تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

الحقّ الّذى نستحقّ به الثّواب لا العقاب (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) وجه الإتيان بالفاء عقيب التّكذيب قد مرّ في السّابق (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من قصّة هود وقومه أو من إهلاك قوم هود الّذى تظافر به الاخبار (لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) بعد ما اقام على صدق دعواه بيّنة ممّا يعرفونه ونفى الطّمع الّذى هو مورث للاتّهام عن نفسه هدّدهم بالموت والخروج من المنازل والدّنيا (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) اى النّضيج أو الرّطب اللّين أو النّضيد أو سريع التّفتّت وقيل هو الّذى ليس فيه نوى (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) حاذقين في النّحت أو بطرين (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) المتجاوزين للحدّ في المشتهيات أو في الغضبات (الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) قد مضى حكاية نوح وهود وصالح (ع) في سورة الأعراف وفي سورة هود (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) اخوّة المعاشرة لا اخوّة القبيلة أو الدّين (لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ) لستم واقفين على هذا القدر من الظّلم لانّكم (قَوْمٌ عادُونَ) في جملة أموركم ، والعادون من عدى بمعنى ظلم أو سرق أو صرف أو وثب أو جاوز أو من العدوّ ضدّ الصّديق ، أو من عدى كعلم بمعنى أبغض.

اعلم ، انّ التّكاليف الاختياريّة النّبويّة أو الولويّة مطابقة للتّكاليف التّكوينيّة الالهيّة ، والله تعالى كلّف جنس الحيوان في أكثر أنواعه بالاجتماع بان ركّب الشّهوة فيها وجعل فيها ذكرا وأنثى وجعل نفوسهما بحيث لا يصبر كلّ عن الآخر باقتضاء شهوة الوقاع الّتى جعلها فيه ، ولم يكن المقصود من خلق الشّهوة الّا بقاء النّوع فانّه لو لم يكن شهوة لم يكن وقاع بين سائر أنواع الحيوان ، وامّا الإنسان وان كان يمكن الوقاع بمحض التّكليف الاختيارىّ النّبوىّ لكن قلّما يقع ذلك فانّ أكثر النّفوس لا تعتدّ بالأوامر التّكليفيّة ولو لم يكن الأوامر التّكوينيّة لم يكونوا يواقعون بمحض الأمر التّكليفىّ وفي ذلك فناء النّوع أو تقليله ، ولقصد التّناسل جعل تعالى آلة قضاء الشّهوة في الذّكر والأنثى بحيث يستقرّ مادّة الإنسان الّتى هي النّطفة في مقرّ مخصوص وجعل الذّكر والأنثى بحيث كانا عاشقين للولد ومربّيين له كالجزء منهما ، وغير الإنسان من الحيوان لمّا لم يكن له الشّيطنة لا يرغب في ثقب ليس له ان يطأ فيه فلا يخالف الأمر التّكوينىّ وليس له امر تكليفىّ ، وامّا الإنسان فيتدبّر بالقوّة المتخيّلة ووسوسة الشّيطان ويتصرّف في امر قضاء الشّهوة وقد يخالف بتدبيره وشيطنته الأمر التّكوينىّ والأمر التّكليفىّ ، وما لم يخذله الله يعاقبه في الدّنيا ويؤاخذه على مخالقة

١٦١

الأمر التّكوينىّ وجعل له عقوبة وحدّا على مخالفة الأمر التّكليفىّ ، ولمّا كان في الخروج عن الأمر التّكليفىّ في هذا المورد إفساد كلّىّ في الأرض بقطع النّسل وجعل المرء على طبيعة المرأة وجعل النّفس خارجا من الحياء وأخسّ من نفس الحيوان في القوّة الحيوانيّة جعل الله عقوبة من أتى الذّكران اشدّ من جميع العقوبات (قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عمّا تنهى عنه (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من قرينا (قالَ) لهم (إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) لا لأنفسكم فانّكم صنائع ربّى ولا أقدر أن أقليكم ولكن عملكم لكونه مخالفا لأمره التّكوينىّ والتّكليفىّ كان مغضوبا لي تخرجوننى من قريتكم أو لم تخرجونى ثمّ انصرف عنهم والتجأ الى الله فقال (رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ إِلَّا عَجُوزاً) من اهله وهي امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) في الباقين الماكثين في القرى على ما قيل انّها لم تخرج مع لوط ، أو في الغابرين في العذاب على ما قيل انّها خرجت وأصابها في الطّريق حجر فأهلكها (ثُمَّ دَمَّرْنَا) اى أهلكنا (الْآخَرِينَ) بالخسف أو بايتفاك القرى وانقلابها ثمّ أمطرنا على من كان غائبا من القرى الحجارة من السّماء أو أمطر عليهم الحجارة ثمّ انقلب قراهم بهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) عجيبا وهو امطار الحجر (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) الأيك الشّجر الملتفّ الكثير أو الجماعة من كلّ شجر حتّى من النّخل والواحدة الايكة أو الاجمة الكثير الشّجر والمراد بأصحاب الايكة أهل مدين أو جماعة كانوا بقرية قرب مدين ولم يكونوا من قبيلة شعيب (ع) بعث شعيب عليهم كما بعث على أهل مدين ، ولانّهم لم يكونوا من قبيلته قال تعالى (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ) ولم يقل أخوهم شعيب (أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) اى من جملة من شيمته التّطفيف في الكيل والميزان (وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ) اى لا تنقصوا من النّاس (أَشْياءَهُمْ) أو لا تظلموا النّاس في أشياءهم وعلى الاوّل يكون بيانا لمفهوم مخالفة أوفوا وزنوا ، وعلى الثّانى يكون اعمّ لانّ ظلم النّاس في الأشياء اعمّ من ان ينقصوا فيما يعطونهم أو يزيدوا فيما يأخذون منهم (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) تعميم بعد تخصيص (وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) بمعنى المسحورين المصابين بالسّحر حتّى فسد عقولهم ولا يدرون ما يقولون ، والتّضعيف للمبالغة أو من المجوّفين الّذين لهم سحر اى رية ويحتاجون الى الاكل والشّرب والتّرويح بالهواء أو من المتباعدين من الانسانيّة (وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ) اى انّه نظنّك (لَمِنَ الْكاذِبِينَ فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً) جمع الكسفة كالكسف بالكسر والفتح (مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ قالَ) بعد ما لم ينجع فيهم المحاجّة (رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) فان رآكم مستحقّين للعذاب وإسقاط السّماء عليكم فعل بكم ، وان رآكم مستحقّين للتّوبة ومستعدّين لرحمته وفّقكم (فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) اى يوم السّحابة الّتى اظلّتهم فانّه كما نقل أصابهم حرّ شديد سبعة ايّام وحبس عنهم الرّيح ثمّ غشيتهم سحابة فلمّا غشيتهم خرجوا إليها طلبا للبرد من شدّة الحرّ فأمطرت عليهم نارا فأحرقتهم وكان من أعظم الايّام والوقائع ولذلك قال تعالى (إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ

١٦٢

عَظِيمٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) ولمّا ذكر قصص الأنبياء الماضين وهلاك اقوامهم لتكذيبهم ليكون تسلية للرّسول (ص) وتهديدا لقومه المكذّبين ذكر القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) وأمارات صدقه ليكون أقرب الى القبول والإنذار وقال (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) عطف على السّابق باعتبار المعنى كأنّه قال : وانّ شعيبا لمن المرسلين وانّك لمن المرسلين وانّ القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) لتنزيل ربّ العالمين (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ) يعنى جبرئيل فانّه من جملة الأرواح وأمين على امر الله (عَلى قَلْبِكَ) اى صدرك أو قلبك الحقيقىّ المقابل للصّدر والنّفس فانّ الولاية في القلب كما انّ الرّسالة وأحكامها وكتبها في الصّدر (لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) اى من الرّسل الّذين شأنهم الإنذار لا من المبشّرين فقط فانّ البشارة المنفكّة عن الإنذار شأن الولاية المنفكّة عن الرّسالة ، أتى بالغاية قبل تمام المغيّى للاشعار بانّ الإنذار انّما هو بنفس القرآن أو الولاية لا بكونه بلسان عربيّ ، هذا على تقدير كون قوله تعالى (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) متعلّقا بقوله نزل وامّا إذا كان متعلّقا بكونه من المنذرين فكان من أجزاء الغاية لا المغيّى ، والمراد باللّسان العربىّ هو لغة العرب مجازا فانّ استعمال اللّسان في القول كثير والمراد بالمبين الفصيح الظّاهر الكلمات والحروف ، أو الظّاهر المعاني والواضح المقاصد ، أو المبيّن للمقاصد ، أو المبيّن للالسن فانّه كما في الخبر يبيّن الألسن ولا تبيّنه الألسن فانّ لغة العرب لسعتها وسعة التّصرّف في هيآت كلماتها تبيّن جميع اللّغات بمحض التّصرّف في هيآت كلماتها وليست تلك السّعة في سائر اللّغات فلا يبيّن سائر اللّغات بدون التّقييدات لكلماتها لغة العرب فانّ الضّرب بتصريفاته في هيآته يدلّ على عدّة معان متخالفة لا يمكن تبيينها بسائر اللّغات الّا بضمّ قيوداته عديدة فانّ الضّرب يفيد معناه المصدرىّ وهيئة ضرب يفيد المعنى المصدرىّ مع زمانه ونسبته وفاعله وذكورة فاعله ووحدته وهكذا سائر متصرّفاته وليس سائر اللّغات كذلك فهو يبيّن الألسن بهيآت كلماته ولا تبيّنه الألسن الّا بضمائم وقيودات لكلماتها (وَإِنَّهُ) اى القرآن بأوصافه أو بمعانيه أو قرآن ولاية علىّ (ع) (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) اى كتبهم (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ) اى القرآن بأوصافه أو بمعانيه واحكامه أو قرآن ولاية علىّ (ع) (عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) فانّ أنبياء بنى إسرائيل اثبتوا في كتبهم وأخبروا أممهم بمجيء محمّد (ص) وكتابه ووصاية وصيّه الّذى هو ابن عمّه وصهره وخليفته فانّ العلماء كانوا يخبرون بأنّه مكتوب في كتبهم ويبشّرون بمجيئه ، وكانت اليهود يستفتحون بمحمّد (ص) وأوصيائه (ع) على أعدائهم ، وقد ورد في اخبار عديدة انّ الآيات في ولاية علىّ (ع) ، وفي خبر : انّ ولاية علىّ (ع) مكتوبة في جميع صحف الأنبياء ولم يبعث الله رسولا الّا بنبوّة محمّد (ص) وولاية وصيّه علىّ بن ابى طالب (ع) (وَلَوْ نَزَّلْناهُ) اى القرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) الّذين لا يفصحون عن الكلمات أو الّذين هم غير العرب أو سائر افراد الحيوان العجم (فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ماكانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) لعدم إفصاحه عن الكلمات والمقاصد لانّهم بعد إنزالنا القرآن عليك مع افصاحك عن كلماته ومقاصده ما آمنوا فلو أنزلناه على ذي لكنة بلسانه كان عدم الايمان كالسّجيّة لهم ، وللاشارة الى هذا المعنى قال ما كانوا به مؤمنين بتخلّل كان لعدم إفصاحه ، أو له وللعناد مع علىّ (ع) ، أو المعنى لو أنزلناه على عجمىّ ما كانوا ليؤمنوا للحميّة الّتى كانت لهم مع العجم ، أو له وللعناد مع علىّ (ع) ، أو المعنى لو أنزلناه على حيوان غير ناطق فنطق به اعجازا منّا ما كانوا ليؤمنوا به مع انّه يكون دليل صدقه حينئذ معه لشدّة بعدهم ونفرتهم من الحقّ ، أو لها ولشدّة عنادهم مع علىّ (ع) ، روى عن الصّادق (ع) لو نزّلنا القرآن على العجم ما آمنت به العرب وقد نزل على العرب فآمنت به العجم فهذه في فضيلة العجم (كَذلِكَ) اى مثل سلوك الكفر في قلوب هؤلاء (سَلَكْناهُ) اى الكفر (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ)

