تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ٣

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣١٧

النّظر والعبرة وتمييز الحقّ عن الباطل والمبطل من المحقّ ولذلك قال (قَلِيلاً ما) اى شكرا قليلا (تَشْكُرُونَ) فلا تستعملون النّعم في وجهها ، ولمّا كان المقصود انّه لا مانع من قبله في قبولهم الرّسالة أتى بهذه الثّلاث الّتى هي المحتاج إليها في التّدبير والتّميز دون سائر المدارك والقوى (وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) اى خلقكم فيها (وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) يعنى انّه مبدؤكم ومعادكم فلا ينبغي ترك النّظر في نعمه وترك التّدبّر في امره ونهيه (وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) اى تعاقبهما أو زيادة كلّ منهما ونقصانه أو اختلاف كلّ مع الآخر بالزّيادة والنّقصان أو في الكيفيّة أو في الاظلام والاضاءة والمراد باللّيل والنّهار صورتهما المشهودة فانّ تعيّش الإنسان وأسباب تعيّشه منوطة بهما ، أو اعمّ منهما كأنّه قال : وهو الّذى يجعل سائر المتضادّات بين العباد كما انّه يحيى ويميت ويوجد هذين المتضادّين بين عباده ، واللّام في مثله يجوز ان يكون هي اللّام الدّاخلة على المبدأ أو الغاية أو المملوك (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك فتعلّموا انّ من بيده ذلك كلّه حقيق بان يتضرّع عليه ويسأل منه وينقاد له (بَلْ قالُوا) يعنى انّهم لا يتفكّرون حتّى يعلموا انّ الله هو المبدئ المعيد بل قلّدوا آباءهم الجهلة وأسلافهم الضّالّين فقالوا (مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) يعنى استغربوا البعث الّذى ينبغي ان يقرّوا به (لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ) ولو كان حقّا لظهر اثره في تلك المدّة المديدة (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) الأساطير الأحاديث الّتى لا نظام لها جمع الاسطار والاسطير بكسر الهمزة فيهما والاسطور بضمّها وقد يلحق التّاء بالثّلاثة بمعنى الحديث الّذى لا نظام له ، وامّا الأساطير جمع الاسطار جمع السّطر بمعنى الخطّ والكتابة فغير مناسب (قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى انّهم يقرّون انّ الخالق هو الله فذكّرهم الإقرار ثمّ نبّههم على انّ الإبداء أصعب من الاعادة (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) يعنى انّهم يظهرون في جوابك إقرارهم بانّه المبدء فنبّههم بعد ذلك و (قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) انّ الاعادة أسهل من الإبداء (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) يعنى من خالقهما ومدبّر أمورهما مع عظمهما وكثرة ما فيهما من الملائكة والكواكب (سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وقرئ : سيقولون الله ، وهو أوفق بالسّؤال (قُلْ) لهم بعد الإقرار بانّ الله خالقهما ومدبّرهما (أَفَلا تَتَّقُونَ) سخطه في مخالفته ومخالفة رسوله (ص) في انكار الاعادة أو مطلقا (قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) يعنى من بيده تدبير كلّ شيء والتّصرّف فيه والتّسلّط عليه فانّ الملكوت هو باطن الأشياء المسلّط عليها والمتصرّف فيها باىّ تصرّف شاء (وَهُوَ يُجِيرُ) اى يغيث (وَلا يُجارُ عَلَيْهِ) يعنى لا أحد يغيث مغضوبه (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) وقرئ بدون اللّام (قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ) اى كيف يخيّل إليكم الحقّ باطلا مع وضوحه أو كيف تعمون عن صحّة الاعادة مع ظهور الادلّة أو كيف تخدعون (بَلْ) ليس إنكارهم وقولهم ذلك عن خفاء دليل المدّعى ولا عن ظهور دليل الإنكار لكن (أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ) الّذى هو الولاية في مظهر الرّسول (ص) الّذى ليس في وجوده الّا الحقّ والبعث والحشر ، والإقرار بالرّسول ليس الّا من آثار الحقّ (وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) مطلقا ليس في وجودهم جهة صدق حتّى يصحّ تقييد كذبهم بغيرها ومن لم يكن في وجوده جهة حقّ وصدق لا يصدّق الحقّ الّذى اتيناهم به (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : قد علم حال منكري البعث فما حال من جعل لله ولدا ومن

١٠١

جعل معه الهة اخرى أصحيح هذا منهم أم لا؟ ـ فقال : ما أخذ الله من ولد لانّ الولد ما يكون مماثلا للوالد في الذّات ولوازمها فلو كان لله ولد لكان مثله آلها ولو كان مثله آلها آخر لزمه ما لزم كون الآلهة معه ولذلك لم يأت ببرهان بطلانه واكتفى ببرهان تعدّد الآلهة (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ) إذا ظرف لمحذوف والتّقدير لو كان معه آله إذا لذهب (كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) يعنى لو كان الإله اثنين لا يخلو امّا ان يكونا قادرين قويّين أو عاجزين ضعيفين ، أو يكون أحدهما قادرا قويّا والآخر عاجزا ضعيفا ، فان كان أحدهما قويّا والآخر عاجزا يكون الإله واحدا ، وان كانا ضعيفين لم يكن شيء منهما آلها للضّعف الظّاهر فيهما ، وان كانا قويّين قديرين لزم ان يكون كلّ منهما قادرا عاجزا غالبا مغلوبا ، وهو محال ، وذلك لانّ اقتضاء الآلهة القدرة التّامّة واقتضاء القدرة التّامّة ان يكون كلّ ما سواه مقدورا له فلو فرض الإله اثنين لزم ان يكون كلّ واحد منهما قادرا لفرض الآلهة فيه مقدورا لغيره لفرض الآلهة غيره ، فهذه الحجّة من الله تعالى برهان تامّ لو انضمّ اليه بعض المقدّمات المذكورة المعلومة من عنوان الآلهة ويكون معنى قوله لعلا بعضهم على بعض لعلا كلّ بعض منهم على كلّ بعض بجعل اضافة البعض للاستغراق (سُبْحانَ اللهِ) بمنزلة النّتيجة للسّابق (عَمَّا يَصِفُونَ) من الولد والشّريك (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ).

اعلم ، انّ العلم كما مضى في اوّل الكتاب وفي سورة البقرة قد يكون بحضور ذات المعلوم عند العالم ويسمّى علما حضوريّا وهذا علم حقيقة ولا يكون هذا العلم الّا بإحاطة العالم على المعلوم وصيرورة المعلوم من شؤن العالم واظلاله ، وقد يكون بحصول صورة من المعلوم عند العالم تكون تلك الصّورة هي المعلومة حقيقة والمعلوم يكون معلوما بالعرض لا بالذّات ، وان كان مقصودا بالذّات ، وهذا العلم يسمّى بالظّنّ لانفكاك معلومه عنه وجواز عدم مطابقته له ، وعلم الباري تعالى شأنه بالأشياء من القسم الاوّل لانّ صفحة الأعيان بالنّسبة اليه تعالى كصفحة الأذهان بالنّسبة إلينا ، ونسبة جميع الموجودات اليه تعالى كنسبة الصّور الذّهنيّة إلينا ، فكما انّ الصّور الذّهنيّة محاطة لنا ومنوطة بإرادتنا والتفاتنا إذا أردنا بقاءها كانت باقية وإذا أردنا فناءها صارت فانية ، كذا الموجودات المعلومات له تعالى بالنّسبة اليه والمراد بالغيب والشّهادة عالم الغيب الغائب عن المدارك الحيوانيّة وعالم الشّهادة المدرك بها ، ولمّا كانت الموجودات بحكم العقل محصورة فيهما فقوله عالم الغيب والشّهادة بمنزلة عالم جميع الموجودات ، ولمّا كان علمه بجملة الموجودات بنحو الاحاطة والتّسلّط على الإبقاء والافناء كان قوله (عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) بمنزلة محيط بجملة الموجودات قاهر على الكلّ ولذلك أتى بقوله (فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) بنحو التّفريع وأتى هاهنا بفاء التّفريع دون قوله (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) مع انّ كلّا منهما تفريع ونتيجة لسابقه ، لانّ في قوله سبحان الله معنى التّعجّب فانّه قلّما يستعمل خاليا من التّعجّب والمناسب لانشاء التّعجّب القطع عن السّابق بخلاف تعالى عمّا يشركون فانّه خال عن التّعجّب واخبار بنتيجة السّابق (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي) ان ترني (ما يُوعَدُونَ رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر لذمّ آخر والجملة تهديد لهم بترقّب نزول العذاب عليهم (وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ ادْفَعْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قال : فما افعل بهم؟ ـ قال : ادفع «ب» الخصلة (بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أو بالحسنة الّتى هي أحسن أو بالدّفعة الّتى هي أحسن (السَّيِّئَةَ) اى سيّئة نفسك أو سيّئة غيرك والخطاب لمحمّد (ص) لكن أمّته مقصودة بالخطاب وهذا تأديب حسن له ولامّته.

١٠٢

بيان في الدّفع بالأحسن الى المسيء

اعلم ، انّ رفع إساءة المسيء يتعقّل بالاساءة اليه بما يتعقّل الاساءة اليه من قتله وقطع أطرافه وشقّها وضربه زائدا على قدر إساءته أو مساويا أو ناقصا منه ، والعفو عنه والصّفح اى تطهير القلب من الحقد عليه والإحسان اليه ، والخصلة الحسنى على الإطلاق هي الإحسان الى المسيء فانّه يترتّب عليه المحبّة والوداد ويتعقّبه ما في قوله تعالى (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) ، ولمّا لم يكن الأفعال حسنها وقبحها الّا بإضافتها الى مباديها وغاياتها ، وان كانت متعدّية اعتبرت اضافتها الى من وقعت عليه بل قد يعتبر فيهما الاضافة الى المكان والزّمان والآلة والحاضرين وغيرها لم يكن المراد الدّفع بالأحسن مطلقا بل الدّفع بالأحسن بالاضافة الى الفاعل والمنفعل والمكان والزّمان وغير ذلك لانّ صاحب النّفس الّتى لم ترض من الجاني الّا بقتله أو باضعاف جنايته لم يكن الدّفع منه بالأحسن الّا بالاقتصاص ، ومن يقدر على كظم الغيظ كان الدّفع بالأحسن منه بكظم الغيظ ، ومن يقدر على الصّفح كان الصّفح منه أحسن ، ومن يقدر على الإحسان الى المسيء كان الإحسان منه أحسن ، والإحسان الى الجاني الّذى يزيد الإحسان في طغيانه لم يكن حسنا بل كان قبيحا وهكذا ترك التّعرّض لمن يزيد عدم التّعرّض في اعتدائه ، وهكذا الحال بالنّسبة الى الزّمان والمكان والآلات والسّامعين والشّاهدين فعلى هذا كان معنى الآية انظر الى المسيء وحالاته وزمان رفع إساءته ومكانه فادفع بالّتى هي أحسن بالنّظر الى جميع ما يضاف الدّفع اليه السّيّئة سواء كانت تلك السّيّئة من جنودك وقواك أو من إنسان سواك ، أو من حيوان سوى الإنسان فاقتل من ينبغي ان يقتل واقطع من ينبغي ان يقطع أطرافه ، واقتصّ ممّن ينبغي ان يقتصّ منه واضرب من ينبغي ان يضرب ، وادّب لسانا من ينبغي ان يؤدّب لسانا ، وأحسن الى من ينبغي ان يحسن اليه ، وقوله تعالى : (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) راد بالإحسان فيه فعلا يلائم ويوافق مرتبة المسيء من غير نظر الى حال الفاعل ولا الى حال المسيء كما يجوز ان يكون المراد بالإحسان هاهنا أيضا ذلك بقرينة قوله تعالى (نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ) فانّ معناه ولا تتعرّض لهم بالزّجر والمكافاة لانّا نحن اعلم بما يصفون ، ولفظة ما مصدريّة أو موصولة (وَقُلْ) إذا أزعجك الشّيطان للاساءة الى المسيء (رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) الهمز الغمز والضغط والطّرد والدّفع والضّرب والعضّ والكسر ، وهمزات الشّياطين زعجاتهم وضغطاتهم (وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ) فانّ حضورهم ليس الّا لمناسبة ما بيني وبينهم ويتولّد من حضورهم مناسبة اخرى فأعذني من حضورهم يعنى من مناسبتى لهم وتولّد مناسبة اخرى منهم (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ) غاية ليصفون أو لكاذبون أو لقوله قالوا مثل ما قال الاوّلون (قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ) أتى بارجعون جمعا امّا لتشريك الملائكة معه تعالى أو لتعظيم الرّبّ (لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) فردا من الأعمال الصّالحة أو صالحا عظيما هو ولاية علىّ بن ابى طالب (ع) لانّه يظهر حينئذ انّ الرّبّ المضاف كان عليّا (ع) ، وان لا يقبل عمل الّا بولايته وان لا صالح الّا هي ، وانّ كلّ صالح صالح بها (فِيما تَرَكْتُ) اى في الدّنيا الّتى تركتها أو في الأعمال الّتى تركتها ، أو في الولاية الّتى تركتها وقد فسّر في الاخبار المتروك بالزّكوة المتروكة (كَلَّا) جواب وردع لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يجيب الله سؤالهم؟ ـ فقال : كلّا وارتدع عن هذا السّؤال أو كأنّه قيل : هل يعمل صالحا ان رجع الى الدّنيا؟ ـ قال : كلّا (إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها) وليس اجابة لها أو ليس يعمل صالحا ان رجع (وَمِنْ وَرائِهِمْ) امامهم أو خلفهم فانّ الكفّار حين الرّجوع الى الآخرة يكونون مقبلين على الدّنيا ومدبرين عن الآخرة لتعلّق قلوبهم بالدّنيا ووراء بتثليث الآخر مبنيّة ، والوراء معرّفة باللّام بمعنى قدّام وخلف (بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) للحساب أو للجنّة والنّار والمراد يوم القيامة

