تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

صدق الإصرار على القبيح هو علم الفاعل بقبحه لا قبحه في نفس الأمر فلو اشتبه الاجنبيّة واصرّ على المضاجعة معها لم تكن معصية ولا الإصرار عليها إصرارا على القبيح (أُولئِكَ) الإتيان باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم باوصافهم العظيمة ولتفخيم شأنهم (جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ) هذه الجملة تأكيد لما استفيد من قوله (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) فانّه أفاد انّ الجنّة والمغفرة جعلت نزل المتّقين لانّها كانت جزاءهم ولكونها في مقام التّأكيد أتى بها مؤكّدة باسميّة الجملة وتكرار النّسبة بجعلها ذات وجهين كبري وصغرى وبسط في الكلام ولم ـ يكتف بذكر المغفرة والجنّة وجمع الجنّات ووصفها بقوله تعالى (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) ومدحها بما يرتفع المنّة به عنهم وانّها أجر عملهم فقال : (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) المغفرة والجنّات ، روى انّه لمّا نزلت هذه الآية صعد إبليس جبلا فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا : يا سيّدنا لما دعوتنا؟ ـ قال : نزلت هذه الآية فمن لها؟ ـ فقام عفريت من الشّيطان فقال : انا لها بكذا وكذا ، قال لست لها ، فقام آخر فقال مثل ذلك ، فقال : لست لها ، فقال الوسواس الخنّاس : أنالها ، قال بماذا؟ ـ قال أعدهم وامنّيهم حتّى يواقعوا الخطيئة فاذا واقعوا الخطيئة أنسيتهم الاستغفار فقال : أنت لها ، فوكّله بها الى يوم القيامة (قَدْ خَلَتْ) استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا للمتّقين فما لغيرهم؟ ـ فقال : قد خلت اى مضت (مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) جمع السنّة وهي السيرة والطّريقة والمقصود انّه مضت طرائق كانت عليها الأمم الماضية من المتّقين المصدّقين والفاسقين المكذّبين (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ) اى ارض عالم الطّبع لاستعلام سير المصدّقين والمكذّبين حتّى تعلموا حالهما وعملهما وصنع الله فيهما وفي اعقابهما في الدّنيا والآخرة بمشاهدة آثار صنع الله بهما وباستعلام اخبار الأنبياء بحالهما في الآخرة ثمّ تفكّروا (فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) حتّى تعتبروا من حالهم وتجتنبوا مثل أفعالهم ، أو سيروا في ارض القرآن والكتب السّماويّة ، أو في ارض اخبار الأنبياء وأوصيائهم ، أو في ارض السّير والتّواريخ ، أو في ارض وجودكم وعالمكم الصّغير فانّ أهل عالمكم الماضين كلّ منهم في مقامهم كانوا مدّعين للانانيّة والاستقلال ومكذّبين بلسانهم الحالىّ لمن يقول أنتم في الطّريق والهلاك من هذه الحيوة ولا بدّ لكم الفناء من هذا الوجود ثمّ البقاء والحيوة بوجود آخر أشرف وأكمل (هذا) القرآن بآياته أو هذا المذكور من ذكر حال المتّقين ومآلهم وذكر المكذّبين والاشارة الى عاقبتهم الفضيحة ، أو هذا المذكور من السّنن الماضية من المتّقين والمكذّبين ، أو السّير في الأرض ، أو فضيحة عاقبة المكذّبين (بَيانٌ) اى ظاهر أو مظهر أو إظهار (لِلنَّاسِ) عامّة (وَهُدىً) هاد أو هداية (وَمَوْعِظَةٌ) واعظ أو وعظ (لِلْمُتَّقِينَ) خاصّة فانّ شرط الهداية والوعظ قبول القابل لانّهما أمران اضافيّان (وَلا تَهِنُوا) عطف على سارعوا لانّ الفاصل بينهما من متعلّقات المعطوف عليه اى لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم يوم أحد وقد أصبتم مثليه يوم بدر (وَلا تَحْزَنُوا) على قتلاكم لانّهم بلغوا بالقتل مقاماتهم العالية من الجنان وعانقوا أزواجهم من الحور العين ، ولا على ما فات منكم من الغنيمة (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) بالصّعود على الجبل أو أنتم الأعلون شأنا لانّكم على الحقّ وعدوّكم على الباطل وقتلاكم في الجنّة وقتلاهم في النّار ، أو أنتم الأعلون في العاقبة بالغلبة عليهم وعلى اىّ تقدير فهو تسلية قيل : نزلت الآية تسلية للمؤمنين لما نالهم يوم أحد من القتل والجراح ، وقيل : لمّا انهزم المسلمون اقبل خالد بن وليد بخيل من

٣٠١

المشركين يريد ان يعلو عليهم الجبل فقال النّبىّ (ص) لا يعلنّ علينا ووثب نفر رماة فصعدوا الجبل ورموا خيل المشركين حتّى هزموهم وعلا المسلمون الجبل ونزلت الآية ، وقيل : نزلت بعد يوم أحد حين امر الله رسوله (ص) بطلب القوم وقد أصابهم من القتل والجراح ما أصابهم وقال رسول الله (ص) لا يخرج الّا من شهد معنا بالأمس فاشتدّ ذلك على المسلمين فنزلت الآية (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) يعنى ان كنتم باقين على الايمان كنتم اعلون أو هو شرط تهييجىّ لقوله : لا تهنوا (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ) قرئ بالفتح والضّمّ وهما مصدران ، أو القرح بالفتح مصدر وبالضمّ اسم المصدر بمعنى الم الجراح (فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ) ببدر أو في تلك الغزوة (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ) اى ايّام الغلبة والسّرور والنّعمة فانّه يكنّى بالايّام عن النّعمة والسّرور فيقال : هذه ايّام فلان يعنى وقت سروره ونعمته (نُداوِلُها) اى نديرها بالنّوبة (بَيْنَ النَّاسِ) فنعطى السّرور والظّفر والغنيمة يوما للمؤمنين ويوما للكافرين لئلّا يغتّر المؤمنون ويسكنوا الى الدّنيا ويجعلوا ايمانهم وسيلة لراحة دنياهم ولئلّا يدخل المنافقون في الإسلام طلبا للدّنيا فيزاحموا الأنبياء ويفتنوا المؤمنين (وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) اى ليظهر علمه بالّذين أسلموا حقيقة أو ليعلم نبيّه الّذى هو مظهر اسمه الجامع الّذى هو الله ولذلك التفت من التّكلّم الى الغيبة (وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ) بالابتلاء والامتحان (شُهَداءَ) على الناس أو أمناء في الشّهادة أو رجالا لا يغيب عن علمهم شيء كالاوصياء والأولياء أو قتلى في سبيل الله ويظهر ظلم الظّلمة منكم ومن الكفّار بسبب الغلبة والمغلوبيّة واكتفى عنه بقوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) فانّه يدلّ عليه مع شيء زائد والمراد بنفي المحبّة في مثل المقام إثبات الغضب عليهم كما مرّ مرارا (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) من الاهوية والأغراض الفاسدة بسبب المغلوبيّة ومن الذّنوب بسبب تحمّل الأذى ، أو ليميز الله الّذين آمنوا من الّذين كفروا ممّن انتحل الإسلام ، أو ليميز الله الّذين آمنوا من الّذين كانوا كافرين بإعلان كلمة المؤمنين (وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) من حيث ذواتهم باهلاك بعض وأسر بعض واجلاء بعض ، أو من حيث كفرهم بإدخالهم طوعا أو كرها في الإسلام (أَمْ حَسِبْتُمْ) اضراب عمّا يستفاد من تلك التّسلية سواء جعل أم بمعنى بل مع الهمزة أو بمعنى بل فقط كأنّه قال : ما تثبّتّم على الايمان وعلى الجهاد بل حسبتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) لمّا يظهر جهاد منكم فلم يظهر على الله بجهادكم أو لم يعلم الله الجهاد منكم في مقام مظاهره الّذين هم الأنبياء (ع) وأوصياؤهم والفرق بين لم ولمّا انّ لم لنفى الماضي من غير التفات الى استمراره الى الزّمان الحاضر ومن غير ترقّب وقوع المنفىّ بعد الزّمان الحاضر ، ولمّا لنفى الماضي مع الاستمرار الى الزّمان الحاضر وترقّب وقوع المنفىّ بعده ؛ والجملة حاليّة ، (وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) على الجهاد أو عن الجهاد وقرئ بالنّصب بإضمار ان بعد الواو بمعنى مع ، وبالرّفع على ان يكون الجملة حالا بتقدير مبتدء أو على ان تكون معطوفة على لمّا يعلم الله ، ويكون المعنى ويعلم الصّابرين عن الجهاد ولمّا يعلم المجاهد (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) بالشّهادة والجملة حاليّة ، روى انّ المؤمنين لمّا أخبرهم الله تعالى بالّذى فعل بشهدائهم يوم بدر في منازلهم في الجنّة رغبوا في ذلك فقالوا : اللهمّ أرنا قتالا نستشهد فيه فأراهم الله يوم أحد ايّاه فلم يثبتوا الّا من شاء الله منهم وانهزموا وفرّوا عن القتل والموت فقال تعالى : (وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ) ببدر (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) بمشاهدة قتلاكم من إخوانكم