١٦٣

أو مثل نزول القرآن على قلبك بلسان عربيّ مبين سلكناه في قلوب المجرمين ومع ذلك لا يؤمنون به ، أو مثل سلوك القرآن في قلوب هؤلاء الكفّار حالكونهم متنفّرين منه غير مؤمنين به سلكنا قرآن الولاية في قلوب المجرمين حالكونهم متنفّرين منه (لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ) ولا ينفع نفسا ايمانها حينئذ ، وأشير في اخبار عديدة الى انّ المراد بالمجرمين بنو أميّة وانّهم لا يؤمنون بعلىّ (ع) حتّى يروا العذاب الأليم (فَيَأْتِيَهُمْ) العذاب الأليم (بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمجيئه لعدم تقدّم امارة له (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) يعنى انّهم قبل مجيئه يستهزؤن به ويستعجلون به استهزاء فاذا جاءهم يسألون النّظرة (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) تهويل وتهديد لهم (أَفَرَأَيْتَ) يا محمّد (ص) أو الخطاب عامّ (إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) عديدة مديدة (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ) من العذاب (ما أَغْنى عَنْهُمْ) شيئا من عذاب الله (ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) في الدّنيا وقد صرّح في اخبار عديدة انّ قوله أفرأيت (الى الآخر) نزلت في بنى أميّة وانّ رسول الله (ص) رآهم في منامه يصعدون منبره بعده يضلّون النّاس عن الصّراط القهقرى فأصبح كئيبا ونزل عليه جبرئيل وسأل عن حزنه فقال (ص) : رأيت في منامي كذا فعرج ثمّ نزل وجاء بهذه الآية تسلية للرّسول (ص) وجاء بسورة انّا أنزلناه تسلية له (ص) بانّ ليلة القدر الّتى أعطيت خير من الف شهر يكون فيها ملك بنى أميّة (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) عطف فيه استدراك توهّم انّ العذاب الجائى بغتة كان ظلما (ذِكْرى) مفعول له واسم للتّذكير (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) معذّبين من غير استحقاق ومن غير تذكير لهم بالعذاب (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) اى بالقرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) (الشَّياطِينُ) كما زعم المشركون انّ القرآن النّازل على محمّد (ص) من قبيل ما يلقيه الشّيطان على الكهنة (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ) ان ينزّلوه يعنى ليس شأن القرآن الّذى هو كلام الله والآتي به هو الملك والمتلقّف محمّد (ص) الّذى هو أعلى من الملك ان يلقّنه الشّياطين ولا الشّياطين يقدرون ان يأخذوه وينزّلوه لانّ الشّياطين عالمهم ظلمانىّ أسفل العوالم والقرآن ومحمّد (ص) والملائكة عالمهم نورانىّ أعلى العوالم فاذا وصل القرآن الى الشّياطين فرّوا بل هلكوا كما قيل :

ديو بگريزد از آن قوم كه قرآن خوانند

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) اى سمع القرآن وكلام الملك (لَمَعْزُولُونَ) فانّ قول الملك وخطاب القرآن شهاب رادع للشّيطان (فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ) يعنى إذا كان القرآن من الله من غير شراكة لغيره ، أو إذا كان ولاية علىّ (ع) من الله فلا تدع مع الله أو مع علىّ (ع) (إِلهاً) اى معبودا أو ذا ولاية (آخَرَ) وهذا على : ايّاك اعنى واسمعي يا جارة (فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) مثل بنى أميّة الّذين عدلوا عن علىّ (ع) الى غيره فحتم لهم عذاب اليم (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) خصّ العشيرة الأقربين مع انّه مأمور بإنذار الخلائق أجمعين ، امّا لانّهم أقرب الى القبول من غيرهم فاذا انذروا قبلوا لمناسبة القرابة بينهم وبينه ولاطّلاعهم على خفايا أحواله وانّه لا مداهنة فيه ولا يطلب الدّنيا دون غيرهم ، أو لانّهم ان آمنوا سهل عليه (ص) دعوة الغير وسهل على الغير قبول دعوته لاستظهاره بهم واعانتهم له ومشاهدة الغير لايمان المطّلعين على خفايا أحواله ، وان لم يؤمنوا تنفّر عنه الأباعد مستدلّين بأنّه ان كان حقّا كان اتّباعهم له اولى من اتّباعنا ، أو لانّه ان انذر عشيرته يعلم انّه الهىّ وانّه بدأ بعشيرته فلا يدع غير عشيرته ، أو لانّه يمكنه جمعهم وإنذارهم دون غيرهم ، وقد نقل من طريق العامّة والخاصّة انّ محمّدا (ص) بعد نزول هذه الآية قال لعلىّ (ع) : يا علىّ اصنع لهم غذاء فصنع غذاء قليلا فجمعهم رسول الله (ص) في الشّعب فأكلوا كلّهم من ذلك الغذاء القليل وشبعوا فبدرهم

١٦٤

ابو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرّجل فسكت (ص) يومئذ ولم يتكلّم بشيء ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك الطّعام ثمّ انذرهم فقال : يا بنى عبد المطّلب انّى انا النّذير إليكم من الله عزوجل والبشير فأسلموا وأطيعونى تهتدوا ثمّ قال (ص) : من يؤاخيني ويوازرني ويكون ولييّ ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضى ديني؟ فسكت القوم فأعادها ثلاثا ، كلّ ذلك يسكت القوم ويقول علىّ (ع) : انا ، فقال (ص) في المرّة الثّالثة : أنت ، فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد امّر عليك ، وفي رواية العامّة : ايّكم يقوم ويبايعني؟ وأعاد لهم الكلام ثلاث مرّات وسكت القوم ثمّ قال : ليقومنّ قائمكم أو ليكوننّ في غيركم ثمّ لتندمنّ فقام علىّ (ع) فبايعه وأجابه ، ثمّ قال : ادن منّى فدنا منه ففتح فاه ومجّ في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه ، فقال ابو لهب : فبئس ما حبوت به ابن عمّك ان أجابك فملأت فاه ووجهه بزاقا ، فقال (ص) : ملأته حكمة وعلما ، وعن طريق العامّة والخاصّة : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ورهطك منهم المخلصين عن الرّضا : وانذر عشيرتك الأقربين ورهطك المخلصين قال هكذا في قراءة ابىّ بن كعب وهي ثابتة في مصحف عبد الله بن مسعود قال هذه منزلة رفيعة وفضل عظيم وشرف عال حين عنى الله عزوجل بذلك الآل فذكره لرسول الله (ص) ، ويجوز ان يكون المراد بالعشيرة الأقربين الّذين كانوا بحسب مرتبتهم الرّوحانيّة عشيرته وأقرب منه ، ويكون المعنى انذر بحسب مقامك العالي عشيرتك الأقربين وتنزّل عن مقامك العالي الى مقام التّابعين (وَاخْفِضْ جَناحَكَ) خفض الجناح استعارة للتّذلّل والتّواضع من جهة المحبّة من خفض جناح الطّيور لأزواجها يعنى تنزّل وتواضع عن مقامك العالي (لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فانّهم لا يقدرون على سماع كلامك بحسب مقامك العالي وانذرهم بلسان ومقام يناسب مقام المؤمنين التّابعين (فَإِنْ عَصَوْكَ) اى عشيرتك أو اتباعك المؤمنون فانّهم بحسب حدود مقامهم وتعيّناتهم النّازلة يعصونك (فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ) ولا تقل انّى بريء منكم فانّهم ان كانوا اتباعك كانت براءتك منهم براءة من اللّطيفة الالهيّة ، كما مضى مكرّرا انّ الأسماء والأحكام أسماء وجارية على الفعليّة الاخيرة من الأشياء فخطاب اتباعك والبراءة منهم يكون خطابا وبراءة من الفعليّة الاخيرة الّتى هي فعليّة الرّسالة أو فعليّة الولاية ، وفعليّة الرّسالة والولاية ليست الّا الهيّة ، وان لم يكونوا اتباعك ولم يكونوا مرتدّين عن الفطرة بابطال الفطرة الانسانيّة كان فعليّتهم الاخيرة فعليّة الانسانيّة ، وان كانت محتجبة تحت غيرها من الفعليّات الاخر وكانت البراءة منهم براءة من الانسانيّة الّتى هي أيضا لطيفة الهيّة ، نعم ان قطع الفطرة صحّ ان يقال : انّى بريء منك كما حكى الله تعالى عن إبراهيم (ع) بقوله : (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) يعنى تنزّل عن مقامك العالي وشاركهم في مقامهم النّازل فان خالفوك في التّقيّد بحدود مقامهم فأظهر نزاهة ذاتك عن تلك الحدود وقل لهم انّى بحسب مقامي العالي منزّه عن حدود تلك المقامات وتعيّناتها وان شاركتكم في بعض لوازمها لئلّا تستوحشوا منّى حتّى لا يتوهّموا انّك تكون مثلهم (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ) الّذى لا يقع في ملكه الّا ما يشاؤه يعنى اخرج من رؤية الأفعال من الفاعلين وانظر في جملة الأفعال الى الفاعل الحقّ حتّى تشاهد انّ العامل هو يد الله فتكل أمرك وأمرهم اليه ولا تحزن على عصيانهم (الرَّحِيمِ) الّذى لا يشاء لعباده الّا ما هو صلاحهم ولا يشاء لاعدائه الّا ما هو صلاح عباده المؤمنين أو صلاح نظام العالم فلا تحزن على ما فيه صلاح عامله أو صلاح المؤمنين أو صلاح نظام الكلّ (الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ) للصّلوة وحدك كما في الخبر أو تقوم في اللّيل للصّلوة أو تقوم في النّاس ، أو تقوم بقيام جميع مراتبك للحضور عند ربّك أو تقوم بالعروج عن مقام الكثرات والخروج من بينهم (وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ) وقت الصّلوة بالجماعة أو تقلّبك من قيامك وانحنائك في المنحنين المنكوسين في الكثرات المبتلين بها ، أو تقلّبك في الخاضعين

