد الأمثال بنحو الاتّصال ويكون الانعدام والانوجاد بنحو الاتّصال غير محسوس بالانظار كما انّ الدّائرة المحسوسة الحاصلة من الحركة التّوسّطيّة الّتى تكون للشّعلة الجوّالة غير موجودة في نفس الأمر ولكن بواسطة اتّصال الانعدامات والانوجادات ترى بالأبصار دائرة ، وعليه العرفاء الكاملون وبتلك الآية يستشهدون ، ويجوز ان يكون اشارة الى حركة الأرض دون الشّمس ، وعليه الطّبيعيّون من الافرنج وعليه بناء هيئتهم الجديدة ، وان يكون اشارة الى انحلال الأبدان واغتذائها ببدل ما يتحلّل منها ، وان يكون اشارة الى تبدّل انانيّة النّفس بانانيّة الله وانانيّة العقل أو تبدّل انانيّة العقل بانانيّة الشّيطان ، وان يكون اشارة الى سير النّفوس الكاملة فانّ سيرهم يكون كلّ آن الى عرش ربّهم ، واليه أشار المولوىّ قدس‌سره :

سير زاهد هر مهى تا پيشگاه

سير عارف هر دمي تا تخت شاه

وان يكون اشارة الى القيامة ووقت ان يكون الجبال كالعهن المنفوش فانّها حينئذ تكون في الحركة السّريعة لا يدرك بالأبصار حركتها لبعد أطرافها وعدم احاطة النّظر بأطرافها لكن قوله تعالى (صُنْعَ اللهِ) في مقام مدحه يدلّ على المعاني السّابقة (الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) بحيث لا يدرك ما فيه من الأوصاف ويدرك على خلاف ما له من الأوصاف (إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ) تعليل لقوله : ترى الجبال تحسبها جامدة ، باعتبار لازم الحكم الّذى هو العلم برؤيتها وحسبانها كذلك أو هو بمنزلة النّتيجة لقوله : اتقن كلّ شيء فانّه إذا اتقن كلّ شيء أتقن كلّ نفس وتعلّقها ببدنها وتصرّفها في حركاتها وسكناتها فهو خبير بما تفعلون من الخير والشّرّ وهو وعد ووعيد ولذلك عقّبه بقوله (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) الى العشرة الى ما شاء الله ، أو له خير ناش من تلك الحسنة (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ) والمراد بالحسنة الجنس أو الحسنة المعهودة الّتى هي ولاية علىّ (ع) الحاصلة للإنسان بالبيعة الخاصّة الولويّة وبالتّوبة والتّلقين فانّه إذا لم يبايع الإنسان مع ولىّ امره لم يحصل له لبّ كما إذا لم يؤبّر النّخلة لم يحصل لها ثمر ، وإذا حصل له لبّ بالولاية ولم يستر فعليّته الحاصلة بالولاية بأغشية الأهوية والآمال يكون آمنا من جميع ما يفزع غيره يوم القيامة وهذا هو المراد بقرينة قرينة الّذى هو قوله تعالى (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ) فانّه إذا أريد بالسّيّئة الجنس لزم ان يكبّ صاحبها في النّار وليس كذلك وأذا أريد بالسّيّئة محبّة أعداء أهل البيت وولايتهم صحّ ان يقال (فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ) مقولا لهم (هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وقد فسّر الحسنة والسّيّئة في اخبار عديدة بولاية أهل البيت (ع) وبغضهم قل لهم (إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ) يعنى مكّة فانّها شريفة عندكم وربّها يستحقّ العبادة (الَّذِي حَرَّمَها) جعلها حراما هتكها (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) تعميم بعد تخصيص (وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) المنقادين (وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ) عليكم وأدعوكم بتلاوته ولا أبالي بردّكم وقبولكم (فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ) لا لي (وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ) لا من الهادين حتّى احزن على ضلالكم (وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) على ما أنعم علىّ وعلى ما أمرت ولم يكلّفنى ما لم اطقه من دعوة القوم وهدايتهم ، أو على جعله الولاية آيته العظمى (سَيُرِيكُمْ آياتِهِ) عند مشاهدتها حال الاحتضار أو في القيامة وخصوصا الآيات العظمى (فَتَعْرِفُونَها) من حيث كونها آيات

١٨٣

(وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) تهديد لهم واضافة الرّبّ الى محمّد (ص) بالخطاب ، وجمع تعملون اشارة الى لطيفة هي عدم لياقتهم لاضافة الرّبّ إليهم.

سورة القصص

مكّيّة وثمان وثمانون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) اى الظّاهر أو المظهر الّذى هو عبارة عن القلم الأعلى أو عن اللّوح المحفوظ أو القرآن التّدوينىّ (نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) اى لانتفاعهم فانّ غيرهم لا ينتفعون به (إِنَّ فِرْعَوْنَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما ذلك النّبأ (عَلا فِي الْأَرْضِ) اى ارض مصر (وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً) بان جعل القبطىّ مكرما بأنواع الكرامة والسّبطىّ مهانا بأنواع الاهانة أو جعل السّبطىّ فرقا متفرّقة في الاستعباد والأعمال الشّاقّة فانّهم كانوا أهل مصر واحقّ بها لكن قوله تعالى (يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ) يدلّ على المعنى الاوّل (يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ) بدل من يستضعف (وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ) يعنى يستبقي البنات أو يتجسّس حياء النّساء لطلب الحمل أو لطلب العيب (إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) في الأرض بمنع أهلها من طلب كما لهم والوصول الى رسول أو امام ، أو بالقتل والاستعباد من غير استحقاق (وَنُرِيدُ) كان المناسب ان يقول وأردنا لكنّه عدل الى المضارع للاشارة الى استمرار هذه الارادة ماضيا ومستقبلا ، والى جهة التّأويل فانّ فرعون عالم الصّغير عال في أرضه ويريد الله ان يمنّ على موسى هذا العالم وقومه ، والى تسلية الرّسول (ص) فانّه بعد ما اطّلع على ما سيقع باهل بيته حزن عليه فقال تعالى نريد على سبيل الاستمرار (أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ) فلا تحزن فانّ استضعاف أهل بيتك سبب لمنّتنا عليهم (وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً) يقتدى بهم (وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ) للأرض بظهور القائم عجّل الله فرجه ولارض عالمهم الصّغير بخلاصها من يد فرعون وقومه (وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ) في العالم الكبير في جملة الأرض أو في ارض مصر أو في ارض وجودهم (وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما) اى فرعون موسى (ع) أو فرعون أهل البيت أو فرعون العالم الصّغير (مِنْهُمْ) من المستضعفين (ما كانُوا يَحْذَرُونَ) منهم من ذهاب ملكهم على يد رجل من بنى ـ إسرائيل ، قيل : عاش فرعون اربعمائة سنة وكان قصيرا دميما وهو اوّل من خضب بالسّواد ، وعاش موسى (ع) مائة وعشرين سنة (وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى) بعد ما ولدت موسى (ع) (أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ) من القتل واطّلاع الحرّس (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي) عليه من الغرق والضّياع والقتل (وَلا تَحْزَنِي) على فراقه (إِنَّا رَادُّوهُ

١٨٤

إِلَيْكِ) سالما لتقرّ عينك ويكون أنسا لك (وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) قيل : حملت امّ موسى (ع) ولم يظهر حملها ولم تكن عليها موكّلة من فرعون فولدته ولم يعلم به أحد وأرضعته ثلاثة أشهر لا يبكى ولا يتحرّك ، فلمّا خافت عليه عملت له تابوتا مطبقا ثمّ ألقته في البحر بإذن الله فانّها كانت اوحى إليها من الله في ذلك بتوسّط ملك أو في رؤيا أو بإلهام قلب ، وقيل : كان فرعون وكّل بها امرأة لتعرف حملها وكانت لم تظهر حملها عليها وولدت موسى (ع) فلمّا رأته الموكّلة رأت بين عينيه نورا فأحبّته حبّا شديدا وقالت : احفظى ولدك فانّى احبّه حبّا شديدا اظنّ انّه الّذى يكون هلاك القبطىّ بيده فلمّا خرجت القابلة من عندها أبصرها العيون فجاؤا ليدخلوا على امّ موسى (ع) فقالت أخته : يا امّا هذه الحرّس بالباب فلفّته في خرقة فوضعته في تنوّر مسجور فدخلوا وتجسّسوا ولم يجدوا منه أثرا وانطلقت امّ موسى (ع) اليه وقد جعل الله النّار عليه بردا وسلاما ، فلمّا رأت إلحاح فرعون في الطّلب وضعته بوحي من الله في التّابوت وألقته في اليمّ (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) وكان لفرعون قصور على شطّ النّيل فلمّا ألقته في النّيل وضرب به الماء نظر فرعون من قصره ومعه آسية امرأته الى سواد في النّيل ترفعه الأمواج والرّياح تضربه حتّى جاءت به الى باب قصر فرعون فأمر فرعون بأخذه فأخذ ورفع اليه ، فلمّا فتحه وجد فيه صبيّا فقال : هذا اسرائيلىّ فألقى الله في قلب فرعون لموسى (ع) محبّة شديدة وكذلك في قلب آسية وأراد فرعون ان يقتله فقالت آسية : لا تقتلوه كما سيجيء (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) اللّام للعاقبة أو للغاية لكنّه أتى بها ليكون تهكّما بهم (إِنَّ فِرْعَوْنَ) تعليل للسّابق (وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) اى عاصين لربّهم (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) قيل : قال فرعون قرّة عين لك لا لي (لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) قالت ذلك لأنّها لم يكن لها ولد ولا لفرعون (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) انّه موسى (ع) الّذى خراب ملكهم بيده (وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) خاليا من العقل لغلبة الدّهشة أو خاليا من كلّ شيء الّا من ذكر موسى (ع) أو من الحزن لاتّكالها على وعد الله أو فارغا من تذكّر الوحي الّذى اوحته الله تعالى اليه بنسيانها الوحي ، وقرئ فزعا بالفاء والزاء المعجمة والعين المهملة ، وقرعا بالقاف والرّاء والعين المهملتين ، وفرغا بالفاء والرّاء المهملة والغين المعجمة ، والكلّ مناسب هاهنا (إِنْ كادَتْ) انّها كادت (لَتُبْدِي) غمّها (بِهِ) أو لتبدي بخبره على ان يكون الباء للتّعدية دون الهمزة ، وقيل : انّها كادت تبدي أمرها عند ما دعاها فرعون للرّضاع سرورا به (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) حتّى لا ينزعج ولا يضطرب في فراغه لفراق موسى (ع) (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) المصدّقين بالوحي وصدق الوعد أو من المؤمنين بالله (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ) بعد ما ألقته في البحر ومضى عليه ثلاثة ايّام كما في الخبر (قُصِّيهِ) تجسّسى اثره حتّى ترى ما حاله وما فعل به فذهبت الى قصر فرعون (فَبَصُرَتْ بِهِ) أبصرته (عَنْ جُنُبٍ) عن بعيد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) انّها أخته أو لا يشعرون بنظرها اليه (وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) اى قبل مجيء أخته بثلاثة ايّام كما مضى وكان فرعون اغتمّ لذلك غمّا شديدا (فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) فقالوا نعم ، فجاءت بامّها فلمّا أخذته بحجرها وألقمته ثديها التقمه وشرب ففرح فرعون واهله وأكرموا أمّه فقال فرعون لها : ربّيه لنا فانّا نفعل بك ونفعل (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) بردّه إليها (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ) اى أكثر الخلق أو أكثر قوم فرعون (لا يَعْلَمُونَ) انّ وعد الله حقّ أو ليس لهم علم (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) قد مضى في سورة الانعام بيان الاشدّ (وَاسْتَوى) قيل : المراد ببلوغ الاشدّ بلوغ ثلاث وثلاثين سنة ، وبالاستواء بلوغ الأربعين ، أو المراد ببلوغ الاشدّ شدّة تمام القوى والأعضاء كما ينبغي واوّله زمان بلوغ ثمان عشرة سنة (آتَيْناهُ حُكْماً)