٣٠٢

المؤمنين وضمير تلقوه ورأيتموه راجع الى الموت باعتبار لقاء أسبابه ورؤية أسبابه (وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) ترون الموت بأعينكم فيكون تأكيدا لرأيتموه لرفع احتمال ان يكون المراد رؤية القلب أو تتفكّرون أو تتأنّون (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ) اى مضت (مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) بالموت أو القتل فيخلو لا محالة (أَفَإِنْ ماتَ) باجله من دون أسباب خارجيّة وآلات قتّالة فانّ المتبادر من الموت هذا خصوصا حين استعماله مقابل القتل وقد أشير في الاخبار وصرّح بأنّه غير القتل (أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ) عن الدّين (عَلى أَعْقابِكُمْ) شبّه الرّاجع عن الدّين الّذى هو طريق النّفس بالرّاجع عن الطّريق الظّاهر وانّما قال على أعقابكم للاشارة الى انّ الإنسان ان ارتدّ عن دينه كان وجهه الى مقصده بحسب فطرته مثل من ارتدّ عن طريق على عقبه حيث يكون وجهه الى مقصده الاوّل وذكر في نزول الآية انّه لمّا فشا يوم أحد في النّاس انّ محمّدا (ص) قتل قال بعض المسلمين ليت لنا رسولا الى عبد الله بن ابىّ فيأخذ لنا أمانا من ابى سفيان ، وبعضهم جلسوا والقوا ما بأيديهم وقال أناس من أهل النّفاق : ان كان محمّد (ص) قد قتل فالحقوا بدينكم الاوّل فقال انس بن نضر عمّ انس بن مالك : يا قوم ان كان قد قتل محمّد (ص) فانّ ربّ محمّد (ص) لم يقتل وما تصنعون بالحيوة بعد رسول الله (ص) فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول الله (ص) وموتوا على ما مات عليه ، ثمّ انّ رسول الله (ص) انطلق الى الصّخرة وهو يدعو النّاس فاوّل من عرف رسول الله (ص) كعب بن مالك قال : فناديت بأعلى صوتي : يا معاشر المسلمين أبشروا فهذا رسول الله (ص) فاشار الىّ ان اسكت فانحازت اليه طائفة من أصحابه فلامهم النّبىّ (ص) على الفرار فقالوا : فديناك بآبائنا وأمّهاتنا أتانا الخبر بانّك قتلت فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين فأنزل الله تعالى : (وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) (الى آخر الآية) وكان سبب هزيمة المسلمين يوم أحد انّ رسول الله (ص) لمّا سمع اجتماع المشركين لحربه وكانوا ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل واخرجوا معهم النّساء جمع أصحابه وحثّهم على الجهاد ومنع عبد الله بن ابىّ أصحابه عن الخروج وقال سعد بن معاذ وأمثاله : نخرج من المدينة وقبل رسول الله (ص) رأيه وخرج من المدينة ووضع رسول الله عبد الله بن جبير على باب الشّعب وأكّد عليهم في ثباتهم في مراكزهم ووضع ابو سفيان خالد بن وليد في مأتى فارس كمينا وقال : إذا اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشّعب حتّى تكونوا وراءهم وعبّأ رسول الله (ص) أصحابه ودفع الرّاية الى أمير المؤمنين (ع) فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة ووقع أصحاب رسول الله (ص) في سوادهم وانحطّ خالد بن وليد في مأتى فارس على عبد الله بن جبير فاستقبلوهم بالسّهام فرجع ونظر أصحاب عبد الله بن جبير الى أصحاب رسول الله (ص) ينهبون سواد القوم فقالوا لعبد الله : قد غنم أصحابنا ونبقى نحن بلا غنيمة ..!؟ فقال لهم عبد الله : اتّقوا الله فانّ رسول الله (ص) قد تقدّم إلينا ان لا نبرح فلم يقبلوا منه وأقبلوا ينسلّ رجل فرجل حتّى خلّوا مراكزهم وبقي عبد الله بن جبير في اثنى عشر رجلا وانحطّ خالد بن وليد على عبد الله بن جبير وأصحابه فقتلهم على باب الشّعب ثمّ أتى المسلمين في ادبارهم ونظرت وقريش في هزيمتها الى الرّاية قد رفعت فلاذوا بها وانهزم أصحاب رسول الله (ص) هزيمة عظيمة وأقبلوا يصعدون في الجبال وفي كلّ وجه (وَمَنْ يَنْقَلِبْ) عن دينه (عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) بل يضرّ نفسه ويهلك حرثه ونسله (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) يعنى ومن يثبت على دينه ويذهب على استقامة طريقه فهو شاكر ورابح وسيجزي الله الشّاكرين وانّما اقتصر على هذا لافادته ايّاه مع شيء زائد بأخصر لفظ وانّما كان الثّابت الذّاهب مستقيما شاكرا لصرفه نعم الله الّتى هي مداركه وقواه وبدنه وأعضاؤه وعلمه وشعوره

٣٠٣

فيما خلقت لأجله ، ولحفظه حقّ المنعم وعظمته في انعامه حين صرف نعمه فيما خلقت له ، والمراد بالشّاكرين هاهنا علىّ (ع) ونفر يسير بقوا عند رسول الله (ص) حين انهزم المسلمون ، روى عن الصّادق (ع) انّه لمّا انهزم المسلمون يوم أحد عن النّبىّ انصرف إليهم بوجهه وهو يقول : انا محمّد انا رسول الله لم اقتل ولم أمت ، فالتفت اليه بعض الصّحابة فقال : الآن يسخر بنا أيضا وقد هزمنا وبقي معه علىّ (ع) وابو دجانة رحمه‌الله فدعاه النّبىّ (ص) فقال : يا أبا دجانة انصرف وأنت في حلّ من بيعتك فامّا علىّ (ع) فهو انا وانا هو فتحوّل وجلس بين يدي النّبىّ وبكى وقال : لا والله ورفع رأسه الى السّماء وقال : لا والله لا جعلت نفسي في حلّ من بيعتي ، انّى بايعتك فالى من انصرف يا رسول الله (ص)؟! الى زوجة تموت؟ أو ولد يموت؟ أو دار تخرب؟ ومال يفنى؟ وأجل قد اقترب؟ فرقّ له النّبىّ فلم يزل يقاتل حتّى قتل فجاء به علىّ (ع) الى النّبىّ (ص) فقال: يا رسول الله (ص) أوفيت ببيعتي؟ ـ قال : نعم ، وقال له النّبىّ (ص) خيرا وكان النّاس يحملون على النّبىّ (ص) الميمنة فيكشفهم علىّ (ع) فاذا كشفهم أقبلت الميسرة الى النّبىّ (ص) فلم يزل كذلك حتّى تقطّع سيفه بثلاث قطع فجاء الى النّبىّ (ص) فطرحه بين يديه وقال : هذا سيفي قد تقطّع فيومئذ أعطاه النّبىّ (ص) ذا الفقار ولمّا رأى النّبىّ (ص) اختلاج ساقيه من كثرة القتال رفع رأسه الى السّماء وهو يبكى وقال : يا ربّ وعدتني ان تظهر دينك وان شئت لم يعيك فأقبل علىّ (ع) الى النّبىّ (ص) فقال : يا رسول الله (ص) اسمع دويّا شديدا واسمع أقدم يا حيزوم وما اهمّ اضرب أحدا الّا سقط ميّتا قبل ان اضربه فقال : هذا جبرئيل وميكائيل وإسرافيل والملائكة ثمّ جاء جبرئيل فوقف الى جنب رسول الله (ص) فقال : يا محمّد (ص) انّ هذا لهي المواساة فقال النّبىّ (ص) : انّ عليّا (ع) منّى وانا منه فقال جبرئيل : وانا منكم (الى آخر الحديث) ونزل وسيجزي الله الشّاكرين وهذا مضمون ما روى عن الصّادق أيضا ، وفي حديث عن النّبىّ (ص) الا وانّ عليّا (ع) هو الموصوف بالصّبر والشّكر ثمّ من بعده ولدي من صلبه ، ويظهر من الاخبار انّ الآية تعريض بما أحدث المنافقون من بعده من رجوعهم من علىّ (ع) وتركهم وصيّته (ص) في حقّه فعن علىّ (ع) في حديث حتّى إذا دعا الله نبيّه ورفعه اليه لم يك ذلك بعده الّا كلمحة من خفقة أو وميض من برقة الى ان رجعوا على الأعقاب وانتكصوا على الأدبار وطلبوا بالأوتار وأظهروا الكتائب وردموا الباب وفلوا الدّيار وغيّروا آثار رسول الله (ص) ورغبوا عن احكامه وبعدوا من أنواره واستبدلوا بمستخلفه بديلا وعن الباقر (ع) انّه قال كان النّاس أهل ردّة بعد رسول الله (ص) الّا ثلاثة قيل ومن الثّلاثة؟ ـ قال : المقداد وابو ذرّ وسلمان الفارسىّ ثمّ عرف أناس بعد يسير فقال : هؤلاء الّذين دارت عليهم الرّحا وأبوا ان يبايعوا حتّى جاءوا بأمير المؤمنين مكرها فبايع وذلك قول الله ما محمّد الّا رسول (الآية) وعن الصّادق (ع) في موت النّبىّ (ص) وقتله انّه قال : أتدرون مات النّبىّ (ص) أو قتل انّ الله يقول : أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم (الى آخر الحديث) (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ) كأنّ المراد بالموت هاهنا معنى اعمّ من القتل (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) اى بإباحته وهذا تقوية لقلوب المؤمنين وتسلية لهم بانّه ما أصابهم من القتل وما يصيبهم ما كان ولا يكون الّا بعلمه وترخيصه لخروح الرّوح ولو لم يخرج أرواح المقتولين بالقتل لخرجت بالموت فما لهم يتوانون من الجهاد ويخافون من القتل ويتحسّرون على القتلى (تاباً) حال من ان تموت فانّه بتأويل الموت أو مفعول مطلق لفعل محذوف (مُؤَجَّلاً) موقّتا لا يتخلّف عن وقته بتأخيران فرّت وتقديم ان قاتلت (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها) تعريض بمن شغلته الدّنيا ومنعه تعلّقه بها عن القتال وبمن شغلته الغنائم يوم أحد عن امتثال الأمر كأصحاب عبد الله بن جبير وعن

٣٠٤

القتال كبعض الأنصار وبمن فرّ عن القتال ذلك اليوم وترك الرّسول (ص) (وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها) تعريض بمن ثبت على الامتثال كبعض أصحاب عبد الله بن جبير وبمن ثبت على القتال حتّى قتل أو نجا (وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ) من قبيل وضع الظّاهر موضع المضمر أو المراد بالشّاكرين من بذل جهده في سبيل الله وترك الدّنيا والآخرة وراء ظهره امتثالا لأمر الله وإعلاء لكلمته وحماية لدينه كعلىّ (ع) فكأنّه قال : ومن يرد وجه الله وطرح ثواب الدّنيا والآخرة فهو شاكر وسنجزى الشّاكرين ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال : أصاب عليّا (ع) يوم أحد ستّون جراحة وانّ النّبىّ (ص) امر امّ سليم وامّ عطيّة ان تداوياه فقالتا : انّا لا نعالج منه مكانا الّا انفتق منه مكان وقد خفنا عليه ودخل رسول الله (ص) والمسلمون يعودونه وهو قرحة واحدة فجعل يمسحه بيده ويقول : انّ رجلا لقى هذا في الله فقد أبلى وأعذر ، فكان القرح الّذى يمسحه رسول الله (ص) يلتئم فقال علىّ (ع): الحمد لله إذ لم افرّ ولم أولّ الدّبر فشكر الله له ذلك في موضعين من القرآن وهو قوله (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ)(وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ) قرئ قتل مبنيّا للمفعول ، وقاتل من باب المفاعلة وهو خبر كايّن أو صفة نبىّ ومرفوعه امّا ضمير نبىّ وحينئذ فقوله (مَعَهُ رِبِّيُّونَ) مبتدء مكتف بمرفوعه ومرفوع مغن عن الخبر ، أو مبتدء مؤخّر وخبر مقدّم والجملة حال أو صفة بعد صفة أو خبر بعد خبر أو خبر ابتداء و (كَثِيرٌ) صفة بعد صفة أو خبر بعد خبر أو خبر ابتداء وعلى بعض الوجوه الّذى لا يبقى معه خبر لكايّن يكون الخبر محذوفا أو مرفوع قاتل ربّيّون وحينئذ يكون معه متعلّقا بقاتل والجملة صفة أو خبر وكثير صفة بعد صفة ويكون حينئذ خبر كأيّن محذوفا أو خبر بعد خبر أو خبر ابتداء والرّبّيون منسوب الى الرّبّ وكسر الرّاء من تغييرات النّسب وقد قرئ بفتح الرّاء على الأصل وبضمّ الرّاء مثل الكسر مغيّرا عن هيئته أو هو جمع الرّبّى منسوب الربّة بالكسر بمعنى الجماعة الكثيرة ، أو بمعنى عشرة آلاف ، وبهذا المعنى قد يضمّ الربّة وفسّر في الخبر بعشرة آلاف ، وهذا أيضا تقوية للمؤمنين وتسلية لهم وتعريض بفشلهم عند الإرجاف بقتل النّبىّ (ص) في أحد (فَما وَهَنُوا) اى ما فتروا في رأيهم عن القتال وعن القيام بأمر دينهم (لِما أَصابَهُمْ) من قتل النّبىّ (ص) أو قتل بعضهم ومن الجرح والنّهب (فِي سَبِيلِ اللهِ) ظرف لاصابهم أو متنازع فيه لقاتل ووهنوا وأصابهم (وَما ضَعُفُوا) في أبدانهم أو المراد بالوهن الضّعف في الأبدان وبالضّعف الوهن في الرّأى (وَمَا اسْتَكانُوا) ما تذلّلوا افتعل من المسكنة بمعنى الذّلّة أشبع فتحة الكاف أو استفعل من كان له بمعنى انقاد له وهو تعريض بما قالوا عند ما ارجف بقتل النّبىّ (ص) : اذهبوا بنا الى عبد الله بن أبىّ ليأخذ الامان لنا من أبى سفيان يعنى انّهم ما وهنوا كما وهنتم وانهزمتم وما تذلّلوا عند العدوّ كما أردتم التذلّل وصبروا على القتال (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) تعريض ببغضهم لأجل الفرار وعدم الثّبات واكتفى عن قوله وصبروا بقوله والله يحبّ الصّابرين لافادة سابقه ايّاه واستفادته منه مع شيء زائد هو إثبات محبّته لهم والتّعريض ببغضه للفارّين عن القتال (وَما كانَ قَوْلَهُمْ) مع ثباتهم في دينهم وكمال جهدهم لرضا ربّهم (إِلَّا أَنْ قالُوا) قالا أو حالا (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) يعنى انّهم مع تصلّبهم في دينهم وبذل ولوسعهم في سبيل ربّهم خافوا من ذنوبهم واستغفروا ربّهم والتجأوا اليه واستنصروه على أعدائهم وأعداء ربّهم بخلافكم حيث