١٦٥

المتواضعين لله ، أو تقلّبك في الأصلاب والأرحام المطهّرة اللّاتى كانت للسّاجدين لله فانّه لم يكن الّا من نكاح صحيح من لدن آدم (ع) وكانت آباؤه موحّدين (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لا سميع سواه (الْعَلِيمُ) لا عليم سواه فانّ سمع كلّ سامع وعلم كلّ عليم سمعه وعلمه النّازلان ، وفي خبر : قال رسول الله (ص) : لا ترفعوا قبلي ولا تضعوا قبلي فانّى أريكم من خلفي كما أريكم من امامى ، ثمّ تلا هذه الآية يعنى إذا كنتم في الصّلوة فلا ترفعوا رؤسكم من السّجدة ولا تضعوها للسّجدة قبلي ، والاستشهاد بالآية يدلّ على انّ الأمر بالتّوكّل كان من الله وانّ المأمور بالتّوكّل هو نفسه باعتبار مقام نفسه وانّ المتوكّل عليه هو نفسه أيضا بحسب مقام روحه الّذى هو مقام الولاية وهو الموصوف بالعزّة والرّحمة وبالرّؤية في جميع الأحوال (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) لما ذكر انّ القرآن ما تنزّل به الشّياطين اشتاق نفوس السّامعين لبيان من تنزّل عليه الشّياطين وما تنزلون به فقال تعالى هل انبّئكم (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ) من موصولة والظّرف متعلّق بانبّئكم أو استفهاميّة والظّرف متعلّق بتنزّل (تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) من إفك كضرب وعلم إفكا بالفتح والكسر والتّحريك كذب ، أو من افكه عنه كضرب صرفه وقلّبه أو قلّب رأيه ، أو من إفك فلانا جعله يكذب (أَثِيمٍ) يعنى انّ الشّياطين لمّا كانوا بحسب وجودهم وذواتهم كاذبين منحرفين عن الصّراط المستقيم ومنكوسين مقلوبين لا يتنزّلون الّا على الكذّاب المنكوس الّذى بفطرته يصرف قوى وجوده ومن في خارج وجوده عن الحقّ والاستقامة للزوم السّنخيّة بين النّازل والمنزل عليه والأثيم الّذى يفعل الأفعال الّتى لم تكن على الصّراط المستقيم الانسانىّ (يُلْقُونَ) اى الشّياطين (السَّمْعَ) يعنى يصعدون الى السّماء لاستراق السّمع من الملائكة ويستمعون منهم ثمّ يتنزّلون الى اسناخهم من الانس ويخبرونهم (وَ) لكن (أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) فانّ مسموعاتهم وان كانت حقّة لكنّها إذا وصلت إليهم ودخلت اصماخهم تنصرف عن وجهتها الحقّانيّة وتصير باطلة فانّ وجودهم كالمرآة المعوّجة الّتى لا يرى فيها الصّور الّا على خلاف ما هي عليه ، أو يلقى الشّياطين المسموع الى اسناخهم الانسيّة أو يلقى الافّاكون السّمع للشّياطين وينقادونهم لاستماع اكاذيبهم ، وضمير أكثرهم راجع الى الشّياطين أو الى الافّاكين فانّ الكلّ يكونون بحال إذا وصل الصّدق إليهم صار كذبا وانّما قال أكثرهم لانّ القليل من الشّياطين والقليل من الافّاكين فطرتهم باقية على الاستقامة ولا يصير الحقّ في وجودهم باطلا ويبقى الصّدق على صدقه في وجودهم (وَالشُّعَراءُ) جمع الشّاعر والشّاعر من شعر به كنصر وكرم شعرا بالكسر وشعرا بالفتح علم به وفطن له وعقله ، ولمّا كان الشّاعر الآتي بالكلام الموزون سريع التّفطّن بالألفاظ المتناسبة المتناسقة والمعاني الدّقيقة غلّب في العرف اسم الشّعر على كلامه الموزون ، واسم الشّاعر عليه ، ولمّا كان الأغلب انّ الشّعراء يظهرون الأباطيل والأكاذيب بصورة الحقّ بتمويهات وتزيينات نقل عن الشّعر والشّاعر اسم الشّعر والشّاعر الى كلام باطل مموّه ظاهر بصورة الحقّ والى قائله ، ومنه القياسات الشّعريّة للقياسات الوهميّة الباطلة المموّهة الظّاهرة بصورة القياس الحقّ الصّادق ، ولمّا كان القرآن ذا وجوه بحسب طبقات النّاس ويراد منه كلّ وجوهه بحسب طبقات النّاس والمراد بالحمل على الحسن الوجوه كما مضى في المقدّمات الحمل على أحسن الوجوه الاضافىّ صحّ تفسير قوله تعالى : والشّعراء (يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) بالّذين يأتون بالكلام المنظوم كما نقل انّ المراد شعراء العرب كانوا يأتون بالكذب والأباطيل وكانوا يهجون النّبىّ (ص) وكان جمع من الغاوين يجتمعون إليهم ويستمعون كلامهم وذكروا أسماءهم وعددهم ، وصحّ تفسيره بالقصّاص الّذين كانوا في الأسواق والمحافل ينقلون الحكايات والأسمار الّتى لا أصل لها ولا حقيقة ، وصحّ تفسيره بالوعّاظ الّذين يعظون ولا يتّعظون ، وبالفقهاء والقضاة الّذين يفتون ويقضون بين النّاس من غير اذن واجازة من الله أو من خلفائه كفقهاء

١٦٦

العامّة وقضاتهم فانّهم أيضا يقولون ولا يفعلون ما يقولون ، وعن الصّادق (ع) هم القصّاص ، وعنه (ع) : هم قوم تعلّموا وتفقّهوا بغير علم فضلّوا واضلّوا ، وعنه (ع) نزلت في الّذين غيّروا دين الله وخالفوا امر الله ، هل رأيت شاعرا قطّ يتّبعه أحد؟! انّما عنى بذلك الّذين وضعوا دينا بآرائهم فتبعهم على ذلك النّاس ، وعن الباقر (ع) : هل رأيت شاعرا يتّبعه أحد؟! انّما هم قوم تفقّهوا لغير الله فضلّوا واضلّوا (أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ) اى الشّعراء (فِي كُلِّ وادٍ) من اودية النّفس والخيال (يَهِيمُونَ) يتحيّرون ، شبّه تخيّلاتهم الّتى لاثبات لهم عليها ولا يرون حقّا منها ولا يعتقدون صدقها بالاودية الّتى هي المفارج بين الجبال أو التّلال الّتى لا يرى ما حولها الارتفاع الجبال والتّلال المحيطة بها ولم يكن فيها طريق ولا يدرى السّالك فيها اين مخلصها سواء كان المراد بالشّعراء القائلين للشّعر أو القصّاص والوعّاظ أو الفقهاء والقضاة (وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ) فانّ الكلّ حالهم ذلك فانّ الشّعراء يغرقون في جميع ما يقولون كما قيل : «كاز أكذب اوست أحسن أو» والقصّاص والوعّاظ شأنهم وشغلهم تزيين الكلام وتجديد النّشاط للاستماع بحكايات جديدة واسمار غير مسموعة كذبا كان أو غير كذب عاملين كانوا أو غير عاملين ، وفقهاء العامّة شغلهم الإفتاء من غير عمل (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة أو الخاصّة (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) على الشّروط والكيفيّة المأخوذة فانّ الشّاعر منهم لا يقول ما لم يكن فيه رضى الله والنّاقل والواعظ أيضا كذلك ويفعل ما يقول اوّلا ثمّ يقول ثانيا ، والفقيه منهم لا يتكلّم بدون الاذن والاجازة ، وبعد الاجازة يصير باطله صحيحا وكذبه صدقا وظنّه يقينا (وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيراً) في شعرهم وقصصهم ومواعظهم ومسائلهم الفقهيّة (وَانْتَصَرُوا) انتقموا عمّن يفعل بهم (مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) في مقام وامّا الّذين ظلموا من الشّعراء بان يقولوا ولا يفعلوا ويكون ظاهرهم بخلاف باطنهم فسيعلمون (أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) تهديد لهم بسوء العاقبة.

سورة النّمل

مكّيّة كلّها ، خمس وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ) قرئ بالجرّ عطفا على القرآن ، وبالرّفع عطفا على آيات القرآن ، وتنكيره للتّفخيم (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) قد مضى الآيات بتمام اجزائها في اوّل البقرة بما لا مزيد عليه (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل بعد ما قال : هدى وبشرى للمؤمنين فما حال غير المؤمنين؟ ـ قال : انّ الّذين لا يؤمنون (بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) الّتى يعملونها لدنياهم وبهوى أنفسهم حتّى لا ينصرفوا عنها ، أو زيّنّا أعمالهم

١٦٧

الّتى امرناهم بها وكانت لائقة بانسانيّتهم لعلّهم ينتهون عن غيّهم ويرغبون في اعمال الخير واعتقاد المبدء واليوم الآخر (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) اى يتردّدون ولا يطمئنّون على أعمالهم النّفسانيّة ولا ينسلخون عنها بالكلّيّة (أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ) في الدّنيا فانّ التّحيّر والتّردّد في الأمر عذاب عاجل على انّهم يحسبون كلّ صيحة عليهم ولا يطمئنّون على امر (وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ) لانّهم بعدم اعتقادهم لليوم الآخر لا يعملون له ويعملون لمشتهياتهم الفانية فيفنون بضاعتهم الّتى جعلها الله لهم بضاعة للآخرة ويأخذون عوضها عذابا في الآخرة (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) عطف على انّ الّذين لا يؤمنون والجامع اشتراكهما في كونهما جوابا للسّؤال المقدّر كأنّه قال : ما حال غير المؤمنين؟ وما حالي في شهودي للآخرة الّذى هو فوق الايمان بها بالغيب؟ ـ فقال : حال غير المؤمنين كذا وحالك انّك تلقّى القرآن اى المقام الجامع بين الوحدة والكثرة (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) في عمله أو في عمله وعلمه ويكون قوله (عَلِيمٍ) تأكيدا وقد مضى مكرّرا انّ الحكمة عبارة عن اللّطف في العمل وإتقانه بحيث يكون ذا غايات عديدة مترتّبة متقنة ، واللّطف في العلم بحيث يكون ادراك الشّيء مستلزما لادراك مباديه وغاياته الجليّة والدّقيقة الخفيّة ، وقد تستعمل الحكمة في كلّ منفردا عن الآخر (إِذْ قالَ مُوسى) ظرف لعليم أو حكيم ، ويكون تقييد علمه تعالى أو حكمته مع إطلاقهما في حقّه تعالى للاشعار بانّ ما وقع لموسى (ع) وما وقع منه لم يكن الّا بعلمه وحكمته وكان مشتملا على دقائق الغايات ودقائق الاعتبارات فيكون في الحقيقة تقييدا لما وقع له ومنه (ع) وبعلمه تعالى وحكمته ، أو متعلّق بقوله لتلقّى القرآن والمعنى حالك انّك تمكّنت في الحضور عند ربّك وترفّعت عن جميع المقامات والشّهودات إذ كان موسى (ع) مشاهدا لبعض آياته ومضطربا في مشاهداته نظير : كنت نبيّا وآدم بين الماء والطّين (لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ) قرئ بشهاب قبس بطرين التّوصيف وبطريق الاضافة والشّهاب الشّعلة من النّار واختلاف الكلمات في الحكايات المكرّرة امّا للاشارة الى انّها منقولة بحسب المعنى والمنقول بحسب المعنى يؤدّى بألفاظ مختلفة مترادفة أو متوافقة في أداء المقصود ، أو للاشارة الى انّ السّؤالات وأجوبتها كانت كثيرة وكلّما ذكر حكاية منها يذكر بعضها (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) لمّا قال من في النّار ومن حول النّار وتوهّم منه انّه محاط قال تعالى : سبحان الله من ان يكون محاطا لانّه ربّ العالمين وربّ العالمين لا يكون محاطا لشيء من مربوباته (يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) يعنى انّ المتكلّم معك هو الله فتنبّه واستعدّ لما يلقى إليك فالهاء ضمير المتكلّم وانا خبره والله بدله ، ويجوز ان يكون الهاء ضمير الشّأن وانا الله جملة مفسّرة له ، نقل انّه بعد ما سمع هذه الكلمة سأل البرهان عليها فقال تعالى (وَأَلْقِ) معطوف على محذوف جواب للسّؤال المقدّر أو المذكور والتّقدير أيقن ذلك وألق (عَصاكَ) ويجوز ان يكون عطفا على بورك حتّى يكون مثل بورك تفسيرا لنودى ، وان يكون عطفا على انّه انا الله فانّه في معنى قال يا موسى انّه انا الله وألق عصاك فألقاها فصارت حيّة حيّة متحرّكة فنظر فرآها حيّة متحرّكة (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ) تتحرّك (كَأَنَّها جَانٌ) حيّة غير عظيمة فانّ الجانّ حيّة غير عظيمة غير موذية كحلاء العينين ، قيل : انّها في ذلك المقام صارت حيّة غير عظيمة غير موذية لانّها كانت اوّل ما رآها فلم يجعلها الله حيّة عظيمة مثل ما صارت عند ملاقاة فرعون لئلّا يستوحش كثيرا ومع ذلك خاف منها و (وَلَّى مُدْبِراً) حال مؤكّدة (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع على عقبه أو لم ينظر الى عقبه (يا مُوسى) جواب سؤال مقدّر بتقدير القول اى قلنا يا موسى