١٨٥

دقّة في العمل بحيث يعجز عن مثل عمله أمثاله (وَعِلْماً) عظيما فانّ التّنوين للتّفخيم (وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) يعنى بعد ما استوى وذلك انّ بنى إسرائيل كانوا في الشّدّة والبلاء وكانوا يستريحون الى أخبارهم بمجيء موسى (ع) وهلاك فرعون فخرجوا ذات ليلة مقمرة الى شيخ لهم عنده علم فقالوا : كنّا نستريح الى الأحاديث فحتّى متى نحن في هذا البلاء؟! قال : والله انّكم لا تزالون فيه حتّى يجيء الله بغلام عن ولد لاوى بن يعقوب اسمه موسى (ع) بن عمران ، غلام طوال جعد ، فبينا هم كذلك إذا قبل موسى (ع) يسير على بغلة حتّى وقف عليهم فرفع الشّيخ رأسه فعرفه بالصّفة فقال له : ما اسمك؟ ـ قال : موسى (ع) ، قال : ابن من؟ ـ قال : ابن عمران ، فوثب اليه الشّيخ فأخذ بيده فقبّلها وثاروا الى رجله فقبّلوها فعرفهم وعرفوه واتّخذ شيعة فمكث بعد ذلك ما شاء الله وقد ظنّ قوم فرعون به ودخل المدينة اى مصرا ومدينة اخرى من ارض مصر (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) قيل : حين القيلولة ، أو بين المغرب والعشاء ، أو كان يوم عيد لهم وقد اشتغلوا بلعبهم وانّما دخل على حين الغفلة لانّ موسى (ع) بعد كبره يركب في موكب فرعون وجاء ذات يوم ليركب قيل له : انّ فرعون ركب فركب في اثره فلمّا كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل ، وقيل : انّ بنى إسرائيل كانوا يجتمعون الى موسى (ع) ويستمعون كلامه فاشتهر ذلك منه وأخافوه وكان لا يدخل مصرّا لا حين غفلة أهلها ، وقيل : انّ فرعون بعد ما اشتهر ذلك منه امر بإخراجه من البلد (فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) اى يختصمان (هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى) بجمع كفّه أو بعصاه كما قيل (فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله (قالَ) موسى (ع) (هذا) الاقتتال أو تعجيل قتله أو هذا الكافر (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ) لبني آدم (مُضِلٌّ مُبِينٌ) لكن قوله تعالى (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) يدلّ على انّ مقصودة انّ هذا القتل الصّادر منّى من عمل الشّيطان ، وهذا لا ينافي ما عليه الشّيعة من عصمة الأنبياء فانّ الأنبياء (ع) معصومون من المعاصي لا من ترك الاولى ، وبعبارة اخرى انّهم معصومون من الذّنوب الّتى هي ذنوب بالنّسبة الى غيرهم لا من الذّنوب الّتى هي ذنوب بالنّسبة إليهم فانّ حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين ، وتوبة الأنبياء (ع) من الالتفات الى غير الله فلا غرو ان يكون موسى (ع) عدّ فعله يعنى تعجيله في قتل من استحقّ القتل من دون ملاحظة المفاسد الّتى تترتّب عليه ذنبا له واستغفر منه ونسب الظّلم الى نفسه مع انّه كان مستحقّا للقتل ، وبعد ما فرغ من استغفاره لترك الاولى نظر الى قوّته و (قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) من القوّة الّتى اقدر بها على القتل بوكز (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) كما صرت ظهيرا في هذه الكرّة (فَأَصْبَحَ) موسى (ع) في اليوم الثّانى (فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً) من فرعون وقومه لشياع خبر اجتماع السّبطىّ عليه وشياع قتله القبطىّ (يَتَرَقَّبُ) الاخبار من فرعون وقومه في حقّه (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) قاتلت بالأمس رجلا وتقاتل اليوم الآخر (فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ) قيل : لمّا قال موسى (ع) انّك لغوي مبين همّ ان يؤذيه وقال : لأوذينّك فلمّا أراد ان يبطش بالقبطىّ ظنّ السّبطىّ انّه أراد ان يبطشه فقال الاسرائيلىّ : أتريد ان تقتلني (الى آخره) وقيل : قال القبطىّ ذلك (إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) آخرها (يَسْعى) يسرع في السّير وذلك انّ خبر قتل القبطىّ وصل الى فرعون فتشاوروا فأمر فرعون بقتل موسى (ع) وبعث في طلبه وكان الرّجل ابن عمّ فرعون أو ابن عمّ موسى (ع) وهو مؤمن آل فرعون كان مؤمنا وكاتما لإيمانه ستّمائة سنة

١٨٦

وكان خازنا لفرعون وكان اسمه حزقيل ، وقيل : شمعون وقيل : سمعان (قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون في أخذك وقتلك (لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ) من ارض مصر (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) في ديني ودنياي ، ومدين لم يكن في سلطان فرعون وسمّى باسم مدين بن إبراهيم ، قيل : كان بينه وبين مدين مسيرة ثلاثة ايّام ، وقيل : مسيرة ثمانية ايّام ولم يكن موسى (ع) يعرف الطّريق ولذلك قال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) ولعلّه كان طالبا لشعيب (ع) وأراد مدين لملاقاة شعيب ، وقيل : انّه لم يقصد موضعا بعينه لكنّه وقع على طريق مدين ، وقيل : دلّه ملك على طريق مدين (وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وهو بئر كانت لهم (وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ) لمواشيهم من البئر (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) تمنعان غنمهما عن الماء (قالَ ما خَطْبُكُما) ما شأنكما تذودان اغنامكما عن الورد (قالَتا لا نَسْقِي) أغنامنا عند مزاحمة النّاس (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) قرئ من باب الأفعال ومن الثّلاثىّ المجرّد وننتظر فضول الماء فنسقى به ولا نقدر نحن على السّقى من البئر (وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) لا يقدر على ان يتولّى السّقى بنفسه (فَسَقى) اغنامهما (لَهُما) قيل : رفع حجرا كان على بئر كان لا يقدر على رفع ذلك الحجر عنها الّا عشرة رجال وسألهم ان يعطوه دلوا فناولوه دلوا وقالوا له : انزح ان أمكنك وكان لا ينزحها الّا عشرة فنزحها وحده وسقى لهما بدلو واحدة وكان لم يأكل منذ ثلاثة ايّام (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) وهو جائع (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ) هو الجوع الّذى به يطلب الإنسان الغذاء وبالغذاء يكون بقاؤه وتعيّشه ولولا الجوع لا يطلب الغذاء فلا يتيسّر له التّعيّش والعبادة ويكون مريضا محتاجا الى المعالجة (فَقِيرٌ) اى محتاج الى الغذاء ، قيل : سأل نبىّ الله (ع) فلق خبز يقيم به صلبه ، وعن علىّ (ع) : ما سأله الّا خبزا يأكله لانّه كان يأكل بقلة الأرض لقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزاله وتشذّب لحمه فأجابه الله حيث سأل شعيب (ع) عن بنتيه بعد عودهما سبب سرعة عودهما فقصّتا له القصّة فقال لإحداهما : ادعيه فذهبت اليه كما قال تعالى (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) بحيث لا يمكنه الكلام ولا المشي على ما ينبغي بين يدي الرّجال (قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) فلمّا قالت أجر ما سقيت لنا كره ذلك موسى (ع) وأراد ان لا يتبعها ولكن لم يجد بدّا من متابعتها لجوعه وخوفه فخرج معها وكانت الرّيح تضرب ثوبها فتبين لموسى (ع) عجزها ، فجعل يعرض عنها مرّة ويعضّ مرّة فناداها يا أمة الله كوني خلفي وأريني الطّريق بحصاة فانا من قوم لا ينظرون من ادبار النّساء فلمّا دخل على شعيب (ع) إذا هو بالعشاء مهيّأ ، فقال له شعيب : اجلس يا شابّ فتعشّ فقال له موسى (ع) : أعوذ بالله ، قال شعيب (ع) : ولم ذاك الست بجائع؟ ـ قال : بلى ولكن أخاف ان يكون هذا عوضا لما سقيت لهما وانا من أهل بيت لا نبيع شيئا من عمل الآخرة بملإ الأرض ذهبا فقال له شعيب (ع) : لا والله يا شابّ ولكنّها عادتي وعادة آبائي نقرى الضّيف ونطعم الطّعام ، فجعل يأكل ثمّ قصّ قصّته كما قال تعالى (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ) شعيب (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) لانّ أرضنا ليست في مملكته (قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) لرعى الغنم (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ) هذا (الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) أتى باسم الظّاهر مقام الضّمير للدّلالة على وصفيه اللّذين هما سبب استيجاره قال شعيب (ع) امّا قوّته فقد عرفته برفع الحجر الّذى لا يرفعه الّا عشرة وباستقاء الدّلو الّتى لا يستقيها الّا عشرة فمن اين عرفت أمانته؟ ـ قالت :