٣٠٥

اغتررتم ونسيتم ذنوبكم وأردتم الالتجاء الى أعدائكم كأبي سفيان وعبد الله بن أبىّ (فَآتاهُمُ اللهُ) بسبب ثباتهم على القتال والتجائهم الى الله واستغفارهم منه واستنصارهم له (ثَوابَ الدُّنْيا) من الظّفر والغنيمة والهيبة والرّعب في قلوب الأعداء وحسن الصّيت والرّاحة من القتال بسبب علوّ كلمتهم وتسليم عدوّهم لهم وفوق الكلّ الالتذاذ بقرب الله ومناجاته (وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ) من المراتب العالية من الجنّات العالية مثل جنّة عدن وجنّة الرّضوان ونعيمها ممّا وصف وممّا لم يوصف ولم يخطر على قلب بشر وانّما أتى بالحسن في ثواب الآخرة للاشعار بانّ ثواب الآخرة ذو مراتب كثيرة بعضها حسن وبعضها أحسن وآتاهم الله أحسنها لانّ الحسن المضاف الى امر ذي مراتب كلّها حسن يراد به حسن الأحسن منها كأنّ الأحسن حسن بالنّسبة وغير الأحسن غير حسن بالنّسبة الى الأحسن ، أو المراد ثواب الآخرة مطلقا والثّواب مطلقا حسن لكنّه أضاف الحسن الى ثواب الآخرة دون ثواب الدّنيا للاعتناء بثواب الآخرة دون ثواب الدّنيا كأنّه ليس له حسن (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) اى يحبّهم ووضع الظّاهر موضع المضمر إيماء الى انّهم محسنون واشعارا بعلّة المحبّة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهره ناداهم بعد ما عرّض بهم تلطّفا بهم وجذبا لقلوبهم حتّى يتّعظوا بوعظه ويقبلوا نصحه (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) قد مضى وجه التّعبير بالرّدّ على الأعقاب وانّه تمثيل للردّ عن الدّين مع بقاء الفطرة بالرّدّ عن الطّريق مع توجّه الوجه الى المقصد الاوّل (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) نسب الى مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة أمير المؤمنين (ع) انّه قال : نزلت في المنافقين إذ قالوا للمؤمنين يوم أحد عند الهزيمة ارجعوا الى إخوانكم وارجعوا الى دينكم (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) يعنى ليس هؤلاء المنافقون الّذين يردّونكم عن دينكم مولاكم بل الله مولاكم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) فلا تستنصروا بمثل عبد الله بن ابىّ ولا بمثل ابى سفيان (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) بعد ما تلطّف بهم وقوّاهم بكونه مولاهم وناصرهم وعدهم الرّعب في قلوب أعدائهم استتماما للنّصرة واستكمالا للتّقوية وقد أنجز وعده بعد هزيمة المسلمين في أحد بنصرتهم على أعدائهم وإلقاء الخوف في قلوبهم بحيث انهزموا وما وقفوا الى مكّة من خوف تعاقب المسلمين (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ) باشراكهم في الطّاعة وفي الوجود (ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) الباء في به ظرفيّة أو سببيّة أو للإلصاق والمعنى بما أشركوا بالله شريكا لم ينزّل بسببه من حيث شركته برهانا وحجّة دالّة على جواز الإشراك به في الطّاعة وعلى جواز التوجّه والنّظر اليه.

تحقيق الإشراك بالله باذنه وبرهانه

اعلم انّ الإنسان سوى المعصومين من اوّل الصّبا كافر محض حالا واعتقادا الى أوان المراهقة والبلوغ فان ساعده التّوفيق وانجذب الى الانقياد لنبىّ وقته والاعتقاد بالتّوحيد صار مسلما موحّدا اعتقادا وكان كافرا حالا لانّه حينئذ في دار الكثرة ومقام النّفس الّتى لا ترى الّا الكثرات ولا تتذكّر في الفاعلين فاعلا وحدانيّا بل لا تعتقد فاعلا وحدانيّا فان ساعده التّوفيق وانجذب من دار الكثرة الى دار الوحدة الّتى هي دار القلب ودار الايمان فان بايع البيعة الخاصّة الولويّة ودخل الايمان في قلبه وهاجر من دار الحرب الّتى هي دار النّفس ودار الكفر الى مدينة القلب الّتى هي دار الأمن والامان والايمان فهو قد يجد وجدانا وحالا فاعلا الهيّا في الفاعلين فيخرج من الكفر الحالىّ الى الشّرك الحالىّ ثمّ الشّهودىّ ثمّ العيانىّ حتّى يخرج من دار الشّرك الى دار التّوحيد بحيث لا يرى في الوجود الّا الله وحصّل معنى

٣٠٦

لا حول ولا قوّة الّا بالله ، ثمّ معنى لا اله الّا الله ، وهنا لك يخرج من الشّرك ويصير موحّدا فالإنسان ما دام في دار الكفر والشّرك لا يخرج من الإشراك بالله في الوجود ولا في الطّاعة لانّه ان لم يطع إنسانا يطع هواه وشيطانا فان كان ما أشرك به لله انزل الله تعالى حجّة وبرهانا في صحّة اشراكه كان المشرك موحّدا من طريق الإشراك وكان اشراكه مأذونا فيه ومأجورا فيه ، وان لم ينزّل في اشراكه برهانا وسلطانا كان اشراكه كفرا ومنهيّا عنه ومورثا لعقوبة الآخرة فقوله تعالى : (بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) يفيد بمفهوم مخالفته انّه ان أشرك بالله من نزّل الله به سلطانا لم يكن مذموما وقد فسّر الإشراك في الاخبار بالاشراك بالولاية وبالاشراك بعلىّ (ع) وذلك لظهور الآلهة بالولاية وظهور الله بعلىّ (ع) (وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) النّار وفي وضع الظّاهر موضع المضمر إظهار لذمّ آخر واشعار بعلّة الحكم (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) ايّاكم بقوله (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ) أو بقوله (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) أو بقوله (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) تعريضا أو بقوله (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) أو بقوله نبيّه (ص) لأصحاب عبد الله بن جبير لا تبرحوا من هذا المكان فانّا لانزال غالبين ما ثبتّم مكانكم ولقد تحقّق صدق وعده حين كنتم غالبين ما كنتم غير مخالفين لأمر الرّسول بثبات أصحاب عبد الله بن جبير في مراكزهم (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ) تقتلونهم من الحسّ بمعنى القتل أو الحيلة أو الاستيصال (بِإِذْنِهِ) بترخيصه وإباحته تكوينا وتكليفا على لسان نبيّه (ص) (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) ضعفتم عن القتال والثّبات في مراكزكم (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) بان قال بعضكم : غنم أصحابنا ، وقال بعضكم : لا نبرح من أمكنتنا فانّ الرّسول (ص) قدّم إلينا ان لا نبرح (وَعَصَيْتُمْ) امر الرّسول (ص) بان لا تبرحوا عن أمكنتكم سواء انهزم المسلمون أو هزموا (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ) الله (ما تُحِبُّونَ) من الظّفر والغنيمة وجواب إذا محذوف وهو امتحنكم أو منعكم إنجاز وعده لمنعكم شرط وعده وهو الصّبر والتّقوى والثّبات في المراكز (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل لما يقع النّزاع منّا؟ ـ فقال : لانّ منكم من يريد الدّنيا وهم الّذين تركوا مراكزهم من أصحاب عبد الله بن جبير للحرص على الغنيمة وارادة عرض الدّنيا (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وهم الّذين ثبتوا حتّى قتلوا (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ) اى عن مقاتلتهم بالجبن والفرار حتّى غلبوكم (لِيَبْتَلِيَكُمْ) يمتحنكم بالبلايا فيخلصكم من الهوى وارادة الدّنيا (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) بعد ما ندمتم على مخالفتكم تفضّلا منه عليكم فأدالكم عليهم ثانيا بحيث غلبتموهم وارعبتموهم حتّى لم يمكثوا الى مكّة وكانوا مسرعين خائفين (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) فلا ينظر الى أعمالهم واستحقاقهم بل يريد استكمالهم في الأحوال كلّها سواء ابتلاهم أو أنعم عليهم (إِذْ تُصْعِدُونَ) على الجبل في فراركم أو في وجه الأرض فانّ الإصعاد الذّهاب في الصعيد وهو وجه الأرض والصعود بمعنى الارتقاء والظّرف متعلّق بصرفكم أو بيبتليكم أو مفعول لذكرهم مقدّرا منقطعا عمّا قبله (وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ) لا تنظرون على أعقابكم في فراركم لشدّة خوفكم (وَالرَّسُولُ) والحال انّ الرّسول (يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) في جماعتكم المتأخّرة اى في أعقابكم كان يقول : الىّ عباد الله الىّ عباد الله انا رسول الله (فَأَثابَكُمْ) اى جازاكم الرّسول

