تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

وما كان ذا مال ولم يقرأ ولم يكتب ، أو بحال شبيهة بحالك في الرّسالة وعدم موافقة حالك لها مثل قولهم لو لا انزل عليه القرآن جملة واحدة فانّه في معنى قولهم : حاله في الرّسالة شبيهة بحال الرّسل الماضية فلو كان رسولا مثلهم لاتى بكتابه جملة واحدة مثل إتيانهم بكتبهم وإذ لم يأت به دفعة مثلهم فليس برسول (إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ) بالجواب الحقّ الثّابت الدّافع لابطال أمثلتهم المبطل لها المبقى لرسالتك من غير معارض ومبطل (وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) اى بيانا من بيانهم لابطال رسالتك (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ) بدل أو صفة من الّذين كفروا وإظهار لذمّ آخر وفضيحة اخرى أو مبتدء خبره الجملة الآتية أو خبر لمحذوف اى هم الّذين يحشرون (عَلى وُجُوهِهِمْ) يعنى ماشين على وجوههم كما يمشى المستقيم القامة على قدميه أو مقبلين على وجوههم (إِلى جَهَنَّمَ).

اعلم ، انّ الإنسان كما خلق ببدنه مستقيم القامة رأسه في أعلى بدنه ورجلاه على الأرض يمشى الى حاجاته البدنيّة برجليه خلقه بروحه كذلك رأسه المعنوىّ في أعلى وجوده ورجلاه المعنويّتان في أسفل وما بقي على فطرته الانسانيّة كان حاله الباطنيّة على هذا المنوال ، وإذا ارتدّ عن فطرته صار رأسه ووجهه الباطنيّان منكوسين من أعلى وجوده الى اواسطه ويتدرّج في الانحطاط والتّوجّه الى ان وصل رأسه الى مقام رجله وانقلب رجله الى مقام رأسه ، ولمّا كان صورته الاخرويّة وبدنه الملكوتىّ تابعة لنفسه بحيث لا يكون نفسه بحال الّا ويصير بدنه بتلك الحال كان بدنه الاخروىّ منكوسا بحيث يكون مشيه على وجهه ورجلاه من أعلاه ، روى انّ رجلا قال : يا نبىّ الله (ص) كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ ـ قال : انّ الّذى أمشاه على رجليه قادر على ان يمشيه على وجهه يوم القيامة ، وهذا معنى التّناسخ الملكوتىّ وقد يتقوّى ذلك بحيث يسرى اثره الى بدنه الملكىّ فيصير ممسوخا (أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) قال كفّار مكّة لمحمّد (ص) وأصحابه : هم شرّ خلق الله فنزل الآية يعنى ان زعموا انّ محمّدا (ص) وأصحابه شرّ خلق الله فهم حين يسحبون الى النّار كانوا شرّا منهم أو في هذه الدّنيا كانوا شرّا منهم واضلّ سبيلا منهم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) لمّا ذكر حال محمّد (ص) في رسالته وحال الكفّار في الإنكار ذكر الرّسل الماضية وانكار المنكرين وتدميرهم ليكون تسلية وتقوية للرّسول (ص) والمؤمنين وتهديدا للمنكرين (وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً) لمّا كان المقصود تسلية الرّسول (ص) والمؤمنين وتهديد المنكرين والمعاندين من ذكر رسالة موسى (ع) وهارون اقتصر على ذكر إرسالهما وانكار قومهما وتدميرهم من تفصيل كيفيّة إرسالهما وتدميرهم وكان حقّ العبارة ان يقول ثمّ دمّرناهم لكن أتى بالفاء لإيهام انّ التّدمير كان عقيب الرّسالة بلا مهلة ليكون أبلغ في التّقوية والتّهديد والتّقدير فذهبا وبلّغا رسالتهما وداريا القوم مدّة مديدة وبالغ القوم في الإنكار حتّى انتهوا في إنكارهم الى ابطال فطرتهم فدمّرناهم (وَقَوْمَ نُوحٍ) عطف على مفعول دمّرناهم وقوله تعالى (لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ) استيناف كلام جواب لسؤال مقدّر أو مفعول لا ذكر محذوفا ومعطوف على قوله لقد آتينا موسى الكتاب فانّه في معنى ذكر موسى (ع) وقومه وما بعده مستأنف أو مفعول لمحذوف يفسّره ما بعده وليس من باب شريطة التّفسير لعدم جواز تسلّط ما بعد لمّا على ما قبلها ، ونسب تكذيب جميع الرّسل (ع) إليهم امّا لأنّهم كانوا أنكروا الرّسالة أو لانّهم أنكروا نوحا (ع) ومن سبق عليه أو لانّ انكار واحد من الرّسل مستلزم لانكار جميع الرّسل (ع) (أَغْرَقْناهُمْ) جميعا (وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً) دالّة على قدرتنا وسخطنا على من خالف رسلنا بحيث لا يخفى على أحد (وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ) يعنى لهم لكنّه وضع الظّاهر موضع المضمر للتّصريح

١٤١

بانّهم في تكذيب الرّسل (ع) ظالمون ، أو المقصود تهديد مطلق الظّالمين (عَذاباً أَلِيماً) في الآخرة كما انّ التّدمير والإغراق كانا في الدّنيا (وَعاداً) عطف على مفعول دمّرناهم أو على مفعول جعلناهم أو على للظّالمين بطريق الحذف والإيصال ، أو بالعطف على محلّه أو مفعول لا ذكر محذوفا أو لاهلكنا محذوفا (وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِ).

حكاية أصحاب الرّسّ

الرّسّ البئر المطويّة بالحجارة واسم لبئر كانت لبقيّة من ثمود والحفر والإخفاء ودفن الشّيء تحت الشّيء ، وأصحاب الرّسّ على ما روى عن مولانا أمير المؤمنين (ع) كانوا يعبدون شجر الصّنوبر ، وكان لهم اثنتا عشرة قرية على نهر يقال له الرّسّ وسمّوا قراهم بأسماء الشّهور الفرسيّة وكان في كلّ شهر عيد لهم في قرية من قراهم ، وأخذوا أسماء الشّهور من أسماء تلك القرى أخذوا لكلّ شهر اسم القرية الّتى كان في ذلك الشّهر عيد تلك القرية ، وكان في كلّ قرية شجرة يعبدونها ويجتمعون عندها في موسم العيد ، وكان الشّيطان يحرّك تلك الشّجرة بعد الاجتماع عندها وعبادتها ويتكلّم معهم ويصيح من ساقها قد رضيت عنكم عبادي فطيبوا نفسا ، وإذا كان عيد قريتهم الكبيرة اجتمعوا عند الشّجرة العظيمة الّتى فيها أكثر ممّا اجتمعوا في سائر القرى وذبحوا القرابين أكثر ممّا ذبحوا في سائر القرى وكان الشّيطان يتكلّم من جوف تلك الشّجرة كلاما جهوريّا ويمنّيهم أكثر من السّابق ، فلمّا تمادوا في ذلك أرسل الله تعالى إليهم نبيّا من ولد يهود ابن يعقوب فمكث يدعوهم الى التّوحيد زمانا طويلا فلمّا رأى تماديهم في الطّغيان دعا الله ان ايبس أشجارهم فيبست فلمّا رأوا أشجارهم قد يبست صاروا فرقتين ، فرقة قالوا سحر هذا آلهتكم ، وفرقة قالوا غضب آلهتكم حين رأت هذا الرّجل يصرف وجوه النّاس عنها ولم تغضبوا لها ، واجمعوا على ان يدفنوه في نهر الرّسّ تحت الشّجرة الكبيرة ودفنوه حيّا تحت نهر الرّسّ ، فسمّاهم الله أصحاب الرّسّ لكونهم أصحاب القرى الواقعة على نهر الرّسّ أو لدفنهم نبيّهم حيّا ، فغضب الله فأرسل عليهم ريحا شديدة الحمرة وصارت الأرض من تحتهم حجر كبريت تتوقّد واظلّتهم سحابة سوداء فألقت عليهم كالقبّة جمرا يلتهب فذابت أبدانهم كما يذوب الرّصاص في النّار ، وقيل : الرّسّ نهر بناحية آذربايجان ، روى انّه دخل على الصّادق (ع) نسوة فسألته امرأة منهنّ عن السّحق فقال : حدّها حدّ الزّانى فقال المرأة : ما ذكر الله عزوجل ذلك في القرآن؟ ـ فقال : بلى ، فقالت : واين هو؟ ـ قال (ع) : هنّ أصحاب الرّسّ ، وفي خبر : دخلت امرأة مع مولاة لها على ابى عبد الله (ع) فقالت ما تقول في اللّواتى مع اللّواتى؟ ـ قال (ع) : هنّ في النّار الى ان قالت : ليس هذا في كتاب الله؟ ـ قال : نعم ، قالت : اين هو؟ ـ قال (ع) : قوله : وعادا وثمود وأصحاب الرّسّ فهنّ الرّسّيّات ، وفي خبر : انّ سحق النّساء كانت في أصحاب الرّسّ ، وقيل : انّ الرّسّ اسم بئر رسوا فيها نبيّهم اى القوا فيها ، وقيل : أصحاب الرّسّ كانوا أصحاب مواش ولهم بئر يقعدون عليها وكانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم شعيبا فكذّبوه فانهار البئر وانخسفت بهم الأرض فهلكوا ، وقيل : الرّسّ قرية باليمامة قتلوا نبيّهم فأهلكهم الله ، وقيل : الرّسّ بئر بانطاكية قتل أهلها حبيبا النّجّار فنسبوا إليها (وَقُرُوناً) جمع القرن والقرن له معان عديدة لكنّ المناسب هاهنا ان يكون بمعنى الامّة الهالكة الّتى لم يبق منهم أحد ، أو أهل زمان واحد أو الامّة بعد الامّة (بَيْنَ ذلِكَ) المذكور من قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرّسّ وقوم موسى (كَثِيراً وَكُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ) يعنى كلّا من الأمم الهالكة أجرينا له حكايات عديدة من الماضين مهدّدة من سخطنا ومرغّبة في رحمتنا كما ضربنا لامّتك الأمثال العديدة بهذا المنوال (وَكُلًّا تَبَّرْنا) التّبر الكسر والإهلاك كالتّتبير (تَتْبِيراً وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ) وهي قرى قوم لوط أمطرت بالحجارة (أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها) حتّى يعتبروا بها ولا يحتاجوا في التّنبيه والتّهديد الى غيرها (بَلْ) رأوها ولكن