١٨٧

انّى كنت قدّامه فقال : كوني في خلفي ودلّينى على الطّريق بالحصاة فانا من قوم لا ينظرون في اعجاز النّساء ، فمن هذا عرفت أمانته ، فلمّا قالت ذلك زاده ذلك رغبة فيه و (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ) يعنى لا اجعل السّنتين جزء الصّداق بل اجعلهما تفضّلا منك ، قيل : لم يجعل ذلك مهرا بل انكحها على مهر وجعل ذلك شرطا ، وقيل : بل جعل ذلك مهرا ، وما في أخبارنا يدلّ على انّه جعل ذلك مهرا ، فعن الصّادق (ع) انّ عليّا قال : لا يحلّ النّكاح اليوم في الإسلام بإجارة بان يقول : اعمل عندك كذا وكذا سنة على ان تزوّجنى أختك أو ابنتك قال : هو حرام لانّه ثمن رقبتها وهي احقّ بمهرها ، وبهذا المعنى اخبار أخر كثيرة ، وورد في أخبارنا انّ المنكوحة كانت صغراهما وهي الّتى قالت انّ ابى يدعوك وقالت : يا أبت استاجره وانّ موسى (ع) قضى اوفى الأجلين (فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) في حديث قال موسى (ع) لشعيب (ع) بعد ما رعى له عشر سنين : لا بدّ لي ان ارجع الى وطني وأمّي وأهل بيتي فما لي عندك؟ ـ فقال شعيب (ع) : ما وضعت اغنامى في هذه السّنة من غنم بلق فهو لك فعمد موسى (ع) عند ما أراد ان يرسل الفحل على الغنم الى عصاه فقشر منها بعضها وترك بعضها وغزّزها في وسط مربض الغنم والقى عليها كساء أبلق ثمّ أرسل الفحل على الغنم فلم تضع الغنم في تلك السّنة الّا بلقا فلمّا حال عليه الحول حمل موسى (ع) امرأته وزوّده شعيب (ع) من عنده وساق غنمه فلمّا أراد الخروج قال لشعيب (ع) : أبغي عصا تكون معى وكانت عصىّ الأنبياء (ع) عنده قد ورثها مجموعة في بيت فقال له شعيب (ع) : ادخل هذا البيت وخذ عصا من بين العصىّ فدخل فوثبت اليه عصا نوح وإبراهيم (ع) وصارت في كفّه فأخرجها ونظر إليها شعيب (ع) فقال : ردّها وخذ غيرها ، فردّها ليأخذ غيرها فوثبت اليه تلك بعينها ، فردّها حتّى فعل ذلك ثلاث مرّات ، فلمّا رأى شعيب (ع) ذلك قال له : اذهب فقد خصّك الله عزوجل بها فساق غنمه فخرج يريد مصر فلمّا صار في مفازة ومعه اهله أصابهم برد شديد وريح وظلمة وجنّهم اللّيل ، فنظر موسى (ع) الى نار قد ظهرت كما قال الله تعالى فلمّا قضى موسى الأجل (الآية) (وَسارَ بِأَهْلِهِ) وجنّهم اللّيل وتفرّقت ماشيته وأصابهم برد شديد وريح وابتليت زوجته بالطّلق كما قيل (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً).

اعلم ، انّ الله إذا أراد بعبد خيرا ابتلاه اوّلا بشدائد سدّت جهات حيله وقطعت طرق رجاء خياله من غير الله حتّى اضطرّ الى التّوجّه الى الله وسأله بلسان حاله أو قاله فيجيبه تعالى على حسب استعداده واستحقاقه ، لانّه يجيب المضطرّ إذا دعا بحاله أو قاله ، كما أراد مقام الرّسالة لموسى (ع) فابتلاه بظلمة اللّيل والسّحاب وبالثّلج والبرد وتفرّق الماشية ووضع حمل الأهل وعدم ظهور النّار من زناده حتّى انقطع جهات حيل خياله وطرق رجائه فاضطرّ الى التّوجّه الى جهة غيبه ، فانّ موسى (ع) لمّا اضطرّ الى التّوجّه الى جهة غيبه ظهر له من جانب طور النّفس الّذى هو البقعة المباركة والجانب الأيمن من النّفس نور بصورة النّار الظّاهرة من الشّجرة وقد ظهرت تلك النّار وتلك الشّجرة في جبل كان يسمّى بالطّور أو سمّى بعد ذلك بالطّور ، وقد مضى الاختلاف في محلّ ذلك الجبل فلمّا آنس من جانب الطّور نارا توجّه اليه واطمئنّ من استيحاشه ولمّا اطمئنّ من استيحاشه (قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً) تسلية لها وتسكينا لفزعها ووحشتها (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) اى بخبر الطّريق أو خبر النّار وصاحبها أو خبر من نأنس به أو خبر المعمورة (أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ) في الجذوة ثلاث لغات ، بتثليث الجيم وقرئ بها وهي القطعة المشتعلة من النّار أو الجمرة أو الجذمة الّتى هي قطعة خشب متوقّدة بالنّار بعضها يكون نارا وبعضها خشبا غير مشتعل (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا أَتاها

١٨٨

نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) اى أيمن موسى (ع) أو أيمن النّفس أو هو وصف من اليمن بمعنى البركة (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) كثيرة الخير لانّها كانت من الشّام وبركة أراضي الشّام ظاهرة ، وكذا بركات طور النّفس عن الصّادق (ع) شاطئ الوادي الأيمن الّذى ذكره الله تعالى في القرآن هو الفرات ، والبقعة المباركة هي كربلاء (مِنَ الشَّجَرَةِ) قيل : كانت نابتة على الشّاطئ (أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) ذكر في الحديث : انّه اقبل نحو النّار يقتبس منها فاذا شجرة ونار تلتهب عليها ، فلمّا ذهب نحو النّار يقتبس منها أهوت اليه ففزع وعد أو رجعت النّار الى الشّجرة ، فالتفت إليها وقد رجعت الى الشّجرة ، فرجع الثّانية ليقتبس فأهوت نحوه فعدا وتركها ، ثمّ التفت وقد رجعت الى الشّجرة فرجع إليها الثّالثة فأهوت إليها فعدا ولم يعقّب اى لم يرجع فناداه الله عزوجل ان يا موسى (ع) انّى انا الله ربّ العالمين قال موسى : فما الدّليل على ذلك؟ ـ قال الله عزوجل : ما في يمينك يا موسى؟ ـ قال : هي عصاي ، قال : ألقها يا موسى فألقيها فاذا هي حيّة تسعى ، ففزع منها موسى وعدا ، فناداه الله عزوجل : خذها ولا تخف انّك من الآمنين ، وقد مضى وجه تكرار هذه القصّة أكثر من سائر القصص ، ووجه اختلاف الألفاظ المكرّرات لكون الحكايات ترجمات للمحكىّ ، والتّرجمة تؤدّى بألفاظ مختلفة أو لكثرة السّؤال والجواب والأقوال في المحكىّ وقد نقل في كلّما ذكر القصّة بعض من المحكىّ (وَأَنْ أَلْقِ) عطف على ان يا موسى (عَصاكَ) فألقيها فصارت حيّة حيّة متحرّكة (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) هي الحيّة الّتى تكون كحلاء العينين لا توذي (وَلَّى مُدْبِراً) ولم يكن خوفه (ع) من النّار وعدوه منها ولا خوفه من الحيّة نقصا ، بل الخوف منه في مثل تلك الحال الّتى انسلخ فيها من كلّ الكثرات ورجع الى مقام الوحدة يدلّ على كماله وقوّة نفسه في مقام بشريّته لعدم زوال كثراته وعدم فنائه عن أهل مملكته في مثل تلك الحال الّتى يفنى كلّ من حصلت له عن جميع كثراته وعن جميع أهل مملكته ولا يحفظ حقّ شيء من كثراته ، وحقّ البشريّة الخوف والفرار من النّار المحرقة ومن الحيّة الموذية وحفظ حقوق الكثرات في مثل تلك الحال من أتمّ الدّلائل على الكمال ، وهكذا الحال في طلب الدّليل بعد سماع انّى انا الله من الشّجرة (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يلتفت الى عقبه أو لم يرجع على عقبه بخلاف حال فراره من النّار (يا مُوسى) قيل أو نودي يا موسى (أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) من المخاوف (اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) يعنى من غير علّة البرص فادخلها في حبيبه وأخرجها منه فأضاءت له الدّنيا (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الرّهب حتّى يسكن خوفك فانّ وضع اليد والعضد على القلب يعين على سكونه عن اضطرابه (فَذانِكَ) قرئ بتخفيف النّون وتشديدها (بُرْهانانِ) اى احياء العصا وابيضاض اليد ناشئان (مِنْ رَبِّكَ) منتهيان (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) لمّا استفاد موسى (ع) انّ انتهاء البرهانين الى فرعون وملائه ليس الّا على يده (قالَ) في الجواب استعفاء أو طلبا للمظاهرة بهارون على ما مضى عند قوله فأرسل الى هارون من سورة الشّعراء انّ الظّاهر انّ موسى (ع) استعفى اوّلا وبعد ردعه من استعفائه طلب المظاهرة بأخيه (رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) الرّدء العون والمادّة والعدل الثّقيل ، وقرئ ردا بتخفيف الهمزة (يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) ولا ينطلق لساني في ردّهم وردعهم وان أتيت بحجّة في جوابهم بلسان غير طلق لا يقبلوا منّى لقتلى منهم نفسا وغيظهم علىّ (قالَ) اجابة لمسؤله (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) اجابة من مسئوله وتفضّل عليه بالزّيادة على مسئوله اعنى وعد

