تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

بالبيعة مع محمّد (ص) أو شؤن النّفس المستضيئة بنور الإسلام أو الشّؤن المستعدّة للاستضاءة بنور الإسلام أو الايمان ، أو من قبيل عطف الجمع اى ما ربحوا ما صاروا مهتدين الى طريق النّجاة (مَثَلُهُمْ) في قبول نور الإسلام والاستضاءة به (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) المثل بالتّحريك والمثل بالكسر والإسكان والمثيل كالشّبه والشّبه والشّبيه لفظا ومعنى لكن استعمال المثل بالتّحريك في التشبيه المركّب أكثر ولذا صار اسما للقول السّيّار في العرف العامّ والموصول كالمعرّف باللّام قد يكون لتعريف الجنس وحينئذ يجوز ان يجرى على مفرده حكم الإفراد والجمع كما هنا فانّه أفرد بعض الضّمائر الرّاجعة اليه وجمع بعضها وكما في قوله تعالى (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا) على ان يكون الفاعل عائد الموصول ولم يأت بالعاطف هنا مع أنّه متفرّع على اشتراء الضّلالة مثل الجملتين السابقتين وجعله مستأنفا لجواب سؤال مقدّر تجديدا لنشاط السامع بتغيير الأسلوب ويحتمل ان يكون حالا (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ) أضائت متعدّ مسند الى ضمير النّار أو لازم مسند الى ما باعتبار كونه بمعنى الأماكن والأشياء الّتى حوله ، أو لازم مسند الى ضمير النّار وما حوله بدل عنه بدل الاشتمال (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ) وحدّ النّور وجمع الظلمة للاشارة الى وحدة حقيقة النّور وانّ الوحدة ذاتيّة للنّور ولغيره بعرض النّور ، وللاشارة الى كثرة الظّلمة وانّ الكثرة ذاتيّة لها ولغيرها عرضيّة ، وسيأتى تحقيق لهذا في اوّل سورة الانعام ان شاء الله والمراد بالظّلمات في الممثّل له ظلمات شؤن النّفس المتراكمة فانّ الإنسان كلّما ازداد بعدا من نور الإسلام ازداد توغّلا في شؤن النّفس المظلمة ، وتعريف النّور بالاضافة وتنكير الظّلمات لما سبق من كون النّور ذاتيّا للإنسان والظّلمة عرضيّة (لا يُبْصِرُونَ) حال أو صفة بحذف العائد أو مستأنف أو مفعول ثان لترك إذا جعل بمعنى صيّر ، أو مفعول بعد مفعول إذا جعل في ظلمات مفعولا ثانيا وترك المفعول لترك القصد اليه كان الفعل جعل لازما أو لقصد التّعميم في المفعول.

(صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) قد علمت فيما مضى انّ السّمع والبصر لكل منهما كوّة الى الخارج وكوّتان من جهة الباطن الى عالم الملائكة وعالم الجنّة وكوّتهما الى عالم الملائكة ذاتيّة وكوّتهما الى عالم الجنّة عرضيّة وختمهما عبارة عن سدّ كوّتهما الى عالم الملائكة ، والصّمم والعمى عبارة عن سدّ الكوّتين اللّتين هما الى عالم الملائكة بحيث لا يسمع من المسموعات جهتها الحقّانيّة الّتى تؤدّى الى عالم الملائكة ولا يسمع من عالم الملائكة ولا من الملك الزّاجر ولا يبصر من المبصرات جهتها الحقّانيّة وبعبارة أخرى مدارك الإنسان مسخّرة تحت حكم الخيال فان كان الخيال مسخّرا تحت حكم العاقلة كان إدراكها من الجهة المطلوبة من إدراكها وان كان مسخّرا تحت حكم الشّيطان لم يكن إدراكها من الجهة المطلوبة منها وهكذا حكم اللّسان (فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) عن دار الضّلالة الى دار الهدى لعدم سماعهم نداء المنادي لهم الى دار الهدى والى طريق النّجاة ولا صداء الغيلان في دار الضّلالة حتّى يستوحشوا ولعدم أبصارهم موذيات دار الضّلالة ولا ملذّات دار السّعادة ولا طريق الخروج منها الى دار السّعادة ولعدم نطق لهم يستغيثون به بغيرهم ويذكرون مالهم من الآلام حتّى يرحموا والمقصود من التّمثيل الّذى كثر في كلام الله وكلام خلفائه بيان الأحوال الباطنة لأهل الانظار الحسيّة بالأحوال الظّاهرة ولذلك قد يذكر المثل قبل اداة التشبيه وبعدها وقد يذكر نفس الأحوال كما في قوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) اى حال المنافقين في قرع الكلمات المهدّدة المندرجة فيها الرّحمة المستنيرة

٦١

بنورها القلوب أسماعهم كصيّب اى مطر أو سحاب فهو معطوف على قوله (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ) لا على الّذى استوقد كما قيل (فِيهِ ظُلُماتٌ) ظلمة اللّيل وظلمة تتابع المطر وظلمه تراكم السّحاب.

تحقيق الرعد والبرق والسّحاب والمطر

(وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) اعلم انّ السّحاب والرعّد والبرق من جملة كائنات الجوّ وسبب تكوّن السّحاب تصاعد البخار من الأراضي الرّطبة المتسخّنة بالشّمس أو بكونها كبريّتية أو مالحة سبخة فاذا تصاعد البخار ووصل قبل تحلّله واستحالته الى الهواء الى قريب كرة الزمهرير تراكم وصار سحابا حاجبا لما وراءه ، والبخار عبارة عن أجزاء رشّيّة مائيّة مختلطة بأجزاء هوائيّة وبعد التّراكم يجتمع الاجزاء المائيّة ويستحيل شيء من الاجزاء الهوائيّة الى الماء فان لم تنعقد ببرودة الهواء صارت مطرا ، وان انعقدت بعد الاجتماع صارت بردا ، وان انعقدت قبل الاجتماع التّامّ صارت ثلجا ، وقد يتصاعد من الأراضي السّبخة والكبريتيّة دخان مختلط مع البخار ، والدّخان مركّب من الاجزاء الارضيّة والاجزاء النّاريّة المختلطة بالاجزاء الهوائيّة ، فاذا وصل ذلك البخار الى كرة الزّمهرير وتراكم واحتبس الاجزاء الدخانيّة بين الاجزاء البخاريّة والحال انّ الاجزاء الارضيّة مائلة بالطّبع الى السّفل والاجزاء النّاريّة مائلة بالطّبع الى العلو فما دام النّاريّة غالبة يتحرّك الاجزاء الدّخانيّة من بين السّحاب الى العلو بالشدّة وان كانت الاجزاء الارضيّة غالبة تتحرّك الى السّفل بالشّدة وبحركتها الشّديدة تخرق السّحاب الّذى هو أغلظ من الهواء ويحصل من خرقها الصّوت الّذى يسمّى رعدا ، فان كان مادّة الدخان لطيفة يشتعل بتسخين الحركة وسخونة الاجزاء النّاريّة وينطفى بسرعة ويسمّى برقا ، وان كانت غليظة يشتعل ولا ينطفى بسرعة بل يبقى حتّى يصل الى الأرض ويسمّى صاعقة ، ولا ينافي ما ذكر ما ورد في الاخبار من انّ الرّعد أصوات أسواط الملائكة الموكّلة على السّحاب (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) حال أو صفة أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل ما حال النّاس والضّمير راجع الى النّاس المستفاد بالملازمة (مِنَ الصَّواعِقِ) من أجل الصّواعق جمع الصاعقة (حَذَرَ الْمَوْتِ) من خرق صوت الصّاعقة اصمختهم أو ضمير يجعلون راجع الى المنافقين كأنّه سأل سائل عن حال المنافقين الممثّل لهم ، ويكون الصّواعق حينئذ مجازا عن الكلمات الّتى تقرع أسماعهم ممّا فيه تهديد ووعيد شديد وهذا أوفق بقوله (وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) اى بهم فوضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بذمّ آخر لهم ، هذا على ان يكون ضمير يجعلون راجعا الى المنافقين والجملة حالا من فاعل يجعلون والمعنى لا ينفعهم الحذر إذ لا يمكن الفرار من حكومته (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) جواب سؤال آخر كأنّه قيل ، ما حال الممطرين أو المنافقين مع البرق ، والخطف الاذهاب بسرعة ، أو حال مترادفة أو متداخلة (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا) استيناف آخر وجواب سؤال ثالث أو حال مترادفة أو متداخلة ، وأضاء متعدّ ولازم وكذلك أظلم وان كان متعدّية في غاية القلّة والمعنى كلّما أضاء الله أو البرق ما حولهم أو الطّريق مشوا في الضّياء أو في ما حولهم أو في الطّريق ، وإذا أظلم الله ما حولهم أو إذا أظلم ما حولهم أو الطّريق أو المعنى كلّما أضاء ما حولهم أو الطّريق ، وإذا أظلم ما حولهم أو الطّريق ، ولمّا كان الإنسان بالفطرة كادحا الى الله والى الخيرات فكلّما وجد معينا من عالم النّور سعى اليه لا محالة ، وإذا لم يجد المعين من عالم الخيرات قد يقف

٦٢

وقد يسعى بفطرته ولذلك أتى بالشّرطيّة الاولى كليّة وبالثّانية مهملة (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ) مفعول شاء محذوف بقرينة الجواب ومثله كثير في كلامهم لا يذكر المفعول الّا قليلا وقد مضى وجه افراد السّمع والمعنى لو شاء الله ان يذهب بسمعهم بالصّاعقة وببصرهم بوميض البرق ، أو لو شاء الله ان يذهب بسمعهم حتّى لا يسمعوا صوت الرّعد والصّاعقة ، أو المعنى لو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم حتّى لا يسمعوا كلمات التّهديد والوعيد ، ولا يبصروا آيات الله الدّالة على حقّيّته وحقيّة نبيّه على ان يكون الالتفات الى الممثّل له ويكون الضّمائر راجعة الى المنافقين والجملة عطف على الشّرطيّة السّابقة أو حال أو مستأنفة على تجويز إتيان الواو للاستيناف (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) استيناف لتعليل السّابق والشّيء من المفاهيم العامّة الشّاملة للواجب والممكن ولا اختصاص له بالممكن وعلى هذا فعمومه مخصّص بما سوى الواجب تعالى ، والقدرة فسّرت بصحّة الفعل والتّرك وهذا للمتكلّمين ، ولا يصحّ تفسير قدرة الله به لانّه يلزم منه ان يكون نسبة الأفعال اليه تعالى بالإمكان والحال انّ واجب الوجود بالذّاب واجب من جميع الجهات كما حقّق في محلّه ، وفسّرت بكون الفاعل في ذاته ان شاء فعل وان لم يشأ لم يفعل ؛ وهذا يعمّ قدرة الواجب والممكن لعدم اقتضاء الشّرطية إمكان وضع المقدّم بل تصحّ مع ضرورة وضع المقدّم وإمكانه ، ولمّا انساق ذكر الكتاب الى فرق النّاس من المتّقين وما هم عليه وما هو لهم ، ومن الكفّار وما هم عليه وما هو عليهم ، ومن المنافقين وما هم عليه وما هو عليهم عقّب ذلك بالأمر بالعبادة المستعقبة للتّقوى المستعقبة لما ذكر للمتّقين كأنّه نتيجة له وفرع على ذكر الفرق وما لهم وما عليهم وصدّر الكلام بالنّداء تهييجا لنشاط السّامع بلذّة المخاطبة اهتماما بشأن العبادة وعدل عن الغيبة الى الخطاب بطريق الالتفات في الكلام تجديد لنشاطه في العبادة فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) صيروا عبيدا له بالخروج من رقيّة أنفسكم وأهويتها أو افعلوا له فعل العبيد لمواليهم بان لا يكون حركاتكم الّا من امره ونهيه أو افعلوا صورة ما جعله الله افعال عبيده من الأعمال المقرّرة في الشّريعة ، والرّب قد يطلق ويراد به ربّ الأرباب اى الواجب الوجود بالذّات وهو المعبود على الإطلاق ، وقد يطلق ويراد به الرّبّ المضاف وهو علويّة على (ع) فانّه ظهور الرّبّ المطلق وعنوانه وما يخبر به عنه فانّه تعالى شأنه من غير هذا الظّهور والعنوان لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم فلا يعبد ، وامّا بعد ظهوره بهذا العنوان فهو يدرك ويخبر عنه ويعبد ، وهذا العنوان لكونه ظهورا للرّبّ المطلق ومضافا الى الخلق يسمّى بالرّبّ المضاف وقد ورد في بيان قوله تعالى (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) انّ المراد به الرّبّ المضاف وهو علىّ (ع) ولا يبعد ان يراد بالرّبّ هنا الرّبّ هنا الرّبّ المضاف ولا ينافيه التّوصيف بالخالقيّة لانّه واسطة خلق الخلق كما ورد خلق الله الأشياء بالمشيّة والمشيّة بنفسها ، وعلويّة علىّ (ع) هي المشيّة ، وإذا أريد الرّبّ المضاف فالمراد بالعبادة عبادة الطّاعة ، وقد يطلق الرّبّ ويراد به ما يسمّونه ربّا من الله والأصنام والكواكب والسّلاطين (الَّذِي خَلَقَكُمْ) التّوصيف لتعليل الأمر لا لتقييد الرّبّ على المعنى الثّالث للرّبّ والتعليل جميعا (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) استيناف بيانىّ لبيان علّة الأمر بالعبادة أو علّة العبادة أو علّة الخلق وفي تفسير الامام (ع) اشارة الى تعدّد الوجوه وورد في كثير من الاخبار عنهم للآيات تفاسير مختلفة ونقل عنهم في بعض الآيات وجوه عديدة وهذا من سعة وجوه القرآن ومن باب صحّة الحمل على الكلّ بحسب المقام المقتضى لكلّ ، وما نقل انّ القرآن ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه ؛ لا ينافي اختلاف التّفاسير ، فانّ المقصود

