تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ) اشارة الى المرتدّ الملّىّ اى لا يهدى الله الى الايمان فانّ الإسلام طريق الايمان وهداية اليه أو الى الآخرة والجنان (قَوْماً كَفَرُوا) بالله أو بالرّسول أو بما جاء به من الأحكام أو بقوله في حقّ خليفته (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) ايمانا عامّا بالبيعة العامّة أو ايمانا خاصّا بالبيعة الخاصّة (وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) عطف على ايمانهم بتقدير اداة المصدر أو على كفروا أو حال بتقدير قد (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) المعجزات أو الادلّة الواضحات على حقّيّة الرّسول (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) جملة حاليّة في مقام التّعليل والمعنى لا يهديهم لانّهم ظلموا أنفسهم وقواهم وظلموا الإسلام وصاحب الإسلام بخروجهم عنه والله لا يهدى القوم الظّالمين فهو اشارة الى قياس اقترانىّ من الشّكل الاوّل هكذا : انّهم ظالمون وكلّ ظالم لا يهديه الله فانّهم لا يهديهم الله (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) يعنى تبعيد الله أو دعاء الله باللّعنة عليهم (خالِدِينَ فِيها) في اللّعنة أو في الجحيم المستفادة بالالتزام (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) بتأخير العذاب عنهم مدّة ولاقتضاء مقام الغضب البسط والتّغليظ والتّشديد بسط الله تعالى في الكلام وشدّد عليهم (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) الكفر بعد الإسلام (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه حين الكفر وهو استثناء من قوما أو من أولئك لا عن فاعل خالدين ولا عن المجرور في قوله عنهم ولا عن مرفوع ينظرون لا يهام الكلّ خلاف المقصود والمعنى أولئك عليهم لعنة الله الّا الّذين تابوا منهم لانّهم كما سبق ما قطعوا الحبل من الله المقتضى لاستعداد التّوبة ويقبل الله توبتهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر مساويهم بعد رجوعهم اليه (رَحِيمٌ) يتفضّل عليهم ويرحمهم بعد مغفرتهم. روى انّ نزول الآية في رجل من الأنصار ارتدّ بواسطة قتل وقع منه ولحق بمكّة ثمّ ندم وأرسل الى قومه ان سألوا رسول الله (ص) فنزلت فرجع الى المدينة وحسن إسلامه ، لكنّها تجري في كلّ من ارتدّ بإنكار الله أو الرّسول أو بعض احكامه أو بعض أقواله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان للمرتدّ الفطرىّ (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) العامّ أو الخاصّ (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) بحيث يؤدّى الى ابطال الفطرة وقطع حبل الله (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) الإتيان بأداة نفى التّأبيد للاشعار بأنّهم ما بقي لهم استحقاق التّوبة وقبولها لقطع ما به الاستعداد والاستحقاق (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) يعنى انّ الضّلال على الإطلاق منحصر بمن قطع الفطرة وامّا من لم ـ يقطع الفطرة وان ارتدّ عن الإسلام لم يكن ضالّا على الإطلاق لبقاء الهداية التّكوينيّة له (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بيان لحال من بقي على الكفر (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) التّقييد بهذا القيد للاشعار بانّ الكافر يمكن ان يموت على الإسلام فلا يجوز بغض الكافر من حيث ذاته في حال كفره وحيوته ، ولا لعنه بعد مماته الّا لمن علم حاله في حيوته وانّه يموت على الكفر ، أو من سمع من صادق بصير بحاله انّه مات أو يموت على الكفر ، وللاشارة اليه قال المولوىّ قدس‌سره :

هيچ كافر را بخوارى منگريد

كه مسلمان مردنش باشد اميد

چه خبر داري ز ختم عمر أو

تا بگردانى از أو يكباره رو

لكن ان ماتوا على الكفر (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) تميز محوّل عن الفاعل أو منصوب بنزع الخافض اى ملء الأرض من ذهب (وَلَوِ افْتَدى بِهِ) نفسه اى ولو بالغ في الافتداء به فانّ

٢٨١

الافتعال إذا لم يفد المطاوعة يدلّ على المبالغة وعلى هذا فلا حاجة الى التّكليف في توجيه صحّة الإتيان به هاهنا لانّ ما بعد لو هذه يكون أخفى افراد الشّرط (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) وأتى في هذه بالفاء في خبر الموصول تأكيدا للزوم الجزاء للشّرط ، وترك الفاء في خبر الموصول في القرين السّابق مع انّه كان اولى بالتّأكيد والبسط والتّغليظ لانّ المرتدّ الّذى ازداد في كفره لوضوح عقابه وشدّة عذابه كأنّ عذابه كان من المسلّميّات فلا حاجة له الى التّأكيد والتّغليظ والبسط ولذلك اقتصر فيه على ذكر عدم قبول التّوبة وكونهم من الضّالّين من دون ذكر عذاب وكيفيّة عقاب لهم بخلاف السّابق عليه واللاحق به ، ولذلك ولكون الضّلالة من اوصافهم لا بيانا لعقابهم أتى بالعاطف في قوله (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) بخلاف قوله في السّابق (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ) ، الآية ، وبخلاف قوله في اللّاحق : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) فانّ الإتيان بالعاطف اشارة الى انّه معطوف ومعدود من اوصافهم المعلومة وليس المقام مقام سؤال حتّى يجعل جوابا لسؤال مقدّر بخلاف الفقرتين الأخريين.

الجزء الرّابع

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) منقطع عن سابقه لفظا ومعنى أو جواب لسؤال ناش عن سابقه كأنّه بعد ما ذكر الأصناف الاربعة من المنحرفين والمرتدّين والكافرين سأل سائل : بم ننال الايمان والثّبات فيه ومقام الإحسان؟ ـ فقال : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) اى الجنّة أو الخير أو الاتّساع في الإحسان أو الصّدق أو الطّاعة أو خصلة الإحسان الى الغير فانّ الكلّ معاني البرّ والكلّ مناسب لمقام السّؤال (حَتَّى تُنْفِقُوا) قد مضى معنى الإنفاق في اوّل سورة البقرة (مِمَّا تُحِبُّونَ) اى بعض ما تحبّون فانّ الإحسان والمحبوبيّة للإنسان لا يحصل الّا بالتّوسّط في الأخلاق ولمّا كان محبوب الإنسان في كلّ مرتبة شيئا غير ما في المرتبة الاخرى ولعلّ محبوبه في مرتبة يكون مبغوضا له بحسب مرتبة اخرى ومحبوب كلّ مرتبة لا يكون بالنّسبة الى جميع الإفراد محبوبا بل قد يكون محبوبا لبعض ومبغوضا لبعض آخر ، وقد يكون محبوبا لشخص في حال مبغوضا له في حال آخر فلا يكون الإنفاق ولا المنفق مخصوصا بشيء ولا واقفا على حدّ بل نقول : محبوب الإنسان في كلّ مرتبة نفسه ولوازم نفسه وموافقاتها في تلك المرتبة والأصل في كلّ إنفاق ان يكون ناشئا أو مورثا لانفاق شيء من انانيّته حتّى يكون مقبولا فانّ المنفق إذا أنفق لا بقاء انانيّته أو لازدياد انانيّته مثل المرائى والمعجب بنفسه والمنفق لإبقاء الباطل أو ابطال الحقّ لم يكن إنفاقه مقبولا ولا مورثا للبرّ والإحسان بل يكون مردودا ومورثا للبعد من البرّ (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) احقر ما يكون فلا يفوت عن الله (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم بأضعافه فلا تخافوا من فوته وافنائه (كُلُّ الطَّعامِ) الطّعام المطعوم بالفعل أو بالقوّة كالبرّ والشّعير والمراد تعميم الطّعام بالاضافة الى ما قالت اليهود انّه كان حراما على الأنبياء السّابقة لا بالنّسبة الى كلّما يمكن ان يطعم ، وهذا ردّ على اليهود وجواب لانكارهم تحريم الطّيّبات عليهم ببغيهم فانّ اليهود بعد ما نزل وسمعوا قوله تعالى (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) وقوله تعالى : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ ،) قالوا : لسنا باوّل من حرّمت عليه وقد كانت محرّمة على نوح (ع) وإبراهيم (ع) ومن بعده من بنى إسرائيل الى ان انتهى التّحريم

٢٨٢

إلينا فكذّبهم الله وأجابهم بقوله : كلّ الطّعام (كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) وليس كما قالت اليهود انّ الطيّبات كانت محرّمة من زمن نوح (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) بسبب مرضه (عَلى نَفْسِهِ) من لحوم الإبل فانّه كما روى كان به وجمع الخاصرة أو عرق النّساء وكان إذا أكل لحم الجمل هيّج الوجع به فحرّم على نفسه لحم الإبل (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) متعلّق بقوله حلّا أو بحرّم أو بكليهما على سبيل التّنازع يعنى كلّ المطاعم كان حلّا لبني إسرائيل سوى لحم الإبل الّذى حرّمه إسرائيل على نفسه قبل نزول التّوراة وبعد نزول التّوراة حرّم الطيّبات عليهم ببغيهم (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) حاجّهم بكتابهم حتّى يتبيّن كذبهم في ادّعائهم وصدقه (ص) فيما نزل عليه من كتابهم ، وقيل : لم يجسروا على إتيان التّوراة وبهتوا ، وهذا دليل صدقه في نبوّته حيث تمسّك بكتاب خصمه في صدقه (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بادّعاء انّ المحرّمات كانت محرّمة من زمن نوح (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) المذكور من المحاجّة والزام الحجّة (فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) تأكيد حصر ادّعاء مبالغة ، وظلمهم عبارة عن وضع الإنكار موضع التّصديق والإقرار (قُلْ صَدَقَ اللهُ) كانّ المقصود ان يقول : ظهر صدقى فاتّبعوا ملّتى لكن لمّا كان نسبة الصّدق الى الله في المقام مستلزما لصدقه (ص) لانّه مدّع انّ أقواله ملقاة من الله تعالى اليه فاذا كان الأقوال الملقاة من الله صادقة كان هو صادقا وكان الكناية بصدق الله عن صدقه أبلغ من التّصريح وأبعد من الشغب واللّجاج وأقرب الى الإنصاف كنى به عنه ، وهكذا الحال في الأمر باتّباع ملّة إبراهيم فانّه (ع) لمّا كان معلنا بانّ ملّة إبراهيم وملّة إبراهيم ملّته كنى باتّباع ملّة إبراهيم (ع) عن اتّباع ملّته (ص) فقال (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) قد مضت هذه العبارة قبيل هذا.