١٨٩

النّصر لهما وعدم وصول الضّرر منهم إليهما (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) بضرر (بِآياتِنا) الباء سببيّة والظّرف متعلّق بلا يصلون أو بالغالبون (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) فاطمأنّ موسى (ع) بوعده تعالى وذهب الى فرعون (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) الباء للتّعدية أو للمصاحبة والمراد بالآيات العصا واليد البيضاء وجمعهما لانّ في كلّ كان دلالات على صدقه في رسالته وتوحيد الله ، أو المراد هاتان مع الحجج الدّالّة على صدقه (قالُوا) جهلا وعنادا (ما هذا إِلَّا سِحْرٌ) قد مضى بيان السّحر وتحقيقه في سورة البقرة عند قوله (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ)(مُفْتَرىً) على الله (وَما سَمِعْنا بِهذا) الّذى ادّعاه من توحيد الإله (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ وَقالَ) وقرئ بغير واو (مُوسى) بعد ما أنكروه وأنكروا رسالته ولم يقبلوا معجزاته وحججه مستشهدا بالله وعلمه (رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) يعنى العاقبة المحمودة كانّ العاقبة الغير المحمودة ليست بعاقبة عرّض بنفسه كأنّه قال ربّى اعلم بانّى جئت بالهدى وانّ لي العاقبة المحمودة فلا أبالي بردّكم وانكاركم (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) حقّ العبارة ان يقول وبمن لا يجيء بالهدى ولا يكون له عاقبة الدّار لكنّه عدل اليه تعريضا بهم واثباتا لظلمهم ونفيا للهدى وحسن العاقبة عنهم بالبرهان كأنّه قال : انّه لا يفلح الظّالمون بالهدى وحسن العاقبة وأنتم ظالمون بإنكار الله الّذى هو خالق الخلق وعبادة غيره وانكار رسالتي (وَقالَ فِرْعَوْنُ) بعد ما عجز عن الحجّة وخاف عن المعارضة لأجل الحيّة مقبلا على قومه تخليطا عليهم وتسكينا لنفسه عن الخوف (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) هذا الكلام منه يدلّ على عجزه عن الحجّة وغاية خوفه من موسى (ع) وعصاه حيث لم يدّع الآلهة لنفسه صريحا ونفى علمه بالإله الّذى ادّعى موسى وأظهر شكّه الّذى هو الإقرار بالعجز عن الحجّة وهي كلمته الاولى الّتى اخذه الله تعالى عليه وكلمته الآخرة قوله : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) وكان بين الاولى والآخرة أربعون سنة كما نسب الى الخبر ولمّا ظهر عجزه عن الحجّة وخوفه من موسى (ع) أراد التّمويه على قومه بانّ الإله الّذى ادّعاه موسى (ع) ان كان حقّا كان مثلي في جهة ومكان وكان يمكن لي الوصول اليه فقال (فَأَوْقِدْ لِي) اى للبناء لي (يا هامانُ عَلَى الطِّينِ) لتحجير الطّين ، قيل : انّه كان اوّل من عمل الآجرّ (فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) قصرا عاليا الى عنان السّماء (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) ولو لم يكن مقصوده التّمويه ما تكلّم بمثل هذا الكلام فانّه كان حكيما عالما بانّه لا يمكن بناء قصر يمكن الوصول منه الى السّماء (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) في الحديث فبنى هامان له في الهواء صرحا حتّى بلغ مكانا في الهواء لا يتمكّن الإنسان ان يقوم عليه من الرّياح القائمة في الهواء فقال لفرعون : لا نقدر ان نزيد على هذا فبعث الله عزوجل رياحا فرمت به فاتّخذ فرعون وهامان عند ذلك التّابوت على التّفصيل الّذى ذكر في الاخبار (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) مطلقا أو بعد رجوعه من الهواء زائدا على استكباره سابقا ، والاستكبار بغير الحقّ ما لم يكن بكبرياء الله أو بأمر الله مثل التّكبّر مع المتكبّر (وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) بالبعث (فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) كما مرّ تفصيله وفيه تحقير لهم وتفخيم لشأن الآخذ لانّ الله تعالى جعلهم مع كثرتهم مثل شيء يؤخذ بالكفّ وينبذ وجعل أخذ الآخذ في السّعة والعظمة بالنّسبة الى كثرة جنوده مثل أخذ ما يؤخذ بكفّ (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) تعريض بالامّة وظالميهم (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) قدوة لجمع كثير والمعنى جعلنا جميعهم ائمّة متبوعين لاهالى ممالكهم أو جعلنا متبوعيهم ائمّة (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) عن الصّادق (ع) انّ الائمّة في كتاب الله إمامان قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) لا بأمر

١٩٠

النّاس يقدّمون امر الله قبل أمرهم وحكم الله قبل حكمهم قال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) يقدّمون أمرهم قبل امر الله وحكمهم قبل حكم الله ويأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب الله عزوجل، والمقصود من نقل هذا الخبر تنبيه نفسي وجملة الغافلين وتذكرة إخواني وجملة الطّالبين بانّ تقديم امر الله على امر النّاس يعنى على امر نفس العامل فانّه من جملة امر النّاس لا اختصاص له بأئمّة الهدى فقط ، بل كلّ فرد من افراد النّاس امام لأهل مملكته وكلّ فعل يصدر منه امّا المنظور فيه امر الله وحكمه قبل النّظر الى امر نفسه وحكمها أو المنظور فيه امر نفسه وحكم نفسه قبل النّظر الى امر الله وحكمه ، فان كان الاوّل كان إماما يهدى بأمر الله لأهل مملكته قبل أمر نفسه ، وان كان الثّانى كان إماما يدعو لأهل مملكته الى النّار ، مثلا إذا كان لك شريك في قصعة ثريد وكنت جائعا ولم يكن الثّريد كافيا لك ولشريكك أو كان في القصعة شيء لذيذ ولم يكن اللّذيذ كافيا لكما وكان أرادتك ان لا تأكل أزيد من شريكك بل تريد ان تأكل مساويا له أو اقلّ بان تؤثره على نفسك ولم يكن مقصودك المرائاة أو التّمدّح أو غير ذلك من أغراض النّفس كنت من القسم الاوّل ، وان لم تكن كذلك كنت من القسم الثّانى ، فأوصيكم إخواني ونفسي بعدم الغفلة عن ذكر الله عند فعالكم فانّكم ان تكونوا متذكّرين لله عند الفعال أمكن لكم تذكّر امر الله وتقديمه على امر أنفسكم والّا غلبتكم أنفسكم وقدّمت أمرها على امر الله ولذلك قيل : أعلى مراتب الذّكر تذكّر امر الله ونهيه عند كلّ فعل وترك (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) لانّ النّصر حينئذ محصور في الله وهؤلاء لا اتّصال لهم بالله بتوسّط خلفائه لانكارهم الله وخلفاءه (وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) اللّعنة الطّرد من الرّحمة أو قول : اللهمّ العنهم ، وقوله تعالى في هذه الحيوة الدّنيا ان كان حالا من المفعول كان المعنى اتبعناهم طردا من الرّحمة أو لعن اللّاعنين حالكونهم في هذه الحيوة الدّنيا وهذه أوفق بمقابلة ما يأتى وان كان متعلّقا باتبعناهم أو باللّعنة أو حالا من اللّعنة كان المعنى اتبعناهم لعنة من غير تعرّض بكونهم في الدّنيا أو في الآخرة (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) كناية عن عدم شمول رحمته تعالى لهم ونزول نقمته بهم يوم القيامة (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) النّبوّة والرّسالة وأحكامهما أو التّوراة (مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) مثل قوم نوح وهود وصالح وإبراهيم وشعيب (ع) أو المراد بالقرون قوم فرعون فانّهم كانوا امما عديدة اهلكوا بالغرق (بَصائِرَ) جمع البصيرة بمعنى الحجّة فانّها ما به يبصر القلب ، وبصائر حال أو بدل من الكتاب (لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) نسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء منذ انزل التّوراة على وجه الأرض غير أهل القرية الّتى مسخوا قردة الم تر انّ الله تعالى قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) (الآية) (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) اى بجانب الجبل الّذى هو الطّور أو الوادي الّذى فيه الطّور الغربىّ منك أو من موسى (ع) فانّ الجبل على قول انّه كان في الشّام كان غربيّا بالنّسبة الى مكّة والمدينة وبالنّسبة الى مصر ومدين ، أو المعنى وما كنت بجانب الطّرف الغربىّ من الطّور (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) انهينا اليه امر النّبوّة حين استنبئناه بعد الرّجوع الى مصر أو امر التّوراة وألواحها حين أعطيناه في الطّور أو امر نور الولاية حين اندكّ الجبل وخرّ موسى (ع) صعقا وأهلك قومه السّبعين فانّ الكلّ من الاخبار المغيبات الّتى لا تعلم الّا بطريق الوحي أو اخبار من شاهدها (وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) لها حتّى تعلمها بالشّهود (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا) اى لكنّا أوحيناها إليك فتعلمها كما هو وليس من شهودك ولا من السّماع ممّن يشهدها ولا من اخبار من يخبرها صحيحا لانّا انشأنا (قُرُوناً) امما كثيرة متتابعة (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) فلم يبق ممّن شهدها أحد ولم يبق ممّن اطّلع عليها من طريق الاخبار الصّحيحة أحد حتّى يخبرك بها ، ولم يبق الاخبار على صحّتها بل تغيّرت وانحرفت فلم يكن علمك بها صحيحا الّا من طريق الوحي فالمستدرك في الحقيقة هو وحي تلك الاخبار فحذف وادخل اداة الاستدراك على علّة إثبات

