تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

أو اكلا واسعا (حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) أطلق لهما الاكل من اىّ مأكول شاء أو في اىّ مكان وزمان أرادا ونهيهما عن الاكل من شجرة مخصوصة ، وتعليق النّهى على القرب من الشّجرة للمبالغة في النّهى عن الاكل ، أو للنّهى عن القرب حقيقة فانّ القرب من الشيء يورث توقان النّفس اليه.

اعلم أنّ قصّة خلق آدم (ع) وحوّاء (ع) من الطّين ومن ضلعه الأيسر ومن امر الملائكة بسجود آدم (ع) وإباء إبليس عن السّجدة وإسكان آدم (ع) وحوّاء (ع) الجنّة ونهيهما عن أكل شجرة من أشجارها ووسوسة إبليس لهما وأكلهما من الشّجرة المنهيّة وهبوطهما من المرموزات المذكورة في كتب الأمم السّالفة وتواريخهم كما ذكرنا سابقا. فالمراد بآدم في العالم الصّغير الّلطيفة العاقلة الآدميّة الخليفة على الملائكة الارضيّين وعلى الجنّة والشّياطين المطرودين عن وجه ارض النّفس والطّبع المسجودة للملائكة المخلوقة من الطّين السّاكنة في جنّة النّفس الانسانيّة وهي أعلى عن مقام النّفس الحيوانيّة المخلوق من ضلع جنبها الأيسر الّذى يلي النّفس الحيوانيّة زوجتها المسمّاة بحوّاء لكدرة لونها بقربها من النّفس الحيوانيّة ، والمراد بالشّجرة المنهيّة مرتبة النّفس الانسانيّة الّتى هي جامعة لمقام الحيوانيّة والمرتبة الآدميّة ، والمراد بالحيّة واختفاء إبليس بين لحييها القوّة الواهمة فانّها لكونها مظهرا لإبليس تسمّى بإبليس في العالم الصّغير ، ووسوسته تزيينها ما لا حقيقة له للجنب الأيسر من آدم المعبّر عنه بحوّاء وهبوط آدم (ع) وحوّاء (ع) عبارة عن تنزّلها الى مقام الحيوانيّة ، وهبوط إبليس والحيّة وذريتّهما عبارة عن تنزّلها عن مقام التّبعيّة لآدم ؛ فانّ إبليس لمّا كان الواهمة أحد مظاهره كان رفعتها رفعته ، وشرافتها باستخدام آدم لها شرافته ، وهبوط الواهمة كان هبوطا له ، وإذا أريد بالشّجرة النّفس الانسانيّة ارتفع الاختلاف من الاخبار فانّ النّفس الانسانيّة شجرة لها أنواع الثّمار والحبوب وأصناف الأوصاف والخصال لانّ الحبوب والثّمار وان لم تكن بوجوداتها العينيّة الدّانيّة موجودة فيها لكنّ الكلّ بحقائقها موجودة فيها فتعيين تلك الشّجرة بشيء من الحبوب والثّمار أو العلوم والأوصاف بيان لبعض شؤنها. روى في تفسير الامام (ع) انّها شجرة علم محمّد (ص) وآل محمّد (ع) الّذين آثرهم الله تعالى به دون سائر خلقه فقال الله تعالى : (لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ ؛) شجرة العلم فانّها لمحمّد (ص) وآله (ع) دون غيرهم ولا يتناول منها بأمر الله الّاهم ، ومنها ما كان يتناوله النّبىّ (ص) وعلىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتّى لم يحسّوا بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميّزت من بين سائر الأشجار بانّ كلّا منها انّما يحمل نوعا من الثّمار وكانت هذه الشّجرة وجنسها تحمل البرّ والعنب والتّين والعنّاب وسائر أنواع الثّمار والفواكه والاطعمة ، فلذلك اختلف الحاكون فقال بعضهم : برّة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي عنّابة ، وهي الشّجرة الّتى من تناول منها بإذن الله ألهم علم الاوّلين والآخرين من غير تعلّم ، ومن تناول بغير اذن الله خاب من مراده وعصى ربّه. أقول : آخر الحديث يدلّ على ما قالته الصّوفيّة من انّ السّالك ما لم يتمّ سلوكه ولم ينته الى مقام الفناء ولم يرجع الى الصّحو بعد المحو بإذن الله لم يجز له الاشتغال بالكثرات ومقتضيات النّفس زائدا على قدر الضّرورة وشجرة علم محمّد (ص) وآل محمّد (ع) اشارة الى مقام النّفس الجامع لكمالات الكثرة والوحدة (فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ) الفاء سببيّة دالّة على سببيّة الاكل لصيرورتهما من الظّالمين اى لحدوث الظّلم بعد الاتّصاف بالمتضادّات يعنى انّ الاكل من الشّجرة يصير سببا للاتّصاف بالمتضادّات وهو يقتضي منع الحقوق عن أهلها واعطائها لغير أهلها ، أو لحدوث الاتّصاف بالظّلم ابتداء يعنى انّ الاكل من الشّجرة حين عدم استحقاق الاكل ظلم

٨١

فاذا أكلتما صرتما متّصفين بالظّلم ، أو لاعمّ من حدوث الظّلم بواسطة أو بلا واسطة (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) اصدر عثرتهما عن جهة الشّجرة ، أو أزالهما عن الجنّة بالعثرة بوسوسته وخديعته بان اختفى بين لحيي الحيّة وقرب من مقام آدم (ع) وقال لآدم (ع) ما حكاه الله تعالى وردّ آدم (ع) عليه وظنّ ان الحيّة تخاطبه فلمّا ايس من قبول آدم (ع) عاد ثانيا الى حوّاء فخاطبها وخدعها حتّى أكلت ثمّ اغترّ آدم (ع) فأكل فلمّا اكلا حصل لهما الشّعور بالشّعور فأدركا من سواتهما ما لم يكونا يدركانه قبل ذلك (فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) من الجنّة الّتى كانا فيها ، أو من مقامهما الّذى كانا فيه (وَقُلْنَا) لآدم (ع) وحوّاء (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) جمع الضّمير لارادة ذرّيّتهما معهما لكونهما اصلين لهم ، أو قلنا لآدم (ع) وحوّاء (ع) وإبليس والحيّة (وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ) ارض الطّبع والنّفس الحيوانيّة أو أرض العالم الكبير (مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ) ما تنتفعون به أو تمتّع (إِلى حِينٍ) حين ينقضي آجالكم وبقوم قيامتكم الصّغرى.

اعلم انّه تعالى باقتضاء حكمته الكاملة يخلّى بين آدم ومشتهياته المنسوبة الى نفسه الدّانيّة ليهبط من مقامه العالي الى سجن الدّنيا ليستكمل فيه ويستكثر نسله وأتباعه كما قال المولوى قدس‌سره :

من چو آدم بودم اوّل حبس كرب

پر شد اكنون نسل جانم شرق وغرب

فاذا استكمل في نفسه وفي نسله وأتباعه تاب الله عليه وأخرجه من سجنه امّا بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ وبدون ذلك الهبوط لا يحصل كمال لآدم ولا نسل ولا اتباع بل نقول : شأنه تعالى تقليب آدم النّوعىّ من الجنّة الى سجن النّفس ومن سجن النّفس الى الجنّة كما قال تعالى شأنه : ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشّمال.

گر بجهل آييم آن زندان اوست

ور بعلم آييم آن ايوان اوست

وفي هذا التّقليب تكميله وإتمام النّعمة عليه.

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) الكلمات المتلقّاة من الرّبّ ليست شبيهة بكلمات الخلق كما يظنّ بل هي عبارة عن الّلطائف الوجوديّة الّتى هي التّوحيد والنّبوّة والولاية ومراتب كلّ منها ومراتب العالم الّتى لا نهاية لها ؛ فانّ الكلمة كما تطلق على الكلمة الّلفظيّة وعلى الكلمة النّفسيّة الّتى هي حديث النّفس تطلق على العقائد والعلوم وعلى الّلطائف الوجوديّة وعلى مراتب الوجود ، وقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ؛ أريد به مراتب الوجود ، وإذا قيس قوله (ص): أوتيت جوامع الكلم ، بهذا علم فضل محمّد (ص) على إبراهيم (ع) ولمّا أريد بالكلمات الّلطائف الوجوديّة وتلك الّلطائف يمكن التّعبير عنها بتعبيرات مختلفة ورد في الاخبار كلمات مختلفة في تفسيرها ، وجمع الاخبار بعد الاطّلاع على ما ذكرنا في غاية الوضوح.

تحقيق توبة العبد

فتاب الله عليه توبة العبد من الشّيء إدباره عنه مع الانزجار منه سواء كان ذلك الشّيء من المعاصي الظّاهرة أو الباطنة ، أو المقامات النّازلة الّتى يقف العبد فيها أو المشاهدات الّتى قد يفتتن السّالك بها ، أو الخطرات الّتى توبة الأولياء منها ، أو الالتفات الى غير الله الّذى توبة الأنبياء منه ؛ وهي قسيمة للانابة فانّ الانابة الإقبال والرّجوع.

٨٢

اعلم انّ سلوك السّالك لا يتمّ الّا بجناحين ؛ البرائة والولاية ويعبّر عنهما بالتّوبة والانابة ؛ وبالزّكوة والصّلوة ، وبالصّيام والصّلوة ، والتّبرّى والتّولّي ، والنّفى والإثبات ، والنّهى والأمر ، والخوف والرّجاء ، والتّرهيب والتّرغيب ؛ ولذا لم يكن شريعة من لدن آدم (ع) الّا وفيها زكوة وصلوة وكان الكلمة الجامعة بين النّفى والإثبات أشرف الاذكار ، وكان أشرف الكلّ لا اله الّا الله لاعتبارات ليست في غيرها كما سنذكره ان شاء الله في بيان قوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) في هذه السّورة ، وإذا عدّى التّوبة ب إلى كانت مشعرة بالجمع بين التّوبة والانابة ، وإذا نسبت الى العبد عدّيت ب إلى للدّلالة على الانتهاء ، وإذا نسبت الى الله عدّيت بعلى للدّلالة على الاستعلاء والاستيلاء.

