تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

١

سورة مريم

مكّيّة بتمامها ، وهي ثمان وتسعون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كهيعص) قد سبق في اوّل البقرة ما به غنية عن بيان أمثال هذا ، وذكر في خصوص هذا انّه أشار بالكاف الى كربلاء ، وبالهاء الى هلاكة أهل البيت ، وبالياء الى يزيد ، وبالعين الى عطشهم ، وبالصّاد الى صبرهم. ونسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قال في دعائه : اسألك يا كهيعص ، وقرئ بإخفاء نون عين والقياس إظهاره لانّ سكون الحروف المقطّعة في أوائل السّور عرضىّ بعرض الوقف بنيّة الوصل فلا ينبغي اجراء حكم السّكون والوصل عليها (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) قرئ ذكر مصدرا مرفوعا ، وفعلا ماضيا من الثّلاثىّ ، وامرا من التّفعيل ، وعلى الاوّل كان خبرا لما قبله أو لمحذوف أو مبتدء لمحذوف ، أو مبتدء خبره زكريّا ، أو خبره إذ نادى ، ورحمة ربّك ، فاعل المصدر مضاف اليه أو مفعوله ، والفاعل محذوف اى ذكر ربّك رحمة ربّك عبده ، أو الفاعل زكريّا أو رحمة ربّك ، مضاف اليه لأدنى ملابسة والفاعل مثل سابقه والمعنى ذكر ربّك برحمته عبده ، وعبده مفعول الذّكر أو الرّحمة وزكريّا بدل منه أو عطف بيان أو فاعل الذّكر أو مفعوله أو خبر منه ، وكون زكريّا خبرا للذّكر باعتبار انّ الكامل وجوده ذكر للرّبّ ، وزكريّا بالمدّ والقصر وتشديد الياء ، وكذا بتشديد الياء وتخفيفه بدون المدّ والقصر اسم (إِذْ نادى رَبَّهُ) إذ ظرف للذّكر أو للرّحمة أو مفعول للذّكر أو خبر له أو بدل من الرّحمة أو من عبده أو من زكريّا نحو بدل الاشتمال (نِداءً خَفِيًّا) لضعف الشّيخوخة أو لانّه كان أقرب الى الإخلاص أو لخوف اطّلاع الموالي على طلبه للولد ومعاندتهم له بذلك أو لخوف اطّلاع الخلق على طلبه للولد وقت اليأس عن الولد وملامتهم له على ذلك (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) إظهار لعجزه ومسكنته مقدّمة للدّعاء ، أو إظهار ليأسه عن الولد واتّكاله في دعائه على محض فضله من دون مدخليّة الأسباب الطّبيعيّة (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ) في الإرث الصّورىّ من التّضييع والنّزاع والخلاف ، أو في الإرث المعنوىّ من الاختلاف وتضييع العباد ، وهذا اشعار بانّ دعاءه خال من مداخلة الهوى مقدّمة للاجابة ، وقرئ خفت بضمّ التّاء من الخوف وخفت الموالي بكسر التّاء وتشديد الفاء من الخفّة يعنى خفّت الموالي (مِنْ وَرائِي) ولم يكن لهم حلم يمكنهم به تحمّل متاعب

٢

الهداية من العباد (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) إظهار ليأسه من الأسباب واتّكاله في دعائه على فضله ، والعاقر يستوي فيه المذكّر والمؤنّث (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ) لا من الأسباب ليأسى من الأسباب (وَلِيًّا) يلي أموري بحسب الظّاهر والباطن (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) قرئ بالرّفع والجزم ، وقرئ وارث آل يعقوب بنصب وارث وإضافته على ان يكون حالا من أحد الضّميرين ، وقرئ أو يرث آل يعقوب على التّصغير ، ووارث من آل يعقوب بالرّفع على ان يكون فاعل يرثني (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) مرضيّا (يا زَكَرِيَّا) جواب سؤال مقدّر بتقدير القول كأنّه قيل : ما قال في جوابه؟ ـ فقال : قال الله : يا زكريّا (إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ) ولد ذكر (اسْمُهُ يَحْيى) الجملة صفة للغلام أو جواب سؤال مقدّر (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) هذه صفة بعد صفة أو حال أو جواب لسؤال مقدّر والمراد بالسّميّ المشارك في الاسم ، أو المماثل في الوصف والحال (قالَ) قد تكرّر فيما سلف انّ أمثال هذه جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما قال زكريّا (ع)؟ ـ فقال : قال (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استفهام للتّعجّب ، واستغرابه كان من قبل الأسباب لا من عطاء مسبّب الأسباب ولذلك ذكر عدم المساعدة من جهة الأسباب (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) قرئ عتيا بضمّ العين وكسرها وهو مصدر بمعنى الكبرا وبمعنى يبس الجلد وجفافه ونحول العظم والمفاصل ، وقرئ عسيّا بالسّين بمعناه (قالَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه استبعد من مقام الأنبياء (ع) مثل هذا الاستغراب فقيل : أقال زكريّا ذلك؟ ـ فقال : قال (كَذلِكَ) أو قال الله أو الملك المبشّر الأمر كذلك أو كذلك مفعول لقوله (قالَ رَبُّكَ) وقوله (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) بيان لكذلك والمجموع مفعول قال الاوّل ، وقرئ وهو علىّ هيّن بواو العطف والمعنى انّى لا حاجة لي الى الأسباب حتّى تستغربه بالنّظر الى الأسباب (وَقَدْ خَلَقْتُكَ) قرئ خلقناك (مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً) وإيجاد المعدوم أصعب من جعل العاقر ولودا ، عن ابى جعفر (ع) : انّما ولد يحيى بعد البشارة من الله بخمس سنين (قالَ) زكريّا (ع) (رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) علامة اعرف بها الميعاد ووقت الإنجاز لا صدق الوعد فانّه بعيد عن مقام الأنبياء (ع) (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) اى لا تقدر على التّكلّم مع الخلق دون المناجاة مع الله (ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا) حالكونك سليما غير ذي علّة بلسانك والمراد ثلاث ليال بايّامها فانّه يستعمل اليوم أو اللّيل ويراد به دورة الفلك الأطلس بليلها ويومها ولذلك قال في سورة آل عمران : (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) نقل انّه اعتقل لسانه عن التّكلّم مع النّاس ولم يعتقل عن ذكر الله (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ) من مصلّاه ، سمّى المصلّى محرابا لكونه محلّ محاربة الشّيطان ، قيل : وكان زكريّا (ع) قد أخبر قومه بما بشّر به فلمّا خرج عليهم وامتنع من كلامهم علموا اجابة دعائه فسّروا به (فَأَوْحى إِلَيْهِمْ) أومى إليهم ، وقيل : كتب في الأرض (أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) صلّوا في الصّباح والمساء ، أو سبّحوا لله فيهما ، أو في جملة أوقاتكم فأنّه يستعمل هذان اللّفظان في استغراق الأوقات (يا يَحْيى) هو بتقدير فأعطيناه الغلام وقوّيناه وآتينا الكتاب وقلنا يا يحيى (خُذِ الْكِتابَ) اى النّبوّة أو الرّسالة أو كتاب التّوراة (بِقُوَّةٍ) وعزيمة من قلبك وهو اشارة الى التّمكين في مقام النّبوّة فانّ التّلوين لا يليق بصاحب النّبوّة (وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ) اى الرّسالة والقدرة على المحاكمة بين الخصوم ، أو النّبوّة والحكم بين المخاصمين في وجوده من قواه وجنوده ، أو الولاية وآثارها الّتى هي الدّقّة في العلم والعمل (صَبِيًّا وَحَناناً) الحنان

٣

كالسّحاب الرّحمة والرّزق والبركة والهيبة والوقار ورقّة القلب وهو عطف على الحكم بمعنى أعطيناه رحمة من لدنّا أو بركة (الى آخر معانيه) فصار مرحوما أو ذا بركة (الى آخرها) أو بمعنى أعطيناه رحمة فصار راحما وبركة على الغير ، أو هو بمعنى اسم الفاعل أو المفعول وعطف على صبيّا والمعنى آتيناه الحكم حالكونه راحما أو مرحوما (مِنْ لَدُنَّا) وحينئذ يجوز ان يكون من لدنّا متعلّقا بآتينا اى آتيناه الحكم من لدنّا حالكونه صبيّا وراحما أو مرحوما (وَزَكاةً) هي في الاعراب مثل حنانا والزّكاة صفوة الشّيء أو صدقة تخرجها من مالك لتطهّر الباقي أو نماء المال (وَكانَ تَقِيًّا وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً) متكبّرا متطاولا بالنّسبة الى الخلق (عَصِيًّا) بالنّسبة الى الحقّ (وَسَلامٌ عَلَيْهِ) اى تحيّة منّا عليه ، أو سلامة وامن من الآفات البدنيّة والنّفسانيّة عليه (يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا) ولمّا كان الأوقات الثّلاثة اوّل الخروج والدّخول في عالم آخر وهو وقت الانقطاع من المألوف والاتّصال بغير المألوف وكلاهما موحش للإنسان خصّصها بالذّكر (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ) تنحّت (مِنْ أَهْلِها) واستعمال الانتباذ للاشارة الى انّها ذهبت الى تلك النّاحية بحيث كأنّها نبذها نابذ فانتبذت من أهلها (مَكاناً شَرْقِيًّا) قيل ذهبت وانغزلت من أهلها في دار زكريّا الى مشرق الدّار للخلوة للعبادة أو للاغتسال ، أو الى مشرق البلد خارج البلد للاغتسال ، أو الى مكان يشرق عليه الشّمس لانّها خرجت في يوم شديد البرد فجلست للاستدفاء بالشّمس ، أو الى الفرات الى النّخلة اليابسة للغسل قبل الحمل ، أو للطّلق بعد الحمل ويكون قوله (فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال ولا يكون الفاء للتّرتيب المعنوىّ ، واتّخاذ الحجاب كان في المحراب أو في المغسل أو في محلّ شروق الشّمس (فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا) يعنى جبرئيل (ع) أو الرّوح الّذى هو فوق جبرئيل ، والتّشريف بالاضافة يقتضي ان يكون هذا هو المراد ، على انّ التّوجّه الى البشر وتربية آدم انّما هو من الرّوح الّذى هو ربّ النّوع الانسانىّ وهو أعظم من الملائكة كلّهم (فَتَمَثَّلَ) اى تصوّر بصورة (لَها بَشَراً سَوِيًّا) قيل تمثّل في صورة شابّ سوىّ الخلقة (قالَتْ) بحسب اعتيادها التّعوّذ بالله عند كلّ مخوف (إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا) متّقيا معتنيا باستعاذتى خائفا من الله ، وقيل : انّه كان رجلا مسمّى بالتّقى وكان مشهورا بالفجور فظنّت انّه هو حيث رأته لا يتّقى من النّظر الى الاجنبيّة ، وقيل : ان نافية والمعنى ما كنت متّقيا من الشّرّ لانّك نظرت الى ما لا يجوز لك النّظر اليه (قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) فلا تستعيذي منّى به (لِأَهَبَ) قرئ بالتّكلّم والغيبة (لَكِ غُلاماً زَكِيًّا) طاهرا من الذّنوب وممّا يتلوّث به البشر أو ناميا أو مباركا أو متنعّما أو صالحا (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ) استفهام للتّعجّب والتّحيّر من غلام من غير أسباب التّوالد مورث للّوم والاتّهام (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) يعنى بطريق النّكاح المشروع فانّه يكنّى به عنه كثيرا وبقرينة قولها (وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) البغىّ والبغوّ الامة الفاجرة وكلّ فاجر (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) قد مضى نظيره (وَلِنَجْعَلَهُ) عطف على مقدّر أو متعلّق بمعطوف مقدّر اى نفعل ذلك لنجعله (آيَةً) دالّة على آلهتنا وعلى سعة علمنا وقدرتنا على ما لا يقدر عليه أحد من الايلاد من غير والد ومن احياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ونفخ الرّوح في الطّين وجعله حيّا (لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا) عليهم (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) محتوما (فَحَمَلَتْهُ) بان نفخت في جيب مدرعتها ، واختلف في مدّة حملها فما في الاخبار الصّحيحة انّ مدّة حملها كانت تسع ساعات بحذاء تسعة أشهر ، وفي بعضها : انّها كانت ساعة ،