١٤٢

(كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً) لعدم اعتقادهم بالحشر أو ليأسهم من رحمة الله فيكون المعنى لا يرجون نشورا للثّواب (وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً) الهزؤ بالضّمّ والسّكون والهزؤ بالضّمّتين مصدرا هزء به ومنه كمنع وسمع بمعنى سخر منه قائلين تهكّما بك وتحقيرا لك (أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللهُ رَسُولاً) وهذا الكلام منهم لغاية التّحقير والاستهزاء لإتيانهم بالاستفهام التّعجّبىّ الدّالّ على منافاة حاله لرسالة الله لحقارته ، وباسم الاشارة القريبة الدّالّ على تحقيره ، وببعث الله ايّاه رسولا على سبيل التّسليم من حيث انّهم جعلوا البعث صلة للموصول دالّة على تحقّقه وتسليمه مع إنكارهم له وهذا مبتدء والّذى خبره أو صفته وخبره قوله (إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا) ان مخفّفة من الثّقيلة أو نافية على قول يعنى انّه لكثرة ما يدعو ويصرّ على ادّعاء الى آلهة ، وكثرة ما يحاجّ بما يزعمه برهانا ، وكثرة ما يظهره ممّا يزعمه معجزة يكاد يصرف وجوهنا (عَنْ آلِهَتِنا) الى آلهة (لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها) جواب لولا محذوف بقرينة السّابق اى لكاد يضلّنا فهو بمنزلة القيد لقوله ان كاد ليضلّنا (وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ) حال الاحتضار أو في البرازخ أو في القيامة (مَنْ أَضَلُ) منك ومنهم (سَبِيلاً) لمّا دلّ قولهم ان كاد ليضلّنا عن آلهتنا على انّه ضالّ ويريد اضلالهم قال تعالى : سوف يعلمون من اضلّ سبيلا (أَرَأَيْتَ) خطاب لمحمّد (ص) والرّؤية من رؤية البصر أو رؤية القلب أو الخطاب عامّ (مَنِ اتَّخَذَ) من موصولة ومفعول لرأيت أو استفهاميّة ومفعول معلّق عنه العامل (إِلهَهُ هَواهُ) قدّم المفعول الثّانى للاهتمام به والهوى مقصورا المحبّة والعشق في الخير والشّرّ والمهوىّ كذلك لكن إذا أضيف الى الإنسان أو الى نفسه يتبادر منه الهوى في الشّرّ بالنّسبة الى الانسانيّة ، والإله هو الّذى يعبده الإنسان يعنى يطيعه في أوامره ونواهيه ويجعل غاية حركاته وسكناته الّتى يسمّيها عبادة رضاه ، ولمّا كان الإنسان ما لم يصبر بالنّسبة الى الله والشّيطان كالمدارك بالنّسبة الى النّفس ذا وجهين وجه الى نفسه ووجه الى عقله ووجهه النّفسانىّ يأمره بمهويّات النّفس الّتى فيها هلاكه وضلاله ، ووجهه العقلانىّ يأمره بمرضيّات العقل الّتى هي مرضيّات الله ومأموراته ، وبعبارة اخرى ما لم يخرج الإنسان من حكم نفسه ولم يتمكّن في اتّباع الرّحمن أو الشّيطان كان عليه حاكمان حاكم الهىّ عقلانىّ وحاكم شيطانىّ نفسانىّ هذا يزجره وذاك يغويه ، فاذا اتّبع الشّيطان في اغوائه والنّفس في هواها وإراداتها ومهويّاتها تدرّج في المحكوميّة للشّيطان والنّفس بحيث تمكّن في ذلك ولم يبق فيه مدخل ومخرج للعقل والملك والرّحمن ، ولا يقبل حكم الله بتوسّط الملك والعقل ، ولا يحبّ مرضيّات العقل ولا يطلبها بل يطيع الشّيطان في امره بطلب المهويّات والمهويّات في جذبها الّذى هو أمرها التّكوينىّ والإرادات في تسخيرها له الّذى هو أمرها فيكون الشّيطان معبودا له اوّلا كما قال تعالى حكاية لقول الملائكة بل كانوا يعبدون الجنّ أكثرهم بهم مؤمنون لكن من حيث لا يشعرون بل يحسبون انّ الله يعبدون ثمّ المهويّات ثانيا ثمّ الاهوية والإرادات ثالثا ونعم ما قيل :

اى هواهاى تو خدا انگيز

زين خداهاى تو خدا بيزار

(أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) حتّى تحزن على اتّباعهم الهوى وعدم استماعهم منك وتضيق صدرا به ، والوكيل فعيل بمعنى المفعول من وكل اليه الأمر سلّمه اليه وتركه ، وتعديته بعلى بتضمين مثل معنى الرّقيب (أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ) في مقام التّقليد (أَوْ يَعْقِلُونَ) في مقام التّحقيق فانّ السّماع اوّل مقام العلم الّذى هو مقام التّقليد ، والتّعقّل آخر مقامه الّذى هو مقام التّحقيق والتّحقّق وإليهما أشار تعالى بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ

١٤٣

كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)(إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ) في عدم التّدبّر وعدم تذكّر المقصود من التّخاطب وفي كونهم محكومين بحكم شهوتهم وغضبهم من دون رادع يردعهم من أنفسهم (بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) لانّ الانعام مفطورة على اتّباع الشّهوات والغضبات وليست ضالّة عن طريقها المفطورة عليها ، وانّما ضلالها يكون بالنّسبة الى الإنسان وطريقه والإنسان مفطور على السّلوك الى الله والخروج من جملة الحدود والتّعيّنات واللّحوق بعالم الإطلاق ، فاذا انصرف عن هذا السّير واللّحوق ووقف على بعض مراتب البهائم أو السّباع أو الشّياطين كان ضالّا عن طريقه الخاصّة به واضلّ من كلّ ضال ، لانّ ضلال كلّ ضالّ سوى الإنسان والجانّ يكون بالنّسبة الى طريق الانسانيّة الّتى لا يترقّب منه السّير عليها بخلاف ضلال الإنسان فانّه يكون بالنّسبة الى طريقه الّتى يترقّب منه السّير عليها (أَلَمْ تَرَ) الخطاب لمحمّد (ص) فانّه أهل لتلك الرّؤية وينبغي ان يعاتب على تركها ويؤكّد ثبوتها له أو عامّ فانّ غيره ينبغي ان يرى ويوبّخ على تركها (إِلى رَبِّكَ) المضاف وهو ربّه في الولاية ، ومدّ الظّلّ منه عبارة عن صورته المثاليّة الّتى إذا تمكّن القابل للولاية في الاتّصال بها يرى سعة احاطتها وتصرّفها فيما سواها من غير توقّف الى مضىّ زمان أو قطع مكان والنّقل من مقام أو ربّك المطلق ، ومدّ الظّلّ منه عبارة عن سعة مفعولاته وكثرة مقدوراته وانتهاء ذلك الظّلّ الى الملكوت السّفلى وعالم الجنّة والشّياطين ، أو المراد بالظّلّ هو الّذى خرج من انانيّته وحيي بحيوة الله وبقي ببقاء الله وهم الأنبياء والأولياء (ع) فانّهم بالنّسبة الى الله كالظّلّ بالنّسبة الى الشّاخص من حيث انّه لا انانيّة له من نفسه ولا استقلال ولا بقاء كما قيل :

سايه يزدان بود بنده خدا

مرده اين عالم وزنده خدا

كيف مدّ الظل نقش اولياست

كو دليل نور خورشيد خداست

دامن أو گير زوتر بيگمان

تا رهى از آفت آخر زمان

اندرين وادي مرو بى اين دليل

لا احبّ الآفلين گو چون خليل

(كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ) قيل على ظاهر التّنزيل : الم تر الى فعل ربّك ، وقيل معناه : الم تعلم ، وقيل : انّ هذا على القلب والتّقدير الم تر الى الظّلّ كيف مدّه ربّك ، وقيل : المراد بالظّلّ ما بين الطّلوعين فانّه ظلّ ممدود غير مقطوع ، وقيل : المراد بالظّلّ ما بين غروب الشّمس الى طلوعها (وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً) غير ممدود وغير متحرّك الى المدّ أو جعله ساكنا من السّكنى بمعنى الاقامة فانّه لو شاء الله لم يظهر الشّمس حتّى يكون الظّلّ دائما ، أو لم يتبدّل أوضاعها حتّى يكون الظّلّ بحال واحدة ، أو لم يرجع الفاني الى البقاء أو لم يذهب بالرّاجع الى البقاء الى حضرته فيكون نبىّ واحد وولىّ واحد في جملة أدوار العالم أو لم يذهب بالمكوّنات ولم يخرجها من القوى الى الفعليّات أو لم ينزل الوجود من عالم الأرواح الى عالم الأكوان (ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً) يعنى لو شاء لجعل الشّمس على الظّلّ دليلا لكنّه لم يشأ فجعل الظّلّ دليلا على الشّمس فانّه بجملة معانيه وبطونه يدلّ على الشّمس ، أو المعنى ثمّ لو شاء لجعل الشّمس عليه دليلا لكنّه شاء وجعل الشّمس دليلا على الظّلّ لمن رقى عن رؤية افعال الله الى مشاهدة ذاته في مظاهر جماله ، أو المعنى الم تر كيف مدّ الظّلّ ثمّ كيف جعل الشّمس عليه دليلا لمن صار كذلك وعلى هذين المعنيين فالإتيان بثمّ للاشعار بانّ دلالة الشّمس على الظّلّ مع انّها مدلولة للظّلّ في اوّل الأمر لا تكون بعد مشاهدة فعل الله في جملة الأفعال الّا بتراخ كما انّ الالتفات من الغيبة الى التّكلّم للاشارة الى انّ دلالة الشّمس على مصنوعاته لا تكون الّا بعد حصول مقام الحضور (ثُمَّ قَبَضْناهُ) بعد المدّ (إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً) لفظ إلينا كالتّصريح بانّ المقصود من الظّلّ هو الأنبياء والأولياء (ع) ، وجملة الموجودات وقبض ظلّ الشّمس بعد المدّ محسوس ، وقبض

١٤٤

الأنبياء والأولياء (ع) وقبض جملة الخلق أيضا محسوس فانّ المكوّنات كلّها من اوّل خلقتها الّتى هي مدّ الظّلّ تكون في الخروج من القوى الى الفعليّات وفي طرح النّقائص والاعدام وهذا الخروج والطّرح هو قبض الرّبّ ايّاها اليه ، واليسير اشارة الى التّدريج في القبض (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً) عطف على الم تر كيف مدّ الظّلّ باعتبار المعنى ، فانّه في معنى هو الّذى مدّ الظّلّ والمراد باللّباس الثّوب فانّ ظلمة اللّيل السّاترة للاشخاص عن الانظار شبيهة باللّباس السّاتر للأبدان من الانظار ، أو الاختلاط فانّ اللّيل سبب لاختلاط القوى وآثارها ، أو الاجتماع مقابل النّشر في النّهار فانّ اللّيل وقت لاجتماع الأشخاص في البيوت واجتماع القوى والأرواح في الباطن (وَالنَّوْمَ سُباتاً) اى سبب قطع من الدّنيا ومشاغلها أو سبب راحة أو نوم (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) اى سبب نشور ، ولمّا كان المقام للامتنان بتعداد النّعم وتكرار النّعم والبسط فيها كان مطلوبا كرّر جعل هاهنا ولمّا كان النّوم من نعم اللّيل كأنّه لم يكن نعمة على حيالها لم يكرّر جعل هناك (وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) فانّ الرّياح الصّوريّة وقت الشّتاء والرّبيع تحرّك السّحاب وتصير سببا لامطار المطر ، واطلاق الرّحمة على المطر شائع في العرب والعجم ، ورياح الغموم والأخاويف والأسقام والقبضات والبلايا وسائر ما لا يلايم الإنسان تبشّر بضدّ ذلك فانّ مع العسر يسرين وقد سبق في سورة الأعراف اختلاف القراءة في بشرا وغير ذلك (وَأَنْزَلْنا) لمّا كان الامتحانات الالهيّة موجبة لترقّى السّالك عن مقام الغيبة الى مقام الحضور ويكون الامتحان في الغياب قال أرسل الرّياح بالغيبة وأنزلنا بالالتفات من الغيبة الى الحضور (مِنَ السَّماءِ) اى السّحاب أو جهة العلو بعد إرسال الرّياح (ماءً طَهُوراً) اى طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره من الاخباث والاحداث فانّ الطّهور للمبالغة في الطّاهر ، والبالغ في الطّهارة هو الّذي يكون لشدّة طهارته مورثا لطهارة مجاورة ، وتوصيف الجنس بهذا الوصف يدلّ على انّ الماء ما لم يخرج من حدّ اطلاق هذا الاسم ولم يصر مضافا ومغلوبا لوصف غيره لم يسلب عنه هذا الوصف قليلا كان أم كثيرا واردا على المتنجّس أم واردا عليه المتنجّس أو ملاقيا له غسالة أم غيرها ، كما افتى به بعض الفقهاء رضوان الله عليهم ، لكنّ الاحتياط طريق الرّشاد خصوصا في البلاد الّتى يكون الماء بها كثيرا حيث لا ينجرّ الى تعسّر وتبذير وإسراف (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) موت البلاد بسكون عروق اراضيها وحبوبها عن الهيجان والحركة والنموّ وحيوتها بهيجان تلك ونبتها ونموّها (وَنُسْقِيَهُ) اى الماء الطّهور (مِمَّا خَلَقْنا) بعضا ممّا خلقنا (أَنْعاماً) مفعول نسقيه ، وممّا خلقنا حال مقدّم أو ممّا خلقنا مفعوله على كون من التّبعيضيّة اسما أو قائما مقام الاسم وانعاما بدل أو حال منه (وَأَناسِيَ) جمع الانسىّ بمعنى الإنسان أو جمع الإنسان بإسقاط النّون والإتيان بالياء عوضا عنها أو بإبدالها ياء (كَثِيراً) قد يوحّد الكثير للجميع وقد يطابق ونكرّ الانعام وخصّها بالذّكر من بين سائر الحيوان لانّ كثيرا من الانعام تسقى من الأنهار ، وكثيرا من الحيوان غنيّة من الماء ، وبعضها يطلب الماء في المسافات البعيدة ، ونكّر الاناسىّ لذلك ، وقدّم احياء الأرض وسقى الانعام على سقى الإنسان لانّ احياء الأرض وسقى الانعام ليس الّا للإنسان وعمدة منافعه وأسباب تعيّشه منوطة بهما فكان الاهتمام بهما في مقام تعداد النّعم أكثر من سقى الماء الإنسان (وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ) اى امر ولاية علىّ (ع) فانّه المعهود على الإطلاق والمنظور من كلّ قول وخطاب ، أو صرّفنا تعداد النّعم في القرآن وسائر الكتب وعلى السنة خلفائنا أو صرّفنا المطر في البلدان والبراري والبحار وفي الأوقات وفي الأوصاف بجعله وابلا وطلّا ورضراضا وثلجا وبردا ومتتابعا وغير متتابع (بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا) بذلك ويقرّوا بالمبدء والمعاد (فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ) الّذين نسوا الآخرة ولم يكن لهم همّ الّا حيوتهم الدّنيويّة (إِلَّا كُفُوراً) بالولاية أو بالنّعم المعدودة من حيث أنعامنا