تحقيق توبة الربّ في توبة العبد

(إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ) كثير التّوبة منحصرة فيه لانّ توبة العبد كسائر خصاله اظلال صفات الحقّ فانّ توبة العبد ظلّ لتوبة الرّبّ بل هي توبة الرّبّ في مقام شأنه النّازل فلا تائب الّا هو ، ونسبتها الى العبد محض اعتبار ففي توبة العبد تكرار ظهور لتوبة الرّبّ فانّه ما لم يظهر توبة الله في شؤنه العالية لم تظهر في مظهره النّازل فهو تعالى كثير التّوبة باعتبار كثرة ظهورها ولا توّاب سواه باعتبار انّ توبة العبد توبته (الرَّحِيمُ) لا رحيم سواه كحصر التّوبة وافاضة الرّحمة الرّحيميّة على العبد بعد توبة الرّبّ في توبة العبد كاللّازم الغير المنفكّ منها ولذا عقّبها بها (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً) ووجه التّأكيد والتّكرير التّغليظ والتّطويل المطلوب في مقام السّخط والتمهيد للوعد والوعيد الآتي وجميعا حال في معنى التّأكيد كأنّه قال أجمعين ولا دلالة له على الاجتماع في زمان الحكم بل له الدّلالة على عموم الحكم بجملة افراد المحكوم عليه فقط بخلاف مجتمعين فانّه يدلّ على الاتّفاق في زمان الحكم (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً) امّا ان الشّرطيّة وما الزّائدة لتأكيد الشّرط ولذا يؤتى بعده بنون التّأكيد ، وإتيان الهدى من الله امّا على لسان الرّسول الظّاهرىّ أو الباطنىّ هذا على ظاهر المفهوم المصدرىّ من الهدى والّا فالهدى حقيقة جوهريّة من شؤن النّفس الانسانيّة ولسان الرّسول الظّاهرىّ أو الباطنىّ معدّ للنّفس ، والمفيض في الحقيقة هو الله ، والمفاض حقيقة من الحقائق ، والمفاض عليه هو النّفس الانسانيّة ، وعلى هذا فالإتيان بأداة الشّكّ في محلّه لانّ تلك الحقيقة لا تحصل لكلّ فرد من الإفراد ، وكثيرا ما تحصل لشخص ثمّ تسلب عنه ولذا أتى بالجواب جملة شرطيّة أو كالشّرطيّة فقال (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ) لفظة من شرطيّة أو موصولة متضمّنة لمعنى الشّرط وتكرار الهدى للتّمكين في القلوب وللتّرغيب في الاتّباع بتصوير مفهومه الصّريح ؛ ولتعليل الحكم بذلك ، ويجوز ان يراد بالهدى الرّسول أو خليفته فانّه لكونه متشأنا بالهدى فكأنّه لا حقيقة له سوى الهدى ، أو يراد معنى أعمّ من الثّلاثة اى فامّا يأتينّكم منّى سبب هداية أو حقيقة هداية أو هاد ؛ فمن تبع هداي (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

تحقيق بيان اختلاف الفقرتين من قوله (فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)

الخوف حالة حاصلة من الاستشعار بورود مكروه وتوقّع وروده ويستلزمها انقباض القلب واجتماع الرّوح الحيوانيّة والحرارة الغريزيّة في الباطن والقلب واحتراق دم القلب وتصاعد بخار دخانىّ الى الدّماغ واحتراق الدّماغ وتولّد السّوداء والماليخوليا ان طالت مدّتها ، ولمّا كان الخوف واردا من المخوف منه على الخائف كأنّ المخوف منه فاعله والخائف واقع عليه الخوف أخبر عنه بالجارّ والمجرور بعلى مع انّ القياس

٨٣

يقتضي ان يخبر عن المصادر بالجارّ والمجرور باللّام أو بمن إذا وقع الفاعل عقيب حرف الجرّ مخبرا به ، وأيضا الخوف يقتضي الاستيلاء على النّفس بحيث لا تتمالك ويناسبه لفظ على ، ويحتمل ان يكون المعنى لا خوف لغيرهم عليهم يعنى لا ينبغي ان يخاف عليهم وحينئذ فلا إشكال. والحزن حالة حاصلة من استشعار فوات محبوب في الحال أو في الاستقبال ويستلزمه أيضا انقباض القلب واجتماع الرّوح الحيوانيّة والحرارة الغريزيّة في الباطن والقلب وسائر لوازم ذلك وقلّما ينفكّان وهكذا الغمّ والّهم فكان الحزن ينبعث من باطن الحزين من حيث انّه مستشعر لفوات المحبوب وليس لورود امر من خارج وللاشعار بهذه اللّطيفة جاء بالقرينتين مختلفتين فانّ حقّ العبارة ان يقول فلا خوف عليهم ولا حزن أو فلا هم يخافون ولا هم يحزنون ، ويستعمل الحزن من باب علم لازما ومن باب قتل متعدّيا ، والخوف والحزن ضد الرّجاء والسّرور في الذّات وفي اللّوازم والآثار.

وجواب الاشكال بانّ التّابع للهدى مؤمن والمؤمن لا يخلو من الخوف والرّجاء وهما فيه ككفّتي الميزان وكذلك الحزن من لوازم الايمان كما في الاخبار فكيف ينفى عنه الخوف والحزن يستدعى ذكر مقدّمات :

الاولى ـ انّ الخوف يطلق تارة على المعنى الّذى ذكر وتارة على معنى اعمّ ممّا ذكر ومن الخشية والهيبة والسّطوة فانّ الإنسان في مقام الايمان التّقليدىّ وهو أنزل مقامات النّفس المؤمنة له خوف ، وإذا عرج الى مقام الايمان التّحقيقىّ بوجدان آثار ما من الايمان في نفسه وهو أعلى مقام النّفس المؤمنة ومقام إلقاء السّمع يتبدّل خوفه بالخشية ، وإذا عرج الى مقام القلب وهو مقام الايمان الشّهودىّ يتبدّل خشيته بالهيبة ، وإذا عرج الى مقام الرّوح وهو مقام الايمان التّحقّقىّ يتبدّل هيبته بالسّطوة ، ولفظ الخوف قد يطلق على الجميع.

والثّانية ـ انّ تعليق الجزاء يقتضي اعتبار حيثيّة وصف الشّرط في التّلازم.

والثّالثة ـ انّ المراد بالهدى هو النّبىّ (ص) أو وصيّه (ع) أو شأن من الله يظهر على نفس الإنسان بواسطة البيعة مع أحدهما ومتابعته ، أو المراد بالهدى مثال أحدهما يظهر على صدر الإنسان بقوّة متابعته لهما.

والرّابعة انّ التّابع للنّبىّ (ص) أو وصيّه (ع) إذا خلص متابعته له عن متابعة غيره يتمثّل المتبوع عنده بحيث ينجذب التّابع بتمام مداركه وقواه الى الصّورة المتمثّلة عنده ويأخذ ذلك المثال بمجامع قلبه ولا يدع مدخلا ولا مخرجا لغيره فلا يدع له ادراك الغير حتّى يستشعر بالتّضرّر منه فيخاف أو بفواته فيحزن ؛ فعلى هذا معنى الآية فمن تبع هداي بحيث يتمثّل الهادي عنده فلا خوف عليه ولا حزن من حيث انّه تابع وان كان قد يخرج من تلك الحيثيّة فيدخله حينئذ خوف وحزن.

وقد عدّ الخوف والحزن من صفات النّفس وهو خارج عن مقام النّفس وهذا التمثّل هو الّذى قالته الصّوفيّة من انّ السّالك ينبغي ان يجعل شيخة نصب عينيه بحيث لا يشتغل عنه بغيره ومقصودهم انّ السّالك ينبغي ان يتوغّل في الاتّباع حتّى يتمثّل المتبوع عنده لا ان يتكلّف ذلك من غير اتّباع ، فانّه كفر وليس الّا في النّار وقد قيل بالفارسيّة.

جمله دانسته كه اين هستى فخ است

ذكر وفكر اختياري دوزخ است

فانّ الفكر في لسانهم عبارة عن تمثّل الشّيخ عند السّالك والمراد بالاختياريّ هو الّذى يتكلّفه السّالك ويتراءى انّ الفكر الغير الاختيارىّ كالاختيارىّ اشتغال بالاسم وغفلة عن المسمّى وهو كفر شبيه بالاشتغال بالصّنم لكن هذا من جملة الظّنون فانّ الصّورة المتمثّلة إذا كان بقوّة المتابعة لا بتكلّف السّالك لا تكون الّا مرآة لجمال الحقّ الاوّل تعالى ولا يكون فيها حيثيّة سوى كونها مرآة والمشتغل بها عابد للمسمّى بإيقاع الأسماء عليه لا محالة ، لا انّه عابد للاسم والمسمّى أو للاسم فقط فهو موحّد حقيقىّ ، وقد قالوا : انّ ظهور

٨٤

القائم (ع) في العالم الصّغير عبارة عن التمثّل المذكور لانّ كلّما ذكروه في ظهور القائم (ع) يحصل حينئذ في العالم الصّغير وقد نظم بالفارسيّة اشارة الى هذا التمثّل :

كرد شهنشاه عشق در حرم دل ظهور

قد ز ميان برفراشت رأيت الله نور

هر كه در اين ره شتافت با قدم نيستى

هستى جاويد يافت از تو ببزم حضور

وانكه جمال تو ديد جام وصالت چشيد

باده كوثر نخواست از كف غلمان وحور

أو معنى الآية فلا خوف عليهم في الآخرة ، أو لا خوف لغيرهم عليهم ، ولا هم يحزنون في الآخرة ، ونظير هذه الآية ذكر مكرّرا في القرآن ونذكر في بعض الموارد ما يليق به (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) عطف على جملة من تبع هداي (الى آخره). وحقّ العبارة ان يقول : ومن لم يتبّع هداي لكنّه عدل الى صريح الموصول وترك الفاء في الخبر هاهنا وجاء به في الاوّل للتّأكيد والتّصريح بالتّلازم وعدم التخلّف في جانب الوعد وعدم التّأكيد والتّلازم في جانب الوعيد وأتى بقوله (كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا) بدل من لم يتّبع للاشعار بأن عدم الاتّباع كفر ومستلزم للانتهاء الى التّكذيب ، وأصل الآيات وأعظمها الأنبياء والأولياء فذكر تكذيب الآيات في مقام عدم اتّباع الهدى يؤيّد تفسير الهدى بالأنبياء والأولياء (ع) وتكرار المبتدأ باسم الاشارة البعيدة لتأكيد الحكم وإحضارهم بأوصافهم الذّميمة وتحقيرهم ، وللتّطويل في مقام الوعيد المطلوب فيه التّشديد والتّأكيد والتّطويل ، ولذا لم يكتف بصحابة النّار المشعرة بالتّجانس المستلزم للخلود وأكّدها بقوله (هُمْ فِيها خالِدُونَ) اعلم انّ اخبار خلق آدم (ع) وحوّاء وكيفيّة خلقهما وبقائهما في الجنّة ووسوسة الشّيطان لهما وأكلهما من الشّجرة وهبوطهما على الصّفا والمروة وبكائهما على فراق الجنّة وبكاء آدم على فراق حوّاء وتوبة الله عليهما مذكورة في التّفاسير وكتب الاخبار والتّواريخ من أهل الإسلام وغيرهم ، ومن راجعها وتأمّلها تفطّن بأنّها من مرموزات الأقدمين ؛ من أراد فليرجع إليها.

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ) إسرائيل اسم ليعقوب (ع) وإسرا بمعنى العبد وإيل بمعنى الله ، أو إسرا بمعنى القوّة وإيل بمعنى الله ، بعد ما ذكر خلق آدم (ع) وحوّاء (ع) وانعامه عليهما بسجدة الملائكة وطاعتهم لهما وإسكانهم الجنّة ونقضهما للعهد بترك النّهى بالأكل من الشّجرة وهبوطهما بارتكاب منهىّ واحد وتفضّله عليهما وعلى ذرّيّتهما بإيتاء الهدى ووعد التّابع ووعيد التّارك التفت تعالى الى ذرّيّتهما تفضّلا عليهما وعليهم وناداهم وأتى في مقام آدم (ع) باسرائيل للاشعار بأنّ من انتسب الى الأنبياء فهم بنو آدم (ع) وامّا غيرهم فليسوا بنى آدم حقيقة فانّ النّسبة الجسمانيّة إذا لم تكن قرينة للنّسبة الرّوحانيّة لم تكن منظورا إليها ، واختار من بين الأنبياء يعقوب (ع) لكثرة أولاده وبقاء النّسبة الرّوحانيّة اليه في أكثرهم فانّه لم يقطع النّبوّة في أولاده ولم ـ يرفع الدّين عنهم بخلاف سائر الأنبياء (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) بخلق أبيكم آدم (ع) وتفضيله على سائر الموجودات ، وتسخيره لكلّ ما في الأرض ، وسجود الملائكة له ، وهبوطه الى الأرض لكثرة نسله وخدمه فانّه نعمة لآدم وذرّيّته وان كان بصورة النّقمة كما قال المولوى :