٤

وقيل : انّها كانت ثمانية أشهر أو سبعة أو ستّة أشهر. وعن الباقر (ع) انّه تناول جيب مدرعتها فنفخ فيه نفخة فكمل الولد في الرّحم من ساعته كما يكمل في أرحام النّساء تسعة أشهر فخرجت من المستحمّ وهي حامل مجّح (١) مثقل فنظرت إليها خالتها فأنكرتها ومضت مريم (ع) على وجهها مستحيية من خالتها ومن زكريّا (ع) (فَانْتَبَذَتْ بِهِ) فانعزلت مع الحمل (مَكاناً قَصِيًّا) بعيدا ، عن السّجّاد (ع) خرجت من دمشق حتّى أتت كربلاء فوضعت في موضع قبر الحسين (ع) ثمّ رجعت في ليلتها ، أقول : موضع مريم (ع) معروف في سمت الرّأس من مشهده (ع) (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ) اى حركة الولد للطّلق مخضت المرأة كمنع وسمع وعنى مخاضا بفتح الميم ومخاضا بكسرها ومخّضت تمخيضا وتمخّضت أخذها الطّلق (إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) اليابسة الّتى ألهمت ان تأتيها ، والجذع ما بين العرق والغصن (قالَتْ) بعد ما ولدت عيسى (ع) ونظرت اليه (يا لَيْتَنِي مِتُ) قرئ بكسر الميم وضمّها (قَبْلَ هذا) قالت ذلك استحياء ومخافة لومهم (وَكُنْتُ نَسْياً) قرئ بكسر النّون وهو أجود اللّغتين وبفتحها وهو في الأصل مصدر يستعمل في الشّيء الحقير الّذى من شأنه ان ينسى وفيما يلقى من الشّيء ولا يعتنى به (مَنْسِيًّا) التّوصيف به للمبالغة (فَناداها مِنْ تَحْتِها) قرئ بكسر الميم وفتحها والمنادي كان عيسى (ع) أو جبرئيل (ع) (أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) شريفا (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) هزّه وبه حرّكه (تُساقِطْ) قرئ بضمّ التّاء الفوقانيّة وتخفيف السّين وكسر القاف ، وقرئ يساقط بفتح الياء التّحتانيّة وتشديد السّين وبفتحها وتخفيف السّين وبفتح التّاء الفوقانيّة وتشديد السّين (عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي) من الرّطب والماء ، أو كلى ممّا يتغذّى به واشربي ممّا يشرب في هذا المكان أو مطلقا (وَقَرِّي عَيْناً) بهذا الولد فانّه لا ينبغي ان تحزني بسببه ولا تكترثى بما توهّمت من لوم الجهّال (فَإِمَّا تَرَيِنَ) اى فان ترى (مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً) فسألك عن ولدك (فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) اى سكوتا ولكونه بمعنى السّكوت فرّع عدم التّكلّم عليه ، قيل : كان في بنى إسرائيل انّه من أراد ان يجتهد في العبادة صام عن الكلام كما يصوم عن الطّعام ، ولذلك استعمل الصّوم في عدم التّكلّم (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) قيل : صارت مأذونة لهذا القدر من الكلام ، وقيل : كانت تفهم بالاشارة انّها صائمة ولا تتكلّم ، قيل : لفّته في خرقة (فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا) بعد ما رأوها حاملة لمولود ولم يكن لها زوج (يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا) الفرىّ الأمر المختلق المصنوع أو العظيم (يا أُخْتَ هارُونَ) قيل : كان هارون امرء صالحا فنسبوها اليه استهزاء أو لصلاحها وعبادتها ، وقيل : انّ هارون كان أخاها لأبيها ، وقيل : انّ هارون كان معروفا بالفسوق فنسبوها اليه (ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) حتّى اكتسبت هذا الفعل منه (وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا) بغت المرأة فجرت فهي بغىّ وبغوّ (فَأَشارَتْ إِلَيْهِ) ان كلّموه واسألوه (قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ) يعنى شأنه ان يكون في المهد (صَبِيًّا) قيل : غضبوا من ذلك وقالوا : سخريّتها بنا أشدّ علينا من زناها (قالَ) عيسى (ع) (إِنِّي عَبْدُ اللهِ) اقرّ لنفسه بالعبوديّة اوّلا لئلّا يتوهّموا ما توهّموه لكونه بلا أب وتكلّمه حين الولادة من انّه ابن الله أو انّه هو الله ، أو انّه ثالث ثلاثة (آتانِيَ الْكِتابَ) أتى بالماضي لتحقّق وقوعه ، أو لتحقّق استعداده ، والمراد بالكتاب الإنجيل أو كتاب النّبوّة (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً) كثير الخير نفّاعا أو ناميا في الخير

__________________

(١) مجّح بتقديم الجيم على الحاء المشدّدة بمعنى عظيم البطن.

٥

(أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوالِدَتِي) قرئ برّا بفتح الباء وصفا بمعنى كثير البرّ وحينئذ يكون عطفا على مباركا ويلزم منه الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، أو عطفا على أوصاني بتقدير جعلني ، وقرئ برّا بكسر الباء مصدرا فيكون عطفا على الصّلوة (وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً) متجبّرا متكبّرا (شَقِيًّا وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا) تغيير السّلام مع قوله تعالى سلام عليه بالتّعريف والتّنكير وبنسبة الاوّل الى الله والثّانى الى عيسى (ع) نفسه يعلم وجهه من تفاوت مقام عيسى (ع) ويحيى (ع) (ذلِكَ) المذكور ممّن اقرّ لله بالعبوديّة (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) لا من قالوا بآلهته أو بنبوّته لله (قَوْلَ الْحَقِ) قرئ بالرّفع على ان يكون بدلا من عيسى (ع) أو خبرا بعد خبر ، أو خبرا لمبتدء محذوف اى هذا الكلام قول الحقّ ، أو هو يعنى عيسى (ع) قول الحقّ ، وقرئ قول الحقّ بالنّصب فيكون مفعولا مطلقا مؤكّدا لغيره ، والاضافة بيانيّة اى أقول قولا هو الحقّ أو بتقدير اللّام اى هو قول الله (الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ) اى يشكّون أو يجادلون وينازعون بان يقول اليهود هو لغير رشده أو ساحر ويقول النّصارى هو ابن الله ، أو هو الله ، أو هو واحد من الثّلاثة (ما كانَ لِلَّهِ) اى ما صحّ وما أمكن لله فانّ هذه الكلمة تستعمل ويراد بها نفى الإمكان (أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) كما يقوله بعض النّصارى (سُبْحانَهُ) اى نزّه نزاهته من المجانسة مع الولد والاحتياج الى الصّاحبة (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) فليس كون عيسى (ع) بلا أب سببا للقول بانّه ولد لله (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي) قرئ بفتح الهمزة بتقدير اللّام متعلّقا بقوله فاعبدوه والفاء زائدة ، أو بتقدير امّا أو بتوهّمها ، أو بكون انّ وما بعدها عطفا على الصّلوة ، وقرئ بكسر الهمزة معطوفا على انّى عبد الله ، أو ابتداء كلام من الله بتقدير قل خطابا لمحمّد (ص) يعنى قل يا محمّد (ص) انّ الله ربّى (وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا) المذكور من الجمع بين اعتقاد ربوبيّة الله والعبادة له الّذى هو كمال القوّتين العلّامة والعمّالة ، أو من العبادة والخروج من الانانيّة والاستقلال بالرّأى والدّخول تحت الأمر الالهىّ (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) الى الله وقد مضت الآية في سورة آل عمران (فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ) الأحزاب جمع الحزب والحزب كلّ جماعة منقطعة عن غيرهم برأى أو صنعة ، ولفظة من امّا ابتدائيّة والظّرف حال من الأحزاب أو زائدة ، وبينهم ظرف للاختلاف واختلافهم كان في ان قال بعضهم : انّه هو الله ، وبعضهم : هو ابن الله ، وبعضهم : هو واحد من الثّلاثة ، وبعضهم : هو وأمّه آلهان (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) باعتقاد الخلاف في المسيح (ع) (مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) والمشهد امّا مصدر ميمىّ أو اسم مكان (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) هو صيغة التّعجّب (يَوْمَ يَأْتُونَنا) لانّ الأبصار تصير في ذلك اليوم حديدة (لكِنِ الظَّالِمُونَ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وتفضيحا لهم بذكر وصف ذمّ لهم يعنى انّهم ظالمون والظّالمون (الْيَوْمَ) يعنى في الدّنيا (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) يعنى انّهم صمّ بكم عمى عن الحقّ في الدّنيا ، ولا ينفعهم حدّة البصر في الآخرة ، ويجوز ان يكون المعنى ابصر الظّالمين فيكون الباء للتّعدية دون الهمزة ويكون يوم يأتونتا مفعولا به أو ظرفا ، ويكون معنى قوله لكن الظّالمون اليوم لكنّ الظّالمون يوم يأتوننا أو يوم الدّنيا في ضلال مبين ، ويجوز ان يكون المعنى ابصرهم بسبب الأنبياء (ع) ويكون يوم يأتوننا مفعولا ثانيا أو ظرفا وقوله لكن الظّالمون اليوم في ضلال مبين على المعنيين المذكورين (وَأَنْذِرْهُمْ) يا محمّد (ص) (يَوْمَ الْحَسْرَةِ) اى حسرة الكفّار على ما فرّطوا في جنب الله أو حسرة الكفّار على التّفريط والدّانين من المؤمنين على تقصيرهم