٦٣

من الحمل على أحسن الوجوه الحمل على ما هو أحسن الوجوه بحسب مقام البيان لا الحمل على أحسن الوجوه مطلقا (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) صفة ثانية والفراش واحد الفرش وهو ما يفترش على الأرض للجلوس والاضطجاع عليه ويلزمه الانتفاع به ومطاوعته للإنسان ولمّا كان الأرض منبسطة يمكن الاستقرار والاضطجاع عليها والانتفاع بها أطلق الفراش عليها ، وما نقل عن الرّضا (ع) من قوله جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم ، لم يجعلها شديدة الحمّى والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ، ولكنّ الله تعالى جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم ، وما تنتفعون به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم فلذلك جعل الأرض فراشا؛ يدلّ على انّه (ع) اعتبر في وجه الشّبه جميع لوازم الفراش (وَالسَّماءَ بِناءً) سقفا به يحفظكم ويسهّل تعيّشكم على الأرض بتدبيره تعالى وتنظيمه تعالى أسبابه الّتى بها يحصل تمام ما تحتاجون اليه ، (وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) من جهة العلو (السَّماءَ) بالمطر والبرد والثلج فيستقى به قلل جبالكم وتلالكم كما يستقى به وهادكم وجعله بحيث ينتفع به اراضيكم وأشجاركم وزروعكم ولم يجعله قطعة واحدة يفسد أبنيتكم وزروعكم (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ) جمع الثمرة وهي الفاكهة أو مطلق ما يحصل من الزّروع والأشجار (رِزْقاً لَكُمْ) لفظة من للابتداء أو للتبيين أو للتبعيض والجارّ والمجرور حال من رزقا مقدّم عليه ورزقا مفعول به أو لفظة من للتّبعيض والجارّ والمجرور قائم مقام المفعول به ورزقا حال من الثّمرات أو بدل من بعض الثّمرات بدل الاشتمال ، وإذا كان الرّبّ الّذى خلقكم منعما عليكم بعد خلقكم بهذه النّعم ومربّيا لكم بهذه التّربية من تسبيب الأسباب السّماويّة والارضيّة (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً) في الوجوب أو الآلهة والتّربية أو العبادة أو الطّاعة أو الاستعانة أو الوجود فانّه حقيق ان يوحّد في الكلّ ، ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشارة الى جميع الإضافات اللّازمة للرّبوبيّة فانّ الله اسم للذّات من حيث جميع الصّفات ومن جملة الإضافات التّفرّد بالآلهة واستحقاق العبادة والاستعانة به حتّى يكون كالعلّة للنّهى ، والوجه العامّ في تكرار أسمائه تعالى الالتذاذ بها والنّشاط في ذكرها ، واقتضاء تمكّنها في النّفس ذكرها على اللّسان ، وتحصيل تمكّنها في النّفس بتكرار ذكرها ، وتكرار أسماء الله تعالى في الكتاب المجيد ادلّ دليل على انّ الآتي به لم يكن في وجوده سوى تذكّر معبوده (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ذو والعلم والشّعور ولا يسوّى ذو الشّعور من لا يقدر على شيء بمن يقدر على هذه ، هذا على ان يكون مفعول تعلمون منسيّا ، وامّا إذا قدّر المفعول قدرة الله وعدم قدرة الأنداد فالمعنى وأنتم تعلمون انّ الله يقدر على ذلك وانّ الأنداد لا يقدرون على شيء من ذلك.

(وَإِنْ كُنْتُمْ) عطف باعتبار المعنى يعنى ان كنتم في ريب من الله ووجوب وجوده ومبدئيّته فهذه أوصافه الّتى لا تنكرونها وان كنتم (فِي رَيْبٍ) من الرّسالة و (مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) حتّى تجحدوا رسالته وما قاله هو في التّوحيد وخلع الأنداد (فَأْتُوا بِسُورَةٍ) السّورة من القرآن طائفة من القرآن محدودة مبدوّة ببسم الله الرّحمن الرّحيم أو غير مبدوّة مأخوذة من سور المدينة أو من السّور بمعنى الرّتبة أو من السؤر بالهمزة

٦٤

بمعنى البقيّة والقطعة من الشيء ، وقد مضى في اوّل الفاتحة تفصيل لبيان السّورة (مِنْ مِثْلِهِ) من مثل محمّد (ص) أو من مثل ما نزّلنا وهذا أوفق بالتّحدّى وأبلغ في ادّعاء اعجاز القرآن لانّه يدلّ على انّه معجز مطلقا بخلاف الاوّل فانّه يدلّ على اعجازه من مثل محمّد (ص) الّذى لم يقرأ ولم يكتب أصلا واطبق بسائر الآيات المتحدّى بها وأنسب بقوله (وَادْعُوا) اى للاستعانة أو التّصديق (شُهَداءَكُمْ) جمع الشهيد بمعنى الحاضر والمعنى ادعوا من ينبغي ان يحضر للاعانة أو بمعنى النّاصر أو الامام أو بمعنى القائم بالشّهادة المؤدّى لها (مِنْ دُونِ اللهِ) لفظ دون بمعنى المكان الدّانى من الشيء وبمعنى تحت نقيض فوق وبمعنى عند ويستعمل من باب الاتّساع في الرّتبة مثل ، زيد دون عمرو ، يعنى مرتبته تحت مرتبة عمرو ، وبمعنى غير وهو المراد هنا والظرّف مستّقرّ حال من شهدائكم والمعنى ادعوا ناصريكم أو من ينبغي ان يحضر ناديكم لاعانتكم أو ائمّتكم أو من يشهد لكم بالمماثلة لأداء الشّهادة حين الإتيان ، أو للاعانة حين التّرتيب حالكونهم بعضا ممّن هو غير الله.

تحقيق معنى من دون الله

وقد ذكر (١) في بيان من دون الله في بعض تفاسير العامّة مالنا الغناء عن ذكره ولما كان أولياء الله من الأنبياء وأوصيائهم (ع) مظاهر أسماء الله وصفاتهم بل لا يظهر الله الّا بهم كما ورد : بكم عرف الله ؛ جاز ان يراد بقوله (مِنْ دُونِ اللهِ) من دون أولياء الله خصوصا على اجراء الآية الشريفة في منافقي الامّة وقد ذكر انّ المراد من دون أولياء الله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في ادّعاء الرّيب ، أو في انكار التّوحيد ، أو انكار تنزيل القرآن من السّماء أو في انكار الرّسالة ، وانكار الكتاب المنزل عليه وانّ محمّدا (ص) تقوّله من تلقاء نفسه أو تعلّمه من بشر مثله فانّ العامّة إذا ارتابوا في شيء أنكروه في الأغلب لانّهم ينكرون ما وراء معلومهم فيجوز ان يراد بقوله (إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا) معنى قوله ان أنكرتم ما نزّلنا على عبدنا.

الاشارة الى وجوه اعجاز القرآن

واعلم انّ آيات التحدّى وانّ القرآن لا يمكن الإتيان للبشر بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا كثيرة وقد ورد وشاع في الألسن انّ القرآن هو المعجزة الباقية بعد محمّد (ص) وذكروا في اعجاز القرآن وجوها كثيرة تبلغ بضعة عشر وجها متحيّرين غير قاطعين والتّرديد في وجه اعجاز القرآن دليل على عدم ادراك وجه اعجازه ، وما ورد في الاخبار من انّ اعجازه بفصاحته وبلاغته لا يدركه الّا أهل اللّسان البارع في الفصاحة وقد ورد في الكتاب الكريم انّ فيه تبيان كلّ شيء وهذا وجه لا يدركه الّا أهله ، وكذا ما ورد انّ به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى ليس الّا لأهله ، وما ورد انّ فيه شفاء ورحمة للمؤمنين لا يدركه الّا الخوّاصّ من المؤمنين ، وأشير في الاخبار الى استنباط الوقايع الآتية من أعداد حروفه ، وأشير أيضا الى ترتّب الآثار على اعداد حروفه ، وهذا أيضا وجه لا يدركه الّا أهل العلوم الغريبة ، ولهذا أنكر بعض اعجاز القرآن وتردّد بعض فيه ، ومن قال به لم يقل عن تحقيق بل محض التّقليد للاسلاف أو للآيات والاخبار ، ومن حقّق اعجازه ببعض الوجوه أو بكلّها قليل جدّا وليس له إظهاره كما لم يظهره الأوائل الّا بالاشارة ، ولمّا كان التحدّى مع أهل لغة العرب وكانوا مباهين بالخطب والاشعار كان التحدّى بفصاحته وقد اعترفوا ببراعته كلّ كلام وخطاب ، ولهذا ورد في اخبار كثيرة انّ التحدّى كان بوجه فصاحته (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) أتى بأداة الشّكّ مع انّه تعالى عالم بعدم الإتيان مراعاة لحال المخاطبين لانّهم في اوّل التحدّى كانوا شاكّين في إمكان المعارضة وعدمه ولذا أتى بجملة معترضة مخبرة عن نفى الإتيان بالنّفى

__________________

(١) قوله : وقد ذكر فانّ الزمخشري والبيضاوىّ ذكرا انّ في من دون الله متعلّق بادعوا أو بشهداءكم والحال انّ الجارّ والمجرور ظرف مستقرّ.