١٤٥

أو بنعمة المطر وأنعامنا به ، عن ابى جعفر (ع) انّه قال : فأبى أكثر النّاس من أمّتك بولاية علىّ (ع) الّا كفورا (وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً) لكن لم نشأ لعدم اقتضاء الحكمة ذلك فانّ توحيد الرّسول (ص) تفخيم لشأنه وتوحيد لجهة توجّه الخلق وفي هذا التّوحيد إصلاحهم وتكميلهم (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ) بالله أو بك أو بالولاية في إراداتهم واهويتهم (وَجاهِدْهُمْ بِهِ) بالقرآن أو ترك طاعتهم أو بعلىّ (ع) (جِهاداً كَبِيراً وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ) أرسل وخلّى (الْبَحْرَيْنِ) البحر العذب والبحر الأجاج (هذا عَذْبٌ فُراتٌ) العذب من الطّعام والشّراب كلّ مستساغ ، والفرات البالغ في العذوبة (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) الملح ضدّ العذب ، والأجاج البالغ في الملوحة (وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً) حاجزا من قدرته بحسب التّنزيل ومن عالم سوى العالمين ومن شيء سوى البحرين بحسب التّأويل (وَحِجْراً) الحجر بالتّثليث المنع ويستعمل في المانع والحرام (مَحْجُوراً) تأكيد للحجر مثل ظلّ ظليل ، قيل : ذلك مثل دجلة تدخل البحر وتشقّه ولا يغيّر أحدهما طعم الآخر ، وقيل : ذلك مثل الأنهار العظيمة جعل الله بينها وبين البحار العظيمة برزخا من الأرض مانعا من اختلاطها ، أو المراد بالبحرين بحر الفاعليّة الّتى هي عين ذات الفاعل وبحر القابليّة الّتى هي عين ذات القابل ، وبالبرزخ الصّور المنطبعة الّتى هي بوجه من جهة القابل ، وبوجه من جهة الفاعل ، وهي برزخ مانع من اختلاط الفاعليّة بالقابليّة وتدنّسها بها ، وهلاك القابليّة بالفاعليّة ، أو البحران عالم الأرواح المجرّدة الصّرفة وعالم الأجسام المادّيّة ، والبرزخ عالم البرزخ وعالم المثال المانع من فناء الأجسام بالأرواح واختلاط الأرواح بالأجسام ، أو البحران عالم الأجسام المادّيّة وعالم المثال وما فوقه والبرزخ عالم البرزخ المعبّر عنه بهور قوليا ، أو البحران الملكوتان السّفلىّ والعلوىّ والبرزخ عالم الأجسام المانع من ظهور أحدهما على الآخر فانّه لو ظهر أحدهما على الآخر لفنى الملكوت السّفلىّ وهلك ، أو البحران عالم الأجسام وعالم المثال والبرزخ عالم النّفوس الحيوانيّة وكلّ هذه كما هي جارية في العالم الكبير تجري في العالم الصّغير (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ) اى ماء البحرين فانّ المناسب لذكره في ذيل البحرين ان يكون اللّام للعهد يعنى عوضا عن المضاف اليه ، أو من النّطفة فانّ الإنسان مخلوق من النّطفة الّتى هي أمشاج من الطّينتين السّجّينيّة والعلّيّينيّة اللّتين هما من البحرين (بَشَراً) البشر الإنسان ذكرا كان أو أنثى واحدا أو غيره وقد يثنّى ويجمع لكن اطلاق البشر على الإنسان باعتبار جسمانيّته المحياة بروحانيّته (فَجَعَلَهُ) بعد ما خلقه (نَسَباً) اى منسوبا أو منسوبا اليه أو ذا نسب والنّسب القرابة مطلقة أو من جانب الأب (وَصِهْراً) اى جعله قرابة بالنّسب وقرابة بالمصاهرة فانّ الصّهر مطلق القرابة أو الانتساب بالمصاهرة وهو المراد كما انّ المراد بالنّسب الانتساب بالتّوالد ، وورد انّ المراد بالبشر آدم (ع) وحوّاء (ع) خلقهما من الماء بان جعل جزء مادّتهما الماء أو خلقهما من امتزاج الماء العذب الفرات والماء الملح الأجاج ، وخلق حوّاء من ضلعه الأيسر فصارا ذوي نسب وزوّج حوّاء آدم فصارا ذوي صهر ، وفي اخبار عديدة مضمون انّ المراد بالبشر محمّد (ص) وعلىّ (ع) وانّ الله خلق ماء تحت العرش قبل ان يخلق آدم وأسكنه في لؤلؤ خضراء في غامض علمه الى ان خلق آدم فلمّا خلق آدم نقل ذلك الماء من اللّؤلؤ فأجراه في صلب آدم الى ان جعله الله في صلب عبد المطّلب ثمّ شقّه نصفين ومحمّد (ص) وعلىّ (ع) من ذينك النّصفين فصارا ذوي نسبين ، وتزوّج علىّ (ع) فاطمة (ع) فصارا صهرين ، وانّ الآية في محمّد (ص) وعلىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وهم البشر وجعلهم الله ذوي نسب وصهر (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) على خلق البشر من الماء وجعله نسبا وصهرا (وَيَعْبُدُونَ) اى المشركون أو الكافرون أو المحجوبون في حجب الأجسام

١٤٦

أو الغافلون أو المنكرون للولاية وهو المنظور (مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ) من الأشجار والأحجار والكواكب والأصنام والجنّ والشّياطين والاهوية والمهويّات ورؤساء الضّلالة (وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ) عطف في معنى الاضراب كأنّه قال : بل كانوا لكنّه وضع الظّاهر موضع المضمر ليكون تصريحا بذمّهم بالكفر وتعليلا للحكم ، والمراد بالكافر أحد الأصناف المذكورة فانّ كلّا كان (عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) اى مظاهرا على ربّه لانّ ربّ الكافر لا يظهر الّا بالفطرة الانسانيّة الّتى هي الولاية التّكوينيّة أو اللّطيفة العقلانيّة وتلك الفطرة مظهر للرّبّ في الولاية وللرّبّ المطلق والكافر باىّ معنى كان ساتر لتلك اللّطيفة والسّاتر لتلك اللّطيفة نابذ لها خلف ظهره ومظاهر للشّيطان على تضعيفه تلك الفطرة في جملة أفعاله سواء كانت بصورة العبادات أم لا ، لانّ السّاتر لتلك اللّطيفة يكون توجّهه في فعله الى غيره وكلّ فعل منه خروج من القوّة الى الفعليّة والخروج من القوّة الى الفعليّة إذا لم يكن بالتّوجّه الى تلك اللّطيفة صار صاحبه بتلك الفعليّة بعيدا من تلك اللّطيفة حتّى تنقطع منه وصار مرتدّا فطريّا غير مرجوّ منه الخير وغير مقبول التّوبة ، وأشير في الاخبار الى انّ المراد بالكافر مخالف الولاية وبربّه علىّ (ع) ، وقيل : المراد بالكافر ابو جهل وبربّه محمّد (ص) ، ولا ينافي ذلك التّعميم كما عرفت وجهه (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً) تسلية له (ص) ورفع للحرج عنه كأنّه ضاق صدره من كفرهم وكونهم مظاهرين عليه وتحرّج على ان لا يقدر على تغييرهم عن كفرهم (قُلْ) يا محمّد (ص) تسلية لقلبك ومتاركة معهم وإتماما للحجّة عليهم (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) اى على الإرسال أو على التّبشير والإنذار (مِنْ أَجْرٍ) اى شيئا من الأجر حقيرا حتّى تتّهمونى بانّ ادّعائى لذلك ليس من الله (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ) في الولاية أو ربّه المطلق (سَبِيلاً) اىّ سبيل كان.

اعلم ، انّ شأن الرّسالة ليس الّا الإنذار من التّوقّف في مسبع النّفس والتّخويف من مخاوف الوقوف على المشتهيات النّفسيّة الّتى توجب دخول النّار مع الكفّار كما قال : انّما أنت منذر بطريق الحصر وانّ المقصود من قبول الرّسالة والبيعة الاسلاميّة ليس الّا الاهتداء الى الايمان الّذى هو طريق الى الله ، وقد علمت انّه لا يحصل الّا بقبول الولاية والبيعة الايمانيّة فالإسلام في الحقيقة مقدّمة للايمان ودلالة على الطّريق الى الله فلم يكن مقصود الرّسول (ص) من تبليغه الّا ايمان المؤمن لا إسلام المسلم الّا من باب المقدّمة ولانّه يصير المؤمن بشأن ايمانه من اظلال الرّسول (ص) من حيث ولايته واجزائه صحّ ان يقول الرّسول لا اطلب منكم على متاعب رسالتي الّا ذات من شاء ان يتّخذ الى ربّه سبيلا ، اى من شاء ان يصير مؤمنا وقابلا للولاية واترك الكفّار الّذين هم أموات ولا تنظر إليهم والى ما فعلوا من عبادة غير الله ومن ايذائك فانّهم لا حراك لهم الّا بالله وكل أمورك الى الله (وَتَوَكَّلْ) واعتمد (عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ) اى على الحىّ بالذّات فانّ من يموت يكون حيوته عرضيّة يعنى لا تر الأفعال من غير الله بل كن فانيا من نسبة الأفعال الى غيره وانظر الى علمه تعالى وقدرته وإرادته بالذّات فانّ الحيوة يستلزمها وإذا كانت ذاتيّة كانت تلك أيضا ذاتيّة واعلم ، انّها في غير الله بتوسّطه حتّى تعتمد عليه وتكامل أمورك اليه ولا تنظر الى فعل وارادة وقدرة من غيره فانّ مقام التّوكّل لا يحصل للسّالك الّا بالفناء من فعله والنّظر الى سريان قدرته وإرادته وفعله في الجميع (وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ) اى نزّهه عن جميع ما لا يليق به بسبب حمده الّذى هو سعة وجوده فانّ تسبيحه لا يكون الّا تحميده كما مضى في اوّل الفاتحة انّ تسبيحه عبارة عن سلب النّقائص والحدود عنه ، وسلب الحدود ليس الّا سلب السّلب الرّاجع الى سعة الوجود ، والمراد بالتّسبيح منه (ص) ليس الّا التّسبيح الفعلىّ الّذى هو خروجه عن جميع الحدود وفناؤه عن أفعاله وصفاته وذاته يعنى لا تنظر الى حدودك وحدود غيرك وذنوبهم فانّ الله يقلّبهم في الحدود والذّنوب ويجازيهم على