١٦٨

(لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ) يعنى انّ الخوف ليس الّا من بقايا الانانيّة تبقى على العبد والمرسلون إذا بلغوا الى مقام الحضور وكانوا عند الرّبّ لم يكن عليهم شيء من انانيّاتهم فلم يكن لهم ما عليه يخافون من الانانيّة وما يلزمها من نسبة الأموال والأفعال والصّفات إليها (إِلَّا مَنْ ظَلَمَ) استثناء منقطع يعنى لكن من ظلم (ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ) بتدارك ظلمه فيما له تدارك وبالاستغفار والتّوبة فيما ليس له تدارك فانّه يخاف ولكن اغفر له وارحمه (فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) أو استثناء متّصل ويكون المراد بالظّلم بقايا اثر النّفس عليهم حتّى لا ينافي عصمة الأنبياء (ع) يعنى الّا من كان باقيا عليه من انانيّته شيء فانّه ظلم بوجه على انسانيّته ، ويؤيّد هذا المعنى قراءة الّا من أظلم من باب الأفعال ثمّ بدّل هذا الظّلم حسنا حتّى لا يمنع ظلمه من رسالته ، وتبديله حسنا بان لا يستبدّ بتلك الانانيّة ويلتجئ الىّ ويتضرّع علىّ ويستوحش من انانيّته ويستغفرني فانّى لا اؤاخذه بتلك الانانيّة واغفرها له وارحمه بإعطاء منصب الرّسالة لانّى غفور رحيم (وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) جيب القميص معروف والمقصود ان يدخل يده تحت قميصه وثيابه ويضعه على قلبه ليطمئنّ من الرّهب ويتأثّر يده من ضوء قلبه كما قال واضمم إليك جناحك من الرّهب (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) اى من غير علّة البرص (فِي تِسْعِ آياتٍ) قد اختلف الاخبار في تعيين التّسع وفي خبر عن النّبىّ (ص) : هي ان لا تشركوا به شيئا ، ولا تسرفوا ، ولا تزنوا ، ولا تقتلوا النّفس الّتى حرّم الله الّا بالحقّ ، ولا تمشوا ببريء الى سلطان ليقتل ، ولا تسخروا ، ولا تأكلوا الرّبوا ، ولا تقذفوا لمحصنة ، ولا تولّوا للفرار يوم الزّحف ، وعليكم خاصّة يا يهود ان لا تعتدوا في السّبت ، وكان يهودىّ سأله عن الآيات فلمّا سمع منه قبّل يده وقال : اشهد انّك نبىّ ، وفي اخبار كثيرة فسّر الآيات التّسع بما كان يظهر منه من المعجزات مثل الجراد والقمّل والضّفادع وغير ذلك مع اختلاف في تعيينها فانّ الظّاهر على يده وبواسطته كان أكثر من التّسع ، والظّرف حال من فاعل تخرج أو ظرف لغو متعلّق بفعل من افعال الخصوص حالا من فاعل ادخل مثل ذاهبا أو مرسلا في تسع آيات ، ويحتمل ان يكون اليد من جملة التّسع أو زائدة على التّسع (إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) فذهب في الآيات الى فرعون وقومه (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً) من أبصره إذا نظر اليه ورآه فيكون نسبته الى الآيات مجازا عقليّا ، أو من أبصره إذا جعله بصيرا ، وقرئ مبصرة بفتح الميم والصّاد بمعنى محلّ التّبصّر ، أو مصدرا بمعنى ذوات ابصار (قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ وَجَحَدُوا بِها) اى جحدوا موسى بسبب الآيات مكان الإقرار بها لكمال عنادهم مع الحقّ وفسوقهم أو جحدوا الآيات من حيث انّها آيات الهيّة وقالوا انّها سحر (وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا) اى استكبارا (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) وقد سبق في سورة الأعراف تفصيل الآيات وكيفيّتها وكيفيّة ابتلائهم بها وعاقبة أمرهم (وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً) عظيما فانّ ما آتاهما الله وان كان بالنّسبة الى علم الله وعلم محمّد (ص) وآله (ع) حقيرا لكنّه في نفسه عظيم كثير ، أو شيئا يسيرا من علم آل محمّد (ص) وبهذا القدر اليسير تجاوب داود (ع) الجبال والطّيور وعلم سليمان (ع) منطق الطّيور وسائر الحيوان وسخّر الجنّ والطّيور والحيوان والرّياح (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى انّهما اظهرا شكرا لنعمة العلم والمقصود تفضيلهم على كثير من العباد من زمن آدم (ع) أو على كثير من عباد زمانهم بإدخال الملائكة فيهم أو قالوا ذلك لاحتمالهم أو علمهم بكون بعض العباد الحامدين أفضل منهم أو لهضم أنفسهم ولتعليم الغير طريقة الشّكر وانّ الشّاكر على النّعم لا ينبغي ان يغترّ بالنّعم ويعجب بنفسه بل ينبغي ان يرى في كلّ الأحوال لغيره فضلا على نفسه حتّى لا يبتلى بالغرور والاعجاب بالنّفس ، وفيه

١٦٩

دلالة على فضل العلم بالنّسبة الى سائر النّعم حيث ذكر تعالى شكرهما عقيب إيتاء العلم معلّقا على التّفضيل على العباد بسبب العلم مع انّهما أوتيا ملكا عظيما وسلطنة وسيعة (وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ) ما ينبغي ان يرثه منه من الرّسالة والعلم والملك والسّلطنة ، ولذلك حذف المفعول الثّانى ، قيل للجواد (ع) : انّهم يقولون في حداثة سنّك فقال : انّ الله اوحى الى داود (ع) ان يستخلف سليمان وهو صبىّ يرعى الغنم فأنكر ذلك عبّاد بنى إسرائيل وعلماؤهم ، فأوحى الى داود (ع) ان خذ عصا المتكلّمين وعصا سليمان (ع) واجعلهما في بيت واختم عليهما بخواتيم القوم فاذا كان من الغد فمن كانت عصاه قد أورقت وأثمرت فهو الخليفة فأخبرهم داود (ع) فقالوا : قد رضينا وسلّمنا (وَقالَ) إظهارا لنعم الله شكرا لها (يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا) أتى بعلّم مبنيّا للمفعول للتّبرّى من الانانيّة وانّ العلم الّذى أعطاه الله تعالى كان من محض فضل الله لا من نفسه (مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا) أتى هاهنا باوتينا لما ذكر (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) انّما قال من كلّ شيء لانّه لا يمكن للممكن ولو بلغ ما بلغ ان يؤتى كلّ شيء الّا ان يخصّص الشّيء بالممكنات وحينئذ لا يكون لغير الخاتم ان يقول وأوتينا كلّ شيء ، وفي خبر : ليس فيه من وانّما هي وأوتينا كلّ شيء ، وبعد ما ذكر انّه ليس من نفسه فخّمه وعظّمه تعظيما لانعام الله ونعمه فقال (إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) عن الصّادق (ع) اعطى سليمان بن داود (ع) مع علمه معرفة المنطق بكلّ لسان ومعرفة اللّغات ومنطق الطّير والبهائم والسّباع وكان إذا شاهد الحروب تكلّم بالفارسيّة ، وإذا قعد لعمّاله وجنوده وأهل مملكته تكلّم بالرّوميّة ، وإذا خلا بنسائه تكلّم بالسّريانيّة والنّبطيّة ، وإذا قام في محرابه لمناجاة ربّه تكلّم بالعربيّة ، وإذا جلس للوفود والخصماء تكلّم بالعبرانيّة ، وعنه عن أبيه (ع) : اعطى سليمان بن داود (ع) ملك مشارق الأرض ومغاربها فملك سبعمائة سنة وستّة أشهر ملك أهل الدّنيا كلّهم من الجنّ والانس والشّياطين والدّوابّ والطّير والسّباع واعطى علم كلّ شيء ومنطق كلّ شيء وفي زمانه صنعت الصّنائع العجيبة الّتى سمع بها النّاس وذلك قوله علّمنا (الآية) وقد كثر في أخبارنا انّ الائمّة (ع) أعطوا جميع ما اعطى سليمان (ع) ولهم الفضل عليه (وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِ) قدّم الجنّ لانّ معظم الأمور الّتى تتمشّى من الجنود مثل سرعة السّير والاخبار بالوقائع الواقعة في النّواحى وصنع الصّنائع العجيبة الّتى يحتاج إليها السّلاطين كان منهم (وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ) خصّها من بين سائر الحيوان للاحتياج إليها في التّظليل (فَهُمْ يُوزَعُونَ) يحبسون حتّى يلتحق اوّلهم بآخرهم إذا كان من وزع كوضع بمعنى كفّ ، أو يعزون إذا كان من أوزعه بمعنى اغراه ، أو يدبّر أمورهم ويعلمون من وزع إذا دبّر أمور الجيش ، أو يجعلون جماعات من الأوزاع بمعنى الجماعات ، أو يقسّمون من الإيزاع كالتّوزيع بمعنى التّقسيم (حَتَّى إِذا أَتَوْا) اى فساروا حتّى إذا أتوا (عَلى وادِ النَّمْلِ) قيل هو واد بالطّائف كثير النّمل ، وقيل : هو واد بالشّام كثير النّمل ، وفي تفسير القمىّ قعد على كرسيّه وحملته الرّيح فمرّت به على واد النّمل وهو واد ينبت فيه الذّهب والفضّة وقد وكّل به النّمل وهو قول الصّادق (ع) انّ لله واديا ينبت الذّهب والفضّة وقد حماه الله بأضعف خلقه وهو النّمل لو رامته البخاتي ما قدرت عليه ، ونسب الى الرّواية انّ نمل سليمان كانت كأمثال الذّئاب والكلاب (قالَتْ نَمْلَةٌ) هي رئيسها وأميرها كما قيل (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ) بدل من ادخلوا بدل الاشتمال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر وهو نهى وليس بنفي مجزوم في جواب الأمر كما قيل لانّ نون التّأكيد لا يدخل في النّفى والفعل الموجب في غير الضّرورة (سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) هذا تبرئة من النّملة للنّبىّ (ع) من الظّلم (فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها) لتعجّبه من قدرة الله وإسماعه قول النّمل خصوصا من المسافة البعيدة ، أو من نعمة الله عليه بان أقدره