١٠٣

ويوم انتهاء البرزخ وانتقال أهل الجنّة الى الجنّة وأهل النّار الى النّار.

بيان لترقّى الأرواح في البرزخ

والبرزخ هو الحاجز بين الشّيئين ويسمّى ما بين عالم الطّبع وعالم المثال برزخا لكونه بين الدّنيا والآخرة فانّ الدّنيا دار ابتلاء وامتحان والآخرة دار راحة وقرار ، والبرزخ بينهما هو الّذى يدخله الإنسان بعد الموت ولا يستقرّ فيه بل يجوزه سريعا أو بطيئا بتعب أو براحة ، وهو الّذى يسمّى بهور قوليا وبعده جابلسا كما انّ قبله جابلقا وهو المدينة الّتى لها الف الف باب ويدخله كلّ يوم ما لا يحصى من خلق الله ويخرج منه كلّ يوم مثل ذلك وقد سبق الاشارة اليه في سورة البقرة عند قوله تعالى : (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) وفي غيرها ، وقد اختلف الأقوال في انّ للإنسان بعد الموت ترقّيا وتنزّلا فقيل : انّ التّرقّى والتّنزّل والخروج من القوّة الى الفعل لا يكون الّا في الدّنيا لانّ حامل القوّة وهو المادّة لا يكون الّا في الدّنيا وبعد الموت والانفصال من المادّة لا يكون قوّة حتّى يكون خروج من القوّة الى الفعليّة العلويّة أو السّفليّة فلا يكون التّرقّى والتّنزّل ، والمأثور من الأنبياء (ع) واتباعهم انّ عالم البرزخ عالم فيه يتخلّص النّفوس عن شوائبها الغريبة فان كانت النّفوس سجّينيّة تخلّصت من شوائب العلّيّين حتّى إذا بلغت الى الأعراف لم يكن عليها من العلّيّين شيء ، وإذا كانت علّيّينيّة تخلّصت من شوائب السّجّين ، فاذا بلغت النّفوس الى الأعراف خالصة من الشّوائب الغريبة دخلت كلّ منها مقرّها من الجحيم والجنان وهذا في الحقيقة طرح للغرائب وظهور لما هو ذاتىّ وليس خروجا من القوّة الى الفعليّة بل ظهور للفعليّة الحاصلة فلا منافاة بين ما ورد في الشّرائع الإلهيّة وبين ما قاله الحكماء من طريق الموازين العقليّة وليس الوقوف في البرازخ لكلّ أحد بل الخارج الى الفعليّات السّفليّة من غير بقاء اثر من الفعليّات العلويّة عليه ، والخارج الى الفعليّات العلويّة من غير بقاء شوب من الفعليّات السّفليّة عليه إذا ماتا دخلا مقرّهما من غير وقوف ، وما ورد انّ بعض النّاس يمرّ على الصّراط كالبرق الخاطف ، اشارة إليهما ، وغير هذين الصّنفين له وقوف في البرازخ قليلا أو كثيرا معذّبا أو غير معذّب حتّى يخلص من الشّوائب الغير الذّاتيّة ويدخل مقرّه ، ولا شكّ في انّ المسلم قد يكون له برزخ ، وامّا المؤمن الّذى بايع البيعة الخاصّة وقبل الولاية ودخل الايمان في قلبه ودخل هو في امر الائمّة فأكثر الاخبار تدلّ على ان ليس له برزخ ويكون برزخه وخلاصه من الشّوائب قبل الموت ، وعند الموت لا يكون عليه شوب حتّى يحتاج الى الوقوف في البرازخ ، وفي بعض الاخبار دلالة على انّ المؤمن أيضا قد يوقف في البرازخ وشهود أهل الشّهود يدلّ على ذلك لكن هذا الوقوف لقليل من المؤمنين الضّعيف الايمان ، وأكثرهم لا وقوف لهم في البرازخ ، والتّحقيق انّ المؤمن إذا خرج من حدود نفسه أو لم يخرج لكن كان في وجوده قوّة مهيّجة له على الخروج لا يوقف في البرازخ ، وإذا لم يخرج من حدود نفسه ولم يكن له قوّة مهيّجة على الخروج وكان راضيا ببيت نفسه مطمئنّا بأرض طبعه يوقف لا محالة في البرازخ بحسب تفاوت غرائبه وتفاوت تشبّثها وقد شوهد لبعض المؤمنين تكرار الموت ونزع الرّوح في البرزخ ، فاتّقوا إخواني وقوفات البرزخ وموتاتها ، ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ، فما ورد من انّ المؤمن لا يخرج من الدّنيا الّا بعد طهارته من الذّنوب ، انّما هو لمن كان خارجا من حدود نفسه أو من كان فيه قوّة مهيّجة ، وما أشعر بوقوفه في البرزخ كان لمن لم يخرج ولم يكن فيه قوّة مهيّجة (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ) الصّور بضمّ الصّاد وسكون الواو القرن الّذى ينفخ فيه.

شرح في نفخ الصّور

وورد في الاخبار انّه قرن من نور ينفخ فيه إسرافيل وله رأس وطرفان فينفخ فيه إسرافيل فيخرج الصّوت من الطّرف الّذى يلي الأرض فيموت أهل الأرض ، ويخرج الصّوت من الطّرف الّذى يلي السّماوات فيموت أهل السّماوات ثمّ يمكث الأرض والسّماوات خالية من أهلها وسكّانها ما شاء الله بعد ما أمات الله جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ثمّ ينفخ الله في الصّور أو يبعث الله إسرافيل فيأمره فينفخ في الصّور مرّة اخرى وله ثقب بعدد أرواح الخلائق فيخرج الصّوت من أحد طرفيه الّذى يلي السّماوات فلا يبقى في السّماوات

١٠٤

أحد الّا حيي وقام كما كان ويعود حملة العرش ويحضر الجنّة والنّار وتحشر الخلائق للحساب ، وقيل : انّ الصّور هاهنا وفي غير هذا الموضع ممّا ذكر من أمثال الآية جمع الصّورة ويؤيّد هذا قراءته بضمّ الصّاد وفتح الواو وبكسر الصّاد وفتح الواو فانّهما ليسا الّا جمع الصّورة بمعنى الشّكل والهيئة ، ونسب الى السّجّاد (ع) انّه سئل عن النّفختين كم بينهما؟ ـ قال : ما شاء الله ، قيل : فأخبرنى يا ابن رسول الله (ص) كيف ينفخ فيه؟ ـ فقال : امّا النّفخة الاولى فانّ الله عزوجل يأمر إسرافيل فيهبط الى الدّنيا ومعه الصّور وللصّور رأس واحد وطرفان وبين رأس كلّ طرف منهما الى الآخر مثل ما بين السّماء الى الأرض ، فاذا رأت الملائكة إسرافيل قد هبط الى الدّنيا ومعه الصّور قالوا : قد اذن الله تعالى في موت أهل الأرض وفي موت أهل السّماء ، قال : فيهبط إسرافيل بحظيرة بيت المقدّس وهو مستقبل الكعبة فاذا رآه أهل الأرض قالوا : قد اذن الله تعالى في موت أهل الأرض فينفخ نفخة فيخرج الصّوت من الطّرف الّذى يلي الأرض فلا يبقى في الأرض ذو روح الّا صعق ومات ، ويخرج الصّوت من الطّرف الّذى يلي السّماوات فلا يبقى في السّماوات ذو روح الّا صعق ومات الّا إسرافيل ، قال (ع) : فيقول الله لاسرافيل : يا إسرافيل مت ، فيموت إسرافيل ، فيمكثون في ذلك ما شاء الله ، ثمّ يأمر السّماوات فتمور ، ويأمر الجبال فتسير ، وهو قوله تعالى (يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً ، وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) يعنى يبسط ويبدّل الأرض غير الأرض يعنى بأرض لم تكسب عليها الذّنوب بارزة ليس عليها جبال ولا نبات كما دحاها اوّل مرة ويعيد عرشه على الماء كما كان اوّل مرّة مستقلّا بعظمته وقدرته قال (ع) : فعند ذلك ينادى الجبّار تبارك وتعالى بصوت من قبله جهوريّ يسمع أقطار السّماوات والأرضين : لمن الملك اليوم؟ ـ فلا يجيبه مجيب فعند ذلك يقول الجبّار عزوجل مجيبا لنفسه : لله الواحد القهّار ، وانا قهرت الخلائق كلّهم وأمّتهم انّى انا الله لا اله الّا انا وحدي ، لا شريك لي ولا وزير ، وانا خلقت خلقي بيدي ، وانا أمّتهم بمشيّتى ، وانا احييهم بقدرتي ، قال (ع) : فينفخ الجبّار نفخة اخرى في الصّور فيخرج من أحد الطّرفين الّذى يلي السّماوات فلا يبقى في السّماوات أحد الّا حيي وقام كما كان ، ويعود حملة العرش ويحضر الجنّة والنّار ويحشر الخلائق للحساب ، وقد ورد غير ذلك من الاخبار مفصّلا من أراد فليرجع الى المفصّلات. ولمّا كانت النّسب الجسمانيّة من التّناسب والمصاهرة وهكذا ولاء العتق لا تحصل الّا بتوسّط المادّة الجسمانيّة والاعتبارات الجرمانيّة سواء حصل التّناسب بين النّفسين بتلك النّسبة الجسمانيّة أو لم يحصل ، وبالنّفخة الاولى يخلص النّفوس من المادّة الجرمانيّة سواء صارت متعلّقة بأبدان مثاليّة أو كانت مجرّدة عن ذلك ، وبالنّفخة الثّانية لا تعود الموادّ بل الأجسام مجرّدة عن موادّها كان كلّ نسبة وخلّة جسمانيّة منقطعة في النّفختين الّا النّسب الرّوحانيّة الّتى تحصل للإنسان بإحدى البيعتين أو بالسّنخيّة والتّوادد بين المتناسبين فلا يبقى أنساب جسمانيّة بينهم (يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ) امّا في النّفخة الاولى فظاهر وامّا في النّفخة الثّانية ففي موقف الحساب لا في جميع المواقف فانّ في بعض المواقف يقبل بعضهم على بعض يتساءلون (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ) قد مضى تحقيق الوزن والميزان وبيان الموازين في اوّل سورة الأعراف في نظير الآية (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ) لانّهم ضيّعوا بضاعتهم الّتى هي فطرتهم الانسانيّة ومدّة عمرهم من غير اكتساب كمال لنفوسهم فأنفدوا بضاعتهم من غير عوض (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ) لعدم بقاء الفطرة الّتى تكون غير ملائمة للجحيم ومخرجة منها (تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ) لفح النّار بحرّها أحرقت ، والجملتان خبر ان بعد خبر أو الّذين خسروا أنفسهم صفة وفي جهنّم خالدون خبره ، أو في جهنّم خالدون حال وتلفح وجوههم خبر ، أو الجملتان حالان مترادفتان أو متداخلتان أو مستأنفتان (وَهُمْ فِيها كالِحُونَ) كلح كمنع