١٤٧

ما يستحقّونه (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) لا حاجة له الى نظرك إليهم (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) بدل أو صفة للّذى لا يموت أو خبر مبتدء محذوف ، أو مفعول فعل محذوف ، أو مبتدء خبره الرّحمن أو قوله فاسئل (وَما بَيْنَهُما) من الملائكة والمواليد (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ) قد مضى الآية بتمام اجزائها في سورة الأعراف وذكرنا هناك كيفيّة خلق السّماوات والأرض في ستّة ايّام وسرّ تعقيب خلقهما باستوائه على العرش بأداة التّراخى ، ولمّا كان استواؤه تعالى على العرش الّذى هو جملة المخلوقات بمعنى استواء نسبته الى الجليل والحقير بصفته الرّحمانيّة جعل المسند اليه عنوان وصف الرّحمن (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) سألته كذا وعن كذا وبكذا بمعنى فيجوز ان يكون الباء صلة اسئل وخبيرا مفعوله الاوّل ، أو خبيرا حالا ومفعوله الاوّل محذوفا اى اسئله عن حاله حالكونه خبيرا ، أو اسئله ذاته حالكونه خبيرا ، ويجوز ان يكون الباء سببيّة وخبيرا مفعوله الاوّل ويكون الكلام على التّجريد مثل رأيت بزيد أسدا (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) عطف على يعبدون وذمّ آخر لهم (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) لمّا كان المخاطبون لا يدركون من عناوين الله الّا عنوان رحمته الرّحمانيّة علّق الحكم على الرّحمن دون سائر الأسماء (قالُوا) استهزاء أو إظهارا للجهل به وسؤالا عنه أو إنكارا لسجدته (وَمَا الرَّحْمنُ) والإتيان بما دون من أيضا لذلك (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا) بالسّجدة له ، الاستفهام للإنكار كأنّهم أنكروا الايتمار بأمره لا السّجدة للرّحمن ولذلك لم يقولوا : أنسجد للرّحمن (وَزادَهُمْ) أمرك أو ذكر الرّحمن أو ذكر سجدة الرّحمن (نُفُوراً) منك أو من أمرك أو من الرّحمن أو من سجدته (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) جملة انشائيّة منقطعة عن سابقها والسّماء اعمّ من هذه السّماء المشهودة وعوالم الأرواح وسماواتها ، والبرج بمعنى الرّكن والحصن والبروج الاثنا عشر المشهورة الموهومة في الفلك الأطلس المعيّنة بالاشكال الموهومة من كواكب الفلك الثّامن ، ويجوز ان يراد بالبروج الكواكب السّيّارة أو الكواكب الكبار المضيئة سيّارة كانت أم ثابتة أو مطلق الكواكب فانّ كلّا منها حصن أو مثل حصن أو هي أركان السّماء ، أو ان يراد اللّطائف النّبويّة والولويّة المحصور كلّيّاتها في اثنتى عشرة المنتهى جزئيّاتها الى حدّ المحدودة بحسب الامّهات الى مائة واربعة وعشرين ألفا ، أو مائة وعشرين ألفا ، أو مائة الف ، وان يراد الأنبياء والأولياء (ع) فانّهم بتعلّقهم بأبدانهم الارضيّة أركان الأرض وبتجرّدهم الذّاتىّ عن ارض الطّبع أركان السّماء ، وان يراد الجهات الفاعليّة المحيية والمميتة والمفيضة للارزاق والمفيضة للعلوم المعبّر عنها بإسرافيل وعزرائيل وميكائيل وجبرائيل ، ولمّا كان جميع الخيرات المنتشرة في العوالم منوطة بالبروج باىّ معنى كانت مدح نفسه في هذا الجعل بكثرة البركات (وَجَعَلَ فِيها سِراجاً) وقرئ سرجا وعلى قراءة الإفراد كان المراد به الشّمس وعلى قراءة الجمع كان المراد جملة الكواكب المضيئة بأنفسها (وَقَمَراً مُنِيراً) والمناسب لقراءة الإفراد ان يكون البروج هي الكواكب المضيئة بذواتها ، والمراد بحسب التّأويل من السّراج لطيفة الولاية فانّها المضيئة بذاتها ومن القمر لطيفة النّبوّة والرّسالة فانّها كاسبة للنّور من الولاية (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ) لم يقل وتبارك الّذى جعل اللّيل ولا الّذى جعل اللّيل حتّى يكون تبارك مقدّرا لما ذكرنا من انّ جملة خيرات العوالم منوطة بالبروج بخلاف تعاقب اللّيل والنّهار فانّهما وان كانا موجبين لخيرات العالم لكنّهما آلتان لبروز خيرات البروج في العالم فكأنّه قال : وهو الّذى جعل اللّيل (وَالنَّهارَ خِلْفَةً) لبروز بركات البروج يعنى جعل كلّا منهما بدلا من الآخر حتّى انّ من فاته امر في أحدهما قضاه في الآخر ، أو جعل كلّا منهما عقيب الآخر أو مخالفا للآخر في كيفيّة الضّوء والظّلمة والبرد والحرّ (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً) يعنى انّهما نعمتان عظيمتان للإنسان لانّ جميع مصالح معاشه

١٤٨

بل جميع مصالح معاده ومعاشه منوطة بتعاقبهما إذا عمّم اللّيل والنّهار لجميع معانيهما التّنزيليّة والتّأويليّة ، لكنّهما نعمتان عظيمتان لمن أراد الآخرة مبتديا كان ومقلّدا وهو الّذى أراد ان يذّكّر أو محقّقا ومنتهيا وهو الّذى أراد الشّكور فانّ الشّكور عبارة عن رؤية الانعام في النّعمة والمنعم في الانعام ويلزمها صرف النّعمة لما خلقت له وليس الّا في مقام التّحقيق والخروج عن التّقليد وهذا بمنزلة قوله تعالى : (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) اشارة الى مقام التّحقيق أو القى السّمع وهو شهيد اشارة الى مقام التّقليد (وَعِبادُ الرَّحْمنِ) جملة مع ما بعدها معطوفة على قوله (هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ) أو (هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً) أو على قوله يعبدون أو قوله (كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) أو على قوله (الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) الرحمن أو على (تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً) أو على (هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) صفة لعباد الرّحمن وخبره قوله أولئك يجزون الغرفة أو خبر له أراد تعالى ان يبيّن علائم مقام العبديّة حتّى لا يغترّ السّالكون الى الله بما يلوح من التّجلّيات الغيبيّة ولا يظنّوا انّهم وصلوا ، ومن الانانيّة وأسر النّفس خرجوا ، ومقام العبديّة والحضور حصّلوا ، فانّ مقام العبديّة لا يحصل للسّالك الّا إذا خرج من انانيّته ولم ير فعلا وصفة الّا من الله تعالى ، وادنى مراتب هذا المقام بحسب الظّهور في المظاهر ان ينزّل السّكينة الالهيّة على السّالك ويشاهدها لا بنحو شهود المباين المباين ولا بنحو شهود المحلّ للحالّ المنبئ عن الحلول ولا بنحو شهود المتّحد للمتّحد المنبئ عن الاتّحاد ، فانّ شيئا منها ليس من مقام العبديّة بل مقام العبديّة ان يصير السّكينة مالكة ومحيطة بحيث لا يبقى للعبد فعل وصفة وذات وارادة وشعور ، لكن مقام الحلول والاتّحاد أنموذج عن مقام العبديّة ومخبر عنه وفي هذا المقام يكون العبد مثل من وقع على رأسه طير عزيز بل اعزّ من ذاته لا يريد ان يطير عنه بل يرى فناء ذاته في طيرانه فانّه يبالغ ويجتهد في ان لا يطير عن رأسه فيجتهد في خفض صوته وسكون أعضائه فلا يحرّك يده ولا رجله ولا سائر أعضائه إذا اضطرّ الى تحريكها الا بتأنّ ورفق ، وان أراد غيره ان يرفع صوته أو يتحرّك أعضاؤه يلتمس عنده ويسأله ان لا يرفع ولا يحرّك أعضاءه عنده فلا يمشى صاحبوا السّكينة الّا كما يمشى صاحب الطّير (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ) يعنى بجهلهم لا يعارضونهم بمثل جهلهم فانّ الجاهل لا يخاطب من حيث الجهل الّا بما ليس فيه رضى الله و (قالُوا) لينا بهم (سَلاماً) لئلّا يظهر منهم ما ينافي حضورهم وما يكرهه الحاضر عليهم (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً) يعنى انّ لذّة خضوعهم وتذلّلهم ومناجاتهم تغلب على لذّة النّوم والرّاحة فلا ينامون الّا قدر ما لا بدّ منه ويتذلّلون لربّهم بالسّجود والقيام ويناجونه (وَالَّذِينَ) يرون الدّنيا ومشاغلها مانعة من حضورهم وعذابا لأنفسهم ويرون انّ الدّنيا الشّاغلة ليست الّا من جانب جهنّم فيستعيذون بربّهم و (يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً) الغرام الولوع والشّرّ الدّائم والهلاك والعذاب (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا) يعنى انّ عباد الرّحمن علامتهم التّوجّه الى الكثرات والعدالة بينها بان ينظروا الى ما لهم من الأموال الدّنيويّة العرضيّة والقوى والحشمة والأعضاء والمدارك وينفقوا ما حقّه ان ينفق منها ويمسكوا ما حقّه ان يمسك ، ويعطوا من حقّه ان يعطى ، ويمنعوا من حقّه ان يمنع ، فانّ التّقييد بعدم الإسراف والإقتار يفيد هذا المعنى لانّ الإعطاء لغير المستحقّ إسراف وان كان من فضول المال ومنع المستحقّ إقتار وان كان من أصل المال ، ومن هذه العلامة يستفاد وجه اضافة العباد الى الرّحمن دون سائر الأسماء فانّه تعالى برحمته الرّحمانيّة يعطى كلّا بقدر استعداده (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً)

١٤٩

عدلا أو معتدلا أو وسطا (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) لا قالا ولا حالا فانّ من نزل عليه السّكينة بحيث تصير مالكة له لم يبق له جهة دعاء غير الله (وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) في العالم الصّغير ولا في العالم الكبير بخلاف من لم يصر عبدا للرّحمن سواء صار عبدا للشّيطان أو لغير الرّحمن من أسمائه تعالى فانّه يقتل النّفس المحترمة من القوى الانسانيّة أو القوى الحيوانيّة في طريق الانسانيّة بغير الحقّ سواء قتل نفسا في الخارج أو لم يقتل (إِلَّا بِالْحَقِ) اى بأمر الحقّ أو بسبب امر حقّ من قصاص وحدّ أو بالحقّ المطلق بان يكون يده يد الحقّ.