ديو كبود كو ز آدم بگذرد

بر چنين نطعى از آن بازى برد

در حقيقت نفع آدم شد همه

لعنت حاسد شدة آن دمدمه

بازيى ديد ودو صد بازى نديد

پس ستون خانه خود را بريد

٨٥

ويبعثه الرّسل فيكم وأخذهم عهدي العامّ عليكم بالبيعة معكم البيعة العامّة النّبوّية وبابقاء شرائع الرّسل بخلفائهم وأخذهم عهدي الخاصّ عليكم بالبيعة الخاصّة الولويّة وخصوصا بعثة خاتم الأنبياء (ص) وخليفته خاتم الخلفاء (وَأَوْفُوا بِعَهْدِي) الّذى أخذه نبيّكم أو خليفته عليكم في البيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة أو البيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة (أُوفِ بِعَهْدِكُمْ) الّذى علىّ الوفاء به من ادخالكم الجنّة بإزاء قبول الدّعوة في البيعة وفتح البركات السّماويّة والارضيّة بإزاء اتّباعكم شروط العهد واتّقائكم عن مخالفتها واقامتكم لأوامر العهد الّتى هي أوامر الشّرع وقد سبق أنّه كلّما ذكر عهد أو عقد في الكتاب فالمراد به هو الّذى في ضمن البيعة العامّة أو الخاصّة والتّفسير بما أخذ عليهم في الذّرّ صحيح كما في بعض الاخبار فانّه اشارة الى العهد التّكوينىّ والولاية الفطريّة لكنّه إذا لم يقترن بالعهد التّكليفىّ والبيعة الاختياريّة لم يصحّ الأمر بالوفاء به ولا المدح على الوفاء به ولا الذّمّ على تركه ونقضه لنسيان المعاهد العهد الّذى كان في الذّرّ (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) الفاء امّا زائدة أو اصليّة وعلى اىّ تقدير فايّاى منصوب بمحذوف يفسّره المذكور سواء عدّ من باب الاشتغال أم لا وهو تأكيد وتخصيص للرّهبة به تعالى بصورة التّقديم وتنبيه على انّه لا ينبغي ان يخاف من أحد الّا الله تعالى فانّ الإخلاص لا يتمّ الّا بحصر الطّاعة والرّغبة والخوف والرّهبة فيه وهذه الآية تعريض بأمّة محمّد (ص) وبالعهد الّذى أخذه محمّد بالبيعة العامّة بقبول احكام النّبوّة وبالعهد الّذى أخذه محمّد (ص) في غدير خمّ لعلىّ (ع) بالخلافة بالبيعة العامّة على يد علىّ (ع) وما ورد في الاخبار من التّفسير بالعهد الّذى أخذه انبياؤهم على أسلافهم بالإقرار بنبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) تفسير بما كان مقصودا من عهدهم سواء ذكر في بيعتهم أم لا ، ولمّا كان الأمر بالوفاء بالعهد هاهنا مقدّمة للأمر بالايمان بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) فتفسير العهد بما هو المقصود منه من الإقرار بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) كما فسّر في الاخبار كان اولى (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ) الّذى هو النّتيجة ، والمقصود ما أنزل على محمّد (ص) من الكتاب والشّريعة النّاسخة لكلّ كتاب وشريعة والايمان به مستلزم للايمان بنبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) أو المراد ممّا أنزل ابتداء نبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) حال في محلّ التّعليل للأمر بالايمان به فانّ تصديقه لما معهم مصدّق للايمان به والمراد ممّا معهم التّوراة والإنجيل والأحكام الفرعيّة الشّرعيّة والعقائد الاصليّة الدّينيّة ومنها نبوّة محمّد (ص) وخلافة وصيّه والمقصود اوّلا وبالذّات ممّا معهم نبوّة محمّد (ص) وخلافة علىّ (ع) فانّهما ثابتتان في كتبهم وفي صدورهم بحيث لا تنفكّان عن خاطرهم (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) تنزّل في الكلام على طريقة المناصحين اى يجب عليكم الايمان به لكونه مصدّقا لما معكم فان لم تؤمنوا به فاصبروا ولا تكونوا اوّل كافر به فانّه أقبح لكم من كلّ قبيح لانّكم عالمون بصدقه من قبل ومحجوجون بأنّ برهان صدقه وهو تصديق ما عندكم معه والمراد أوّل كافر به حين ظهور دعوته أو بالاضافة الى أصحاب الملل فلا يرد انّ هذا الكلام صدر منه مع يهود المدينة وقد كفر قبلهم كثير من مشركي مكّة ، واوّل كافر خبر لا تكونوا وحمل المفرد على الجمع بتقدير فريق أو صنف ، أو لا يكن كلّ واحد منكم اوّل كافر به ، روى انّ يهود المدينة جحدوا نبوّة محمّد (ص) وخانوه وقالوا : نحن نعلم أنّ محمّدا (ص) نبىّ وانّ عليّا (ع) وصيّه ولكن لست أنت ذلك ولا هذا هو ولكن يأتيان بعد وقتنا هذا بخمسمائة سنين.

٨٦

تحقيق وتفصيل لاشتراء الثّمن القليل بالآيات

(وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) اى لا تستبدلوا فانّ الاشتراء في أمثال المقام يستعمل بمعنى مطلق الاستبدال والمراد بالثّمن القليل الاعراض الدّنيويّة لانّها وان كانت كثيرة في أنفسها قليلة في جنب الآخرة ، ونزول الآية في أشراف يهود مدينة وتحريفهم لآيات التّوراة لاستبقاء مأكلة كانت لهم على اليهود ، وكراهة بطلانها بسبب الإقرار بالنّبىّ (ص) لا ينافي باعتبار التّعريض بأمّة محمّد (ص) عموم الآية وتعميم الآيات المذكورة فيها ؛ فانّ الآيات وكذا سائر كلمات الكتاب لا اختصاص لها بمرتبة خاصّة بل لها في كلّ مرتبة ومقام مصداق مناسب لتلك المرتبة ؛ فالآيات التّدوينيّة نقوش الكتاب الالهىّ والألفاظ المدلول بها عليها فانّها آيات تدوينيّة باعتبار انّ دوالّها تدوينيّة ، وهكذا نقوش الاخبار الصّادرة عن المعصومين (ع) والصّادقين والألفاظ الّتى هي مدلولاتها ، وآيات الآفاق الموجودات الدّالّة بغرائب خلقتها على حكمة صانعها سواء كانت مادّيّة ارضيّة أو سماويّة أو غير مادّيّة من البرزخ والمثال والنّفوس والعقول ، وآيات الأنفس شؤن النّفوس ووارداتها ومشاهداتها وكمون الأشياء فيها ، وظهورها بها ، وغرائب ذلك في أطوارها ، والأعمال الّتى تظهر منها على الأعضاء فانّها آيات دالّة على ضمائر النّفوس فان كانت بصورة الأعمال الإلهيّة الدّالّة على انّ ضمائر النّفوس أوامر ونواه إلهيّة كانت آيات الله أيضا ، واشتراء الثّمن القليل بالآيات عبارة عن الاعراض عنها من جهة كونها آيات الله سواء أعرض عنها مطلقا أو توجّه إليها بجهة اخرى فالمصلّى إذا كان الدّاعى له الى الصّلوة الأمر الإلهيّ من غير التفات منه الى انّ فيها قربا أو رضى من الله أو نجاة من النّار أو دخولا في الجنّة ومن غير طلب منه لذلك يعنى من غير التفات الى نفسه وصدور العمل منها كان حافظا لآية الله غير مشتر بها ثمنا قليلا ، وإذا كان الدّاعى له طلب القرب من الله أو طلب رضاه أو النّجاة من النّار أو دخول الجنّة يعنى إذا التفت الى عمله وطلب له اجرا كان مستبدلا بآية الله ثمنا قليلا ، وإذا كان الدّاعى له حفظ صحّته أو صحّة من عليه اهتمام امره أو رفع مرض أو حفظ مال أو تكثير مال أو حفظ عرض أو بقاء منصب أو الوصول الى منصب أو الظّهور على عدوّ أو غير ذلك من الأغراض المباحة كان مستبدلا بها ثمنا اقلّ من الاوّل ، وإذا كان الدّاعى غرضا من الأغراض الغير المباحة مثل الرّيا والسّمعة والصّيت ومدح النّاس والتّحبّب إليهم وحفظ المناصب الغير المباحة مثل القضاوة والامامة والحكومات الغير الشّرعيّة وجلب المال الغير المباح وإدرار السّلاطين والحكّام وغير ذلك من الأغراض الغير المباحة كان مستبدلا بها عذابا دائما وهكذا سائر الأعمال الشّرعيّة بل الأعمال المباحة فانّها الصّادرة عن النّفس العاقلة ، والعاقل فعله ينبغي ان يكون صادرا من مبدء عقلانىّ وراجعا الى ذلك فاذا لم يكن فعل العاقل قرين غرض عقلانىّ كان مستبدلا بآية الله اى آية العقل فانّ العقل آية الله وآية الآية آية ثمنا قليلا ، وما ورد في الآيات والاخبار من المدح على ابتغاء وجه الله أو طلب مرضاته أو غير ذلك فالمراد الطّلب من غير جعل الطّلب غرضا ومن غير استشعار بذلك الطّلب وقلّما تنفكّ أرباب العمائم وأصحاب المناصب والاتباع السّواقط من أكثر هذه الأغراض المباحة ، وامّا من ابتلى منهم بالأغراض الغير المباحة فليتعوّذ من شرّه فانّه أضرّ على دين العباد من إبليس وجنوده ، وما تداول بينهم من الاجرة على بعض العبادات كالأذان وصلوة ليلة الدّفن وتلاوة القرآن وتعليم القرآن ، وما تداول بين أرباب المنابر من أخذ الاجرة على ذكرهم المصائب والمراثي ومجالس وعظهم فقد صرّحوا بحرمته ، وهذا غير الأغراض الكاسدة الّتى ابتلاهم الله بها ، وامّا الجعالة على فعل الصّلوة والصّوم المفروضين الفائتين يقينا أو ظنّا أو احتمالا أو الغير الصّحيحين يقينا أو ظنّا أو احتمالا