١٠٥

كلوحا وكلاحا بضمّها تقلّص شفتاه في عبوس سواء كان في تبسّم أو غيره وهذه الجملة حاليّة أو معطوفة (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ) جملة مستأنفة بتقدير القول وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يقال لهم حينئذ؟ ـ فقال : يقال : لتأنيبهم : (أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ قالُوا) هذا أيضا جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فما يقولون؟ ـ فقال : يقولون لكنّه عدل الى الماضي لتحقّق وقوعه (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا) فلم تدعنا نتّبع آياتك وقادتنا الى تكذيب الآيات وسوء العاقبة (وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) بحسب الفطرة (رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا) الى ما كنّا فيه (فَإِنَّا ظالِمُونَ) كأنّهم اعتذروا عن تكذيب الآيات في الكرّة الاولى بكونهم مقهورين للشّقوة وعدم رادع لهم من اتّباع الشّهوة لا من أنفسهم ولا من الخارج لانّهم كانوا ضالّين عن الطّريق فما أمكن لهم التّوسّل بآثار الطّريق لعدم ظهورها عليهم وما بلغ أسماعهم دلالة صاحب الطّريق لضلالهم عنه وتمنّوا الرّجوع الى الدّنيا لما علموا الطّريق وعقباتها ، وقالوا : ان رجعنا لا نكذّب لما علمنا الطّريق وآثارها وعقباتها فلا نخرج ولا نضلّ عن الطّريق ، وإذا لم نضلّ عن الطّريق لم نضلّ عن صاحبها ، وإذا لم نضلّ عن صاحبها لا نكذّب وان نكذّب كنّا حينئذ ظالمين بوضعنا التّكذيب الّذى لا ينبغي لنا موضع التّصديق الّذى كان من شأننا ، وامّا التّكذيب السّابق فكأنّه كان مقتضى ضلالتنا ولم يكن ظلما منّا (قالَ اخْسَؤُا فِيها) اخسأ كلمة تقال لزجر الكلب (وَلا تُكَلِّمُونِ) هاتان الكلمتان إظهار لغاية السّخط عليهم وردع لهم عن ساحة حضوره ومحلّ خطابه (إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ) حالا وقالا (رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) يعنى انّ جماعة من عبادي وهم الّذين تولّوا عليّا (ع) بالبيعة الخاصّة توسّلوا بى وتضرّعوا علىّ والتجأوا الىّ (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا) قرئ بضمّ السّين وكسرها (حَتَّى أَنْسَوْكُمْ) يعنى صاروا بسبب اشتغالكم باستهزائهم أسبابا لنسيانكم (ذِكْرِي) وأسبابا لضلالكم لا انّكم كنتم ضالّين بفطرتكم (وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ) وهؤلاء كانوا أوليائي وكان الاستهزاء بهم استهزاء بى فجزيتكم ذلك الجزاء وأكرمتهم غاية الإكرام (إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا) على استهزائكم وايذائكم (أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ) قرئ بفتح الهمزة مفعولا لجزيتهم ، وبكسر الهمزة مستأنفا في مقام التّعليل يعنى جزيتهم أحسن الجزاء بان جعلتهم مخصوصين بالفوز والنّجاة ، أو فائزين بمراداتهم ، أو فائزين بكمالات الإنسان ولذائذه مطلقا (قالَ) اى قال الله أو الملك الموكّل بهم وقرئ قل : على ان يكون امرا للملك الموكّل بهم (كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ) اى حين الحيوة الدّنيا أو في ارض القبور بعد الموت (عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) فانّهم لدهشتهم ووحشتهم استقلّوا مدّة لبثهم في الدّنيا أو في القبور (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) اى الملائكة الموكّلين بحفظ الأعوام والشّهور والايّام علينا يستشهدون الملائكة على صدق مقالتهم أو كأنّهم يلتفتون انّهم مخالطون متحيّرون في تعيين الايّام والشّهور ويقولون : لا علم لنا بما نقول فاسئل الملائكة (قالَ) الله أو الملك وقرئ : قل مثل سابقه (إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) لما خالطتم أو لفظة لو للتّمنّى (أَفَحَسِبْتُمْ) اى اما تأمّلتم أو أهملتم فحسبتم (أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) عبث كفرح لعب وكضرب خلط (وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) وهذه الجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر بتقدير القول اى نقول : أفحسبتم انّما خلقناكم من غير استكمال لكم ومن غير استبقاء فكذّبتم واتّبعتم أهواءكم وأعرضتم عن رسلنا وخلفائنا (فَتَعالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُ) الّذى لا يشوبه باطل عن العبث

١٠٦

والفعل الّذى لم يكن له غاية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) فلا حاجة له الى من يعضده فيخلق خلقا يعضدونه ثمّ يهلكهم من غير غاية (رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ) ومن كان ربّا للعرش وهو جملة الموجودات لم يكن له حاجة الى الخلق بل يخلقهم ليجود عليهم (وَمَنْ يَدْعُ) جملة حاليّة أو معطوفة على لا اله الّا هو (مَعَ اللهِ) الّذى لا اله الّا هو (إِلهاً آخَرَ) من الأصنام والكواكب والظّلمة واهريمن أو من يدع مع علىّ (ع) إماما آخر (لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) لانّ من يدعو إلها له على آلهته برهان كمن يدعو الأنبياء والأولياء (ع) لظهور برهان صدقهم في ادّعائهم فهو موحّد لا مشرك ومثاب لا معاقب ولكنّ الّذى يدعو آلها أو إماما لا برهان له على صدقه (فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) كناية عن شدّة العقاب وسوء الحساب (إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) جواب لسؤال عن العلّة كأنّه قال : فانّه كافر ولا يفلح الكافرون (وَقُلْ) خطاب لمحمّد (ص) أو عامّ وعطف على مقدّر كأنّه قال : تذكّر أو ذكّر ما ذكرنا وتوسّل بنا واسئلنا وقل (رَبِّ اغْفِرْ) مساوينا الّتى يلزمنا من الاشتغال بكثرات وجودنا والكثرات الخارجة من وجودنا من اتّباع اهويتنا والنّظر الى غيرك في فعالنا (وَارْحَمْ) بعد التّفضّل بالمغفرة (وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ) جملة حاليّة وذكر له تعالى باتّصافه بكمال مسئوله استرحاما منه.

سورة النّور

وهي مدنيّة كلّها بلا خلاف وهي اربع وستّون آية ، روى انّ رسول الله (ص) قال :

لا تنزلوهنّ الغرف ولا تعلّموهنّ الكتابة وعلّموهنّ المغزل وسورة النّور ، وعن

الصّادق (ع) : حصّنوا أموالكم وفروجكم بتلاوة سورة النّور ، وحصّنوا بها نساءكم

فانّ من أدمن قراءتها في كلّ ليلة أو في كلّ يوم لم يزن أحد من بيته أبدا حتّى يموت

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةٌ) قد مضى في اوّل الفاتحة بيان السّورة وقرئ هاهنا مرفوعا مبتدء أو خبرا لمحذوف أو مبتدء و (أَنْزَلْناها) خبره ومسوّغ الابتداء به كون التّنوين للتّفخيم أو للتّنويع ، وقرئ بالنّصب مفعولا لمحذوف من غير مادّة الفعل المذكور ، أو لمحذوف يفسّره قوله أنزلناها (وَفَرَضْناها) اى وقّتناها وعيّنّاها أو أوجبنا على النّاس ما فيها أو فصّلناها وميّزناها وميّزنا ما فيها من الأحكام أو أعطيناها (وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ) تدوينيّة (بَيِّناتٍ) اى بيّنات المعاني أو مبيّنات للمقاصد أو احكام تكليفيّة في صورة الكلمات والحروف ظاهرات المصالح (لَعَلَّكُمْ

١٠٧

تَذَكَّرُونَ) حكمها ومصالحها فتعملون بها ، ثمّ شرع في بيان الآيات فقال (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) اى منهما حكمهما أو الزّانية مبتدء وقوله (فَاجْلِدُوا) خبره ، ودخول الفاء بتقدير امّا أو توهّمها لكون المقام للتّفصيل أو لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط لانّه بمعنى الّتى زنت ، وقرئ بنصبهما بتقدير فعل ناصب لهما من مادّة الفعل المتأخّر اى اجلدوا أو من مادّة اخرى اى اذكروا أو احضروا الزّانية ، وتقديم الزّانية مع انّ الرّجل اولى بالتّقديم لانّ الزّنا منها أقبح ولانّ شأنها بفطرتها ان تمنع الرّجال من نفسها فاذا مكّنت الرّجل منها كانت اولى بالعقاب ولذلك كان حدّها مساويا لحدّه وقال تعالى فاجلدوا (كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) مع انّ شأنها في الحدود ان يخفّف عليها بالنّسبة الى الرّجال (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما) متعلّق بلا تأخذكم والباء للسّببيّة أو للآلة أو متعلّق بقوله (رَأْفَةٌ) وتقديمه على المصدر لكونه ظرفا (فِي دِينِ اللهِ) ظرف لغو متعلّق باجلدوا أو بلا تأخذكم أو برأفة شبّه دين الله بمكان مخصوص أو ظرف مستقرّ حال من فاعل اجلدوا أو من مفعوله وجعله حالا من مفعوله يفيد انّهما لا يجلد ان إذا لم يكونا في دين الله ، أو حال من مفعول لا تأخذكم أو صفة لرأفة وفائدة التّقييد به التّنبيه على الخلوص من شوب الهوى (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) قيد للجلد أو لعدم أخذ الرّأفة والشّرط للتّهييج (وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) اى جماعة اقلّها الثّلاثة وقيل : اقلّها الواحد ، وقيل : اقلّها هاهنا اربعة لانّ اقلّ ما يثبت به الزّنا شهادة الاربعة ، وقيل : منوط عددهم برأى الامام والمقصود من إحضار طائفة في عذابهما تنكيلهما بالتّفضيح علاوة على تنكيلهما بالعذاب ليكون تعذيبا شديدا لهما وعبرة لغيرهما ، وهذه الآية في بيان حدّ الزّانيين مجملة ، فانّ الزّانيين امّا يكون كلاهما أو أحدهما من أهل الذّمّة أو يكونان مسلمين محصنين أو غير محصنين ، بكرين أو غير بكرين ، حرّين أو عبدين ، ولكلّ حكم وهذا حكم الحرّين المسلمين الغير المحصنين الغير البكرين ، روى انّ عمر أتي بخمسة نفر أخذوا في الزّنا فامر ان يقام على كلّ واحد منهم الحدّ ، وكان أمير المؤمنين (ع) حاضرا فقال : يا عمر ليس هذا حكمهم ، قال : فأقم أنت الحدّ عليهم فقدّم واحدا منهم فضرب عنقه ، وقدّم الآخر فرجمه ، وقدّم الثّالث فضربه الحدّ ، وقدّم الرّابع فضربه نصف الحدّ ، وقدّم الخامس فعزّره ، فتحيّر عمر وتعجّب النّاس من فعله ، فقال له عمر : يا أبا الحسن خمسة في قضيّة واحدة أقمت عليهم خمسة حدود وليس شيء منها يشبه الآخر؟! فقال أمير المؤمنين (ع) : امّا الاوّل فكان ذمّيّا فخرج عن ذمّته ولم يكن له حدّ الّا السّيف ، وامّا الثّانى فرجل محصن حدّه الرّجم ، وامّا الثّالث فغير محصن حدّه الجلد ، وامّا الرّابع فعبد ضربناه نصف الحدّ ، وامّا الخامس فمجنون مغلوب على عقله ، ونقل ستّة نفر وقال : وأطلق السّادس ثمّ قال : وامّا الخامس فكان منه ذلك الفعل بالشّبهة فعزّرناه وادّبناه ، وامّا السّادس فمجنون مغلوب على عقله سقط منه التّكليف ، وتفصيل الزّانيين وحكمهما يطلب من الكتب الفقهيّة (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) قدّم الزّانى هاهنا لانّ المقام لبيان حكمهما والرّجل مقدّم على المرأة واولى بالحكم منها ، قيل : هو ردّ على من يستحلّ التّمتّع بالزّوانى والتّزويج بهنّ وهنّ المشهورات المعروفات في الدّنيا لا يقدر الرّجل على تحصينهنّ ، وفي الخبر عن الصّادق (ع) : هنّ نساء مشهورات بالزّنا ورجال مشهورون بالزّنا شهروا به وعرفوا به والنّاس اليوم بتلك المنزلة فمن أقيم عليه حدّ الزّنا أو شهر بالزّنا لم ينبغ لأحد ان يناكحه حتّى يعرف منه التّوبة ، وفي خبر انّما ذلك في الجهر ولو انّ إنسانا زنى ثمّ تاب تزوّج حيث شاء ، وفي خبر : لم يسمّ الله الزّانى مؤمنا ولا الزّانية مؤمنة وذلك لانّه تعالى جعلهما في قبال المؤمنين وقرينين للمشرك والمشركة ، فعلى ما ذكر في الاخبار كانت الآية نهيا في صورة الاخبار وهو آكد من الإتيان بصورة النّهى وهو كناية عن نهى المؤمن