تحقيق كون البيت اوّل بيت وضع وكونه مأمنا

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ) بالزّمان كما في الخبر انّ موضع البيت اوّل بقعة خلقت من الأرض على اختلاف في مضمونها ثمّ دحيت الأرض من تحتها ، وكما في الاخبار انّ الله أنزله لآدم من الجنّة وكانت درّة بيضاء فرفعه الله الى السّماء وبقي اسّه ، أو بالشّرف كما في الخبر : انّ الله اختار من كلّ شيء شيئا ؛ اختار من الأرض موضع الكعبة ، أو للعبادة على ما قيل انّه لم يكن قبله موضع مخصوص للعبادة (وُضِعَ) خلق أو بنى (لِلنَّاسِ) لانتفاعهم بالمكاسب فيه للكاسبين ، أو بغفرانهم لقاصديه ، أو براحتهم وأمنهم عن القاصدين لملتجئيه ، أو بهدايتهم لناظريه وناظرى آياته ، أو بكفايتهم وقيامه بأمر معاشهم لساكنيه ومجاوريه ولو كانوا كافرين ، أو ببقائهم وعدم هلاكهم على ما روى من انّه لو هدم البيت وتركوا الحجّ لهلك أهل العالم (لَلَّذِي) للبيت الّذى (بِبَكَّةَ) بكّة ومكّة مترادفتان ، أو بكّة موضع البيت ومكّة تمام البلد وسمّيت بكّة لانّ النّاس يبكّون فيها يعنى يزدحمون أو لبكاء النّاس حولها وفيها ، أو لانّها تبّك أعناق الجبابرة اى تدقّها وأشير الى ذلك في الاخبار ، وروى انّما سمّيت مكّة بكّة لانّه يبكّ بها الرّجال والنّساء والمرأة تصلّى بين يديك وعن يمينك وعن شمالك وعن يسارك ومعك ولا بأس بذلك لأنّه انّما يكره في سائر البلدان (مُبارَكاً) ذا بركة لمجاوريه حيث يرزقون من ثمرات الأشجار تماما مع انّه لا ثمرة في مكّة ويجلب الحبوب والاثمار اليه ولزائريه حيث يغفر الله لهم كيوم ولدتهم أمّهم ، وينظر إليهم

٢٨٣

بالرّحمة ، ويقبل توبتهم ، ويخلف ما أنفقوا في سبيله ، وللطّيور وسائر الحيوان حيث انّها مأمونة من الاصطياد ولطيور المسجد لكونها مأمونة ومرزوقة ، وللأشجار والنّبات في ارض الحرم حيث انّها مأمونة عن القطع في الجملة ، ولأهل العالم حيث انّهم باقون مرزوقون به كما سبق الاشارة اليه (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) في حمل المعنى على الذّات ما مرّ مرارا ، وهدايته امّا بكون وجوده سببا لهيجان النّفوس للتّوجّه والسّلوك اليه ، أو بكونه سببا لقرب زائريه الى الله ، أو بكونه قبلة ومتعبّدا لهم من زمن إبراهيم (ع) أو من زمن آدم (ع) ، أو بكونه ذا آيات دالّات على تشريف الله ايّاه وعلى كونه في حماية الله ، وعلى صدق الأنبياء (ع) الّذين أمروا بتعظيمه والطّواف حوله والنّسك لديه ، وصدقهم في ذلك يدلّ على صدق رسالتهم وليس رسالتهم الّا بالإقرار بالمبدأ والمعاد وتوحيد المبدأ وتوحيد العبادة ، وتلك الآيات مثل إهلاك من قصد خرابه مثل أبرهة صاحب الفيل وجنوده ، ومثل شيوع الموت في قبائل أخذوا الحجر الأسود حتّى ردّوه اليه ، ومثل تنطّق الحجر الأسود كما روى عند محاجّة محمّد الحنفيّة مع علىّ بن الحسين (ع) ، ومثل انحراف الطّيور من محاذاته في طيرانهم ، وبكونه ذا آيات باقية من آثار الأنبياء ومعجزاتهم (ع) مثل مقام إبراهيم فانّ غوص القدم في الحجر الصّلب آية دالّة على انّ صاحبه ذو قوّة خارجة عن طوق البشر إلهيّة ، وكذا كونه محفوظا على مدى الاعصار مع كثرة أعدائه الّذين كانوا بصدد محو مثل تلك الآثار ولذلك علّله بقوله تعالى (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) جملة مستأنفة جواب للسّؤال عن علّة الهداية ، أو حال مترادفة ، أو متداخلة للتّعليل ، أو صفة كذلك ، أو خبر بعد خبر وقد سبق الاشارة الى الآيات والى ظهورها (مَقامُ إِبْراهِيمَ) بدل من الآيات بدل البعض من الكلّ أو مبتدأ خبر محذوف أو خبر مبتدء محذوف اى هي مقام إبراهيم (ع) فانّه باعتبار غوص القدم في الحجر وبقاء اثر القدم ومحفوظيّته في دهور طويلة آيات عديدة وحكاية مقام إبراهيم (ع) قد اختلف الاخبار في بيانها من أراد فليرجع الى الاخبار وكتب التّفاسير (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) عطف على مقام إبراهيم (ع) أو على جملة (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ ،) أو على جملة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ ،) أو حال ولفظة من موصولة أو شرطيّة والدّاخل فيه آمن من عذاب يوم القيامة بشرط الايمان والدّاخل في الحرم آمن بالمواضعة الإلهيّة عن المؤاخذة بجناية يؤاخذ عليها والضّمير راجع الى البيت ، أو الى مقام إبراهيم ، والمراد بمقام إبراهيم (ع) هو الحجر الّذى فيه اثر قدم إبراهيم (ع) أو الموضع الّذى فيه ذلك الحجر الآن ، أو الموضع الّذى بينه وبين البيت ، أو المسجد ، أو الحرم تماما كما قيل ، وكون امن من دخله من جملة الآيات ان كان المراد به أمنهم من تعرّض الجبابرة مع كثرتهم وهلاك من تعرّض له ولهم مثل أصحاب الفيل فواضح ، وان كان المراد به أمنهم بالمواضعة الإلهيّة ، أو أمنهم من عذاب يوم القيامة ، أو امن من دفن فيه من العذاب ففيه خفاء.

اعلم انّ جميع الأعمال الشّرعيّة الفرعيّة والمناسك الظّاهرة القالبيّة صور لاعمال اللّطيفة الانسانيّة السّالكة الى الله والمناسك الباطنة القلبيّة وجميع المساجد وبيوت الله الصوريّة صور للمعابد الباطنة الانسانيّة من مواقف السّالك في سلوكه وصور لبيوت الله الحقيقيّة الّتى هي قلوب السّالكين الى الله الدّاخل فيها الايمان الممتازة من الصّدور المنشرحة بالإسلام بدخول الايمان فيها ، وانّ الكعبة لمّا كانت بناء إبراهيم الّذى كان متحقّقا بالقلب وكان بيت الله حقيقة كانت مظهرا للقلب بجميع مناسكه ومعابده ولذلك اجرى عليها جميع ما للقلب من الأوصاف والآثار فانّ القلب اللّحمانىّ لمّا كان اوّل نقطة خلقت من بدن الإنسان لكونه مظهرا للقلب المعنوىّ