٦٥

التأبيدىّ حتّى لا يتوهّم متوهمّ إمكانه فقال (وَلَنْ تَفْعَلُوا) وأبدل عن الإتيان المقيّد بالسّورة من مثله ودعاء الشّهداء من دون الله بالفعل الّذى يكنّى به عن الكلّ ايجازا وحذرا من التّكرار والحذف ونظم الكلام مشتملا على بيان المرام ان يقال ان كنتم في ريب من القرآن وانّه منزل من عند الله ، أو ان أنكرتم القرآن وانّه منزل من عند الله وقلتم انّ محمّدا (ص) تقوّله من عند نفسه أو تعلّمه من بشر مثله فان كنتم صادقين في دعوى الرّيب من أنفسكم أو في انكار القرآن وإقرار تقوّله من عند البشر يجز لكم الإتيان بمثله وخصوصا من الخطباء البلغاء مع تعاون الشّهداء ، فأتوا لمعارضته وابطال حقّيّته وابطال دعوى رسالة الآتي به بسورة من مثله [وادعوا شهدائكم من دون الله ،] فانّ المراد بتعليق الجزاء في مثل مقام التّحدّى والتّعجيز تعليق جواز الجزاء وإمكانه حتّى يرتفع برفع فعليّته إمكانه وجوازه ، فان لم تقدروا على ان تأتوا بسورة مثله مع تعاون الشّهداء واهتمامكم وجهدكم في معارضته وإبطاله تعلموا صدقه ، والاعتراض بجملة [لن تفعلوا] دليل أيضا على انّ المراد نفى الإمكان والقدرة فلا يرد عليه أنّ عدم الفعل لعلّه لعدم الاعتناء بالمعارضة لا لعدم القدرة حتّى يستلزم صدق القرآن وصدق الآتي به ، وإذا علمتم صدق القرآن وصدق الآتي به (فَاتَّقُوا النَّارَ) فهو من اقامة المسبّب مقام الجزاء والمعنى فاتّقوا مخالفتهما الّتى هي سبب لدخول النّار فهو أيضا من اقامة المسبّب مقام السّبب ، أو فاتّقوا بسبب متابعتهما النّار (الَّتِي وَقُودُهَا) التّوصيف للتّهويل وتأكيد التحذير ، والوقود بالفتح اسم مصدر لما يوقد به النّار وبالضّمّ مصدر ، وقيل الوقود بالفتح مصدر وبالضّمّ اسم للمصدر وقرء بالضمّ فان كان مصدرا كان التّقدير سبب وقودها (النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) أو وقودها احتراق النّاس والحجارة والاوّل أبلغ في مقام التّهويل لانّه يدلّ على أنّ نار الآخرة في الشّدّة بحيث يكون ما توقد به النّاس والحجارة الّذين لا يتأثّر ان الّا بالنّار الموقدة الشّديدة ، والحجارة جمع الحجر كالجمالة جمع الجمل وهو قليل غير مقيس (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) حال بتقدير قد أو مستأنف لجواب سؤال عن حالها.

(وَبَشِّرِ) عطف على الجملة السّابقة باعتبار المعنى كأنّه قيل أنذر الّذين أنكروا القرآن بعد وضوح حجيّته بالنّار وبشّر (الَّذِينَ آمَنُوا) اى أقرّوا بالقرآن وأذعنوا به أو آمنوا بالله بالايمان العامّ أو بالايمان الخاصّ المستلزم كلّ واحد منهما الإقرار بحقّيّة القرآن أو عطف على قوله : (فَاتَّقُوا النَّارَ) ؛ فانّ وضوح حقّيّته كما يستلزم تهديد منكره يستلزم تبشير مقرّه كأنّه قال فان لم تفعلوا فاتّقوا النّار وبشّر الّذين آمنوا ، والخطاب خاصّ بمحمّد (ص) أو عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) ان كان المراد بالايمان الايمان العامّ فالمقصود من العمل الصّالح الايمان الخاصّ الّذى يحصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، وان كان المراد بالايمان الايمان الخاصّ فالمراد بالعمل الصّالح الإتيان بما أخذ عليه في ميثاقه والوفاء بعهده (أَنَّ لَهُمْ) بأنّ لهم (جَنَّاتٍ) جمع الجنّة وهي البستان (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) من تحت أشجارها ، أو من تحت عماراتها ، أو من تحت قطعها ، والأنهار جمع النّهر والنّهر فوق الجدول ودون البحر (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً) الجملة صفة بعد صفة أو حال عن الضّمير المجرور باللّام أو عن الجنّات أو مستأنفة لبيان حالهم وحال ما في الجنّات ، والرّزق اسم مصدر بمعنى المرزوق وهو أعمّ ممّا يستكمل

٦٦

به البدن من الرّزق النّباتىّ الّذى يدخل من طريق الفم الى المعدة ، ومنها الى الكبد ، ومنه الى الاوردة ، ومنها الى الأعضاء ، والرّزق النّباتىّ الحقيقىّ هو الّذى يدخل في خلل الأعضاء بدلا عمّا يتحلّل منها وباقي المراتب السّابقة قوالب لهذا الرّزق كما انّ البساتين محالّ للاثمار ، ومن الرّزق الحيوانىّ الّذى يدخل من طريق المدارك الحيوانيّة الى القلب أو من طريق المحرّكة اليه فانّ أعضاء السّبعية والحيوانية مقتضياتها تؤثّر في القلب اعنى الخيال ، وكلّما يؤثّر في القلب من الملذّات والمولمات كما يؤثّر في الرّوح يؤثّر في البدن ، وممّا يستكمل به الرّوح من الرّزق الحيوانىّ ومن الرّزق الانسانىّ الّذى هو العلم الباعث على العمل ، والعمل المورث للعمل ، وقوله تعالى : (مِنْها ؛) ظرف لغو متعلّق برزقوا ، ولفظ من ابتدائيّة فانّ في رزقوا معنى الأخذ وهو يقتضي الوصول الى المفعول بمن ، ومن ثمرة بدل منه بدل الاشتمال وهذا اولى ممّا قاله الزمخشرىّ والبيضاوىّ في اعرابهما من جعلهما حالين متداخلين من رزقا ، ولفظ ثمرة لكونه بعد كلّما يقتضي العموم البدلىّ ، ورزق الجنّة ليس كالرّزق النّباتىّ لعدم الحاجة هناك الى بدل ما يتحلّل ولعدم اشتماله على الثفل المحتاج الى الدفع (قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) اى في الدّنيا.

اعلم انّ كلّما في الدّنيا من السّماويّات والارضيّات صور وأظلال لما في الآخرة ، وما في الآخرة حقايق لما في الدّنيا فالعناصر ومواليدها والأفلاك وكواكبها حقائقها في الجنّة وليس في الجنّة شيء الّا وظلّها في هذا العالم ، ولمّا كان شيئيّة الشّيء وشخصيّة الشّخص بحقيقته لا بصورته وظلّه فكلّما رأى المؤمنون في الجنّة علموا أنّه الّذى رأوه في الدّنيا لكنّه في الدّنيا مشوب بنقائص الموادّ وأعدامها وظلماتها وفي الآخرة مصفّى عن ذلك فكلّما رأوه من الاثمار قالوا : هذا الّذى رزقنا من قبل في الدّنيا ، ويحتمل ان يكون الكلام على الاستفهام الانكارىّ التعجّبىّ يعنى بعد ما رأوا الرّمّانة الاخرويّة مثلا ، متفاوتة مع الرّمّانة الدّنيويّة تفاوتا عظيما في الشّكل واللّون والطّعم ورأوا أنّها هي الرّمّانة الّتى رأوها في الدّنيا تعجّبوا واستغربوا ذلك التّفاوت العظيم وأظهروا كونها من جنس الرّمّانة الّتى كانت في الدّنيا في معرض الإنكار ، ويحتمل ان يكون المراد من قبل هذه المرّة في الجنّة فانّ ثمار الجنّة متشابهة في الصّفاء عن الكدورات والأثقال وفي غاية اللّطافة واللّذّة وطيب الرائحة وعدم ثقل الجسد بأكلها ومتوافقة غير مختلفة في كون بعضها نيّا وبعضها نضيجا وبعضها متجاوزا حدّ النضج وبعضها معيبا كما انّ ثمار الدّنيا كذلك وبهذا التّشابه والتّوافق يصحّ حمل : الّذى رزقنا من قبل ؛ على هذا بحمل هو هو مثل زيد أسد (وَأُتُوا بِهِ) بجنس الرّزق أو بجنس ثمر الجنّة (مُتَشابِهاً) بعض افراده مع بعض وقد مضى وجه التّشابه (وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ) جمع الزّوج يستوي فيه الذّكر والأنثى والجمعيّة بالنّسبة الى المجموع أو بالنّسبة الى كلّ فرد (مُطَهَّرَةٌ) من المادّة ونقائصها ممّا يستقذر من النّساء من الأخبثين والدّماء وممّا يذمّمن عليه من الرّذائل (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ) ذكر تعالى من النّعم أصولها في الانظار الحسّيّة وهي المساكن والمطاعم والمناكح وكمالها وهو دوامها فان النّعمة وان كانت جليلة لكنّها مع خوف الزّوال منغّصة.

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) الحياء قوّة رادعة عن إظهار القبيح ومخجلة حين ظهوره وقد يطلق على أثرها الظّاهر منها على الأعضاء كسائر السّجايا ، والاستحياء للمبالغة لا للطلب أو للطلب باعتبار أنّ المستحيى كأنّه يطلب الحياء من نفسه ، ونسبة الحياء والاستحياء الى الله تعالى ليس بمعنى نسبته الى الخلق كسائر ما يقتضي انفعالا وتغييرا

٦٧

حين نسبتها الى الخلق وطرفا تفريطه وافراطه الخجل عن ظهور الفعل وعدم الاقتدار على الفعل حين اطّلاع الخلق عليه مطلقا حسنا كان الفعل أو قبيحا وعدم المبالاة بظهور الفعل حسنا كان أو قبيحا (أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما) ان يقرع الأسماع بمثل والمثل امر ظاهر يشبهه امر خفىّ يذكر لبيان حال ذلك الأمر الخفىّ ، وضربه عبارة عن اجرائه وذكره ، ولفظة ما وصفيّة ابهاميّة (بَعُوضَةً) وقرئ بعوضة بالرّفع وعليها فلفظة ما يحتمل كونها موصولة وموصوفة بحذف صدر الصّلة وصدر الصّفة واستفهاميّة (فَما فَوْقَها) في الحقارة أو في الجثّة والكبارة وهذا ردّ لانكارهم عليه تعالى التّمثيل بالذّباب والعنكبوت وغير ذلك لانّ الجّهال يستنكفون من التّوجّه الى أمثال تلك الحقار والله لا يستنكف من التّمثيل بها فانّ الحقير من هذه حقير في أنظار الجهّال لا في أنظار العقلاء فانّ ذوات النّفوس الحيوانيّة وان كانت أصغر ما يكون خصوصا ما تمّ له المدارك الحيوانيّة ، فيها من دقائق الحكم ولطائف الصّنع مالا يحصيها الّا الله فانّ البعوضة من أدرك من دقائق الحكم ولطائف الصنع الّتى أودعها الله فيها عشرا من أعشارها لا يستنكف من التّمثيل بها ولا يستغرب تمثيل الفيل بها ، وعن الصّادق (ع) انّما ضرب الله المثل بالبعوضة لانّها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله ان ينبّه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه ، وأشار (ع) بقوله : وزيادة عضوين آخرين ؛ الى جناحيها ورجليها الزّائدتين على الفيل فانّ للفيل اربع أرجل ولها ستّ أرجل ، ولمّا جعلوا إنكارهم التّمثيل بالأمثال المذكورة في الكتاب مشعرا بإنكار كونها من الله ودليلا عليه قال تعالى :

(فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ أو الخاصّ وأقرّوا برسالة الرّسول ونزول الوحي وتنزيل الكتاب (فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) اى المثل المضروب (الْحَقُ) يعنى يعلمون انّ المثل حقّ لا باطل يعنى منزّل من الله لا مختلق من النّفس ولذا أتى بقوله (مِنْ رَبِّهِمْ) للبيان خبرا بعد خبر أو حالا أو ظرفا لغوا متعلّقا بالحقّ (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ) الاستفهام ونسبة الارادة الى الله تعالى للاستهزاء والتّهكّم وكان المناسب للقرين السّابق ان يقول وامّا الّذين كفروا فلا يعلمون انّه الحقّ لكنّه عدل الى هذا لافادة هذا المعنى مع شيء زائد وهو التّهكّم والاستهزاء (بِهذا مَثَلاً) تميز من هذا أو حال منه أو حال من محذوف اى نذكر هذا حالكونه مثلا والّا فالمقصود ما ذا أراد بجملة الأمثال وجملة القرآن (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً) جمعا كثيرا أو اضلالا كثيرا جواب من الله لاستفهامهم تعليما لنبيّه (ص) ان يجيبهم بمثله أو مقول قولهم حالا أو مستأنفا وحينئذ فقوله تعالى (وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) امّا من قولهم أو من قول الله كأنّهم قالوا : ما ذا أراد الله بهذا حالكونه يضلّ به كثيرا من النّاس وان كان يهدى به كثيرا ، أو قال الله عطفا على قولهم للرّدّ عليهم ويهدى به كثيرا (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) يعنى فيه هداية اناسىّ كثيرين وليس إضلاله الّا لمن لا رجاء خير فيه فخيره كثير وضرّه لا يعبأ به.