٨٧

بنيابة الأموات فقد اشتهر العمل به ونيابة الحجّ من حىّ عاجز أو قادر أو ميّت كثر الاخبار بها وأجمعوا على صحّتها وعملوا بها لكن لم يبيّنوا كيف ينبغي ان يكون القصد فيها حتّى لا يكون المأخوذ اجرة على العبادة واشتراء بآيات الله ثمنا قليلا ، والقاضي إذا اجازه الامام أو نائبه للقضاء عموما أو خصوصا وجلس في مجلس القضاء بأمر الامام الّذى هو أمر الله ولم يكن الدّاعى له الى القضاء سوى الأمر كان حافظا لآية الله فانّ القضاء آية الأمر به ، والأمر آية الآمر ، والآمر آية الله ، وان كان الدّاعى له التّقرّب الى الله أو الى الامام أو طلب رضا كلّ أو الإصلاح بين النّاس أو رفع الخصومات أو احقاق الحقوق أو رفع الظّلم وحفظ المظلوم أو اجراء احكام الله وحدوده أو أمثال ذلك من الأغراض الصّحيحة كان مستبدلا بآية الله ثمنا قليلا ، وان كان الدّاعى له التّرأس على العباد والتّبسّط في البلاد أو التّحبّب الى النّاس أو تخويف الخلق أو الشّرف والحسب أو الخدم والحشم أو الاعراض الفانية الدّنيويّة أو غير ذلك من الأغراض الكاسدة فهو مستبدل بآية الله عذابا دائما أليما ، هذا إذا كان القاضي منصوبا من الامام لذلك أو للاعمّ من ذلك ، وان كان غير مأذون في ذلك فليتدبّر في قوله (ع): هذا مجلس لا يجلس فيه الّا نبىّ أو وصىّ أو شقىّ ، وهكذا حال أصحاب الفتيا فانّهم في فتياهم ان لم يكونوا مأذونين أو لم يكن الأمر داعيا لهم صدق عليهم قوله تعالى : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) وقوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) فانّ المراد بالكتاب كتاب النّبوّة وأحكامها المستنبطة من الآيات والاخبار فالفتيا وآيات القرآن واخبار المعصومين (ع) هذا الكتاب الّذى يلوون ألسنتهم به ويكتبونه بأيديهم فانّ الإنسان ما لم يخرج من أغراضه سواء كانت صحيحة أو فاسدة كان ما يجريه على اللّسان أو يكتبه باليد ملويّا بلسانه ومكتوبا بيده لا بلسان مسخّر لأمر الله ولا بيد آلة لله وان كان صورته صورة الكتاب وصورة الأحكام الشّرعية واخبار المعصومين (ع) لم يكن من الكتاب ولا من الشّريعة ولا من المعصومين (ع) فانّ صورة اللّفظ وصورة النّقش حرمتها بنيّة المتكلّم والكاتب ، الا ترى أنّ الفقهاء رضوان الله عليهم أفتوا بأنّ لفظ محمّد (ص) ان كتب مرادا به محمّد بن عبد الله الرّسول الختمىّ (ص) كان محترما ومسّه بدون الطّهارة حراما ، وان كتب مرادا به غيره لم يكن له حرمة مع انّ الصّورة في الكتابتين واحده لا تميز بينهما والفرق ليس الّا بنيّة الكاتب (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) ويلوونه بألسنتهم مما كتبت أيديهم ونطقت به ألسنتهم وويل لهم ممّا يكسبون ، لكن ما كتب من صورة القرآن ينبغي الاهتمام في احترامه مراعاة لحفظ صورة الكتاب كما ورد التّأكيد في الاهتمام بما جمعه عثمان من صورة الكتاب وأمثال الآيتين المذكورتين في حقّ الشّجرة الملعونة وهي بنو أميّة وأحزابهم واتباعهم الى يوم القيامة الّذين عاندوا الائمّة وشيعتهم فضلا عن الاذن منهم في كتابة الكتاب والفتيا في الأحكام ولهذا كان اهتمام الشّيعة من الصّدر الاوّل بالاذن والاجازة من المعصومين (ع) أو ممّن نصبوه لذلك بحيث ما لم يجازوا لذلك لم يتكلّموا في الأحكام ولم يكتبوا منها شيئا ، والمدرّس في تدريسه والمتعلّم في تعلّمه ان كانا مأمورين بذلك ولم يكن الدّاعى لهما الّا الأمر كانا حافظين لآيات الله ، والّا كانا مستبدلين ، سواء كان غرضهما من المباحات أو من غير المباحات نظير أرباب القضاء والفتيا ، وكذلك الحال في جملة الأعمال والأحوال عبادة كانت أو غيرها فما من أحد سوى المخلصين (بفتح اللّام) الّا وهو مشتر بآيات الله ثمنا قليلا بوجه ، أعاذنا الله وجميع المؤمنين منه ، وأعظم من ذلك الاشتراء كلّه أن تقلّد نبىّ العصر أو ولىّ الأمر ثمّ تعرض عنه للاشتغال بما عرضته النّفس من اهوائها أو تطهّر بيت قلبك حتّى يدخل فيه ويظهر عليك في عالمك الصّغير صاحب الأمر عجّل الله فرجه ثمّ تعرض عنه أو يعرض عنك فانّك حينئذ تكون اشدّ حسرة وندامة من كلّ ذي حسرة

٨٨

وندامة (وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) لمّا كان الرّهبة في الأغلب من المحتمل الوقوع والتّقوى من المتيقّن الوقوع والغفلة عن النّعمة وترك الوفاء بالعهد من غير الاعراض والاستهزاء بالمعاهد معه محتمل النّقمة ، واشتراء الثّمن القليل بالآيات الّتى أصلها وأعظمها نبىّ الوقت أو خليفته متيقّن النّقمة لانّ شراء سائر الآيات وان كان محتمل النّقمة لكنّه باعتبار أدائه الى شراء الآية الكبرى متيقّن النّقمة استعمل الرّهبة هناك والتّقوى هاهنا.

(وَلا تَلْبِسُوا) لا تخلطوا (الْحَقَ) الّذى هو الايمان والعقائد الدّينيّة والفروع الشّرعيّة المأخوذة من طريق الظّاهر بالتّعلّم والتّعليم أو من طريق الباطن بالإلهام والوجدان أو الحقّ الّذى هو ولاية علىّ (ع) أو الحقّ الّذى هو أعمّ من الولاية والعقائد الدّينيّة والفروع الشّرعيّة (بِالْباطِلِ) الّذى هو الكفر وضدّ العقائد الدّينيّة وضدّ الفروع الشّرعيّة أو الباطل الّذى هو ولاية غير علىّ (ع) أو الباطل الّذى هو أعمّ ، أو لا تلبسوا الأعمال الإلهيّة بالأغراض النّفسانيّة ، أو لا تلبسوا الحقّ الّذى هو نبوّة محمّد وولاية علىّ (ع) الّذي هو ثابت في كتبكم بتحريفاتكم الباطلة ، أو الحقّ الّذي هو أوصاف محمّد (ص) وعلى (ع) بالباطل الّذي أحدثتموه في كتبكم وهذا هو نزول الآية (وَتَكْتُمُوا الْحَقَ) ولا تكتموا الحقّ أو مع ان تكتموا الحقّ على ان يكون مجزوما بالعطف أو منصوبا بان المقدّر والمراد بالحقّ الثّانى هو الاوّل على قانون تكرار المعرفة أو غيره والمعنى (لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ) لقصد كتمانه أو لعدم المبالاة به ، أو لا تلبسوا الحقّ الظّاهر بالباطل ليشتبه على من ظهر الحقّ عليه ولا تكتموا الحقّ الغير الظّاهر ليختفى على النّاس (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) يعنى وأنتم العلماء أو وأنتم تعلمون الحقّ ولبسه واخفائه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) قد مضى بيان للصّلوة وإقامتها وللزّكوة وايتائها في اوّل السّورة (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) الرّكوع في اللّغة وفي العرف العّامّ الانحناء وقد يستعمل في التّذلّل مجازا ، وفي عرف المتشرّعة عبارة عن الانحناء المخصوص الواقع في الصّلوة ويستعمل مجازا في الصّلوة وامّا في لسان الشّارع فلو سلّم ثبوت الحقائق الشّرعيّة لم يعلم نقله الى الانحناء في الصّلوة ولو سلّم نقله اليه كثر استعماله في الخضوع والتّذلّل أيضا بحيث كان استعماله في الخضوع غالبا على استعماله في ركوع الصّلوة ولمّا كان الصّلوة المسنونة في شريعتنا عبادات جامعة لعبادات سائر الموجودات تكوينا ولعبادات الملائكة ولعبادات مقامات الإنسان وشؤنه كان ركوع الصّلوة صورة عبادة الملائكة الرّكّع وصورة عبادة الحيوان المنكوس الرّأس الى الأرض ، وصورة عبادة مقامه الّذى به إصلاح معاشه وتدبير دنياه بقوله تعالى : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) بعد ذكر الصّلوة امر بالجماعات أو بالاتّفاق مع المسلمين في عباداتهم وخضوعاتهم أو بموافقة أهل الدّنيا في مرمّة المعاش يعنى لا ينبغي لكم ان يكون اقامة الصّلوة مانعة عن مرمّة معاشكم بل ينبغي ان تكون مقتضية لمرمّة المعاش وإصلاح الدّنيا بحيث تكونوا رجالا لا تلهيكم تجارة ولا بيع عن ذكر الله واقام الصّلوة. وقوله تعالى (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ان كان المراد به الأمر بحسن المعاشرة في مرمّة المعاش كان بمنزلة التّعليل لقوله : (وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) على المعنى الأخير وامرا لهم بحسن المعاشرة على أبلغ وجه وأوكده ، وان كان المراد الأمر بحسن المؤانسة مع الحقّ وحسن المعاشرة مع الخلق كان بمنزلة التّعليل لمجموع قوله (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) (إلخ) والاستفهام للإنكار التّوبيخىّ والمعنى انّكم مفطورون على ان تأمروا النّاس بالبرّ والإحسان في العبادات وبالإحسان مع الخلق ومكلّفون من الله مطابقا للفطرة بذلك ولا يجوز لكم

٨٩

ان تأمروا النّاس بذلك وتتركوا أنفسكم بان لا تصلحوا بالايتمار فأصلحوها اوّلا بإقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة والرّكوع مع الرّاكعين بأىّ معنى أريد ، ثمّ مروا النّاس بذلك لقبح امر النّاس بذلك وعدم الايتمار به في العقل والعرف (وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ) السّماوىّ من التّوراة والإنجيل وغيرهما من الصّحف دونهم ، أو أنتم تتلون كتاب النّبوّة وأحكام الشّريعة دون النّاس فأنتم عالمون بالمعروف دونهم ، فأنتم اولى بالايتمار منهم ، أو المعنى وأنتم تتلون الكتاب وفيه قبح الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ممّن لا يأتمر ولا يتناهى (أَفَلا تَعْقِلُونَ) قبح ذلك وعقوبة القبيح بعده.

تحقيق الأمر بالمعروف وموارده

اعلم انّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر واجبان في الجملة امّا عموم وجوبهما لكلّ فرد بالنّسبة الى كلّ واحد من النّاس وبلا شرط فلا ؛ فنقول : انّهما واجبان على كلّ بالغ رشيد بالنّسبة الى من في عالمه الصّغير فانّه إذا تعلّق التّكليف بالإنسان كان عليه كان يأمر نفسه وقواه بما علم انّه خيره وينهى عمّا هو شرّه بالنّسبة الى قوّته الانسانيّة كما كان يأمر بما هو خيره وينهى عمّا هو شرّ له بالنّسبة الى قواه الحيوانيّة قبل ذلك ، وما لم يعلم انّه خير أو شرّ كان عليه اوّلا تحصيل العلم بذلك ثمّ الأمر والنّهى ، ومن كان جمع آخر تحت يده مثل امرأته وأولاده ومملوكه لا مثل الأجير والمكاري والخادم كان عليه ان يأمرهم بما علم انّه خير لهم وينهاهم كذلك ، وما لم يعلم انّه خير أو شرّ كان عليه تحصيل علمه اوّلا ثمّ الأمر والنّهى وليس عليه ان يطهّر نفسه اوّلا ثمّ يستأذن الامام ثمّ يأمر وينهى فانّ من تحت اليد كالقوى والجنود الّتى في عالمه الصّغير من جملة اجزائه ، والأمر والنّهى بالنّسبة إليهم مطلقا غير مقيّدين بطهارة النّفس عن جملة الرّذائل وحصول القوّة القدسيّة الرادعة عن المعاصي ، نعم كان عليه ان يأمر وينهى اوّلا نفسه ويزجرها عن الرّذائل ثمّ يأمر وينهى من تحت يده والّا دخل تحت الأمر التّارك والنّاهى الفاعل ، وامّا بالنّسبة الى عموم الخلق فليس ذلك واجبا على كلّ أحد بل على من تطهّر اوّلا من المعاصي والرّذائل ، وحصّل القوّة القّدسيّة الرّادعة عن ارتكاب المعاصي ، وحصّل العلم بمعروف كلّ أحد من النّاس ومنكره فانّ المعروف والمنكر يختلفان بحسب اختلاف الأشخاص ؛ وحسنات الأبرار سيّئات المقرّبين يدلّ عليه ، وفي الاوّلين خلاف بل أفتى أكثر الفقهاء رضوان الله عليهم بوجوب الأمر بالمعروف على تاركه والنّهى عن المنكر على فاعله ، وامّا الثّالث فلا خلاف في انّه شرط لوجوب الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر بل لا خلاف في كونه شرطا لجوازهما ، وقيل : انّ هذا الشّرط يقتضي اشتراطهما بالاوّلين أيضا فانّ العلم بمعروف كلّ أحد ومنكره يقتضي البصيرة التّامّة بحاله بحيث يعلم انّه في اىّ مقام من الايمان والإسلام ، ويعلم أنّ اىّ مرتبة من الأحكام يقتضيها ذلك المقام ، وهذه البصيرة لا تكون الّا لمن تطهّر عن المعاصي والرّذائل وحصّل القوّة القدسيّة الّتى هي شرط في الإفتاء ، فانّ الإفتاء كالامر بالمعروف لا يجوز لكلّ أحد بل لمن تطهّر وحصّل القوّة القدسيّة المذكورة وسيأتى ان شاء الله بيان له ، وفيما روى عن الصّادق (ع) تصريح بعدم جواز الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر بالنّسبة الى عموم الخلق لكلّ فرد من النّاس وهو قوله (ع): من لم ينسلخ من هواجسه (١) ولم يتخلّص من آفات نفسه وشهواتها ولم يهزم الشّيطان ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر لانّه إذا لم يكن بهذه الصّفة فكلّ ما أظهر يكون حجّة عليه ولا ينتفع النّاس به قال الله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) ويقال له : يا خائن أتطالب خلقي بما خنت به نفسك