٢٨٤

الّذى خلق قبل جملة العوالم الرّوحانيّة باعتبار ربّ النّوع الّذى خلق قبل كلّ المخلوقات أجرى الله حكمه على الكعبة وقال : اوّل بيت وضع للنّاس للّذى ببكّة ومن قال انّ الكبد اوّل نقطة خلقت من بدن الإنسان لانّه منبت النّفس النّباتيّة واحتياج بدن الحيوان ليس اوّلا الّا الى القوى النّباتيّة غفل عن انّ الجنين من اوّل استقراره في الرّحم قد استفاد ضعيفا من كلّ من القوى النّباتيّة الّتى لنفس الامّ وانّه من اوّل استقراره في الرّحم يغتذي وينمو بتدبير النّفس النّباتيّة الّتى في الأمّ ، وتصوير الأعضاء أيضا ليس الّا بإعانة نفس الامّ لأنّها حريصة على إيجاد مثلها وبقائه وهي لا تصوّر اوّلا الّا ما كان مظهرا لمثلها لا لجنودها وهو القلب ، ولمّا كان القلب قبل تنزّله الى ارض العالم الصّغير كالدّرّة البيضاء وبعد تنزّله واختلاطه باهل العالم الصّغير صار متلوّنا وكان دحو ارض العالم الصّغير من تحته وكان في وسط هذا العالم من حيث لحمته الصّنوبريّة ومن حيث روحانيّته باعتبار استواء نسبته الى جميع أجزاء البدن وكان مولد الولاية ومتوجّها اليه لجميع أهل العالم الصّغير في مناسكهم ومآربهم وكان مأمنا لمن دخله ودخل حريمه وكان قائما بأمور أهل مملكته ومقوّما لهم وكان بركة ورازقا من جميع الثّمرات من كان من اهله ومن لم يكن من اهله ، وكان مثابة ومرجعا لهم ، وكان أصل جميع القرى في مملكته ، وكان على الجميع الرّجوع اليه والتجرّد من ثياب الانانيّة لديه ، والطّواف حوله والتردّد عنده والوقوف في حريمه وقتل انانيّته وقربانها قبل الوصول اليه ، أخبروا عن الكعبة بمثل ذلك وجعل الله لها من المناسك مثل ذلك ولعلّك تتفطّن اجمالا بحكم جميع احكام الحجّ ومناسكه بعد التفطّن بما ذكر ، وقد أشرنا الى بعضها فيما سبق ونشير الى بعض منها فيما يأتى والغافل عمّا ذكرنا النّاظر الى ظاهر ما ورد في الاخبار من أوصاف البيت والرّائى صور ما جعل له من المناسك لا يرى لها صحّة وحكمة عقلانيّة بل يريها كذبا ولغوا ، ولو لم يخف من الله أو من أهل الإسلام يطعن فيها كما يطعن الكفّار فيما ورد فيها (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) قرئ بالفتح وبالكسر وهما مصدرا حجّ بمعنى قصد مطلقا ، أو بمعنى قصد مكّة للمناسك المخصوصة ، أو بالفتح مصدر وبالكسر اسمه ، ولمّا كان أهل العالم الصّغير مفطورين على قصد بيت القلب وكان ذلك حقّا من حقوق الله عليهم وكان رجوعهم الى القلب رجوعا الى الله كلّف الله النّاس بزيارة الكعبة الّتى هي مظهر ذلك البيت ، وادّى هذا التّكليف بصورة الخبر تأكيدا واشعارا بانّ هذا كان في فطرتهم وحقّا لله عليهم وليس كسائر الحقوق الخلقيّة أو الالهيّة ففيه تأكيد الوجوب من وجوه عديدة : أداء الأمر بصورة الخبر ، وانّه من الأمور الّتى تقع لا محالة ولا حاجة الى الأمر به ، وتأكيده باسميّة الجملة ، وكونه حقّا على النّاس وكونه حقّا لله ، لا كسائر الحقوق الرّاجعة الى الخلق ، وحصر ذلك الحقّ في الله من غير شراكة الغير فيه (مَنِ اسْتَطاعَ) بدل من النّاس وفي هذا الإبدال تأكيد آخر للحكم من حيث التّخصيص بعد التعميم والتّوضيح بعد الإجمال فكأنّه كرّره وقال : لله على النّاس حجّ البيت لله على من استطاع (إِلَيْهِ سَبِيلاً) حجّه وهل الاستطاعة بالبدن أو بالبدن والمال أو الكسب بحيث يكفى لنفقته ونفقة من كان واجبا نفقته عليه ذهابا وإيابا ، أو بحيث يكفى لذلك ويرجع الى ما يكفى بعده ، وتحقيقه موكول الى الكتب الفقهيّة (وَمَنْ كَفَرَ) بالحجّ أو بالله في ترك الحجّ أو بأحكام الله في تركه ، وفي تسمية تركه كفرا تأكيد آخر لوجوبه فكأنّه قال : تارك الحجّ على حدّ الكفر والشّرك بالله فكما أنّه لا يغفر ان يشرك به لا يغفر ان يترك الحجّ ويغفر ما دون ذلك فمن ترك الحجّ لا يعبأ الله به (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنه وذكر الغنى في مثل المقام يدلّ على المقت والخذلان وقال غنىّ (عَنِ الْعالَمِينَ) بدل غنىّ عنه مبالغة في الاستغناء ليدلّ على المبالغة في المقت

٢٨٥

والخذلان ولمّا كان حجّ بيت الله عبادة جامعة بين اتعاب البدن وكسر انانيّة النّفس وقطع علاقتها عن متمنّياتها وتجرّدها عن مشتهياتها مع بذل المال وإنفاقه ولم يكن سائر العبادات كذلك ندب الله تعالى اليه واكّده بأنواع التأكيدات ثمّ أمر نبيّه ان يخاطب أهل الكتاب بالتّقريع على الكفر بالآيات تعريضا بامّته في ترك الحجّ والكفر بعلىّ (ع) فقال (قُلْ) يا محمّد (ص) (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة من آيات القرآن والتّوراة والإنجيل والتّكوينيّة والأحكام الإلهيّة الثّابتة في الشّرائع الثّلاث (وَاللهُ شَهِيدٌ) حاضر أو حافظ (عَلى ما تَعْمَلُونَ) فيجازيكم على كفركم بالآيات ولا ينفعكم التّحريف والاستسرار (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) تكرار الخطاب والنّداء للتّأكيد في التّقريع وللاشارة الى انّ كلّا يكفى في التّقريع (لِمَ تَصُدُّونَ) تمنعون (عَنْ سَبِيلِ اللهِ) عن الحجّ أو الجهاد أو مطلق الخير أو الولاية أو الإسلام (مَنْ آمَنَ) حصل له الإسلام أو من أراد الإسلام ، قيل كانوا يمنعون المسلمين عن الايتلاف والاتّفاق وكانوا يحرّشون بينهم حتّى أتوا الأوس والخزرج فذكّروهم ما بينهم في الجاهليّة من التّعادى والتقاتل ليعودوا لمثله ، أو المعنى لم تمنعون من آمن بتحريف الكتب وتغيير صفة النّبىّ (ص) وكتمان ما دلّ صريحا على حقّيّة الإسلام (تَبْغُونَها) حال عن فاعل تصدّون أو عن سبيل الله أو عن كليهما أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر والمعنى تبغون لها (عِوَجاً) أو تبغونها معوّجة أو تبغون عوجها على ان يكون مفعولا به أو حالا أو تميزا يعنى تتجسّسون الاختلاف والمناقضات المترائاة فيها لتوهنوها على أهلها أو ترغبون فيها ان كانت معوّجة لانّكم ذوو عوج ولا تطلبونها حالكونها مستقيمة ، والعوج بالفتحتين والعوج بكسر العين مصدر أعوج كفرح ، أو الاوّل مصدر والثّانى اسم مصدر ، أو الاوّل في المنتصبات مثل الجدار والعصا والثّانى في غيرها مثل الأرض والدّين ، والعوج في كلّ شيء بحسبه فالعوج في الدّين ان يكون في احكامه اختلاف وتناقض بحيث يشمئزّ منه الطّبائع السّليمة ، أو يكون موصلا الى ضدّ ما يكون مطلوبا منه ، أو لا يكون موصلا الى المطلوب منه ، فانّ المطلوب من سبيل الله والتديّن بدين الله ان توصل المتوسّل بها الى الله والى دار نعيمه ، فان توصل الى الشّيطان ودار جحيمه أو لم توصل الى الله كانت معوّجة (وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) جمع الشّهيد بمعنى الحامل للشّهادة أو المؤدّى لها أو الأمين فيها ، أو بمعنى العالم ، وعلى اىّ تقدير فهو امّا منسىّ المفعول أو منويّه اى أنتم الّذين يستشهد بكم أهل ملّتكم في قضاياهم ، أو أنتم الأمناء في شهاداتهم وعليكم اعتمادهم ، أو أنتم علماء ملّتكم ، أو أنتم تشهدون بانّ السّبيل سبيل الله ، أو تشهدون انّكم تصدّون عن سبيل الله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) وعيد لهم ولمّا كان القبيح في الآية الاولى الكفر الّذى كانوا يجهرون به وفي هذه الآية حيلتهم في صدّ المسلمين عن الإسلام وكانوا يخفونه أتى في الاولى بقوله (وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) وفي هذه الآية بقوله (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) لانّ إخفاء القبيح كان مظنّة للغفلة عنه.

تفسير حجّة الوداع وغدير خم

وهذه الآية كسابقتها تعريض بالامّة وبكفرهم بعلىّ (ع) وما جاء الرّسول به من عند الله في حقّه وما قاله لهم في حجّة الوداع في مسجد الخيف وغدير خمّ من الوصيّة في حقّه وما أمرهم به من البيعة معه في عشرة مواطن أو ثلاثة مواطن وبصدّهم المسلمين عن البيعة معه والطّاعة له ، ولمّا كان الخطاب في الآيتين الأوليين مع أهل الكتاب امر نبيّه ان يخاطبهم توهينا وتبعيدا لهم عن تشريف الخطاب ولمّا كان الخطاب في الآية الآتية مع المؤمنين خاطبهم بنفسه تشريفا لهم فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة العامّة النبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ)

٢٨٦

وهم الّذين يصدّونكم عن سبيل الله ويبغونها عوجا بالاستماع إليهم وقبول مفترياتهم (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) عن ايمانكم وعن السّبيل الموصل الى الله (كافِرِينَ) بعد تقريع أهل الكتاب على حيلتهم وخدعتهم للمؤمنين نبّه المؤمنين حتّى لا يغترّوا بهم وبأقوالهم المموّهة قيل : نزلت في نفر من الأوس والخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون فمرّ بهم واحد من كبار اليهود فغاظه تألّفهم واجتماعهم فأمر شابّا من اليهود ان يجلس إليهم ويذكّرهم ما بينهم من القتال وينشد لهم بعض ما قيل فيه ففعل فتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا وقالوا : السّلاح السّلاح واجتمع من القبلتين خلق عظيم فتوجّه إليهم رسول الله (ص) وأصحابه فقال : أتدّعون الجاهليّة وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وقطع به عنكم امر الجاهليّة والّف بين قلوبكم ، فعلموا انّها نزعة من الشّيطان وكيد من عدوّهم فألقوا السّلاح واستغفروا وعانق بعضهم بعضا (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ) لا ينبغي لكم ذلك (وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) يعنى انّ الكفر في جميع الأحوال قبيح خصوصا في تلك الحالة فانّ تلاوة الآيات ووجود الرّسول كليهما يميتان الكفر ويحييان فطرة الايمان ولا يكفر في مثل تلك الحال الّا من بلغ في الشّقاوة منتهاها (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) ومن اهتدى الى الصّراط المستقيم الموصل له الى مطلوبه الّذى لا مطلوب له سواه لا يرجع منه البتّة ؛ وهذا وجه آخر لاستغراب الرّجوع الى الكفر يعنى انّكم اعتصمتم بالله بالبيعة مع رسوله (ص) فانّ البيعة تورث التمسّك بمن قبل البيعة والتمسّك بالرّسول (ص) تمسّك بالله لكونه مظهرا تامّا له ، ومن اعتصم بالرّسول (ص) يهتد الى الصّراط المستقيم الموصل الى الله لانّ الرّسول (ص) هو الصّراط المستقيم ومن اهتدى لا يرجع الّا إذا كان بالغا في العمى غايته (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) كرّر النّداء لتشريفهم وتهييجهم على الثّبات على الايمان والارتداع عن الكفر ولان يجبر كلفة التكليف بالتّقوى بلذّة النّداء (اتَّقُوا اللهَ) اتّقوا سخطه (حَقَّ تُقاتِهِ) قد مضى تحقيق معنى التّقوى ومراتبها في اوّل سورة البقرة وحقّ التّقوى على الإطلاق ان لا يبقى من المتّقى عين ولا اثر بطىّ جميع مراتب التّقوى والانتهاء الى التّقوى عن ذاته وعن تقواه في جنب ذات الله ولمّا كان التّقوى بهذا المعنى لا تتيسّر الّا لقليل قالوا : انّ هذه الآية منسوخة بقوله تعالى في سورة التغابن (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) لكنّ الحقّ انّ حقّ التّقوى تختلف بحسب اختلاف الأشخاص وبحسب اختلاف مراتب الشّخص الواحد فانّ حقّ التّقوى بالنّسبة الى أصحاب النّفوس الامّارة وبالنّسبة الى من لم يدخل بعد في دين ولم يبايع البيعة العامّة مع نبىّ أو خليفته ان يحتاط في عمله ويطلب من يأخذ منه دينه ويترك ما ينافي طلبه وحقّ التّقوى بالنّسبة الى من دخل في دين ان يمتثل ما أمر به ، ويترك ما نهى عنه ، ويطلب من يدلّه على حقّ دينه وروح اعماله ، ويترك ما ينافي هذا الطّلب ، وحقّ التّقوى بالنّسبة الى من دخل في الايمان ودخل بذر الايمان في قلبه ان يمتثل ما امر به وينتهى عمّا نهى عنه بحسب ايمانه ، ومراتب التّقوى للدّاخل في الايمان كثيرة بحسب مراتب المؤمنين ودرجاتهم كما سبق مفصّلا ، وهكذا الحال في التّقوى بحسب مراتب الشخص الواحد من بشريّته الى فنائه فانّ حقّ التّقوى بحسب البشريّة غيرها بحسب الصّدر والقلب والرّوح وهكذا ؛ فالآية على هذا امر للجميع بالإتيان بحقّ التّقوى وكانت موافقة لقوله تعالى : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ؛ لانّ حقّ التّقوى من كلّ أحد ما استطاعه لانّ الله لا يكلّف نفسا الّا وسعها ، وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا يكفر ، ولعلّك تفطّنت بصحّة تعميم الطّاعة