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ) تابع للفاسقين صفة أو بدل أو عطف بيان أو مبتدء خبره (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) ، ونقض الحبل فسخ فتل طاقاته ، واستعماله في العهد لتشبيه العهد بالحبل وكلّما ذكر عقد أو عهد في الكتاب مطلقا كان أو مقيّدا عامّا أو خاصّا فالمراد به اوّلا وبالذّات هو الّذى يكون في البيعة العامّة أو الخاصّة

٦٨

وثانيا وبالتّبع كلّ عهد وعقد والمراد بهم الّذين ينقضون عهد الله المأخوذ عليهم بالبيعة مع محمّد (ص) (مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ) وهم الّذين نكثوا بعد محمّد (ص) ولذا أتى بالفعل مستقبلا أو المراد هم الّذين نقضوا عهد الله المأخوذ عليهم من بعد ميثاقه والبيعة مع محمّد (ص) وخلفائه وأوصيائه (ع) والميثاق امّا اسم آلة بمعنى ما به الوثوق والأحكام ، أو مصدر بمعنى الأحكام والحاصل انّ المراد بالّذين ينقضون منافقوا الامّة الّذين بايعوا مع محمّد (ص) ثمّ نقضوا عهدهم الّذى عاهدوه بإطاعته في جميع أوامره ونواهيه.

بيان قطع ما امر الله به ان يوصل

(وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) بدل من ما ، أو من الضمير المجرور ، والقطع امّا بمعنى التّرك والمهاجرة فانّ قوله (ع) صل من قطعك بمعنى من هاجرك وتركك والمعنى يتركون ما أمر الله بوصله واصل ما أمر الله بوصله الولاية التكليفيّة الّتي هي ظهور الولاية التكوينيّة وسائر الأعمال الشرعيّة القالبيّة والأعمال القلبيّة والقرابات الرّوحانيّة والجسمانيّة من شعبها وأصل الكلّ علىّ (ع) أو القطع بمعنى قطع الحبل اى فصل كلّ من طرفيه عن الآخر وجعله حبلين والمعنى يقطعون حبلا بينهم وبين الله أو بينهم وبين الأقرباء امر الله بوصله من الولاية وشعبها ومن القرابات الرّوحانيّة والقرابات الجسمانيّة ، ويجوز ان يراد انّهم يقطعون الأعمال البدنيّة عن الأرواح الّتي هي الاذكار القلبيّة والأفكار الصدريّة والنيّآت الإلهيّة وقد امر الله بوصل الأعمال سواء كانت عبادات أو مرّ مات للمعاش الى الاذكار والأفكار.

تحقيق الإفساد في الأرض

(وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ) من قبيل عطف المسبّب على السّبب فانّ الإفساد في الأرض عبارة عن افناء مواليدها أو افناء كمالاتها أو منعها عن البلوغ الى كمالاتها المترقّبة لها أو تحريف كلماتها التكوينيّة أو التّدوينيّة عن مواضعها والقاطع عن الولاية مفن لاستعدادات قواه العلّامة والعمّالة للّسلوك الى الآخرة ومهلك لما تولّد بالعناية الإلهيّة من بذر الآخرة وزرعها ونسلها في ارض عالمه الصّغير وكذا في ارض العالم الكبير إذ الفاسد يفسد ما يجاوره على انّ الإفساد في ارض العالم الصغير إفساد في العالم الكبير ، وكذا في أراضى الكتب السّماويّة والشرائع الإلهيّة لانّه كما يحرّف كلمات عالمه الصغير وكذا كلمات العالم الكبير عن مواضعها يحرّف كلمات الكتب السّماويّة والشّرائع الإلهيّة.

(أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) الّذين أهلكوا بضاعتهم الّتى هي لطيفتهم السيّارة الانسانيّة واستعدادها للعروج الى عالمها ، والإتيان باسم الاشارة البعيدة وضمير الفصل وتعريف المسند للاهانة واستحضارهم بالصّفات المذكورة والتّأكيد والحصر كأنّه لا خسران الّا في قطع الولاية (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) بعد ما ذكر حال المنافقين وأنّهم كفروا بنقضهم العهد ثمّ قطعوا وأفسدوا التفت إليهم فقال على سبيل التعجّب والإنكار : على أىّ حال تكفرون يعنى لا ينبغي لكم الكفر بحال من الأحوال فلا ينبغي لكم الكفر أصلا بالله بنقض عهده المأخوذ عليكم من بعد ميثاقه وهذا أوفق بما قبله ، ويحتمل ان يكون الخطاب لمطلق الكفّار والمؤمنين ، ويحتمل ان يكون الخطاب للمؤمنين خاصّة (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) حال عن الفاعل أو المجرور امّا بتقدير قد لتصحيح وقوع الماضي حالا ، أو لأنّ الحال في الحقيقة علمهم بمضمون تلك الجمل المتعاقبة لانّ انكار الكفر والتعجّب منه معلّل بعلمهم بذلك كأنّه قال وأنتم عالمون بتلك الأحوال ، والموت عدم الحيوة عمّا من شأنه ان يكون

٦٩

حيّا ، وللحيوة بالاضافة الى كلّ شيء معنى بحسبه ؛ فانّ حيوة الأرض بإخراج نباته والنّبات بإخراج أوراقه وحبوبه واثماره ، والحيوان بنفخ الرّوح الّتى بها الاحساس والحركة ، وحيوة الإنسان بنفخ الرّوح الّتى بها انعقاد عيسى القلب في رحم مريم النّفس ، وبدون هذا النّفخ لا يصدق العلم على الإنسان ولا الحيوة ، وقد نسب الى أمير المؤمنين (ع): النّاس موتى وأهل العلم أحياء ، والمراد بالموت ان كان الخطاب للمؤمنين معنى يشمل الأحوال الّتى قبل الحيوة الانسانيّة من كون الإنسان عنصرا وغذاء ونطفة وعلقة ومضغة وجنينا وإنسانا صوريّا ، وان كان الخطاب للكفّار فالمراد بالموت الأحوال الّتى قبل الحيوة الحيوانيّة وحمل الأموات على المخاطبين مع انّ الموت صفة المادّة بالذّات للاتّحاد بين المادّة والصورة فانّهما إذا أخذتا لا بشرط كانتا جنسا وفصلا محمولين على انّ الصّورة الانسانيّة في مقامها العالي غير المادّة ، وامّا في مقامها الدّانى فهي متّحدة معها بحيث ظنّوا انّ الإنسان هو البدن وانّ الرّوح جسم سار في البدن كسريان الماء في الورد ، وقد رأيت في مؤلّفات بعض : انّ من قال بتجرّد النّفس النّاطقة فهو فاسق.

تحقيق تكرار الأحياء والاماتة للإنسان

(فَأَحْياكُمْ) بالحيوة الحيوانيّة أو الانسانيّة (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) عن الحيوة الحيوانيّة الدّنيويّة أو الانسانيّة الدّنيويّة فانّ الإنسان بنفخة الاماتة يموت عن كلّ ماله من المدارك والقوى ما لم يقم عليه القيامة الكبرى (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بالحيوة الأخرويّة الملكيّة بنفخة الأحياء في البرازخ الى الأعراف (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) على الطّريق الّذى هو عن يمين الأعراف أو على الطّريق الّذى هو عن يسارها والرّجوع اليه تعالى امّا الى مظاهره النّوريّة ودار نعيمه واسمه اللّطيف ، أو الى مظاهره الظلمانيّة ودار جحيمه واسمه القهّار.

اعلم انّ الإنسان من أوّل خلقة مادّته الّتى هي النّطفة الّتى استقرّت في الرّحم الى آخر استكمال بدنه في خلع ولبس في مادّته ، وكذا من اوّل تعلّق نفسه ببدنه في خلع ولبس في نفسه الى بلوغه حدّ الرّجال ، وكلّ خلع منه موت وكلّ لبس حيوة ، وهذان الاستكمالان مشهود ان للكلّ ، وله بعد ذلك استكمال واستعلاء على مدارج السّعادة واستكمال واستنزال في مهابط الشّقاوة ، وهذان خلع ولبس بحسب نفسه وموت وحيوة في برازخ الآخرة ، وهما وان كانا غير مشهودين للكلّ لكنّ العالم يعلم بالمقايسة انّ حالاته بعد البلوغ مثل حالاته قبل البلوغ كما قال تعالى شأنه : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ ؛) وكلّ من خلعاته ولبساته موت وحيوة وهذا الخلع واللبس مستمرّ الى الأعراف سواء مات الإنسان بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ وبعد الأعراف له ترقّيات وتنزّلات أيضا لكن ترقّياته حيوة على الحيوة وتنزلّاته موت على الموت ، وقد قال المولوى قدس‌سره مستنبطا من الآية الشريفة مشيرا الى أمّهات أنواع الموت والحيوة فانّ افراده غير متناهية كما حقّق في محلّه من انّ الحركة القطعيّة قابلة للقسمة الى غير النّهاية.

از جمادى مردم ونامي شدم

وز نما مردم بحيوان سر زدم

مردم از حيوانى وآدم شدم

پس چه ترسم كى ز مردن كم شدم

حمله ديگر بميرم از بشر

تا برآرم از ملايك بال وپر

وز ملك هم بايدم جستن ز جو

كلّ شيء هالك الّا وجهه

بار ديگر از ملك پرّان شوم

آنچه اندر وهم نايد آن شوم

٧٠

فقوله تعالى : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً) اشارة الى تمام الحالات الّتى قبل الحيوانيّة أو قبل الانسانيّة ولذا عطف عليه قوله (فَأَحْياكُمْ) بالفاء وهو اشارة الى حدوث الحيوة الحيوانيّة أو الانسانيّة ولذا عطف عليه قوله (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) بثمّ ، وقوله (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) اشارة الى حدوث الموت الحيوانىّ أو البشرىّ ولذا عطف عليه قوله (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) بثمّ وهو اشارة الى حدوث الحيوة البرزخيّة ولذا عطف عليه قوله (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) بثمّ ، وهو اشارة الى ما بعد البرزخ والأعراف ولم يقل ثمّ يميتكم ثمّ يحييكم لما ذكر انّه في أهل الخير حيوة على الحيوة.