١٩١

الوحي (وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) قرية شعيب (ع) (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) الجملة صفة ثاويا أو مستأنفة وعلى الاستيناف فالضّمير المجرور لأهل مدين أو لأهل مكّة والمعنى انّك لم تكن في أهل مدين حتّى يكون اخبارك عنهم عن شهود وليس يخبرك أحد بأخبارهم الصّحيحة لتطاول الازمنة واندراس الاخبار وتحريفها فليس اخبارك عنهم الّا بالوحي الّذى ليس الّا للرّسول (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) لك فاخبارك يكون بوحي منّا والمستدرك هاهنا أيضا هو الوحي لكنّه ادخل اداة الاستدراك على الإرسال لانّه المقصود من الإيحاء اليه (وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) موسى (ع) بنداء انّى انا الله أو بالنّداء الّذى سمعه أصحابه السّبعون أو نادينا أمّتك وهم في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء كما يأتى (وَلكِنْ) أخبرك ربّك بذلك (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ) بذلك الخبر أو ليكون دليلا على رسالتك فتنذر بعد ثبوت رسالتك (قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لوقوعهم في زمان الفترة واندراس آثار الأنبياء (ع) السّالفة (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بمبدئهم ومعادهم وثوابهم وعقابهم عن النّبىّ (ع) لمّا بعث الله عزوجل موسى بن عمران واصطفاه نجيّا وفلق له البحر ونجّى بنى إسرائيل وأعطاه التّوراة والألواح رأى مكانه من ربّه عزوجل فقال : ربّ لقد أكرمتني بكرامة لم تكرم بها أحدا من قبلي فقال الله جلّ جلاله : يا موسى اما علمت انّ محمّدا (ص) أفضل عندي من جميع ملائكتى وجميع خلقي ، قال موسى (ع) : يا ربّ فان كان محمّد (ص) أكرم عندك من جميع خلقك فهل في آل الأنبياء أكرم من آلى؟ ـ قال الله جلّ جلاله : يا موسى (ع) اما علمت انّ فضل آل محمّد (ص) على جميع آل النّبيّين كفضل محمّد (ص) على جميع المرسلين ، فقال موسى (ع) : يا ربّ فان كان آل محمّد (ص) كذلك فهل في أمم الأنبياء أفضل عندك من أمّتي؟ ظلّلت عليهم الغمام ، وأنزلت عليهم المنّ والسّلوى ، وفلقت لهم البحر؟ فقال الله جلّ جلاله : يا موسى اما علمت انّ فضل أمّة محمّد (ص) على جميع الأمم كفضله على جميع خلقي قال موسى (ع) : يا ربّ ليتني كنت أراهم فأوحى الله عزوجل اليه : يا موسى لن تراهم وليس أوان ظهورهم ولكن سوف تراهم في الجنان جنّات عدن والفردوس بحضرة محمّد (ص) في نعيمها يتقلّبون وفي خيراتها تبجّحون ، أفتحبّ ان أسمعك كلامهم؟ ـ قال : نعم الهى ، قال الله جلّ جلاله : قم بين يدىّ واشدد مئزرك قيام العبد الذّليل بين يدي الملك الجليل ، ففعل ذلك موسى (ع) فنادى ربّنا عزوجل : يا أمّة محمّد (ص)؟ ـ فأجابوا كلّهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمّهاتهم : لبّيك لبّيك لا شريك لك لبّيك انّ الحمد والنّعمة والملك لك ، لا شريك لك ، قال : فجعل الله عزوجل تلك الاجابة شعار الحاجّ ، ثمّ نادى ربّنا عزوجل : يا أمّة محمّد (ص) انّ قضائي عليكم انّ رحمتي سبقت غضبى ، وعفوي قبل عقابي ، فقد استجبت لكم قبل ان تدعوني ، وأعطيتكم من قبل ان تسألونى ، من لقيني بشهادة ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له وانّ محمّدا (ص) عبده ورسوله صادق في أقواله محقّ في أفعاله ، وانّ علىّ بن ابى طالب (ع) اخوه ووصيّه من بعده ووليّه ويلتزم طاعته كما يلتزم طاعة محمّد (ص) وانّ أولياءه المصطفين الطّاهرين المطهّرين المثابين بعجائب آيات الله ودلائل حجج الله من بعدهما أولياؤه ادخله جنّتى وان كانت ذنوبه مثل زبد البحر ، قال : فلمّا بعث الله محمّدا (ص) قال : يا محمّد وما كنت بجانب الطّور إذ نادينا أمّتك بهذه الكرامة ثمّ قال عزوجل لمحمّد (ص) : قل : الحمد لله ربّ العالمين على ما اختصّنى به من هذه الفضيلة ، وقال لامّته : قولوا : الحمد لله ربّ العالمين على ما اختصّنا به من هذه الفضائل (وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ) اى لو لا كراهة ان تصيبهم مصيبة (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بجهالتهم (فَيَقُولُوا) بعد ذلك اعتراضا علينا واعتذارا عن جهالتهم (رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) فنعلم انّ لك آيات (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فلم تصبنا تلك المصيبة بجهالتنا ما أرسلناك إليهم لعدم استعدادهم واستحقاقهم لرسول مثلك (فَلَمَّا

١٩٢

جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) اى الرّسول أو رسالته أو كتابه أو معجزاته تأنّفوا عنه واستكبروا عن قبول رسالته و (قالُوا) ردّا لرسالته : (لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من المعجزات الظّاهرة من اليد والعصا وفلق البحر أو من الكتاب جملة (فَلَمَّا) قبلوا من موسى (ع) (وَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) يعنى ليس سؤالهم من محمّد (ص) مثل ما اوتى موسى (ع) عن صدق نيّة وطلب دليل بل كان ذلك منهم محض تعنّت واستكبار عن القبول فانّ أسلافهم لم يقبلوا من موسى (ع) وهؤلاء اسناخهم فلو أتى بمثل ما اوتى موسى (ع) لم يقبلوا ، أو المعنى الم يكفر هؤلاء الموجودون من كفّار قريش بما اوتى موسى (ع) (قالُوا) اى الاسلاف (سِحْرانِ) يعنى موسى وهارون (ع) ، وقرئ سحران على المبالغة ، أو قال الموجودون محمّد (ص) وموسى ساحران أو كتابهما سحران (تَظاهَرا) تعاونا أو تطابقا (وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) منهما أو بكلّ من الأنبياء (كافِرُونَ قُلْ) لهؤلاء الّذين هم اسناخ أسلافهم أو لهؤلاء الموجودين : من كفّار قريش (فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) من كتابي وكتاب موسى (أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في انّ موسى وهارون (ع) أو محمّدا (ص) وموسى (ع) ساحران أو كتابي وكتابه سحران (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ) هذا من قبيل ايّاك اعنى واسمعي يا جارة والّا فهو عالم بدون ذلك (أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) وليس لهم صدق نيّة في سؤالهم ولا برهان لهم في إنكارهم (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) يعنى لا اضلّ منه فانّ العبارة وان كان اعمّ من هذا المعنى لكنّه لا يستعمل الّا فيه فان كان لا اضلّ منه فلا محاجّة معه (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) الباء للسّببيّة أو للمصاحبة والظّرف بيان لاتّباع الهوى وانّه لا يكون الّا بغير هدى ، أو تقييد بمعنى انّ اتّباع الهوى قد يكون مسبّبا من الهدى وامر الله وامر خلفائه (ع) ومصاحبا له ، وقد يكون مسبّبا عن غير امر الله وامر خلفائه ومصاحبا لغير امر الله فانّ كلّ الأفعال الموافقة لمقتضيات النّفوس يكون صاحبوها بوجه متّبعين لأهوية أنفسهم فان كانوا في هذا الاتّباع ناظرين الى امر الله وامر خلفائه كانوا متّبعين لأهوية أنفسهم بهدى من الله والّا كانوا متّبعين لأهويتهم بغير هدى فالحذر الحذر إخواني من الغفلة عن الأمر الالهىّ عند فعالكم حتّى لا تكونوا مصاديق قوله تعالى : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) ، عن الكاظم (ع) في هذه الآية يعنى من اتّخذ دينه رأيه بغير امام من ائمّة الهدى ، وعن الصّادق (ع) مثله (إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) تعليل لكون المتّبع للهوى اضلّ النّاس ، أو لاتّباع الهوى بغير هدى من الله (وَلَقَدْ وَصَّلْنا) جملة حاليّة واستدراك لمّا توهّم من قوله انّ الله لا يهدى القوم الظّالمين انّه تعالى أهملهم ولم يأت لهم بأسباب الهداية يعنى انّا لا نهديهم لعدم قابليّتهم وقبولهم والّا فنحن لم نهملهم ووصّلنا (لَهُمُ الْقَوْلَ) في الأحكام والمواعظ والنّصائح والعبر والمواعيد بل وصّلنا لهم الأقوال الحقيقيّة الّذين هم خلفاؤنا في الأرض وقد فسّر في الاخبار بإمام بعد امام (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ما لهم وما عليهم فلا يتّبعون الهوى بغير هدى من الله (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل محمّد (ص) أو من قبل القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) لا شكّ انّ جميع أهل الكتاب ما آمنوا به ولا شكّ انّ أكثر من آمن به لم يكونوا بالأوصاف الآتية فالمراد بهم الكاملون من مؤمنيهم فانّهم الّذين آتاهم الله الكتاب حقيقة كأنّ غيرهم كان الكتاب فيهم عارية أو المراد بهم الكاملون من أمّة محمّد (ص) فانّهم آتاهم الله كتاب النّبوّة وأحكامها ومعرفة المعروف والمنكر من قبل قبول رسالة محمّد (ص) تكوينا ، أو المراد بهم الائمّة (ع) كما في الاخبار فانّهم الكاملون في ان آتاهم الله الكتاب تكوينا من اوّل صباوتهم (وَإِذا يُتْلى) الكتاب اى احكام النّبوّة أو إذا يتلى القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) لما نعرفه تكوينا من وجودنا

١٩٣

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) اى من قبل قبول رسالة محمّد (ص) أو من قبل القرآن ونزوله أو من قبل المتلوّ وتلاوته (مُسْلِمِينَ أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا) الصّبر حبس النّفس على ما لم تصبر عليه من البلاء والمعصية والطّاعة والمؤمن إذا آمن كان له أجر وإذا حبس نفسه على كتمه وعدم إذاعته في وقت يكون الاذاعة شينا عليه أو على صاحبه أو على اخوته ، أو يكون الاذاعة سببا للصّيت والمراياة كان له أجر أخر (وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) يعنى بحسنات أقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم وعقائدهم سيّئاتها أو بالحسنة بالنّسبة الى المسيء سيّئة المسيء أو بالتّقيّة سيّئة الكفّار بالنّسبة إليهم أو الى صاحبهم أو إخوانهم أو بالتّقيّة الاذاعة وبالمداراة التّبرّز بالمعارضة مع الخلق ، أو بالحلم جهل الجاهل أو بالحسنة من أفعالهم البلايا الّتى قدّر عليهم أو على غيرهم فانّهم في الخلق أمان لهم من البلايا ، وفي الاخبار اشارة الى كلّ ذلك (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) قد مرّ في اوّل البقرة تفصيل تامّ لهذه الكلمة (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) اللّغو كلّما لم يكن له غاية عقلانيّة دنيويّة أو اخرويّة والعاقل لا يركن الى ما لا غاية له عقلانيّة (وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) يعنى لا يتعرّضون لهم بالرّدّ والإنكار (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) سلام مودّع متتارك (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) وصحبتهم لانّهم كانوا اضدادا للجاهلين فهم بحالهم وقالهم يقولون : لا نبتغي مجالسة الجاهلين (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته أو من كان محبوبا لك فكيف بغيره والجملة جواب سؤال ناش من سابقة كأنّه (ص) قال : هل يكون هداية هؤلاء بسعيى وانا اهديهم؟ ـ أو قال (ص) : هل أبالغ في هداية أرحامي وأحبابي؟ ـ أو جواب لسؤاله (ص) وجهده في هداية أرحامه خصوصا على ما نقل من العامّة انّه نزل في ابى طالب (ع) ومبالغة محمّد (ص) في ايمانه وعدم قبوله (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) هدايته أو من كان محبوبا له (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) اى المستحقّين للهداية وأنت لا تعلمهم ، أو لست اعلم منه بهم أو هو اعلم بمن اتّصف بالهدى حقيقة وبمن قبل رسالتك عارية.