٢٨٧

والذّكر والشّكر والعصيان والنّسيان والكفر بحسب مراتب المؤمنين (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعنى أديموا الإسلام الى حال الموت فالنّهى وارد على القيد لا المقيّد ولا المجموع وقرء في قراءة أهل البيت مسلّمون بالتّشديد يعنى لا تموتنّ الّا وأنتم مسلّمون لرسول الله (ص) ثمّ للإمام من بعده ، ونسب الى الكاظم (ع) انّه قال لبعض أصحابه : كيف تقرأ هذه الآية : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ) ماذا؟ ـ قال : مسلمون يعنى بتخفيف اللّام فقال : سبحان الله يوقع عليهم الايمان فيسمّيهم مؤمنين ثمّ يسألهم الإسلام ؛ والايمان فوق الإسلام؟! قال : هكذا يقرأ في قراءة زيد قال : انّما في قراءة علىّ (ع) وهو التّنزيل الّذى نزل به جبرئيل على محمّد (ص) الّا وأنتم مسلّمون لرسول الله (ص) ثمّ الامام من بعده.

تحقيق حبل الله وحبل النّاس

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ) يطلق حبل الله على القرآن لانّه كالحبل المحسوس الممدود من الله الى الخلق طرفه الّذى هو مقام المشيّة وعلويّة علىّ (ع) بيد الله ، وطرفه الآخر بيد النّاس وهو نقشه وكتابته ولفظه وعبارته ويطلق على الكامل من النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) فانّه أيضا حبل ممدود من الله الى الخلق طرفه المشيّة كالقرآن وطرفه الآخر بشريّته ، ويطلق على الولاية التكوينيّة والولاية التّكليفيّة فانّها أيضا حبل ممدود طرفه المشيّة لانّ الكلّ متّحدة في المقامات العالية ، والتّفرقة انّما هي في عالم الفرق وطرفه الآخر بشريّة الكامل وصدر قابل الولاية وبشريّته ، وهكذا الحال في النّبوّة والرّسالة والشّريعة المقرّرة منهما وقوله تعالى بعيد هذا : (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) اشارة الى الولايتين أو الى القرآن والولاية التّكليفيّة كما في الخبر انّ الحبل من الله القرآن والحبل من النّاس علىّ بن أبي طالب (ع) ، ونسب الى النّبىّ (ص) انّه قال في مقام وصف الكتاب والعترة : حبلين ممدودين طرف منهما بيد الله وطرف بأيديكم وانّهما لن يفترقا ؛ لكن بعد ما سبق في اوّل سورة البقرة من تحقيق معنى الكتاب وتعميمه يعلم انّ الولاية التّكوينيّة كتاب من الله كما انّ الولاية التكليفيّة أيضا كتاب من الله والمراد به هاهنا محمّد (ص) بنبوّته أو رسالته أو ولايته ، أو المراد شريعته ودينه الّذى هو الإسلام ، أو المراد علىّ (ع) بولايته ؛ فانّ المقصود من تلك الآيات التّعريض بالامّة في اتّباع الولاية ، وعلى تعميم الأمر بالاعتصام يراد جميع معاني الحبل بالنّسبة الى مراتب الخلق فكأنّه قال : اعتصموا ايّها المسلمون بمحمّد (ص) وشريعته وكتابه واعتصموا ايّها المؤمنون بعلىّ (ع) وولايته (جَمِيعاً) اى مجتمعين على الاعتصام (وَلا تَفَرَّقُوا) في الاعتصام بان تمسّك بعضكم بحبل الله وبعضكم بحبل الشّيطان من الأديان المنسوخة والباطلة ومن ولاية المنافقين ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال في بيان الآية تعريض بالامّة واختلافهم في الولاية بعد نبيّهم (ص) انّ الله تبارك وتعالى علم انّهم سيفترقون بعد نبيّهم ويختلفون فنهاهم عن التّفرّق كما نهى من كان قبلهم فأمرهم ان يجتمعوا على ولاية آل محمّد (ص) ولا يتفرّقوا (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالإسلام (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) في الدّين متحابّين متّفقين ، لمّا كان العداوة بين النّاس بلاء عظيما لهم والالفة نعمة عظيمة في الدّنيا ومورثا للنّعمة في الآخرة ذكر من بين النّعم الّتى أنعم الله تعالى بها عليهم دفع هذا البلاء وإعطاء هذه النّعمة ، قيل : كان الأوس والخزرج أخوين لابوين فوقع بين أولادهم العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتّى أطفأها الله بالإسلام والّف بينهم ، وقيل : افتخر رجلان من الأوس والخزرج فقال الاوسىّ: منّا خزيمة بن ثابت ذو الشّهادتين ، ومنّا حنظلة غسيل الملائكة ، ومنّا عاصم بن ثابت حمىّ الدّين ، ومنّا سعد بن

٢٨٨

معاذ الّذى اهتزّ عرش الرّحمن له ورضى الله بحكمه في بنى قريظة ، وقال الخزرجىّ : منّا اربعة احكموا القرآن ؛ ابىّ بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وابو زيد ، ومنّا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم ؛ فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الأوس الى الاوسىّ والخزرج الى الخزرجيّ ومعهم السّلاح فبلغ ذلك النّبىّ (ص) فركب حمارا وأتاهم فأنزل الله الآيات فقرأ عليهم فاصطلحوا (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) ذكر نعمة اخرى اخرويّة هي دفع بلاء الوقوع في النّار والنّجاة منها وبيان لما يورثه العداوة والالفة (كَذلِكَ) التّبيين لآياته المودعة في البيت والمقام واحكامه المقرّرة في باب حجّ البيت وآياته المذكورة في مواعظكم (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الاخر التّكليفيّة والوعظيّة والتّكوينيّة (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى مصالحكم ومضارّكم أو الى ولاية ولىّ أمركم فانّها غاية كلّ هداية وتلويح كلّ آية كما انّ قوله تعالى (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) تعريض بالأمر بطلب الولاية وبالإجابة لولىّ الأمر فانّ المقصود انّ كون أمّة منكم داعية الى الخير أمر حتم فاطلبوهم وأجيبوا دعوتهم ، وقرء في قراءة أهل البيت ائمّة ، وعن الباقر (ع) في هذه الآية قال : فهذه لآل محمّد (ص) ومن تابعهم يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الكاملون في الفلاح فانّ كمال الفلاح بالبقاء بعد الفناء في الله وهو مقام الدّعوة الى الخير والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر ، وعن الصّادق (ع): الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر خلقان من خلق الله تعالى فمن نصرهما أعزّه الله ومن خذلهما خذله الله ، وعن النّبىّ (ص) انّه قال : لا يزال النّاس بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ فاذا لم يفعلوا ذلك نزعت منهم البركات وسلّط بعضهم على بعض ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السّماء ، ونسب الى الباقر (ع) انّه قال : يكون في آخر الزّمان قوم يتبع فيهم قوم مراءون يتقرّءون ويتنسّكون حدثاء سفهاء لا يوجبون امرا بمعروف ولا نهيا عن منكر الّا إذا امنوا الضّرر يطلبون لأنفسهم الرّخص والمعاذير يتّبعون زلّات العلماء وفساد علمهم يقبلون على الصّلوة والصّيام وما لا يكلّهم في نفس ولا مال ، ولو اضرّت الصّلوة بسائر ما يعملون بأموالهم وأبدانهم لرفضوها كما رفضوا اسمى الفرائض وأشرفها ؛ انّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض هنا لك يتمّ غضب الله عليهم فيعمّهم بعقابه فيهلك الأبرار في دار الفجّار والصّغار في دار الكبار ، انّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر سبيل الأنبياء ومنهاج الصّالحين ، فريضة عظيمة بها تقام الفرائض وتؤمن المذاهب وتحلّ المكاسب وتردّ المظالم وتعمر الأرض وينتصف من الأعداء ويستقيم الأمر فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم فان اتّعظوا والى الحق رجعوا فلا سبيل عليهم (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) هنالك فجاهدوهم بأبدانكم وأبغضوهم بقلوبكم غير طالبين سلطانا ولا باغين مالا ولا مريدين بالظّلم ظفرا حتّى يفيئوا الى امر الله ويمضوا الى طاعته. وقد مضى تحقيق واف في اوّل البقرة عند قوله تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) للأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر (وَلا تَكُونُوا) يعنى فاجتمعوا على التّمسّك بتلك الامّة ولا تكونوا (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) كاليهود والنّصارى تركوا التّمسّك بأوصياء موسى (ع) وعيسى (ع) وتفرّقوا غاية التفرّق واختلفوا غاية الاختلاف (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) كما جاءتكم البيّنات والحجج الدّالّات