تحقيق خلق جميع الأشياء حتى السّموم وذوات السّموم لنفع الإنسان

(هُوَ الَّذِي خَلَقَ) الجملة حال عن سابقتها أو مستأنفة ولم يأت بأداة الوصل للاشعار بكثرة النّعم وانّها ينبغي ان تعدّ كالمعدودات الكثيرة في معرض التّعداد (لَكُمْ) اى لإيجاد كم وخلقكم فانّ كلّما في الأرض تقدمة لخلق الإنسان بل كلّ ما سوى الله مقدّمة لخلق الإنسان فانّه كما حقّق في محلّه آخر الأنواع وآخر الفعل أشرف لانّه غايته فهو غاية الغايات ونهاية النّهايات بل نقول : لمّا كان الغرض الزائد على ذات الحقّ تعالى منفيّا عن فعله للزوم استكماله وهو محال كما قرّر في موضعه فجعل الإنسان غاية وغرضا دليل على انّه ينتهى الى ذات الحقّ وما انتهى الى ذاته فهو أشرف من كلّ شريف بعده تعالى ، أو المعنى لانتفاعكم في بقائكم فانّ الإنسان في بقائه محتاج الى أصل العناصر ومواليدها ، أو المعنى لخلقكم وانتفاعكم في بقائكم جميعا وما يتراءى من عدم توقّف خلقة الإنسان أو بقائه على أكثر المعادن والنّباتات والحيوانات بل التّضرّر ببعضها كالسّموم وذوات السّموم خطاء من عدم الاطّلاع على كفّية الارتباط بين المعلولات فانّ بعضها أصل ومقصود بالذّات ، وبعضها علّة لخلقة ما هو المقصود أو لكماله ، وبعضها شرط وبعضها لازم كما هو مشهود في موجودات ارض العالم الصّغير فانّه لا اختصاص لقوله تعالى شأنه (ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً) بأرض العالم الكبير بل نقول كلّما ذكر ارض وسماء فالنّظر اوّلا الى العالم الصّغير وما لم يعرف في العالم الصّغير لا يعرف في العالم الكبير لانّه نسخة موجزة عن الكبير بمطالعته يمكن مطالعة ما في الكبير وما في ارض العالم الصّغير (١) امّا علّة أو شرط لحدوث الإنسان الحقيقىّ الّذى هو آدم أبو البشر أو لبقائه ، أو علّة أو شرط لكماله وتجمّله ، أو لازم لحدوثه وبقائه أو علّة بوجه ولازم بوجه فانّ الأعضاء الرّئيسة يتوقّف عليها حدوث الإنسان وبعض الأعضاء الآخر شرط لحدوث الأعضاء الرّئيسة أو لحفظها ، وبعضها شرط لبقاء الإنسان ، وبعضها لتجمّله ، وبعضها لازم لخلقته ، وبعضها شرط بوجه ، ولازم بوجه ، فانّ الطّحال والمرارة كذوات السّموم والمرّتان كالسّموم وفيها منافع ذكرت في مقامها ، والشّعر والظّفر مع أنّهما اخسّ الاجزاء ولا حيوة لهما لازمان لخلقته وبقائه ، ويتوقّف عليهما تجملّه ، وإذا أريد بالأرض والسّماء الأرض والسّماء اللّتان في العالم الصّغير لم يبق إشكال في عطف قوله تعالى (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) بثمّ فانّ خلقة سماوات العالم الصّغير من حيث اضافتها الى أرضه بعد تمام أرضه وتمام ما فيها وامّا في العالم الكبير فان أريد بالسّماء الاجرام العلويّة فخلقتها مع خلقة أرضه ، وان أريد بالسّماء الأرواح لعلويّة فخلقتها قبل أرضه ، وكلّما ذكر في الاخبار ممّا يدل على تأخرّ خلق السّماء عن الأرض فهو منزّل على العالم الصّغير وعلى تنزيل الآية على العالم الكبير فالعطف بثمّ لتفاوت الاخبارين والخلقتين

__________________

(١) المراد بالعلّة : احدى العلل الأربع ، الصورة والمادّة والفاعل والغاية والمراد بالشّرط ، ماله مدخليّة في إيجاده وبقائه بوجوده أو عدمه أو كليهما وينقسم الى الشّرط المصطلح والمعدّ المانع.

٧١

والاستواء هاهنا القصد اى قصد خلق السّماء (فَسَوَّاهُنَ) اى خلقهنّ تامّة مصونة عن العوج والفطور وجمع الضمير لكون السّماء جنسا في معنى الجمع أو لرعاية الخبر (١) (سَبْعَ سَماواتٍ) تحقيق عدد السّماوات والأرضين ومراتب العالم سيجيء من بعد ان شاء الله (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) عطف على قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ) ، أو حال عن فاعل خلق ، أو عطف على كنتم أمواتا ، أو حال عن فاعل احدى الجمل السّابقة على قوله (هُوَ الَّذِي خَلَقَ) ، وعلى اىّ تقدير فالمقصود التّهديد عن الكفر وتعليل إنكاره بأنّه عالم بكفر كم فيؤاخذكم عليه ، وعلمه بالأشياء عين وجود الأشياء فهو علم حضوريّ كعلمنا بالصّور الحاضرة في نفوسنا فانّ وجودها علم لنا ومعلوم ، وهذا علمه الّذى هو مع الأشياء وامّا علمه بالأشياء الّذى هو قبلها فله مراتب ، مرتبة منها عين ذاته ، ومرتبة عين فعله ، ومرتبة عين القلم ، ومرتبة عين اللّوح المحفوظ ، ومرتبة عين لوح المحو والإثبات ، وتحقيق علمه في الحكمة النّظريّة وليس هاهنا محلّ تحقيقه وتفصيله.

تحقيق مادّة الملك وأقسام الملائكة

واذكر (إِذْ قالَ رَبُّكَ) حتّى تعلم انّ الكلّ خلق للإنسان أو ذكرّهم بذلك حتّى يعلموا فانّ في قصّة خلقة آدم وسجود الملائكة له دليلا على أنّ خلقة الكلّ لأجله (لِلْمَلائِكَةِ) جمع الملك باعتبار أصله فانّ أصله مألك من الالوكة بمعنى الرّسالة فقلب فصار معفل بتقديم العين ثمّ حذف الهمزة فصار معل ، وقيل : أصله مفعل من لاك يلوك بمعنى أرسل فقلب الواو ألفا بعد نقل حركته ثمّ حذف وقيل أصله فعال من ملك يملك فحذف الالف ، والملك على أنواع منها ملائكة ارضيّون متعلّقون بالمادّيات سواء كانوا متعلّقين بالاجرام السّماويّة أو بالاجرام الارضيّة ؛ ولهم ترقّيات وتنزّلات والملائكة السّجّد والرّكّع منهم ، وما ورد من سقوط ملك عن مقامه وتنزّله عن مرتبته وشفاعة شفيع له هو في هذا النّوع لا في سائر الأنواع فانّ الملائكة الغير المتعلّقة بالمادّيات كلّ واحد منهم له مقام معلوم.

[وليعلم انّ العوالم بوجه ثلاثة ؛ اوّلها] عالم الجنّة والشّياطين وفيه الجحيم ونيرانها وهو محلّ الأشقياء والمعذّبين من بنى آدم وهو تحت عالم المادّيات وان كان ذلك العالم مجرّدا عن المادّة ، [وثانيها] عالم المادّيات من السّماوات والسّماويّات والأرض والارضيّات وهذا العالم أضعف العوالم ، [وثالثها] عالم المجرّدات العلويّة وهو عالم الملائكة بمراتبها من السّجّد والرّكّع وذوي الاجنحة مثنى وثلاث ورباع ، والمدبّرات أمرا ، والصّافات صفّا ، والقيام المهيمنين الّذين لا ينظرون ، ولأهل عالم الجنّة من أنواع الجنّة والشّياطين قدرة باقدار الله على أنواع الخوارق والتصرّف في عالم المادّيات مثل أهل عالم الملائكة من دون فرق ، والجنّة والشّياطين على نوعين ، نوع منهم في غاية البعد والخباثة غير قابلين للهداية ، ونوع منهم لهم قرب من عالم المادّيات ، وبسبب هذا القرب كانوا مستعدّين للهداية والايمان ولهم ترقّيات وتنزّلات ، وكذلك الملائكة على نوعين ؛ نوع منهم في غاية البعد عن المادّيات وهم المجرّدات عن المادّيات وعن التعلّق بها والتّدبير لها وهم العقول والأرواح ، ونوع منهم لهم التعلّق والتّدبير للمادّيات وهم الملائكة الموكّلة على الارضيّات من الاجرام العلويّة والسّفليّة والمأمور بسجدة آدم من حيث فعليّة آدميّته هو هذا النّوع كما في الاخبار أنّ المأمورين بسجدة آدم هم ملائكة الأرض واعتراض الملائكة المستفاد من الآية والأخبار أيضا من هذا النّوع ولمجانسة هذا القسم للجنّة كان إبليس مشابها لهم ومشتبها عليهم وعابدا فيهم بل نقل انّه كان إماما ومعلّما

__________________

(١) قوله لرعاية الخبر ، وذلك لانّ سبع سموات خبر في الأصل على ان يكون سوّيهنّ متعديّا الى مفعولين هما في الأصل متبدء وخبر على ان يكون مضعّف فعل ناقص مثل صير وماذا كان مضعّف فعل تامّ فيكون سبع سموات حالا لا خبرا.

٧٢

وحاكما لهم ولقومه ، وكانوا محاربين للابالسة والجنّة طاردين لهم عن وجه الأرض سارقين للشّيطان رافعين له الى سمائهم ، والمأمور بسجدة آدم من حيث مقام الآدميّة وان كان هذا النّوع من الملائكة لكنّ المأمور بسجدته من حيث سائر مقاماته بل من حيث مقام علويّته المكمونة جميع أنواع الملائكة بل جميع الموجودات الامكانيّة لأنّ جميع الموجودات واقعة تحت تصرّف أرباب أنواعها ومسخّرة لها ، وجميع أرباب الأنواع واقعة تحت تصرّف ربّ النوع الانسانىّ ومسخرّة له ، وقد أشير في الاخبار الى ذلك وانّ آدم صار مسجودا لكون علىّ (ع) والائمّة في صلبه.

تحقيق كيفيّة قول الله وأمره للملائكة

(إِنِّي جاعِلٌ) اى خالق فقوله (فِي الْأَرْضِ) ظرف للجعل أو هو من جعل بمعنى صيّر المعدّى الى المفعولين فقوله (فِي الْأَرْضِ) مفعول ثان (خَلِيفَةً) منّى يأمر بأمرى وينهى بنهيى ويعدل بعدلي ، أو خليفة منكم في الأرض لاصلاح الأرض بعد رفعكم الى السّماء ، أو خليفة من الشّياطين والجنّة بعد ان طرد تموهم عن وجه الأرض وقوله تعالى للملائكة ليس بنداء يسمع ولا بصوت يقرع بل نقول : انّ العوالم مترتّبة بعضها فوق بعض والعالي محيط بالدّانى ومصدر له ومظهر للأعلى ، وكلّما يريد العالي إيجاده من فعل أو وصف أو ذات في العالم الدّانى يظهر تلك الارادة وذلك المراد بصورته وتمام أوصافه ولوازمه بل بحقيقته الّتى هي أحقّ به من حقيقته الّتى هو بها هو في العالم المتوسّط بين العالي وذلك الدّانى ، وذلك الظّهور هو قول العالي بالنّسبة الى ما ظهر فيه فاذا أراد الله خلق آدم البشرىّ في عالم الطّبع يظهر لا محالة تلك الارادة وهذا المراد في عالم الواحديّة وهو عالم المشيّة بوجه وعالم الأسماء والصّفات بوجه وعالم اللّاهوت بوجه وعالم علويّة علىّ (ع) بوجه وتلك الصّورة بل الحقيقة الظّاهرة إنسان لاهوتىّ ثمّ يظهر في عالم الملائكة المهيمنين ثمّ في عالم الصّافّات صفّا ثمّ في عالم المدبّرات امرا ثمّ في عالم ذوي الاجنحة ثمّ في عالم الرّكّع والسّجّد ثمّ في عالم الطّبع ، ثمّ في الملكوت السّفلىّ وهي عالم الجنّة والشّياطين ، وظهور آدم (ع) على مراتب الملائكة بتمام لوازمه وأوصافه ومن جملتها خلافته من الله في الأرض قوله تعالى لهم (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ،) والمقرّبون من الملائكة لاحاطتهم وسعة ادراكهم أدركوا من آدم (ع) لوازمه وصفاته الظّاهرة والباطنة وماله بالفعل وما فيه بالقوّة فعلموا أنّه مركّب من الاضداد ومحلّ للرّذائل موصوف بالشّهوات المستدعية لهيجان الغضب والتباغض مع من منعه عن مشتهاه والغضب يقتضي القتل والأسر والنّهب والإفساد ، وعلموا أيضا انّه محلّ ووعاء للانسانيّة الّتى من شأنها تسخير الاضداد واطاعة المتضادّات وأنّه بكلّ من أوصافه مناسب لموجود من الموجودات ولا يمكن ان يكون الخليفة بين المتضادّات غير آدم الّذى هو مجمع الاضداد فلم يستعجبوا من استخلاف آدم ولم يستنكروه ، وامّا ملائكة الأرض فلمّا كان لكلّ شأن واحد ولشأنه حدّ محدود لا يتجاوزه نظيرهم القوى والمدارك الانسانيّة فانّ لكلّ شأنا ولشأن كلّ حدّا مثل قوّة السّمع شأنه مقصور على ادراك الأصوات ، وإدراكه للأصوات محدود بحدّ معيّن من الصّوت والمسافة لم يدركوا من آدم سوى ما عليه ظاهره من كونه مجمعا للاضداد مقتضيا للقتل والنّهب والفساد ، ولم يدركوا باطنه من الانسانيّة المسخّرة للكلّ واستعجبوا من استخلافه واستنكروه وأطلقوا لسانهم اللّائق بحالهم و (قالُوا) بصورة الإنكار (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ) كما كان هذا فعل الشّياطين والجنّ ولا تجعل منّا خليفة يعدل في الأرض ويرفع الفساد ويحفظ الدّماء وتجعلنا مطيعين لمثل هذا محكومين له.