__________________

(١) ـ في القاموس هجس من باب ضرب بمعنى خطر هجس في صدره خطر أو هو خطرات السّوء الّتى يسمّى وسواس

٩٠

وأرخيت عنه عنانك ، وهكذا الحال فيما روى عنه (ع) انّه سئل عن الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر أواجب هو على الامّة جميعا؟ ـ فقال : لا فقيل : ولم؟ ـ قال : انّما هو على القوىّ المطاع العالم بالمعروف من المنكر لا على الضعفة الّذين لا يهتدون سبيلا الى اىّ من اىّ يقول من الحقّ الى الباطل والدّليل على ذلك كتاب الله تعالى قوله (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) فهذا خاصّ غير عامّ كما قال الله تعالى : (وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ،) ولم يقل : على أمّة موسى ، ولا على كلّ قوم وهم يؤمئذ أمم مختلفة ، والامّة واحد فصاعدا كما قال الله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) يقول : مطيعا لله ؛ الى آخر الحديث ، والاخبار الدّالّة على ذمّ الآمر التّارك والنّاهى الفاعل يشعر بذلك مثل ما نسب الى أمير المؤمنين (ع) وهو قوله : وانهوا عن المنكر وتناهوا عنه فانّما أمرتم بالنّهى بعد التناهي وقوله (ع) لعن الله الآمرين بالمعروف والتّاركين له ، والنّاهين عن المنكر العاملين به ، ومثل الاخبار الدّالّة على ذمّ من وصف عدلا ثمّ خالفه الى غيره وانّه اشدّ حسرة يوم القيامة فعلى هذا فالأخبار الدّالّة على عموم وجوبهما امّا مخصّصة بالعالم المطهرّ أو بالعالم بالمعروف الّذى يأمر به والمنكر الّذى ينهى عنه ، أو نقول التّطهير وحصول العلم من مقدّماتهما فهما واجبان مطلقا لكن حصولهما مشروط بالعلم والتّطهير لا وجوبهما فالأمر بهما يقتضي الأمر بمقدّماتهما اوّلا مع انّ المقدّمات في أنفسها مأمور بها ، أو نقول : وجوبهما على الكلّ انّما هو بعنوان التّعاون على البرّ والتّقوى وترك التّعاون على الإثم والعدوان ، لا بعنوان الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، وان كان لفظ الاخبار بعنوان الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر فانّ الألفاظ كثيرا يستعمل بعضها في عنوان البعض الآخر.

(وَاسْتَعِينُوا) فيما ذكر من الوفاء بالعهد الى آخر ما ذكر أو في خصوص تطهير النّفس وأمر الغير بالبرّ أو في جملة الأمور من الانتهاء عن المناهي وامتثال المأمورات وحسن المضىّ في المصائب وحسن المعاشرة مع الخلق وتحصيل الرّاحة في الدّنيا والآخرة (بِالصَّبْرِ) فانّه لا يتيسّر شيء من المذكورات الّا بالصّبر فانّه حبس النّفس عن الهيجان عند الغضب ، وعن الطيش عند الشّهوة ، وعن الجزع عند ورود المكاره ، ومن استعان بالصبّر في أموره لم يخرجه الغضب عن حقّ ولم يدخله الشّهوة في باطل وهانت عليه المصائب فلم يكن أسيرا للّشهوة والغضب ولا جزوعا عند المصيبة فكان في الدّنيا في راحة عن الأسر والجزع ، وفي الآخرة في اطلاق عن السّلاسل وفي نعمة عظيمة في الجنان ، ولم يمنعه الشّهوة والغضب ولا البلايا عن تزوّد معاده ولا عن مرمّة معاشه (وَالصَّلاةِ) الصّلوة حقيقة من ولىّ الأمر ولايته ومن غيره قبول ولاية ولىّ الأمر كما انّ الزّكاة هي التّبرّى من غير ولىّ الأمر ولذا كانت الصّلوة والزّكاة عمادي الدّين ، ولم يكن شريعة من لدن آدم (ع) إلا كانتا أساسيها ، ولمّا كان القالب مسخّرا للقلب وكان اثر الصّفات القلبيّة يظهر على القالب كان للصّلوة والزّكاة في كلّ شريعة صورة على القالب ، ولمّا كان الشّرائع بحسب اختلاف النّبوّات في الكمال وبحسب اختلاف الأزمان واستعداد أهلها مختلفة اختلفت صورة الصّلوة والزّكاة في الشّرائع ، ولمّا كانت شريعة محمّد (ص) باخبارهم أكمل الشّرائع كان صورة الصّلوة والزّكاة في شريعته أكمل الصّور ، وقد فسّر الصّبر في الاخبار بالصيّام لكون الصيّام أكمل افراده وسببا لحصول سائر ، أنواعه ولا غرو في تفسيره بالرّسالة لكونها مانعة للنّفس بانذارها عن إمضاء الغضب والشّهوة وعن الجزع عند المصيبة ، وتفسيره بالرّسول لاتّحاده مع الرّسالة الّتي هي شأن من شؤنه واتّحاد كلّ ذي شأن مع شأنه كما لا غرو في تفسير الصّلوة بعلىّ (ع) لكون الولاية شأنا منه واتّحاده مع شأنه ، وعن الصّادق (ع) ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدّنيا ان يتوضّأ ثمّ يدخل مسجده فيركع

٩١

ركعتين فيدعو الله فيهما اما سمعت الله تعالى يقول : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ.). وعنه (ع) كان علىّ (ع) إذا هاله شيء فزع الى الصّلوة ثمّ تلا هذه الآية (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) (وَإِنَّها) اىّ الصّلوة كما يستنبط من الأخبار وقيل : الاستعانة بهما ، وما في تفسير الامام (ع) من قوله انّ هذه الفعلة من الصّلوات الخمس والصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع) مع الانقياد لأوامرهم والايمان بسرّهم وعلانيتهم وترك معارضتهم بلم وكيف يدلّ على انّ الضمّير راجع الى الصّلوة وانّ المراد بالصّلاة الولاية الظاّهرة بالصّلوات الخمس والصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع) والانقياد لأوامرهم وترك مخالفتهم (لَكَبِيرَةٌ) على كلّ أحد لانّ الإنسان ما لم يخرج من انانيّته ولم يستشعر بعظمة الله لا يتيسّر له الصّلوة الّتي هي الانقياد تحت أمر الله والتّسخّر له أو الأفعال المسبّبة عن الانقياد فانّ الانانيّة الّتي هي صفة الشّيطان والنّفس منافية للانقياد الّذى هو صفة الإنسان (إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) المتذلّلين تحت عظمة الله الخارجين من انانيّتهم وعظمتهم ، والخشوع والخضوع والتّواضع ألفاظ متقاربة المعنى فانّ الخشوع حالة حاصلة من الاستشعار بعظمة المتخشّع له مع محبّته والالتذاذ بوصال ما منه ممزوجا بألم الفراق ؛ والخضوع تلك الحالة ، لكنّ الاستشعار بالعظمة في الخضوع أكثر منه في الخشوع والمحبّة أخفى ، والتّواضع تلك الحالة والعظمة أكثر والمحبّة أخفى بالنّسبة الى الخضوع.

اعلم انّ الإنسان كلّما ازداد خروجه من انانيّته وشيطنته ازداد انقياده لولىّ امره ، وكلّما ازداد جهة انقياده ازداد خشوعه اى استشعاره بعظمة ولىّ امره والتذاذه بوصاله وتألّمه بجهة فراقه ، وكلّما ازداد خشوعه ازداد تلذّذه بصلوته حتّى تصير صلوته قرّة عينه ويجعل راحته في صلوته كما روى عن النّبىّ (ص) انّه قال : قرّ عيني في الصّلوة ، وكان يقول : روّحنا يا أرحنا يا بلال.

(الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) في الحيوة الدّنيا قد يفسّر الرّبّ بالرّبّ المضاف والملاقاة بملاقاة الرّبّ المضاف من حيث ربوبيّته وهي بظهور مثاله على الصدر المعبّر عنه في اصطلاح الصّوفيّة بالفكر وفي لسان الشّريعة بالسّكينة وهو ظهور صاحب الأمر في العالم الصّغير واوّل مراتب معرفة علىّ بالنّورانيّة وحينئذ فالظّنّ بمعناه فانّهم لا يتيقّنون ذلك بل يتوقّعونه ويرجونه وقد يفسّر بملاقاة الرّبّ المضاف في الآخرة فالظّنّ أيضا بمعناه

لانّهم لا يعلمون انّهم يلاقون ربّهم في الآخرة أو يختم لهم بالشّرّ فينكسون في النّار وقد يفسّر بملاقاة الحساب والجزاء يعنى بالبعث فالظّنّ بمعنى اليقين ، ولمّا كان النّفس علومها غير معلوماتها بل قد يتخلّف المعلومات عنها كثيرا ما يستعمل الظّنّ فيها لمشابهتها بالظّنون في ذلك بخلاف علوم القلب والرّوح (وَأَنَّهُمْ) بعد لقائه في الحيوة الدّنيا أو بعد بعثتهم ولقاء حسابه في الآخرة (إِلَيْهِ راجِعُونَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ) كرّر النّداء للتّأكيد ولانّ المراد ببني إسرائيل هناك كما مضى بنو آدم والمراد بهم هاهنا بنو إسرائيل حقيقة فانّ المراد إظهار الامتنان بالنّعم الّتى أنعمها عليهم خاصّة لكنّ الغرض التّعريض بامّة محمّد (ص) وسائر الخلق (اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ) ببعثة الأنبياء فيكم ودلالتهم لكم الى بعثة محمّد (ص) وخلافة وصيّه ، أو المراد من النّعمة المضافة جنس النّعمة ويكون قوله : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) من قبيل عطف التّفصيل على الإجمال على الوجه الأخير ، ونسبة النّعم الى الموجودين مع انّها كانت لاسلافهم المعدومين على طريق مخاطبات العرف فانّهم ينسبون ما وقع من قبيلة الى بعضهم الّذى لم يشاركوهم من جهة السّنخيّة والموافقة في الحسب والنّسب ، والمراد من العالمين أهل عالمهم الموجودون معهم لا أهل كلّ عالم