٦

في العمل (إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ) بدل من يوم الحسرة والمعنى إذ قضى امر الخلائق وحسابهم فيدخل أهل الجنّة الجنّة وأهل النّار النّار ويؤتى بالموت في صورة كبش فيوقف بين الجنّة والنّار بحيث يراه أهل الجنّة وأهل النّار جميعا ثمّ ينادون أشرفوا وانظروا الى الموت فيشرفون وينظرون ثمّ يذبح الموت ثمّ يقال يا أهل الجنّة خلود فلا موت أبدا ، ويا أهل النّار خلود فلا موت أبدا. اعلم ، انّ الإنسان من اوّل استقرار مادّته في الرّحم في الخلع واللّبس ، وفي التّرك والأخذ ، وفي البيع والشّراء ، وفي الموت والحيوة ، وفي النّشر والحساب ، وهذه الحال مستمرّة له الى انقضاء الحيوة الدّنيا وبعد انقضاء الحيوة الدّنيا ان كان من أهل البرزخ كان عليه هذه الحالة الى انقضاء البرزخ والوصول الى الأعراف ، وبعد الوصول الى الأعراف والحكم على أهل النّار بدخول النّار وعلى أهل الجنّة بدخول الجنّة يتمّ تلك الأحوال وينقضي ذلك الاستبدال وينقطع الموت وهذا معنى قضاء الأمر وذبح الموت (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ) حال من جملة انذرهم (وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ) جواب لسؤال مقدّر ولذلك اكّده استحسانا كأنّه قيل : إذا قضى الأمر من كان في الدّنيا ومن كان مالكا فيها؟ ـ قال تعالى : انّا نرث الأرض يعنى ينقضي الانانيّات ولا يبقى حين قضاء الأمر لأحد مالكيّة وانانيّة ، ويظهر انّ الأرض والانانيّات الّتى تكون مصدرا للمالكيّة كانت كلّها لله (وَمَنْ عَلَيْها) فانّ من عليها عبارة عن الانانيّات الّتى يترائى انّها غير الله (وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) يعنى انّ الاملاك والملّاك الّذين هم عبارة عن الانانيّات تخلّف عنهم ونحن نرثها وذواتهم من دون املاكهم وانانيّاتهم ترجع إلينا بالحشر الى مظاهر القهر أو مظاهر اللّطف (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ) فانّ ذكر الأخيار وذكر أحوالهم وسيرهم وسماعها واستماعها مؤثّرة في النّفوس وجاذبة لها الى جهة العلو ، كما انّ ذكر الأشرار وذكر أحوالهم وسيرهم زاجرة للنّفوس الخيّرة (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً) تعليل لسابقه ، والصّدّيق مبالغة في الصّادق وهو الّذى يصير صادقا في أقواله وأفعاله وعلومه وأحواله ونيّاته وأخلاقه بحيث يؤثّر صدقه في مجاورة فيصير سببا لصدقه ، وصدق المذكورات بان تكون مطابقة لما ينبغي ان يكون الإنسان عليه ، ولازم هذا ان يصير صاحبه نبيّا ولذلك قال (صِدِّيقاً نَبِيًّا) اعمّ من الرّسول (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ) إذ تعليل لسابقه أو اسم خالص بدل من إبراهيم (ع) بدل الاشتمال ، أو ظرف لكان أو لصدّيقا أو نبيّا وقد سبق ذكر الاختلاف في كونه أباه أو جدّه لامّه أو عمّه (يا أَبَتِ) تلحق التّاء بالأب مضافة الى الياء للاستعطاف أو للتّعطّف ولذلك كرّر لفظ يا أبت (لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) استفهام إنكارىّ والتّعليق على الموصول للاشعار بعلّة الإنكار (وَلا يُبْصِرُ) فانّ غير السّميع البصير لا يتأتّى منه ما يطلب من المعبود (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) شيئا قائم مقام المصدر اى لا يغني عنك إغناء ولا يقوم مقامك قياما ما ، أو هو مفعول به للا يغني اى لا يغني عن حركتك شيئا من الجلب والدّفع بان يجلب نفعا أو يدفع ضرّا بدون الاحتياج الى حركتك وتسبيبك فيه (يا أَبَتِ) تكرار النّداء والمنادي للتّعطّف أو الاستعطاف كما ذكر سابقا (إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ) من العلم حال مقدّم (ما لَمْ يَأْتِكَ) واستعمال المجيء للاشارة الى انّ علمه ليس كسبيّا تحصيليّا وانّما هو من الله قال ذلك ليكون حجّة على الأمر باتّباعه ولذلك قال (فَاتَّبِعْنِي) بفاء الجزاء (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) مستوى الطّرفين أو كناية عن المستقيم (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) لكون العذاب والرّحمة الرّحيميّة صورتي الرّحمة الرّحمانيّة نسب العذاب الى الرّحمن (فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا) مواليا أو قرينا (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) أتى بألفاظ غليظة في مقابلة استعطافه اشعارا بغضبه

٧

وتغيّره عن إرشاده ثمّ هدّده فقال (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ) عمّا أنت عليه من ازدراء الآلهة والرّغبة عنها أو من ادّعاء الإرشاد والهداية (لَأَرْجُمَنَّكَ) بالشّتم والعيب ، أو لارجمنّك بالحجارة ، أو هو كناية عن القتل فاحذرنى (وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) برهة من الزّمان أو ساعة طويلة (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ) قابل إساءته في اللّفظ بالإحسان فيه وودّعه بعد ما امره بالهجرة (سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي) قابل تهديده بالرّجم بالاستغفار من الله وطلب التّوفيق له (إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) حال ممّا تدعون وسرّ التّقييد بذلك الاحتراز عن دعاء الخلفاء فانّهم ليسوا من دون الله بل من الله ودعاؤهم أيضا من الله (وَأَدْعُوا رَبِّي) والدّعاء هاهنا كناية عن العبادة (عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) خائبا ضائع السّعى مثلكم في دعاء آلهتكم وصدّر الحكم بعسى للتّواضع وهضم النّفس ولانّ الاجابة والاثابة بيد الله وليس الّا محض التّفضّل وليس للعباد الّا الرّجاء فانّ الخاتمة غيب ، ومعايب العمل مخفيّة ، والثّبات على حال العبادة الى آخر العمر غير معلوم (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) بالهجرة الباطنيّة عن مقام النّفس الّتى هي كانت موافقة لهم أو بالهجرة الى الشّام (وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) بدل من فارقهم لم يذكر إسماعيل (ع) لتشريفه بذكره فيما بعد مستقلّا ، أو لانّ تشريف إبراهيم (ع) في انظارهم كان بإسحاق ويعقوب (ع) لانّ أنبياء (ع) بنى إسرائيل كانوا منهما (وَكُلًّا) منهما (جَعَلْنا نَبِيًّا وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا) ما يمكن ان يوهب للإنسان أو من رحمتنا بنفسه مفعول لكون من التّبعيضيّه اسما أو قائما مقام المفعول الموصوف لقوّة معنى البعضيّة فيه ، أو المفعول محذوف اى وهبنا لهم من رحمتنا محمّدا (ص) ، حذفه لظهوره في المقام أو لادّعاء ظهوره (وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) لسان الصّدق عبارة عن الثّناء الجميل على لسان الخلق ، والمراد بالعلىّ الثّناء البالغ المرتفع ، أو المراد بالعلىّ علىّ بن ابى طالب (ع) فانّه كان لسان صدق له في الآخرين لم يكن لسان صدق أشرف منه ، والتّعبير باللّسان عن الثّناء لكونه صادرا منه وجاريا عليه ، نسب الى علىّ (ع) انّه قال : لسان الصّدق للمرء يجعله الله في النّاس خير من المال يأكله ويورّثه (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) قرئ بكسر اللّام وفتحها يعنى انّه أخلص عبادته عن الإشراك ، أو أخلصه الله لعبادته أو لنفسه (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا) تكرار كان للاشارة الى انّ كلّا شرف له بنفسه والمراد بالنّبىّ الرّفعة أو النّبوّة وكان تأكيدا للرّسول فانّ الرّسول متضمّن للنّبوّة ومستلزم للرّفعة وقد سبق الفرق بين الرّسول والنّبىّ والامام والمحدّث عند قوله (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما) من سورة البقرة ، وذكر هناك معنى حديث انّ الرّسول يسمع الصّوت ويرى في المنام ويعاين الملك في اليقظة ، والنّبىّ هو الّذى يرى في المنام ويسمع الصّوت ولا يعاين الملك ، والمحدّث هو الّذى لا يرى ولا يعاين ويسمع الصّوت (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) وصف للجانب فانّ المراد بحسب التّأويل من الطّور هو الصّدر المنشرح بالإسلام ، وجانبه الأيمن هو الجهة الّتى تلى العقل والغيب (وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا) حال عن الفاعل أو المفعول أو كليهما فانّ النّجىّ مصدر ووصف مطلق على المفرد والأكثر من المفرد (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا) وهذا تشريف له (أَخاهُ هارُونَ) لمعاضدته وموازرته ولاجابة دعوته من قوله واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي (نَبِيًّا) حالكونه نبيّا بالاستقلال أو مشاركا للنّبىّ لا انّه كان نبيّا بالاستقلال وكان هارون اسنّ من موسى (ع) ، ورد انّ موسى (ع) عاش مائة وستّة وعشرين سنة ، وعاش هارون مائة وثلاثة وثلاثين سنة (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ) بن إبراهيم (ع) (إِنَّهُ كانَ

٨

صادِقَ الْوَعْدِ) لانّه كما في الخبر وعد رجلا وانتظره سنة لانّ الرّجل نسي ، ونقل انّه انتظره ثلاثة ايّام وقيل : انّ إسماعيل بن إبراهيم (ع) مات قبل إبراهيم (ع) وهذا إسماعيل بن حزقيل بعثه الله الى قومه فأخذوه فسلخوا فرقة رأسه ووجهه فأتاه ملك فقال : انّ الله جلّ جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت فقال : لي أسوة بالأنبياء (ع) أو بالحسين بن علىّ (ع) (وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) قد مضى في اوّل البقرة تحقيق الصّلوة والزّكاة ولمّا كان الاهتمام بأمر من كان تحت اليد امرا متهمّا به مرغوبا فيه مندوبا شرّفه بذكر هذه الخصلة ولشرافة هذه الخصلة عقّبه بقوله (وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) كأنّه قال ولذلك كان عند ربّه مرضيّا (وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ) اسمه أخنوخ في التّوراة وكان سبط شيث (ع) وجدّ ابى نوح (ع) وكان اوّل من خاط اللّباس وألهمه الله تعالى علم الحساب والهيئة والنّجوم ، وقيل : سمّى إدريس لكثرة دراسته ولعلّه كان في لغتهم بهذا المعنى والّا فان كان عربيّا مشتقّا من الدّرس كان منصرفا (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا) بحسب الرّتبة أو بحسب المكان كما ورد انّ الله تعالى رفعه حيّا الى السّماء الرّابعة أو السّادسة وهو حىّ أو قبض روحه في السّماء الرّابعة (أُولئِكَ) الّذين تقدّم ذكرهم (الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ) بالولاية واستتبع الولاية النّبوّة والرّسالة وسائر النّعم بها تصير نعمة فانّ النّعمة حقيقة هي الولاية وكلّما اتّصل بالولاية سواء كان بسبب البيعة الولويّة أو بطلب تلك البيعة كان نعمة ، وما لم يتّصل سواء كان من النّعم الصّوريّة الدّنيويّة أو من النّعم الصّدريّة الاخرويّة من الأذواق والوجدانات ومن العلوم والمشاهدات والمعاينات الصّوريّة كان نقمة الّا إذا اتّصلت بالولاية فانقلبت نعمة ، فأصل النّعم هو الولاية وفرعها هو هي أيضا ، انّ ذكر الخير كنتم بولايتكم أصله وفرعه ومعدنه ومنتهاه ، وأولئك مبتدء والجملة جواب لسؤال مقدّر وخبره الّذين أنعم الله أو هو صفته أو مبتدء ثان وقوله تعالى (مِنَ النَّبِيِّينَ) خبر أو حال وقوله تعالى (مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ) خبر أو هو حال أو بدل ، وقوله تعالى إذا يتلى عليهم (الى آخره) خبر ومن في قوله تعالى : من النّبيّين بيانيّة أو تبعيضيّة ، وهكذا من في قوله من ذرّيّة آدم تبعيضيّة أو بيانيّة (وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ) عطف على من ذرّيّة آدم والمقصود من ذرّيّة من حملنا لكنّه أسقط الذّرّيّة هاهنا تشريفا لهم لانّه يشعر بانّ المحمول مع نوح (ع) لم يكن منظورا اليه بنفسه في الحمل بل كان المنظور اليه في الحمل هو تلك الذّرّيّة فكأنّه لم يكن المحمول محمولا لانّه لم يكن منظورا اليه وكان المنظور اليه من الذّرّيّة محمولا (وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ) وكلّ هذه من قبيل عطف الخاصّ على العامّ لتشريف الخاصّ بالاختصاص بكثرة الأنساب الشّريفة فانّ الكلّ كانوا من ذرّيّة آدم (ع) واختصّ عنهم بهذه النّسبة إدريس (ع) وبعد إدريس كان الكلّ من ذرّيّة المحمولين مع نوح وامتاز عنهم بهذه النّسبة إبراهيم (ع) وبعد إبراهيم كان الكلّ من ذرّيّة إبراهيم فانّ إسحاق (ع) وإسرائيل وموسى وهارون وإسماعيل وزكريّا ويحيى وعيسى (ع) كانوا من ذرّيّة إبراهيم (ع) وإسرائيل وامتاز عنهم بالاختصاص بإبراهيم (ع) إسحاق وإسماعيل (ع) وإذا كان المراد بقوله تعالى وهبنا لهم من رحمتنا محمّدا (ص) وكان المراد بقوله لسان صدق عليّا محمّدا (ص) وعليّا (ع) كما أشير اليه في الخبر كانا أيضا ممتازين بالاختصاص بإبراهيم (ع) (وَمِمَّنْ هَدَيْنا) عطف على من النّبيّين أو على من ذرّيّة آدم ولفظ من للتّبعيض أو للتّبيين والتّقدير من ذرّيّة من هدينا وإسقاط الذّرّيّة لما ذكر في ممّن حملنا أو ليست الذّرّيّة مقدّرة (وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى) قرئ بالتّاء وبالياء وهو خبر كما سبق أو حال أو مستأنف لبيان حالهم وانّهم مع علوّ نسبهم وشرف النّبوّة والرّسالة لهم كمال التّضرّع والالتجاء