١٧٠

على سماع كلام النّمل وفهم مقصده ، أو من فطانة النّمل وتميزه بين الحاطم وغيره ومعرفته لسليمان وجنوده ، وهذا يدلّ على انّه وجنوده كانوا يمشون مشاة وراكبين لا انّهم يسيرون في الهواء بمركب الرّيح (وَقالَ) تبجّحا بنعم الله وإظهارا لشكرها (رَبِّ أَوْزِعْنِي) الهمنى أو أولعني (أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَ) اشارة الى هذه النّعمة اى نعمة إفهام نطق الحيوان أو جنس النّعمة الّتى أنعمها عليه (وَعَلى والِدَيَ) بإعطائهما ولدا مثلي أو لسائر نعمهم (وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ) ليكون عملي شكرا فعليّا لأنعمك (وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) في الدّنيا أو في الآخرة أو فيهما (وَتَفَقَّدَ) تجسّس (الطَّيْرَ) طلبا لفقدانها فلم ير منها الهدهد (فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ) أصله ماله لا أراه لكنّه قلّب واستعمل في هذا المعنى في العرب والعجم ، أو هو على الأصل (أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً) بنتف ريشه والقائه في الشّمس ، أو بجعله مع غير جنسه كما قيل (أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ) حجّة (مُبِينٍ) واضح في عذره أو موضح عذره في غيبته وتفقّده للطّيور وعتابه للهدهد على غيبته لجريه على طريقة الملوك وأمراء الجند فانّ أمير العسكر إذا فقد واحدا من أجزاء العسكر عاتبه واخذه بجرمه لانّ كلّا من أجزاء العسكر له شغل وعمل إذا فقد بدون الاذن والبدل اختلّ امر العسكر ، ولعلّ فقدان واحد منها يصير سببا لهلاك الكلّ وكان الهدهد كما في الخبر يدلّه على الماء لانّه كان يرى الماء في بطن الأرض كما يرى أحد الدّهن في القارورة ، أو كان الطّير تظلّ كرسيّه من الشّمس فبان الشّمس على حجره (فَمَكَثَ) سليمان أو الهدهد في غيبته زمانا (غَيْرَ بَعِيدٍ) أو مكانا غير بعيد ثمّ رجع الى سليمان (فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) يعنى علمت بما لم تعلم به واطّلعت على ما لم تطّلع عليه (وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ) مدينة بأرض اليمن ، قيل : بعث الله الى سبأ اثنى عشر نبيّا ونقل عن النّبىّ (ص) انّه سئل عن سبإ فقال : هو رجل ولد له عشرة من العرب تيامن منهم ستّة وتشاءم اربعة ، وعلى هذا كانت المدينة سمّى باسم هذا الرّجل (بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) لسعة مملكتها ووجدان كلّ ما يحتاج الإنسان اليه فيها والمرأة كانت بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريّان كما قيل ، وقيل : كان أبوها شرجيل وكان آباؤها الى أربعين أبا ملكا (وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ) عظمه بالنّسبة إليها أو بالنّسبة الى سائر العروش والّا كان ثلاثين ذراعا في عرض ثلاثين ذراعا في ارتفاع ثلاثين ، وقيل : كان ثمانين في ثمانين ، وقيل : كان ثمانين في ثمانين ، وقيل : كان مقدّمه من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر والزّمرّد الأخضر ، ومؤخّره من فضة مكلّلة بألوان الجواهر وعليه سبعة أبيات على كلّ بيت باب مغلق (وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) الّتى يعملونها من عبادتهم للشّمس وسائر ما يعملونها لدنياهم وآخرتهم حتّى يرتضون أعمالهم ، وهذا هو المانع من طلب الحقّ واتّباع اهله (فَصَدَّهُمْ) بهذا التّزيين والارتضاء (عَنِ السَّبِيلِ) اى سبيل الحقّ (فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ) اليه ، قيل : لم يكن الهدهد عارفا بذلك وانّما أخبر بذلك كما يخبر مراهقوا صبياننا لانّه لا تكليف الّا على الملائكة والانس والجنّ ، وهذا من غفلته من ادراك الموجودات بل نقول : كلّ الموجودات شاعرون عالمون ولكن لا شعور لهم بشعورهم : ان من شيء الّا يسبّح بحمده ولكن لا يفقهون تسبيحهم لعدم شعورهم بشعورهم فكان جملة الموجودات ينادون جهارا بهذا القول :

ما سميعيم وبصيريم وخوشيم

با شما نامحرمان ما خامشيم

چون شما سوى جمادى مى رويد

محرم جان جمادان كى شويد

از جمادى در جهان جان رويد

غلغل اجزاى عالم بشنويد

١٧١

سورة النمل

فاش تسبيح جمادات آيدت

وسوسه تأويلها بر بايدت

چون ندارد جان تو قنديلها

بهر بينش كرده تأويلها

(أَلَّا يَسْجُدُوا) قرئ بتخفيف اللّام من الا على انّه كان يا قوم اسجدوا فحذف المنادي وحينئذ يكون من كلام الهدهد بتقدير القول جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قلت لهم؟ ـ فقال : قلت لهم : يا قوم اسجدوا أو من كلام سليمان (ع) خطابا لقومه بعد ما ذكر الهدهد أهل سبا وسجدتهم للشّمس أو من الله خطابا لقوم سليمان (ع) ، وقرئ بتشديد اللّام وحينئذ يجوز ان يكون ان تفسيريّة ولا يسجدوا نهيا وتفسيرا لقوله تعالى : صدّهم فانّ الصّدّ القولىّ في معنى القول كأنّه قيل : صدّهم بقول اى لا يسجدوا ، وان يكون ان ناصبة بدلا من أعمالهم أو بتقدير اللّام أو الباء متعلّقا بيسجدون أو زيّن أو صدّهم أو لا يهتدون ، أو لفظة لا زائدة وهو بتقدير الى متعلّق بيهتدون ، أو بدون التّقدير بدل من السّبيل والمعنى فصدّهم عن السّبيل عن السّجدة (لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ) الخبأ بالفتح والسّكون مصدر في معنى ما يخفى أو مشترك بين المصدر والوصف بمعنى المفعول كالخبيء (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).

اعلم ، انّ السّماوات تطلق على الكرات العلويّة المحيطة بالأرض المشهودة بحركات كواكبها ، وعلى نفس الكواكب وعلى المجرّدات عن المادّة من عالم المثال الى عالم المشيّة ، والأرض تطلق على الأرض المحسوسة الواقعة في حيّز المركز ، وعلى جملة المادّيّات من البسائط والمواليد علويّة كانت أم سفليّة ، وعلى مراتب الموادّ من الهيولى الاولى الى البشريّة الّتى تعدّ سبعا ويعبّر عنها بالأراضي السّبع وعلى معنى يشمل المثاليّات العلويّة والسّفليّة وجملة الاستعدادات القريبة والبعيدة الّتى كانت للموادّ ، والمواليد في الحقيقة وجودات ضعيفة للمستعدّ لها فهي المستعدّ لها المستورة في الموادّ والمواليد لعدم بروزها بعد بحدودها ووجوداتها القويّة وجميع الفعليّات الفائضة من العلويّات والجهات الفاعلة على المادّيّات والجهات القابلة موجودة بنحو الإجمال والبساطة في الجهات الفاعلة لكنّها مختفية بنحو التّفصيل والتّميز ومن حيث وجوداتها الخاصّة في الجهات الفاعلة فلا اختصاص للمخبوءات بالحبوب والعروق المختفية تحت الأرض ولا بالكواكب المختفية في السّماء وقد أشير بالفارسيّة الى ما أشرنا بقوله :

اى كه خاك شوره را تو نان كنى

واى كه نان مرده را تو جان كنى

عقل وحس را روزى وايمان دهى

اى كه خاك تيره را تو جان دهى

ميكنى جزو زمين را آسمان

ميفزائى در زمين از اختران

(وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ) من الأفعال والأحوال والأقوال والنّيّات والعزمات والخيالات والخطرات والمكمونات الّتى لا شعور لكم بها (وَما تُعْلِنُونَ) كذلك ، وقرئ الفعلان بالغيبة يعنى الّا يسجدوا لله الّذى يستحقّ العبادة لكمال دقّته ولطفه في العمل بحيث يخرج جميع مكمونات الأرواح والأجساد فيخرج جميع مكمونات وجودكم ويجازيكم عليها ولكمال دقّته ولطفه في العلم بحيث يعلم جميع ما تخفونه علمتموها أو لم تعلموها وجميع ما تعلمونه فيجازيكم عليها (اللهُ) خبر الّذى أو بدل منه أو مبتدء خبره (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) الى هاهنا آخر حكاية قول الهدهد أو آخرها يهتدون أو الا يسجدوا على تخفيف اللّام ابتداء كلام من الله أو من سليمان (ع) أو الا يسجدوا لله آخر الحكاية والّذى يخرج الخبأ ابتداء كلام كذلك ، أو الله لا اله الّا هو ابتداء كلام من الله ، أو من سليمان (ع) (قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ) في هذا الاخبار (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ) لم يقل أم كذبت لانّه قلّما ينفكّ المخبر عن زيادة ونقيصة في حكايته وليس مقصوده (ع) النّظر في انّه ادخل في اخباره كذبا بل مقصوده ان ينظر انّه كذب وهو متعمّد في كذبه أو صدق في أصل اخباره دخل فيه كذب ما أو لم يدخل (اذْهَبْ بِكِتابِي هذا) قد سبق مكرّرا انّ أمثال هذه

١٧٢

مستأنف وجواب لسؤال مقدّر (فَأَلْقِهْ) قرئ بسكون الهاء تشبيها لهاء الضّمير بالواو والياء الضّميرين ، أو تشبيها لها بهاء السّكت أو اجراء للوقف مجرى الوصل (إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ) بإخفاء حالك عنهم حتّى تتمكّن من استماع قولهم (فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ) يتكلّمون بعضهم لبعض ، وقيل : الكلمتان على التّقديم والتّأخير والأصل فانظر ماذا يرجعون ثمّ تولّ عنهم للذّهاب إلينا وإيصال خبرهم ، قيل : قال الهدهد انّها في حصن منيع قال سليمان (ع) : ألق كتابي على قبّتها ، فجاء الهدهد فألقى الكتاب في حجرها فارتاعت من ذلك وجمعت جنودها ، وقيل : أتاها الهدهد وهي مستلقية على قفاها فألقى الكتاب على نحرها ، وقيل : كانت له كوّة مستقبلة للشّمس تقع الشّمس عند ما تطلع فيها فاذا نظرت إليها سجدت ، فجاء الهدهد الى الكوّة فسدّها بجناحيه فارتفعت الشّمس ولم تعلم فقامت تنظر فرمى الكتاب إليها ، فلمّا قرأت الكتاب جمعت الاشراف وهم يؤمئذ ثلاثمائة واثنا عشر قيلا (١) (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ) سمّاه كريما لختمه ، أو لجودة مضمونه ، أو لتصدّره ببسم الله ، أو لغرابته من حيث انّه القى اليه مع انّه لم يكن لأحد في حصنه مدخل ومخرج ، أو لجلالة مرسلة (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) اى منقادين أو مقدّرين للإسلام الّذى هو دين الهىّ (قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ) قالت ذلك لانّهم كانوا وزراءها وأصحاب شورها وبمنزلة أعضاء دولتها (قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ) نقدر على القتال مع السّلاطين من حيث قوّة الأبدان ومن حيث العدد وتهيّة الأسباب (وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) يعنى بأسنا في القتال شديد لانّا شجعان وتدرّ بنا القتال ولنا الحذاقة والمهارة في امر القتال (وَ) لكن (الْأَمْرُ) اى امر الصّلح والقتال (إِلَيْكِ) ونحن مطيعون لك (فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ قالَتْ) بطريق الشّورى (إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً) يعنى انّهم ان غلبونا أفسدوا بلادنا وأذلّوا اعزّتنا (وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ) تأكيد للتّفصيل السّابق أو معترضة من الله لتصديقها وكأنّه تأثّر قلبها من الكتاب ولان للصّلح وأراد ان يستميل قومها للصّلح بطريق الشّور لا بطريق الأمر (وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) لانّها كانت تعلم عادة الملوك وانّهم يرضون بالهدايا ، فقالت : نرسل اليه بهديّة فان قبلها فهو سلطان يريد الملك ويجوز المقاتلة معه ، وان ردّها واصرّ على طلب ما أظهر من الدّين فهو رسول الهىّ وليس لنا ان نقاتل معه ، واختلف في هديّتها فقيل : كانت وصفاء ووصائف ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى ، وقيل : ألبست الغلمان لباس الجواري والجواري لباس الغلمان ، وقيل : كانت صفائح من ذهب في أوعية من الدّيباج ، وقيل : كانت خمسمائة غلام جعلتهم في لباس الجواري وحليّهنّ ، وخمسمائة جارية جعلتهنّ في لباس الغلمان وحليّهم ، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برزون ، على كلّ فرس لجام من ذهب مرصّع بالجواهر ، وبعثت اليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة من فضّة ، وتاجا مكلّلا بالدّرّ والياقوت ، وعمدت الى حقّة فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة وخرزة جزعيّة مثقوبة معوجّة الثّقب ودعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمر وضمّت اليه رجالا من قومها أصحاب رأى وعقل وكتبت اليه كتابا بنسخة الهديّة وقالت فيها : ان كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء والوصائف ، وأخبر بما في الحقّة قبل ان تفتحها ، واثقب الدّرّة ثقبا مستويا ، وادخل الخرزة خيطا من غير علاج انس ولا جنّ فانطلق الرّسول بالهدايا ، واقبل الهدهد مسرعا الى سليمان (ع) فأخبره الخبر فأمر سليمان (ع) الجنّ

__________________

(١) القيل بفتح القاف مخفّف قيّل كسيّد النّافذ القول.