في إسلام ابى طالب (ع)

اعلم ، انّه نقل بطريق العامّة انّ الآية نزلت في ابى طالب (ع) وذكروا اخبارا عديدة في حقّه مشعرة بذمّه وعدم إسلامه وذكر بعض الخاصّة أيضا بعضا من أخبارهم الّتى لا يليق بشأنه فانّ جلالة شأنه (ع) اجلّ وامنع من ان يبلغها عقول الرّجال فكيف بأصحاب البحث والجدال وأرباب الظّن والخيال لانّه كما استفيد من الاخبار أنور نورا وافخم قدرا بعد الأنوار الاربعة عشر من جميع الأنبياء والأولياء (ع) وانّه كان مستودعا لودائع الوصاية من جميع الأنبياء والأولياء (ع) الّتى ينبغي ان تسلّم الى محمّد (ص) الّذى كان خاتم كلّ الأنبياء (ع) وحامل ودائعه ينبغي ان يكون سنخا له ، وفي مرتبة الشّرافة مناسبا له ، وانّه كان مربّيا لمحمّد (ص) من اوّل صباه بل كان مرضعا له من ثدي نفسه مدّة وانّه أخبر كثيرا قبل ولادته وبعدها بولادته ونبوّته وشرافته وانّه كان من أوصياء عيسى (ع) وانّ كلّ الأوصياء ينبغي ان يكونوا راجعين اليه وآخذين منه. روى في الكتب المعتبرة عن الكاظم (ع) انّه سئل : أكان رسول الله (ص) محجوجا بابى طالب (ع)؟ ـ فقال : لا ، ولكنّه كان مستودعا للوصايا فدفعها اليه ، قيل : فدفع اليه الوصايا على انّه محجوج به؟ ـ فقال : لو كان محجوجا به ما دفع اليه الوصيّة ، قيل : فما كان حال ابى طالب (ع)؟ ـ قال : اقرّ بالنّبىّ (ص) وبما جاء به ودفع اليه الوصايا ومات من يومه ، ولو لم يكن في حقّه (ع) سوى هذا الخبر لكفى في الدّلالة على جلالة شأنه وفخامة قدره لدلالته على انّه كان مستودعا للوصايا الّتى ينبغي ان تدفع الى محمّد (ص) ، وانّه كان ادّاها اليه ومات من يومه ، وروى انّ أمير المؤمنين (ع) كان ذات يوم جالسا بالرّحبة والنّاس مجتمعون اليه فقام اليه رجل فقال : يا أمير المؤمنين (ع) انّك بالمكان الّذى أنزلك الله به وأبوك يعذّب بالنّار ..! فقال له : مه ، فضّ الله فاك والّذى بعث محمّدا (ص) بالحقّ نبيّا لو شفع ابى في كلّ مذنب على وجه الأرض لشفّعه الله تعالى فيهم ، لأبي يعذّب بالنّار وابنه

١٩٤

قسيم النّار؟ ـ ثمّ قال : والّذى بعث محمّدا (ص) بالحقّ انّ نور ابى طالب (ع) يوم القيامة ليطفئ أنوار الخلق الّا خمسة أنوار ، نور محمّد (ص) ونوري ونور فاطمة (ع) ونور الحسن ونور الحسين (ع) ومن ولّده من الائمّة (ع) لانّ نوره من نورنا الّذى خلقه الله عزوجل من قبل خلق آدم (ع) بألفى عام (وَقالُوا) عطف على قوله : (قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ) يعنى قال قريش أو عشيرتك أو ابو طالب (ع) على قول العامّة (إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ) اى رسالتك (نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا) روى عن أمير المؤمنين (ع) انّها نزلت في قريش حين دعاهم رسول الله (ص) الى الإسلام والى الهجرة ، وعن النّبىّ (ص) انّه قال : والّذى نفسي بيده لادعونّ الى هذا الأمر الأبيض والأسود ومن على رؤوس الجبال ومن في لجج البحار ، ولادعونّ اليه فارس والرّوم فجبرت قريش واستكبرت وقالت لأبي طالب : اما تسمع الى ابن أخيك ما يقول والله لو سمعت بهذا فارس والرّوم لا اختطفتنا من أرضنا ولقلعت الكعبة حجرا حجرا ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) اى الم نرزقهم في حال كفرهم من كلّ ما يرزق مع انّ مكانهم واد غير ذي زرع ولم نجعل لهم (حَرَماً آمِناً) ذا امن أو آمنا ساكنوه مكانا ومحلّا لسكناهم فكيف يكون حالهم إذا كانوا موحّدين مستحقّين لكرامتنا (يُجْبى) اى يجمع (إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) لم يقل كلّ نبات لقصد تعميم الثّمرات لكلّ خير ومال فانّه لا اختصاص لجمع الأشياء اليه بالفواكه بل يجبى اليه كلّ ما يحصل من النّباتات والأشجار والانعام والصّنائع وأنفس الانعام بل يجبى اليه ثمرات القلوب وخيرات الآخرة ولذلك قال تعالى (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) يعنى انّ الثّمرات الدّنيويّة وان كانت رزقا من الأرض لكن ثمرات الآخرة والقلوب من أرزاقنا اللّدنيّة ، وكذلك بركات ثمرات الأرض وما كان منها رزقا للأرواح (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) انّ ذلك لهم من فضلنا وحكمتنا وقدرتنا وينسبون ذلك الى أنفسهم أو أكثرهم لا علم لهم (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) عطف على قوله أو لم نمكّن وجمع بين الوعد والوعيد والتّرغيب والتّرهيب (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) بطر أهلها لسعة معيشتها (فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) من سوء أفعالهم فاتّقوا يا أهل مكّة مثل أفعالهم (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) لمساكنهم وأموالهم وأجسادهم وأرواحهم (وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى) اى ما كان في سجّيّته ان يهلك القرى من دون تنبيه لهم وتذكير فلا يهلكها (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) قريتها العظيمة الّتى كان رجوع الكلّ إليها (رَسُولاً) وهذا على الأغلب والّا فقد بعث الله بعض الرّسل (ع) من الرّساتيق وكانوا لا يخرجون منها ويكون رجوع القرى العظيمة إليها ، أو على الاشارة الى التّأويل فانّ الرّسل (ع) أينما كانوا وأينما بعثوا كانوا أصل القرى الانسانيّة ومرجعها ومعظمها وكان الرّسول الّذى هو اللّطيفة الانسانيّة الّتى اتّصفت بصفات الرّوحانيّين يبعث اوّلا في تلك القرية العظيمة الّتى هي مملكة وجود الرّسول (ع) ثمّ يبعث منها الى سائر القرى الانسانيّة (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) التّدوينيّة والآفاقيّة وأحكامنا الّتى هي لوازم الرّسالة (وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) بتكذيب الرّسل (ع) وسائر أنواع الظّلم والكفر وأصل الكلّ انكار الرّسل (ع) (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) هذا جمع بين التّزهيد والتّشويق كما انّ الاوّل كان جمعا بين الإنذار والتّبشير (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ) ممّا أوتيتم يعنى ان كان ما أوتيتم خيرا باعتقادكم فما عند الله خير منه ، أو لفظ الخير مجرّد عن معنى التّفضيل والّا فلا نسبة بين ما عند الله وما عندكم (وَأَبْقى) ممّا عندكم على اعتقادكم (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك أولا يكون لكم عقل فتتركون ما عند الله وتأخذون ما عندكم (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) تأكيد للتّزهيد والتّشويق (فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الّذى لا بقاء له ويكون لذّته مشوبا بالألم وراحته بالتّعب وغناه

١٩٥

بالحاجة ويكون عاقبته الحسرة والنّدامة (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب أو العقاب (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطف على يوم القيامة أو بتقدير اذكر أو ذكّر أو متعلّق بقوله قال الّذين حق عليهم القول (فَيَقُول) للمشركين (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) انّهم شركائى من الأصنام والكواكب والاهوية والوسائل وشركاء الولاية في كلّ عصر وزمان (قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) من مدّعى الرّبوبيّة ومن مدّعى الولاية والرّسالة وممّن جعلهم المشركون شركاء الله أو شركاء الولاية لكنّ المنظور شركاء الولاية (رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) اشارة الى المشركين والاتباع (أَغْوَيْناهُمْ) بصرفهم عنك أو عن ولىّ أمرهم (كَما غَوَيْنا) بأنفسنا (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم فانّهم كانوا أعداء لنا وكنّا نظنّهم احبابا (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) بل كان معبودهم ومطاعهم اهويتهم (وَقِيلَ) للاتباع (ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) في الولاية والطّاعة أو في الرّبوبيّة (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم عن الجواب أو اشتغالهم بأنفسهم (وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) استيناف بصورة التّمنّى وإظهار انّه ينبغي ان يتحسّر عليهم ، أو حال بتقدير القول اى مقولا فيهم لو انّهم كانوا يهتدون الى الولاية لما كانوا في العذاب (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) عطف على سابقه (فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) في دعائهم ايّاكم الى الله والى قبول رسالتهم والمراد بالمرسلين اعمّ من الرّسل وخلفائهم (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) من المعامى والاعماء الأراضي الّتى لا اثر لها ولا علامة في الأذهان ولا عمارة فيها ، شبّه الاخبار بالأراضي وانمحائها عن قلوبهم بعدم العلامة وعدم العمارة فيها ، أو هو مقلوب عموا عن الاخبار للاشعار الى انقلاب أحوالهم كأنّهم لا يميّزون بين ان يقال عموا عن الاخبار أو عميت عليهم ، ولإيهام انّ عماهم لشدّته سرى الى الاخبار (يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لانّ التّساؤل لا يكون الّا بعد بروز آثار الاخبار في الأذهان (فَأَمَّا مَنْ تابَ) عن شركه بالرّبوبيّة أو عن شركه بالولاية وتاب على يد ولىّ امره (وَآمَنَ) بقبول ولايته في ضمن بيعته فانّ الفلاح محصور على من قبل ولاية علىّ (ع) بالتّوبة على يده أو يد خلفائه والبيعة معه (وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) الإتيان بأداة التّرجّى على عادة الكبار وقد مضى مكرّرا انّ التّرجّى من الله واجب ، أو المعنى عسى من تاب ان يكون من المفلحين فانّ التّائب ليس من قبله الّا رجاء الفلاح (وَرَبُّكَ) لا غيره فانّ التّقديم للحصر (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) لانّ غيره عاجز عن حفظ نفسه بعد ما خلقه الله فكيف يخلق غيره وحفظه (وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) اى الاختيار أو المختار فانّ الخيرة اسم مصدر تستعمل في المختار أيضا لانّ غيره جاهل بما هو خير له لا يتميّز خيره عن شرّه عنده ولا يعلم مآل حاله ومختاره فلا يمكنه اختيار ما هو خير له والآيات تعريض بالامّة واشراكهم بعلىّ في الولاية واختيارهم بآرائهم إماما لأنفسهم وان كان نزوله في غيرهم ، واعراب قوله وربّك يخلق (الآية) انّ الواو حاليّة والجملة حال من الجمل السّابقة ويختار امّا عطف على يشاء وحينئذ يكون لفظة ما نافية أو موصولة بدلا من ما يشاء ، أو عطف على يخلق وما نافية أو موصولة (سُبْحانَ اللهِ) إنشاء تسبيح أو اخبار تنزيه أو كلمة تعجّب وتعجيب وعلى اىّ تقدير فالمقصود انّ الله في مظهره الّذى هو علىّ (ع) منزّه (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) في الولاية والخلافة وما في عمّا يشركون مصدريّة أو موصولة وفي الاخبار إشارات الى هذا التّعريض والتّأويل من أراد الاطّلاع فليرجع الى المفصّلات من كتب التّفاسير والاخبار (وَرَبُّكَ) لا غيره (يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما

١٩٦

يُعْلِنُونَ) قد تكرّر فيما مضى انّ مكنونات الصّدور تصدق على الإرادات والعزمات والخيالات والخطرات ولكن المكنونات حقيقة هي القوى المكمونة في النّفوس الّتى لم يطّلع عليها صاحبوها ولم يعلم بها الّا الله والّا من كان من الله ، وامّا ما كان من قبيل الخطرات والخيالات فهو معلن لصاحبه وللملائكة الموكّلة به وهذه الجملة عطف في معنى التّعليل فانّ اختيار الخيرة لا يتأتّى الّا ممّن يعلم القوى المكمونة الّتى لا ظهور لها لا لصاحبها ولا لغيره (وَهُوَ اللهُ) عطف وكالنّتيجة لسابقه فانّ الّذى كان محصورا فيه خلق ما يشاء واختيار الخيرة لكلّ مخلوق وعلم الجليّات والخفيّات كان محصورا فيه الآلهة ، واستحقاق العبادة وجميع إضافات المبدئيّة وجميع الصّفات المحمودة لكلّ محمود في الدّنيا والآخرة لكونه مبدء لها وكون فاعل الشّيء اولى به من قابله فكأنّه قال فهو الله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى) في الدّار الاولى والدّار الآخرة أو في النّظرة الاولى الّتى لا نظر فيها الّا الى المخلوق لانّ الخالق هو الّذى يكون ظاهرا في المخلوق بصورته فما ينسب الى المخلوق في النّظرة الاولى فهو منسوب الى الخالق وفي النّظرة الآخرة الّتى يفنى فيها كلّ تعيّن ومهيّة ويبقى فيها الخالق بخالقيّته (وَلَهُ الْحُكْمُ) فيهما (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بعد العود أو في نظر البصير لانّ الكلّ في نظره يرجع بوجوده وأفعاله وأوصافه الى الله بمعنى انّ البصير يرى وجود الكلّ وجودا لله ظاهرا بصورته وكذا أفعاله وأوصافه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ) قد مضى في سورة الانعام بيان لهذه الكلمة عند قوله تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللهِ)(إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما طويلا (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) لمّا كان المقصود من النّهار الضّياء الّذى به يبصرون ويتعيّشون أتى موضع النّهار بالضّياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) ولمّا كان الضّياء بنفسه مطلوبا ونافعا ويكون طلب المكاسب والمعايش بسبب الانتفاع به لم يأت بوصف للضّياء مثل قرينه (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ) لمّا كان العنوان في القرين الاوّل اللّيل وكان المناسب لعنوان اللّيل السّماع دون الأبصار أتى هناك بقوله أفلا تسمعون توبيخا أو تقريرا لسماعهم بخلاف القرين الثّانى فانّ العنوان فيه النّهار والمناسب له الأبصار وأيضا لمّا كان السّماع اشارة الى مقام التّقليد والأبصار الى مقام التّحقيق كما قال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) اى بصيرة قلبيّة بها يبصر الأشياء كما هي ، أو ألقى السّمع يعنى في مقام التّقليد والمتابعة كان المناسب للّيل السّماع المشار به الى مقام التّقليد وللنّهار الّذى هو محلّ الأبصار وسبب الشّهود الّذى هو التّحقيق الأبصار الّذى هو سبب التّحقيق (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) عطف على أرأيتم ونتيجة لسابقه (لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) لفّ ونشر مرتّب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) اى لعلّكم تتنبّهون نعمه العديدة المندرجة في اختلاف اللّيل والنّهار وانّ في اختلافهما حيوة كلّ ذي حيوة وبقاءه ونماء كلّ ذي نماء وكماله ، وانّه لو لا اختلافهما لما وجد من المواليد شيء فتشكروا تلك النّعم المندرجة في اختلافهما ، وتشكروا نفس تلك النّعمة الّتى هي اللّيل والنّهار (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) لمّا كان المقصود من هذه الآية التّعريض بالامّة واشراكهم بالولاية وكان أصل الدّين والتّوحيد توحيد الولاية وأصل الإلحاد والكفر والإشراك الكفر والإشراك بالولاية كرّرها بألفاظها وبغير ألفاظها (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) ولمّا كان المقصود التّعريض بالامّة فسّروا هذه الآية بفرق أمّة محمّد (ص) وبإمامهم الّذى هو من آل محمّد (ص) وهو شهيد عليهم (فَقُلْنا هاتُوا) ايّها الأمم المشركة بولاية إمامكم والكافرة بها (بُرْهانَكُمْ) على اشراككم (فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في مظاهره الّذين هم شهداؤه عليهم (وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من ائمّتهم الباطلة والإتيان بالافعال المذكورة

١٩٧

ماضيات للاشارة الى تحقّق وقوعها (إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) استيناف جواب لسؤال ناش من سابقه من حيث تعريضه كأنّه قيل : الا ينفعهم ايمانهم بمحمّد (ص) بعد إنكارهم لعلىّ (ع)؟ ـ فقال تعالى : بغيهم على علىّ (ع) ذهب بايمانهم وبما عملوا في ايمانهم لانّ قارون كان من قوم موسى (ع) (فَبَغى عَلَيْهِمْ) ولم ينفعه كونه من قوم موسى (ع) وخسف به الأرض ببغيه (وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ) جمع المفتح بالكسر بمعنى المفتاح أو جمع المفتح كمخزن بمعنى الخزانة والكنز (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ) ناء بالحمل نهض به مثقلا وناء به الحمل أثقله والعصبة بالضّمّ من الرّجال والخيل والطّير ما بين العشرة الى الأربعين ، وقيل : ما بين العشرة الى خمسة عشر ، وقيل : أربعون رجلا ، وقيل : ما بين ثلاثة الى العشرة ، وقيل : الجماعة المطلقة عن تعيين العدد (أُولِي الْقُوَّةِ) وهذا أيضا تعريض بالامّة ومترفيها ومن يفرح بما آتاه الله ويتأنّف عن خلفائه (ع) يظنّ انّ النّعمة له باستحقاقه من دون ظنّ الاستدراج بها (إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) متعلّق بقوله بغى عليهم أو بآتيناه (لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ) بإنفاقها على مستحقّيها وفي سائر مصارف البرّ (وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ) الاخروىّ (مِنَ الدُّنْيا) اى ممّا آتاك الله في الدّنيا أو من امتعة الدّنيا من الأموال والقوى والمدارك والصّحّة والفراغ والشّباب وغير ذلك بان تأخذ من جميع ذلك ما ينبغي ان يؤخذ للآخرة أو المعنى لا تنس نصيبك الّذى أنت محتاج اليه في دنياك بان تنفق كلّ ما آتاك الله من الدّنيا فيكون على المعنى الاوّل تأكيدا لقوله : (وَابْتَغِ) (الآية) وعلى الثّانى يكون تأسيسا وامرا بالتّوسّط بين التّبذير والتّقتير (وَأَحْسِنْ) الى العباد أو في أعمالك أو أحسن النّعمة بالشّكر لها وصرفها فيما خلقت لها أو صر حسنا (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) بتوفير نعمه (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) عن الصّادق (ع) : فساد الظّاهر من فساد الباطن ، ومن أصلح سريرته أصلح الله علانيته ، ومن خان الله في السّرّ هتك الله ستره في العلانية ، وأعظم الفساد ان يرضى العبد بالغفلة عن الله تعالى ، وهذا الفساد يتولّد من طول الأمل والحرص والكبر كما أخبر الله تعالى في قصّة قارون في قوله : (وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) وكانت هذه الخصال من صنع قارون واعتقاده ، وأصلها من حبّ الدّنيا وجمعها ومتابعة النّفس وهواها ، واقامة شهواتها وحبّ المحمدة وموافقة الشّيطان واتّباع خطواته ، وكلّ ذلك مجتمع تحت الغفلة عن الله ونسيان منّته ، والمقصود من نقل هذا الخبر تنبيه نفسي وجميع إخواني ، فانّا قلّما ننفكّ عن الغفلة الّتى هي أصل كلّ فساد ومنبع كلّ شرّ ، وفّقنا الله وجميع المؤمنين لذكره وعدم الغفلة عنه (قالَ) استنكافا عن قبول قولهم وإعجابا بنفسه (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) يعنى أورده الله على علم وكمال عندي فلم لا افرح به وأبذله على من لم يكن له هذا الكمال؟! أو المعنى أوتيته حالكوني مشتملا على عندي خاصّ بى وهو العلم بوجوه المكاسب وتحصيل الأرباح ، أو حالكوني مشتملا على علم خاصّ بى هو علم الكيميا كما قيل ، وقيل : انّ موسى (ع) علّم قارون شيئا من الكيميا وعلم ابنه شيئا وعلّم يوشع (ع) شيئا فخدعهما قارون وتعلّم منهما ما علّمهما موسى (ع) من ذلك (أَوَلَمْ يَعْلَمْ) تعريض بالامّة وبطرهم واعتمادهم على الحيوة الدّنيا ومتاعها يعنى الم يعلم انّ حيوته ووجوده ليس باختياره فكيف باعراضه الدّنيويّة الّتى لا نسبة بينه وبينها الّا محض الاعتبار الّذى اعتبره العرف أو الشّرع ، والم يعلم (أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) للمال والأولاد والقوى والخدم والحشم (وَ) لكن (لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) يعنى انّ الله إذا أراد ان يذنب العبد بسبب سوء استحقاقه أعماه عمّا يبصر قبح ذنبه وسوء عاقبته فأوقعه في الذّنب فلا يسأل عن سبب ذنبه لانّ الله أوقعه عليه بسبب سوء استعداده الّذى لا يعلم هو به ، أو المعنى لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم حتّى