٣٠٧

أو الله (غَمًّا) هو القتل موصولا (بِغَمٍ) هو المغلوبيّة والفرار أو غمّا هو الفرار والقتل موصولا بغمّ هو الإرجاف بقتل الرّسول (ص) أو غموما متتالية هي القتل والهزيمة والإرجاف والجرح فانّ هذه الكلمة قد تستعمل في الكثرة المتتالية ، أو اثابكم غمّا هو الهزيمة والإرجاف والقتل بدل غمّ أو بسبب غمّ أصاب الرّسول (ص) حين خلافكم قوله (ص) وعدم ثباتكم في مراكزكم (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) بعد ذلك يعنى انّ اثابة الغمّ على ترك امر الرّسول (ص) واذاقة مرارة الهزيمة والقتل ليكون ذلك في ذكركم فلا تخالفوا بعد ذلك امر الرّسول (ص) لعرض الدّنيا ولا تحزنوا على ما تصوّرتم فواته من الغنيمة (وَلا) على (ما أَصابَكُمْ) من الشّدائد في سبيل الله فانّ البليّة إذا كانت في طاعة الله وطاعة رسوله لم تؤثّر أثرا بل تلذّ لبعض ، أو المعنى اثابكم غمّا بغمّ ليستكملكم بذلك فلا تحزنوا بعد الاستكمال على ما فاتكم ، أو المعنى ليشغلكم حزنكم على مخالفة امر النّبىّ (ص) عن الحزن على ما فاتكم (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على أعمالكم على حسب مصالحكم ، وفيه ترغيب في الطّاعة وترهيب عن المعصية (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) لتعلموا ان ليس الابتلاء والامنة الخارجان عن طريق المعتاد الّا عن الله وتكلوا أموركم الى الله ، وامنة مفعول انزل ونعاسا بدل منه بدل الاشتمال ، أو امنة حال من نعاسا أو من المخاطبين بان تكون جمع آمن أو بتقدير آمنين ، ونعاسا مفعول. نقل عن بعض الغازين في أحد انّه قال غشينا النّعاس في المصافّ حتّى كان السّيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثمّ يسقط فيأخذه (يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ) وهم المؤمنون الخالصون (وَطائِفَةٌ) اخرى ولتقدير الصّفة جاز الابتداء به وهذه الطّائفة هم المنافقون (قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) أوقعتهم أنفسهم في الهموم أو جعلتهم ذوي اهتمام بأنفسهم من غير التفات الى الدّين أو الرّسول (ص) والمسلمين والجملة خبر عن طائفة أو صفة لها (يَظُنُّونَ بِاللهِ) خبر بعد خبر أو صفة بعد صفة أو خبر ابتداء أو حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (غَيْرَ الْحَقِ) غير الظّنّ الحقّ على ان يكون مفعولا مطلقا أو غير المظنون الحقّ على ان يكون قائما مقام المفعولين (ظَنَ) الملّة (الْجاهِلِيَّةِ) بدل من غير الحقّ أو مفعول مطلق (يَقُولُونَ) عند أنفسهم أو لاقرانهم والجملة بدل عن يظنّون أو هي مثل الجملة السّابقة في الوجوه المحتملة (هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ) اى من امر الدّين أو من امر الوعد بالنّصر والظّفر أو من امر أنفسنا وتدبير خلاصنا من هذه البليّة ، أو هل لنا نجاة فنكون مسلّطين على امر أنفسنا (مِنْ شَيْءٍ) يعنى يظهرون اضطرابهم وعدم اعتقادهم بنبوّة محمّد (ص) على أنفسهم بكلامهم النّفسانىّ أو على غيرهم بكلامهم اللّسانىّ (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) اى امر الغلبة والنّصر أو امر التّدبير أو عالم الأمر والقضاء والجملة معترضة ان كان قوله تعالى (يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) حالا أو صفة أو خبرا وامّا إذا كان مستأنفا جوابا لسؤال مقدّر فيكون قوله (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) منقطعا مستأنفا والمعنى يخفى هؤلاء الطّائفة المنافقة في أنفسهم من الإنكار والتّكذيب وارادة اللّحوق بالكفّار (ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ) الجملة كالجمل السّابقة في وجوه الاعراب (لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) بأحد المعاني المذكورة ، أو لو كنّا بالمدينة باختيارنا ولم نبرح من المدينة كما كان رأى ابن ابىّ وغيره (ما قُتِلْنا) ما غلبنا وما قتل المقتولون منّا (هاهُنا قُلْ) ردّا لهذا الزّعم الفاسد والخيال الكاسد (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ) متحصّنين

٣٠٨

(لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ) في اللّوح المحفوظ أو فرض (عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) ومصارعهم لم ينفعهم التّحصّن ، أو المعنى قل لهم ايّها المضطربون الشّاكّون : لو كنتم في بيوتكم لبرز المؤمنون الّذين فرض الله عليهم القتال الى مضاجعهم (وَ) فعل ذلك الخروج والقتال والمقتوليّة والمغلوبيّة بكم (لِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) ويمتحنه حتّى يظهر كونه فاسدا غير موافق لما في اللّسان (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) لمّا كان الصّدر يطلق على النّفس باعتبار جهتها السّفليّة والقلب يطلق عليها باعتبار جهتها الى القلب الحقيقىّ نسب الابتلاء الّذى هو استعلام حال الرّدىّ وإظهار ردائته الى الصّدر والتّمحيص الّذى هو تخليص الجيّد من الرّدىّ والصّحيح من الفاسد الى القلب لانّ صدر المنافق لا يكون فيه الّا النّفاق والفاسد من العقائد وما لم ينقطع الفطرة الانسانيّة منه ولم يرتدّ فطريّا لا يخلو قلبه من امر حقّ ولو كان اجماليّا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فلا يكون الامتحان منه لاستعلام الممتحن كامتحان الجاهلين بل لاستكمال الممتحن أو ظهور حاله على معاشريه ممّن لم يعلم حاله أو استنزاله (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ) جواب لسؤال مقدّر عن حال المتولّين عن القتال ولمّا ذمّهم الله تعالى بأبلغ ذمّ وصار الاعتذار عنهم باستزلال الشّيطان والعفو عنهم محلّا للّشكّ أتى في الجواب بتأكيدات فقال : انّ الّذين تولّوا منكم (يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) جمع المؤمنين وجمع المشركين في أحد (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ) طلب زلّتهم أو أزلّهم (الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من ذنوبهم السّالفة وقيل : من خلافهم لقول الرّسول وتركهم مراكزهم وقيل : بذكر بعض ما كسبوا فكرهوا القتال لئلّا يقتلوا قبل التّوبة وهما ينافيان ما وقع من فرار الكلّ وانّ الفارّين أكثرهم كانوا منافقين غافلين من المعصية بل غير عادّين المعصية معصية وقد ذكر انّه لم يبق يوم أحد مع النّبىّ (ص) الّا ثلاثة عشر نفرا خمسة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكان المهاجرون عليّا وأبا بكر وطلحة وعبد الرّحمن بن عوف وسعد بن ابى وقّاص وقد اختلف في الجميع الّا في علىّ وطلحة ، وروى عن عمر بن الخطّاب انّه قال ورأيتنى اصعد في الجبل أردى ولم يرجع عثمان من الهزيمة الّا بعد ثلاث (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) لمّا تابوا واعتذروا كرّر ذكر العفو تطميعا وترغيبا للمذنبين في العفو ومنعا لهم عن اليأس وتحسينا لظنون المؤمنين (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر لمن يعترف ويندم (حَلِيمٌ) لا يعاجل بالمؤاخذة انتظارا للتّوبة وإتماما للحجّة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا) كفر نفاق أو مطلقا (وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ) اى لأجل إخوانهم وفي حقّهم ومعنى اخوّتهم مناسبتهم لهم في النّفاق وضعف الاعتقاد أو الكفر (إِذا ضَرَبُوا) اى الاخوان (فِي الْأَرْضِ) سافروا للتّجارة وغيرها ولم يقل إذ ضربوا بلفظ إذ الّتى هي للماضي لتصوير الماضي حالا حاضرا (أَوْ كانُوا غُزًّى) غازين (لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) متعلّق بقالوا (وَاللهُ يُحْيِي) اى يحدث الحيوة في النّطفة الّتى لا حيوة لها ويبقيها في الحيوة لا الاقامة في البيوت (وَيُمِيتُ) لا السّفر والغزاء (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) ترغيب وترهيب (وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ) في سبيله (لَمَغْفِرَةٌ) عظيمة (مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) عظيمة حاصلة لكم (خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) اى هؤلاء المنافقون أو الكفّار أو سائر النّاس من حطام الدّنيا واعراضها في الحيوة الدّنيا

٣٠٩

والجملة جواب القسم وجواب الشّرط محذوف وهذا تسلية للمؤمنين وتقوية لقلوبهم وتسهيل للموت والقتل عليهم وترغيب لهم في الجهاد (وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ) الّذى هو مولاكم وولىّ أمركم وحبيب قلوبكم ومنتهى طلبتكم (تُحْشَرُونَ) فما لكم تكرهون الموت أو القتل ، وقدّم القتل في الاية الاولى للاهتمام به في ترتّب الجزاء بخلاف الآية الثّانية فانّ ترتّب الجزاء فيها لا خصوصيّة للقتل فيه والموت هو الفرد الشّائع من الشّرط فالاهتمام بتقديمه أكثر (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) الفاء للتّرتيب في الاخبار والباء سببيّة وما زائدة للتّأكيد وتنكير الرّحمة للتّفخيم (لِنْتَ لَهُمْ) يعنى برحمة عظيمة نازلة من الله عليك لنت لهم فكن شاكرا لنعمه (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) سيّء الخلق خشن الكلام (غَلِيظَ الْقَلْبِ) لا رقّة ولا رأفة فيه (لَانْفَضُّوا) لتفرّقوا (مِنْ حَوْلِكَ) ولم يسكنوا إليك (فَاعْفُ عَنْهُمْ) يعنى إذا علمت انّ لين الجانب ولين الكلام رحمة ونعمة من الله ، وانّ سوء الخلق وقساوة القلب بالنّسبة إليهم مورث لتفرّقهم فاجتهد في المداراة معهم واعف عن إساءتهم بالنّسبة إليك (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ما بيني وبينهم حتّى يرغبوا فيك اشدّ رغبة ويسكنوا اشدّ سكون (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) اى في الحرب مخصوصا أو في كلّ ما يصحّ المشاورة فيه تطييبا لنفوسهم وتحبيبا لهم إليك واستظهارا برأيهم وتسنينا لسنة المشاورة في أمّتك لانّ في المشاورة رفعا للملامة والنّدامة في العمل وجلبا للبركة فيه لانّ في اتّفاق النّفوس أثرا ليس في انفرادها بالأمر بل نقول : ان لم يكن في الأمر الّذى يشاور فيه ويتّفق نفوس عليه خير يجعل الله فيه خيرا لا محالة فلا ينبغي ترك المشاورة في الأمور (فَإِذا عَزَمْتَ) بعد المشاورة والاتّفاق على امر «ف» لا تعتمد على الشّورى واتّفاق الآراء فانّ الصّلاح والفساد في الأمور بيد الله و (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فاعتمد على الله بأخذه وكيلا في أمورك وإصلاحها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ولا شرف فوق محبّة الله ؛ ترغيب في التّوكّل.