١٠٨

والمؤمنة عن نكاح الزّانية والزّانى والمشركة والمشرك فانّ الاخبار عن الزّانى والزّانية بانحصار نكاحهما فيهم يدلّ على انّ عنوان الزّنا يقتضي حصر نكاحهما فيهم فكلّ عفيف وعفيفة رضى بنكاحهما منهم كان بمنزلة الزّانى والزّانية ، والعفيف والعفيفة لا يرضيان بجعلهما بمنزلة الزّانى والزّانية فلا ينكحا من الزّانى والزّانية والمشرك والمشركة ولذا صرّح بهذا المكنّى وقال (وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) يعنى المؤمنين والمؤمنات لكنّه اكتفى بالمؤمنين تغليبا ، وقيل : انّ المعنى انّ الّذى زنى لا يجامع في حال الزّنا الّا الّتى كانت شريكة له في الزّنا أو كانت مشركة وهي أسوء من الزّانية يعنى المرأة شريكة له في الزّنا أو كانت أسوء حالا من الزّنا ، وقيل : هذا الحكم كان ثابتا لكلّ زان وزانية وكان نكاح غير الموصوف بالزّنا حراما عليهما سواء كانا مشهورين به أم لا ، ثمّ نسخ هذا الحكم بقوله تعالى : (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ) (الآية) أو المعنى على الاخبار والمقصود انّ الزّانى لا يرغب ولا يعقد الّا على الزّانية لعدم السّنخيّة بينه وبين الصّالحات فيكون الاخبار عن الكلّ باعتبار الغالب (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ) لمّا بيّن حكم الزّانى والزّانية وحدّهما وغلّظ عليهما أراد أن يبيّن انّ نسبة الفاحشة الى العباد امر عظيم مستحقّ قائلها للعذاب مثل عذاب الزّانى والزّانية غاية الأمر انّ عذابه دون مرتبة عذابهما بدرجة وان يبيّن انّ إثبات الفاحشة للعباد ليس مثل إثبات سائر الحقوق يكتفى فيها ببيّنتين حتّى لا يجرأ النّاس على نسبة الزّنا الى العباد فقال : والّذين يرمون (الْمُحْصَناتِ) اللّاتى احصنّ فروجهن بالعفاف والإسلام والحرّيّة والبلوغ والعقل فانّ المراد بالاحصان هاهنا هذه (ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) هذه الآية مجملة كأكثر الآيات فانّ ظاهرها اختصاص الرّامين بالرّجال والمرمىّ بالنّساء والحال انّه لا فرق في الرّامىّ والمرمىّ بين الرّجل والمرأة ، والعبد والحرّ ، والمحصن وغير المحصن ، والبكر وغير البكر ، ولا بين ان يكون الرّمى في حضور المرمىّ أو في غيابه بلا خلاف في أكثر المذكورات ، ولا بين كون الرّمى بالصّراحة أو بالكناية الغير المحتملة غيرها ولكن ينبغي ان يكون الرّامى عارفا بمعنى الكلمة فلو قال : أنت تزني أو أبوك زنى بك أو يا ابن الفاعلة أو أنت المفعول وأنت تعمل عمل قوم لوط ، أو لست من أبيك ، أو أمّي ما زنت في مقام لا يحتمل سوى التّعريض ، أو انا لست من الزّنا تعريضا بالغير في مقام لا يحتمل غير التّعريض ، أو قال في مقام السّبّ ما صريحة الرّمى مع قصد الرّمى مثلا امرأتك الفاعلة أو مثل النّسبة الى الدّياثة مع قصد الرّمى كان رميا ولو لم يقصد بلفظة الرّمى ، أو لم يكن صريحة الرّمى مثل ان يقول : ولدت من الحرام فانّه مشترك بين الرّمى والتّوليد من الغذاء الحرام والانعقاد حال الحيض لم يكن رميا ، نعم لو قال أمثال ذلك في حضور المسلم كانت هتكا لحرمته وكان قائلها مستحقّا للتّعزير ، ولمّا جعل تعالى حكم زنا المحصنين وحكم اللّواط والسّحق القتل اعتبر في إثباتها اربع رجال من دون اعتبار النّساء عوضهم منفردات أو منضّمات ليكون إثباتها صعبا وجعل على من نسب هذه الى أحد من دون الإتيان بأربعة رجال حدّا حتّى لا يجترئ أحد على نسبة هذه الى النّاس ولو رآهم عليها لا يجترئ على إبرازها لئلّا يفتضح المسلمون من غير جرم أو ليتوب المجرم ولا يفتضح ولا يزهق روحه بجرم يمكن ان يتوب عنه ويعبد الله بعده ، ولئلّا يفتري العامّة على الخاصّة ، ولئلّا يجترءوا على الإظهار إذا رأوهم على المتعة فانّ الله قد علم انّهم سينكرونها ويأخذون عليها فجعل الشّاهد للزّنا اربعة رجال فقط لئلّا يجترئ من رأى أحدهم على التّمتّع بالمتعة على الإظهار فانّه قلّما يتّفق اطّلاع اربعة رجال على الوطي ولو كان حلالا ، روى عن الصّادق (ع) انّه سئل لم جعل في الزّنا اربعة شهود وفي القتل شاهدان؟ ـ فقال : انّ الله أحلّ لكم المتعة وعلم انّها ستنكر عليكم فجعل الاربعة الشّهود احتياطا لكم لو لا ذلك لاتى عليكم ، وقلّما تجتمع اربعة شهادة بأمر واحد ، وفي رواية قال (ع) : الزّنا فيه حدّان ولا يجوز ان يشهد

١٠٩

كلّ اثنين على واحد لانّ الرّجل والمرأة جميعا عليهما الحدّ ، والقتل انّما يقام الحدّ على القاتل ويدفع عن المقتول (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) عطف فيه معنى التّعليل ، نسب الى الباقر (ع) انّه نزل بالمدينة (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) قال فبرّأ الله المفترى ما كان مقيما على الفرية من ان يسمّى بالايمان قال الله عزوجل (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) ، وجعله الله منافقا فقال الله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، وجعله الله من أولياء إبليس قال : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ، وجعله ملعونا فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) روى انّ الصّادق (ع) سئل : كيف تعرف توبته؟ ـ فقال : يكذّب نفسه على رؤس الخلائق حين يضرب ويستغفر ربّه ، فاذا فعل ذلك فقد ظهرت توبته ، وفي خبر عن الصّادق (ع) القاذف يجلد ثمانين جلدة ولا تقبل له شهادة أبدا الّا بعد التّوبة ، أو يكذّب نفسه وان شهد ثلاثة وابى واحد يجلد الثّلاثة ولا تقبل شهادتهم حتّى يقول اربعة رأينا مثل الميل في المكحلة ، ومن شهد على نفسه انّه زنى لم يقبل شهادته حتّى يعيد اربع مرّات كلّ مرّة بإزاء شاهد ، وعلى هذا يكون قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) استثناء من قوله : (لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً) ، أو من قوله : (أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، ويجوز ان يكون المراد بالتّوبة التّوبة الخاصّة الجارية على أيدي خلفاء الله فانّه إذا حصل هذه التّوبة جبّت جميع ما سلف ، وعلى هذا يجوز ان يكون الاستثناء من قوله (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً) ، والمراد بالإصلاح بعد التّوبة والرّمى إصلاح نفوسهم بالأعمال الصّالحة أو استرضاء المرمىّ وتكذيب نفسه عند من رمى عنده وهتك حرمة المرمىّ في حضوره ، أو تسليم نفسه لإجراء الحدّ من دون ان يجد في قلبه حرجا ممّا قضى عليه (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) لمّا ذكر حكم قذف الاجنبيّة أراد ان يبيّن حكم رمى الأزواج حتّى لا يتوهّم انّ رمى الأزواج كرمي الاجنبيّة (وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ) في الإتيان بهذا الاستثناء اشعار بانّ الرّمى قد يكون عن ظنّ وتخمين وحدس ، وقد يكون عن شهود وعيان ، وهذا الحكم لمن شهد لا لمن حدس (فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ) مكان اربع شهود ، قرئ اربع شهادات بالنّصب مفعولا مطلقا وحينئذ يكون شهادة أحدهم مبتدء محذوف الخبر اى واجبة أو عليهم أو خبرا محذوف المبتدأ اى الواجب أو المعتبر أو حكم الله شهادة أحدهم ، وقرئ بالرّفع وحينئذ يكون شهادة أحدهم مبتدء واربع شهادات خبره ، أو يكون شهادة أحدهم على الوجوه السّابقة واربع شهادات بدلا منه والمراد من أحدهم واحد لا على التّعيين حتّى يفيد العموم البدلىّ اى شهادة كلّ واحد منهم اربع شهادات (بِاللهِ) متعلّق بشهادات أو بشهادة أحدهم أو متنازع فيه (إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ) اى فيما رماها والجملة مفعول لشهادة أحدهم أو لشهادات والعامل معلّق عنها أو هي خبر عن الشّهادة ووجه جواز حملها على الشّهادة لكون الشّهادة في معنى القول أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يقول أو ما يشهد؟ ـ فقال : يقول : انّه لمن الصّادقين (وَالْخامِسَةُ) اى الشّهادة الخامسة (أَنَّ لَعْنَتَ اللهِ) قرئ بتخفيف نون ان ورفع لعنة الله وتشديد نون ان ونصب لعنة الله (عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ) وهذا لعان الرّجل وحكمه سقوط حدّ القذف عنه ولزوم الفرقة بينه وبينها (وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ) اى عذاب الرّجم (أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) فيما رماها به (وَالْخامِسَةَ) قرئ برفع الخامسة مبتدء وبنصبها عطفا على اربع شهادات بالنّصب (أَنَّ غَضَبَ اللهِ) قرئ بتخفيف النّون وغضب