٢٨٩

على وجوب التّمسّك وعلى معرفة من تتمسّكون به (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) توعيد للمتفرّقين وتهديد بليغ للمتشبّهين بهم من هذه الامّة ولهذا التهديد البليغ أكّد عذابهم باسميّة الجملة والإتيان بها ذات وجهين فانّه في قوّة تكرار النّسبة والإتيان باسم الاشارة البعيدة وتأكيد العذاب بالعظيم (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) بياض الوجه وسواده كنايتان عن بشاشة السّرور ونضارته وكابة الحزن والخوف وكدورته ، أو يظهر البياض حقيقة في وجوه والسّواد في وجوه لانّ يوم القيامة يوم ظهور الباطن فيظهر نور هؤلاء وظلمة أولئك على ظاهرهم (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) فحذف فاء جواب امّا مع القول ، ونزول الآية كما عن علىّ (ع) وغيره من الخاصّة والعامّة في منافقي الامّة الّذين ارتدّوا على ادبارهم بعد ايمانهم بمحمّد (ص) أو علىّ (ع) فانّه روى انّهم أهل البدع والأهواء من هذه الامّة وهذا التفسير يناسب الآيات السّابقة بحسب تعريضها (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بعد ايمانكم (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لم يقل ففي رحمة الله خالدون لتأكيد دخولهم في الرّحمة وللبسط في مقام المحبّة وانّما لم يأت بالنّشر مطابقا للّف لان يكون فتح الآية وختمها بالرّحمة وأهلها وخالف بين الفقرتين فانّ التوفيق بينهما ان يقول واما الذين ابيضت وجوههم أبقيتم على ايمانكم فادخلوا الرحمة بما كنتم تؤمنون لكن لمّا كان التقريع على السّيئة أسوء عقوبة للمسيء أراد ان يبيّن انّهم يقرّعون اوّلا ثمّ يدخلون العذاب ولمّا كان العذاب لا يحسّون به الّا في الآخرة وان كانت جهنّم محيطة بهم لكنّهم لا يدخلونها ولا يحسّون بالمها الّا في الآخرة لكون أعضائهم خدرة في الدّنيا ولبقائهم في أبواب الرّحمة خارج جهنّم رحمة بهم لعلّهم يتنبّهون ويرجعون ما لم يبطلوا فطرتهم الانسانيّة ولذلك يقال لهم في الآخرة : ادخلوا أبواب جهنّم لانّهم لم يدخلوا أبوابها بعد قال تعالى في حقّهم تفريعا على تقريعهم في الآخرة: (فَذُوقُوا الْعَذابَ ؛) بخلاف المؤمنين لانّ التهنئة على البقاء على الايمان ليست تشبه الجزاء لهم وانّهم داخلون في الرّحمة من حين كونهم في الدّنيا فاسقط التّذكرة بالبقاء على الايمان في جزائهم وأتى بالرّحمة مشعرا بدخولهم فيها من غير انتظار الآخرة ولم يقل بما كنتم تؤمنون لانّ دخول الرّحمة ليس الّا بمحض الفضل بخلاف دخول العذاب فانّه بفعل العباد ، وروى عن النّبىّ (ص) ما يدلّ على انّ المراد بهم مخالفو علىّ (ع) ومتّبعوه فانّه (ص) قال : يرد علىّ أمّتي يوم القيامة على خمس رايات ؛ فراية مع عجل هذه الامّة فأسألهم ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ ـ فيقولون : أمّا الأكبر فحرّفناه ونبذناه وراء ظهورنا ، وامّا الأصغر فعاديناه وأبغضناه وظلمناه ، فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسوّدة وجوهكم ، ثمّ يرد علىّ راية مع فرعون هذه الامّة فأقول لهم : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ ـ فيقولون : امّا الأكبر فحرّفناه ومزّقناه وخالفناه ؛ وامّا الأصغر فعاديناه وقاتلناه فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسوّدة وجوهكم ، ثمّ يرد علىّ راية مع سامرىّ هذه الامّة فأقول لهم : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ ـ فيقولون : امّا الأكبر فعصينا وتركنا ؛ وامّا الأصغر فخذلنا وضيّعنا ، فأقول : ردوا النّار ظماء مظمئين مسوّدة وجوهكم ، ثمّ يرد علىّ راية ذي الثديّة مع اوّل الخوارج واخرهم فاسألهم : ما فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ ـ فيقولون : امّا الأكبر فمزّقناه وبرئنا منه ، وامّا الأصغر فقاتلنا وقتلنا ، فأقول : ردوا النار ظماء مظمئين مسوّدة وجوهكم ، ثمّ يرد علىّ راية امام المتّقين وسيّد ـ المسلمين وقائد الغرّ المحجّلين ووصىّ رسول ربّ العالمين فأقول لهم : ماذا فعلتم بالثّقلين من بعدي؟ ـ فيقولون : امّا الأكبر فاتّبعناه وأطعناه ؛ وامّا الأصغر فأحببنا ووالينا ونصرنا حتّى أهريقت فيه دمائنا ، فأقول : ردوا الجنّة رواء

٢٩٠

مرويّين مبيضّة وجوهكم ثمّ تلا رسول الله (ص) يوم تبيضّ وجوه الى قوله خالدون (تِلْكَ) المذكورات من كون البيت اوّل بيت وضع للنّاس الى انجرار التفرّق في الاعتصام والاختلاف الى اسوداد الوجوه وظهور الظّلمة من الباطن في الظّاهر والى دخول العذاب وانجرار الاجتماع في الاعتصام بحبل الله وولىّ الأمر الى ابيضاض الوجوه ودخول الرّحمة (آياتُ اللهِ) الدّالّة على حقّيّته ومجازاته على الأعمال (نَتْلُوها) في الآيات التّدوينيّة (عَلَيْكَ) أو تلك الآيات المقرّوة آيات كتاب الله نتلوها عليك (بِالْحَقِ) متلبّسة بالحقّ أو بواسطة الحقّ المخلوق به (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) باسوداد الوجوه وذوق العذاب بل هو نتيجة أعمالهم المنجرّة إليهم ، ولمّا كان تقديم الفاعل وإدخال النّفى عليه مفيدا لنفى الفعل عن الفاعل مع إثباته لغيره فهو في قوّة ان يقال : ولكنّهم يريدون الظّلم للعالمين (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) جملة حاليّة أو معطوفة لرفع ما توهّم من نسبة الأفعال السّابقة الى العباد من استقلالهم في الوجود وفي الأفعال ولتعليل نفى الظّلم عنه فانّ الظّلم امّا لجهل الظّالم بقبح الظّلم أو لكون المظلوم وما يملكه ممّا يظلم به خارجا عن ملك الظّالم وأراد إدخاله في ملكه ، واللّام في مثله يدخل على الفاعل مثل ان يقال : هذا البناء للبنّاء الفلاني ، ويدخل على المالك مثل ان يقال : هذا البستان لفلان اى ملكه ، وعلى الغاية مثل ان يقال : هذا البناء للعبادة (وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) لانّه غاية الغايات ونهاية الطّلبات لانّ كلّ فعل يستعقب فعليّة وكلّ فعليّة تنتهي الى فعليّة اخرى حتّى تنتهي الى فعليّة لا فعليّة فوقها وهي الرّبوبيّة سواء تنتهي الفعليّات على طريق المظاهر اللّطفيّة أو على طريق المظاهر القهريّة الى الفعليّة الاخيرة وغاية الخلقة لجميع الموجودات الإنسان ، وغاية الإنسان الرّبوبيّة كما في الحديث القدسىّ : خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لاجلى ، وهذا رجوع بطريق العود في نفس الأمر ، أو اليه ترجع الأمور لانّه مبدء المبادى ومصدر المصادر وكلّ موجود جوهر أو عرض مخلوق وكلّ مخلوق ذو مصدر ، وكلّ مصدر ذو مصدر آخر الى ان ينتهى الى المصدر الأخير كحركة القلم فانّ مصدرها حركة اليد ، ومصدرها حركة الاعصاب والرّباطات ، ومصدرها حركة القوّة المحرّكة ، ومصدرها حركة القوّة الفكريّة ، ومصدرها النّفس ، ومصدرها العقل ، ومصدره المشيّة ، ومصدرها الرّبوبيّة ، وهذا انتهاء ورجوع بطريق النّظر ، وهذا الرّجوع اشارة الى مبدئيّته تعالى وذلك يدلّ على منتهائيّته (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل من المبيّض الوجوه؟ ـ فقال : كنتم مبيّضى الوجوه ، وقال : خير أمّة للاشارة الى وصف آخر لهم ، ولفظ كان لمحض التّأكيد منسلخ عن الزّمان أو المقصود انّكم كنتم في النّشئات السّابقة خير أمّة (أُخْرِجَتْ) من العدم الى الوجود أو من العوالم العالية والحجب الغيبيّة الى عالم الشّهادة (لِلنَّاسِ) لانتفاعهم (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) جواب لسؤال مقدّر أو صفة أو حال أو خبر بعد خبر وعلى اىّ تقدير فالمقصود تعليل كونهم خير أمّة ويجوز ان يكون مستأنفا لقصد المدح (وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ولمّا كان المخاطبون الائمّة المعصومين (ع) كما روى عنهم بطرق كثيرة وألفاظ متخالفة ومتوافقة وكانوا من اوّل تميزهم وأوان طفوليّتهم معصومين وآمرين قواهم وجنودهم فطرة بالمعروف وناهين لها عن المنكر الى زمان تعلّق التّكليف بهم بحسب الظّاهر وأوان بيعتهم ودخولهم في الايمان ثمّ صاروا باقتضاء العصمة وظهور الولاية آمرين وناهين لأهل مملكتهم ولمن خرج عن مملكتهم بحسب التّكليف الالهىّ والأمر والنّهى الشّرعيّين أخبر عنهم بالمضارع الدّالّ على الاستمرار مسبوقا بكان الدّالّ على انّه كان شأنهم وشغلهم