٩

الى الله ، أو ممّن هدينا قائم مقام المبتدأ ، وذا تتلى خبر عنه يعنى بعض ممّن هدينا واجتبينا إذا تتلى (عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً) لكمال خضوعهم لله وتواضعهم لآياته (وَبُكِيًّا) لكمال خوفهم من الله ولالتجائهم اليه وقرئ بكيّا بضمّ الباء على الأصل ، وبكسرها على الاتّباع (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ) الخلف بالسّكون يقال للعقب السّوء وبالتّحريك للحسن ، ويستعمل كلّ في كلّ (أَضاعُوا الصَّلاةَ) بتركها أو تأخيرها عن مواقيتها كما أشير اليه في الخبر (وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) قيل في بيان اتّباع الشّهوات كانوا شرّابين للقهوات ، ركّابين للشّهوات ، متّبعين للّذّات ، تاركين للجماعات ، وعن أمير المؤمنين (ع) في بيانه من بنى الشّديد (١) وركب المنظور ولبس المشهور.

اعلم ، انّ الصّلوة والزّكاة كما حقّق في اوّل الكتاب في اوّل سورة البقرة عبارة عن اللّبس والخلع ، وهما ثابتان للإنسان من اوّل استقرار نطفته في الرّحم الى آخر عمره ، لكنّ الخلع واللّبس الى مقام التّكليف والقرب له يكونان بالتّكوين الإلهيّ وعلى الطّريق الانسانىّ وفي مقام التّكليف إذا كانا بالأمر الإلهيّ كانا في الطّريق الانسانىّ ، وإذا لم يكونا بالأمر الإلهيّ لم يكونا في الطّريق الانسانىّ بل كانا في الطّريق النّفسانىّ وبمداخلة الشّهوات النّفسانيّة وكلّ فعل أو قول أو حال له جهة إلهيّة وجهة نفسانيّة بمعنى انّه ان كان بمحض الأمر الإلهيّ حصل منه فعليّة إلهيّة ولبس في الطّريق الانسانيّة وحصل طرح لفعليّة نفسانيّة بواسطة طرح انانيّة من النّفس ، والفعليّة الإلهيّة يعنى اللّبس في الطّريق الانسانيّة هي الصّلوة حقيقة وطرح اقتضاء النّفس وانانيّتها هي الزّكاة حقيقة ، فعلى هذا كان اضاعة الصّلوة عبارة عن الغفلة عن الأمر الالهىّ في الفعل ، اىّ فعل كان ، واتّباع الشّهوات عبارة عن لحاظ اقتضاء النّفس في الفعل ، اىّ فعل كان ، فانّ المصلّى إذا كان صلوته صادرة من اقتضاء نفسه سواء كان ذلك الاقتضاء إمضاء عادة كما هو حال أكثر النّاس أو مراياة أو إعجابا أو جلب نفع في الدّنيا أو دفع ضرّ فيها أو دخول الجنّة ، أو عدم دخول النّار ، أو قربة من الله ، أو كونه مرضيّا من الله كان مضيعا للصّلوة ، ومتّبعا للشّهوة ، وان كان فاعلا لصورة الصّلوة ، وإذا كان القاضي لشهوته من حلاله ناظرا الى امر ربّه وإباحته كان مصلّيا ، وان كان قاضيا لشهوته فالمقصود من الصّلوة هو جهة الأفعال لا صورة الأعمال ، وهكذا الحال في اتّباع الشّهوات ، وحديث علىّ (ع) في بيان اتّباع الشّهوات يشعر بذلك (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) في الآخرة بناء على تجسّم الأعمال ، أو جزاء غىّ ، أو المراد بالغىّ الشّرّ والخيبة ، أو الغىّ واد في جهنّم (إِلَّا مَنْ تابَ) عن اتّباع الشّهوات في الأفعال (وَآمَنَ) بالبيعة العامّة أو الخاصّة ، أو أذعن انّ الأعمال لها جهة إلهيّة وجهة نفسانيّة (وَعَمِلَ صالِحاً) طبق ما أخذ عليه في بيعته أو عمل صالحا يعنى بالأمر الالهىّ حتّى يصير صالحا ، واقامة للصّلوة لا اضاعة أو اتّباعا للشّهوات (فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) قرئ بضمّ الياء وفتح الخاء وبفتح الياء وضمّ الخاء (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) بنقص شيء من ثواب أعمالهم (جَنَّاتِ عَدْنٍ) بدل من الجنّة ولا منع في ابدال الجمع عن المفرد إذا كان المفرد في معنى الجمع ، أو منصوب بفعل محذوف مقطوع عن التّبعيّة للمدح ، والجنّات طبقات وكلّ طبقة منهما جنّات ، وجنّة عدن آخرة الجنّات الّتى لا تجاوز عنها لمن وصل إليها ، ولذلك سمّيت بجنّة عدن فانّ العدن بمعنى الاقامة بخلاف سائر الجنّات فانّها ليست محلّ اقامة لكلّ من وصل إليها (الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ) حالكون الجنّات بالغيب ، أو حالكون الرّحمن بالغيب ، أو حالكون العباد بالغيب من الله بمعنى كون الله غائبا عنهم (إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) جواب سؤال ناش

__________________

(١) اى البناء المحكم وركب ما ينظر اليه النّاس لحسنه ولبس ما يشتهر بالحسن وهذا معنى لباس الشّهرة.

١٠

من قوله فأولئك يدخلون الجنّة أو من قوله وعد الرّحمن عباده (لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً) حال أو مستأنف (إِلَّا سَلاماً) استثناء من اللّغو مبالغة في عدم اللّغو فيها يعنى لغو الجنّات هو السّلام من قبيل قول الشّاعر :

ولا عيب فيهم غير انّ سيوفهم

بهنّ فلول من قراع الكتائب

أو الاستثناء منقطع (وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ) اللّائق بحالهم ومقامهم (فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا).

بيان لتعدّد الأفلاك والشّموس والأقمار

اعلم ، انّ الشّمس الحقيقيّة الّتى هي حقيقة شمس عالم الطّبع تنزّلت عن مقام غيبها بفعل الباري تعالى ، ثمّ تنزّلت وظهرت بالعقول بمراتبها ، ثمّ ظهرت بالنّفوس بمراتبها ، ثمّ ظهرت في عالم الطّبع بصورة هذه الشّمس المحسوسة ، وكما انّ هذه الشّمس المحسوسة حركتها في عالمها دوريّة ، وعالمها كرويّة ، وبكرويّة عالمها ودوريّة حركتها يظهر البكرة والعشىّ كذلك الشّمس الحقيقيّة حركتها في كلّ من عوالمها الّتى حدّدوها تارة بسبعين الف عالم ، وتارة بألف الف عالم دوريّة ، وكلّ من عوالمها كرويّة لكنّ كرويّة معنويّة لا محسوسة فانّ كلّا مشتمل على قوسي النّزول والصّعود ، وبعد وصول النّور الحقيقىّ الى أواسط قوس النّزول يختفى وتدريجا الى أواسط قوس الصّعود وحينئذ يظهر تدريجا وحين شروعه في الاختفاء يكون العشىّ بحسب ذلك العالم وحين الشّروع في الظّهور يكون البكرة بحسبه ، ولا اختصاص للبكرة والعشىّ بعالم الطّبع ولا بجنّات الدّنيا كما قيل ، وقد ورد في الاخبار الاشعار بتعدّد الأفلاك والشّموس والأقمار كما ورد انّ وراء عين شمسكم هذه تسعا وثلاثين عين شمس ، ووراء قمركم هذا تسعة وثلاثين قمرا ، وقيل بالفارسيّة :

آسمانهاست در ولايت جان

كارفرماى آسمان جهان

(تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا).