اعلم ، انّه ما لم يصر يد القاتل يد الحقّ أو مسخّرة لأمر الحقّ وما لم يصر لسان الآمر بالقتل لسان الحقّ أو مسخّرا لأمره لا يجوز القتل ولا الأمر بالقتل سواء كان ذلك في قصاص وحدّ أم غير ذلك ، ولذلك لا يجوز القتل واجراء الحدود الّا من حاكم الهىّ أو من يأمره ذلك الحاكم بحيث يكون المأمور مسخّرا لأمر الحاكم ومتحرّكا بأمره ، وامّا من لم يكن كذلك فلا يجوز له القتل ولا الأمر بالقتل كما قيل :

آنكه جان بدهد اگر بكشد رواست

نائب است ودست أو دست خداست

وعلى هذا كان المعنى لا يقتلون النّفس الّتى حرّم الله قتلها الّا بالله اى بيد الله (وَلا يَزْنُونَ) لا يتّبعون الشّهوات. اعلم ، انّ ذنوب الإنسان منحصرة في مقتضيات الشّيطنة والقوّة الغضبيّة والشّهويّة وقد أشار تعالى الى أمّهات مقتضيات الثّلاث فانّ دعاء غير الله من مقتضيات الشّيطنة بل نقول مقتضيات الشّيطنة منحصرة في دعاء غير الله لانّ كلّ إعجاب بالنّفس وكلّ مراياة ومجادلة وغيرها من مقتضيات الشّيطنة دعاء لغير الله ، وقتل النّفس من مقتضيات الغضب ، والزّنا من مقتضيات الشّهوة ، وعلى تعميم قتل النّفس وتعميم الزّنا جملة مقتضياتهما منحصرة فيهما (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) المذكور من مقتضيات الثّلاث (يَلْقَ أَثاماً) عقوبة ، أو الاثام كما في الخبر واد في جهنّم أو هو من إثمه الله في كذا كمنع ونصر عدّه عليه إثما (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ) بدل من قوله يلق أثاما أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ومعنى مضاعفة العذاب انّه يضاعف عذابه في القيامة بالنّسبة الى عذابه وحدّه في الدّنيا أو يضاعف في القيامة بالنّسبة الى عذابه في البرزخ فانّه في البرزخ يعذّب بعذاب من نفسه بظهور صورة العصيان عليه وإذا وصل الى القيامة يعذّب بعذاب من نفسه وبعذاب هو جزاء عمله ، وبعبارة اخرى يعذّب في البرزخ بتجسّم عمله وفي القيامة به وبجزائه وليس المراد انّه يضاعف له العذاب بالنّسبة الى استحقاقه حتّى ينافي عدله (وَيَخْلُدْ فِيهِ) اى في العذاب أو في الاثام (مُهاناً) التّقييد به للاشعار بانّ بعضا يعذّب لا على وجه الاهانة أو هو تأكيد وبيان (إِلَّا مَنْ تابَ) بالتّوبة العامّة النّبويّة على يد نبىّ (ص) أو خليفة نبىّ (ص) (وَآمَنَ) اى قبل احكام الإسلام بالبيعة العامّة (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) بالتّوبة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة والبيعة الخاصّة الولويّة فانّه لاصلاح لعمل الّا بالولاية الحاصلة بالبيعة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، أو التّوبة كناية عن الإسلام المشتمل على التّوبة والبيعة العامّة ، وآمن كناية عن البيعة الخاصّة الّتى بها يحصل الايمان الخاصّ ، والعمل الصّالح عبارة عن العمل بما أخذ عليه في ميثاقه الّذى هو المراد بالوفاء بعهد الله ، والحاصل انّه لا بدّ من أخذ الايمان الخاصّ والبيعة الولويّة في المستثنى حتّى يصحّ ترتّب تبديل السّيّئات حسنات عليه ، لانّ ذلك ليس الّا لمن تولّى عليّا (ع) كما مضى مكرّرا تصريحا وتلويحا (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) قد مضى منّا مكرّرا انّ كلّ فعل من الإنسان يوجب فعليّة لنفسه وكلّ فعليّة إذا لم تكن مسخّرة للعقل كانت مسخّرة للشّيطان والنّفس ، وكلّ فعليّة مسخّرة للشّيطان كانت سيّئة النّفس ، وإذا تاب الإنسان ودخل تحت حكم العقل بواسطة ولىّ الأمر يصير جميع فعليّاته مسخّرة تحت العقل وكلّ فعليّة مسخّرة تحت العقل

١٥٠

تكون حسنة النّفس وهذا هو معنى تبديل السّيّئات حسنات ، كما انّ محو السّيّئات وتكفيرها وغفرانها عبارة عن ازالة حدودها بلا تعمّل أو بتعمّل وستر حدودها فالتّائب على يد علىّ (ع) ان كان لنفسه فعليّة مسخّرة للشّيطان تبدّل تلك الفعليّة بمعنى ان تجعل تلك الفعليّة مسخّرة للرّحمن ، وان كان لنفسه نقائص وحدود تزال تلك الحدود ان كانت يجوز زوالها بتفاوت الزّوال بالتّعمّل وعدمه والّا تغفر وتستر (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) يعنى يغفر له ما لم يبدّل ولم يزل من الحدود اللّازمة لوجوده (رَحِيماً) يتفضّل عليه برحمته بعد التّبديل والغفران (وَمَنْ تابَ) على يد محمّد (ص) أو يد علىّ (ع) بالتّوبة العامّة أو بالتّوبة الخاصّة (وَعَمِلَ صالِحاً) بالوفاء بعهده الّذى أخذ عليه في توبته وبيعته (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) كما قال (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) بطريق الحصر وسرّ ذلك انّ الخلفاء حين التّوبة والبيعة ينسلخون عن غواشي الطّبع وانانيّاتهم ويصيرون آلات لله من غير مداخلة انانيّاتهم في تلك البيعة فالقابل للتّوبة والأخذ للميثاق حين البيعة هو الله تعالى بتوسّط مظاهره الّذين هم كالآلات لله (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) الزّور الكذب والشّرك بالله تعالى وأعياد اليهود والنّصارى ومجلس الغناء وما يعبد من دون الله والكلّ مناسب هاهنا ، والتّحقيق انّ الزّور كلّ عمل أو عامل كان منحرفا عن الطّريق وعن ولاية علىّ (ع) ، ومن صار عبدا للرّحمن لا يحبّ بل يبغض الزّور فلا يشهده (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا) بمقتضى عبوديّتهم (كِراماً) لا يرغبون فيه ولا يهتكون حرمة صاحبه (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ) التّدوينيّة والتّكوينيّة الموجودة في الآفاق أو الأنفس وخصوصا الآيات العظمى سواء ذكّرهم بشر مثلهم أو نبىّ أو امام أو ملك أو الله تعالى في اليقظة أو النّوم (لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها) لم يسقطوا عليها (صُمًّا وَعُمْياناً) كأكثر النّاس الّذين لا يتذكّرون من الآيات الّا جهاتها الدّنيويّة الموافقة لاهويتهم وآمالهم وكانوا صمّا وعميانا من جهاتها الاخرويّة (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ) بمقتضى حفظهم لحوق الكثرات ومن جملتها أرحامهم وذوو أنسابهم مستدعين من الله بمقتضى جهتهم الالهيّة (رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ) يعنى اجعل لنا قرّة أعين ناشئة من أزواجنا أو اجعل بعض أزواجنا وذرّيّاتنا قرّة أعين لنا واجعل لنا أولادا متولّدة من أزواجنا ومتولّدة من ذرّيّاتنا تكون قرّة أعين لنا ، وقرّة العين بمعنى برده كناية عن السّرور أو عن قرارها عن الاضطراب (وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً) ولمّا كان كلّ مرتبة إماما لسابقتها وكان من صار عبدا للرّحمن مرتبته بعد مرتبة التّقوى فانّه ما لم يتمّ التّقوى بالفناء التّامّ لا يصير السّالك عبدا للرّحمن كما في قوله (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً) استدعوا على وفق مقامهم ان يكونوا إماما للمتّقين امّا بالتّمكين في هذا المقام أو بالبقاء وعدم زواله ، وفي اخبار عديدة انّ الآية في أمير المؤمنين (ع) أو في الائمّة (ع) وفي رواية عن الصّادق (ع) : قد سألوا الله عظيما ان يجعلهم للمتّقين ائمّة فقيل له كيف هذا يا ابن رسول الله (ص)؟ ـ قال : انّما انزل الله واجعل لنا من المتّقين إماما ، وهذا ممّا أسلفنا في اوّل الكتاب من سعة وجوه القرآن بقدر سعة مراتب الخلق ، وانّ القرآن لا مانع من ان يكون نزوله بقراءات مختلفة بحسب اختلاف النّاس (أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ) يعنى الغرفة المعهودة أو البناء العالي والجنّة العالية (بِما صَبَرُوا) اى بصبرهم أو بالبلايا أو الطّاعات الّتى صبروا عليها (وَيُلَقَّوْنَ) من أمثالهم من المؤمنين أو من الملائكة أو من الله (فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً) من ذكر الخاصّ بعد العامّ (خالِدِينَ فِيها) اى في الغرفة فانّ تمام النّعمة بعدم زوالها (حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً قُلْ) يا محمّد (ص) لهؤلاء الكفّار بعد إتمام أوصاف عباد الرّحمن وجزائهم ترغيبا لهم في مثلها (ما يَعْبَؤُا) ما يعتدّ (بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا

١٥١

دُعاؤُكُمْ) لله بألسنتكم القالبيّة والحاليّة فانّ الكلّ ما لم يبطلوا الفطرة يدعون الله حالا وقالا أو ما يفعل بعذابكم لولا دعاؤكم مع الله آلهة اخرى ، أو ما يعتدّ بكم لولا دعاؤه لكم الى الدّين فانّ سنّته جرت بان يدعوا لكلّ الى الدّين ، أو ما يفعل بكم لولا دعاءه لكم الى الدّين ، أو ما يتعدّ لولا عبادتكم له (فَقَدْ كَذَّبْتُمْ) الفاء سببيّة اى كذّبتم الرّسول (ص) أو الله (فَسَوْفَ يَكُونُ) تكذيبكم (لِزاماً) لكم اى جزاء تكذيبكم يكون لازما لكم في الدّنيا كما في بدر ، أو في الآخرة فانّه يكون عذابها لازما غير زائل.

سورة الشّعراء

مكّيّة كلّها غير قوله : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) (الى آخر السّورة)

وهي مائتان وسبع وعشرون آية

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(طسم) قرئ بإظهار نون السّين وهو الأصل وقرئ بإخفائها بخلاف الأصل لانّ سكونها عرضيّة لا اصليّة (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ) قد مضى في اوّل البقرة وفي غيرها بيان واف لفواتح السّور (لَعَلَّكَ) يا محمّد (ص) (باخِعٌ نَفْسَكَ) بخع نفسه قتلها غمّا (أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) بالله أو برسالتك أو بولاية علىّ (ع) ولا ينبغي ان تغتمّ لذلك فانّه ليس خارجا عن ارادتنا ومشيّتنا لانّا (إِنْ نَشَأْ) ايمانهم (نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) من آياتنا الغيبيّة حتّى تسخّرهم تلك الآية وتجبرهم على الايمان المذكور (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) اى صاروا خاضعين لله أو لك لأجل الآية أو خاضعين للآية نفسها ، وجمع الخاضعين جمع العقلاء امّا لكون الأعناق كناية عن أنفسهم أو لاعطاء حكم المضاف اليه للمضاف لصحّة سقوطه ، وهذا تسلية له (ص) بانّ إبائهم عن الإسلام بمشيّة وارادة من الله فما لك تتحسّر على ما كان بإرادته (وَما يَأْتِيهِمْ) جملة حاليّة مبدوّة بمضارع منفىّ بما بتقدير مبتدء على القول بعدم جواز الواو فيها ، أو من غير تقدير على القول بجواز الإتيان بالواو فيها (مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) مقتض بواسطة كونه جديدا للإقبال عليه (إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا) الفاء لسببيّة ما بعدها لما قبلها ، أو سببيّة ما قبلها لما بعدها ، أو لمحض التّعقيب يعنى انّ تكذيبهم للآيات صار سببا للاعراض عنها ، أو اعراضهم عن الذّكر وعدم تدبّرهم فيه صار سببا لتكذيبها ، أو المعنى كانوا عنه معرضين وبعد الاعراض السّابق كذّبو بك أو بالله أو بالقرآن في رسالتك أو خلافة وصيّتك (فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ما موصولة والضّمير عائده والمراد منه القول أو الفعل الّذى كانوا بسببه يستهزؤن أو الشّيء الّذى كانوا منه يستهزؤن ، أو ما مصدريّة والضّمير لما استهزؤا منه من الرّسول (ص) أو القرآن أو الله أو علىّ (ع) وولايته وفي اخبار عديدة انّ المراد بالآية في هذه الآية الصّيحة الّتى