٩٢

حتّى يلزم تفضيلهم على أمّة محمّد (ص) (وَاتَّقُوا يَوْماً) يوم الموت فانّه وقت (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) في رفع الموت أو تأخيره (وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ) فداء يكون بدلا منها بتحمّل الموت (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعنى ان انجرّ الأمر الى المدافعة يوم الموت لم يكن لهم ناصر يدفع عنهم روى عن الصّادق (ع) هذا يوم الموت فانّ الشّفاعة لا تغني عنه فامّا يوم القيامة فانّا وأهلنا نجزى عن شيعتنا كلّ جزاء لنكوننّ على الأعراف بين الجنّة والنّار محمّد (ص) وعلىّ (ع) وفاطمة والحسن (ع) والحسين (ع) والطيّبون من آلهم فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات ؛ فمن كان منهم مقصّرا وفي بعض شدائدها نبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمّار ونظرائهم في العصر الّذى يليهم في كلّ عصر الى يوم القيامة فينقضّون (١) عليهم كالبزاة والصّقور ويتناولونهم كما يتناول البزاة والصّقور صيدها فيزفّونهم الى الجنّة زفّا (٢) وانّا لنبعث على آخرين من محبّينا خيار شيعتنا كالحمام فيلتقطونهم من العرصات كما يلتقط الطيّر الحبّ وينقلونهم الى الجنان بحضرتنا ؛ وسيؤتى بالواحد من مقصّرى شيعتنا في أعماله بعد ان قد حاز الولاية والتقيّة وحقوق إخوانه ويوقف بإزائه مائة وأكثر من ذلك الى مائة الف من النّصاب فيقال له هؤلاء فداؤك من النّار فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنّة وأولئك النّصاب النّار ، وذلك ما قال الله عزوجل ربّما يودّ الّذين كفروا يعنى بالولاية لو كانوا مسلمين في الدّنيا منقادين للامامة ليجعل مخالفوهم من النّار فداءهم (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ) اذكروا إذ نجّينا اسلافكم (مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ) من سامه الأمر كلّفه وقلّما يستعمل في غير الشّرّ والمراد بسوء العذاب الأعمال الشّاقّة الخارجة عن الطاّقة كانوا يأمرونهم بنقل الطّين واللّبن على السّلاليم مع ان كانوا يقيّدونهم بالسّلاسل أو قوله تعالى (يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ) بيان لسوء العذاب كانوا يقتلون الذّكور من أولاد بنى إسرائيل طلبا لقتل من أخبر الكهنة والمنجّمون بأنّ خراب ملك فرعون بيده وجعل الله رغم أنفه تربية موسى بيده (وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ) يستبقون بناتكم للاسترقاق بقرينة المقابلة لذبح الأبناء أو يفتّشون حياء نسائكم يعنى فروجهنّ لتجسّس العيب كالاماء أو لتجسّس الحمل ، وروى انّه ربّما كان يخفّف العذاب عنهم ويسلم أبناؤهم من الذّبح وينشأون في محلّ غامض ويسلم نساؤهم من الافتراش بما أوحى الله الى موسى (ع) من التّوسّل بالصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع) الطّيّبين (وَفِي ذلِكُمْ) الإنجاء أو سوم سوء العذاب أو المذكور من الإنجاء وسوم سوء العذاب (بَلاءٌ) نعمة أو نقمة أو امتحان بالنّعمة والنقمة كليهما (مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ) والمقصود تذكير بنى إسرائيل بالبلاء العظيم الّذى ابتلى به أسلافهم وتخفيفه بالصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع) الطّيّبين ليتنبّهوا انّ من كان التّوسّل بأسمائهم والصّلوة عليهم رافعا لعذابهم ومورثا لنجاتهم وبركاتهم فالتّوسّل بأشخاصهم (ع) كان اولى في ذلك وتنبيه الامّة على شرافة محمّد (ص) وآله (ع) (وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ) من جنود فرعون ومن الغرق (وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ) اى فرعون وقومه فانّ نسبة أمر الى قوم بسبب الانتساب الى رئيسهم تدلّ على انّ المنتسب اليه

__________________

(١) انقض الطير بتشديد الضاد هوى ليقع.

(٢) زفّ العروس هديها.

٩٣

اولى بذلك الأمر (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) إليهم وهم يغرقون وقد ورد في أخبارنا انّ نجاتهم ونعمهم كانت بتوسّلهم بمحمّد (ص) وآله (ع) والمقصود من ذكر نجاتهم ونعمهم تذكيرهم بتوسّلهم بمحمّد (ص) وآله الطّيّبين حين عدم ظهورهم حتّى يتذكرّوا بأنّ من كان نجاتهم من البلايا ونعمهم بتوسّلهم به حين لم يكن موجودا فالتّوسّل به حين ظهوره اولى وفيه تعريض بالامّة وبنجاتهم ونعمتهم بمحمّد (ص) وآله (ع) وبان لا ينبغي التّخلّف عن قوله ومعاندة آله الّذين كان السّلف بتوسّلهم بهم ينجون ويتنعّمون ، وقصّة خروج موسى (ع) مع بنى إسرائيل من مصر ، وخروج فرعون وجنوده على أثرهم ، وعبور السّبطىّ وغرق القبطىّ مذكورة في المفصّلات ولعلّنا نذكر شطرا منها فيما يأتى.

(وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً) كان موسى بن عمران يقول لبني إسرائيل : إذا فرّج الله عنكم أتيتكم بكتاب من ربّكم مشتمل على ما تحتاجون اليه في دينكم ، فلمّا فرّج الله عنهم امره الله عزوجل ان يأتى للميعاد ويصوم ثلاثين يوما فلمّا كان في آخر الايّام استاك قبل الفطر فأوحى الله عزوجل اليه يا موسى : اما علمت انّ خلوف فم الصّائم أطيب عندي من ريح المسك ، صم عشرا آخر ولا تستك عند الإفطار ؛ ففعل ذلك موسى فكان وعد الله تعالى ان يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة فأعطاه ايّاه فجاء السّامرى فشبّه على مستضعفي بنى إسرائيل وقال وعدكم موسى ان يرجع إليكم بعد أربعين ليلة وهذه عشرون ليلة وعشرون يوما تمّت أربعون أخطأ موسى ربّه وقد أتاكم ربّكم ان يريكم انّه قادر على ان يدعوكم بنفسه الى نفسه وانّه لم يبعث موسى لحاجة منه اليه فأظهر لهم العجل الّذى كان عمله ، فقالوا له : كيف يكون العجل آلهنا؟ ـ قال لهم : انّما هذا العجل يكلّمكم منه ربّكم كما كلّم موسى من الّشجرة فالاله في العجل كما كان في الشّجرة فضّلوا وعبدوه. ونقل انّه صنع صورة العجل ووضعه بحيث كان مؤخرّه الى حائط وحبس خلف الحائط بعض مردته فوضع فاه على دبره وتكلّم بما تكلّم فتوهّموا انّ العجل يكلّمهم. ونقل انّ السّامرىّ كان قد أخذ من تراب اثر قدم رمكة جبرئيل يوم غرق فرعون وكان التّراب في صرّة عنده وكان يفتخر على بنى إسرائيل بذلك وكان موسى قد وعدهم ان يأتى بالكتاب بعد الثّلاثين فلمّا انقضى الثّلاثون ولم يرجع موسى أتى الشّيطان بصورة شيخ وقال لهم : انّ موسى قد هرب ولا يرجع إليكم فاجمعوا لي حليّكم حتّى اتّخذ لكم إلها فصاغ لهم العجل وقال للسّامرىّ : هات التّراب الّذى عندك فأتاه به فألقاه في جوف العجل فتحرّك وخار ونبت له الوبر والشّعر (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) نقل انّ اتّخاذهم العجل كان بتهاونهم بالصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع) وبترك التّوسّل بهم (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ) بتوسّلكم بمحمّد (ص) وآله من بعد ذلك (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمة العفو ونعمة التّوسّل بمحمّد (ص) وآله (ع) (وَإِذْ آتَيْنا) واذكروا إذ آتينا (مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ) ما به يفرق بين الحقّ والباطل والمحقّ والمبطل والمراد بالكتاب النّبوّة والتّوراة صورتها وبالفرقان الرّسالة أو المراد بالكتاب النّبوّة والرّسالة وبالفرقان الولاية فانّها الفارقة بين الخير والشّرّ والخيّر والشّرير والتّوراة صورتهما ولذا فسّر الكتاب بالتّوراة أو النّبوّة يعنى الّتى كانت في موسى (ع) والفرقان بالإقرار بمحمّد (ص) والطيّبيّن من آله (ع) فانّه كالولاية فارق ، نقل انّه لمّا أكرمهم الله بالكتاب والايمان به أوحى الله الى موسى هذا الكتاب قد أقرّوا به وقد بقي الفرقان فرق ما بين المؤمنين والكافرين فجدّد عليهم العهد به فانّى آليت على نفسي قسما حقّا لا أتقبّل من أحدهم ايمانا ولا عملا الّا به ، قال موسى (ع) : ما هو

٩٤

يا ربّ؟ ـ قال الله : يا موسى تأخذ عليهم انّ محمّدا (ص) خير النّبيّين وسيّد المرسلين ، وانّ أخاه ووصيّه عليّا خير الوصيّين ، وأنّ أولياءه الّذين يقيمهم سادة الخلق ، وانّ شيعته المنقادين له ولخلفائه نجوم الفردوس الا على وملوك جنّات عدن فأخذ عليهم موسى ذلك ؛ فمنهم من اعتقده حقّا ومنهم من أعطاه بلسانه دون قلبه ، فالفرقان النّور المبين الّذى كان يلوح على جبين من آمن بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وعترتهما وشيعتهما وفقده من جبين من أعطى ذلك بلسانه دون قلبه أقول : الإقرار بهذه المعاني والمراتب المذكورة ليس الّا بقبول الولاية فانّه بالولاية يتبيّن مراتب الوجود وأنّ بعضها أفضل من بعض ومراتب الرّسل والأوصياء وانّ بعضهم أكمل من بعض لا بغيرها (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى مقامات الأنبياء والرّسل ومراتب الوجود ومراحل السّلوك وعوالي العوالم (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) عدّ نعمة أخرى فانّ توجّه موسى إليهم وتذكيرهم بالتّوبة وتعليمهم طريق التّوبة نعمة عظيمة كما انّ قبولهم لقوله (ع) وتوبتهم بقتل أنفسهم كانت نعمة عظيمة (يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ) آلها (فَتُوبُوا) عن ظلمكم وضلالكم بما برأتم (إِلى بارِئِكُمْ) التّعليق على الوصف للاشعار بعلّة التّوبة والتّنبيه على غاية الغباوة بالانصراف عن الباري الى المبروء (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) الّتى اقتضت الانصراف عن الباري الى المبروء الّذى هو غاية الحماقة ؛ فالمراد بالأنفس الأنفس المقابلة للعقول ، أو فاقتلوا وأفنوا أنانيّاتكم الّتى اقتضت الاستقلال بالآراء الكاسدة ، أو اقتلوا ذواتكم بقتل بعضكم بعضا. وما ورد في الاخبار من أنّهم أمروا ان يقتلوا أنفسهم بالسّيوف وأنّهم كانوا سبعين ألفا شهروا السّيوف على وجوههم يدلّ على ذلك ، مثل ما ورد انّ العابدين كانوا ستّمائة الف الّا اثنى عشر ألفا وهم الّذين لم يعبدوا العجل أمر الله اثنى عشر ألفا لم يعبدوا العجل ان يقتلوا الّذين عبدوا العجل فشهروا سيوفهم وقالوا : نحن أعظم مصيبته من عبدة العجل نقتل آباءنا وقراباتنا بأيدينا فنزل الوحي على موسى (ع) ان قل لهم : توسّلوا بالصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع) حتّى يسهل عليكم ذلك فتوسّلوا فسهل عليهم ذلك فلّما استمرّ القتل فيهم وهم ستّمائة الف الّا اثنى عشر ألفا واستسلموا لذلك وقف الله الّذين عبدوا العجل على مثل ذلك فتوسّلوا فتاب الله عليهم فرفع القتل. ونقل انّه قتل منهم عشرة آلاف فوقفوا فرفع القتل (ذلِكُمْ) القتل (خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ) كرّر الباري للتّلذذ والتّمكين وإحضار الله بالوصف المخصوص تأكيدا لنسبة الغباوة إليهم بالانصراف عن عبادة الباري الى عبادة المبروء.

اعلم انّ اسم الله وسائر أسمائه تعالى قد تكرّر في الكتاب كثير تكرار ، والوجه العامّ التّمكين في القلوب وتلذّذ الموحى اليه بسماعه وذكره ويوجد في خصوص المقامات دواع خاصّة غير ذلك سواء اقتضت الدّواعى أسماء خاصّة مثل اقتضاء مقام التّهديد الأسماء القهريّة كالاسماء الدّالّة على الغضب والانتقام وسرعة الانتقام ومثل اقتضاء مقام الوعد الأسماء اللّطفيّة اولا.

(فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ) لن نذعن (لَكَ) بالنبوة (حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ) بجرأتكم على نبيّكم وعلى ربّكم وسوء أدبكم (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) الى الصّاعقة تنزل بكم فمتّم (ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ) اشارة الى انّ البعثة كانت عن موت لا عن إغماء ، وهذه الآية تدلّ

٩٥

على جواز الرّجعة كما ورد الاخبار بها وصارت كالضّرورىّ في هذه الامّة وقد احتجّ أمير المؤمنين (ع) بها على ابن الكّواء في إنكاره الرّجعة ، وورد انّه سئل الرّضا (ع) كيف يجوز ان يكون كليم الله موسى بن عمران لا يعلم انّ الله لا يجوز عليه الرّؤية حتّى يسأله هذا السّؤال؟ ـ فقال : انّ كليم الله علم أنّ الله منزّه عن ان يرى بالأبصار ولكنّه لمّا كلّمه وقرّبه نجيّا رجع الى قومه فأخبرهم أنّ الله كلّمه وقرّبه وناجاه فقالوا : لن نؤمن لك حتّى نسمع كلامه كما سمعته ؛ وكان القوم سبعمائة الف فاختار منهم سبعين ألفا ثمّ اختار منهم سبعة آلاف ثمّ اختار منهم سبعمائة ثمّ اختار منهم سبعين رجلا لميقات ربّه ؛ فخرج بهم الى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل وصعد موسى الى الطّور وسأل الله ان يكلّمه ويسمعهم كلامه وكلّمه الله وسمعوا كلامه من فوق وأسفل ويمين وشمال ووراء وامام لانّ الله أحدثه في الشّجرة ثمّ جعله منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا : لن نؤمن بأنّ هذا الّذى سمعناه كلام الله حتّى نرى الله جهرة ، فلمّا قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا بعث الله عليهم صاعقة فأخذتهم الصّاعقة بظلمهم فماتوا ، فقال موسى (ع) : ما أقول لبني إسرائيل إذا رجعت إليهم وقالوا انّك ذهبت بهم فقتلتهم ؛ لانّك لم تكن صادقا فيما ادّعيت من مناجاة الله ايّاك؟ فأحياهم وبعثهم فقالوا : انّك لو سألت الله ان يريك تنظر اليه لأجابك فتخبرنا كيف هو ونعرفه حقّ معرفته فقال موسى (ع) : يا قوم انّ الله لا يرى بالأبصار ولا كيفيّة له وانّما يعرف بآياته ويعلم بأعلامه فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسأله ، فقال موسى (ع): يا ربّ انّك قد سمعت مقالة بنى إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله اليه يا موسى (ع) : سلني ما سألوك فلم أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ، قالَ : لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ) وهو يهوى (فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) بآية من آياته (جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ : سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ) يقول رجعت الى معرفتي بك عن جهل قومي (وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) منهم بأنّك لا ترى.

وذكر في الاخبار أنّ موسى اختار من قومه وهم سبعمائة ألف سبعين رجلا من خيار القوم بزعمه وقد وقع اختياره على الأفسد مع ظنّه أنّهم الاصلحون وإذا كان اختيار مثل موسى (ع) رسولا من اولى العزم واقعا على الأفسد علمنا انّ اختيار الخلق معزول عن تعيين الامام الّذى ينبغي ان يكون أصلح الخلق. وورد انّ موسى (ع) لمّا أراد ان يأخذ عليهم عهد الفرقان فرّق ما بين المحقّين والمبطلين لمحمّد (ص) بنبوّته ولعلىّ (ع) والائمّة بإمامتهم قالوا لن نؤمن لك ان هذا امر ربّك حتّى نرى الله عيانا يخبرنا بذلك فأخدتهم الصّاعقة معاينة فقال موسى : للباقين الّذين لم يصعقوا أتقبلون وتعترفون والّا فأنتم بهؤلاء لاحقون فقالوا : لا ندري ما حلّ بهم فان كانت انّما أصابتهم لردّهم عليك في أمر محمّد (ص) وعلىّ (ع) فاسأل الله ربّك بمحمّد (ص) وآله (ع) ان يحييهم لنسألهم لماذا أصابهم ، فدعى الله موسى فأحياهم فسألوهم فقالوا : أصابنا ما أصابنا لابائنا اعتقاد إمامة علىّ (ع) بعد اعتقاد نبوّة محمّد (ص) لقد رأينا بعد موتنا هذا ممالك ربّنا من سماواته وحجبه وعرشه وكرسيّه وجنانه ونيرانه فما رأينا أنفذ أمرا في جميع الممالك وأعظم سلطانا من محمّد (ص) وعلىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وانّا لمّا متنا بهذه الصّاعقة ذهب بنا الى النّيران فناداهم محمّد (ص) وعلىّ (ع) كفوّا عن هؤلاء عذابكم فانّهم يحيون بمسئلة سائل سأل ربّنا عزوجل بنا وبآلنا الطّيبين (ع) قال الله لأهل عصر محمّد (ص) : فاذا كان بالدّعاء بمحمّد (ص) وآله الطيّبين (ع) نشر ظلمة أسلافكم المصعوقين بظلمهم فانّما يجب عليكم ان لا تتعرّضوا لمثل ما هلكوا به الى ان أحياهم الله (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) قد مضى وجه نسبة فعل الاسلاف الى الأخلاف وأنّها بملاحظة السّنخيّة بينهم وملاحظة رضا الأخلاف بفعل الاسلاف ،

٩٦

ولمّا كان الشّكر بمعنى ملاحظة المنعم في النّعمة أو صرف النّعمة فيما خلقت لأجله وكلّ منهما لا يمكن للمحتجب بالانانيّة والمقيّد بالحيوة الدّانية عقّب البعث الّذى هو الحيوة الإلهيّة بعد الاماتة عن الحيوة الدّانية والخروج من الانانيّة بترقّب الشّكر (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ) حين كونكم تائهين في التّيه ليقيكم من ضرّ حرّ الشّمس وبرد القمر (وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَ) فسّر المنّ بالتّرنجبين (وَالسَّلْوى) بالعسل وبالطّائر المشوىّ وبالسّمانى وهو طير يشبه الحمام أطول ساقا وعنقا منه (كُلُوا) اى قائلين كلوا (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) والأمر في أمثال المقام أعمّ من الاباحة والوجوب والرّجحان بحسب اعداد الأشخاص وأحوال الشّخص الواحد ومقدار الاكل لشخص واحد في حال واحدة والمراد بما رزقه الله هاهنا ان كان المنّ والسّلوى فاضافة الطيّبات للتّبيين لا للتّقييد ، وان كان المراد مطلق ما رزقه الله العباد فالاضافة للتّقييد اى تقييد المضاف اليه بالمضاف ، أو نقول : ان كان المراد بالمرزوق المنّ والسّلوى فطيبوبته وعدم طيبوبته بذكر اسم الله عليه وعدمه والمعنى كلوا ممّا ذكر اسم الله عليه ولا تأكلوا ممّا لم يذكر اسم الله عليه وحينئذ فالاضافة للتّقييد وفي تفسير القمىّ لمّا عبر موسى (ع) بهم البحر نزلوا في مفازة فقالوا : يا موسى أهلكتنا وأخرجتنا من العمران الى مفازة لا ظلّ فيها ولا شجر ولا ماء فكانت تجيء بالنّهار غمامة تظلّهم من الشّمس وتنزّل عليهم باللّيل المنّ فيأكلونه وبالعشىّ يجيء طائر مشويّ فيقع على موائدهم فاذا أكلوا وشبعوا طار عنهم وكان مع موسى (ع) حجر يضعه في وسط العسكر ثمّ يضربه بعصاه فينفجر منه اثنتا عشرة عينا فيذهب الماء الى كلّ سبط وكانوا اثنى عشر سبطا فلمّا طال عليهم ملوّا وقالوا : يا موسى لن نصبر على طعام واحد (وَما ظَلَمُونا) بكفران النّعمة واستبدال الأدنى بالّذى هو خير أو ما ظلمونا بالاعتراض على موسى (ع) وعدم مراعاة تعزيزه وتوقيره وهو تعريض بأمّة محمّد (ص) وكفرانهم النّعمة وعدم تعظيم محمّد (ص) والائمّة (ع). وعن الباقر (ع) انّه قال : انّ الله أعظم وأعزّ وأجلّ وأمنع من ان يظلم ولكنّه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه وولايتنا ولايته حيث يقول : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يعنى الائمّة منّا (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) باستبدال الأدنى بالّذى هو خير ، أو بإزالة النّعمة بالكفران ، أو بظلم الائمّة الّذين هم أنفس الخلائق وذواتهم حقيقة ، أو بظلم الائمّة المسبّب أو السّبب لا هلاك أنفسهم (وَإِذْ قُلْنَا) واذكروا يا بنى إسرائيل إذ قلنا لكم حين خرجتم من التّيه (ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ) وهي بيت المقدّس أو أريحا من بلاد الشام (فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً) واسعا بلا تعب (وَادْخُلُوا الْبابَ) اى باب القرية أو باب القبّة الّتى في بيت المقدّس كانوا يصلّون إليها (سُجَّداً) ساجدين لله أو خاضعين متواضعين للّشكر على خروجكم من التّيه ذكر أنّه مثّل الله تعالى على الباب مثال محمّد (ص) وعلىّ (ع) وأمرهم ان يسجدوا تعظيما لذلك ويجدّدوا على أنفسهم بيعتهما وذكر موالاتهما ويذكروا العهد والميثاق المأخوذين عليهم (وَقُولُوا) بألسنتكم هذه الفعلة من السّجود والتّعظيم لمثال محمّد (ص) وعلىّ (ع) (حِطَّةٌ) لذنوبنا أو قولوا بألسنة قلوبكم أو اعتقدوا ذلك أو هو مصدر مبنىّ للمفعول اى قولوا بألسنة أجسادكم أو قلوبكم لنا حطّة وسفلية بالنّسبة الى المثال المذكور وهي فعله من حطّة إذا أنزله وألقاه وقرئ حطّة بالنّصب مفعولا لفعل محذوف وعلى أىّ تقدير فهذه الكلمة امّا جزء جملة محذوفة المبتدأ أو محذوفة الخبر أو قائمة مقام جملة محذوفة وعلى التّقادير فهي امّا انشائيّة دعائيّة أو خبريّة (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ)