اعلم ، انّ الإنسان الكامل ذو نشأت وفي كلّ نشأة له اموال وأقرباء وكما انّ صحّة النّسب الجسمانيّة مبتنية على ما اسّسه الشّارعون في كلّ شريعة وملّة لتصحيحها كذلك النّسبة الرّوحانيّة مبتنية صحّتها على ما اسّسوه من عقد الايمان ، وكما انّ النّسبة الجسمانيّة إذا لم تكن مبتنية على ما اسّسوه لم تكن مؤثّرة في ترتّب آثار النّسبة من الميراث وغيرها كذلك النّسب الرّوحانيّة إذا لم تكن مبتنية على ما اسّسوه لم تكن مؤثّرة ، وكما انّ المنتسب بالنّسبة الجسمانيّة إذا لم يكن له ما يصحّح نسبته كان لغيّة كذلك المنتسب بالنّسبة الرّوحانيّة إذا لم يكن له ما يصحّح نسبته كان منتحلا ، وقد مضى تحقيق تامّ للنّسبة الجسمانيّة والرّوحانيّة والفرق بينهما وشرافة النّسبة الرّوحانيّة بالنّسبة الى الجسمانيّة في سورة البقرة عند قوله (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، وكما انّ الإنسان ما دام يكون في عالم الطّبع كان له اموال وإذا انصرف من هذا العالم كان الاحقّ بأمواله قراباته بحقّ النّسبة الجسمانيّة كذلك المتخلّف عن الكامل في العوالم الرّوحانيّة كان الاحقّ به قراباته الرّوحانية ، وكما انّ المتخلّف عن مرتبته الجسمانيّة لا حقّ لقراباته الرّوحانيّة فيه كذلك المتخلّف عن مرتبته الرّوحانيّة لا حقّ لقراباته الجسمانيّة فيه فان كلّ خلّة وكلّ نسبة منقطعة يوم القيامة الّا الخلّة والنّسبة في الله ، ولمّا كان أصل الكاملين وابو الآباء الرّوحانيّة علىّ بن ابى طالب (ع) وكان منصرفا عن جميع العوالم ومتمكّنا في مقام المشيّة الّتى هي فوق الإمكان كان جميع عوالم الإمكان متخلّفة عنه وميراثا لأولاده المنتسبين اليه بالنّسبة الصّحيحة بقدر مراتبهم في النّسبة ، وان كانوا في الدّنيا مغصوبا منهم أمواله كما قال تعالى : (قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان الخاصّ وعقد الايمان مع علىّ (ع) مغصوبا عليها في الدّنيا خالصة يوم القيامة وهذا معنى ايراث الفردوس ، وامّا ايراث منازل أهل النّار للمؤمنين فهو عبارة عن ايراث ما كان أهل النّار يستحقّونه لو لم يقطعوا نسبتهم الى علىّ (ع) فانّ كلّ الموجودات لها نسبة فطريّة الى علىّ (ع) وقد يقطع الإنسان نسبته الفطريّة

١١

الى الولاية فيترك منازله وأمواله الّتى كانت مقرّرة له بحكم الولاية التّكوينيّة فيرثها ذوو أنسابه الآخرون مثل الجنين الّذى يترك من اموال الميّت قسط له فان تولّد حيّا وبلغ أخذ قسطه وان ولد ميّتا أو لم يبلغ كان قسطه لسائر الورثة بحكم النّسبة ، إذا عرفت ذلك ، فلا حاجة لك الى التّكلّفات الّتى ارتكبوها في تصحيح اطلاق الإرث على ما ذكر ، ومن عبادنا ظرف لغو متعلّق بنورث والمعنى نورث الجنّة من مال عبادنا المخصوصين الّذين خرجوا من رقّيّة أنفسهم وصاروا بتمام وجودهم خالصين لنا فصاروا كاملين ومكمّلين ومالكين بتمليكنا درجات الآخرة ، وبعد ما تخلّفت منهم بتوجّههم ونقلهم الى ما فوقهم أورثنا تلك الدّرجات منهم عبادا كانوا أتقياء بان دخلوا في الولاية فانّ التّقوى الحقيقيّة لا تتصوّر الّا بالدّخول في الولاية أو من عبادنا ظرف مستقرّ حال ممّن كان تقيّا والمعنى حينئذ نورث الجنّات من كان تقيّا حالكونه صار من عبادنا بان اشترى الله منه ماله ونفسه بانّ له الجنّة ، وفائدة التّقييد بالحال الاشعار بانّ التّقوى الحقيقيّة لا تحصل الّا بالبيعة الولويّة أو النّبويّة (وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ) كلام من الملك الحاكي من الله تعالى معطوف على المحكىّ من الله فقد ورد انّ رسول الله (ص) قال لجبرئيل (ع) : ما منعك ان تزورنا؟ ـ فنزلت (لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا) اى الدّنيا أو عوالم الآخرة (وَما خَلْفَنا) يعلم بالمقايسة (وَما بَيْنَ ذلِكَ) اى العالم الّذى نحن واقعون فيه (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) تاركا لك ترك المنسىّ ، أو ما كان موصوفا بالنّسيان حتّى يتوهّم انّه غفل عنك ، وفيه اشعار بانّ سرعة نزوله وبطوءه انّما هو منوط بحكمه (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) وصف لربّك أو خبر مبتدء محذوف وتعليل لامتناع النّسيان عليه (فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ) لمّا كان الصّبر على العبادة أصعب أقسام الصّبر أتى فيه بصيغة المبالغة (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) خطاب خاصّ بمحمّد (ص) أو عامّ لمن يتأتّى منه الخطاب ، والمراد بالسّميّ المماثل في شيء من صفاته لا المسمّى بشيء من أسمائه (وَيَقُولُ الْإِنْسانُ) اى هذا النّوع من الحيوان وان كان القائل بعض افراده (أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا).

اعلم ، انّ الإنسان ما دام يكون محصورا إدراكه على المحسوسات ولا يدرك من نفسه الّا مقام جسميّته كان إقراره ببعثه تقليدا محضا من غير تصوّر لنفسه وموته وبعثه وكان إنكاره تحقيقا لا تقليدا فانّ النّاظر الى البدن والى انّ النّفس جسم لطيف متكيّف سار في البدن كسائر أجزاء البدن أو كيفيّة خاصّة في البدن ، وانّ البدن بالموت يفنى كيفيّة حيوته وجميع اجزائه ، خصوصا ان كان بصيرا بالطّبيعيّات وكيفيّاتها لا يتأتّى له الإقرار بالبعث بعد الموت والاعادة بعد الفناء ، وروى انّ ابىّ بن خلف أخذ عظاما بالية ففتّها وقال : يزعم محمّد (ص) انّا نبعث بعد ما نموت (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ) اى قبل وجوده أو قبل موته (وَلَمْ يَكُ شَيْئاً) لا في العوالم العالية ولا في العالم الدّانى بان خلقناه في عوالم علمنا حين لم يكن مقدّرا ولا موجودا طبيعيّا ، أو لم يك شيئا في العالم الطّبيعىّ (فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ) الموكّلة عليهم ، لمّا كان الكلام ملقى على المنكر اكّده بتأكيدات ، وروى انّ الكفرة تحشرون مع قرنائهم من الشّياطين الّذين اغووهم كلّ مع شيطانه.

اعلم ، انّ الإنسان الّذى هو عالم صغير إذا هبط آدم (ع) وحوّاء (ع) من الجنّة فيه وتوالدا وأتى لواحد من ولديهما بحوريّة وللآخر بجنّيّة وتوالدوا في العالم الصّغير كان ما تولّد من الحوريّة سنخا للملائكة وبتلك السّنخيّة يجذب الملك ، وما تولّد من الجنّيّة كان سنخا للجنّة والشّياطين ، وبتلك السّنخيّة يجذب الشّيطان الى عالمه الصّغير من العالم الكبير ، وما ورد انّ لكلّ إنسان ملكا يزجره وشيطانا يغويه اشارة الى ما ذكر ، ولكلّ من الملك والشّيطان المجذوبين اليه جنود وأعوان فيصير الملك الموكّل مع جنوده ملائكة كثيرة والشّيطان المنجذب

١٢

شياطين عديدة ، وإذا حشر الإنسان حشر معه كلّ شيطان كان معه ، أو المعنى لنحشرنّهم والشّياطين من غير نظر الى الشّياطين الموكّلة بخصوصهم (ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا) ضمير المفعول في لنحضرنّهم وفي نحشرنّهم راجع الى مطلق البشر المؤمنين والكافرين ، وحضور المؤمنين حول جهنّم مثل ورودهم عليها ، أو راجع الى الكافرين ، والجثىّ جمع الجاثي أصله جثو ، وقرئ بضمّ الجيم وكسرها (ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ) طائفة شاعت نبيّا أو إماما في الهداية أو إماما في الضّلالة (أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا) أصله عتوّ مصدر عتى عتوّا وعتيّا بضمّ العين وعتيّا بكسرها استكبر وجاوز الحدّ والمعنى لننزعنّ من كلّ فرقة مؤمنة وكافرة أعتاهم ، ونعفو من غير أعتاهم ، أو لننزعنّ من كلّ فرقة أعتاهم فندخلهم في أسفل الجحيم ثمّ لننزعنّ العاتين منهم فندخلهم المداخل المترتّبة من الجحيم على ترتيب عتّوهم حتّى يبقى المؤمنون ، واىّ موصولة مبنيّة على الضّمّ على قراءة ضمّ الياء لحذف صدر صلتها ومنصوبة مفعول لننزعنّ على قراءة فتح الياء ، أو استفهاميّة مبتدء وخبر والجملة حاليّة بتقدير القول ، أو مستأنفة بتقدير القول جواب لسؤال مقدّر ومفعول لننزعنّ محذوف ، أو من كلّ فرقة مفعوله لكون من اسما ، أو لكون الظّرف قائما مقام الموصوف لقوّة معنى البعضيّة في من (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا) مصدر مثل العتىّ من صلّى النّار كرضى قاساها (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها).

اعلم ، انّ دركات الجحيم واقعة في الآخرة ولا يدخلها الّا من خرج عن الدّنيا وعن عقبات البرزخ ووصل الى الأعراف وبقي عليه فعليّة مناسبة للنّار ، وامّا قبل ذلك فلا يدخل أحد النّار وكانت أبواب الجحيم مغلقة ولذلك يقال : حينئذ ادخلوا أبواب الجحيم ، وقال تعالى : (حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) فرتّب فتح الأبواب على مجيء أهلها لانّها كانت مغلقة قبل المجيء وأهل الجنّة بعد الوصول الى الأعراف لا يبقى عليهم الّا فعليّة مناسبة للجنّة فلا يدخلون النّار لكن نقول : الدّنيا انموذجة من الجحيم والأخلاق الذّميمة والأوصاف الرّدّيّة كلّها انموذجة منهما ، ومشتهيات النّفس والآلام والأسقام من فوران الجحيم ، والبرزخ بوجه هو جحيم الدّنيا كما انّه بوجه هو جنّة الدّنيا ، والواردون على الأعراف كلّهم واردون على الجحيم بمعنى انّهم مشاهدون لها وكلّ النّاس مؤمنهم وكافرهم لا بدّ لهم من العبور على الدّنيا والاتّصاف بمشتهياتها والعبور عن الرّذائل والأوصاف الرّدّيّة ومشتهيات النّفس ، وقلّما ينفكّ الإنسان عن علّة ما أو الم ما ، ولا بدّ للكلّ من العبور على البرزخ اختيارا أو اضطرارا لكنّ العبور يتفاوت بتفاوت الأشخاص والأحوال والكلّ واردون على الأعراف وواردون على جحيم الآخرة بمعنى انّهم مشاهدون لها ، إذا عرفت ذلك ، عرفت وجه الجمع بين الاخبار المتخالفة الواردة في هذا الباب وعرفت انّ المراد بالنّسخ فيما ورد انّ هذه الآية منسوخة بآية (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ) هو النّسخ الجزئىّ الّذى يكون بحسب الأشخاص والأحوال لا النّسخ الكلّى فانّ هذا الورود من لوازم وجود الإنسان وكيفيّة خلقته ولذلك قال تعالى بعد الاخبار به (كانَ) ذلك (عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا) مؤكّدا بتأكيدات لكن قد يعرض الإنسان جذبة من جذبات الرّحمن لا تبقى عليه أثرا من الدّنيا ونيرانها ولا من البرازخ وعقباتها ، ولا من الأعراف ومشاهداتها فكان الورود المحتوم منسوخا ومرتفعا في حقّه ، وما ورد انّ النّار تقول للمؤمن يوم القيامة : جزيا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبى ، كان اشارة الى الدّنيا ومشتهيات النّفس أو الأخلاق الرّذيلة أو البرازخ ، وكذلك قول المعصوم جزناها وهي خامدة (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا) التّدوينيّة مطلقة أو في ولاية علىّ (ع) (بَيِّناتٍ) واضحات أو موضحات رسالتك أو قدرة الله على الأحياء بعد الاماتة أو ولاية