٧٣

تحقيق معنى التّسبيح والتّقديس والفرق بينهما

(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) فنحن أحقّ بالخلافة لعدم الأوصاف المتضادّة فينا. والتّسبيح والتّقديس في العرف بمعنى واحد وهو التّطهير والتّنزيه لكنّهما إذا أضيفا الى الله تعالى يراد بالتّسبيح التّطهير من القبائح والنقائص لا بشرط عدم الأوصاف والإضافات بل مع بقاء الأوصاف والإضافات والكثرات وبالتّقديس التّطهير من النّسب والإضافات ورفع الكثرات ، أو يراد معنى بالتّقديس أعمّ من التّنزيه من القبائح والنّسب وثبوت الكثرات وبعبارة أخرى ملاحظة حقّ الاوّل باسمه الواحد يعنى بجملة صفاته الثّبوتيّة والسّلبيّة وجملة إضافاته تسبيحه وملاحظته باسمه الأحد من غير ملاحظة اسم وصفة وكثرة وتعيّن واعتبار بل مع ملاحظة عدمها تقديسه ، وقد يستعمل كلّ في معنى الآخر فهما كالفقراء والمساكين إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا ومعنى سبحان الله تنزّه الله من النّقائص تنزّها ، ومعنى قدّس الله تنزّه الله من الإضافات والاعتبارات تنزّها ، وقول الصّادق (ع) وهل هناك شيء ، في جواب من قال : الله أكبر من اىّ شيء ، اشارة الى مقام قدسه لا الى مقام تسبيحه فالفرق بين تسبيحه تعالى وتقديسه كالفرق بين المأخوذ لا بشرط والمأخوذ بشرط لا بالنّسبة الى الأوصاف والكثرات ، أو كالفرق بين المأخوذ بشرط شيء والمأخوذ بشرط لا ولهذا قلّما ذكر تسبيح بدون ذكر الحمد الدّالّ على اتّصافه بالأوصاف الحميدة ، ولابتلاء عامّة الخلق بالكثرات لم يذكر التّقديس الدّالّ على نفى الكثرات الّا قليلا وتقدير قوله تعالى (نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ) نسبّحك ونطهّرك عن النّقائص أو نسبّح اسمك أو نسبّح نفوسنا بسبب حمدك أو متلبّسين بحمدك ، ونقدّس لك ، نقدّسك بزيادة اللّام أو نقدّس نفوسنا لك أو نقدّس اسمك لك (قالَ) الله في جواب استغرابهم (إِنِّي أَعْلَمُ) من آدم ومن المكمون فيه من الانسانيّة السّيّارة المسخّرة لجميع الاضداد المناسبة بسعتها وجامعيّتها لجملة ما في العوالم وجملة الشؤن ومن الكفر المكمون الملتبس عليكم في بعض وهو إبليس وانّه لا يظهر ذلك الّا بخلقة آدم (ما لا تَعْلَمُونَ) ولذا تستغربون وتستنكرون استخلافه بملاحظة ما تدركون منه من شؤنه الظّاهرة المتضادّة المقتضيّة للافساد. روى عن الباقر (ع) عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) انّ الله لمّا أراد ان يخلق خلقا بيده وذلك بعد ما مضى على الجنّ والنّسناس في الأرض سبعة آلاف سنة فرفع سبحانه حجاب السّماوات وأمر الملائكة ان انظروا الى أهل الأرض من الجنّ والنّسناس فلمّا رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدّماء والفساد في الأرض بغير الحقّ عظم ذلك عليهم وغضبوا الله تعالى وتأسّفوا على الأرض ولم يملكوا غضبهم وقالوا : ربّنا أنت العزيز القادر العظيم الشأن وهذا خلقك الذّليل الحقير المتقلّب في نعمتك المتمتّع بعافيتك المرتهن في قبضتك وهم يعصونك بمثل هذه الذّنوب ويفسدون في الأرض ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك وأنت تسمع وترى وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه لك ، فقال تعالى : انّى جاعل في الأرض خليفة تكون حجّة لي في أرضى على خلقي ، قالت الملائكة : أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد هؤلاء ، ويسفك الدّماء كما فعل هؤلاء ، ويتحاسدون ويتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منّا فانّا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدّماء ، ونحن نسبّح بحمدك ونقدّس لك ، قال تبارك وتعالى : انّى أعلم ما لا تعلمون ، انّى أريد ان أخلق خلقا بيدي وأجعل في ذرّيّته الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصّالحين وائمّة مهديّين وأجعلهم خلفائي على خلقي في أرضهم يهدونهم الى طاعتي وينهونهم عن معصيتي وأجعلهم حجّة لي عليهم عذرا ونذرا ، وأبين النّسناس عن ارضى وأطهّرها منهم وأنقل الجنّ المردة العصاة عن بريّتى وخيرتي من خلقي وأسكنهم في الهواء وفي قفار الأرض فلا يجاورون خلقي ، وأجعل بين الجنّ وبين نسل خلقي حجابا

٧٤

ومن عصاني من نسل خلقي الّذين اصطفيتهم أسكنتهم مسكن العصاة وأوردتهم مواردهم ، فقالت الملائكة ، سبحانك لا علم لنا الّا ما علّمتنا قال فباعدهم الله عزوجل من العرش مسيرة خمسمائة عام فلا ذوا بالعرش وأشاروا بالأصابع فنظر الرّبّ جلّ جلاله إليهم ونزل الرّحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال : طوفوا به ودعوا العرش فانّه لي رضا فطافوا به وهو البيت الّذى يدخله كلّ يوم سبعون الف ملك لا يعودون اليه أبدا ، ووضع الله البيت المعمور توبة لأهل السّماء ، والكعبة توبة لأهل الأرض ، فقال الله تعالى : انّى خالق بشرا من صلصال قال وكان ذلك من الله تعالى تقدمة في آدم (ع) قبل ان يخلقه واحتجاجا منه عليهم قال فاغترف جلّ جلاله من الماء العذب الفرات غرفة بيمينه وكلتا يديه يمين فصلصلها فجمدت وقال الله جلّ جلاله : منك أخلق النبيّين والمرسلين وعبادي الصّالحين والائمّة المهديّين الدّعاة الى الجنّة واتباعهم الى يوم القيامة ولا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون ، ثمّ اغترف من الماء المالح الأجاج غرفة فصلصلها فجمدت فقال تعالى : ومنك أخلق الفراعنة والجبابرة واخوان الشّياطين والعتاة والدّعاة الى النّار وأشياعهم الى يوم القيامة ولا أسأل عمّا أفعل وهم يسألون قال وشرط في ذلك البداء فيهم ولم يشرط في أصحاب اليمين ثمّ خلط المائين جميعا في كفّه فصلصلهما ثمّ كفأهما قدّام عرشه وهما سلالة من طين ، ثمّ أمر ملائكة الجهات الشّمال والجنوب والصّبا والدّبور أن يجولوا على هذه السّلالة من طين فابرؤها وانشأوها ثمّ جزّؤها وفصلّوها وأجروا فيها الطّبائع الأربع المرّتين والدّم والبلغم فجالت الملائكة عليها وأجروا فيها الطّبائع الأربع فالدّم من ناحية الصّباء ، والبلغم من ناحية الشّمال ، والمرّة الصّفراء من ناحية الجنوب ، والمرّة السّوداء من ناحية الدبور ، واستقلّت النّسمة وكمل البدن وقد أسقطنا آخر الحديث ؛ وبهذا المضمون أخبار كثيرة. ولمّا كان قصّة آدم (ع) وخلقته وأمر الملائكة بسجدته وإباء إبليس عن السّجود وهبوطه عن الجنّة وبكاؤه في فراق الجنّة وفراق حوّاء وخلقة حواّء من ضلع الجنب الأيسر منه وغروره بقول الشّيطان وحوّاء وكثرة نسله وحمل حوّاء في كلّ بطن ذكرا وأنثى وتزويج أنثى كلّ بطن لذكر البطن الآخر من مرموزات الأوائل ؛ وقد كثر ذكره في كتب السّلف خصوصا كتب اليهود وتواريخهم وورد أخبارنا مختلفة في هذا الباب اختلافا كثيرا مرموزا بها الى ما رمزوه ومن أراد أن يحملها على ظاهرها تحيّر فيها ، ومن رام ان يدرك المقصود بقوّته البشريّة والمدارك الشّيطانيّة منها طرد عنها ولم يدرك منها الّا خلاف مدلولها.

تحقيق معنى الاسم وبيان تعليم آدم الأسماء كلّها وبيان اللّطائف المندرجة في الاية الشّريفة

(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) اعلم انّ اسم الشيء ما دلّ عليه مطلقا أو باعتبار بعض صفاته سواء كانت الدّلالة وضعيّة أو غير وضعيّة ، وسواء كان الدّالّ لفظا أو نقشا أو مفهوما ذهنيّا أو موجودا عينيّا ، ولمّا كانت الدّلالة مأخوذة في الاسميّة فكلّما كانت الدّلالة أقوى كانت الاسميّة اشدّ فالدّلالة الوضعيّة الّتى هي في الألفاظ والنّقوش لمّا كانت محتاجة الى أمر آخر هو وضع واضع كانت أضعف ، فالاسميّة في الدّلالة الوضعيّة أضعف الاسميّات ، والمفهوم الذّهنىّ لضعفه في نفسه واختفائه عن المدارك بحيث أنكره بعض وقالوا : انّ العلم الحصولىّ ليس بحصول صورة من المعلوم في ذهن العالم بل هو بالاضافة بين العالم والمعلوم ، وقال بعض المحقّقين انّه بشهود العالم صورة المعلوم في عالم المثال عن بعد أو بشهوده ربّ نوع المعلوم عن بعد أضعف الأسماء أيضا ، فبقي ان يكون الموجود العينىّ المدرك لكلّ أحد الدّالّ على غيره بالطبّع كاملا في الاسميّة ؛ ونحن الأسماء الحسنى ، ولا اسم أعظم منّى ، وبأسمائك الّتى ملأت أركان كلّ شيء ، وغير ذلك من كلماتهم تدلّ على اعتبار الاسميّة للاعيان الموجودة وأهل العرف لمّا كان نظر هم الى المحسوسات