١١٠

فعلا ماضيا وبالتّخفيف وغضب الله مصدرا مرفوعا ، وقرئ بتشديد النّون وغضب الله مصدرا منصوبا (عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما رماها به ، عن الصّادق (ع) في جواب من سأله عن هذه الآية انّه القاذف الّذى يقذف امرأته فاذا قذفها ثمّ اقرّ انّه كذب عليها جلد الحدّ وردّت اليه امرأته وان ابى الّا ان يمضى فليشهد عليها اربع شهادات بالله انّه لمن الصّادقين ، والخامسة يلعن فيها نفسه ان كان من الكاذبين ، وان أرادت ان تدرأ عن نفسها العذاب والعذاب هو الرّجم شهدت اربع شهادات بالله انّه لمن الكاذبين ، والخامسة انّ غضب الله عليها ان كان من الصّادقين ، فان لم تفعل رجمت وان فعلت درأت عن نفسها الحدّ ثمّ لا تحلّ له الى يوم القيامة ، قيل : أرأيت ان فرّق بينهما ولها ولد فات؟ ـ قال : ترثه أمّه وان ماتت أمّه ورثه أخواله ، ومن قال : انّه ولد زنا جلد الحدّ ، قيل : يردّ اليه الولد إذا اقرّ به؟ ـ قال : لا ولا كرامة ولا يرث الابن ويرثه الابن ، وفي خبر : انّ الآية نزلت في رجل من المسلمين جاء الى رسول الله (ص) وادّعى انّه رأى رجلا مع امرأته ، وفي خبر انّ عويمر بن ساعدة العجلانىّ رأى ذلك وجاء الى رسول الله (ص) وتلاعنا ، وفي خبر انّ هلال بن أميّة قذف زوجته بشريك بن السّمحاء ، وعن الصّادق (ع) إذا قذف الرّجل امرأته فانّه لا يلاعنها حتّى يقول رأيت بين رجليها رجلا يزني بها ، وعن الباقر (ع) يجلس الامام مستدبر القبلة فيقيمهما بين يديه مستقبلا القبلة بخداء ويبدأ بالرّجل ثمّ المرأة وإذا شهد مرّتين أو ثلاث مرّات ونكل جلد الحدّ ، ولا يفرّق بينه وبين امرأته ، وأشير في الخبر الى انّه لمّا جعل الله للزّوج مدخلا لم يجعله لغيره جعل الله شهادته اربع شهادات بالله مكان اربع شهود بخلاف غيره من أب وولد وأخ وغيره ، ولو قال غيره ذلك قيل له : وما أدخلك المدخل الّذى ترى هذا فيه وحدك أنت متّهم (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) قد مضى مكرّرا انّ المراد بالفضل الرّسالة وأحكامها والرّسول ، وبالرّحمة الولاية وآثارها وعلىّ (ع) (وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) ولفضّحكم أو عاجلكم بالعقوبة حذف الجواب تفخيما للعقوبة كأنّها لا يمكن ان تجري على اللّسان وليذهب ذهن السّامع كلّ مذهب ممكن ، ولانّه تعالى جرى على طريقة مخاطبات العرف فانّ الغضوب إذا اشتدّ غضبه غاية الاشتداد لا يفي شدّة غضبه بإطالة الكلام وإتمام الخطاب فيحذف منه بعضه وان كان أصل الغضب يقتضي إطالة الكلام وتغليظه (إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ) إفك كضرب وعلم إفكا بالكسر والفتح والتّحريك كذب كأفّك بالتّشديد وافكه عنه كضرب صرفه وقلبه أو قلب رأيه (عُصْبَةٌ) اى جماعة (مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ) الضّمير للافك أو الإتيان بالإفك المستفاد من جاؤا بالإفك (بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) لانّ إفكهم لا يورث ضررا عليكم بل ينفعكم لانّه يكون كفّارة لذنوبكم وتخفيفا لاثقالكم (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ) فانّ من هؤلاء العصبة من يقول افتراء مع علم بانّه افتراء ، ومنهم من يقوله ظنّا وتخمينا ، ومنهم من يقول تقليدا ، ومنهم من يستمع ، ومنهم من يسمع ، ولكلّ منهم قدر ما اكتسب من الإثم (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) معظم الإثم كعبد الله بن ابىّ سلول فانّه كان رأس أصحاب الافك كانوا يجتمعون عنده وكان يحدّث النّاس بحديث الافك ويشيع ذلك بين النّاس ويقول باتت امرأة نبيّكم مع رجل حتّى أصبحت ثمّ جاء يقودها والله ما نجت منه وما نجا منها ، وقيل : المراد مسطح بن اثاثة ، وقيل : حسّان بن ثابت ، أو المعنى الّذى تولّى كبرياءه وتأنّف عن انقياد الرّسول (ص) وتوقيره (مِنْهُمْ) اى من هؤلاء العصبة (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) قد نقل في تفاسير الخاصّة والعامّة انّ الآيات نزلت في عائشة ، وسبب نزولها انّ الرّسول (ص) خرج بها في غزوة بنى المصطلق وكان الرّسول (ص) إذا أراد ان يخرج بإحداهنّ في غزوة أقرع بينهنّ وبعد ما رجع من تلك الغزوة ودنى من المدينة قامت عائشة حين أذنوا بالرّحيل ومشت حتّى جاوزت الجيش فلمّا قضت شأنها أقبلت الى الرّحل فلمست صدرها

١١١

فلم تجد عقدها فرجعت في التماسها عقدها فحبسها ابتغاؤه واقبل الرّهط الّذين يحملون هودجها فحملوا هودجها ظنّا منهم انّها فيه ووجدت عقدها ، ورجعت فلم يجد في المعسكر داعيا ولا مجيبا فبقيت في المنزل الّذى كانت فيه ظنّا منها انّ القوم سيفقدونها ، وكان صفوان بن المعطّل السّلمىّ جاء من وراء الجيش فأصبح عند منزلها فعرفها فأناخ راحلته فركبتها فقادها حتّى أتيا الجيش ، فقال المنافقون ما قالوا في حقّها ، فأنزل الله تلك الآيات لتبرئتها ، ونقل عن الخاصّة انّها نزلت في مارية القبطيّة وما رمتها به عائشة ، روى عن الباقر (ع) انّه قال لمّا هلك إبراهيم بن رسول الله (ص) حزن عليه رسول الله (ص) حزنا شديدا فقالت له عائشة ما الّذى يحزنك عليه فما هو الّا ابن جريح فبعث رسول الله (ص) عليّا (ع) وامره بقتله فذهب علىّ (ع) ومعه السّيف وكان جريح القبطىّ في حائط فضرب علىّ (ع) باب البستان فأقبل اليه جريح ليفتح له الباب فلمّا رأى عليّا (ع) عرف في وجهه الغضب فأدبر راجعا ولم يفتح باب البستان فوثب علىّ (ع) على الحائط ونزل الى البستان واتبعه وولىّ جريح مدبرا ، فلمّا خشي ان يرهقه صعد في نخلة وصعد علىّ (ع) في اثره فلمّا دنى منه رمى بنفسه من فوق النّخلة ، فبدت عورته فاذا ليس له ما للرّجال ولا له ما للنّساء ، فانصرف علىّ (ع) الى النّبىّ (ص) فقال له يا رسول الله إذا بعثتني في الأمر أكون فيه كالمسمار المحمى في الوبر امضى على ذلك أم أتثبّت؟ ـ قال : لا بل تثبّت ، قال : والّذى بعثك بالحقّ ما له ما للرّجال وماله ما للنّساء فقال : الحمد لله الّذى صرف عنّا السّوء أهل البيت ، وروى حكاية رمى المارية بنحو آخر (لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً) عدل عن الخطاب الى الغيبة اشعارا بانّ الايمان يقتضي ظنّ الخير بالمؤمن فانّ الايمان الّذى بمعنى الإسلام يقتضي التّسليم وعدم الاستبداد بالرّأى وعدم التّفوّه بما يقتضيه الهوى وظنّ التّسليم والانقياد بالمؤمنين ومع ظنّ التّسليم بالمؤمن لا يبقى ظنّ اتّباع الهوى والفاحشة به ، وقدّم الظّرف لانّ المقصود التّوبيخ على عدم ظنّ الخير حين سماع الافك والتّحضيض على ظنّ الخير حينئذ والّا ففي غير زمان الافك يكون ظنّ الخير مسلّما مفروغا عنه ، والمراد من المؤمنين والمؤمنات صفوان وعائشة أو مارية وجريح ، أو المراد جملة المؤمنين والمراد من أنفسهم من ذكر لكنّه ادّاهم بقوله بأنفسهم للاشعار بانّ المؤمنين ينبغي ان يكون كلّ بمنزلة نفس الآخر (وَقالُوا) عطف على ظنّ المؤمنون (هذا إِفْكٌ مُبِينٌ لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللهِ هُمُ الْكاذِبُونَ) وهذا من جملة مقول القول أو ابتداء كلام من الله واشارة الى انّ المدّعى إذا لم يكن عليه البيّنة المعتبرة فيه مكذّب عند الله ويترتّب عليه حكم الكذب (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) كرّر هذه الكلمة لانّ الاوّل في رمى الزّوج وهذا في قضيّة خاصّة هي رمى مارية أو عائشة (لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ) ذكر الجواب هاهنا جريا على اقتضاء الغضب التّطويل والتّغليظ وتصريحا بعظم العذاب وبانّ سبب هذا الغضب وتغليظ العذاب هو الخوض في هذا الافك (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) يعنى لا بقلوبكم يعنى تديرونه بينكم من غير تحقيق له كأنّ ألسنتكم تأخذه وتقبل ما يلقيه غيركم من غير اطّلاع ذواتكم وقلوبكم يقال تلقّى القول بمعنى قبله ، وقرئ : تتلقونه بالتّائين على الأصل وتلقونه بالتّخفيف من لقيه بمعنى تناوله وتلقونه بكسر حرف المضارعة من هذه المادّة وتلقونه من ألقاه ، وتلقونه من ولق بمعنى كذب ، وتألقونه من الق بمعنى كذب ، وتثقفونه من ثقف إذا طلب ووجد ، وتقفونه من وقف بمعنى تبع (وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ) من غير اطّلاع قلوبكم واعتقادها (ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً) سهلا لا اثم فيه ولا تبعة له (وَهُوَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمٌ).

١١٢

اعلم ، انّ الأزمان متشابهة وأهل كلّ زمان حالهم تشابه حال أهل الزّمان السّالف والآتي فانّ أهالي الازمنة السّالفة على ما وصل إلينا من سيرهم كانوا مثل أهل هذا الزّمان ، كانوا ينتحلون الدّين لأغراض نفسانيّة لا لغايات انسانيّة وكانوا يغتابون ويتّهمون من كان داخلا في الدّين مثلهم وكانوا يتجسّسون عوراتهم ويعيبون عليهم ويلمزون بعضهم بعضا بالألقاب ويسرّون بظهور سوءات إخوانهم ، ويساءون بظهور محاسنهم ، وكلّ ذلك كان منافيا للدّين بل مناقضا للغايات المقصودة من التّديّن (وَلَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ) ما يصحّ (لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ) لو لا قلتم سبحانك تعجّبا من الجرأة على مثل هذا القول أو تنزيها لله من ان يكون حرم نبيّه (ص) فاجرة لانّ في فجورها كراهة النّاس له وكراهتهم ينافي دعوته (هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ) في نفسه فانّ نسبة الفجور أعظم بهتان ، وبالنّسبة الى المبهوت عليه فانّها حرم الرّسول (ص) (يَعِظُكُمُ اللهُ) ينصحكم ويطلب الخير لكم (أَنْ تَعُودُوا) لئلّا تعودوا ، أو كراهة ان تعودوا ، أو في ان تعودوا ، أو يمنعكم بالوعظ من ان تعودوا (لِمِثْلِهِ أَبَداً) ما دمتم في الدّنيا (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط للتّهييج لانّ الايمان يقتضي عدم التّفوّه بمثله في حقّ من كان في دينه (وَيُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) اى علامات الأحكام وآثارها أو الآيات التّدوينيّة الدّالّة على الأحكام التّكليفيّة القالبيّة والقلبيّة (وَاللهُ عَلِيمٌ) يعلم ما ينبغي وما لا ينبغي لكم وما يترتّب على أفعالكم (حَكِيمٌ) لا يشرع لكم حكما ولا يمنعكم من امر الّا لحكمة مقتضية ذلك (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ) الفاحشة الزّنا أو ما يشتدّ قبحه ، أو كلّ ما نهى الله عزوجل عنه (فِي الَّذِينَ آمَنُوا) متعلّق بتشيع والمعنى الّذين يحبّون ان تكثر الزّنا أو سائر الفواحش في الّذين آمنوا ، أو الّذين يحبّون ان يكثر ذكر الفاحشة في الّذين آمنوا ، أو ظرف مستقرّ حال من الفاحشة ، والمعنى انّ الّذين يحبّون ان تظهر الفاحشة الثّابتة في المؤمنين ويكثر ذكرها (لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا) بالحدّ المقرّر له في الشّريعة أو بالعذاب عند الاحتضار أو بالخوف من الافتضاح أو باستيحاش المؤمنين منهم (وَالْآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ) انّ لهم عذابا في الدّنيا والآخرة ولذا يمنعكم عن العود (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ولذا تحبّون ولا تخافون والجملة معطوفة على جملة انّ الّذين يحبّون ، أو على اسم انّ وخبرها وكلتاهما في مقام التّعليل لقوله يعظكم الله أو جملة الله يعلم حاليّة مفيدة للتّعليل ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : من قال في المؤمن ما رأته عيناه وسمعته أذناه فهو من الّذين قال الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) (الآية) وعن الكاظم (ع) انّه قيل له : الرّجل من إخواني بلغني عنه الشّيء الّذى أكرهه فأسأله عنه فينكر ذلك وقد أخبرنى عنه قوم ثقاة؟ ـ فقال : كذّب سمعك وبصرك عن أخيك وان شهد عندك خمسون قسامة وقال لك قولا فصدّقه وكذّبهم ولا تذيعنّ عليه شيئا تشينه به وتهدم به مروّته فتكون من الّذين قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ) (الآية) وعن رسول الله (ص) من أذاع فاحشة كان كمبتديها (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) تكرار هذه الكلمة اشارة الى نهاية قبح هذا القول وشدّة الغضب لأجله ونهاية قبح حبّ شياع الفاحشة في المؤمنين ، وحذف الجواب هاهنا للاشعار بشدّة القبح وشدّة الغضب على حبّ شياع الفاحشة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ناداهم إظهارا للّطف بهم وترغيبا لهم في استماع خطابه (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في اشاعة الفاحشة ورمي البريء وغير البريء وقد مضى في سورة البقرة عند قوله (لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) تحقيق الخطوات (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ) يضلّ ويشقى (فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) البالغة في القبح (وَالْمُنْكَرِ)