١٩٨

يعتذروا عنها ويجيبوا مثل قوله تعالى : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) أو المعنى لا يسأل المجرمون الماضون عن ذنوب هؤلاء الحاضرين كما قيل ، ولمّا كان الاعراض الدّنيويّة لأرباب النّفوس واهويتها مورثة للاستكبار والاعجاب بالنّفس وتحقير العباد صار قارون المبتلا باهوية النّفس معجبا بنفسه متكبّرا على غيره (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) قيل : انّه خرج على بغلة شهباء عليه الأرجوان وعليها سرج من ذهب ومعه اربعة آلاف على زيّه (قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) كما هو عادة أهل الدّنيا في كلّ زمان (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) كان ما هو فيه في نظرهم من أعظم النّعم لغفلتهم عن انّه مستعقب للزّوال والعقاب وحرمان ما اعدّه الله لعباده في الآخرة (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بالدّنيا واعراضها وآفاتها والآخرة وعقابها وثوابها ودرجاتها (وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ) في الدّنيا بحصول الالتذاذ بمناجاته والفراغ من الاشتغال بمتاعب الدّنيا وحرصها وآمالها وفي الآخرة بما اعدّه لعباده (خَيْرٌ) ممّا ترونه على قارون من زينة الدّنيا فانّه معرض للزّوال وصاحبه محلّ للآفات والبلايا والمكاره والغموم (لِمَنْ آمَنَ) بالتّوبة والبيعة على أيدي خلفائه (ع) ايمانا عامّا أو ايمانا خاصّا بالبيعة الخاصّة الولويّة (وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها) اى هذه الموعظة أو هذه الكلمة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) عن الدّنيا وآمالها فانّ المبتلى بالدّنيا وآمالها يكون اصمّ من النّصائح والمواعظ الاخرويّة (فَخَسَفْنا) بشوم عمله وسوء إعجابه بنفسه (بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ) روى انّ موسى (ع) بأهله بأخيه هارون (ع) وبنيه فخسف به وبأهله وماله ومن وازره من قومه ، وقيل : دعا قارون امرأة من بنى إسرائيل بغيّا فقال لها : انّى أعطيك ألفين على ان تجيء غدا إذا اجتمعت بنو إسرائيل عندي فتقول : قد راودنى موسى (ع) فأعطاها خريطتين عليهما خاتمه فلمّا جاءت بيتها ندمت وقالت : ما بقي لي الّا ان افترى على نبىّ الله (ع)؟! فلمّا أصبحت أقبلت ومعها الخريطتان حتّى قامت بين بنى إسرائيل وقالت : ما قالها قارون وقالت : معاذ الله ان افترى على نبىّ الله (ع) وهذه دراهمه عليه خاتمه ، فغضب موسى (ع) فدعا الله عليه فخسف به وبداره الأرض ، وقيل : كان قارون ممّن يحبّه موسى (ع) ، وكان يقرء التّوراة مع القوم في التّيه ، وكان أحسن صوتا منهم ، فلمّا طال التّيه على القوم ودخلوا في التّوبة والبكاء امتنع قارون من الدّخول معهم في التّوبة فدخل عليه موسى (ع) فقال له : يا قارون قومك في التّوبة وأنت قاعد هاهنا؟! ادخل معهم والّا ينزل بك العذاب فاستهان به فخرج موسى (ع) من عنده مغتمّا ، فجلس في فناء قصره فأمر قارون ان يصبّ عليه رماد قد خلط بالماء فصبّ عليه فغضب موسى (ع) غضبا شديدا وكان في كتفه شعرات كان إذا غضب خرجت من ثيابه وقطر منها الدّم فقال موسى (ع) : يا ربّ ان لم تغضب لي فلست لك بنبىّ فأوحى الله عزوجل اليه : قد أمرت الأرض ان تطيعك فمرها بما شئت ، وقد كان قارون قد امر ان يغلق باب القصر فأقبل موسى (ع) فأومى الى الأبواب فانفرجت ودخل عليه فلمّا نظر اليه قارون علم انّه قد اوتى بالعذاب فقال : يا موسى اسألك بالرّحم الّذى بيني وبينك فقال له موسى (ع) : يا ابن لاوى لا تزدنى من كلامك ، يا ارض خذيه فدخل القصر بما فيه في الأرض ودخل قارون في الأرض الى ركبتيه ، فبكى وحلّفه بالرّحم ، فقال له موسى : يا ابن لاوى لا تزدنى من كلامك ، يا ارض خذيه فابتلعيه بقصره وخزائنه ، وهذا ما قال موسى (ع) لقارون يوم أهلكه عزوجل فعيّره الله عزوجل بما قاله لقارون فعلم موسى (ع) انّ الله تبارك وتعالى قد عيّره بذلك فقال : يا ربّ انّ قارون دعاني بغيرك ولو دعاني بك لأجبته فقال الله عزوجل : يا ابن لاوى لا تزدنى من كلامك ، فقال موسى (ع) : يا ربّ لو علمت انّ ذلك لك رضا لأجبته فقال الله : يا موسى وعزّتى وجلالي وجودى ومجدي وعلوّ مكاني لو انّ قارون كما دعاك دعاني لأجبته ولكنّه لمّا دعاك وكلته إليك ، وعن الباقر (ع) انّ يونس (ع) لمّا آذاه قومه الى ان قال : فألقى نفسه في اليم فالتقمه الحوت فطاف به البحار السّبعة حتّى صار الى

١٩٩

البحر المسجور وبه يعذّب قارون فسمع قارون دوّيا (١) فسأل الملك عن ذلك فأخبره انّه يونس انّ الله حبسه في بطن الحوت فقال له قارون : أتأذن لي ان اكلّمه؟ ـ فأذن له فسأله عن موسى (ع) : فأخبره انّه مات فبكى ثمّ سأله عن هارون (ع) فأخبره انّه قد مات فبكى وجزع جزعا شديدا ، وسأله عن أخته كلثم وكانت مسمّاة له فأخبره انّها ماتت فبكى وجزع جزعا شديدا ، قال فأوحى الله الى الملك الموكّل به ان : ارفع عنه العذاب بقيّة ايّام الدّنيا لرقّته على قرابته (فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) بنفسه فاحذروا يا أمّة محمّد (ص) من البغي على من نصبه الله إماما للعباد واحذروا من الاستكبار والاختيال بما آتاكم الله من الأموال والجاه واحذروا من الاختيال بالزّينة والثّياب الفاخرة ، وفي خبر : ونهى ان يختال الرّجل في مشيته ، ومن لبس ثوبا فاختال فيه خسف الله به من شفير جهنّم وكان قرين قارون لانّه اوّل من اختال فخسف الله به وبداره الأرض (وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ) بعد خسفه (وَيْكَأَنَّ اللهَ) وى كلمة تعجّب مثل ويك ويستعمل أيضا بمعنى الويل وتدخل على كان مخفّفة ومشدّدة فههنا يحتمل ان يكون ويكأنّ مركّبة من وى وكأنّ وان يكون مركّبة من ويك وانّ بمعنى التّعجّب وان يكون من وى وكاف الخطاب وانّ ، وان يكون من ويك مخفّف ويلك وانّ ، وإذا كان انّ منفصلا فليقدّر مثل اعلم قبلها حتّى يكون عاملها (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) وليس بسط الرّزق وتقديره بمشيّة العباد كما قال قارون ولا لهوان أو كرامة من الله (لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بعدم اعطائنا مثل ما اعطى قارون كما كنّا نتمنّاه (لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) مثل قارون (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) جواب لسؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : فمن ينجو من العذاب ومن يدخل الجنّات؟ ـ فقال : تلك الدّار الآخرة (نَجْعَلُها) مقرّا (لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) لانّ المستعلى في الأرض منازع لي ، والمنازع لي لا يدخل داري (وَلا فَساداً) لانّ المفسد موذ لعبادي وخلقي (وَالْعاقِبَةُ) الحسنى (لِلْمُتَّقِينَ) من ذلك أو لمن كان شيمته التّقوى عن جميع ما ينبغي ان يتّقى منه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) جواب سؤال آخر كأنّه قيل : فما حال من جاء بالحسنة ولم يكن من المتّقين؟ ومن جاء بالسّيّئة ولم يكن من المريدين للعلوّ والفساد؟ (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) اى نفس ما كانوا يعملون على تجسّم الأعمال أو جزاء ما كانوا يعملون (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) اى عيّن عليك أو فرض أو سنّ عليك العمل بما فيه من اعماله وأخلاقه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) اى الى مكّة فانّ المعاد هو المحلّ الّذى كنت فيه ثمّ خرجت منه وأردت العود اليه.

اعلم ، انّ القرآن اسم لمقام الجمع ولمّا كان كتاب محمّد (ص) مصدره مقام الجمع الّذى هو مقام المشيّة الّتى هو مقام الجمع المطلق والبرزخ بين الوجوب والإمكان ومجمع بحري الوجوب والإمكان سمّاه الله تعالى بالقرآن ، وفرض القرآن على محمّد (ص) عبارة عن إيصاله الى ذلك المقام الّذى لم يصل اليه أحد من الأنبياء (ع) ، ولمّا كان محمّد (ص) مبدء نزوله هذا المقام يصدق على هذا المقام انّه معاد محمّد (ص) ، ولمّا كان محمّد (ص) محيطا بالكلّ وله مقام في الدّنيا ومقام في نفوس العباد فاذا خرج من الدّنيا صحّ ان يقال إذا عاد إليها : انّها معاده ، وكذا نفوس العباد فصحّ التّفسير بانّ الّذى فرض عليك العمل بالقرآن لرادّك الى مكّة ، وصحّ التّفسير بانّ الّذى عيّن واثبت عليك مقام الجمع لرادّك الى ذلك المقام أو الى الدّنيا أو الى نفوس العباد حين احتضارهم أو حين حسابهم كما أشير إليها في الاخبار والأقوال ، وعن السّجّاد (ع) انّه قال : يرجع إليكم نبيّكم (ص) وأمير المؤمنين (ع) (قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى) ما يهدى

__________________

(١) ـ دوّى الرّعد ـ الصّوت.

٢٠٠