٧٥

غير متجاوز عنها لا يعرفون من اطلاق الاسم سوى اللّفظ والنّقش لغفلتهم عن حصول مفهوم من المسمّى في الذّهن فضلا عن اعتبار الاسميّة له ، ولاحتجابهم عن دلالة الأعيان على غيرها وعن كونها مرايا للحقّ الاوّل تعالى ، والاسم من حيث الاسميّة وكونه عنوانا ومرآة للمسمّى لا حكم له بل الحكم بهذا الاعتبار للمسمّى ، وقد يعتبر الاسم من حيث نفسه من غير اعتباره مرآة لغيره وله بهذا الاعتبار حكم في نفسه ويحكم عليه وبه ، والاخبار الدّالّة على انّ عابد الاسم كافر وعابد الاسم والمعنى مشرك وعابد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته الّتى وصف بها نفسه موحدّ ناظرة الى الأسماء العينيّة أو الموهومات الذّهنيّة ومشيرة الى هذين الاعتبارين ، وقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ؛ اشارة الى هذين أيضا يعنى ما جعلتموها معبودات أو مطاعين ليست الّا أسماء لا ينبغي ان ينظر إليها ويحكم عليها أنتم وآباؤكم جعلتموها مسمّيات ومنظورا إليها ومحكوما عليها بالمعبوديّة أو المطاعيّة ما أنزل الله بها من ذلك الاعتبار سلطانا وحجّة وتعليم الشّيء إعطاء العلم له سواء كان بنحو الاعداد والتّسبيب كالتّعليم البشرىّ أو بنحو الافاضة كتعليم الله تعالى وعلم الشيء ظهوره على النّفس بنفسه كالعلم الحضورىّ أو بصورته الحاصلة في النّفس ، أو في عالم المثال ، أو في ربّ النّوع على الاختلاف فيه كالعلم الحصولىّ سواء كان بالّشعور البسيط أو بالشّعور التركيبىّ فمعنى علّم آدم الأسماء كلّها أفاض وأودع علم الموجودات وصورة كلّ منها وأنموذجه من حيث هي أسماء ومرايا للحقّ تعالى شأنه لا من حيث هي مسميّات لعدم تحدّد آدم بحدّ حتّى يصير واقفا في ذلك الحدّ ويكون المعلوم في ذلك الحدّ مستقلا عنده في الوجود ومسمّى لا اسما لغيره فالتّعبير عن الموجودات بالأسماء للاشعار بعدم وقوف آدم (ع) دون الوصول الى الله والتّأكيد بلفظ كلّها للاشارة الى انّ الجميع مودعة في وجود آدم بحيث لا يشذّ عن حيطة وجوده شيء من الأشياء ، وما قلنا انّه أودع صورة الأشياء وأنموذجها انّما هو بحسب أفهام العوامّ والّا فحقيقة كلّ شيء عند آدم عليه‌السلام والأشياء كلّها دقائق للحقائق الّتى أودعها الله تعالى في آدم (ع) ، ولمّا كان الملائكة متحددين وكان الأشياء بالنّسبة إليهم متحدّدة ومحكوما عليها بوجه جعلها تعالى في معرض العرض على الملائكة للاشعار بمحدوديتّهم في صورة المسميّات المستقلّات من غير اعتبار الاسميّة لها بإرجاع ضمير ذوي العقول إليها تغليبا أو باعتبار كون الأشياء بالنّسبة اليه تعالى عقلاء فانّ إرجاع الضّمير الى الأسماء واعتبار كونها عقلاء إسقاط لاعتبار الاسميّة لها بخلاف إيقاع العلم على الأسماء بعنوان الاسميّة فقال (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) اى عرض الأسماء كما عرفت فلا حاجة الى تكلّف إرجاع الضّمير الى المسميّات المفهومة بالالتزام بل تكلّف إرجاع الضّمير الى المسميّات يذهب باللّطائف المودعة في تعليق الفعل على الأسماء وإرجاع ضمير ذوي العقول إليها كما عرفت (عَلَى الْمَلائِكَةِ) اى ملائكة الأرض لانّهم المستغربون خلافة آدم (ع) أو على الجميع ليظهر على الجميع سعة آدم (ع) واحاطته واستحقاقه الخلافة على جميعهم فانّ المقرّبين من الملائكة وان كانوا محيطين عالمين من آدم (ع) ظاهره وباطنه وما فيه بالفعل وما فيه بالقوّة لكنّ حقائق الأسماء الإلهيّة الّتى هي في مقام المشيّة مختفية عليهم مع انّ آدم (ع) بعلويّته عالم بها جامع لها وبتلك الحقائق يستحقّ الخلافة عليهم وباعتبار ذلك المقام ورد عنهم (ع) على ما نسب إليهم : روح القدس في جنان الصاقورة ذاق من حدائقنا الباكورة ، وورد انّ جبرئيل (ع) قال لمحمّد (ص) ليلة المعراج : لو دنوت أنملة لاحترقت ، والمراد بالعرض عليهم إظهار حقائقهم في العود الى الله لا في النّزول من الله ولذا كان ذلك العرض بعد تعليم آدم (ع) جميع الأسماء فانّ للأشياء بواسطة عروج آدم (ع) عروجا بأنفسها في صراط الإنسان مضافا الى عروج أسمائها

٧٦

مع الإنسان وعطف العرض بثمّ على تعليم الأسماء لآدم (ع) مشعر به ، وورد الخبر انّه عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلّة (فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) الأسماء هاهنا بمنزلة العلم في آدم يعنى أنبئونى بأنموذج كلّ من هؤلاء الحقائق المتكثّرة الموجودة المتضادّة من وجودكم حتّى تستحقّوا الخلافة في المتضادّات والحكومة بين المتفاسدات بالسّنخيّة بينكم وبين المتضادّات ، فانّ الخليفة لا بدّ ان يكون له سنخيّة مع المستخلف عليه وليس في وجود كلّ الّا أنموذج واحد منهم فلا يخبر كلّ منكم الّا باسم واحد منهم فأخبرونى بأسماء الجميع (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في انكار خلافة آدم (ع) واستحقاق خلافتكم فرجعوا الى أنفسهم وأيقنوا انّهم قاصرون عن المجانسة مع الاضداد وعن المحاكمة بين المتخالفات ، وعن العلم بالمتفاسدات ، مقصّرون في الاستعجاب والاستخبار على سبيل الإنكار مفرّطون في ادّعاء التّسبيح مع التّحميد واستحقاق الخلافة دون آدم فاعترفوا بذلك و (قالُوا سُبْحانَكَ) اى تنزّهت تنزّها عن النّقص والعبث وان تسأل عمّا تفعل واقتصروا على التّسبيح لمّا علموا أنّهم لم يدركوا حمده تعالى فانّ الحمد المضاف كما ادّعوه في قولهم ونحن نسبّح بحمدك مستغرق وادراك حمده المستغرق بإدراكه في جميع مظاهره وقد علموا أنّهم عاجزون عن ادراك أكثر مظاهره (لا عِلْمَ لَنا) اى لا اسم في وجودنا من الأسماء (إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) الّا اسما أعطيتناه ولمّا توّهم من قولهم : أتجعل فيها الى الآخر ؛ وقولهم : ونحن نسبّح الى الآخر ؛ نسبة العلم والحكمة الى أنفسهم وظهر بعد ذلك عجزهم وانّ علمهم بالنّسبة الى علم الله وحكمته كالعدم نفوا العلم عنهم اصالة واثبتوا قدرا قليلا من العلم لأنفسهم عارية وافادوا التزاما انّ العلم اصالة منحصر فيه تعالى حصر افراد ، وأكّدوا ذلك بإثبات العلم والحكمة له تعالى بطريق الحصر فقالوا (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ولذا لم يأتوا بالعاطف ، والعلم ظهور الشّيء عند العقل بصورته على قول من يجعل العلم الحصولىّ بالصّورة الحاصلة من المعلوم عند العالم ، أو بنفسه كالعلم الحضورىّ كعلمنا بالصّور الحاضرة عندنا ، أو بحقيقته كعلم الحقّ تعالى بالأشياء بالعلم الذّاتىّ ، والحكمة قد تستعمل فيما للقوّة العلّامة وقد تستعمل فيما للقوّة العمالّة ، وقد تستعمل في الاعمّ منهما ، وهو الّلطف في العلم والعمل ؛ والّلطف في العلم عبارة عن ادراك دقايق العلوم والغايات المترتّبة المتعاقبة والّلوازم القريبة والبعيدة ، والّلطف في العمل عبارة عن القدرة على صنع ما يدركه من دقائق المصنوع ، والحكمة العلميّة يعبّر عنها في الفارسيّة «بخرده بيني» والحكمة العمليّة يعبّر عنها «بخرده كارى» والمراد بها هاهنا امّا المعنى الاعمّ أو الحكمة العمليّة فقط (قالَ) تعالى بعد ظهور عجزهم وعدم استحقاقهم للخلافة (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) حتّى يظهر فضلك عليهم واستحقاقك للخلافة دونهم فيظهر عندهم بطلان دعوييهم ؛ انكار استحقاق خلافتك وإثبات استحقاق الخلافة لأنفسهم ، والمراد بالانباء ليس الاخبار بالّلسان بل إظهار الأسماء من وجوده كما عرفت سابقا (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) ورأوا انّه جامع لأسماء الكلّ بوجوده الجمعىّ ورأوا أنموذج كلّ فيه بل رأوا انّ حقيقة كلّ الأشياء الامكانيّة هو آدم (ع) بوجه ، وانّ كلّ الحقائق منطو فيه بوجه والكلّ رقائق له ، وعرفوا انّ آدم (ع) هو الّذى يستحقّ الخلافة في الأرض وعلى جميع الملائكة (قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ) عند قولي انّى اعلم ما لا تعلمون (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) الغائب عنكم منهما وهو

٧٧

ملكوتهما أو الغائب عنهما ومن جملته جامعيّة الإنسان لما له علامة الإمكان (وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) من إظهار استعجاب خلافة آدم واستحقاقكم الخلافة دونه وسائر صفاتكم الظّاهرة عليكم وعلى غيركم ومقدار علومكم الظّاهرة (وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من النّقائص الّتى لا شعور لكم بها ولا يظهر عليكم الّا بعد اختياركم باستعلامكم كما فعلنا وليس المراد ما تكتمون بالشّعور والارادة فانّه يستلزم نسبة النّفاق واعتقاد جواز الجهل على الله الى الملائكة وللاشارة الى ما فسّرنا زاد كنتم لانّه يدلّ على انّ الكتمان كان ثابتا دائما لهم ، ويجوز ان يراد بما يكتمون ما كتمه الشّيطان من الاباء عن السّجدة لآدم (ع) لو أمر به أو من المخالفة والعناد لآدم (ع) المكمون فيه ، ونسبته الى الملائكة لكونه فيهم ومشتبها بهم ، ويجوز ان يراد اعمّ منه وممّا ذكر اوّلا ، وهذا القول منه تعالى امّا تفصيل لما أجمل عند قوله : (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) ، أو كان هذا القول مذكورا مع قوله (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) لكنّه تعالى اسقطه حين الحكاية ، ويحتمل ان يكون قوله (أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ) حالا بتقدير انّا أو عطفا على الم أقل محكيّا بالقول الاوّل ، ويجوز ان يكون قوله (إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ) مستأنفا غير محكىّ بالقول (وَإِذْ قُلْنا) عطف على قوله (إِذْ قالَ رَبُّكَ) اى اذكر أو ذكر حتّى تعلموا انّ جميع ما في الأرض خلق لكم إذ قلنا (لِلْمَلائِكَةِ) اى لملائكة الأرض على ما ورد في أخبارنا فانّ مرتبة آدميّة آدم (ع) مسجودة لملائكة الأرض أو للملائكة جميعا على ما سبق انّ آدم (ع) بعلويّته مسجود لجميع الملائكة وقد ورد في أخبارنا انّ الله أمر الملائكة بسجدة آدم (ع) لكون نور محمّد (ص) وعلىّ (ع) وعترتهما (ع) في صلبه (اسْجُدُوا لِآدَمَ) السّجدة غاية الخضوع والتّذلّل والانقياد للمسجود ، ولمّا كان غاية التّذلّل السّقوط على التّراب عند المسجود صارت السّجدة اسما لسجدة الصّلوة في الشّريعة والمراد بالسّجدة هاهنا التّذلّل تحت أمر آدم (ع) والتّسخّر له بحيث يكون بالنّسبة الى كلّ منهم إذا أراد شيئا ان يقول له كن فيكون ، وتسخّر الملائكة وسجدتهم لآدم (ع) دون إبليس نظير تسخّر القوى لآدم في العالم الصّغير دون الوهم الّذى هو الشّيطان في هذا العالم (فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) افعيل من أبلس إذا يئس من رحمة الله أو من أبلس إذا تحيّر واضطرب ، أو من أبلس إذا ندم لانّ فعله فعل ينبغي ان يندم عليه ، أو من أبلس إذا سكت وانقطع حجّته ، وكأنّه لم يستعمل مجرّدة وقيل : انّه اسم أعجمىّ ولذا لم ينصرف (أَبى وَاسْتَكْبَرَ) من قبيل عطف السّبب على المسبّب (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) يعنى انّ فطرته كانت فطرة الكفر والاباء وترك الطّاعة لا انّ الكفر طرأ عليه بعد ان كان مؤمنا ؛ إذ قوّة الاباء عن الانقياد كانت ذاتيّة له بحيث لو طرأ الانقياد كما روى شيطاني أسلم على يدي كان الانقياد كأنّه عرضىّ عرضي له.