اعلم انّ التوكّل والتّسليم والتّفويض متقاربة المفهوم ويستعمل كلّ في معنى الآخرين والفرق بينها في غاية الدّقّة لانّ التوكّل أخذ الله وكيلا في أمورك ، والتّسليم عرض أمورك عليه ، والتّفويض الخروج من نسبة الأمور بل من نسبة الانانيّة الى نفسك ، ففي التّسليم تبجيل ليس في التّوكيل ، وفي التّفويض تبجيل لا يدع للمفوّض التفاتا الى التّبجيل أيضا (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر (فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) اى بعد خذلانه (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) تخلّل الفاء بين العامل والمعمول مع صدارتهما امّا بتقدير امّا أو بتوهّمه ، أو لفظة الفاء في أمثاله زائدة ، أو العامل محذوف بقرينة المذكور (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) تخلّل كان لتأكيد النّفى والمعنى ما وجد لأحد من الأنبياء الغلول لمنافاة النبوّة والخيانة وقرئ يغلّ بصيغة المعلوم من الثّلاثىّ وبصيغة المجهول امّا من باب الأفعال بمعنى ما ينبغي لأحد من الأنبياء ان ينسب الى الخيانة من أغلّه نسبه الى الخيانة ، أو بمعنى ان يخان معه من أغلّه بمعنى غلّه ، أو من الثّلاثىّ ، والجملة امّا مقطوعة عن سابقتها على ما ورد انّها نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر من المغنم فقال بعضهم : لعلّ النّبىّ (ص) أخذها ، ونسب الى الصّادق (ع) انّ رضا النّاس لا بملك وألسنتهم لا تضبط الم ينسبوا يوم بدر الى رسول الله (ص) انّه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتّى أظهره الله على القطيفة وبرّء نبيّه

٣١٠

من الخيانة ، وانزل في كتابه وما كان لنبىّ ان يغلّ (الآية) أو على ما نقل انّ رجلا غلّ بابرة عظيمة من غنائم هوازن يوم حنين فنزلت الآية ، وامّا موصولة على ما قيل : انّ الآية نزلت في غنائم أحد حيث ظنّ أصحاب عبد الله بن جبير انّ الرّسول (ص) يقسم الغنيمة في الغانمين ولم يقسم لهم وظنّوا انّه يقول : من أخذ شيئا فهو له ، أو على ما قيل : انّه قسم المغنم ولم يقسم للطّلائع فنزلت تنبيها للرّسول (ص) على التّسويّة في المغنم ، وسمّى ترك القسمة للطّلائع غلولا وعليهما فالآية معطوفة على ما قبلها (وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ) الباء للتّعدية أو للمصاحبة والمعنى انّه يأتى به بحيث يعرف النّاس انّه غلّه ليفضح على رؤس الاشهاد ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال : من غلّ شيئا رآه يوم القيامة في النّار ثمّ يكلّف ان يدخل اليه فيخرجه من النّار ، ونقل عن النّبىّ (ص) انّه قال : الا لا يغلّنّ أحد بعيرا فيأتي به على ظهره يوم القيامة ، الا لا يغلّنّ أحد فرسا فيأتي به على ظهره يوم القيامة فيقول : يا محمّد (ص) يا محمّد (ص) فأقول : قد بلّغت قد بلّغت لا أملك لك من الله شيئا ، ولا اختصاص للغلول بالخيانة في الأموال بل كلّ معصية من كلّ عاص نحو غلول مع نفسه أو مع الله (ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ) يعنى بعد ما أتى من غلّ بما غلّه وجمعوا في القيامة توفّى كلّ نفس مطيعة وعاصية (ما كَسَبَتْ) بعينه على تجسّم الأعمال كما سبق تحقيقه في سورة البقرة عند قوله : (أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) أو جزاء ما كسبت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب ثمّ بعد ما عمّم حكم الغلول لكلّ من غلّ وبيّن حكم كلّ نفس من المطيعة والعاصية عطف عليه انكار التّسوية بين المطيعة والعاصية ليكون أبلغ في الزّجر عن المعصية والتّرغيب في الطّاعة فقال تعالى (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) الرّضوان بكسر الرّاء وضمّها والرضى مقصورا بالكسر والضمّ مصدرا رضى عنه وعليه والرّضاء بكسر الرّاء ممدودا مصدر راضاه ، واتّباع رضوان الله لا يكون الّا باتّباع امر الله ونهيه بالفعل والتّرك ، ولا يكون الّا باتّباع الرّسول (ص) في امره ونهيه (كَمَنْ باءَ) رجع الى الله (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بترك ما أمر به وفعل ما نهى عنه (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) جهنّم.

الفرق بين المصير والمرجع انّ المصير ما ينتهى اليه مع تغيّر عمّا هو عليه والمرجع مطلق عن ذلك ولمّا كان المتحقّق برضوان الله عليّا (ع) والمتحقّق بسخط الله كلّ من خالفه صحّ تفسير التّابع لرضوان الله بالتّابع لعلىّ (ع) والبائى بسخط الله بمن اتّبع مخالفه.

تحقيق كون المؤمنين درجات وذوي درجات

(هُمْ دَرَجاتٌ) اى التّابعون رضوان الله والبائون بسخط الله درجات (عِنْدَ اللهِ) وان كانوا يرون متساوين عند النّاس ، ولمّا كان عالم الأرواح الطيّبة عالما وسيعا ذا مراتب ودرجات وكذلك عالم الأرواح الخبيثة الّذى فيه الجحيم وآلامها ، وكلّ من اتّصل بواحد من هذين العالمين تحقّق بمرتبة منه وليس المتّصلون بعالم الأرواح الطيّبة متساوين في المرتبة والدّرجة ولا المتّصلون بعالم الأرواح الخبيثة بل لكلّ واحد مرتبة ودرجة ليست لغيره ممّن لم يكن بشأنه ، نعم ، إذا كان جماعة متوافقين في الطّاعة والسّلوك أو في المخالفة والمعصية من جميع الجهات كانوا متوافقين في المرتبة والدّرجة وكلّ من اتّصل بدرجة من درجات الجنان أو بدركة من دركات النّيران كان متّصلا بالدّرجات السّابقة أو الدّركات السّابقة ، وكلّ من اتّصل بدرجة صار متحقّقا بتلك الدّرجة فصحّ ان يقال : انّ المؤمنين بحسب عدد أشخاصهم درجات يعنى كلّ منهم درجة من الجنان ، وان يقال : كلّ واحد منهم بحسب سعة وجوده درجات من الجنان ، وانّ المعذّبين بحسب عدد أشخاصهم دركات ، وكلّ واحد

٣١١

منهم بحسب وجوده دركات من النّيران فلا حاجة في الآية الى بعض التّقديرات والتأويلات ، روى عن الصّادق (ع) انّ الّذين اتّبعوا رضوان الله هم الائمّة عليهم‌السلام وهم والله درجات عند الله للمؤمنين وبولايتهم ومعرفتهم لنا يضاعف الله لهم أعمالهم ويرفع الله لهم الدّرجات العلى ، والّذين باءوا بسخط من الله هم الّذين جحدوا حقّ علىّ (ع) وحقّ الائمّة منّا أهل البيت فباؤا لذلك بسخط من الله (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فيعلم عمل كلّ ودرجته على حسب عمله فيجازيه على حسبها وهذا تهديد وترغيب (لَقَدْ مَنَّ اللهُ) أنعم الله (عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) بشرا مثلهم ومن سنخهم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ) أو يقرأ عليهم آيات كتابه بعد ما كانوا جهّالا لا يعرفون كتابا ولا شريعة (وَيُزَكِّيهِمْ) يطهّرهم ممّا ينبغي للإنسان ان يطهّر عنه (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قد مضى بيان التّزكية وتعليم الكتاب والحكمة ووجه تأخير التّعليم عن التّزكية هاهنا وفي قوله (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً) الآية ووجه تقديمه على التّزكية في قوله (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) الآية من سورة البقرة (وَإِنْ كانُوا) اى انّهم كانوا (مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) ظاهر واضح إظهار لمنّه عليهم بنعمة وجود الرّسول (ص) ليتنبّهوا لها ويهتمّوا باتّباع الرّسول (ص) شكرا لنعمة وجوده (أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ) قد اختلف الأقوال عند اجتماع همزة الاستفهام واداة العطف وتقديم الهمزة على العاطف فقيل : انّه على التّقديم والتّأخير وانّما قدّمت الهمزة لقوّة صدارته ، وقيل : انّ الهمزة في التّقدير داخلة على محذوف حذف واتّصل الهمزة بالعاطف والتّقدير هاهنا أنكرتم البليّة الّتى وردت عليكم بتقصيركم في أعمالكم ولمّا أصابتكم (مُصِيبَةٌ) يوم أحد بقتل سبعين رجلا منكم (قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها) في بدر بقتل سبعين وأسر سبعين (قُلْتُمْ أَنَّى هذا) من اين أو كيف هذا (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) باختياركم الفدى عن الأسارى يوم بدر وقد أخبركم الرّسول (ص) انّ الحكم فيهم القتل وما كان لنبىّ ان يكون له اسرى حتّى يثخن في الأرض فأصررتم في الفداء دون القتل حتّى أباح الله لكم الفداء بشرط ان يقتل منكم في العام القابل بعدد من تأخذون منه الفداء فقبلتم ذلك وأخذتم الفداء عن الأسارى السّبعين (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لمّا توهّم من نسبة المصيبة الى أنفسهم انّها خارجة من قدرة الله وصار المقام مقام ان يسأل هل كان المصيبة بقدرة الله أم كانت خارجة من قدرته فقال : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على أصابتكم واصابة عدوّكم وقد يخذلكم لمصالح راجعة الى استكمال نفوسكم (وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) يعنى يوم أحد من الهزيمة والقتل والجرح «ف» كان (فَبِإِذْنِ اللهِ) بإباحته التّكوينيّة وترخيصه ليمتحنكم (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) ليتميّز الفريقان بظهور ايمان هؤلاء ونفاق أولئك فيظهر علمه بهما أو ليعلم النّبىّ الّذى هو مظهره فانّ علمه علم الله ولم يقل ليعلم المنافقين للاشعار بانّ نفاق المنافقين حدث عند قتال أحد ولم يكن ثابتا وليناسب المعطوف في قوله تعالى (وَقِيلَ لَهُمْ) عطف على نافقوا وداخل في الصّلة (تَعالَوْا قاتِلُوا) بدل عن تعالوا نحو بدل الاشتمال (فِي سَبِيلِ اللهِ) من دون نظر الى أنفسكم وحفظكم أنفسكم وعيالكم (أَوِ ادْفَعُوا) عن أنفسكم وعيالكم وأموالكم من دون نظر الى امر الله وسبيله (قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ) يعنى لو كنّا نعلم انّ ما أنتم فيه قتال لاتّبعناكم وليس بقتال فانّ القتال ما كان فيه احتمال الغلبة ولو في بعض الأحيان وليس الأمر كذلك لانّه