١٧٣

ان يضربوا لبنات الذّهب ولبنات الفضّة ففعلوا ثمّ أمرهم ان يبسطوا من موضعه الّذى هو فيه الى بضع فراسخ ميدانا واحدا بلبنات الذّهب والفضّة ، وان يجعلوا حول الميدان حائطا شرفها من الذّهب والفضّة ، ففعلوا ، ثمّ قال للجنّ : علىّ بأولادكم فاجتمع خلق كثير فأقامهم على يمين الميدان ويساره ، ثمّ قعد في مجلسه على سريره ووضع له اربعة آلاف كرسىّ عن يمينه ومثلها عن يساره وامر الشّياطين ان يصطفّوا صفوفا فراسخ ، وامر الانس فاصطفّوا فراسخ ، وامر الوحوش والسّباع والهوامّ والطّير ، فاصطفّوا فراسخ عن يمينه ويساره ، فلمّا دنا القوم من الميدان ونظروا الى ملك سليمان تقاصرت إليهم أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا ووقفوا بين يدي سليمان (ع) ونظر إليهم نظرا حسنا ، وكانت بلقيس اوصتهم ان نظر إليكم نظر غضب فانّه سلطان وان نظر نظر لطف فهو نبىّ ، وقال سليمان (ع) : ما وراءكم؟ ـ فأخبره رئيس القوم بما جاؤا به وأعطاه كتاب الملكة ، فنظر فيه وطلب الحقّة ، وأخبرهم بما فيه ، وثقب الدّرّة بالارضة ، وسلك الخيط في الخرزة بدودة بيضاء ، وميّز بين الجواري والغلمان ، وردّ هداياها إليها كما قال تعالى (فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللهُ) وقد رأيتم شطرا منه (خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ) يعنى انّكم بهديّة بعضكم لبعض تفرحون إذا كان من الاعراض الدّنيويّة لا انا لانّ فرحى بهديّة القلب السّليم والايمان الصّحيح (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ) ولم يذكر رجوع الهدايا لعدم الاعتداد بها (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها) وقد رأيتم شيئا منها (وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها) اى من سبا أو من عند بلقيس (أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) تأكيد للاذلّة فلمّا رجعوا إليها وقصّوا القصّة علمت انّه رسول من الله وعزمت على الخروج الى سليمان (ع) فلمّا علم بعزمها ورأى انّ قلبها متعلّق بعرشها (قالَ) لاشراف جنوده (يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ) وقيل : انّ هذا القول كان منه بعد ما وصل بلقيس الى مكان قريب منه فانّه كان مهيبا لا يبتدئ بالكلام عنده حتّى يكون هو الّذى يسأل عنه فخرج يوما فجلس على سريره فرأى غبارا قريبا منه فقال : ما هذا؟ فقالوا بلقيس يا رسول الله وقد نزلت منّا بهذا المكان وكان ما بينه وبين الكوفة على قدر فرسخ فقال : ايّكم يأتيني بعرشها عند ذلك (قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِ) العفريت بكسر العين النّافذ في الأمر المبالغ فيه مع ذكاء وفطنة (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ) اى من مجلسك الّذى تقضى فيه وكان يجلس فيه ، من غدوة الى نصف النّهار (وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌ) فلا يفوتني شيء من اجزائه بل آتيك به بجميع اجزائه من غير ان افصل اجزاءه (أَمِينٌ) لا أخون في شيء منه فقال سليمان (ع) : أريد أسرع من ذلك (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ) يسير (مِنَ الْكِتابِ) القرآنىّ التّكوينىّ الّذى يتنزّل فيصير فرقانا بصورة الكتب السّماويّة أو بصورة الشّرائع الالهيّة والرّجل كان آصف بن برخيا وزير سليمان (ع) وابن أخته ، وقيل : كان رجلا اسمه بلخيا ، وقيل : كان اسمه اسطوم ، وقيل : كان هو الخضر (ع) ، وقيل: كان الّذى عنده علم من الكتاب جبرائيل ، وقيل : كان سليمان (ع) نفسه (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) قد حقّقنا في مطاوى ما أسلفنا خصوصا في اوّل سورة بنى إسرائيل انّ الإنسان ذو جزئين ، جزء ملكىّ وجزء ملكوتىّ فاذا غلب الجزء الملكىّ كما في أغلب النّاس استهلك الجزء الملكوتىّ وحكمه فلم يظهر منه اثر وحكم ، وإذا غلب الجزء الملكوتىّ صار الجزء الملكىّ مستهلكا من غير بقاء اثر وحكم منه ، ولمّا كان الملكوت حكمها عدم التّقيّد بالزّمان والمكان بل الاحاطة بهما والتّجرّد منهما كان جميع الزّمانيّات والازمنة عندها كالآن وجميع المكانيّات والأمكنة كالنّقطة وكان من غلب عليه الملكوت يقدر على تعرّف حال الآتين والماضين ، وعلى سير المشرق والمغرب في آن واحد ، وكان كلّ ما اتّصل به من الأجسام الثّقيلة يصير بحكمه من عدم التّقيّد بزمان ومكان كما انّ عباء محمّد (ص) ونعليه خرجت من حكم الملك بسبب اتّصالها به وسارت بسيره في الملكوت والجبروت

١٧٤

بل فوق الإمكان ، إذا علمت ذلك ، فاعلم انّ آصف (ع) علم الاسم الأعظم الّذى هو لطيفته الملكوتيّة ودعا الله تعالى بتلك اللّطيفة يعنى انّه تشأّن بشأن تلك اللّطيفة وفعل فعله بشأن تلك اللّطيفة فصار ملكه مغلوبا لا حكم له ، فلم يكن المسافة بينه وبين عرش بلقيس مانعة من اتّصال يده الملكوتيّة به ولا الجبال والتّلال حائلة بين نظره ويده وبين العرش ، وبعد اتّصال يده بالعرش صار العرش بحكم الملكوت وارتفع عن الزّمان والمكان فلم يبق له حاجة في حركته الى مدّة ومضىّ زمان ولم يكن الجبال والتّلال مانعة من حركته فوصل يده الى العرش وأتى به في آن واحد وهذا معنى قوله : قبل ان يرتدّ إليك طرفك يعنى في اقصر من طرفة العين لا ما قالوه وفسّروه به (فَلَمَّا رَآهُ) يعنى مدّ يده وأتى به في اقلّ من طرفة العين فلمّا رآه سليمان (ع) (مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ) إظهارا لانعام الله ورؤية للمنعم في الانعام (هذا) اى إتيان وزيري به قبل طرفة العين (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) علىّ (لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) هذه النّعمة أو مطلق نعمه (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عنه وعن شكره (كَرِيمٌ) لا يمنع من كفر انعامه ويزيد من شكر افضاله ، واختلف في وجه الإتيان بعرشها ، فقيل : انّه أعجبته صفته فأراد ان يراه واحبّ ان يملكه قبل ان تسلم فيحرم عليه أخذ مالها ، وهذا شبيه بأقوال العامّة ، أو أراد ان يختبر بذلك عقلها وفطنتها ، أو أراد ان يظهر معجزة عليها حين ورودها لانّها خلّفته في دارها وأوثقته ووكلت به ثقاة ، وقيل : كانت بلقيس محبّة لها ، فأراد ان لا يكون قلبها متعلّقا بغيره وقت الورود (قالَ) سليمان (ع) (نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) بتغيير هيئتها وصورتها وكان منظوره استخبارها كما قال (نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي) الى معرفته (أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) أو المعنى ننظر أتستدلّ بحضور العرش على صدقى ونبوّتي وقدرة الله أم لا تهتدى (فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ) لها (أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) لم تثبته ولم تنكره لما رأت من مماثلته له في جميع اجزائه وأوضاعه وهيآته ، ولما رأت من بعض تغييرات فيه بحسب ألوانه واشكاله ، وهذا من كمال العقل والحزم حيث لم تتبادر بتصديق وتكذيب وتثبّتت في امره ، وقيل : عرفته لكن لمّا قالوا : أهكذا عرشك بطريق التّشبيه أجابت بقولها : كأنّه هو بطريق التّشبيه لتطابق الجواب للسّؤال ، وقيل : كانت حكيمة فلو قالت : هو هو ، خشيت التّكذيب ، ولو قالت : ليس به ، خشيت ان تكذب ، فقالت كلمة لا تكذّب فيها ، فقيل لها : هو عرشك ، فما اغنى عنك إغلاق الأبواب ولا قوّة الحرّاس واهتمامهم بالحراسة وما اعجزنا بعد المسافة ولا عظمة العرش وثقله ، فقالت (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) برسالة سليمان (ع) وانّ امره الهىّ غير بشرىّ (مِنْ قَبْلِها) اى من قبل تلك الآية الظّاهرة لنا من العرش وإتيانه ، أو من قبل هذه السّاعة ، ويجوز ان يكون هذا من كلام سليمان (ع) أو الّذى قال : أهكذا عرشك ، أو قوم سليمان والمعنى وأوتينا العلم بقدرة الله على أمثال هذه قبل هذه الآية أو قبل بلقيس ، أو أوتينا العلم بمجيء بلقيس أو إسلامها قبل مجيئها فأتينا بعرشها (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) اى صدّ بلقيس سليمان أو العرش حين رأته حاضرا عندها عن كونها تعبد من دون الله أو عن الّتى تعبدها من دون الله وهي الشّمس أو صدّها عن الايمان كونها تعبد من دون الله ، أو الّتى تعبدها من دون الله (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) في موضع التّعليل وبعد ما انقضى السّؤال والجواب عن العرش (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) الصّرح هو الموضع المنبسط من غير سقف ، وقيل : انّه قصر من زجاج ، وقيل : كلّ بناء من زجاج أو صخر أو غير ذلك موثّق فهو صرح ، قيل : لمّا أقبلت بلقيس امر سليمان (ع) الشّياطين ببناء الصّرح من قوارير واجرى تحته الماء وجمع في الماء الحيتان والضّفادع ودوابّ البحر ثمّ وضع له فيه سرير فجلس عليه (فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً) قيل قالت : ما وجد ابن داود (ع) عذابا يقتلني به الّا الغرق وانفت ان تجبن فلا تدخل (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) فلمّا رآها سليمان (ع) وكان عليهما شعور كرهتها سليمان فاستشار الجنّ في ذلك فعملوا