١٥٢

يسمعها الفتاة في خدرها للاعلام بخروج القائم (ع) أو ركود الشّمس وخروج صدر ووجه في عين الشّمس آية لخروج القائم (ع) وفي بعض الاخبار انّ هذه الآية نزلت في القائم (ع) (أَوَلَمْ يَرَوْا) اى هؤلاء المنكرون للرّسالة أو الولاية (إِلَى الْأَرْضِ) ارض العالم الكبير أو العالم الصّغير (كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) من المعدن والنّبات والحيوان والإنسان (كَرِيمٍ) صفة بيانيّة فانّ كلّا منها من جهة يكون كريما على من احتاج اليه ، أو تقييد للزّوج وكون الإنسان والحيوان وبعض النّبات زوجا واضح ، أو المراد بالزّوج ما اقترن بغيره (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالّة على عدم إهمالنا الإنسان الّذى هو ارض وسماء بدون إخراج الفعليّات الّتى تكون فيه بالقوّة لانّا هيّأنا الأسباب الطّبيعيّة لإخراج المواليد الّتى تكون في الأرض بالقوّة وتلك الأسباب كالكواكب العلويّة والأفلاك المتحرّكة وحركاتها الدّوريّة وانضباط حركاتها الّتى بها ينوط توليد كلّ ما بالقوّة في الأرض وتسهيل الأرض لذلك وحرّ الصّيف وبرد الشّتاء واختلاف اللّيالى والايّام وتهييج السّحاب وامطار المطر في وقت وبقدر ينتفع به فلا نهمل الإنسان بدون تهيّة أسباب إنبات ما فيه بالقوّة ، ومن جملة أسبابه إرسال الرّسل وإنزال الكتب ونصب الأوصياء والخلفاء لهم (وَ) لكن (ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) اى مذعنين بانّ الإنبات منّا أو ما كان أكثرهم يؤمنون بالله أو برسالتك أو بولاية علىّ (ع) أو ما كانوا مؤمنين في علم الله في الذّرّ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب فلا تكثرت بايمانهم وعدمه (الرَّحِيمُ) برحمته يمهلهم لعلّهم يتوبون (وَإِذْ نادى) معطوف على محذوف متعلّق بالعزيز أو الرّحيم اى هو العزيز الرّحيم اليوم وإذ نادى (رَبُّكَ مُوسى) أو متعلّق يقال ربّ انّى أخاف أو متعلّق بمحذوف معطوف على محذوف أو معطوف على سابقه باعتبار المعنى فانّ السّابق في معنى اذكر ذلك فكأنّه قال فاذكر ذلك ذكر نبأ إذ نادى ربّك موسى (ع) (أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) وصفهم بالظّلم ليكون كالعلّة للأمر (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) بدل منه لتعيينهم (أَلا يَتَّقُونَ) جملة حاليّة بتقدير القول يعنى حالكونهم يقال لهم الا يتّقون أو مستأنفة من الله لانشاء ذمّهم ، وقرئ بالخطاب فيكون بتقدير القول والمعنى ائت القوم الظّالمين حالكونك قائلا لهم الا تتّقون (قالَ) موسى (ع) (رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي) عن معاشرتهم وتحمّل متاعب المعاشرة مع من لا يكون سنخا لي (وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ) للرّسالة ، ظاهر هذا الكلام ان يكون هذا منه استعفاء من الرّسالة كأنّه قال : الرّسالة منك تستلزم سعة الصّدر لانّ الرّسول منك لا بدّ له من المعاشرة مع الأداني والأعالي ومشاهدة ما لا يرضاه العقل منهم ولا بدّ له من التّكلّم والمجادلة مع فصحائهم ومناطيقهم ولو كان بلسانه لكنة لا يغلب بل يغلب وهو مناف لرسالتك ، ولا بدّ ان يكون الرّسول منك رغب فيه وفي معاشرته كلّ أحد وانا قتلت منهم رجلا فيطالبوني بدمه ولا يرغبون فيّ ، وهارون سالم من ذلك كلّه فانّ له سعة صدر ولسانا طليقا وليس بينه وبينهم دم فأرسل اليه لرسالتك ، أو المعنى أرسل الى هارون ليكون معاونا لي حتّى يكون موافقا لسائر الآيات وعلى المعنى الاوّل كان موسى (ع) استعفى اوّلا من الرّسالة وابى الله الّا رسالته وبعد ما ابى الله الّا رسالته استدعى معاونة هارون (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بعد ما استعفى وعيّن هارون للرّسالة ذكر وجها آخر لاستعفائه (قالَ كَلَّا) ردع له عن استعفائه وكأنّه كان بعد قوله كلّا سؤال موسى (ع) معاونة هارون واجابته تعالى لسؤاله كأنّه قال فاجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزرى وأشركه في أمري كى نسبّحك كثيرا ونذكرك كثيرا فقال تعالى : أجبت مسئولك (فَاذْهَبا بِآياتِنا) التّسع أو بأحكامنا وشرائعنا ولا تخافا (إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) لم يثنّ الرّسول لاستواء

١٥٣

المذكّر والمؤنّث والواحد والأكثر في فعول بمعنى الفاعل وفعيل بمعنى المفعول ، أو للاشارة الى انّه رسالة واحدة والرّسول واحد منهما والآخر معين له (أَنْ أَرْسِلْ) ان تفسيريّة أو مصدريّة بتقدير الباء (مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) يعنى أطلق من الحبس من كان محبوسا بأمرك ومن الاستعباد من تستعبدونه (قالَ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما فعلوا بعد ذلك؟ ـ فقال : ذهب موسى (ع) الى مصر واجتمع مع هارون وجاءا معا الى فرعون فقالا له : انّا رسول ربّ العالمين أرسلنا إليك ان تخلّى عن بنى إسرائيل وترسلهم معنا الى الشّام قال فرعون في جوابهما خطابا لموسى (ع) الّذى كان في حضنه مدّة مديدة (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) حملا له على الإقرار حتّى يخجل عن تلك الدّعوى ويرتدع عن ذلك الادّعاء (وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ) ولم تكن تختلف الى عالم أو حكيم وما كنت ترتاض بالمجاهدات والعبادات والرّياضات فكيف صرت رسولا من الله الّذى لا يراه أحد؟! ولا يعلم به عالم؟! وكنت ما دمت فينا سفّاكا وقتلت نفسا محرّمة فانّ قوله (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ) كناية عن ذلك (وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) بنعمتي يعنى كنت في ذلك القتل بسبب القتل وأنت في هذا اليوم بسبب عدم حفظ حرمتي وحقّ خدمتي من الكافرين بنعمتي فكيف تكون رسولا ممّن ادّعيت الرّسالة وادّعيت انّه خالق السّماوات والأرضين ولمّا رأى انّ قتل النّفس ممّا لا يمكنه إنكاره أقرّ به و (قالَ فَعَلْتُها إِذاً) ولكن لم أكن بكافر كما نسبت الىّ لانّى كنت موحّدا لله وعارفا لنعمه وشاكرا له وقتلته باستحقاقه (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) اى ضللت طريقي الّتى كنت أريد السّلوك عليها فوقعت عليه أو كنت ضالّا طريق التّوحيد طالبا له ، أو كنت ضالّا عن طريق حسن التّدبير مع الأعداء وهو المداراة معهم (فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ) بسبب ضلالي عن طريق المداراة وقتلى القبطىّ (لَمَّا خِفْتُكُمْ) على نفسي لما وصل الىّ انّ الملأ يأتمرون بى (فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً) من غير كسب لي ومعاناة في طلبه (وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ) بمحض فضله من غير عمل لي فيه ، ولمّا ذكر فرعون بعد ادّعاء موسى (ع) الرّسالة من الله ثلاثة أشياء مانعة من رسالته بترتيب الأضعف فالأقوى أجاب موسى (ع) من الثّلاثة بترتيب الأقوى فالاضعف ، فانّه ذكر اوّلا كونه مربّى لهم والمربّى لا يجوز ان يكون حاكما على المربّى ، وثانيا لبثه فيهم مدّة مديدة من عمره من غير كسب للكمالات الانسانيّة المقتضية للرّسالة المستلزمة لجميع الكمالات الكسبيّة باعتقادهم ، وثالثا قتل النّفس المحترمة المنافى للرّسالة من الله من حيث الظّاهر والباطن فانّ الرّسول من الله ينبغي ان يكون بحيث يرغب فيه كلّ أحد والسّفّاك لا يرغب فيه أكثر النّاس ، وينبغي ان يكون مطهّرا من جميع ما يكون شيئا على الإنسان حتّى يستحقّ القرب من الله والرّسالة منه بحسب الباطن ، فأجاب اوّلا بالاعتراف بالفعلة ونفى الكفر المنافى للرّسالة في تلك الفعلة وإثبات الضّلالة الّتى لا تنافي طلب الكمالات الانسانيّة وحصول الرّسالة بل تكون من مقدّمات طلب الكمالات فانّه ما لم يعلم الإنسان ضلاله لم يطلب هداه ، وثانيا عن ثانى ايراداته بانّ الرّسالة موهبة من الله وليست بكسب الإنسان حتّى ينافيها لبثى فيكم من غير كسبي للعلوم العقليّة والشّرعيّة ، وأجاب ثالثا عن اوّل ايراداته بانّ تربيتك لم تكن إحسانا الىّ بل كانت إساءة لي لانّك ما ربّيتنى بتجشّم من نفسك بل باستعباد قومي في خدمتي ، أو باستعباد قومي في تحصيل الخدم والحشم والدّولة ، أو باستعباد قومي وقتل أولادهم حتّى خافوا منك وخافت أمّي فألقتنى في النّيل فوقعت في يدك ، أو باستعباد قومي حتّى استعبدت أمّي لخدمتى ، أو أجاب بالإقرار بكون التّربية نعمة ثمّ استدرك توهّم كونها إحسانا بكونها إساءة فقال أو (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) فجعل الجملة استفهاميّة بحذف همزة الاستفهام أو خبريّة بدون تقدير الاستفهام وتلك اشارة الى التّربية أو الى عبادة بنى إسرائيل أو الى تعبيدتهم ونعمة خبر تلك وان عبّدت بدلا من تلك أو خبرا