١٣

علىّ (ع) (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله أو برسالتك أو بولاية علىّ (ع) (لِلَّذِينَ آمَنُوا) لاجلهم أو مخاطبين لهم استهزاء بالله أو بدينك أو بعلىّ (ع) (أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ) ممّن اقرّ بالله أو بالرّسالة أو بولاية علىّ (ع) وممّن أنكر ذلك (خَيْرٌ مَقاماً) مكانا أو موضع قيام ، وقرئ بضمّ الميم (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) مجلسا ومجتمعا يعنى انّهم لمّا سمعوا الآيات الدّالّات على حقّيّة دينك وقدرة الله أو ولاية علىّ (ع) وعجزوا عن المعارضة وردّها افتخروا بما لهم من حسن الحال في الدّنيا وزعموا انّ حسن حالهم انّما هو لحقّيّة إنكارهم ورداءة حال المؤمنين لبطلان إقرارهم كما هو شأن أهل الزّمان في كلّ زمان ، وهذا زعم فاسد فانّ حسن الحال وزيادة الحظّ في الدّنيا مانعة عن حصول حظوظ العقبى ومهلكة في العقبى كالشّهد الّذى فيه سمّ غير محسوس ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : كان رسول الله (ص) دعا قريشا الى ولايتنا فنفروا وأنكروا فقال الّذين كفروا من قريش للّذين آمنوا الّذين اقرّوا لأمير المؤمنين (ع) ولنا أهل البيت (ع) اىّ الفريقين خير مقاما وأحسن نديّا ، تعييرا منهم فقال الله تعالى ردّا عليهم ، وقرء الآية الآتية (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) قرئ رءيا بكسر الرّاء المهملة وسكون الهمزة وريّا بكسر الرّاء وتشديد الياء وريّا بكسر الرّاء وتخفيف الياء وزيّا بكسر الزّاء المعجمة وتشديد الياء ، والكلّ بمعنى المنظر أو ما يتجمّل به (قُلْ) لهم ردّا على زعمهم انّ حسن الحال في الدّنيا جالبة لحسن الحال في الآخرة (مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا) ادّاه بصيغة الأمر للاشعار بانّ هذا امر كأنّه واجب على الله لا تخلّف عنه فلا تغترّوا بامداد الله في الدّنيا واجتماع أسباب التّنعّم لكم فانّه استدراج ومورث للهلاكة أبدا (حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ) بالقتل والأسر والنّهب والاجلاء والبلايا الواردة من الله من الأسقام والآلام البدنيّة والنّفسانيّة (وَإِمَّا السَّاعَةَ) ساعة الموت وعذابها (فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً) فانّه وقت العذاب لا ينفع مال ولا بنون ، ولا يدفع جند ولا الأقربون ، ووقت الموت ينقطع كلّ موصول ولا يدفع كلّ دافع ولا ينفع الّا الله ، فمن انقطع عن الكلّ واتّصل بالله بالبيعة الولويّة مع خلفائه كان حينئذ أحسن نديّا فانّ مجتمعة كان من جند الله ، ومن لا ينقطع عن الغير ولا يتّصل بالله بالبيعة مع علىّ (ع) كان اردء نديّا لانقطاع كلّ ممّن كان في مجتمعة عنه وعن مجتمعة (وَيَزِيدُ اللهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً) عطف على من كان في الضّلالة فليمدد وتغيير الجملة الثّانية بالفعليّة للاشعار بانّ الأمداد والاستدراج عرضىّ تابع لاستعداد العباد وأفعالهم بخلاف فضل الهداية فانّه فضل محض وذاتىّ له تعالى وليس تابعا لفعل واستعداد وقد تكرّر سابقا انّ الهداية ليست الّا ولاية علىّ (ع) والتّوجّه اليه ، عن الصّادق (ع) انّه قال : كلّهم كانوا في الضّلالة لا يؤمنون بولاية أمير المؤمنين (ع) ولا بولايتنا فكانوا ضالّين مضلّين فيمدّ لهم في ضلالتهم وطغيانهم حتّى يموتوا فيصيّرهم الله شرّا مكانا وأضعف جندا (وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ) وقد سبق بيان الباقيات الصّالحات في سورة الكهف (خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً) ممّا متّعوا به من الأثاث والرّأى (وَخَيْرٌ مَرَدًّا) مرجعا ممّا توهّموه من الأموال والأولاد ، وصيغة التّفضيل هاهنا لمجرّد التّفضيل أو للتّفضيل على ما زعموه خيرا باعتقادهم (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا) وأعظمها علىّ (ع) (وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً) يعنى في الآخرة ، ورد انّه كان لبعض المؤمنين دين على بعضهم فجاءه يتقاضاه فقال : ألستم تزعمون انّ في الجنّة الّذهب والفضّة والحرير؟ ـ قال : بلى ، قال : فموعد ما بيني وبينك الجنّة فو الله لاوتينّ فيها خيرا ممّا أوتيت في الدّنيا (أَطَّلَعَ الْغَيْبَ) فرأى في الغيب انّ له في الآخرة مالا وولدا (أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) فانّه لا يعلم ذلك الّا بالمشاهدة والتّحقيق ، أو بتعهّد

١٤

الصّادق والتّقليد وعلم الغيب منتف عنه والعهد ليس الّا بالبيعة مع علىّ (ع) وهو ينكر ذلك (كَلَّا سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ) لنجزيه عليه فانّه افتراء واستهزاء (وَنَمُدُّ لَهُ) عوض ما تصوّره من المال والولد (مِنَ الْعَذابِ مَدًّا وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ) يعنى المال والولد الّذى يدّعى انّه يؤتى في الآخرة منهما بان نهلكه ونأخذ ما كان له في الدّنيا من المال والولد (وَيَأْتِينا) يوم القيامة (فَرْداً) ممّا له في الدّنيا فلا يكون له ما كان له في الدّنيا ولا يحصل له ما يدّعيه في الآخرة (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) عطف على قال لاوتينّ أو على كفر بآياتنا ، وجمع ضميره باعتبار المعنى فانّ المراد من الّذى كفر هو الجنس لا الفرد المخصوص (لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) اى ليكون الآلهة للّذين كفروا سبب عزّ فانّ العزّ والعزّة بكسرهما والعزازة بالفتح مصدر عزّ بمعنى صار عزيزا ، أو ليكون الكفّار لأجل الآلهة اعزّاء (كَلَّا) ردع لهم عن هذا الزّعم (سَيَكْفُرُونَ) اى الآلهة أو الكفّار (بِعِبادَتِهِمْ) والضّمير المضاف اليه يحتمل الوجهين على كلّ من الوجهين (وَيَكُونُونَ) اى الآلهة أو الكفّار (عَلَيْهِمْ) اى على الكفّار أو على الآلهة (ضِدًّا) ولمّا كان المنظور من كلّ منظور هو الولاية والوفاق والخلاف معها كان المراد انّ الكافرين بالولاية اتّخذوا مطاعين من دون علىّ (ع) ليكونوا لهم عزّا ، كلّا سيكفرون بطاعتهم لهم ويكونون عليهم ضدّا ، حين ما يرونهم في الأعراف أو في القيامة أو في النّار أو حال الاحتضار أذلّاء مردودين ويرون عليّا (ع) في أعلى مراتب العزّ وقد أشير اليه في الخبر ، ولمّا كان الرّسول (ص) متحزّنا عليهم وعلى انحرافهم وكأنّه عزم على الدّعاء عليهم قال تعالى تسلية له (ص) وتبطئة عن الدّعاء (أَلَمْ تَرَ) برؤيتك الباطنيّة (أَنَّا) لا غيرنا (أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ) فاذا ترى انّا أرسلنا الشّياطين فما لك تتحسّر أو تعجّل بالعذاب (تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ازّت القدر من باب نصر وضرب اشتدّ غليانها ، وازّت السّحابة صوّتت من بعيد ، وازّ النّار أوقدها ، والشّيء حرّكه شديدا ، والازّ ضربان العروق ، فاذا ترى انّا أرسلنا الشّياطين عليهم (فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ) بالعذاب (إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ) الايّام أو الأنفاس (عَدًّا) ويقال : هذه الكلمة حين يراد الاشارة الى قلّة الايّام وفي الخبر انّما هو عدّ الأنفاس والّا فالآباء والامّهات يعدّون الايّام أو المراد انّا نعدّ أعمالهم عدّا (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) وعلى هذا فيوم نحشر المتّقين ظرف لنعدّ ، ويجوز ان يكون ظرفا لقوله لا يملكون أو يكون مفعولا لا ذكر مقدّرا.

اعلم ، انّ التّقوى الحقيقيّة لا تحصل الّا بالولاية ومن تولّى عليّا كان تقيّا استشعر بتقواه أم لا ، ويوم الأعراف الّذى هو آخر البرازخ يحشر شيعة علىّ (ع) الى مقاماتهم الاخرويّة ونعيمهم وأزواجهم على ما نقل في الاخبار من التّفاصيل واختيار اسم الرّحمن ، لانّ شيعة علىّ (ع) إذا وصل الى الأعراف لم يبق عليه شيء من أوصاف النّفس ويطهّر من كلّ ما ينبغي ان يطهّر عنه من نسبة الأفعال والصّفات الى نفسه بل من نسبة الانانيّة الى نفسه ويحصل له الفناء التّامّ الّذى هو آخر مقامات التّقوى ، وبعد الفناء التّامّ لا يكون بقاء الّا ببقاء الله وبعد البقاء يصير الباقي مبقيا لأهل عالمه ومملكته وهذا الإبقاء هو الرّجعة في العالم الصّغير وهو أنموذج رحمة الله الرّحمانيّة وبهذا الاعتبار قال : نحشرهم الى الرّحمن وبحسب السّلوك إذا تمّ السّفر الثّانى للسّالك وانتهى تقواه الى الفناء الذّاتىّ وسار بالحقّ في الحقّ ان أدركته العناية الإلهيّة وابقته بعد فنائه يصير السّالك أيضا باقيا ببقاء الله ومبقيا لأهل مملكته وأهل الملك الكبير ويصير عادلا بعدل الله ومعطيا لكلّ حقّه وهذا من خواصّ اسم الرّحمن ولهذا قال : نحشر المتّقين الى الرّحمن ، ووفدا جمع مثل ركب وصحب حال من المتّقين ، أو مصدر بمعنى الجمع الوصفىّ وحال أو مصدر