١٧٥

الحمّامات وطبخوا النّورة وكان اوّل ما صنعت النّورة (قالَ) لها سليمان (ع) : ليس هاهنا ماء (إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) مملّس (مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ) بعد ما علمت انّها أساءت الظّنّ بنبىّ الله (ع) (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالظّنّ السّوء بنبيّك (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) وللاشارة الى ضعفها وعدم استقلالها بإسلامها قال : أسلمت مع سليمان (ع) واختلف في أمرها ، فقيل : انّه تزوّجها سليمان واقرّها على ملكها ، وقيل : انّه زوّجها من ملك يقال له تتّبع وردّها الى أرضها ، وامر أميرا من أمراء الجنّ باليمن ان يطيعه ويعمل له ، فصنع له المصانع باليمن (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ) مؤمنون وجاحدون (يَخْتَصِمُونَ قالَ) صالح (ع) لهم بعد ما قالوا فأتنا بما تعدنا ان كنت من الصّادقين (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعذاب (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) اى قبل سؤال الرّحمة (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) لولا تطلبون مغفرته وعفوه عمّا فعلتم (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) منه (قالُوا اطَّيَّرْنا) تشأمّنا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) يعنى انّك منذ ادّعيت ما ادّعيت وأتيت بدين جديد ابتلينا بالقحط والجدب والأمراض وليس الّا بشؤم دينك الجديد ، وقد مضى في سورة الأعراف وجه اطلاق التّطيّر على التّشأّم (قالَ) لهم صالح (ع) (طائِرُكُمْ) اى سبب خيركم وشرّكم أو سبب شرّكم (عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بالخير والشّرّ لعلّكم تذكّرون انّ هذه بشؤم أعمالكم فتلتجؤن الى الله وتصدّقون رسوله (ع) ، أو المعنى أنتم قوم تعذّبون بتلك البلايا بشؤم أعمالكم (وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ) مدينة صالح (ع) (تِسْعَةُ رَهْطٍ) الرّهط ويحرّك قوم الرّجل وقبيلته وتكون من ثلاثة أو سبعة الى عشرة أو ما دون العشرة ولا واحد له من لفظه وكان هذه الارهط من أشراف قوم صالح (ع) وهم الّذين سعوا في عقر النّاقة (يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) ارض مدينتهم ونواحيها وارض عالمهم الصّغير (وَلا يُصْلِحُونَ) حتّى يجعل إصلاحهم جبرانا لإفسادهم (قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ) امر ومقول للقول أو ماض وبدل من قالوا أو حال من فاعله والمعنى تحالفوا بالله لئلّا يتخلّف بعض (لَنُبَيِّتَنَّهُ) اى لندخلنّ عليه في اللّيل لقتله (وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ) اى ولىّ دمه قرئ الفعلان بالنّون وفتح الآخر وبالتّاء وضمّ الآخر (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) هلاكهم أو وقت هلاكهم أو مكان هلاكهم يعنى ما علمناه فكيف بتولّينا وانّما قالوا مهلك اهله ولم يقولوا مهلكه اشعارا بانّ مهلكه أصعب من مهلك اهله ومن لم يشهد مهلك اهله لم يشهد مهلكه بالطّريق الاولى ، أو ورّوا بذلك وكان مقصودهم ما شهدنا مهلك اهله فقط بل مهلكه ومهلك اهله ولذا قالوا (وَإِنَّا لَصادِقُونَ وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) تسمية فعل الله بالمكر امّا من باب صنعة المشاكلة أو للتّشبيه بمكر العباد والّا فالماكر لعجزه عن إعلان الاساءة يخفى الاساءة ويظهر ارادة الإحسان ليقدر على إنفاذ إساءته والحقّ تعالى شأنه ليس عاجزا عن إنفاذ مراده حتّى يخفيه لعجزه (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإساءتنا المختفية (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) قرئ بكسر الهمزة على الاستيناف بجعله جوابا لسؤال مقدّر ، وقرئ بفتح الهمزة على ان يكون بتقدير اللّام أو الباء أو في ، أو على ان يكون بدلا من اسم كان أو خبرا لكان وكيف يكون حينئذ حالا أو على ان يكون انّا دمّرناهم خبر مبتدء محذوف (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) قيل كان لصالح (ع) بالحجر الّتى هي بلاد ثمود مسجد في شعب يصلّى فيه وقد وعدهم نزول العذاب بعد ثلاثة ايّام فقال التّسعة الارهاط يزعم انّه يفرغ منّا بعد ثلاثة فانّا نفرغ منه ومن اهله قبل الثّلاثة فذهبوا الى الشّعب ليقتلوه فوقع عليهم صخرة فطبّقت عليهم فم الشّعب فهلكوا ثمّ وهلك الباقون في أماكنهم بالصّيحة (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً) من خوى الدّار مكسور العين ومفتوحها إذا خلت ، أو من خوت مفتوح العين فقط إذا تهدّمت ، وقيل : انّ هذه

١٧٦

البيوت بوادي القرى بين المدينة والشّام (بِما ظَلَمُوا) بظلمهم وفي هذه الآية دلالة على انّ الظّلم يخرب البيوت (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) خرابها ، أو يعلمون قصصهم أو لهم علم وعقل (وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) به أو بالله (وَكانُوا يَتَّقُونَ) يعنى صار سجّيتهم التّقوى لانّ تخلّل كان يفيد هذا المعنى ، قيل : كانوا اربعة آلاف خرج بهم صالح (ع) الى حضر موت وسمّيت حضر موت لانّ صالحا (ع) لمّا دخلها مات (وَلُوطاً) عطف على مجموع الى ثمود صالحا (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الّتى هي إتيان الذّكور (وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) بصراء ، أو تعلمون قبحه ، أو ترون بعضكم من بعض (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ) بدل تفصيلىّ من قوله أتأتون الفاحشة (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تفعلون افعال الجهّال أو تجهلون قبح هذه الأفعال وسوء عاقبتها ، أو تجهلون القيامة والدّار الآخرة ، أو أنتم صاحبوا الجهل (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) لمّا لم يكن لهم جواب بالحجّة هدّدوه بالقتل والإخراج ، ولمّا لم يكن لوط (ع) من أهل قريتهم قالوا أخرجوه وعلّلوه بطهارتهم عن مثل أفعالهم.

الجزء العشرون

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) اى كونها (مِنَ الْغابِرِينَ وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) عجيبا وهو مطر الحجر (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) بعد ما ذكر قصص الأنبياء (ع) وما خصّهم به من الآيات الدّالّة على صدقهم وقدرة الله وحكمته ومن الانتصار لهم من أعدائهم امر الرّسول (ص) بالحمد شكرا لنعمه الّتى أنعم بها على رسله لانّ انعام الرّسل كان مقدّمة لارساله وانعاما عليه (وَسَلامٌ) عطف على (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يعنى وقل سلام (عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) لانّك علمت تخصيص الله ايّاهم (ع) من بين العباد فحيّهم بتحيّة خواصّ الله ، أو مستأنف من الله تحيّة لرسله (ع) (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) اى أقوام الرّسل (ع) من الأصنام والكواكب والعجل والملائكة والشّياطين والاهوية (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أم منقطعة متضمّنة للاستفهام ، ومن موصولة بدل من الله ، ولمّا كان المقصود إلزامهم على انّ الله خير ممّا يشركون وانّهم في اختيار غير الله عليه سفهاء وكان ما بعد أم في تلك الفقرات الآتية أوضح في هذا المعنى وأبلغ اضرب عن قوله الله خير أم ما يشركون وقال بل من خلق السّماوات والأرض خير أم ما يشركون ، ويجوز ان يكون من استفهاميّة وأم منقطعة غير متضمّنة للاستفهام ويكون الكلام مستأنفا (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) رياضا وبساتين (ذاتَ بَهْجَةٍ) ذات منظر صحيح يبتهج به ، والتفت الى التّكلّم للاشعار بانّ إنبات الحبوب واللّبوب والعروق الّتى هي جماد وانماؤها وإخراج الأوراق والغصون والاثمار عليها خارج عن عهدة الأسباب الطّبيعيّة من دون حضور الله وأسبابه الغيبيّة ، وللاشارة الى انّ النّاظر الى الأسباب ينبغي ان يكون نظره إليها بحيث ينتقل منها الى مسبّب الأسباب فاذا نظر الى سبب أو سببين ينبغي ان ينتقل الى المسبّب وتمثّل وحضر عنده المسبّب (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) وان كنتم في غاية الاهتمام وفي غاية التّدبير والتّربية فانّه لو لم يختلف عليها الايّام واللّيالى ولم يكن حرّ النّهار وبرد اللّيالى ما نبتت وما نمت ، وتخلّل كان في أمثال هذا لنفى الصّحّة والإمكان اى ما صحّ وما أمكن لكم (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) ممّا يعدّونه إلها (بَلْ) ليس اله مع الله ف (هُمْ قَوْمٌ

١٧٧

يَعْدِلُونَ) بالله غيره أو يعدلون عن الحقّ (أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) يمكن لكم التّعيّش عليها ويمكن لكم تحصيل معايشكم منها (وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً) هي عمدة أسباب معايشكم (وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) بسببها يمكن جريان الأنهار وتوليد المياه وبها سكون الأرض ، هذا بحسب التّنزيل وبحسب التّأويل لا يكون لكم خير ولا شرّ ولا قليل ولا كثير الّا بها ولولاها لفنى الكلّ ولم يبق ذرّة من الذّرّات (وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً) مانعا من اختلاط الماء العذب بماء الملح الأجاج وبحسب التّأويل جعل بين عالم الشّرور وعالم النّور حاجزا مانعا من اختلاط عالم الزّور وإفساده لكم ولعالمكم وقد مرّ في سورة الفرقان بيان البحرين وحاجزها (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) ليس لهم علم وملحقون بالبهائم أو أكثرهم لا يعلمون الله وصفاته (أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ).

معنى المضطرّ

اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار مادّته في مقرّها الّذى هو الرّحم جماد بالفعل ، ونبات بالقوّة القريبة ، وحيوان بالقوّة البعيدة ، وإنسان طبيعىّ ملكىّ بالقوّة الّتى هي ابعد ، وإنسان ملكوتىّ وجبروتىّ بالّتى هي ابعد ، ولكنّه في تلك الحال يقتضي بفطرته القرار في الرّحم والاغتذاء بدمها وسائر رطوباتها ويتشبّث بها ويجذب من رطوباتها ، ثمّ يصير نباتا بالفعل ، ثمّ حيوانا مثل حيوانيّة الخراطين حتّى يتولّد فيصير حيوانا بالفعل وإنسانا ملكيّا بالقوّة حتّى إذا بلغ الى مقام التّميز والمراهقة فيصير إنسانا ضعيفا بالفعل وكذلك شيطنته تكون ضعيفة وقوّته الشّهويّة والغضبيّة تكون قويّة بحيث تغلب الانسانيّة والشّيطانيّة ، وبشهوته يطلب المشتهى ويجذبه ، وبغضبه يدفع من يمانعه عنه ويغضب عليه ، وبشيطانيّته الضّعيفة يحتال في تحصيله حيلا ضعيفة ، وبانسانيّته الضّعيفة يخجل من ظهور بعض أفعاله خجلة ضعيفة ، فاذا بلغ الى مقام البلوغ والرّشد واستعدّ لتعلّق التّكليف به صار انسانيّته وشيطانيّته قويّتين كما انّ شهوته وغضبه يصيران قويّين ، وبشهوته القويّة يشتدّ طلبه لمشتهياته ، وبغضبه القوىّ يشتدّ دفعه وغضبه على من يمانعه ، وبشيطنته القويّة يشتدّ حيلته في طلبه ، وبانسانيّته يشتدّ انزجاره وخجلته عمّا ينافي انسانيّته ، فان ساعده التّوفيق ودعاه الدّاعى الالهىّ دعوة ظاهرة أو دعوة باطنة وقبل الدّعوة وبايع البيعة العامّة أو البيعة الخاصّة وصار مسلما أو مؤمنا وعمل بما أخذ عليه في بيعته صار انسانيّته في الاشتداد وسلك الى الله وأدبر عن العالم وأسبابه ، حتّى انّه يقطع النّظر عن الأسباب ويتوجّه بشراشره الى مسبّب الأسباب ، وهذا اضطرار تكليفىّ فانّ الاضطرار هو قطع النّظر عن الوسائل والأسباب والتّوجّه الى مسبّب الأسباب والتّوسّل به واليه أشار الصّادق (ع) بقوله : فالاضطرار عين الدّين ، وقد مضى تفصيل للدّعاء وطريقه في سورة البقرة عند قوله تعالى : (إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) ، وإذا لم يتمسّك بذيل نبىّ (ع) أو وصىّ نبىّ (ع) ولم يبايع بيعة اسلاميّة أو بيعة ايمانيّة كان قواه البهيميّة والسّبعيّة والشّيطانيّة في الاشتداد وقوّته الانسانيّة في الضّعف في أغلب النّاس وفي أغلب الأوقات حتّى يختفى الانسانيّة تحت القوى الثّلاث ويكون الحكم لتلك القوى والآثار منها فقط لكن هذا الإنسان قد يبتلى حتّى يعجز الشّيطنة عن الاحتيال وييأس الشّهويّة عن المشتهى والآمال ويحسر الغضبيّة عن الدّفع والبسط فانّ المدركة تدرك المشتهى والشّيطنة باستعمال المتخيّلة وإظهار الواهمة والخيال الصّور والمعاني عليها تتصرّف وتحتال للوصول اليه وتحرّك العمّالة لطلبه ، وإذا وجدت مانعا ودافعا لها عن الوصول حرّكت الغضبيّة لدفعه فان تيأس عن الوصول سكنت المتخيّلة عن الحركة والتّصرّف ، والواهمة والخيال عن إظهار المعاني والصّور ، والعمّالة عن الطّلب ، والشّهوة والغضب عن الاشتهاء والدّفع ، وحينئذ يظهر الانسانيّة من غير حاجب ومعاوق ولمّا كان فطرتها التّضرّع والالتجاء الى الله والسّؤال منه تضرّعت بفطرتها والتجأت وسألت ، وهذا هو الاضطرار التّكوينىّ الفطرىّ وكلا الاضطرارين لمّا كان مظهرا لانسانيّة الإنسان وكان اللّطيفة السّيّارة الانسانيّة لطيفة الهيّة كان لسانها لسان الله وسؤالها سؤال الله وسؤال الله من نفسه لا يردّ بل يجاب ، والى هذا الاضطرار