١٥٤

بعد خبر أو خبرا ابتداء أو خبرا لمبتدء محذوف ، أو مبتدء لخبر محذوف ، ويكون الجملة حينئذ مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما هذه النّعمة الّتى أنكرتها؟ ـ أو اىّ شيء يمنّ بها عليك حتّى أنكرته عليه؟ ـ فقال : هي ان عبّدت بنى إسرائيل أو ان عبّدت بنى إسرائيل تمنّه علىّ سواء كانت في معنى الاستدراك وفي معنى لكن هي ان عبّدت بنى إسرائيل أو لم تكن (قالَ فِرْعَوْنُ) بعد ما سمع جوابه عن ايراداته للمجادلة معه بالسّؤال عن أجزاء ادّعائه حتّى يعجزه عن بيان قوله وادّعائه (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) الّذى ادّعيت الرّسالة منه ، سأله بما هو عن حدّه وحقيقته ولمّا لم يكن لله تعالى مهيّة مركّبة حتّى يكون له جنس وفصل عدل موسى (ع) عن جواب ما هو الى الجواب بالاعراض الّذى هو جواب لايّ شيء هو و (قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) بدّل الإجمال الّذى في العالمين بالتّفصيل (إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) من أهل الإيقان شرط للتّهييج والتّعيير يعنى أنتم أهل النّفوس الظّانة والشّاكة ولستم أهل العقول الموقنة (قالَ) فرعون بعد ما رأى عدم مطابقة الجواب للسّؤال تزييفا لرأى موسى (ع) وتسفيها لعقله (لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ) قوله حيث لا يعلم طريقة المحاجّة ويدّعى دعوى عظيمة ويريد التّفوّق والرّياسة على أهل العالم ، ولمّا رأى موسى (ع) استهزاءه به وبجوابه واحتمل ان ينكر مخلوقيّة السّماوات والأرض ومربوبيّتهما ويقول انّهما قديمان غنيّان عدل عنه و (قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ولمّا رأى فرعون إصراره على جواب ما هو بالاعراض الاضافيّة الّتى هي أضعف الاعراض (قالَ) خطابا لقومه مستهزئا بموسى (ع) (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) لانّه لا يتنبّه بالتّنبيه ولا يرتدع عن غيّه بالرّدع ويصرّ على جهله (قالَ) مصرّا على ما أجاب به معرّضا بعدم تنبّههم بالتّنبيه (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) صرّح بسفاهتهم بعد ما صرّح فرعون بجنونه ومقصوده انّ الله الّذى تسأل عنه بما هو لا حدّ له حتّى يجاب بما يطابق السّؤال بل لا يمكن تعريفه الّا بإضافاته الّتى هي مدركة لنا ، وإصراركم على مطالبة جواب ما هو لعدم تعقّلكم من الله ما يليق بجنابه ، ولمّا رأى فرعون إصراره على جوابه الغير المطابق وعدم ارتداعه بالكناية والتّصريح (قالَ) تهديدا له (لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) قيل هدّده بأسوء العقوبة لانّه كان له هوّة عميقة لا يسجن فيها أحد الّا يموت فيها ، ولمّا رأى موسى (ع) تهديده (قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ) دالّ على صدقى في دعواي وتوسّل بأمارات صدق دعواه (قالَ) فرعون (فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) ولمّا كان السّحر شائعا في زمانه وكان يظهر من السّحرة أمثال هذه كثيرا (قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ) ولمّا لم يكن السّحر شينا وعيبا في زمانه لم يكتف به وقال (يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ) حتّى ينزجروا منه ولا يرغبوا فيه وبعد ما أظهر ما ينزجرون منه قال (فَما ذا تَأْمُرُونَ) شاورهم في امره استمالة لقلوبهم (قالُوا أَرْجِهْ) قد مضى في سورة الأعراف وجوه القراءة في أرجه (وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ

١٥٥

فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَهارُونَ قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) قد سبق الآيات بألفاظها أو بمعانيها في سورة الأعراف وغيرها فلا نعيد بيانها (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى) بعد ان مكث فيهم مدّة مديدة ان اطلب عبادي من فرعون وأخرجهم من مصر و (أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي) الى البحر (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) يتّبعكم فرعون وقومه (فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ) لمثيرون غيظنا (وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) اى انّا لجماعة من عادتنا الحزم والحذر في الأمور ومراعاة العاقبة أو المعنى انّا لجماعة من عادتنا الحذر من الأعداء والتّهيّؤ لهم بالقوّة والسّلاح بما أمكن ، وقرئ حادرون بالدّال المهملة بمعنى الأقوياء أو المسرعون في طلب الأعداء أو حادّون في النّظر (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ) انيقة (وَعُيُونٍ) غزيرة (وَكُنُوزٍ) عظيمة فانّ التّنكير هاهنا للتّفخيم والتّعجيب (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) ومنازل بهيّة (كَذلِكَ) متعلّق باخرجناهم للتّعجيب يعنى أخرجناهم من ضياعهم وعقارهم وجميع أموالهم مثل هذا الإخراج العجيب الّذى خرجوا بالرّغبة منهم راجين العود إليها ولأجل زيادة التّعجيب عطف عليه قوله (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) قبل تمام قصّتهم ويجوز ان يكون كذلك خبر مبتدء محذوف جوابا لسؤال مقدّر أو متعلّق فعل محذوف كذلك كأنّه قيل : هل أمرهم كان كذلك؟! على سبيل التّعجّب أو هل وقع منهم الخروج هكذا؟! فقال : أمرهم كذلك ، أو وقع الخروج كذلك ، أو كأنّه قيل : هل بقوا بعد الخروج أو هلكوا؟ ـ فقال : هلكوا كذلك (فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) اى تبعوهم ومشوا على عقبهم حين شروق الشّمس أو ادركوهم يعنى بأبصارهم لا بأبدانهم وقت ارتفاع الشّمس (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ) اى قربا بحيث يرى كلّ منهما الآخر (قالَ أَصْحابُ مُوسى) فزعا من فرعون (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) بالأبدان كما ادركونا بالانظار وقالوا : انّا لمدركون تأكيدا في قربهم (قالَ) موسى (ع) ردعا لقومه عن اضطرابهم (كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي) بالنّصرة والحفظ فلا تبالوا بقرب فرعون وجنوده (سَيَهْدِينِ) الى طريق الخلاص منهم وينجيني من بأسهم ولمّا وصلوا الى البحر وقفوا متحيّرين (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ) وهو نهر النّيل فضرب البحر (فَانْفَلَقَ) فانشقّ البحر اثنى عشر طريقا بين كلّ طريق وطريق ماء كالجبل مشبّك بحيث يرى كلّ فريق صاحبيهم (فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ) اى كلّ قطعة من البحر يفرق بها بين طريق وطريق (كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) كالجبل العظيم ، والفرق بالكسر اسم لما انفرق كما انّ الفرق بالفتح مصدر (وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ) اى قرّبنا في هذا المكان مكان البحر فرعون وقومه وأدخلنا البحر موسى وقومه (وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ) بان أخرجناهم من البحر سالمين (أَجْمَعِينَ ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) بان اطبقنا البحر عليهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً) دالّة لقومك على المبدء وعلمه وقدرته (وَ) لكن (ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) أو المعنى انّ في ذلك لآية كانت لقوم موسى وما كان أكثرهم مؤمنين بموسى (ع) وإلهه فلا تحزن أنت على عدم ايمان قومك بالله أو بك فانّهم

١٥٦

ما شاهدوا مثل ما شاهدوا وما ابتلوا مثل ما ابتلوا (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ) اى على قومك المشركين (نَبَأَ إِبْراهِيمَ) حتّى يعلموا قبح الإشراك ويعلموا انّ إبراهيم (ع) ما كان مشركا ولا ينسبوه الى الإشراك ولا ينسبوا اشراكهم اليه ولا يدّعوا مع اشراكهم ولاية البيت بانتسابهم الى إبراهيم (ع) (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها) اى لعبادتها (عاكِفِينَ قالَ) إبراهيم (ع) (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ) اى قولكم (إِذْ تَدْعُونَ) اى تدعونهم أو تدعون شيئا منهم أو من غيرهم أو تنادون مطلقا (أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ) بعبادتها (أَوْ يَضُرُّونَ) بترك عبادتها وفي هذا الاحتجاج دليل على انّ من أخذ دينا لا بدّ وان يكون اخذه من حجّة وبرهان أو شهود وعيان ولا يجوز الأخذ من تقليد كالعميان ، ولمّا لم يكن لهم حجّة وبرهان التجأوا الى التّوسّل بالتّقليد و (قالُوا) ليس ذلك الّذى قلت (بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ قالَ) إبراهيم (ع) (أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ) الّذين توسّلتم بتقليدهم (فَإِنَّهُمْ) أتى بضمير العقلاء بلحاظ كونهم معبودين أو بضمّ الآباء إليهم وتغليبهم على غير العقلاء (عَدُوٌّ لِي) يستوي في العدوّ الذّكر والأنثى والواحد والأكثر (إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) امّا بتهيّة أسباب المطعوم والمشروب أو بإلهام طريق تحصيلهما أو بتسهيل الابتلاع والشّرب (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) بتسبيب الأسباب الطّبيعيّة أو بدون الأسباب (وَالَّذِي يُمِيتُنِي) بعد انقضاء اجلى (ثُمَّ يُحْيِينِ) بنفخة الأحياء أو الّذى يميتني استمرارا ثمّ بعد كلّ موت يحيين وقد سبق في اوّل البقرة عند قوله تعالى (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) تحقيق تامّ لتكرار الاماتة والأحياء للإنسان (وَالَّذِي أَطْمَعُ) عدل عن أرجو للاشعار بانّه غير ناظر فيه الى سبب وعمل وتهيّة حصول للمغفرة من قبله فانّ المتبادر من الرّجاء ان يكون الطّمع مسبوقا بأسباب وصول المطموع ومن الطّمع ان يكون الرّجاء غير مسبوق بحصول سبب ووصوله (أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) يوم الجزاء ، ولمّا كان الرّاجع الى الكثرات بعد الفناء في الله شأنه ان يكون متوسّطا بين الإفراط والتّفريط في النّظر الى الله وفي النّظر الى الكثرات بحيث لا يغلب رؤية الكثرة على رؤية الوحدة ولا رؤية الوحدة على رؤية الكثرة ، وكان خطاءه في الخروج عن التّوسّط والميل الى أحدهما صحّ من الأنبياء (ع) نسبة الخطاء الى أنفسهم والتّضرّع على الله وسؤال المغفرة منه والاستعاذة من عذابه وإظهار الخوف منه فلا حاجة في الآية الى تجشّم توجيه وتأويل لتصحيح نسبة إبراهيم (ع) الخطاب الى نفسه ، ولمّا كان المحبّ حين ذكر أوصاف المحبوب وتصوّر شمائله يشتدّ لوعته ويزداد حرقته وتصوّره له بحيث يكاد يتمثّل أو يتمثّل المحبوب عنده التفت (ع) من الغيبة الى الحضور فناداه وخاطبه واستدعى منه فقال (رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً) الحكم القضاء النّافذ والحكومة بين النّاس والامارة عليهم والدّقّة في العلم والعمل وفي كلّ واحد منهما والكلّ مناسب هاهنا والمقصود الرّسالة الكاملة أو الحكم الباطنىّ الّذى هو من آثار الولاية (وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) بمن كانوا صالحين صلاحا مطلقا فانّ الكافر ما لم يبطل استعداده لقبول الإسلام صالح بحسب فطرته واستعداده للإسلام ، والمسلم صالح بحسب استعداده لقبول الايمان ، والمؤمن صالح للعروج على درجات الايمان الى الفناء في الله ، والفاني صالح للرّجوع والبقاء بالله ، والباقي صالح للنّبوّة ، والنّبىّ صالح للرّسالة ، والرّسول صالح لان يكون من اولى العزم ، وصاحب العزم صالح للخلّة والامامة بالمعنى الّذى ليس فوقه درجة ، والامام صالح للخاتميّة والجامعيّة بين الكثرة والوحدة كما ينبغي فقال (ع) ألحقنى دون أدخلني وأتى بالصّالحين من غير تقييد للاشارة الى التمكّن في الصّلاح المطلق وهو صلاح الصّالح الّذى

١٥٧

صار بالفعل من جميع الجهات ولم يبق فيه قوّة واستعداد فلا حاجة الى تأويل في هذا الدّعاء (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) لسان الصّدق يستعمل في القول الحسن والثّناء الجميل والإنسان المعبّر عن الشّخص في غيابه وحضوره وقد فسّر هاهنا بكليهما ففي خبر : لسان الصّدق للمرء يجعله الله في النّاس خير له من المال يعنى ذكر خير وقول حسن وثناء جميل خير من المال يأكله ويورثه ، وقد فسّر بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) والائمّة من نسلهما (وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِي) حتّى تهديه الى الطّريق القويم (إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) عن الطّريق وكان دعاؤه (ع) هذا الاحتمال الهداية له وللوعد الّذى وعده فلمّا تبيّن له انّ فطرته منقطعة وانّه عدوّ لله بالذّات والفطرة تبرّأ منه (وَلا تُخْزِنِي) من الخزي بمعنى الهوان أو من الخزاية بمعنى الحياء (يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ) فانّ النّسب الاعتباريّة الّتى كانت للإنسان تصير منقطعة في ذلك اليوم لانقطاع الجسم واعتباراته (إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) استثناء مفرّغ اى لا ينفع مال ولا بنون أحدا الّا من أتى الله بقلب سليم فانّ السّليم القلب ماله وأولاده كما ينفعانه في الدّنيا ينفعانه في الآخرة فانّهما فتنة من الله لعباده فمن امتحنه الله تعالى بهذه الفتنة والامتحان وخرج منها سليم القلب صار ممّن امتحن الله قلبه للايمان ودخل في زمرة المؤمنين الممتحن قلوبهم للايمان ولحق بالسّابقين ، ونعم ما قيل :