٣١٢

ليس فيه الّا المغلوبيّة والهلكة ، أو لفظة لو ليست للنّفى في الماضي انّما هو للشّرط في المستقبل يعنى إذا علمنا بالمقاتلة لاتّبعناكم فيها وانّما قالوه استهزاء بهم أو دفعا لهم في الحال الحاضر وقصدا لعدم الإنكار صريحا (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) جواب لسؤال مقدّر أو حال والمعنى انّهم كانوا على الإسلام لكنّهم بظهور نفاقهم كأنّهم وقعوا بين الكفر والايمان وصاروا أقرب الى الكفر (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ) يعنى لا بالكتابة ولا بالاشارة ولا بالسّيرة والأحوال ، أو يقولون بأفواههم لا بقلوبهم ، أو يقولون بأفواه أنفسهم لا بأفواه غيرهم (ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) من قولهم لو نعلم قتالا لاتّبعناكم اى وقت اطّلاعنا على القتال وافقناكم وليس هذا مطابقا لاعتقادهم ، أو من إظهار نبوّة النّبىّ (ص) وليس في قلوبهم ذلك الاعتقاد (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) من الاعتماد على الأسباب وعدم الاعتقاد بالله وبنبوّة النّبىّ (ص) ، نسب الى الصّادق (ع) انّه قال في مقام تثريب بعض من ضعفاء الاعتقاد ومن ضعف يقينه تعلّق بالأسباب ورخصّ لنفسه بذلك واتّبع العادات وأقاويل النّاس بغير حقيقة والسّعى في أمور الدّنيا وجمعها وإمساكها ، يقرّ باللّسان انّه لا مانع ولا معطي الّا الله وانّ العبد لا يصيب الّا ما رزق وقسم له ، والجهد لا يزيد في الرّزق وينكر ذلك بفعله وقلبه قال الله تعالى : (يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ) (الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ) اى في حقّهم والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر محذوفة المبتدأ ، أو محذوفة الخبر اى هم الّذين قالوا ، أو الّذين قالوا هؤلاء المنافقون ، أو مفعول لفعل محذوف على الذّمّ ، أو بدل من فاعل يكتمون ، أو ضمير قلوبهم ، أو خبر بعد خبر للضّمير في قوله : هم للكفر ، أو صفة للّذين نافقوا (وَقَعَدُوا) عطف على قالوا أو حال بتقدير قد (لَوْ أَطاعُونا) في القعود وعدم الخروج من المدينة (ما قُتِلُوا) وقد كان ديدن النّساء والرّجال الّذين هم كالنّساء في ضعف الاعتقاد والتّوسّل بالأسباب ان يكرّروا بعد وقوع قضيّة أسباب عدم وقوعها ويؤدّونه بلو كان كذا لما كان كذا ويكون ذلك اشدّ في تحسّرهم (قُلْ) لهم (فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) انّ تدبيركم ابقاكم وانّ إخوانكم لمّا خرجوا من تدبيركم وقولكم هلكوا (وَلا تَحْسَبَنَ) عطف على قل أو على فادرؤوا ، أو الخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب ، وقرئ بالياء على اسناده الى الرّسول (ص) أو الى من يتأتّى منه الحسبان ، أو إلى الظّاهر بعده اى لا يحسبنّ (الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أنفسهم (أَمْواتاً) بحذف المفعول الاوّل وهذا ردّ على المنافقين حيث قالوا : لو كانوا عندنا ما ماتوا ولو أطاعونا ما قتلوا (بَلْ) هم (أَحْياءٌ) حيوة أتمّ وأكمل وأشرف وأعلى من هذه الحيوة الدّانية (عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) بالرّزق المناسب لمقامهم عند الرّبّ (فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) فضل الله يطلق على نعمه الّتى يفيضها على عباده من جهة كثراتهم مثل احكام الرّسالة والنّعم الّتى يجازى الله العباد بها بسبب قبول احكام الرّسالة والعمل بها كما انّ الرّحمة تطلق على النّعم الّتى يفيضها على العباد من جهة وحدتهم مثل الولاية وآثارها والمجازاة بها (وَيَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون أو يطلبون الفرح أو يبشّرون أنفسهم أو غيرهم (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ) بحسب الزّمان كالمؤمنين الّذين لم يقتلوا ولم يموتوا أو بحسب الرّتبة كالمؤمنين الّذين لم يلحقوا برتبتهم ودرجتهم (مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى وجه الاختلاف بين القرينتين في اوّل البقرة (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) النّعمة كالرّحمة الولاية

٣١٣

وكلّما صدر منه أو انتهى إليها (وَفَضْلٍ) منه قد مضى انّ الفضل الرّسالة وقبول أحكامها والمجازاة بها ولذلك فسّر النّعمة بعلىّ (ع) والفضل بمحمّد (ص) والتّنكير فيهما للتّفخيم (وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) قرئ بفتح الهمزة للعطف على نعمة وقرئ بكسر الهمزة للعطف على يستبشرون أو لكونها حالا (الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) صفة للمؤمنين أو خبر مبتدء محذوف ، أو مفعول فعل محذوف للمدح ، أو مبتدء خبره جملة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ) والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر ، روى انّ الرّسول (ص) لمّا دخل المدينة من وقعة أحد نزل عليه جبرئيل وقال : يا محمّد (ص) انّ الله يأمرك ان تخرج في اثر القوم ولا يخرج معك الّا من به جراحة فأمر رسول الله (ص) مناديا ينادى يا معشر المهاجرين والأنصار من كانت به جراحة فليخرج ومن لم يكن به جراحة فليقم فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم ويداوونها فخرجوا على ما بهم من الألم والجراح فلمّا بلغ رسول الله (ص) حمراء الأسد وهو على ثمانية أميال من المدينة وقريش قد نزلت الرّوحاء قال عكرمة بن ابى جهل والحارث بن هشام وعمرو بن العاص وخالد بن وليد نرجع ونغير على المدينة قد قتلنا سراتهم وكبشهم يعنون حمزة فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر فقال : تركت محمّد (ص) وأصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطلب فقال ابو سفيان : هذا النّكد والبغي فقد ظفرنا بالقوم وبغينا والله ما أفلح قوم قطّ بغوا فوافاهم نعيم بن مسعود الاشجعىّ فقال ابو سفيان : اين تريد؟ ـ قال المدينة لامتار لأهلي طعاما ، فقال : هل لك ان تمرّ بحمراء الأسد وتلقى أصحاب محمّد (ص) وتعلمهم انّ حلفاءنا وموالينا قد وافونا من الأحابيش حتّى يرجعوا عنّا ولك عندي عشرة قلائص املأها تمرا وزبيبا ، قال : نعم ؛ فوافى من غد ذلك اليوم حمراء الأسد فقال لأصحاب رسول الله (ص) اين تريدون؟ ـ قالوا : قريشا قال : ارجعوا انّ قريشا قد اجتمعت إليهم حلفاؤهم ومن كان تخلّف عنهم وما اظنّ الّا أوائل خيلهم يطلعون عليكم السّاعة فقالوا : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ما نبالى ، فنزل جبرئيل على رسول الله (ص) فقال : ارجع يا محمّد (ص) فانّ الله قد ارعب قريشا ومرّوا لا يلوون على شيء ، فرجع رسول الله (ص) وانزل الله : (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) ؛ الآية ، وقيل : نزلت الآية في بدر الصّغرى وذلك انّ أبا سفيان حين أراد ان ينصرف من أحد قال : يا محمّد (ص) موعدنا موسم بدر الصّغرى من قابل ، فلمّا كان العام المقبل خرج ابو سفيان في أهل مكّة فالقى الله عليه الرّعب فبدا له فلقي نعيم بن مسعود الاشجعىّ فقال له أبو سفيان : انّى واعدت محمّد (ص) ان نلتقي بموسم بدر وانّ هذه عام جدب وبدا لي ان لا اخرج اليه وإكراه ان يزيدهم ذلك جرأة فالحق بالمدينة فثّبطهم ولك عندي عشرة من الإبل أضعها على يد سهيل بن عمرو ، فأتى نعيم المدينة فوجد النّاس يتجهّزون فثبّط وأرعب أصحاب الرّسول فقال رسول الله (ص): والّذى نفسي بيده لاخرجنّ ولو وحدي فانحرف الجبان وتأهّب الشّجاع وقال : (حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) ، فخرج رسول الله (ص) في أصحابه حتّى وافوا بدرا الصّغرى وكانت موضع سوق لهم في الجاهليّة يجتمعون إليها في كلّ عام ثمانية ايّام فأقام ينتظر أبا سفيان وقد انصرف ابو سفيان فسمّاهم أهل مكّة جيش السّويق وقالوا : خرجتم تشربون السّويق ، ووافق رسول الله (ص) السّوق وكانت لهم تجارات فباعوا وأصابوا للدّرهم درهمين وانصرفوا الى المدينة سالمين غانمين (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) صفة (الَّذِينَ اسْتَجابُوا) ، أو صفة (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ ،) أو مبتدء خبره (فَزادَهُمْ إِيماناً) ودخول الفاء في الخبر لكون المبتدأ متضمّنا معنى الشّرط ، أو خبره (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) ، أو خبر مبتدء محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف ، أو مفعول فعل محذوف للمدح والمراد

٣١٤

بالنّاس نعيم بن مسعود على ما نقل من حكايته أو ركب من عبد القيس على ما قيل انّه لقى أبا سفيان بعد ما علم بخروج محمّد (ص) من المدينة على أثرهم ركب من عبد القيس فقال : اين تريدون؟ ـ فقالوا : نريد المدينة فقال : هل أنتم مبلّغون محمّدا (ص) رسالتي واحمل لكم ابلكم هذه زبيبا بعكاظ غدا إذا وافيتمونا؟ ـ قالوا : نعم ، قال : فاذا جئتموه فأخبروه انّا قد اجمعنا للكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيّتهم ، أو المراد بالنّاس منافقوا أصحاب الرّسول (ص) (إِنَّ النَّاسَ) يعنى أبا سفيان وأصحابه (قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً) لانّ المتوسّل بالله بعد الاتّصال بخلفائه بسبب الايمان إذا دهمته بليّة يزداد اتّصاله الايمانىّ ويتقوّى توسّله وايمانه (وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا) من حمراء الأسد أو من بدر الصّغرى (بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ) اى مع نعمة من الله وهي عافيتهم من القتال وسلامتهم من اثر الجراح الّذى كان بهم وقوّة من القلب والايمان (وَفَضْلٍ) الشّرف والصّيت وارعاب قلوب الأعداء أو بنعمة هي ما أصابوا من التّجارات ببدر وفضل هو الرّبح الّذى أصابوه من ضعفي ما كان لهم أو بنعمة هو علىّ (ع) وفضل هو محمّد (ص) (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) لا من عدوّهم ولا من جراحاتهم (وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) حيث امتثلوا امره مع ما بهم من الجراح (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) فيتفضّل عليهم في الآخرة بما لا حدّ له وما لا عين رأت وفيه تحسير للمتخلّفين وتخطئة لهم وترغيب في الجهاد (إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ) الشّيطان خبر ذلكم أو صفته والخبر (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) والمراد بالمشار اليه نعيم بن مسعود المثبّط أو ابو سفيان أو المثبّط من ركب عبد القيس وأولياءه مفعول اوّل أو مفعول ثان (فَلا تَخافُوهُمْ) اى الشّيطان ومن معه أو أولياء الشّيطان (وَخافُونِ) فانّ الضّرر من كلّ ضارّ لا يصل الى أحد الّا بإذني (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فانّ شأن الايمان والاعتقاد بتوحيد الله ان لا يرجو المؤمن ولا يخاف الّا الله (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) في الذّهاب الى الكفر لخوفك ان يضرّوك أو يضرّوا المؤمنين بتقوية الكافرين أو مقاتلة المؤمنين والمراد بهم المنافقون المتخلّفون عن الجهاد (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ) في مقام التّعليل والمعنى لن يضرّوا أولياء الله ومظاهره في الأرض (شَيْئاً) من الضّرر على ان يكون شيئا قائما مقام المصدر ويجوز ان يكون بدلا من الله نحو بدل الاشتمال بتقدير لن يضرّوا الله شيئا منه ، ويجوز ان يكون منصوبا بنزع الخافض اى بشيء من الله (يُرِيدُ اللهُ) جواب لسؤال مقدّر أو حال (أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ) وفيه تسلية للرّسول (ص) ودلالة على انّ تسرّعهم الى الكفر انّما هو بإرادة الله وان لم يكن برضاه (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الدّنيا والآخرة فانّ التعبير بالجملة الاسميّة الدّالّة على الاستمرار الثّبوتىّ يدلّ على كونه ثابتا لهم من حين التّكلّم (إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ) تأكيد للاوّل أو تعليل له وتعميم للحكم لجميع الكفّار بعد تخصيصه بالقاعدين المنافقين (لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) قرئ تحسبنّ بالخطاب وبالغيبة (أَنَّما نُمْلِي) انّ الّذى نملي أو انّ الاملاء (لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ) لهم متعلّق بنملى وانّما نملي مفعول ثان ليحسبنّ أو بدل من المفعول الاوّل مغن عن المفعول الثّانى وعلى كون الّذين كفروا فاعلا فهو قائم مقام المفعولين والاملاء الامهال أو اطاعة العمر (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) جواب لسؤال