٢٩١

الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر قديما ، وقدّمهما على الايمان لانّ حدوث الايمان المذكور كان بعد الأمر والنّهى المذكورين ، أو لانّ الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر يدلّان على الايمان فطريّهما على فطريّة وتكليفيّهما على تكليفيّة (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) ولمّا كان للايمان بالله درجات والمؤمن السّالك الى الله يحصل له كلّ يوم درجة من الايمان غير ما في السّابق أتى بالايمان أيضا مضارعا دالّا على التجدّد ، وما قيل : انّما اخّر الايمان مع انّه حقّه ان يقدّم لانّه قصد بذكره الدّلالة على انّهم أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ايمانا بالله وتصديقا به وإظهار لدينه ليس في محلّه لانّ هذا المعنى يستفاد من التّقديم أيضا بل مقتضى التّرتيب الذّكرىّ الدّلالة على انّهم آمنوا بالله لكونهم آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر كما بينّاه خصوصا مع ملاحظة ما ورد عنهم انّ الواو في القرآن يفيد التّرتيب مع انّ الأغلب انّ التّرتيب الذّكرىّ يكون للترتيب المعنوىّ. وعن الصّادق (ع) انّه قرء عليه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) فقال : خير أمّة يقتلون أمير المؤمنين (ع) والحسن (ع) والحسين بن علىّ (ع) فقال القارى : جعلت فداك كيف نزلت؟ ـ فقال : نزلت كنتم خير ائمّة أخرجت للنّاس ألا ترى مدح الله لهم : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) والاخبار في انّ النازل من الله خير ائمّة وانّ المراد بهم محمّد (ص) وأوصياؤه كثيرة ، ولمّا كانت الامّة تطلق على من يؤتمّ به وعلى من يأتمّ بغيره يجوز ان يراد بالامّة معنى الائمّة ، ويجوز ان يكون مرادهم من خير ائمّة انّ الآية بهذا المعنى نزلت لا بالمعنى الّذى توهّموه (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) عطف على قوله (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) أو على قوله تأمرون على ان يكون مستأنفا وكان المناسب ان يقول ولو امر أهل الكتاب بالمعروف ونهوا عن المنكر وآمنوا (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكن لمّا لم يكن فطرتهم فطرة الأمر بالمعروف قبل الايمان ولا تكليفهم الأمر بالمعروف بعد الايمان الّا بعد الكمال في الايمان وأراد تعالى ان يقول : لو حصل لهم أصل الايمان من دون التفات الى الاستكمال فيه اقتصر على الايمان (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) كأنّه قيل : اما آمن منهم أحد؟ ـ فقال جوابا له : منهم المؤمنون الّذين آمنوا بمحمّد (ص) قبل مبعثه وبعد بعثته مثل الأنصار من يهود مدينة ومثل بعض النّصارى من أهل الحبشة وأهل اليمن (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون من مقتضى دينهم وكتابهم ووصيّة نبيّهم وللاشارة الى هذا المعنى لم يقل أكثرهم الكافرون (لَنْ يَضُرُّوكُمْ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يضرّ الفاسقون منهم بنا؟ ـ فقال : لن يضرّوكم (إِلَّا أَذىً) الّا ضررا يسيرا هو الأذى فالاذى مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل والاستثناء مفرّغ (وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ) يعنى ان فرض ضرر المقاتلة فالعاقبة لكم لانّهم ان يقاتلوكم (يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) عطف على مجموع لن يضرّوكم (الى آخره) أو على جملة الشّرط والجزاء يعنى بعد الضّرر اليسير والمقاتلة لا ينصرون ، أو بعد المقاتلة لا ينصرون ، ويجوز ان يكون ثمّ للترتيب في الاخبار وقرئ لا ينصروا مجزوما معطوفا على الجزاء والآية من الاخبار الآتية وتدلّ على نبوّة النّبىّ (ص) لوقوع المخبر عنه بعد الاخبار كما أخبر (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) المحيطة بهم كالبيت المضروب عليهم في الدّنيا بالصّغار والجزية كاليهود والنّصارى الّذين رضوا بالجزية أو في الانظار كاليهود الّذين لا يوجدون الّا ذليلين في الدّنيا في الأمصار والانظار أو بالمغلوبيّة بالحجّة ، أو في الآخرة والإتيان بالماضي لتحقّق وقوعه (أَيْنَ ما ثُقِفُوا) وجدوا (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ) هو الفطرة الّتى

٢٩٢

فطر الله النّاس عليها الّتى يعبّر عنها بالولاية التّكوينيّة الّتى هي الكتاب التّكوينىّ الالهىّ الّذى كتابه التّدوينىّ ظهوره وبيانه (وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) هو الاتّصال بالنّبىّ (ص) بالبيعة العامّة أو بالولىّ (ع) بالبيعة الخاصّة الولويّة ويعبّر عنه بالولاية التّكليفيّة ، نسب الى الصّادق (ع) انّه قال : الحبل من الله كتاب الله والحبل من النّاس علىّ بن ابى طالب (ع) (وَباؤُ) اى يرجعون الى الآخرة والتّأدية بالماضي للمشاكلة مع الأفعال السّابقة والآتية ولتحقّق وقوعه (بِغَضَبٍ) عظيم (مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ) مشتقّ جعلىّ من المسكين وهو الّذى أسكنه الفقر من الحركة في معاشه وهو أسوء حالا من الفقير الّذى لا يكون له ما يكفيه لمؤنته وتلك الأوصاف جارية على اليهود من زمن النّبىّ (ص) الى زماننا هذا في جميع البلاد فانّه قلّما يوجد يهودىّ الّا وهو ذليل ، والآيات نازلة في أهل الكتاب لكنّها تعريض بالامّة المعرضة عن علىّ (ع) (ذلِكَ) المذكور من ضرب الذّلّة والمسكنة والبوء بالغضب (بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة والأحكام الإلهيّة الّتى كانت في كتبهم وشرائعهم وبآيات الله التّكوينيّة من محمّد (ص) وعلىّ (ع) ومعجزاتهما وأنبيائهم فانّ كفرهم بأقوال أنبيائهم في محمّد (ص) وعلىّ (ع) كفر بهم والإتيان بالمضارع مع تخلّل كانوا للاشعار بانّ هذه كانت سجيّتهم وانّهم مستمرّون عليها لا يمكنهم الانفكاك عنها (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) التّقييد به للتّبيين أو للتّقييد باعتقادهم يعنى يتيقّنون انّ قتلهم كان بغير حقّ لا انّهم كانوا يشكّون أو يظنّون أو يوقنون انّه بحقّ (ذلِكَ) الكفر والقتل (بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ) اى بسبب عصيانهم وكونهم معتدين لانّ الإصرار على الصّغائر يفضي الى الكبائر والكبائر تؤدّى الى الأكبر (لَيْسُوا سَواءً) اى ليس أهل الكتاب الّذين آمنوا والفاسقون سواء في أحوالهم وأعمالهم (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) مستأنفة جوابا لسؤال مقدّر مثل الجمل السّابقة والآتية كأنّه قيل : ما حالهم المختلفة الغير المتساوية؟ أو لم قلت : ليسوا سواء؟ ـ فقال : منهم (أُمَّةٌ قائِمَةٌ) معتدلة في أحوالهم وأخلاقهم وأعمالهم أو قائمة للعبادة ويكون حينئذ آناء اللّيل متنازعا فيه (يَتْلُونَ) صفة بعد صفة أو حال أو مستأنف (آياتِ اللهِ) يعنى يرغبون في آيات الله وينظرون إليها ويتدبّرون فيها من كتبهم ومن القرآن (آناءَ اللَّيْلِ) جمع الإني بفتح الهمزة أو كسرها وسكون النّون أو جمع الانو بالكسر والسّكون بمعنى السّاعة من اللّيل (وَهُمْ يَسْجُدُونَ) يخضعون لله وللخلق أو تلاوة الآيات ، والسّجود كناية عن صلوة العتمة أو صلوة اللّيل وقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) جملة مستأنفة أو صفة بعد صفة أو حال في مقام التّعليل ، ويجوز ان يكون تأخيره عن التّلاوة والسّجود للاشعار بأنّه مسبّب عنهما والمعنى يؤمنون بالله على يد محمّد (ص) بسبب تلاوة الآيات والسّجود (وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) وللاشارة الى انّهم ليسوا معصومين ومفطورين على الأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر بل هما يحصلان لهم بعد الايمان التّكليفىّ بالله اخّرهما هما هاهنا عن الايمان بالله بخلاف الآية السّابقة فانّها كانت في وصف الائمّة المفطورين على الأمر بالمعروف قبل الايمان (وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ) من العبادات والإحسان الى العباد (وَأُولئِكَ) العظماء الموصوفون بتلك الأوصاف (مِنَ الصَّالِحِينَ وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) يعنى في الآخرة والّا فالمؤمن مكفّر وذلك انّ معروفه يصعد الى السّماء