١١٣

ما لا يعرفه العقل والعرف حسنا وهو ما لا يكون بالغا في القبح (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً) زكى يزكو زكاء نما كأزكى وزكى الرّجل صلح وتنعّم وصفا من الكدورات (وَلكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ) باستعداد من قبله بسبب قوله أو فعله (وَاللهُ سَمِيعٌ) لأقواله المقاليّة والحاليّة (عَلِيمٌ) بأفعاله وأحواله ونيّاته واستعداداته المكمونة الغير الظّاهرة عليه وعلى غيره (وَلا يَأْتَلِ) الا الوا كالضّرب والوّا كالقعود واليّا كالمضىّ وائتلى قصّر وأبطأ وتكبّر وآلى وائتلى حلف ، وقيل في نزول الآية : انّه آلى جماعة من الصّحابة على ان لا يتصدّقوا على رجل تكلّم بشيء من الافك ولا يواسوهم ، وقيل : نزلت الآية في ابى بكر ومسطح بن اثاثة وكان ابن خالة ابى بكر وكان من المهاجرين ومن البدريّين وكان فقيرا ويتحمّل نفقته ابو بكر وكان من رؤساء أصحاب الافك فلمّا خاض في الافك قطع عنه وحلف ان لا ينفعه بنفع فلمّا نزل : ولا يأتل (أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) عاد الى مواصلته والمراد بالفضل هو السّعة الّتى تفضل عمّا يحتاج اليه الإنسان في إنفاقه ، والسّعة اعمّ منه وممّا كان بقدر حاجة الإنفاق بنحو السّعة ، أو أحدهما مخصوص بالمال والآخر بسعة القلب من حيث العلم والأخلاق (أَنْ يُؤْتُوا) كراهة ان يؤتوا أو على ان لا يؤتوا ، أو في ان يؤتوا ، وهذا على ان يكون لا يأتل بمعنى لا يحلف وان كان بمعنى لا يقصّر فهو بتقدير في اى لا يقصّر أولوا الفضل منكم في ان يؤتوا (أُولِي الْقُرْبى) اى اولى قرباهم أو اولى قربى الرّسول (ص) (وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) قرئ ان تؤتوا وهذان بالغيبة والخطاب وقد مضى مكرّرا انّ العفو عبارة عن ترك الانتقام سواء كان قرينا لحقد القلب على المسيء أو لم يكن ، والصّفح عبارة عن تطهير القلب عن الحقد عليه لكنّهما كالفقراء والمساكين إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا ، والآية اشارة الى كيفيّة حسن العمل مع المسيء خصوصا على ما نقل من سبب نزولها فكأنّه قال : وليعفوا عن المسيء وليصفحوا ولا يأتل أولوا الفضل في الإحسان اليه إذا كان أهلا للإحسان (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ) ترغيب في المراتب المذكورة بأحسن وجه يعنى انّ الله يغفر للمسيء ومن أراد أن يغفر الله له فليشاكل الله في العفو عن المسيء فانّ المشاكل لله يغفر الله له لا محالة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لمن يغفر عن المسيء ويرحم من يحسن الى المسيء (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ) ممّا قذفن به (الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) كرّره لانّ الاوّل لبيان العقوبة الصّوريّة والحدود الدّنيويّة وهذا لبيان العقوبة الاخرويّة والحدود الباطنيّة وللتّنبيه على عظم الذّنب (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ) قرئ بالتّاء والياء (أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ) اى جزاءهم (الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) روى انّه ليست تشهد الجوارح على مؤمن انّما تشهد على من حقّت عليه كلمة العذاب (الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) المراد بالخبيثات والطّيّبات الأقوال الخبيثة والطّيّبة بقرينة ذكرها عقيب الافك ، أو الأعمال الخبيثة والطّيّبة سواء كانت من سنخ الأفعال والأقوال ، أو العلوم والأخلاق والأحوال ، أو المراد بها النّساء الخبيثات والطّيّبات بقرينة ذكرها عقيب إفك عائشة أو مارية ، أو المراد مطلق ما تسمّى بالخبيثات والطّيّبات سواء كانت من سنخ الأقوال والأوصاف ، أو من سنخ الذّوات من المطعومات والمشروبات والملبوسات والمنظورات والمسكونات والمنكوحات ، وعلى تعميم الخبيثات ينبغي تعميم الخبيثين للرّجال والنّساء بطريق التّغليب ،

١١٤

وعن الحسن المجتبى (ع) انّه قال بعد ما حاجّ معاوية وأصحابه وقام من مجلسه : الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات هم والله يا معاوية أنت وأصحابك هؤلاء وشيعتك ، والطّيّبات للطّيّبين الى آخر الآية هم علىّ بن ابى طالب وأصحابه وشيعته (أُولئِكَ) يعنى صفوان وعائشة أو جريح ومارية وأمثالهما أو الطّيّبون والطّيّبات (مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ) فيهم من الافك أو ممّا يقوله الخبيثون يعنى من ان يقولوا مثل قولهم (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) لطيبوبتهم وطيبوبة هذين (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً) مسكونة (غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا) استأنس ذهب توحّشه ، واستأنسه استأذنه ، واستأنس استعلم واستأنس طلب الانس اى الإنسان ، وقيل لرسول الله (ص) : يا رسول الله ما الاستيناس؟ ـ قال : يتكلّم الرّجل بالتّسبيحة والتّحميدة والتّكبيرة ويتنحنح على أهل البيت ، وهذا يناسب الاستيناس مقابل الاستيحاش والاستعلام ، وقيل : اطّلع رجل في حجرة من حجر رسول الله ، فقال رسول الله (ص) ومعه مدرىّ يحكّ به رأسه لو أعلم انّك تنظر لطعنت به في عينيك انّما الاستيذان من النّظر (وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها) بيان للاستيناس على بعض معانيه وحكم آخر على بعض آخر (ذلِكُمْ) الاستيناس أو الدّخول بالاستيناس (خَيْرٌ لَكُمْ) وقلنا لكم ذلك أو أنزلنا عليكم هذا الحكم (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) مصالحه (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها) لانّه قد يوجد في بيوت غيركم ما لا يجوز لكم الاطّلاع عليه وما يكره صاحب البيت اطّلاع الغير عليه (حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا) ولا تلجّوا ولا تكرهوا فانّه قد يكون صاحب البيت بحال لا يجوز للغير الاطّلاع عليه (هُوَ أَزْكى لَكُمْ) أنمى لكم أو أصفى أو أنفع لكم (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) فان ترجعوا عن طيب نفوسكم يعلمه الله ويجازكم به (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) جواب لسؤال مقدّر (أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ) من غير استيناس وتسليم (فِيها مَتاعٌ لَكُمْ) اى تمتّع واستمتاع ، في الخبر انّها الحمّامات والخانات والارحبة وأمثالها ، وقيل : المراد الخربة يدخل الإنسان فيها لقضاء حاجة ، وقيل : المراد بيوت التّجّار والصّنّاع الّتى يفتح أبوابها لمعاملة النّاس ، وقيل : انّها منازل المسافرين ، والحقّ انّه إذا أريد بالمتاع التّمتّع كان المراد بالبيوت مطلق البيوت الّتى يكون اذن عامّ من الشّارع أو من مالكيها في الدّخول فيها ، وان كان المراد بالمتاع الأجناس الّتى يتمتّع بها كان المراد مطلق البيوت الّتى يكون فيها أمتعتكم سواء كانت البيوت مملوكة لكم غير مسكونة لكم ولغيركم ، أو مملوكة لغيركم غير مسكونة لكم ولغيركم (وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) من الأفعال والأحوال والأخلاق والنّيّات والاستعدادات الّتى لم تشعروا بها بعد فيعلم دخولكم في بيوت غيركم ونيّاتكم في دخولكم فلا تدخلوا من غير استيناس حتّى يتّهمكم غيركم بالفاحشة أو قصدها ولا يقع انظاركم على ما لا يجوز النّظر اليه من حريم صاحبي البيوت فيريبكم ولا تقدروا على منع نفوسكم من الفاحشة ، وهذا تحذير ممّا يجعل الإنسان معرضا للتّهمة وممّا يريبه فانّه لمّا شدّد على الزّانى والزّانية وغلّظ على من رمى غيره بالفاحشة ، حذّر المؤمنين عن مواقع الرّيبة ومواضع التّهمة حتّى لا يقعوا في الرّيبة والفاحشة ويستحقّوا عقوبة الفاحشة ولا يوقع النّاس في سوء الظّنّ ورمى الفاحشة فيستحقّوا عقوبة المفترين ، كما انّه حذّرهم بالآية الآتية عمّا يريبهم أو يريب غيرهم من النّظر الى فروج غيرهم أو من ان ينظر الى فروجهم وحذّر النّساء من ذلك ومن إبداء زينتهنّ لمن لا يجوز له النّظر بالرّيبة فقال : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ) قد مضى مكرّرا انّه تعالى ما يأتى بالمقول في أمثاله للاشعار بانّ قوله (ص) لقوّة نفسه يؤثّر فيهم بحيث يصير سببا لما يذكر بعده من غير اعتبار المقول في جزم الجواب ، وغضّ طرفه غضاضا بالكسر وغضّا وغضاضا وغضاضة بفتحهنّ حفظه وتحمّل المكروه ، وغضّ من بصره نقص منه ووضع من قدره ، وقيل : من هنا زائدة والمعنى يحفظوا

١١٥

أبصارهم وانظارهم من النّظر الى ما لا يحلّ لهم النّظر اليه ، أو من النّظر الى ما لا ينبغي لهم النّظر اليه سواء كان عدم استحقاق النّظر من باب الحرمة أو من باب الكراهة أو من النّظر الى ما سوى الله وآياته كما يجيء (وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) من ان ينظر إليها من لا يحلّ له النّظر إليها كما في الخبر ، أو من مطلق النّظر إليها سواء كان النّاظرون أنفسهم أو غيرهم حلالا كان النّظر أو غير حلال على ان يكون النّظر الى الفروج مكروها ممّن يحلّ له النّظر إليها كنظر صاحبي الفروج ونظر الأزواج الى عوراتهم ويكون الأمر المقدّر اعمّ من الوجوب والاستحباب ، أو يحفظوا فروجهم من الوطي الغير الحلال أو يحفظوا فروجهم من الوطي الغير الحلال ومن النّظر الغير الحلال ، أو يحفظوا فروجهم من النّظر والوطي مطلقا على ان يكون الحكم للبايعين البيعة الخاصّة الولويّة ويكون الوطي والنّظر الى الفروج وكون الفروج منظورا إليها ممنوعا في حقّهم ، فانّ السّالك الى الله حكمه حكم المحرم ما لم يتمّ سلوكه ولم يحلّ من إحرامه للحجّ الحقيقىّ فلم يحلّ لرجالهم التّمتّع بالنّساء وبسائر ملاذّ النّفس ولا لنسائهم التّمتّع بالرّجال وبسائر ملاذّ النّفس بل لا يجوز لهم الالتفات الى ما سوى الله وما سوى مقصدهم (ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ) اطهر لهم أو أصلح أو أنمى لانّه ابعد من الرّيبة والاشتغال بملاهى النّفس (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ) من النّظر وترك النّظر فيجازيهم بحسبه (وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) هذا أيضا مجمل محتمل لوجوه ومراد بكلّ وجوهه فانّه يجوز ان يفسّر إبداء الزّينة بابداء نفس الزّينة لمن لا يجوز له النّظر الى جسدهنّ من غير المحارم ، وان يفسّر بابداء مواضع الزّينة لانّ الزّينة ممّا يجوز للأجانب النّظر إليها ، وان يفسّر بمطلق إبداء الزّينة أو مطلق إبداء مواضع الزّينة من غير النّظر الى ناظر ونظرة محرّم أو غير محرّم بان يكون نفس إبداء الزّينة بحيث لو نظر ناظر لرآها حراما نظر ناظر أم لم ينظر ، وهذا على ان يجعل النّهى للبايعات البيعة الخاصّة الولويّة ويكون حكم السّالكات عدم الالتفات الى ما سوى الله ما لم يحللن من سلوكهنّ واحرامهنّ فيكون التفاتهنّ الى الزّينة وابداؤها حراما عليهنّ (إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها) من الثّياب الظّاهرة وزينة المواضع المستثناة ونفس تلك المواضع الّتى ليست بعورة في النّساء كالخاتم والسّوار والكحل والخدّين والكفّين والقدمين.