٣١٥

مقدّر وما كافّة أو مصدريّة أو موصولة (وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) في الدّنيا والآخرة من حين التّكلّم ولمّا كان المقام مقام السّخط والغضب ناسبه البسط والتّغليظ والتّكرير ولذلك كرّر نفى الضّرر وثبوت العذاب بأوصاف مختلفة وأتى في الاوّل بوصف العظيم للعذاب للاشعار بانّ عذاب المنافق اشدّ وأعظم من عذاب سائر الكفّار و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) اى على الحال الّتى أنتم عليها من اختلاط المخلص بالمنافق والمحقّق بالمنتحل بل كان شيمته القديمة الابتلاء والامتحان بالتّكاليف المخالفة للهواء (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ) كأنّه قيل : ان اطلعنا الله على ما في القلوب من الإخلاص والنّفاق اجتنبنا عن المنافق فقال : وما كان الله (لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) من بيانيّة والظّرف حال من من يشاء يعنى انّ الله يختار من يشاء حالكونه عبارة من رسله للاطّلاع على المغيبات عنكم بإراءتها لهم أو أخبارهم بها بتوسّط الملائكة أو بلا واسطة فلا تقولوا برأيكم فيما هو غيب عنكم من قولكم لو كان كذا لكان كذا ، ومن نسبة الخير والشّرّ الى العباد (فَآمِنُوا) أذعنوا أو أسلموا حقيقة كما أسلمتم ظاهرا ، أو آمنوا بالايمان الخاصّ والبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة (بِاللهِ وَرُسُلِهِ) اى خلفائه من الرّسل وأوصيائهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) تذعنوا أو تسلموا بالبيعة العامّة أو تؤمنوا بالبيعة الخاصّة (وَتَتَّقُوا) سخط الله باتّباع خلفائه فيما أمروا به ونهوا عنه ؛ أو تتّقوا الانحراف عن الطّريق بالبيعة الخاصّة ، أو تتّقوا الخروج عن الطّريق بعد البيعة الخاصّة والدّخول فيه (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لمّا كان عظم الأجر خاصّا بمن قبل ولاية علىّ (ع) بالبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة فالشّرط لا بدّ وان يفسّر بما يشمل الايمان الخاصّ (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ) قرئ بالغيبة فالفاعل ضمير راجع الى الرّسول أو إلى من يتأتّى منه الحسبان والمفعول الاوّل الّذين يبخلون بتقدير مضاف ليطابق المفعول الثّانى أو الفاعل الّذين يبخلون والمفعول الاوّل محذوف وقرئ بالخطاب خطابا للرّسول (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب والّذين يبخلون مفعوله الاوّل بتقدير مضاف اى لا تحسبنّ بخل الّذين يبخلون (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) لانّ البخل يستجلب العقاب عليهم وليس الإمساك يبقى المال ولا الإنفاق يفنيه (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عن الصّادقين (ع): ما من أحد يمنع زكوة ماله شيئا الّا جعل الله ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوّقا في عنقه ينهش من لحمه حتّى يفرغ من الحساب وهو قول الله تعالى : (يُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا) : وعن الصّادق (ع) عن رسول الله (ص) : ما من ذي زكوة مال نخل أو زرع أو كرم يمنع زكوة ماله الّا قلّده الله تعالى تربة أرضه يطوّق بها من سبع أرضين الى يوم القيامة ، اعلم انّ البخل لا يكون الّا لتعلّق القلب بما يبخل البخيل به وكلّما تعلّق القلب به يكون بملكوته حاضرا في القلب وثابتا فيه وكلّما كان ثابتا في القلب يتمثّل عند القلب (يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ،) وبتفاوت التعلّق يكون حضوره متفاوتا بنحو الطّوق أو بنحو اللّباس مشتملا على جميع البدن ، أو بنحو البيت وغير ذلك من أنواع الحضور سواء كان ذلك الّذى يبخل به من الأموال أو القوى والأبدان ، أو العلوم النّفسانيّة الّتى بخلوا بها ولم يظهروها لأهلها مثل اليهود والنّصارى بخلوا بما علموا من أوصاف محمّد (ص) وعلىّ (ع) الّتى كانت في كتبهم واخبار أسلافهم ، ومثل المنافقين من الامّة بخلوا بما علموا من حقّيّة محمّد (ص) ومن بعده بما علموا من حقّيّة علىّ (ع) فانّ من كتم

٣١٦

علما ألجمه الله تعالى يوم القيامة بلجام من النّار (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يعنى له ما في السّماوات والأرض وادّاه بلفظ الميراث للاشعار بانّ ما فيها يبقى من بعض ويرثه بعض آخر ، وهكذا كان حاله وما كان حاله هكذا فلا ينبغي للعاقل ان يبخل به ولا يعطيه بيده وقال الله للاشارة الى انّ الكلّ ملكه فلا ينبغي للعاقل ان يبخل بملك الغير ولا يعطيه بأمره أو المعنى لله ميراث هي السّماوات وما فيها والأرض وما فيها من العالم الكبير والصّغير يعنى يفنى الكلّ ويبقى الله الواحد القهّار وارثا لها ولما فيها ؛ فما بال متروك به المرء يبخل؟! (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من البخل والإعطاء (خَبِيرٌ) وعد ووعيد وقرئ بالخطاب بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) لمّا ذمّ البخل والمنع توهّم انّ الله يحتاج في إصلاح حال الفقراء الى الأغنياء وكأنّه قيل : هل له حاجة الى إنفاق المنفق؟ ـ فقال تعالى ردّا لهذا الوهم وسدّا لهذا الخيال : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) قالت اليهود ذلك لمّا سمعوا : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) وقيل كتب النّبىّ (ص) مع أبى بكر الى يهود بنى قينقاع (١) يدعوهم الى الإسلام وما عليه المسلمون من اقام الصّلوة وإيتاء الزّكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا ، فدخل ابو بكر بيت مدارستهم فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا الى رجل منهم ، فدعاهم الى الإسلام والصّلوة والزّكاة وان يقرضوا الله قرضا حسنا فقال ذلك الرّجل : فانّ الله فقير والّا لما استقرضنا أموالنا فلطمه ابو بكر ونزلت الآية (سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) قرئ سنكتب بالتّكلّم وبالغيبة على صيغة المجهول وقتلهم بالنّصب وبالرّفع (وَنَقُولُ) قرئ بالتّكلّم وبالغيبة (ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) وفيه تأكيد في التّهديد من حيث اقتران ما قالوه بقتل الأنبياء (ع) وكتابته وضبطه بنفسه ثمّ ذكر الجزاء بالعذاب الحريق والاخبار باستهزائه بهم حين العذاب ، والذّوق ادراك المطعوم ثمّ اتّسع فيه فاستعمل في كلّ ادراك ملذّ أو مولم ، وانّما اختار الذّوق الّذى يكون في المطعوم هاهنا لانّ العذاب مرتّب على قولهم وهذا القول ناش عن البخل والتّهالك على المال وغالب حاجة الإنسان الى المال تكون لتحصيل المطاعم ولذلك كثر ذكر الاكل مع المال (ذلِكَ) العذاب (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) خصّص الأيدي بالذّكر لانّ معظم الأعمال البدنيّة تصدر منها (وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) الظّلام كالتمّار والخيّاط للنّسبة وليس للمبالغة وهو معطوف على (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) وسببيّة نفى الظّلم عنه تعالى للعذاب بواسطة انّ نفى الظّلم مستلزم للعدل والفضل والعدل يقتضي عقوبة المسيء كما يقتضي اثابة المحسن ، أو المقصود التّنبيه على انّ المسيء إذا صار متمكّنا في الاساءة صار فعليّته الاخيرة هي قوّته المسيئة المناسبة للجحيم وآلامها وتلك القوّة كما تكون مناسبة للجحيم تكون منافية للنّعيم ، والانسانيّة في هذا الإنسان تكون مغلوبة خفيّة غير ظاهرة باقتضائها فلو لم يدخل هذا الإنسان في الجحيم لكان ظلما على قوّته المقتضية لها وان كانت الجحيم عذابا لانسانيّته لكن انسانيّته مختفية غير مقتضية لشيء (الَّذِينَ قالُوا) صفة للّذين (قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) أو بدل منه ويجوز ان يكون مقطوعا مستأنفا للذّمّ خبر مبتدء محذوف ، أو مفعول فعل محذوف ، أو مبتدء خبر محذوف (إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا) اى في التّوراة لانّ القائلين القول الاوّل كانوا من اليهود كما سلف أو على لسان نبيّه (ص) وخلفاء نبيّه (أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ

__________________

(١) قينقاع بفتح القاف وبتلثيث النون شعب اليهود من يهود المدينة.

٣١٧

تَأْكُلُهُ النَّارُ) يعنى عهد إلينا ان لا نؤمن الّا برسول يأتى بهذه المعجزة الّتى كانت لانبياء بنى إسرائيل وهي ان يقرب (ع) بقربان فيقوم النّبىّ (ص) فيدعوا فيأتي نار من السّماء فتحيل القربان الى طبعها بالإحراق (قُلْ) لهم (قَدْ جاءَكُمْ) اى اسلافكم الّذين كنتم اسناخا لهم (رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ) والمعجزات الكثيرة غير ما قلتم (وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في هذه الدّعوى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) فلا تحزن فانّ المكذّبيّة كانت سيرة الأنبياء (فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ) صفة أو حال بتقدير قد أو مستأنف (بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الواضحات أو الموضحات الّتى هي من آثار الرّسالة ومصدّقاتها أو الحجج الدّالّة على صدق رسالتهم أو الأحكام القالبيّة الدّالّة على صدقهم (وَالزُّبُرِ) الحكم والمواعظ الّتى هي آثار الولاية الدّالّات على حقّيّتهم وصدقهم (وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ) احكام الرّسالة الّتى تضيء قلوب العاملين بها وتنير صدق الرّسل في رسالتهم أو الّتى تتّضح في أنفسها فانّ المنير من أنار وهو لازم ومتعدّ والكتاب التّدوينىّ صورة تلك الأحكام.