٢٩٣

فلا ينتشر في النّاس ، والكافر مشكور وذلك أنّ معروفه للنّاس ينتشر في النّاس ولا يصعد الى السّماء وتعدية يكفروه الى المفعولين امّا لتضمين معنى الحرمان أو لتشبيه المنصوب الثّانى بالمفعول مثل زيد حسن الوجه بنصب الوجه وقرء تفعلوا ويكفروه بالخطاب والغيبة (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بمدح آخر لهم وللاشارة الى انّ فعل الخير لا يكون الّا عن التّقوى وهو بشارة للمؤمنين بانّ أفعالهم الحسنة لا تعزب عن علم الله تعالى فيجازى لا محالة عليها (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) مستأنف جواب للّسؤال عن حال الصّنف الآخر من أهل الكتاب كأنّه قيل : قد عرفنا حال الامّة القائمة المؤمنة من أهل الكتاب فما حال الامّة الكافرة منهم؟! وانّما اخرج الكلام بصورة الجواب للّسؤال المقدّر مع انّ حقّه ان يقول : ومنهم أمّة معوّجة يكفرون بالله حتّى يتمّ التعديل مع قوله (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) اكتفاء ببيان حالهم عن التّصريح بالتقسيم وتعميما للحكم لجميع الكفّار مع الإيجاز (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) اى لن تجاوز عنهم بالاغناء بتضمين مثل معنى المجاوزة (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ) اقتصر ممّا يغترّ به الإنسان فيكفر بالله عليهما لانّهما اعزّ الأشياء عليه ولانّ اعتماده واستظهاره بهما أقوى واشدّ من غيرهما (مِنَ اللهِ) اى من سخط الله (شَيْئاً) من الله حال مقدّم ان كان شيئا مفعولا به ، أو قائم مقام الموصوف الّذى هو مفعول به ان كان شيئا مفعولا مطلقا ولفظة من للتبعيض (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) بمناسبة مقام السّخط بسط في الكلام وغلّظ واكّد بمؤكّدات عديدة (مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ) اى الكفرة جواب لسؤال مقدّر والمعنى مثل القوى والمدارك والاعمار والأموال الّتى ينفقها هؤلاء الكفرة لان تكون ذخيرة وزرعا لآخرتهم في إنفاقها في غير مواقعها وفي جعلها في محلّ لا يصل نفعها إليهم ، وفي هلاكها وفناءها قبل بلوغها مبلغ الانتفاع (فِي) زمان (هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) أو في حفظها أو ابقائها (مَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ) برد شديد (أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بجعل الزّرع في موضع يهلك ويفنى قبل بلوغه ولا يصل نفعه إليهم ، أو بزرعه في غير وقته حتّى يدركه البرد فيهلكه والمعنى كمثل حرث اصابته ريح وقد مضى مكررّا انّ التشبيه التمثيلىّ لا يلزم التّرتيب بين أجزاء المشبّه والمشبّه به ولا دخول اداة التّشبيه على المشبّه به أو المعنى مثل ما ينفقون من أموالهم وأعمارهم وقواهم في زمان الحيوة الدّنيا أو في حفظها في إهلاك الحرث الاخروىّ التّكوينىّ الّذى زرع الله بذره في وجودهم كمثل ريح فيها برد شديد أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم بالمعاصي عقوبة لهم ، أو بوضع الحرث في غير محلّه أو في غير وقته (فَأَهْلَكَتْهُ) وأفنته (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) اى ما ظلم الكفّار في فناء منفقاتهم بلا منفعة لهم (وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بانفاقهم في محلّ أو على وجه أو بنيّة لا يصل منفعته إليهم ، أو المعنى وما ظلم الله قوما أهلك الرّيح حرثهم ولكنّهم ظلموا أنفسهم بزرع الحرث في غير محلّه أو في غير وقته أو مع إسخاط الله بمعصيتهم لا مع ارضائه بطاعتهم ، وكان حقّ العبارة ان يقول : وما الله ظلمهم ولكنّهم يظلمون لانّه إذا أريد نفى الفعل عن فاعل مع إثباته لغيره ينبغي ان يقع الفاعل المنفىّ عنه عقيب اداة النّفى والفاعل مثبت له عقيب اداة الاستدراك لكنّه أراد ان يقول انّه لا ظلم في ابطال الإنفاق ولا في إهلاك هذا الحرث فأدخل النّفى على الفعل دون الفاعل افادة لهذا المعنى ، واثبت ظلما مالهم باعتبار منع أنفسهم وقواهم عن حقوقها ، وحصر وقوع الظّلم على أنفسهم اشعارا بهذا المعنى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ والبيعة العامّة النبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) البطانة بكسر الباء خاصّة الرّجل من الرّجال أو من يتّخذه معتمدا عليه من

٢٩٤

غير اهله يستوي فيه المذكّر والمؤنّث والواحد وغيره (مِنْ دُونِكُمْ) متعلّق بلا تتّخذوا ، ولفظة من ابتدائيّة ، أو صفة لبطانة ولفظة من تبعيضيّة ؛ والمعنى لا تتّخذوا خليلا بعضها من غيركم (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) اى لا يقصرون الخبال والفساد فيكم أو لا يتوانون في الخبال فيكم وعلى اىّ تقدير فخبالا تميز وضمير الخطاب مفعول به على الاوّل ومنصوب بنزع الخافض على الثّاني ، أو هما مفعولان بتضمين معنى المنع ومثله (وَدُّوا ما عَنِتُّمْ) اى عنتكم وهو شدّة الضّرر والمشقّة (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) في ضمن كلامهم لعدم تمالكهم من شدّة البغض مع انّهم بنفاقهم يريدون ان يظهروا التّودّد لكم والجمل الثلاث أوصاف لبطانة أو أحوال مترادفة أو متداخلة عنه لتخصّصه بقوله من دونكم أو عن فاعل لا تتّخذوا أو عن كليهما أو مستأنفة في مقام التّعليل (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ) من البغضاء عليكم (أَكْبَرُ) ممّا يظهر من أفواههم (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) والعلامات الدّالّة على بغضائهم لكم وشدّة عداوتهم فما لكم تتّخذونهم بطانة (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ذوي عقول أو تدركون بعقولكم تلك العلامات اجتنبتم موالاتهم (ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) أنتم مبتدأ وأولاء خبره وتحبّونهم حينئذ خبر بعد خبر أو حال أو مستأنف أو أنتم مبتدأ وأولاء مفعول من باب الاشتغال وخبره الفعل المقدّر وتحبّونهم مفسّر أو أنتم مبتدأ وتحبّونهم خبره وأولاء بدل أو منادى ، أو أولاء بمعنى الّذين خبره وتحبّونهم صلة أولاء (وَلا يُحِبُّونَكُمْ) تقريع لهم على موالاتهم (وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ) اى الكتاب المنزل عليكم ولستم كمن آمن ببعض وكفر ببعض وقد تكرّر في الكتاب الإلهيّ النّهى عن اتّخاذ الكافرين أولياء لانّ من يتولّاهم فهو منهم والأمر باتّخاذ المؤمنين أولياء فما لكم تؤمنون بالكتاب كلّه ولا تتّبعون هذا النّهى والأمر فهو تهييج لهم على ترك موالاتهم ، وما قاله مفسّروا العامّة من انّ المعنى تؤمنون بكتابهم وكتابكم وهم لا يؤمنون بكتابكم بعيد من سياق اللّفظ (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) وجه آخر لردعهم عن موالاة الكفّار المخالطين لهم بانّهم يعاشرونهم على النّفاق ولا ينبغي للمؤمنين ان يوالي المنافق الّذى يكون ذا لسانين (وَإِذا خَلَوْا) عنكم (عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) لعصبيّتهم لدينهم (قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ) الخطاب لمحمّد (ص) أو لكلّ من يتأتّى منه الخطاب وهو دعاء عليهم بزيادة الغيظ وشدّته حتّى يهلكوا به ، أو بدوام الغيظ لقوّة الإسلام الى آخر أعمارهم ، أو زجر لهم على غيظهم (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بما صحب الصّدور ولزمها فكيف لا يعلم ما يظهر على الأعضاء في الخلوات من مثل عضّ الأنامل وهو من جملة مقول القول في مقام تعليل الموت بالغيظ أو هو من الله وجواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل: كيف يعلم الله عضّهم الأنامل؟ ـ فقال : انّ الله يعلم ما هو أخفى منه ، أو قيل : كيف علمت يا محمّد (ص)؟ ـ فقال : انّ الله يعلم ما هو أخفى منه فيخبرني به (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ) وجه آخر لردعهم عن موالاتهم (وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها) وهذه حالة العدوّ وحقّه العداوة لا الموالاة (وَإِنْ تَصْبِرُوا) عن موالاتهم مع خوفكم عن إيذائهم وعلى إيذائهم ان آذوكم (وَتَتَّقُوا) الله في موالاتهم أو تتّقوا عنهم بان تكونوا على حذر منهم حتّى لا يصل إليكم اثر احتيالهم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) فثقوا بالله ولا تكلوا على موالاتهم في دفع مضرّاتهم (إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) في موضع التّعليل قرء بالخطاب وبالغيبة (وَإِذْ غَدَوْتَ) عطف على