اعلم ، انّ نهى النّساء عن إبداء زينتهنّ ونهى الرّجال عن النّظر الى زينتهنّ انّما هو لكون الزّينة وابدائها والنّظر إليها مقدّمة للفساد ومورثا للرّيبة وموجبا للافتتان وقد ورد عن النّبىّ (ص) خطابا لعلىّ (ع) : يا علىّ اوّل نظرة لك والثّانية عليك لا لك يعنى ان افتتنت بالنّظرة وعدت الى الثّانية كانت وبالها عليك ، وفي رواية لكم اوّل نظرة الى المرأة فلا تتسحّبوها بنظرة اخرى واحذروا الفتنة فعلى هذا لو خيف من الرّيبة والافتتان بالنّظر الى الوجه والكفّين والقدمين وزينتها لم يجز للمرأة ابداؤها ولا للمرء النّظر إليها ، ولو لم يخف من الرّيبة جاز إبداء الزّينة الظّاهرة والمواضع المستثناة وجاز للاجنبىّ النّظر إليها ولو لم يخف من الرّيبة جاز النظر الى غير الزّينة الظّاهرة من الزّينة الباطنة وغير المواضع المستثناة مثل الرّأس والشّعر والسّاق والذّراع إذا لم تكن من المسلمات اللّواتى لهنّ الحرمة والرّفعة كالاماء وأهل البد واللّاتى لا يمكنهنّ التّحفّظ عن الأجانب ولا يمكن لمعاشريهنّ الاحتراز عن النّظر إليهنّ ، واختلاف الاخبار ناظر الى اختلاف الأحوال والأشخاص في الرّيبة وعدمها والحرمة وعدمها وإمكان التّحفّظ وعدمه (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَ) جمع الخمار بالكسر كالخمر بالسّكون ، والخمار المقنعة الّتى هي غطاء رأس المرأة المتسدّل على جنبيها ، كانت النّساء يلقين مقانعهنّ على ظهورهنّ وتبدو صدورهنّ فقال تعالى : وليلقين خمرهنّ (عَلى جُيُوبِهِنَ) حتّى لا تبدو صدورهنّ فانّ الصّدور اشدّ شيء في الافتتان بها (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ) تكرار

١١٦

هذه الكلمة لتفصيل الإجمال السّابق (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ) فانّ الزّينة لم تكن الّا لهم بل النّساء مأمورات بالزّينة وابدائها للأزواج ليتحرّك ميلهم إليهنّ (أَوْ آبائِهِنَ) فانّه لا يتصوّر الرّيبة والفتنة منهم (أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ) نسب الى الباقر (ع) انّه قال : الزّينة الظّاهرة الثّياب والكحل والخاتم وخضاب الكفّ والسّوار ، والزّينة ثلاث : زينة للنّاس وزينة للمحرم وزينة للزّوج ، فامّا زينة النّاس فقد ذكرناها ، وامّا زينة المحرم فموضع القلادة فما فوقها ، والدّملج وما دونه ، والخلخال وما أسفل منه ، وامّا زينة الزّوج فالجسد كلّه ، وعن النّبىّ (ص) انّه قال : للزّوج ما تحت الدّرع ، وللابن والأخ ما فوق الدّرع ، ولغير ذي محرم اربعة أثواب ، درع وخمار وجلباب وإزار (أَوْ نِسائِهِنَ) يعنى النّساء المؤمنات فانّ الاضافة الى ضمير المؤمنات تفيد تخصيصا للنّساء وبعد اعتبار حيثيّة الايمان في الاضافة يعلم انّ المراد بهنّ المخصوصات بالمؤمنات بوصف الايمان لا بالقرابة لعدم اعتبار حيثيّة الايمان في القرابة ولا بالمملوكيّة لهنّ لعدم اعتبار تلك الحيثيّة في المملوكيّة ولذكر المملوكة بعد ذلك ، روى عن الصّادق (ع) انّه لا ينبغي للمرأة ان تنكشف بين اليهوديّة والنّصرانيّة فانّهنّ يصفن ذلك لازواجهنّ (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من الإماء الغير المسلمة أو من العبيد والإماء فانّه لا بأس ان يرى المملوك شعر مولاته وساقها إذا كان مأمونا كما في الخبر ، وفي خبر : لا يحلّ للمرأة ان ينظر عبدها الى شيء من جسدها الّا الى شعرها غير متعمّد لذلك (أَوِ التَّابِعِينَ) الّذين من شأنهم ان يكونوا تابعين كالخادم والخادمة ، والسّقّاء والسّقاءة ، والأجير والاجيرة ، والشّيخ والشّيخة ، والأبله والبلهاء ، والمولّى عليهما ، والمجنون والمجنونة (غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ) اى غير ذوي الحاجة الى النّساء يعنى ان لم يكن لهم شهوة النّساء والّا فلا يجوز لهم النّظر ولا لهنّ إبداء الزّينة لهم (مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ) اى لم يطّلعوا على عوراتهنّ من حيث انّها عورات بان لم يكن فيهم شهوة النّساء حتّى يتميّز العورة منهنّ عندهم من غيرها ، والطّفل جنس في معنى الجمع ولذلك وصف بالجمع (وَلا يَضْرِبْنَ) لمّا كان المتبادر من إبداء الزّينة ابداءها على الأبصار دون ابدائها على الآذان قال : ولا يضربن (بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ) بسماع صوت الزّينة من الخلخال وغيره (ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ) فانّ صوت الخلخال واللّباس ممّا يهيّج ميل الرّجال (وَتُوبُوا) لمّا نهى النّساء من إبداء ما يريب الرّجال من لباسهنّ وزينتهنّ وابدانهنّ امر الرّجال بالانصراف عمّا يريبهم والتّوجّه الى ربّهم ، أو لمّا امر الرّجال بغضّ الأبصار وحفظ الفروج وامر النّساء كذلك امر النّساء والرّجال بالانصراف ممّا يهيّج الشّهوات وبالتّوجّه الى الله بطريق التّغليب فقال : توبوا (إِلَى اللهِ جَمِيعاً) لفظ الجميع وان كان بمعنى المجتمع لكنّه يستعمل لمحض تأكيد العموم من دون اعتبار الاجتماع في زمان الحكم (أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ) رسم في المصاحف كتابة ايّها هذه بدون الالف الاخيرة وقرئ ايّه المؤمنون بفتح الهاء وضمّها تشبيها للهاء بعد إسقاط الالف بحرف آخر الكلمة واجراء لحركة ضمّ المنادي عليها (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ولمّا امر المؤمنين والمؤمنات بغضّ البصر وحفظ الفروج وكان ذلك شاقّا على ذوي العزوبة قال تعالى (وَأَنْكِحُوا الْأَيامى) مقلوب ايايم جمع الايّم مشدّد الياء من لا زوج له من الرّجال والنّساء فالمعنى انكحوا من لا زوجة له من الرّجال ومن لا زوج لها من النّساء (مِنْكُمْ) حالكونهم منكم من حيث الايمان فانّ الخطاب للمؤمنين بعنوان الايمان ومفهوم مخالفته لا تنكحوا الأيامى من غيركم من حيث الايمان

١١٧

سواء كانوا منكم من حيث النّسب أو لم يكونوا (وَالصَّالِحِينَ) اى المؤمنين فانّ المراد بالصّلاح هاهنا الإسلام أو المتعفّفين فانّه أيضا صلاح النّفس (مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ) فانّهم ان كانوا متزوّجين ومزوّجات كانوا أسلم من الرّيبة وأصلح للخدمة (إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ) الضّمير راجع الى الأيامى فقط أو إليهم والى الصّالحين على القول بتملّك العبيد والإماء ، أو على ان يكون المراد بهم العبيد والإماء الّذين أعتقهم مواليهم ويكون الله تعالى أمر المسلمين بتزويجهم وعدم التّأنّف منهم لكونهم عبيدا وإماء ، أو المعنى ان يكونوا محتاجين الى الأزواج بغلبة الشّبق والعزوبة ، أو المراد ان يكونوا فقراء الى الله تعالى محتاجين اليه في الخلاص من الكثرات والالتذاذ بالتّوحيد (يُغْنِهِمُ اللهُ) عن الكثرات (مِنْ فَضْلِهِ) بحيث لا يكون الكثرات حجبا لهم ويكونون مشاهدين لله في الكثرات فانّ رفع حجاب الكثرة وان كان بالعزلة أسهل ومشاهدة جمال التّوحيد في الوحدة أكمل لكنّ المعتزل كلّما اشتغل بالكثرات للضّرورة الدّاعية إليها لانّه خلق محتاجا إليها كانت الكثرات حجبا بل يكون سترها أقوى واشدّ ولذلك ترى المرتاضين المعتزلين قلّما يتحمّلون واردات المعاشرة مع الخلق ولا يمكنهم المعاملة مع الخلق والاقامة فيهم (وَاللهُ واسِعٌ) لا يعجز من التّوسعة عليهم ولا يخاف من عولهم (عَلِيمٌ) بالتّسبيبات الخفيّة فيعلم انّ النّكاح سبب للغناء وان لم تعلموا أنتم ذلك ، أو عليم باستعداد كلّ وصلاحه فان لم يغن بعضا بالنّكاح كان يعلم منه باستعداده وبانّ صلاحه في فقره فلا يقول قائل : نرى بعض من تزوّج لا يصير غنيّا ، أو عليم بكم فيعلم انّ النّكاح يزيد في فقركم وحاجتكم فيزيله عنكم بعد ما نكحتم بأمره ، ولمّا بيّن حكم أولياء الأيامى وشركائهم في الايمان بيّن حكم الأيامى أنفسهم مع اشعار ما بانّ الواجب على المؤمنين رفع المانع من نكاح الأيامى إذا كان المانع من قبلهم مثل التّأنّف وملاحظة الكفاءة في الحسب والنّسب وملاحظة الفقر وعدم القدرة على الإنفاق أو على التّعيّش لا تهيّة الأسباب مثل الصّداق والنّفقة والكسوة فقال (وَلْيَسْتَعْفِفِ) الأيامى من الرّجال والنّساء (الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً) بعدم وجدان الأزواج لرجالهم ونسائهم أو عدم وجدان ما يحتاجون اليه في نكاحهم من الصّداق والنّفقة والكسوة والمسكن أو بمنع الأولياء من النّكاح وعدم القدرة على مخالفتهم (حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللهُ) من فقر الدّنيا فيجدوا ما يتيسّر لهم النّكاح أو من الفقر الى وجدان الأزواج فيجدوا لأنفسهم أزواجا أو من الفقر الى رفع منع الأولياء أو يغنيهم الله من النّكاح بان انسى طبائعهم توليد النّطفة وأطفى حرارة النّطفة الموجودة فلا توذي بدغدغتها ولا بامتلاء الاوعية بها أو بان جعل قلوبهم بسبب الاستعفاف معلّقة بالملإ الأعلى ونفوسهم تابعة لها فلا يشتغلون بالطّبيعة ولوازمها وملاذّها فيغنيهم (مِنْ فَضْلِهِ) عن النّكاح ، أو المعنى وليستعفف بالتّزويج الأيامى من الرّجال والنّساء الّذين لا يجدون نكاحا ووطيا بان لم يكن لهم أزواج ولم يتزوّجوا مخافة الفقر حتّى يغنيهم الله بالنّكاح الّذى يخافون الفقر بسببه ، وعلى هذا يكون الآية الاولى امرا للمؤمنين وأولياء الاعزاب بتزويج الأيامى ، والآية الثّانية امرا للاعزاب أنفسهم بالتّزويج كما نسب الى الصّادق (ع) في هذه الآية انّه قال : يتزوّجون حتّى يغنيهم الله من فضله ، وعنه (ع) : من ترك التّزويج مخافة العيلة فقد أساء الظّنّ بربّه لقوله سبحانه : ان يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله ، ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : من احبّ فطرتي فليستنّ بسنّتى ، ومن سنّتى النّكاح ، وقال (ص) : يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فانّه اغضّ للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فانّه له وجاء ، والوجاء كناية عن قطع الشّهوة فانّه بمعنى رضّ الأنثيين الّذى يذهب بشهوة الجماع ، ونسب اليه (ص) انّه قال : من أدرك له ولد وعنده ما يزوّجه فلم يزوّجه فأحدث فالإثم بينهما ، ونسب