١٥

مفعول مطلق من غير لفظ الفعل أو بتقدير حشر وفد (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً) الورد مصدر بمعنى الاشراف على الماء دخل أم لم يدخل ، واسم جمع بمعنى الجماعة الواردة على الماء ، وهو حال أو مصدر مثل الوفد ، وفي استعمال لفظ الحشر هناك والسّوق الّذى ليس الّا للبهائم هاهنا ما لا يخفى من التّشريف والتّوهين ، وقرئ يحشر ويساق بالغيبة مبنيّين للمفعول والمتّقون والمجرمون مرفوعين (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ) اى العباد المطلق المستفاد من ذكر القسمين أو المجرمون (إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً) استثناء من فاعل يملكون أو من الشّفاعة بتقدير شفاعة من اتّخذ عند الرّحمن عهدا ، أو استثناء مفرّغ اى لا يملكون لأحد الشّفاعة الّا لمن اتّخذ عند الرّحمن عهدا ، والشّفاعة اعمّ من المصدر المبنىّ للفاعل والمفعول أو هو مبنىّ للفاعل والمعنى لا يملكون شفاعتهم للغير أو شفاعة الغير لهم وقد أشير في الاخبار الى الكلّ ، والعهد المأخوذ عند الرّحمن هو عهد البيعة وقد فسّر في الاخبار بعهد الولاية والبيعة مع علىّ (ع) فانّ أخذ العهد عند الرّحمن من دون مظاهره وخلفائه لا يتصوّر لأحد ، وقد ورد عن الصّادق (ع) انّه قال الّا من دان الله بولاية أمير المؤمنين (ع) والائمّة من بعده فهو العهد عند الله ، وورد عنه أيضا انّه قال : لا يشفع لهم ولا يشفعون الّا من اتّخذ عند الرّحمن عهدا ، الّا من اذن له بولاية أمير المؤمنين (ع) والائمّة (ع) من بعده فهو العهد عند الله ، والولاية قد تكرّر في مطاوى ما سلف انّها البيعة لا غير ، وقد ذكر في الاخبار لبيان العهد بحسب الظّاهر أمور أخر من عهد الوصيّة وغيره (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً) عطف على كفر بآياتنا وقرئ ولدا جمعا ، عن الصّادق (ع) انّه قال هذا حيث قالت قريش : انّ الله عزوجل اتّخذ ولدا من الملائكة إناثا (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا) جواب سؤال أو حال بتقدير القول والادّ والادّة بكسرهما والادّة بفتح الهمزة ، العجب والأمر الفظيع والدّاهية والمنكر (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ) صفة لشيئا بعد صفة أو حال منه أو مستأنفة (وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا) الخرّ السّقوط مطلقا أو من علو والهدّ الهدم الشّديد والكسر (أَنْ دَعَوْا) بدل من الضّمير في منه (لِلرَّحْمنِ وَلَداً وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) لانّه واحد أحد لا ضدّ له ولا ندّ ولا ثانى ولو كان له ولد كان ثانيا له ولو كان له ثان لانهدم وحدته وبانهدام وحدته ينهدم وجوبه فسبحان من مقتضى ذاته عدم الثّانى له (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) جواب سؤال في موضع التّعليل (إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) يعنى كلّ من في السّموات والأرض يأتى يوم القيامة أو آت في حال وجودهم عبدا للرّحمن خارجا من انانيّته لا مقابلا له وثانيا حتّى يسمّى ولدا ذكرا أو إناثا ، ولمّا كان المراد بالعبديّة العبديّة التّكوينيّة وليس كلّ افراد الإنسان عبيدا لاسمائه اللّطفيّة ومظاهرها بل يكون بعضها عبيدا لاسمائه القهريّة ومظاهرها في الدّنيا والآخرة اختار من الأسماء اسم الرّحمن الّذى هو مجمع أسمائه اللّطفية والقهريّة (لَقَدْ أَحْصاهُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يعلمهم مع كثرتهم؟ ـ فقال : لقد أحصاهم من حيث ذواتهم واجزائها ومالها وما عليها (وَعَدَّهُمْ) من حيث اعداد رؤسهم وأفعالهم وأقوالهم وأحوالهم وأخلاقهم وجميع حركاتهم ولمحاتهم (عَدًّا) خارجا من نحو تعدادكم الموقوف على الزّمان والتّجسّس (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) عمّا يحسب انّه له ممّن يعتمد عليه في الدّين والدّنيا ومن جميع الأموال والقوى والأعضاء ومن جميع النّسب والإضافات ومن الاخلّاء والأحباب (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : كلّهم مؤمنهم وكافرهم يأتيه فردا ، فقال : انّ المؤمنين يكونون بوصف الحبّ أو مع محبّيهم غير منقطعي النّسبة عن اخلّائهم فانّ كلّ نسبة وخلّة منقطعة الّا النّسبة والخلّة في الله وقد تعدّد

١٦

الاخبار بأنّ الرّسول (ص) قال لعلىّ (ع) يا علىّ ، قال اللهمّ اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا ، فقال علىّ (ع) ذلك ونزلت الآية ، وفي بعض الاخبار ولاية أمير المؤمنين (ع) هي الودّ الّذى قال الله تعالى ، والودّ بتثليث الواو مصدر ودّ من باب علم ومنع أو وصف منه والمناسب هو معناه الوصفىّ فانّ المقصود انّا سنجعل لهم محبّا هو محبوبهم عند الرّجوع إلينا ، فانّ نورهم يعنى امامهم يسعى حينئذ بين أيديهم وبايمانهم وان كان المراد به معناه المصدرىّ فالمقصود هو هذا المعنى ، فانّ الحبّ الحقيقىّ هو ملكوت الامام الّذى يظهر على صدر السّالك وهذا يشير الى ما قاله الصّوفيّة من الفكر والحضور والسّكينة وهو ظهور الامام بملكوته على السّالك وانّ السّالك ينبغي ان يكون تمام اهتمامه بظهور الشّيخ عليه وانّه البغية القصوى والقنية العظمى (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) الفاء عاطفة دالّة على شرافة الحكم الآتي والهاء للقرآن أو قرآن ولاية علىّ (ع) أو جعل الودّ الّذى هو ملكوت علىّ (ع) (بِلِسانِكَ) بلغتك فانّ اللّسان يستعمل كثيرا في اللّغة أو على لسانك أو في لسانك (لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ) الّذين اتّقوا بالولاية الطّرق المنحرفة النّفسانيّة (وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا) جمع الالدّ وهو الخصم الشّحيح الّذى لا يزيغ الى الحقّ (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ) بيان لجهة من جهات الإنذار (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ) حال ممّا بعده (مِنْ أَحَدٍ) لفظة من زائدة (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) صوتا يعنى لا ترى منهم عينا ولا تسمع منهم صوتا.

سورة طه

مكّيّة كلّها

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طه) قد سبق بيان تامّ لأمثاله وقد ورد فيه بخصوصه انّه من أسماء النّبىّ (ص) (ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) بل لتسعد فانّ المفاهيم في مقام الخطابة معتبرة ، والشّقاء بمعنى العناء والتّعب ، وقد ورد بطرق متعدّدة انّ الرّسول (ص) كان يقوم على أطراف أصابع قدميه حتّى تورّمت قدماه (ص) واصفرّ وجهه (ص) ، ويقوم اللّيل جمع حتّى عوتب في ذلك فقال الله تعالى : (طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى) (إِلَّا تَذْكِرَةً) استثناء منقطع أو استثناء مفرّغ ومفعول له لتشقى أو مفعول له لما أنزلنا بشرط ان جعل لتشقى حالا من القرآن أو من مجرور عليك أو استثناء مفرّغ حال من فاعل أنزلنا أو من مجرور عليك أو من القرآن أو من فاعل تشقى (لِمَنْ يَخْشى) الخوف بالمعنى الخاصّ من صفات النّفس ما لم تصر عالمة تحقيقا فاذا صارت عالمة تبدّل خوفها بالخشية كما انّها إذا صارت مكاشفة ومشاهدة صارت خشيتها هيبة (تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى) تنزيلا مفعول مطلق لفعله المحذوف ، أو منصوب على المدح بفعل المدح ، أو مفعول مطلق نوعىّ لما أنزلنا ، أو مفعول به ليخشى ، أو مفعول

١٧

له لتذكرة ، أو منصوب بنزع اللّام وتعليل لتشقى أو ليخشى ، ووجه افراد الأرض وجمع السّماوات وبيان مصاديق كلّ قد مضى في اوّل الانعام ، وتقديم الأرض على السّماوات مع انّها أشرف وأقدم من الأرض لمراعاة رؤس الآي ، ولانّ الآية لبيان تشريف التّنزيل بإضافته الى من هو وسيع الخلق قوىّ القدرة وهذا المعنى يقتضي التّرقّى من الأدنى الى الأقوى ، ولتقدّم الأرض على السّماوات في العالم الصّغير وفي الانظار الحسّيّة (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) قرئ الرّحمن مرفوعا مبتدء وعلى العرش خبره ويكون الجملة حالا أو مستأنفا أو يكون على العرش متعلّقا باستوى واستوى خبره وعلى الاوّل فاستوى مستأنفة أو حال أو خبر بعد خبر ، وقرئ مرفوعا مقطوعا عن الوصفيّة خبرا لمبتدء محذوف ، وحينئذ يكون على العرش حالا أو خبرا بعد خبر ، أو جملة بتقدير مبتدء ، ومستأنفة ، وهكذا الحال في استوى وقرئ بالجرّ صفة لمن خلق الأرض ، وعلى العرش حينئذ يكون حالا أو متعلّقا باستوى ، أو جملة مستأنفة بتقدير مبتدء محذوف ويجرى الوجوه السّابقة في استوى ، وقد مضى في سورة الأعراف بيان تامّ لاستواء الرّحمن على العرش ولوجه خلق السّماوات والأرض في ستّة ايّام (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى) الجملة مستأنفة في موضع التّعليل فانّه لمّا ذكر انّه خالق السّماوات والأرض وانّه مستوى النّسبة الى الجليل والقليل والكثير والحقير اجمالا أراد أن يعلّل ذلك بنحو التّفصيل فقال ، لانّ له بدوا وغاية وملكا السّماوات جميعا وما فيها والأرض وما فيها لانّه سبق مكرّرا انّ نسبة شيء الى مظروف تشتمل النّسبة الى الظّرف خصوصا إذا كان المظروف أشرف من الظّرف وما بينهما من عالم البرزخ أو من النّفوس المتعلّقة بهما الغير المنطبعة فيهما ويكون المراد بما فيهما المنطبعات والمكمونات فيهما وما تحت الثّرى من عالم الجنّة أو من القوى والاستعدادات البعيدة المكمونة الّتى لا يعلمها الّا الله (وَإِنْ تَجْهَرْ) يا محمّد (ص) أو يا من يتأتّى منه الخطاب وهو عطف على قوله له ما في السّماوات وتعليل آخر لشمول علمه وسعته وتصريح بإحاطة علمه بعد التّلويح اليه أو جملة حاليّة والمعنى ان تجهر (بِالْقَوْلِ) يعلمه (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) فكيف لا يعلم الجهر ، والسّرّ ما أخفيته في نفسك ، وأخفى ما خطر ببالك ثمّ نسيته كما في الخبر ، أو السّرّ ما كان مخفيّا عن غيرك ، وأخفى ما كان مكمونا عن نفسك ولم تطّلع أنت ولا غيرك عليه (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) استيناف وتعليل وحصر للآلهة فيه تصريحا بعد ما افاده تلويحا (لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) تعليل آخر لعموم جملة صفاته المستفاد اجمالا فانّه ان لم يكن جملة الصّفات الكماليّة ثابتة له أو كان بعض صفاته غير محيطة كان اسم تلك الصّفة واسم كمال هذه مسلوبا عنه فلم يكن الأسماء الحسنى محصورة فيه (وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) عطف على ما أنزلنا لانّ الاستفهام للتّقرير فهو بمنزلة قد أتيك أو مستأنفة ، والمقصود تذكيره (ص) بحكاية موسى (ع) حتّى يكون تسلية له (ص) عن أذى قومه وحملا له على الصّبر على متاعبهم وتجرئة على دعوتهم من غير تأمّل في قبولهم وردّهم ، ومن غير خوف من لومهم وإيذائهم ، وتقوية لتوكّله واعتماده على ربّه (ص) وترغيبا في التّوسّل به والانقطاع من كلّ من سواه يعنى تذكّر حكاية موسى (ع) (إِذْ رَأى ناراً) بدل من حديث موسى (ع) أو ظرف له وسيجيء في سورة القصص حكاية حال موسى (ع) وتولّده ونشؤه وفراره الى مدين وتزويج ابنة شعيب (ع) ورجوعه الى مصر (فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا) فانّه بعد رجوعه من مدين ضلّ الطّريق في ليل مظلم وأصابهم برد شديد وريح وتفرّقت غنمه وأخذ زوجته الطّلق فرأى نارا فقال لأهله : امكثوا (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) اى رأيتها بحيث اطمأنّ قلبي وسكن وحشتي (لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ) بقطعة (أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ

١٨

هُدىً) ما يهتدى به من طريق أو اثر معمورة أو إنسان يدلّنى على الطّريق وكان موسى (ع) غيورا لا يمشى مع الرّفقة لئلّا يرى زوجته الاجنبىّ فلمّا دهمه ظلمة اللّيل وتفرّق ماشيته وأصابهم برد شديد وابتليت زوجته بمرض الطّلق وأراد ان يوقد النّار ولم ينقدح زنده واضطرب اضطرابا شديدا ورأى نارا استأنس بها وقال لأهله تسلية لها انّى آنست نارا وترك الماشية واهله وذهب الى النّار (فَلَمَّا أَتاها) متعلّقا قلبه بأهله وماشيته لانّه تركها بحال لا يجوّز العقل تركها بتلك الحال (نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ) قرئ بفتح همزة انّى وكسرها (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) الوادي المفرج بين الجبال والتّلال والآكام وطوى قرئ منصرفا وغير منصرف باعتبار كونه علما للوادي وعلما للبقعة وسمّى مقدّسا لانّه بورك فيه بسعة الرّزق والخصب كما قيل ، أو لانّه كان مطهّرا من عصيان بنى آدم ، أو لانّه قدّست فيه الأرواح واصطفيت فيه الملائكة وكلّم الله موسى تكليما كما في الخبر ، وسمّى طوى لانّه كان مطويّا فيه العلوم ، أو الملائكة والبشر ، أو الخير والبركة ، أو عالم الطّبع والكثرات ، أو الخلق والحقّ وامره بخلع نعليه لانّ الحفاء أقرب الى التّواضع ، ولان يلاصق قدمه الوادي فتتبرّك به ولانّ النّعلين كانتا كناية عن الأهل ، أو عن الأهل والمال كما يعبّر ان في الرّؤيا بالمنكوحة ، أو لانّهما كانتا كناية عن خوف ضياع ماله واهله ، أو عن خوف ضياع اهله وخوف فرعون فأمره بخلع حبّ الغير أو خوف الغير من قلبه ، وما نقل من طرق العامّة من انّهما كانتا من إهاب الميتة فأمره الله بخلعها ، ورد صريحا تكذيبه من طريقنا.

اعلم ، انّ الإنسان من اوّل طفوليّته مبتلى بمشتهياته الحيوانيّة ومقتضياته النّفسانيّة فهو بعد البلوغ امّا يقف عليها ولا يعرف من الدّين والملّة سوى ما اخذه واعتاده من الآباء والإقران ، أو يظهر في وجوده زاجرا لهىّ فيزجره عن الوقوف على الحيوانيّة وهو امّا يقف على هذه الحالة ويتحيّر في امره حتّى يدركه الموت وهو حال أغلب النّاس أو يصل بهيجانه وانزجاره الى زاجر إلهيّ ظاهرىّ من نبىّ أو خليفته ويسلّم نفسه له ويقبل منه الأحكام القالبيّة الظّاهرة في اىّ دين وملّة كان ، وهو امّا يقف عن طلبه ويكتفى بالاتّصال بالزّاجر الإلهيّ وظواهر الأحكام القالبيّة وهو حال أغلب الملّيّين ، أو يتهيّج لطلب بواطن الأحكام القالبيّة ويطلبها ، وهو امّا يقف ويتحيّر حتّى يدركه الموت ، أو يصل الى من يدلّه على طريق معرفة بواطن الأحكام ، وهذا امّا يكتفى بالوصلة البشريّة والبيعة الولويّة ، أو يزداد بذلك شوقه الى معرفة البواطن وشهود الغيب ، وذلك امّا يقف على هذه الحال حتّى يدركه الموت أو تدركه العناية الإلهيّة وتوصله الى مقام من النّفس يرى فيه مظاهر الله ويسمع صوت الله من مظاهره وهذا اوّل مقام الاطّلاع على الغيب والالتذاذ ببواطن الشّرع ، وهذا اوّل مقام يصلح العبد لان يرجعه الله الى الخلق للدّعوة والتّكميل فانّ دعوته هناك تكون على بصيرة ويصير العبد من اتباع محمّد (ص) الّذين أشار إليهم بقوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) ، سواء كان من أمّة محمّد (ص) أو من الأمم الماضية ، ولمّا كان الإنسان مفطور التّعلّق بالكثرات ولا يبلغ الى هذا المقام الّا من طرح الكثرات وأزال الانانيّات كان الله تعالى إذا أراد ان يبلغ عبده الى هذا المقام ابتلاه بالبلايا الواردة النّفسيّة والبدنيّة والحقّيّة والخلقيّة حتّى ينزجر غاية الزّجرة ويستوحش غاية الوحشة وينصرف من الكثرة الى الوحدة ولذلك يظهر قبل ظهور صاحب الأمر الدّجّال والسّفيانىّ ، وقبل خراب الدّنيا يأجوج ومأجوج ، ولمّا أراد الله تعالى ان يبلّغ موسى (ع) الى هذا المقام وكان شديد الاهتمام بالكثرات وحقوقها سلّط عليه البرد وظلمة اللّيل وتفرّق الماشية ومخاض المرأة وعدم انقداح الزّندة وضلال الطّريق حتّى دهش غاية الدّهشة واستوحش غاية الوحشة ، ثمّ أراه نوره بصورة النّار وبلّغه الى ذلك الوادي وذلك الوادي واقع بين جبلي

١٩

انانيّة الله وانانيّة العبد ومطوىّ فيه الخيرات والبركات ومجتمع للملك والبشر والخلق والحقّ ، ومطوىّ فيه انموذجات العلوم كلّها والآيات جلّها ، وهذا هو طور النّفس ومرتفعها وفناء دار التّوحيد فانّ الطّور اسم للجبل ولفناء الدّار كما انّه علم لجبل قرب ايلة يضاف الى سينا وسينين وعلم جبل بالشّام ، وقيل : هو يضاف الى سينا وسينين ، وعلم جبل بالقدس عن يمين المسجد ، وآخر عن قبلته به قبر هارون ، وجبل برأس العين ، وجبل مشرف على الطّبريّة وعلم كورة بمصر ، وعلم بلد بنواحي نصيبين (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ) يعنى للرّسالة والوحي ، وقرئ انّا اخترناك بفتح الهمزة وتشديد نون انا ، واخترنا بصيغة المتكلّم مع الغير (فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى) للوحى أو للّذى يوحى إليك (إِنَّنِي أَنَا اللهُ) بيان لما يوحى (لا إِلهَ إِلَّا أَنَا) لمّا كان أساس الرّسالة وأصل الأصول والفروع في الدّين هو التّوحيد كان الله تعالى يوحى بتوحيده الآلهة والعبادة اوّل ما يوحى (فَاعْبُدْنِي) اى صر عبدا لي بخروجك من رقّيّتك لنفسك وللشّيطان ومن شراكة نفسك والشّيطان لله في عبديّتك أو اعمل لي عمل العبيد (وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) اى لان أذكرك ولا شرف أشرف منه يعنى انّ الصّلوة ذكرك لي وذكرك لي مستعقب لذكرى لك ، أو لان تذكرني أو لمحض ان تذكرني من غير شوب غرض آخر فيها ، أو المعنى أقم الصّلوة لحصول ذكرى بمعنى انّك كلّما تذكّرتنى فتوجّه توجّها تامّا حتّى تقيم الصّلوة ولا تكن كمن يذكرني ذكرا ناقصا من غير توجّه والتفات ، أو بمعنى انّك كلّما ذكرت الصّلوة المنسيّة بان ذكرتني وذكرت أمري وتذكّرت نيسان الصّلوة المنسيّة فأقمها ، أو بمعنى انّى ذاكر لك بالذّكر العامّ مداما ويقتضي ذلك ان تكون متوجّها الىّ توجّها تامّا وقد سبق في اوّل البقرة معاني الصّلوة ، وتحقيق إقامتها ، وانّ اقامة الصّلوة عبارة عن إيصال الصّلوة القالبيّة بالصّلوة الذّكريّة القلبيّة وإيصال الصّلوة الذّكريّة بالصّلوة الفكريّة الصّدريّة ، وإيصال الصّلوة الفكريّة بالصّلوة القلبيّة الحقيقيّة ، وإيصال الصّلوة القلبيّة بالصّلوة الرّوحيّة.

واعلم ، انّ الذّكر كما سبق بيانه في سورة البقرة عند قوله تعالى (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) له مراتب ودرجات وانّ الذّكر الحقيقىّ وحقيقة الذّكر هو خليفة الله في الأرض ، فانّه وان كان بحسب ملكه مختفيا كونه ذكر الله لكنّه بملكوته ذكر جلىّ لله بحيث يلتبس على غير ذي البصيرة التّامّة انّه هو الله لظهور المحكىّ به بحيث يختفى البينونة ويغلب حكم الظّاهر على المظهر ، وانّ المقصود من الاذكار والأعمال الّتى يقرّرها صاحب هذا الأمر على السّالك هو حصول هذا الذّكر فانّه غاية الغايات ونهاية النّهايات ، فالمعنى على هذا أقم الصّلوة وأوصل مراتبها كلّا بالأخرى لتحصيل هذا الذّكر أو لحصوله يعنى ان لم يكن هذا الذّكر حاصلا لك فأقم الصّلوة ليحصل لك لانّه هو البغية العظمى والغنية القصوى ، وان كان هذا الذّكر حاصلا لك فأقم الصّلوة شكرا لهذه النّعمة واستتماما لتلك البركة (إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ) تعليل لقوله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي) فانّ السّاعة فسّرت في الاخبار بساعة ظهور القائم (ع) ، وبساعة الموت ، وبالقيامة ، وهذه الثّلاث في العالم الصّغير متّحدة فانّ ظهور الامام (ع) بملكوته لا يكون الّا عند الموت الاختيارىّ كما انّه لا يكون الموت الاختيارىّ الّا عند ظهور الامام (ع) وعند الموت يكون القيامة الصّغرى ، وكما يكون ظهور الامام (ع) في الموت الاختيارىّ يكون في الموت الاضطرارىّ أيضا كما في الاخبار فعلى هذا كان المعنى أقم الصّلوة منتظرا لظهور الامام (ع) بملكوته لانّ ساعة ظهوره آتية لا محالة فانتظرها (أَكادُ أُخْفِيها) قرئ بضمّ الهمزة من الإخفاء بمعنى جعل الشّيء خفيّا ، أو بمعنى سلب الخفاء عن الشّيء ، وقرئ بفتح الهمزة من خفاه بمعنى أظهره ، ولكن في الاخبار اشارة الى معنى السّتر ، ولمّا كان ظهور السّاعة من الأمور الخفيّة الّتى لا يطّلع عليها النّفوس الضّعيفة بل الكاملة الّا صاحب الولاية المطلقة الّذى يطّلع على دقائق الأمور وخفيّاتها ولذلك قال علىّ (ع) :

٢٠