اعلم انّ البيّنة من بان بمعنى ظهروا ظهر لازم ومتعدّ تطلق على المعجزة لوضوح كونها من الله وإيضاحها ما تدلّ عليه من صدق من أتى بها ، وعلى احكام الرّسالة لانّها احكام القالب الظّاهرة على كلّ ذي حسّ والمظهرة لصدق من أتى بها والمظهرة طريق من عمل بها ، وعلى الحجج والبراهين الدّالّة على صدق الدّعوى ، وعلى الشّاهد المظهر بنطقه صدق الدّعوى ، وعلى الحروف الملفوظة من أسماء الحروف ، أو على غير الحرف الاوّل من حروف أسماء الحروف مقابل الزّبر المطلقة على الحروف المكتوبة منها ، والزّبر جمع الزّبور بالفتح بمعنى الكتاب لكنّ المراد بها هاهنا الأحكام القلبيّة وآثار الولاية من المواعظ والنّصائح والآثار الّتى تظهر للسّالكين في طريق الولاية فانّها كلّها التّعبير عنها ليس الّا بالكناية والاشارة كما انّ الكتابة في الحقيقة تعبير عمّا في القلب بنحو اشارة والمراد بالكتاب هاهنا احكام الرّسالة القالبيّة (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) جواب لسؤال مقدّر وتسلية للرّسول (ص) وللمؤمنين وتهديد للمكذّبين كأنّه قيل : فما لنا لا نرى الفرق بين المصدّقين والمكذّبين؟ ـ فقال تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ) توفية الشّيء إعطاءه بتمام اجزائه يعنى تعطون أجوركم بتمامها من دون نقيصة شيء منها (يَوْمَ الْقِيامَةِ) اى يوم قيامكم عند الله ، أو قيامكم من قبوركم وأشار بمفهوم القيد الى انّه يعطى شيء من الأجور قبل القيامة بعد الموت وفي الحيوة الدّنيا لانّ أنموذج الأجر في الأعمال الّتى لها أجر ان وقعت على ما قررّها الشّارع يكون مع العمل ويصل شيء من الأجر الى العامل بعد العمل في الدّنيا وفي القبر لكن تمام الأجر بحيث لا يشذّ منه شيء يعطى يوم القيامة (فَمَنْ زُحْزِحَ) اى بوعد (عَنِ النَّارِ) تفصيل لاقسام الأجر وأربابها (وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ) بالنّجاة ونعيم الآخرة (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) جمع الغارّ أو مصدر وهذا واقع موقع من ادخل النّار وزحزح عن الجنّة فقد هلك واكتفى بهذا للاشعار بانّ الغرور بالحيوة الدّنيا مادّة دخول النّار فكأنّه قال : ومن اغترّ بالحيوة الدّنيا ادخل النّار ، ومن ادخل النّار فقد هلك ، في الحديث القدسىّ : فبعزّتى حلفت وبجلالي أقسمت انّه لا يتولّى عليّا (ع) عبد من عبادي الّا زحزحته عن النّار وأدخلته الجنّة ، ولا يبغضه أحد من عبادي الّا أبغضته (لَتُبْلَوُنَ) مستأنفة

٣١٨

منقطعة عمّا قبلها ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما لنا يرد علينا البلايا في أموالنا وأنفسنا؟ ـ فقال : أقسم بالله على سبيل التّأكيد بالقسم ولامه ونون التّأكيد لتبلونّ ولتمتحننّ حتّى يخرج ما ينافي الايمان من وجودكم ويخلص ايمانكم ممّا خالطه من الأغراض الفاسدة الشّيطانيّة والاهوية الكاسدة النّفسانيّة فأشار بلفظ لتبلونّ الى انّ الابتلاء (فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) لان يخلصكم ممّا لا ينبغي ان يكون خليط ايمانكم ، والابتلاء في الأموال بتكليف إخراج الحقوق منها أو تكليف قضاء الحوائج وحفظ النّفوس والحقوق وصلة الأرحام بها ، أو باتلافها بآفات ارضيّة وسماويّة ، والابتلاء في النّفوس بتكليف الجهاد والحجّ وسائر العبادات ، أو بالآفات البدنيّة والنّفسيّة (وَلَتَسْمَعُنَ) ذكر للخاصّ بعد العامّ للاهتمام به فانّ سماع الأذى ابتلاء في الأنفس (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) اليهود والنّصارى (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً) اى قولا فيه أذى كثير لكم كهجاء الرّسول (ص) والطّعن في دينكم ولمز المؤمنين والتّخويف بالقتل والأسر والنّهب والشّماتة بكم وغير ذلك ، وهذا اخبار على سبيل التّأكيد حتّى يوطّنوا أنفسهم عليه فلا يضطربوا في دينهم ولا في أنفسهم حين ورودها عليهم (وَإِنْ تَصْبِرُوا) ولا تضطربوا في الدّين ولا تخرجوا بالجزع عن الثّبات في الدّين ولا تتبادروا الى المكافاة بالألسن أو الأيدي (وَتَتَّقُوا) عن المكافاة بالاساءة إليهم وعمّا يخالف رضى الله تتمكّنوا في دينكم وتتفضّلوا بصفة العزيمة والثّبات (فَإِنَّ ذلِكَ) الصّبر والتّقوى (مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ممّا يعزم عليه من الأمور اى ممّا ينبغي ان يعزم ويوطّن النّفوس عليه (وَ) اذكروا يا أمّة محمّد (ص) (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) حتّى تكونوا على ذكر منه فلا تصيروا مثلهم بان تتركوا الميثاق الّذى يأخذه محمّد (ص) عليكم بولاية علىّ (ع) وبان تبيّنوا ولايته لمن غاب عنكم بقوله (ص): الا فليبلغ الشّاهد الغائب منكم فربّ حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه ؛ فهو تعريض بالامّة وعطف باعتبار المعنى كأنّه قال : ولتسمعنّ من الّذين أوتوا الكتاب أذى كثيرا فكونوا ذاكرين له واذكروا إذ أخذ الله ميثاق الّذين أوتوا الكتاب على أيدي أنبيائهم وخلفاء أنبيائهم (لَتُبَيِّنُنَّهُ) اللّام لام جواب القسم لأنّ أخذ الميثاق قائم مقام القسم ، والهاء راجع الى الكتاب أو الى الميثاق ، وفي أخبارنا انّه راجع الى محمّد (ص) وانّ التّقدير إذ أخذ الله ميثاق أهل الكتاب في محمّد (ص) لتبيننّ محمّد (ص) إذا خرج (لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) وقرئ الكلمتان بالغيبة وقراءة الخطاب على حكاية حال التّخاطب (فَنَبَذُوهُ) اى الكتاب أو الميثاق أو تبيين محمّد (ص) (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) فلم يراعوه وهذه الكلمة صارت مثلا في العرب والعجم لترك الاعتداء بالمنبوذ (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من اعراض الدّنيا وأغراضها وهذا من قبيل الاضراب من الأدنى الى الأبلغ في الذّمّ فكأنّه قال : بل لم يكتفوا بالنبذ وجعلوه آلة التّوسّل الى حطام الدّنيا (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) في نفسه فانّ حطام الدّنيا لو لم يكن وسيلة الى الآخرة كان مذموما ومن حيث الاشتراء والاستبدال حيث استبدلوا بالنّفيس المقصود الخسيس الغير المقصود (لا تَحْسَبَنَ) جواب لسؤال ناش من سابقه كأنّه قيل : ما حال هؤلاء؟ ـ فقال : لا تحسبنّهم بمفازة من العذاب وانّما وضع الظّاهر موضع المضمر للاشارة الى ذمّ آخر لهم (الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) اى عملوا كانوا يعجبون بأعمالهم الفاسدة مثل أهل هذا الزّمان ويباهون بأفعالهم الكاسدة وكان الضّعفاء يحسبون انّهم على شيء ويحمدونهم على

٣١٩

ما قالوه من أفعالهم فردع الله الضّعفاء عن ذلك الحسبان واثبت لهم العذاب بأعمالهم وإعجابهم وذلك لانّ الأعمال ان كانت من قبيل العبادات فان نقصت من انانيّة العامل شيئا صارت عبادة ، وان لم تنقص منها أو زائدتها كانت وبالا وعصيانا ، وان كانت من قبيل المباحات ؛ فان لم تزد في الانانيّة بقيت على إباحتها ، وان زادتها لم تبق على إباحتها بل صارت وبالا ، وان كانت من قبيل المرجوحات مكروهة كانت أو محرّمة ؛ كانت بذاتها وبالا وعصيانا ، والاعجاب بالعمل ليس الّا من زيادة الانانيّة ورؤية النّفس وعملها ، فالمعجب بالعمل يجب عليه الاستغفار من ذلك العمل لا الافتخار والفرح به حيث انّه عمل عملا جرّه الى النّار وان كان بصورة العبادة (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الطّاعات والأفعال المرضيّة (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد لزيادة الرّدع عن هذا الحسبان وقرئ لا تحسبنّ بخطاب المفرد في كليهما على ان يكون الخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب وقرئ بخطاب الجمع في كليهما على ان يكون الخطاب له وللمؤمنين وحينئذ يكون المفعول الاوّل الّذين يفرحون والمفعول الثّانى قوله تعالى (بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) وقوله (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ) تأكيد للاوّل وقرئ بالغيبة في كليهما مع الإفراد في الاوّل والجمع في الثّانى على ان يكون الّذين يفرحون فاعلا للاوّل وضمير الجمع فاعلا للثّانى (وَلَهُمْ عَذابٌ) جملة حاليّة بلحاظ النّفى لا المنفىّ والمعنى لا تحسبنّهم في منجاة أو ناجين من العذاب حالكونهم لهم عذاب (أَلِيمٌ) بإعجابهم بأعمالهم الفاسدة المردودة وان كانت بصورة العبادات (وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ) اى سماوات الأرواح (وَالْأَرْضِ) اى ارض الأشباح النّورانيّة والظّلمانيّة فانّ كلّما كان فيه جهة الفاعليّة أظهر وجهة القبول أخفى كان باسم السّماء أجدر ، وما كان بالعكس فباسم الأرض أحرى ، والجملة امّا حال عن فاعل اشتروا به ثمنا قليلا أو عطف عليه ، وجملة (لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ) (الى آخرها) معترضة والمعنى انّهم انحرفوا عن الله واشتروا بميثاقه ثمنا قليلا من اعراض الدّنيا والحال انّ الله ملك السّماوات والأرض فمن انحرف عنه لطلب ما في ملكه كان مخطئا في طلبه لانّه من كان يريد حرث الدّنيا فعند الله حرث الدّنيا والآخرة (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على إعطاء ما يشترون بالميثاق من دون الاشتراء ويقدر على إتلاف ما يشترون بميثاقه (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) استيناف جواب لسؤال مقدّر للتّعليل على مالكيّته وعموم قدرته لانّ فيهما وفي تنضيدهما وتعانقهما وتعاشقهما واختلاف حركات السّماوات وأوضاع كواكبها واختلاف أوضاعها وظهور الآثار المختلفة منها في الأرض (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) بتعاقبهما وتخالفهما بالزّيادة والنّقيصة وبالآثار المترتّبة عليهما من اختلاف فصول الأرض وتوليد المركّبات التامّة والنّاقصة (لَآياتٍ) دالّة على علمه تعالى وحكمته وعموم قدرته ومالكيّته وكمال عنايته بخلقه (لِأُولِي الْأَلْبابِ) وهم الّذين بايعوا البيعة الخاصّة الولويّة وقبلوا الدّعوة الباطنة واقرّوا بولاية علىّ (ع) فانّ غيرهم وان بلغ ما بلغ في العلم والزّهد والتّقوى والعبادة بحيث لو عبد الله سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره لم تكن منه مقبولة ولأكبه الله على منخريه في النّار لانّه لم يكن له لبّ ولا لعمله مقدار ، واولو الألباب هم الّذين يستدلّون بدقائق الصّنع على دقائق الحكمة الدّالّة على عموم القدرة وعموم المالكيّة لله (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) في جميع أحوالهم فانّ صاحب اللّبّ الّذى قبل الولاية وصار ذا لبّ بتلقيح الولاية لا يخلو في أحواله من ذكر الله وان أنساه الشّيطان ذكر ربّه حينا ما تذكرّ فاستغفر على اىّ حال كان (قِياماً وَقُعُوداً) يجوز في كلّ منها ان يكون مصدرا وان يكون جمعا

٣٢٠