١١٨

اليه (ص) أيضا انّه قال : اربع لعنهم الله من فوق عرشه وأمّنت عليه ملائكته الّذى يحصر نفسه فلا يتزوّج ولا يتسرّى لئلّا يولد له ، والرّجل يتشبّه بالنّساء وقد خلقه الله ذكرا ، أو المرأة تتشبّه بالرّجال وقد خلقها الله أنثى ، ومضلّل النّاس يقول للمسكين : هلمّ أعطك فاذا جاء يقول ليس معى شيء ، ويقول للمكفوف : اتّق الدّابة وليس بين يديه شيء ، والرّجل يسأل عن دار القوم فيضلّله (وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ) مصدر كاتبه من الكتابة فانّه يجعل بين السيّد والعبد أو الامة كتابا مشتملا على نجوم مال الكتابة واجله وشروط المكاتبة ، أو اسم بمعنى الصّحيفة المكتوب فيها ، أو بمعنى القدر ، أو بمعنى الفرض ، أو هو مصدر من المجرّد أو المزيد فيه من الكتاب بواحد من المعنيين الأخيرين فانّهما يقدّر ان مال الكتابة ، أو المولى يفرض على نفسه عتق عبده بأداء مال الكتابة (مِمَّا مَلَكَتْ) اى من العبيد والإماء الّذين ملكتهم (أَيْمانُكُمْ) وانّما أتى بلفظ ما دون من للاشعار بانّهم من حيث المملوكيّة في حكم غير ذوي العقول (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً) أى مالا أو حرفة أو قدرة على كسب المال أو امانة حتّى لا يكتسبوا بالحرام مثل السّرقة والسّؤال والزّنا أو صلاحا حتّى لا يفرّوا من مال الكتابة (وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللهِ الَّذِي آتاكُمْ) اى حطّوا من مال الكتابة أو ردّوا عليهم ممّا أخذتموه من نجوم مال الكتابة شيئا ايّها الموالي ، أو أعطوهم من الزّكاة اعانة على أداء مال الكتابة ايّها الموالي أو ايّها المؤمنون (وَلا تُكْرِهُوا) ايّها الموالي (فَتَياتِكُمْ) اى إمائكم الشّابّات (عَلَى الْبِغاءِ) اى الزّنا (إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) بيان للاكراه على البغاء فانّه لا يتحقّق الّا بإرادتهنّ التّحصّن على انّ مفهوم الشّرط لو كان قيدا لم يكن حجّة (لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) بكسبهنّ واجرة البغاء (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ) لهم إذا تابوا أو غفور لهنّ ما يلزمهنّ من السّوأة اللّازمة لهذا الفعل ولو كان بالإكراه أو من السّوأة اللّازمة لهنّ بعد الإكراه إذا رغبن في الفعل بمقتضى طبيعتهنّ (رَحِيمٌ) يرحمهم أو يرحمهنّ فضلا عن المغفرة ، وقرئ فانّ الله من بعد اكراههنّ لهنّ غفور رحيم (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ) موضحات أو واضحات قرئ بكسر الياء وفتحها ، وبان وأبان وبيّن وتبيّن واستبان كلّها لازم ومتعدّ والمعنى أنزلنا إليكم آيات واضحات الأحكام أو المقاصد أو الحكم والمصالح ، أو البراهين ، مثل القضايا الّتى قياساتها معها ، أو الصّدق والمراد بها معنى اعمّ من الآيات التّدوينيّة والتّكوينيّة الآفاقيّة والانفسيّة من الأنبياء والأولياء والعقول ووارداتها (وَمَثَلاً) اى حجّة أو حديثا أو شبيها (مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) ويجوز ان يراد بالآيات الآيات التّدوينيّة وبالمثل علىّ (ع) أو بالآيات محمّد (ص) والعقول فانّ محمّدا (ص) من حيث النّبوّة نازل من الله وبالمثل علىّ (ع) فانّه من حيث الولاية نازل من الله ، ومحمّد (ص) من حيث النّبوّة آية بل آيات من الله ، وعلىّ (ع) من حيث الولاية شبيه للماضين جميعا (وَمَوْعِظَةً) اى تذكيرا ونصحا وترغيبا وتخويفا ، ويجوز ان يكون الآيات والمثل والموعظة أوصافا لذات واحدة ويكون المراد عليّا (ع) فانّه بأوصافه وأخلاقه وعلومه ومكاشفاته وقدرته وتصرّفاته آيات عديدة دالّة على صفات الحقّ الاوّل تعالى مبيّنة لذاته وصفاته كما انّه مثل لجميع الأنبياء والأولياء (ع) الماضين وهو بذاته وسائر صفاته موعظة (لِلْمُتَّقِينَ) متعلّق بموعظة أو بانزلنا أو اللّام للتّبيين والظّرف مستقرّ خبر لمبتدء محذوف أو حال وانّما قال للمتّقين لانّ غيرهم لا ينتفعون بذلك.

آية النّور

(اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اعلم انّ الله كما سبق مكرّرا اسم للذّات الواجب الوجود باعتبار مقام ظهوره الّذى هو مقام المشيّة وهي إضافته الاشراقيّة الى الأشياء وهي فعله وفيضه

١١٩

ونوره المنبسط على جميع الأشياء وبها يخرج الأشياء من اللّيس المحض الى الايس ، ومن العدم الى الوجود ، ومن الظّلمة الى النّور ، ومن الخفاء الى الظّهور ، وانّ الذّات الاحديّة بدون هذا العنوان غيب محض لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولذلك سمّى في الاخبار بالعمى ، وقد فسّر الله تعالى في الآيات بسائر مظاهره من الأنبياء والأولياء (ع) فانّه فسّر الكفر والشّرك بالله تعالى في الاخبار بالكفر والشّرك بخلفائه ، وانّ النّور اسم للضّياء سواء كان ضياء الشّمس أو القمر أو سائر الكواكب ، وسواء كان ضياء النّار والسّراج أو الجواهر أو غيرها ، أو هو اسم لشعاع الضّياء ، أو هو اعمّ وقد نار نورا وأنار واستنار ونوّر وتنوّر كلّها بمعنى أضاء اللّازم ، وجاء أنار ونوّر متعدّيين أيضا ، والنّور اسم لمحمّد (ص) أو نبوّته أو رسالته أو ولايته أو اسم لعلىّ (ع) أو خلافته أو ولايته ، وقد يطلق على الّذى يبيّن الأشياء مطلقا ضياء وشعاعا كان ، أو دليلا وبرهانا ، أو علامة وآثارا ، وبهذا المعنى يطلق على الكتب السّماويّة والخلفاء الالهيّة ، وقد يطلق على الهدى وما به الهدى وبهذا المعنى أيضا يكون الكتب السّماويّة والرّسالات والنّبوّات والولايات والأقوال والأفعال والأحوال والأخلاق الحسنة كلّها أنوارا وانّه لا اختصاص للأسماء بمصاديقها العرفيّة بل المعتبر في صدقها هي المعاني المطلقة الحاصلة في جميع العوالم وجميع المراتب من دون اعتبار خصوصيّة من خصوصيّات المصاديق والعوالم فيها ، فانّ النّور اسم للظّاهر بذاته من دون وساطة امر آخر المظهر لغيره ، والنّور العرضىّ الّذى لا يبقى آنين وليس ظاهرا الّا على الأبصار ولا يكون ظهوره على الأبصار الّا بعد اجتماعه في سطح كثيف غليظ لا ينفذ فيه ولا يظهر الّا السّطوح والألوان والاشكال ولا يظهر الّا على الأبصار دون سائر المدارك أحد مصاديقه من دون اعتبار تلك الخصوصيّات في صدقه ، بل نقول : معنى الظّاهر بذاته المظهر لغيره ليس حقيقة الّا لحقيقة الوجود الّذى هو واجب لذاته وموجب لغيره ، وامّا سائر الأنوار العرضيّة والحقيقيّة الّتى هي وجودات الأشياء وأنوار الرّسالة والنّبوّة والولاية والهداية فهي وان كانت بوجه ظاهرة بذواتها بمعنى انّه لا حاجة لها الى نور آخر تظهر هي به لكنّها محتاجة الى علّة تخرجها وتظهرها والى ما تقع عليه من سطوح المهيّات والصّدور والقلوب والأرواح ومن سطوح الأجسام المادّيّات فهي ليست في الحقيقة ظاهرة بذواتها ، وانّ السّماوات لا اختصاص لها بالأفلاك الطّبيعيّة والكرات العلويّة بل كلّما كان فيه جهة علوّ وفاعليّة بالنّسبة الى ما دونه فهو سماء بالنّسبة اليه فالعقول الكلّيّة الطّوليّة والعرضيّة والنّفوس الكلّيّة والجزئيّة والأفلاك الطّبيعيّة كلّها سماوات ، والأرض اسم لما له تسفّل وقبول ولا اختصاص لاسم الأرض بالأرض الغبراء بل عالم الطّبع بشراشره وعالما المثال السّفلىّ والعلوىّ كلّها ارض ، وقد مضى في اوّل سورة الانعام وجه جمع السّماوات وافراد الأرض وانّ السّماء والأرض اسمان للموجود منهما الممتاز بتعيّن السّماوىّ والارضىّ ، أو اسمان لنفس مهيّاتهما من دون اعتبار الوجود معها فعلى هذا صحّ ان يقال في بيان الآية : انّ الله ذو نور السّماوات والأرض موافقا لما نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قرء : الله نوّر السّماوات والأرض على صيغة الماضي من التّفعيل سواء أريد من النّور النّور المحسوس العرضىّ أو الوجود ، أو الهدى وصحّ ان يقال : انّ الله مبيّن السّماوات والأرض ومخرجهما من خفاء العدم الى الوجود ، وصحّ ان يقال : انّ الله وجود السّماوات والأرض سواء أريد منه وجود وجودهما على ان يراد من السّماوات والأرض الموجودان منهما واعتبر قيد الحيثيّة في اضافة النّور إليهما أو أريد منه نفس وجودهما ، فانّ الله باعتبار مقام ظهوره الّذى هو المشيّة قوام وجودات الأشياء وفاعلها وروحها بوجه ونفس وجودات الأشياء بوجه كما انّ الفصول فاعل وجودات الأجناس وقوامها بوجه أخذها بشرط لا ، ونفس وجوداتها بوجه أخذها لا بشرط ، فانّ فعل الحقّ الّذى هو المشيّة هو صورة الأشياء وقوامها وفاعلها ، وصحّ ان يقال انّ الله بحسب مظهره الّذى هو العقل الكلّىّ أو الرّوح الكلّىّ الّذى هو ربّ النّوع الانسانىّ نور السّماوات والأرض بالوجوه المذكورة أو بحسب مظهره الّذى هو النّفس الكلّيّة أو بحسب مظهره الّذى هو عالم المثال نور السّماوات والأرض أو بحسب

١٢٠