١٧٨

وكون لسان الدّاعى حين الاضطرار لسان الله أشار المولوىّ قدس‌سره بقوله :

هم دعا از من روان كردى چو آب

هم ثباتش بخش وگردان مستجاب

هم تو بودى اوّل آرنده دعا

هم تو باش آخر أجابت را رجا

چون خدا از خود سؤال وكدّ كند

پس سؤال خويش را كى ردّ كند

هم دعا از تو أجابت هم ز تو

ايمنى از تو مهابت هم ز تو

وهذا المضطرّ ان كان اضطراره تكليفيّا غلب لا محالة على القوى الثّلاث وملكهم في الصّغير وإذا ملك في العالم الصّغير ينتهى مالكيّته الى المالكيّة في العالم الكبير وليست هذه المالكيّة وتلك الاجابة الّا من الله تعالى وان كان اضطراره تكوينيّا وبقي على اضطراره انتهى اضطراره الى الاضطرار التّكليفىّ ، والاضطرار التّكليفىّ يصير سببا للمالكيّة والاستخلاف في العالمين (وَيَكْشِفُ السُّوءَ) اجابة لدعائه ، والسّوء اعمّ من الواردات الغير الملائمة لانسانيّة الإنسان وحيوانيّة ومن تبعات الذّنوب ومن النّقائص اللّازمة له من الانانيّة والحدود (وَيَجْعَلُكُمْ) التفت من الغيبة الى الخطاب للاشعار بانّ المضطرّ إذا صار أهلا للخلافة يصير له حالة الحضور والتّخاطب وبدون حصول حالة الحضور له لم يكن له شأنيّة الخلافة (خُلَفاءَ الْأَرْضِ) خلفاء ارض العالم الصّغير والكبير كما ذكر ، وامّا التّفسير بخلافة الماضين بإيراث أرضهم وأموالهم فلا يناسب ذكره بعد اجابة المضطرّين وكشف السّوء عنهم خصوصا على ما ورد عنهم انّ الواو في القرآن للتّرتيب ، عن الصّادق (ع) انّ الآية نزلت في القائم من آل محمّد (ص) هو والله المضطرّ إذا صلّى في المقام ركعتين ودعا الله عزوجل فأجابه ويكشف السّوء ويجعله خليفة في الأرض (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما) اى تذكّر قليلا أو شيئا قليلا اىّ قليل من آلاء الله (تَذَكَّرُونَ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) بإعطاء القوى والمشاعر وانضباط الكواكب في حركاتها (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ) كرّر من لانّ إرسال الرّياح جنس سوى جنس الهداية (بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بتسبيب الأسباب السّماويّة من اشعّة الكواكب وتخالف اللّيل والنّهار وتحريك السّحاب وإنزال الأمطار ، أو المراد سماء عالم الأرواح ورزق الإنسان من العلوم والأحوال والأخلاق والمكاشفات (وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) يعنى انّ هذه الأفعال لا يجوز ان تنسب الى معبوداتكم وهذه هي افعال الله فلا يجوز ان يكون شيء من معبوداتكم شريكا له تعالى في ذلك ، وإذا لم يكن شريكا له تعالى في ذلك لم يكن شريكا له في العبادة ، فانّ استحقاق العبادة ليس الّا بهذه (قُلْ) يا محمّد (ص) (لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ).

معنى الغيب

اعلم ، انّ السّماء تطلق على ما له علوّ وارتفاع وتأثير فيما دونه ، والأرض تطلق على ما له دنوّ وانفعال ، وهذان المعنيان لا اختصاص لهما بالسّماء والأرض الطّبيعيّتين بل جملة عالم الأرواح بهذا المعنى سماوات وجملة عالم الأجسام الملكيّة والملكوتيّة العلويّة والسّفليّة أراض ، والغيب ما كان غائبا عن نظر من كان ذلك الغيب غيبا له سواء كان مشهودا حاضرا لغيره أو لم يكن ، والمراد بمن في السّماوات والأرض من كان متحدّدا بحدودهما غير خارج من حجب تعيّناتهما ، فانّ الإنسان الملكىّ هو الّذى يكون محتجبا تحت حدود الملك ويكون إدراكاته مقصورة على المحسوسات فانّ المدرك في إدراكه لا بدّ وان يكون سنخا للمدرك بل متّحدا معه فالمدرك إذا كان ملكيّا كان مدركه أيضا ملكيّا وهذا المدرك يكون جميع ما في السّماوات من السّماوات الطّبيعيّة وسماوات الأرواح غيبا بالنّسبة اليه والإنسان الملكوتىّ لا يتجاوز إدراكه الملكوت ولا يكون مدركه مجرّدا صرفا ويكون

١٧٩

المجرّدات عن التّقدّر غيبا بالنّسبة اليه والإنسان الجبروتىّ المتّحد بحدود العقول لا يتجاوز إدراكه الى عالم المشيّة وعالم المشيّة غيب بالنّسبة اليه فصحّ ان يقال : لا يعلم جميع المتّحدّ دين بحدود سماوات الأرواح وأراضي الأشباح الغيب الّذى هو عالم الأسماء والصّفات الّا الله ويكون الاستثناء منقطعا ان خصّص لفظة من الموصولة بالممكنات ، أو متّصلا ان لم تخصّص

علم الائمّة (ع)

والاشكال بانّ الائمّة كانوا يعلمون علم ما كان وما هو كائن وما يكون الى يوم القيامة وانّ عليّا (ع) وأصحابه كانوا يعلمون علم المنايا والبلايا والأنساب غير وارد ، فانّهم غير من في السّماوات والأرض لعدم تحدّدهم بحدودهما لخروجهم الى مقام الإطلاق الّذى هو المشيّة وفي ذلك المقام لا فرق بينهم وبين حبيبهم فعلمهم في ذلك المقام علم الله ، وامّا سائر مقاماتهم المقيّدة بحدود السّماوات أو الأرض فانّهم في تلك المقامات يعلمون بتعليم الله اى بتعليم مقامهم المطلق الّذى لا فرق بينهم وبينه بمعنى انّهم في ذلك فانون من انانيّاتهم وباقون بوجود الله لا بوجوداتهم فهم يعلمون بعلم الله الغيب عن السّماوات والأرض ويعلّمون بتعليم الله سائر مقاماتهم المحدودة بحدودات المقامات النّازلة ، روى انّ أمير المؤمنين (ع) أخبر يوما ببعض الأمور الّتى لم يأت بعد فقيل له : أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب؟ ـ فضحك وقال : ليس هو بعلم غيب انّما هو تعلّم من ذي علم ، وانّما علم الغيب علم السّاعة وما عدّده الله سبحانه بقوله : (أَنَّ اللهَ عِنْدَهُ) (الآية) فيعلم سبحانه ما في الأرحام من ذكر أو أنثى ، وقبيح أو جميل ، وسخىّ أو بخيل ، وشقىّ أو سعيد ، ومن يكون للنّار حطبا أو في الجنان للنّبيّين مرافقا فهذا علم الغيب الّذى لا يعلمه الّا الله ، وما سوى ذلك فعلم علّمه الله نبيّه (ص) فعلّمنيه ودعا لي ان يعيه صدري وتضمّ عليه جوارحي ، وبعد ما سبق لا حاجة لك الى بيان أجزاء الحديث (وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ) اى في اىّ مقام من مقامات البعث (يُبْعَثُونَ) فانّ المحدود بحدّ من حدود السّماوات والأرض لا يعلم وقت قيامه من مرقد حدّه ولا مقام قيامه منه والمطلق من ذلك الحدّ يعلم وقت بعثه ومقامه بعلم الله لا بعلم نفسه (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) اى يفنى علمهم في الآخرة أو يتكامل ويتلاحق علمهم في الآخرة أو فنى علمهم في حقّ الآخرة بمعنى انّهم لا يعلمون شيئا من الآخرة أو تلاحق أسباب علمهم في حقّ الآخرة من الآيات والعلامات الدّالّة على وجود الآخرة ، قرئ بل ادّارك مغيّر تفاعل وبل أدرك من باب الأفعال ، وبل ادّرك من الافتعال وبل درك بفتح اللّام وسكون الدّال الخفيفة من باب الأفعال بنقل حركة الهمزة الى اللّام وحذفها وبل أدرك وبل أتدارك وبلى أدرك وبلى اءدرك وأم أدرك وأم تدارك (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) اى من الآخرة (بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ) فانّ الشّاكّ في شيء يتصوّر ذلك الشّيء ثمّ يشكّ في ثبوته أو يثبته أو ينفيه وهؤلاء كانوا عميانا من امر الاخرة لا يدركونها لا بالتّصوّر ولا بالتّصديق ، وترتّب الاضرابات ووجه ترتّبها بحسب معاني الإدراك موكول الى ذوق النّاظر (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالآخرة والبعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) جواب إذا محذوف وقوله أإنّا لمخرجون تأكيد للاوّل والتّقديرءاذا كنّا ترابا نخرج أإنّا لمخرجون (لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) ووعد آباؤنا من قبلنا أو من قبل وعدنا ولم يظهر منه شيء (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الأحاديث الّتى لا نظام لها والأسمار الّتى لا حقيقة لها جمع الاسطار جمع السّطر ، أو جمع الاسطار أو الاسطير بكسر الهمزة فيهما أو الاسطور بضمّ الهمزة بدون التّاء أو مع التّاء في الكلّ كما مضى سابقا (قُلْ) لهم (سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض الطّبع في العالم الكبير أو الصّغير أو السّر واخبار الماضين أو ارض القرآن واخبار الأنبياء والأولياء (ع) (فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) الّذين أجرموا بإنكار الآخرة ثمّ انكار الرّسل (ع) وعدم طاعتهم في امر الآخرة (وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ) يعنى انّك لغاية رحمتك تريد ان يكون جميع العباد مطيعين مرحومين وإذا لم يطيعوا ويستحقّوا

١٨٠