تحقيق مراتب العالم وكيفيّة خلق الاجنّة والشّياطين

اعلم انّ الوجود كما مرّ له مراتب ؛ مرتبة منه غيب مطلق لا خبر عنه ولا اسم ولا رسم وهو الوجوب الذّاتىّ الّذى يخبر عنه بعنوان مقام ظهوره بالوجوب الذّاتىّ ، ومرتبة منه فعل الواجب وظهوره ومعروفيّته وفي تلك المرتبة يظهر تمام صفاته وأسمائه ؛ وتلك المرتبة باعتبار كونها عنوانا له تعالى بأسمائه تسمّى بالوحدانيّة ، وباعتبار كونها اقتضاء لإيجاد العالم تسمّى بالمشيّة ، وباعتبار كونها نفس إيجاد العالم تسمّى بفعله تعالى ، وباعتبار كونها جامعة لتمام الأسماء والصّفات بوجود واحد جمعىّ تسمّى بالله ، وباعتبار كونها مجمعا لتمام الموجودات بنحو الاحاطة

٧٨

تسمّى بعلىّ (ع) ، وبهذين الاعتبارين تسمّى بالعرش والكرسىّ ولها أسماء أخر غير هذه ، ومرتبة منه عالم المجرّدات ذاتا وفعلا وينقسم الى العقول والأرواح المعبّر عنهما في لسان الشّريعة بالملائكة المهيمنين وبالصّافّات صفّا ، ويسمّيهما الفلاسفة بالعقول الطّوليّة والعقول العرضيّة ، وأرباب الأنواع وأرباب الطّلسمات في اصطلاح حكماء الفرس الّتى قرّرها الشرع عبارة عن العقول العرضيّة ، ومرتبة منه عالم المجرّدات في الذّات لا في الفعل وتسمّى بالمدبّرات امرا ، وينقسم الى النّفوس الكليّة والنّفوس الجزئيّة يعنى اللّوح المحفوظ ولوح المحو والإثبات ، ومرتبة منه عالم المثال النّازل المعبّر عنه بجا بلقا الواقع في جانب المغرب وفيه صورة كلّ ما في عالم الطّبع بنحو أعلى وأشرف ، وظهور المحو والإثبات اللّذين في النّفوس الجزئيّة في هذا العالم ، والبداء الّذى ذكر في الاخبار هو في هذا العالم ، وقوله تعالى : ما تردّدت في شيء كتردّدى في قبض روح عبدي المؤمن ؛ انّما يظهر في هذا العالم ، والرّؤيا الصّادقة تكون بالاتّصال بهذا العالم وشهود ما سيقع بصورته فيه محتاجة الى التّعبير أو غير محتاجة ، ومرتبة منه عالم المادّيات من سماواته وسماويّاته وعنصره وعنصريّاته ، وهذا العالم مجمع الاضداد ومورد المتخالفات ومصدر المتباغضات ومصرع الهلكى ومصعد السّعداء ، وفيه وقع تعليم آدم الأسماء وخلافته على ما في الأرض والسّماء ، ومرتبة منه عالم الجنّة والشّياطين وهو أسفل العوالم وأبعدها عن الله وهو محلّ الأشقياء من الإنسان وفيه الجحيم وعذاب الأشرار وهو في مقابل المثال العالي ، ووجود الجنّة والشّياطين كوجود الملائكة الّذين هم ذووا الاجنحة مجرّد عن المادّة ؛ ولذا يقدرون على التّشكّل بالاشكال المختلفة والتّصرّف في عالم الطّبع مثل الملائكة ، ويتراءى انّهم أقوى وجودا من عالم الطّبع لتجرّدهم عن التّقيّد بالمادّة والمكان والزّمان واطّلاعهم على ما لا يطّلع عليه الإنسان من الماضي والآتي وممّا لم يكن حاضرا في مكانهم ، لكنّ العناصر والعنصريّات للاستعداد للخروج عن التّقيّد بالزّمان والمكان والمادّة والتحاقهم بالملإ الأعلى والمقرّبين من الله أقوى وجودا وأقرب من الله ، وينقسم أهل الملكوت السّفلىّ الى من هو في غاية البعد عن الله وعن استعداد قبول رحمة الله بحيث كأنّ الحرمان عن الرّحمة ذاتىّ له وهم الشّياطين وذرّيّتهم والى من هو ليس في غاية البعد عن المادّة واستعدادها للرّحمة وهم الجنّة ، وهذا العالم تحت عالم الطّبع كما انّ عالم الملائكة فوقه ، وفي الاخبار إشارات الى ما ذكرنا من عالم الجنّة وصفاتها وأقسامها وهذا آخر العوالم في نزول الوجود من الله ، وامّا في صعود الوجود الى ما منه بدئ فالمبدأ المادّة والعناصر وان كان الجنّة والشّياطين قد يتقرّبون ويتصاعدون عن مهابطهم البعيدة لكن صعودهم الى حدّ محدود لا يتجاوزونه بخلاف صعود المادّيّات فانّه لا حدّ لها ولا وقوف ، واولى درجات صعود العناصر امتزاجها وكسر سورة كلّ بحيث ارتفع التّمييز بينها ، وثانيتها حصول المزاج والصّورة النّوعيّة فيها والوحدة الحقيقيّة لها ويسمّى الحاصل جمادا ؛ وهو امّا واقف أو واقع في طريق النّبات ، وثالثتها حصول النّفس النّباتيّة فيها وظهور آثار مختلفة وافعال متخالفة عنها ويسمّى الحاصل نباتا وهو امّا بشرط لا أو لا بشرط شيء في طريق الحيوان ، ورابعتها حصول النّفس الحيوانيّة فيها وظهور الحسّ والحركة الاراديّة عنها ؛ والحاصل امّا موقوف على حدّ أو غير موقوف بل واقع في طريق الإنسان ، وخامستها حصول النّفس الانسانيّة وظهور الإدراكات الكلّيّة عنها ، ولا وقوف للحاصل بحسب التّكوين ان كان بحسب الاختيار لأفراده وقوفات عدد وقوفات أنواع الجماد والنّبات والحيوان ، وعدد وقوفات افراد كلّ نوع منها ، ومقامات صعود نفس الإنسان ودرجات عروجها بعد ذلك غير متناهية ، واوّل مقامات صعودها بعد ذلك عروجها الى الملكوت العليا بدرجاتها ، أو نزولها الى الملكوت السّفلى بدركاتها ، والملكوت الحاصلة بعد صعود العناصر عن المقام البشرىّ يسمىّ بجابلسا وهو مقابل لجابلقا ، وجميع

٧٩

ما في هذا العالم يحصل في جابلسا ثانيا كما كان حاصلا في جابلقا قبل هذا العالم ، وما يحصل في جابلسا يكون مدبرا عن هذا العالم كما انّ ما حصل في جابلقا كان مقبلا على هذا العالم ، ولهذا لم يكن لما في جابلسا ظهور في هذا العالم كما كان ما حصل في جابلقا لا بدّ من ظهوره في هذا العالم ، وامّا البرزخ الّذى هو طريق مشترك بين الملكوت العليا ودار السّعداء والملكوت السّفلى ودار الأشقياء فهو معدود من صقع الملكوت وليس مقام مقرّ حتّى يعدّ مقاما وعالما بنفسه لانّ السّعيد والشّقىّ لا بدّ من سلوكهما عليه الى الأعراف ، والأعراف آخر البرازخ ومنه طريق الى الملكوت العليا وطريق آخر الى الملكوت السّفلى وسمّى الأقدمون البرزخ بهورقوليا وهذه المدينة هي الّتى لها الف الف باب ويدخلها كلّ يوم ما لا يحصى من خلق الله ، ويخرج مثل ذلك ، وهورقوليا وجابلقا وجابلسا غير مجرّدة عن التّقدّر وفوقها عوالم مجرّدة عن التّقدّر أيضا.

واعلم أيضا انّ النّور العرضىّ الّذى به يستضيء السّطوح معرّف بأنّه ظاهر بذاته مظهر لغيره وهذا التّعريف في الحقيقة للوجود وهو اولى به من النّور العرضىّ ؛ فانّ النّور ظاهر للابصار مظهر لغيره على الأبصار لا على سائر المدارك ، وظهوره ليس بذاته وبمهيّته النّوريّة بل بوجوده فالنّور بما هو مهيّة من الماهيّات ليس ظاهرا بنفسه بل هو بما هو وجود ظاهر بنفسه اى بجزئه الّذى هو الوجود لا بالجزء الآخر ولا بالمجموع بخلاف الوجود فانّه بسيط ظاهر بذاته لا بشيء آخر مظهر لغيره الّذى هو المهيّة ايّة مهيّة كانت ومظهر لنقيضه الّذى هو العدم ، وظهوره ليس على مدرك واحد بل هو ظاهر ومظهر لكلّ الأشياء على جميع المدارك فهو أقوى في النّوريّة من النّور العرضىّ ، وكما انّ النّور العرضىّ إذا قابله جسم صلب كثيف غير شفيف ينفذ النّور فيه على استقامته سواء كان صيقليّا كالبلوّر أو غير صيقلىّ كغيره من الأحجار الصّلبة واجتمع النّور فيه وتراكم ظهر منه آثار غير النّوريّة مثل النّار الحاصلة خلف البلوّرة إذا قابلت نور الشّمس والنّار المكمونة في الأحجار الكبريّتيّة وغيرها كذلك النّور الحقيقىّ إذا قابله ما لم ينفذ فيه على الاستقامة كالمادّة القابلة الّتى لا جهة فعليّة فيها سوى القوّة ، وعالم الأجسام الّذى ليس فيه الّا جهة القبول لا الفاعليّة واجتمع الوجودات الضعيفة والكثرات البعيدة من الوحدة حصل من اجتماع الأنوار نار مكمونة فيه أو خلفه وتعلو بتلك النّار نفس مناسبة لها شريرة امّا بعيدة عن الخير ظاهرة النّاريّة نظيرها النّار الظّاهرة خلف البلوّرة البعيدة من الجسم المستنير ، أو قريبة من الخير نظيرها النّار المكمونة في الأحجار ، والقسم الاوّل الشّياطين والقسم الثّانى الجنّة ففي النّور نار مكمونة والنّار نور مكمون أو ظاهر ، فعلى هذا لا حاجة الى تأويل الآيات والاخبار الدّالّة على خلق الشّياطين والجنّة من النّار كما فعلته الفلاسفة ، ولا الى تصحيحها بتجويز خلقها في كرة الدّخان المنافى لكثير من قواعدهم ولكثير من آثار الشّياطين الّتى ذكروها في الشّريعة ، ولا الى انكار وجودهم الّا بالتّأويل ، ولا الى جعلهم نوعا من الملائكة ؛ فانّ الملائكة خلقوا من النّور وهم خلقوا من النّار وان كان لهم نوريّة كنوريّة النّار المختلطة ، وكون آدم مخلوقا من الطّين باعتبار انّ التّراب والماء غالبان في مادّته والّا فمادّته مركّبة من العناصر الاربعة (وَقُلْنا) بعد خلق آدم (ع) وخلق حوّاء لأنسه بها وسجود الملائكة له وإباء إبليس من السّجود.

(يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) الّتى هي من جنان الدّنيا لا من جنان الآخرة الّتى هي للإنسان بعد خلاصه من البنيان العنصرىّ فانّه من دخلها لم يخرج منها وسيأتى الاشارة الى وجه كونها من جنان الدّنيا (وَكُلا مِنْها) رزقكما الخاصّ بكما من أثمار الجنّة وفواكه الأعمال وحبوبها (رَغَداً) رزقا واسعا

٨٠