مال را كز بهر دين باشى حمول

نعم مال صالح گفت آن رسول

چيست دنيا از خدا غافل شدن

نى قماش ونقره وفرزند وزن

آب در كشتى هلاك كشتى است

آب در بيرون كشتى پشتى است

ولذلك منع تعالى من الإنفاق في غير المحلّ فقال ولا تؤتوا السّفهاء أموالكم الّتى جعل الله لكم قياما وقد قيل :

منفق وممسك محل بين به بود

چون محل باشد مؤثّر مى شود

اى بسا إمساك كز إنفاق به

مال حق را جز بأمر حق مده

ويجوز ان يكون الاستثناء متّصلا من المال والبنون بتقدير مضاف اى لا ينفع مال ولا بنون الّا مال من أتى الله بقلب سليم وبنوه ، أو متّصلا من البنين بدون التّقدير ، ويجوز ان يكون منقطعا ، وسلامة القلب بان يكون القلب سالما من الآفات الحادثة من الرّذائل خاليا من الرّذائل ، وفي خبر : هو القلب الّذى سلم من حبّ الدّنيا ، وفي خبر : القلب السّليم الّذى يلقى ربّه وليس فيه سواه ، قال : وكلّ قلب فيه شرك أو شكّ فهو ساقط وانّما أرادوا بالزّهد في الدّنيا لتفرغ قلوبهم للآخرة ، وفي خبر : صاحب النّيّة الصّادقة صاحب القلب السّليم لانّ سلامة القلب من هواجس المذكورات تخلص النّيّة لله في الأمور كلّها ثمّ تلا هذه الآية (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) حال بتقدير قد أو عطف على جملة يبعثون ، والإتيان بالماضي للاشعار بتحقّق وقوعه (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) وفي اختلاف الفعلين اشارة الى تشريف المتّقين لانّه يقرب الجنّة منهم لا انّهم يساقون إليها ، والى توهين الغاوين بانّ الجحيم تبرز لهم وهم يساقون إليها لا انّها تزلف لهم (وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ) لفظة ما زائدة أو موصولة (مِنْ دُونِ اللهِ) قائم مقام المفعول على الاوّل وحال على الثّانى عن العائد المحذوف أو ظرف لغو متعلّق بتعبدون والمعنى أينما كنتم تعبدون من دون اذن الله (هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ) بدفع العذاب عنكم أو انجائكم من معذّبيكم (أَوْ يَنْتَصِرُونَ) أو ينتقمون من معذّبيكم أو يدفعون العذاب من أنفسهم بأنفسهم أو بغيرهم على ان يكون مطاوع نصر (فَكُبْكِبُوا فِيها) اى أسقط الآلهة على رؤسهم أو على وجوههم في الجحيم (هُمْ وَالْغاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ) من بنى آدم

١٥٨

وبنى الجانّ فيكون من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ أو من بنى الجانّ فيكون من قبيل عطف المباين (أَجْمَعُونَ قالُوا) اى العابدون (وَهُمْ) اى العابدون أو هم والآلهة واتباع الشّياطين (فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا) انّه كنّا (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) اى الرّبّ المضاف الّذى هو علىّ (ع) على ان يكون المراد من أشرك بالولاية (وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ) اى الاسلاف الّذين اقتدينا بهم ، أو أمثالنا الّذين اغتررنا بهم ، أو الآلهة الّذين خدعونا ، أو الشّياطين (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) لانّ كلّ نسبة وكلّ خلّة تصير منقطعة الّا النّسبة والخلّة في الله ، ولا يشفع الشّفعاء الّا بإذن الله ، ولا نسبة ولا خلّة ولا جهة الهيّة لهم حتّى يكون شفيع لهم أو صديق أو حميم ، روى عن ابى عبد الله (ع) انّه قال : والله لنشفعنّ لشيعتنا ، والله لنشفعنّ لشيعتنا ، والله لنشفعنّ لشيعتنا حتّى يقول النّاس فما لنا من شافعين ولا صديق حميم (الى قوله) فنكون من المؤمنين (فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) لو للتّمنّى أو للشّرط (فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما قصصناه من قصّة إبراهيم (ع) واحتجاجاته ، أو في قول المشركين بالله أو بالولاية (لَآيَةً) لمن تأمّل فيها أو لمن انسلخ عن حجاب المادّة واستكشف في الدّنيا حال المشركين في القيامة ولا يكون الّا لمن قامت قيامته متمكّنا في القيامة أو متلوّنا (وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ) قد مضى قبيل هذا هذه الكلمة (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) قد مضى هذه أيضا (كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل بعد حكاية إبراهيم (ع) وقومه : ما فعل قوم نوح المعروف قصّتهم؟ ـ فقال : كذّبت قوم نوح المرسلين ، ونسبة تكذيب جميع المرسلين إليهم قد مضى وجهها في سورة الفرقان (إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ) الا للعرض أو للتّحضيض (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ) من الله (أَمِينٌ) معروف فيكم بالامانة فاقبلوا قولي ولا تنسبونى الى الكذب والخيانة (فَاتَّقُوا اللهَ) اى إذا عرفتموني بالامانة فاتّقوا الله في مخالفتي (وَأَطِيعُونِ) فيما أقول لكم ولا تكذّبونى ، قد مضى مكرّرا انّ الإنسان فطريّ التّعلّق وانّه ان لم يتعلّق بخليفة الله تعلّق بغيره من مظاهر الشّيطان واهوية النّفس وآمالها وانّ الدّين هو التّعلّق بخليفة الله بالبيعة والاقتداء والطّاعة وانّ من تعلّق بخليفة الله كان ناجيا لا محالة ، وغيره كائنا من كان كان داخلا في المرجين لأمر الله ولذلك كان قول الأنبياء (ع) اوّل تبليغهم امر الامّة بالطّاعة لأنفسهم (وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) اى على التّبليغ (مِنْ أَجْرٍ) حتّى تتّهمونى لذلك وتكذّبونى فانّ الأمر لو لم يكن الهيّا كان نفسانيّا والأمر النّفسانىّ لا يخلو عن مقتضيات النّفس ومشتهيات الدّنيا (إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) كرّر الأمر بالتّقوى والطّاعة للاهتمام به فانّه لا غاية للرّسالة بل لا غاية للإنسان الّا ذلك ، ولترتّبه اوّلا على معرفة الامانة وهاهنا على عدم طلب اجرة منهم (قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ) وقرئ اتباعك الأرذلون كأنّهم لم يكذّبوا أمانته واستغناءه وعدم طمعه في أموالهم لكنّهم جعلوا مانع قبول رسالته اتّباع الأرذال الدّالّ على رذالة المتبوع الدّالّة على عدم شأنيّة الرّسالة ولذلك كانوا ينسبون الأنبياء (ع) الى الجنون والخبط ومسيس الشّياطين وأمثال ذلك (قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) ولم تسمّونهم أراذل وليس حسن عملهم ولا قبحه بيدي واطّلاعى انّما كان علىّ ان آخذ البيعة منهم لربّى (إِنْ حِسابُهُمْ) في عملهم (إِلَّا عَلى رَبِّي) وليس حسابهم علىّ حتّى أكون مراقبا لهم في عملهم (لَوْ تَشْعُرُونَ) ذلك ما أنكرتم علىّ اتّباعهم ، أو لو للتّمنّى (وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ) كأنّهم عرّضوا بقولهم واتّبعك الأرذلون بان يطردهم عن نفسه حتّى يؤمنوا (إِنْ أَنَا إِلَّا

١٥٩

نَذِيرٌ مُبِينٌ) وليس شأنى طرد أحد أو مراقبة عمل انّما الطّرد والمراقبة على شأن الولاية (قالُوا) بعد ما رأوا انّه يحمى اتباعه ولا يطردهم من اتّباعه (لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ) هدّدوه بالقتل بأسوء أنواعه لمّا عجزوا عن المحاجّة معه كما هو ديدن كلّ غالب عاجز عن المحاجّة (قالَ) بعد ما داراهم مدّة الف سنة الّا خمسين عاما أو اقلّ من ذلك بيسير سائلا من الله شاكيا عليه (رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ فَافْتَحْ) فاقض أو فاحكم (بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) يعنى منهم أو من العذاب المسؤل لهم (فَأَنْجَيْناهُ) الإتيان بالفاء عقيب الدّعاء للاشعار بأنّ العذاب كان عقيب الدّعاء بلا مهلة ليكون أبلغ في مقام التّهديد والّا كان بين دعائه ووعد الاجابة له وبين إغراقهم مدّة مديدة (وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) بالنّاس وسائر الدّوابّ (ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) أتى بثمّ هاهنا وكان حقّه الإتيان بالفاء للتّفاوت بين الاخبارين (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) الرّيع بالكسر والفتح المرتفع من الأرض أو كلّ فجّ أو كلّ طريق أو الطّريق المنفرج في الجبل والجبل المرتفع وبرج الحمام الّذى يبنى لان تأوى اليه (آيَةً) علامة (تَعْبَثُونَ) بذلك والمراد به القصور المرتفعة ، أو القلاع المبنيّة على الجبال والمرتفعة من الأراضي ، أو العلائم المبنيّة للمارّة من غير حاجتهم اليه ، أو الابنية الّتى تبنى على الطّريق للاشراف على المارّة والسّخريّة بهم ، أو كانوا يبنون ابنية للاجتماع واللّعب فيها (وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) جمع المصنعة أو المصنع بمعنى الحياض تصنع للماء ، أو المضائف الّتى يدعى إليها للضّيافة ، أو القرى الّتى تصنع للزّراعة والانتفاع ، أو المبانى من القصور والحصون (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) يعنى راجين للخلود ولذلك تحكمون بنيانها (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) لا مؤدّبين يعنى انّكم جمعتم بين الإفراط في القوّة الشّهويّة والإفراط في القوّة الغضبيّة (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) مضى وجه تكرار هذه (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) اى تعلمونه أو تعلمون انّه ليس الّا بامداد الله ، كرّر اتّقوا مقدّمة للتّنبيه على بعض النّعم الّذى يعرفون انّه من الله حتّى يقبلوا ويطلبوا منه الزّيادة ويخافوا زواله ولا يخالفوه (أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) عدّ عليهم من أنواع نعمه ما يعدّه العرب أشرف النّعم وأحسنها (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) كأنّه قال أمرتكم بالتّقوى لانّى أخاف عليكم زوال تلك النّعم بمخالفتكم وأخاف أعظم منه وهو عذاب يوم عظيم (قالُوا) في جوابه إظهارا لعدم الاعتداد به (سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) لم يقل أم لم تعظ ليكون أبلغ في عدم الاعتداد بوعظه (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) قرئ خلق بالفتح والسّكون بمعنى الافتراء أو الفطرة والطّبع ، وقرئ بالضّمّتين بمعنى السّجيّة والطّبع والمعنى ما هذا الّذى تدّعيه الّا كذب الاوّلين الّذين ادّعوا النّبوّة مثلك ، أو ما هذا الّذى نحن عليه من سجيّة الحيوة والتّعيّش ايّاما ثمّ الموت الّا فطرة الاوّلين يعنى انّ الزّمان كان من القديم على الأحياء والاماتة ، أو ما هذا الّذى أنت تدّعيه الّا عادة الاوّلين من الأنبياء (ع) أو من المدّعين للنّبوّة ، أو ما هذا الّذى نحن عليه من الدّين الّا عادة الاوّلين ونحن بهم مقتدون (وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) لانّه لا بعث ولا حساب ولا عقاب ، أو لانّا نكون على

١٦٠