٩٧

لمن كان مخطئا منكم (وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ) منكم الجملة مستأنفة لبيان حال المحسن مخطيا كان أو غير مخطئ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) اى لم يسجدوا كما أمروا ولا قالوا ما أمروا بل دخلوا الباب بأستاههم وقالوا بدل حطّة : حنطة حمراء نتقوّتها أحبّ إلينا من هذا الفعل وهذا القول ، أو قالوا حنطة في شعير. وروى أنّه كان خلافهم انّهم لمّا بلغوا الباب رأوا بابا مرتفعا وقالوا : ما بالنا نحتاج ان نركع عند الدّخول هاهنا ظننّا أنّه باب متطأمن لا بدّ من الرّكوع فيه وهذا باب مرتفع والى متى يسخر بنا هؤلاء يعنون موسى ثمّ يوشع بن نون ويسجدوننا في الأباطيل وجعلوا أستاههم نحو الباب وقالوا بدل قولهم حطّة : ما معناه حنطة حمراء فذلك تبديلهم (فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) وضع الظّاهر موضع المضمر وتكرار الموصول لتمكين قبح الظّلم في قلوب المستمعين والاشعار بسببيّته للزّجر كما انّ تعليق التّبديل على الموصول كان للاشعار بسببيّته لتبديل قول النّبىّ (ص) الّذى هو قول الله والمقصود التّعريض بأمّة محمّد (ص) وظلمهم لأهل البيت (ع) وتبديلهم قول النّبىّ (ص) ونسب الى الباقر (ع) أنّه قال : نزل جبرئيل (ع) بهذه الآية فبدّل الّذين ظلموا آل محمّد (ص) حقّهم غير الّذى قيل لهم فأنزلنا على الّذين ظلموا آل محمّد (ع) وهذا باعتبار المعرّض به والمقصود من الآية (رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) الرّجز بالكسر وبالضّم بمعنى العذاب أو النّجاسة أو مطلق ما يعاف عنه كالرّجس (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) يخرجون من امر الله وطاعته ذكر انّ الرّجز الّذى أصابهم انّه مات منهم في بعض يوم بالطّاعون مائة وعشرون ألفا وهم الّذين كانوا في علم الله أنّهم لا يؤمنون ولا يتوبون ولم ينزّل على من علم أنّه يتوب أو يخرج من صلبه ذرّيّة طيّبة (وَ) اذكروا (إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ) لم يقل لكم بالخطاب كما أتى بخطاب الحاضرين من بنى إسرائيل في السّابق واللّاحق تجديدا للاسلوب واشعارا بأنّ استسقاء موسى كان لبني إسرائيل من حيث كونهم قومه وموافقين له متضرعين اليه مستحقّين لطلب الرّحمة لهم وليس الحاضرون اسناخا لهم من هذه الجهة حتّى يخاطبوا من هذه الحيثيّة فانّهم لما عطشوا في التّيه التجأوا الى موسى وتضرّعوا عليه واستسلموا لأمره فاستسقى لهم (فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ) وكان ذلك الحجر حجرا مخصوصا فضربه بها داعيا بمحمّد (ص) وآله الطيّبين (ع) نسب الى الباقر (ع) انّه قال نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة ؛ مقام إبراهيم (ع) ، وحجر بنى إسرائيل ، والحجر الأسود. وعنه إذا خرج القائم من مكّة ينادى مناديه : الا لا يحملنّ أحد طعاما ولا شرابا وحمل معه حجر موسى بن عمران وهو وقر بعير ولا ينزل منزلا الّا انفجرت منه عيون ؛ فمن كان جائعا شبع ، ومن كان ظمأن روى ، ورويت دوابّهم حتّى ينزلوا النّجف من ظهر الكوفة (فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ) من الأسباط الاثنى عشر من أولاد يعقوب (مَشْرَبَهُمْ) ولا يزاحمون الآخرين في مشربهم ، وكأنّ مشرب كلّ كان معلوما مميّزا عن مشارب الآخرين قائلين لهم (كُلُوا) من المنّ والسّلوى ، أو كانت العيون تنبع بما فيه غذاؤهم وشرابهم كما أشار اليه الخبر السّابق (وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) حال مؤكّدة فانّ العثو بمعنى الإفساد (وَإِذْ قُلْتُمْ) واذكروا أتى بالخطاب لمجانسة الحاضرين للماضين في الإنكار والكفران (يا مُوسى

٩٨

لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) يعنى قال اسلافكم في التّيه لن نصبر على المنّ والسّلوى ولا بدّ لنا من غذاء آخر معهما (فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها) البقل ما يؤكل من نبات الأرض خضرا مثل الكرّاث والنّعناع والكرفس ونحوها ويطلق على مطلق نبات اخضرّت به الأرض (وَقِثَّائِها) بالمدّ وتشديد الثّاء وكسر القاف وقد يضمّ الخيار ، وبعضهم يطلق القثّاء على نوع شبه الخيار (وَفُومِها) الحنطة أو الخبز أو مطلق الحبوب المأكولة وقيل الثّوم وقرء بالثّاء (وَعَدَسِها وَبَصَلِها) قال الله تعالى أو موسى (ع) (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى) وأدون مرتبة من المنّ والسّلوى (بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) فانّهما ألّذ وأقوى وألطف (اهْبِطُوا) من هذه التّيه (مِصْراً) من الأمصار أو المراد المصر العلمىّ وصرفه لسكون أوسطه (فَإِنَّ لَكُمْ) فيها (ما سَأَلْتُمْ) من البقول والقثّاء والفوم وغيرها (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) الهوان شبّه الذّلّة المضروبة عليهم بالقبّة لاحاطتها بهم من جميع الجوانب أو بالطّين المضروب الملصق على الجدار ثمّ استعمل الضّرب فيها (وَالْمَسْكَنَةُ) هي أسوء من الفقر وهذا عذابهم في الحيوة الدّنيا وذلك انّه ما ينفكّ اليهود عن الحرص والطّمع وهما أعظم أسباب الذّلّة والحاجة وهم في الظّاهر أسوأ حالا من النّصارى (وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) رجعوا عن مقام السّؤال متلبّسين بغضب عظيم من الله ، أو صاروا أحقّاء بغضب من الله في الآخرة (ذلِكَ) المذكور من ضرب الذّلّة والمسكنة والرّجوع بالغضب يا أمّة محمّد (ص) فانّه للتّعريض بهم (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ) تخلّل كانوا للاشارة الى انّ الكفر صار سجيّة لهم وكذا قتل الأنبياء (بِآياتِ اللهِ) صغريها وكبراها في العالم الصّغير والكبير ، والآيات الكبرى هم الأنبياء (ص) والأولياء (ع) (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ) المخبرين من الله سواء كانوا أنبياء أو خلفاءهم أو النّبيّين المخصوصين الّذين هم غير الأوصياء (بِغَيْرِ الْحَقِ) لمحض البيان فانّه لا يقتل نبىّ بالحقّ (ذلِكَ) الكفر بالآيات والقتل (بِما عَصَوْا) الله وخلفائه (وَكانُوا يَعْتَدُونَ) على الخلفاء أو يتجاوزون أمر الله ، وتخلّل كانوا للاشارة الى تمكّنهم في الاعتداء والمقصود انّ العصيان صار سببا للاعتداء والتّمكّن فيه ، والتّمكّن في الاعتداء صار سببا للكفر والقتل ، وهما صارا سببا للذّلّة والمسكنة والغضب ؛ فاحذروا يا أمّة محمّد (ص) من مقارفة صغار الذّنوب حتّى لا تؤدّى الى كبارها والى العقوبة بالذّلّة والمسكنة في الدّنيا والغضب في الآخرة ، أو بكلّ منها فيهما ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : يا عباد الله فاحذروا الانهماك في المعاصي والتّهاون بها فانّ المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتّى توقعه فيما هو أعظم منها ؛ فلا يزال يعصى ويتهاون ويخذل ويوقع فيما هو أعظم ممّا جنى حتّى توقعه في ردّ ولاية وصىّ رسول الله (ع) ودفع نبوّة نبىّ الله (ص) ، ولا يزال أيضا بذلك حتّى توقعه في دفع توحيد الله والإلحاد في دين الله ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : والله ما ضربوهم بأيديهم ولا قتلوهم بأسيافهم ولكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها فقتلوا فصار قتلا باعتداء ومعصية وبهذا المضمون أخبار كثيرة.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ الّذى هو نفس البيعة العامّة أو الحاصل بالبيعة العامّة أو الشّبيه

٩٩

بالحالة الحاصلة من البيعة العامّة كما سبق مفصّلا والحاصل أنّ المراد بالايمان هذا هو معنى الإسلام (وَالَّذِينَ هادُوا) هاد وتهوّد وسائر متصرّفاتهما من المشتقّات الجعليّة المأخوذة من اليهود بمعنى دخل في اليهوديّة أو انتحلها ، ويهود امّا عربيّ من هاد إذا تاب ؛ سمّوا به لأنّهم تابوا على يد نبيّهم ، أو لأنّهم تابوا عن عبادة العجل ، وامّا معرّب يهودا أكبر أولاد يعقوب سمّوا باسمه (وَالنَّصارى) والّذين تنصّروا عدل عن الموصول وصلته لانّ نصر لم يستعمل مأخوذا من النّصرانيّة ومعناه اللّغوى غير مقصود وتنصّروا ان كان من المشتقّات الجعليّة المأخوذة من النّصرانيّة لكنّ الأغلب استعماله في انتحال النّصرانيّة لا في الدّخول فيها ، والنّصارى جمع النّصران كالسّكارى والسّكران وصف مأخوذ من نصر ؛ سمّوا به لأنّهم نصروا عيسى (ع) ، أو مأخوذ جعلىّ من النّاصرة ، أو من النّصرانة اسم قرية نزلتها مريم وعيسى (ع) بعد رجوعهما من مصر ، واجتمع النّصارى فيها ، والياء في النّصرانىّ للمبالغة أو للنّسبة على الأخير (وَالصَّابِئِينَ) عبدة الكواكب سمّوا به لأنّهم صبّوا اى مالوا الى دين الله أو عن دين الله ان قرء بدون الهمزة أو لانّهم صبئوا عن دين الله أو صبؤا الى دين الله اى خرجوا ان قرأ بالهمزة وعدل عن الموصول لما ذكر في النّصارى (مَنْ آمَنَ) منهم (بِاللهِ) بالايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب ودخول الإنسان في دار الايمان وقبول الولاية واحكام القلب أو المراد بالايمان معناه اللّغوىّ اى من أذعن بالله أو بعلىّ (ع) لانّه مظهره ، أو المراد بالايمان الإسلام اى من آمن بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة بالله ، (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً) اى عمل الأعمال المأخوذة عليه في بيعته على المعنى الاوّل للايمان ، أو المراد بالعمل الصّالح على المعنيين الأخيرين للايمان البيعة الخاصّة الولويّة فانّها أصل الأعمال الصّالحة وبدونها لا يكون عمل صالح أصلا (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) اى الأجر الّذى ينبغي ان يكون لهم ولا يمكن معرفته الّا بالاضافة إليهم (عِنْدَ رَبِّهِمْ) والتّقييد بكونه عند ربّهم تعظيم آخر للأجر والمقصود انّ الإسلام واليهوديّة والنّصرانيّة والصّابئيّة متساوية في ثبوت الأجر العظيم إذا انتهى كلّ منها الى الولاية وقبول الدّعوة الباطنة ودخول الايمان في القلب ، وإذا لم ينته الى الولاية فالعبارة تدلّ بمفهوم المخالفة على ان لا أجر عند ربّهم لشيء منها سواء لم يكن أجر أو كان ولكن لم يكن عند ربّهم ، وتفصيل هذا الإجمال كما يستفاد من الآيات والاخبار انّ من أنكر الولاية فله عقوبته ، ومن لم ينكر ولم يذعن فهو مرجئ لأمر الله ؛ امّا يعذّبه وامّا يتوب عليه سواء كان المنكر مسلما أو غيره ، ومن لم ينكر ولم يذعن ولكن كان في زمان الرّسول ووقف على البيعة العامّة كان ناجيا ببيعته العامّة مع الرّسول فانّ الله لا يليته من أعماله شيئا (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى بيان مفصّل لهذه الآية فلا نعيده (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) اى على أيدى أنبيائكم أو خلفائهم ، والمراد بالميثاق هو العهد المأخوذ في البيعة العامّة أو الخاصّة ، والاضافة للعهد اى الميثاق المأخوذ بنبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) أو الميثاق المأخوذ بالتّوحيد والنّبوّة والإقرار بما جاء به نبيّهم ومنه نبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) وان يؤدّوه الى أخلافهم ولذا ورد تفسير الميثاق بهما امّا لكونهما مذكورين في البيعة أو لكون الإقرار بنبوّة كلّ نبىّ وولاية كلّ ولىّ إقرارا بنبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) لكون نبوّة الأنبياء وولاية الأولياء رقائق لنبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) والرّقيقة جزئيّة من الحقيقة كما انّها كلّ بالنّسبة إليها والإقرار بالجزئىّ إقرار بالكلىّ كما انّ الإقرار

١٠٠