٢٩٥

لا تتّخذوا اى واذكروا يا محمّد (ص) ويا أمّة محمّد (ص) أو ذكّرهم يا محمّد (ص) بنصرة الله وتأييده في مواطن عديدة حتّى تقوّيهم فلا يخافوا من الكفّار ولا يولّوهم الأدبار خوفا منهم إذ خرجت بالغداة (مِنْ أَهْلِكَ) الى جبل أحد (تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ) تنزل كلّا في مقامه اللائق به (مَقاعِدَ) امكنة مناسبة (لِلْقِتالِ) فانّ المقعد وان كان مأخوذا من القعود يستعمل في معنى الموقف والمقام من غير اعتبار قعود فيه كاستعمال المقام في مطلق الموقف والمكان من غير اعتبار قيام فيه (وَاللهُ سَمِيعٌ) والحال انّ الله كان سميعا لأقوالكم حين التّشاور (عَلِيمٌ) بنيّاتكم حين ترجيح بعضكم القتال في المدينة وسككها وبعضكم الخروج الى خارج المدينة ، أو المعنى انّ الله سميع لأقوالكم حين الفشل والفرار عليم بأحوالكم ونيّاتكم وهو وعيد للمنافقين ووعد للصّادقين. نسب الى الصّادق (ع) انّه قال سبب غزوة أحد انّ قريشا لمّا رجعت من بدر الى مكّة وقد أصابهم ما أصابهم من القتل والأسر لانّه قتل منهم سبعون وأسر منهم سبعون قال ابو سفيان : يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فانّ الدّمعة إذا خرجت أذهبت الحزن والعداوة لمحمّد (ص) ، وخرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس وألفي راجل واخرجوا معهم النّساء فلمّا بلغ رسول الله (ص) ذلك جمع أصحابه وحثّهم على الجهاد فقال عبد الله بن أبىّ : يا رسول الله لا تخرج من المدينة حتّى نقاتل في أزقّتها فليقاتل الرّجل الضّعيف والمرأة والعبد والامة على أفواه السّكك وعلى السّطوح فما أرادنا قوم قطّ فظفروا بنا ونحن في حصوننا ودورنا وما خرجنا على عدوّ لنا قطّ الّا كان لهم الظّفر علينا ، فقام سعد بن معاذ وغيره من الأوس فقال : يا رسول الله ما طمع فينا أحد من العرب ونحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يظفرون بنا وأنت فينا؟ ـ لا حتّى نخرج إليهم نقاتلهم ؛ فمن قتل منّا كان شهيدا ومن نجا منّا كان مجاهدا في سبيل الله ، فقبل رسول الله (ص) رأيه وخرج مع نفر من أصحابه يتبوّءون موضع القتال كما قال سبحانه : وإذ غدوت من أهلك وقعد عنهم عبد الله بن ابىّ وجماعة من الخزرج اتّبعوا رأيه ، ووافت قريش الى أحد وكان رسول الله (ص) عبّأ أصحابه وكانوا سبعمائة رجل فوضع عبد الله بن جبير في خمسين من الرّماة على باب الشّعب وأشفق ان يأتيهم كمينهم من ذلك الشّعب فقال رسول الله (ص) لعبد الله وأصحابه : ان رأيتمونا قد هزمناهم حتّى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان ، وان رأيتموهم قد هزمونا حتّى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا والزموا مراكزكم ، ووضع ابو سفيان خالد بن وليد في مأتى فارس كمينا ؛ وقال : إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتّى تكونوا وراءهم (الى آخر ما روى) (إِذْ هَمَّتْ) بدل من إذ غدوت أو ظرف لسميع وعليم (طائِفَتانِ مِنْكُمْ) هما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وكانا جناحي العسكر وقيل : كانتا طائفة من الأنصار وطائفة من المهاجرين وكان سبب همّهم بالفشل انّ عبد الله بن ابىّ بن سلول دعاهما الى الرّجوع الى المدينة عن لقاء المشركين يوم أحد فهمّتا به ولم تفعلاه (أَنْ تَفْشَلا) تضعفا وتجبنا (وَاللهُ وَلِيُّهُما) فلا يدعهما ان تفشلا وتفرّا وهو جملة حاليّة ، أو المعنى والله وليّهما فلا ينبغي لهما ان تفشلا (وَعَلَى اللهِ) لا على غيره كعبد الله بن ابىّ (فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) عطف على قوله (وَاللهُ وَلِيُّهُما) أو حال والمقصود الاشارة الى تعليل الأمر بالتّوكّل وتعليل ولايته (بِبَدْرٍ) موضع بين المدينة ومكّة كان لرجل يسمّى بدرا فسمّى به (وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) في انظار النظّار من حيث العدّة والعدّة إذ كنتم قليلين ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا وكنتم رثّ الهيئة من حيث اللّباس ولم يكن فيكم سلاح ولا مراكب الّا قليلا (فَاتَّقُوا اللهَ) في الاعتماد على

٢٩٦

الغير والاستمداد من الغير (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) تتّصفون بمقام الشّكر أو تشكرون نعمة نصرته لكم أو تنعّمون بنعمة اخرى من النّصر وغيره فتشكرون على ان يكون تشكرون قائما مقام تنعّمون من قبيل اقامة المسبّب أو السّبب مقام السّبب أو المسبّب (إِذْ تَقُولُ) ظرف لنصركم أو بدل من قوله إذ همّت أو بدل ثان من قوله إذ غدوت يعنى انّ الله كان سميعا إذ تقول (لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ) في مقام الاستدلال على صدق النّبىّ (ص) ووعده ، أو في مقام المحاجّة على الأعداء ، أو في مقام المقاتلة مع الأعداء ، والإتيان بلن الدّالّة على تأبيد النّفى للاشارة الى انّهم ظنّوا بحسب غفلتهم وعدم تفكّرهم وضعف انتقالهم أو بحسب قلّة عددهم وعددهم انّه لن يكفيهم أبدا (أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى) محكىّ لقول النبىّ (ص) أو ابتداء كلام من الله خطابا لمحمّد (ص) وأمّته كأنّه قال الله تعالى بلى يكفيكم فهي إيجاب للكفاية وليس قوله تعالى (إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا) بيانا لما افادته بلى بل هو وعد لهم بالزّيادة على هذا العدد في الأمداد بشرط الثّبات والتّقوى عن الفشل والفرار فان تصبروا (وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) الفور مصدر فار إذا غلى أستعير للسّرعة ثمّ استعمل في الزّمان الحاضر الّذى لا تراخى فيه أصلا ، أو من فوران الغضب يعنى ان يأتوكم من أجل شدّة غضبهم (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) معلّمين بعلامات يمتازون بها عن غيرهم وقرئ بكسر الواو من سوّم على القوم أغار عليهم ويستفاد من بعض الاخبار انّه كما كان النّصر ببدر كان هذا الوعد أيضا ببدر وانّ الملائكة النّازلة كانت اوّلا ثلاثة آلاف ثمّ لحق بهم الفان ، وفي بعض الاخبار اشارة الى انّ هذا الوعد كان في غزوة أحد (وَما جَعَلَهُ اللهُ) اى امدادكم بالملائكة (إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ) عن الاضطراب (بِهِ) يعنى ما كان المقصود من الأمداد بالملائكة الّا البشارة لكم لتسرّوا قبل الظّفر ولتطمئنّ قلوبكم قبل ان تقرّ عيونكم بالغلبة والقتل لانّ الانظار البشريّة على الأسباب الحسّيّة (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) من غير توسّط أسباب وآلات ومن دون الحاجة الى إمداد واستعداد (الْعَزِيزِ) الّذى لا يمنع من مراده (الْحَكِيمِ) الّذى لا ينصر ولا يخذل الّا لحكم ومصالح عائدة إليكم (لِيَقْطَعَ) متعلّق بقوله (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ) أو بقوله يمددكم أو بالنّصر في قوله (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) أو متعلّق بمحذوف اى جعل هذا النّصر لكم ليقطع (طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر كما وقع في بدر (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) كبته صرعة وأخزاه وصرفه وكسره وردّه بغيظه واذلّه والكلّ مناسب ولفظة أو للتّنويع (فَيَنْقَلِبُوا) يرجعوا (خائِبِينَ) غير نائلين من آمالهم شيئا (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) جملة معترضة بين المتعاطفات وقطع لظنّ المؤمنين في انّ امر إهلاك المشركين أو احيائهم بايمانهم منوط بمسئلة النّبىّ (ص) (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) الظّاهر انّه عطف على ما قبل قوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ويجوز ان يكون عطفا على الأمر أو على شيء بتقدير ان ويجوز ان يكون أو بمعنى حتّى بتقدير ان اى ليس لك من أمرهم شيء حتّى يتوب الله عليهم بمسئلتك ، أو يكون بمعنى الّا بتقدير ان اى ليس لك من أمرهم شيء الّا ان يتوب الله عليهم فتسّر بتوبته وعلى التّقادير الاربعة فقوله (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ) يكون منقطعا جوابا لسؤال مقدّر (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) نسب الى الباقر (ع) انّه قرء ان تتوب عليهم أو تعذّبهم بإظهار ان ولفظ الخطاب ونسب اليه

٢٩٧

أيضا انّه قرء ان يتب عليهم أو يعذّبهم وعنه (ع) انّه قرئ عنده ليس لك من الأمر شيء قال بلى والله انّ له من الأمر شيئا وشيئا وليس حيث ذهبت ولكنّى أخبرك انّ الله تعالى لمّا أخبر نبيّه (ص) ان يظهر ولاية علىّ (ع) ففكّر في عداوة قومه له فيما فضّله الله به عليهم في جميع خصاله وحسدهم له عليها ضاق عن ذلك فأخبر الله انّه ليس له من هذا الأمر شيء انّما الأمر فيه الى الله ان يصيّر عليّا وصيّه وولىّ الأمر بعده فهذا عنى الله وكيف لا يكون له من الأمر شيء وقد فوّض الله اليه ان جعل ما أحلّ فهو حلال وما حرّم فهو حرام قوله تعالى (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ، وروى عنه (ع) أيضا انّ رسول الله (ص) كان حريصا على ان يكون علىّ (ع) من بعده على النّاس وكان عند الله خلاف ما أراد فقال له : ليس لك من الأمر شيء يا محمّد (ص) في علىّ (ع) الأمر الىّ في علىّ (ع) وفي غيره الم انزل عليك يا محمّد (ص) فيما أنزلت من كتابي إليك (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) قال ففوّض رسول الله (ص) الأمر اليه (وَلِلَّهِ) من حيث كونه فاعلا وغاية ومالكا (ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) بعد ما نفى كون الأمر بيده اثبت مخلوقيّة الجميع ومملوكيّتها ورجوعها اليه تعالى (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) يعنى امر مغفرتهم وتعذيبهم بيده تعالى (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ترجيح لجانب الغفران وردع له (ص) وللمؤمنين عن التّبادر الى الدّعاء واللّعن عليهم وتغليب للرّجاء على الخوف (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ابتداء كلام لابداء حكم من احكام السّياسات وانّما صدّره بالنّداء ليجبر كلفة النّهى عمّاهم عليه من الرّباء بلذّة النّداء والخطاب (لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) لا تأخذوها وقد شاع استعمال الأكل في مطلق الأخذ والتصرّف امّا لانّ الأكل عمدة افراد التصرّف أو لانّ كلّ تصرّف أكل لقوّة من القوى (أَضْعافاً) جمع الضّعف بمعنى مثلي الشّيء (مُضاعَفَةً) تأكيد للتضعيف والمعنى أمثال ما عيّنتموه في المدّة الاولى أو من شأنه ان يصير أمثال أصل المال في يسير زمان بتكرار الأجل وتكرار الزّيادة كما كانوا في السّابق يربى الرّجل منهم الى أجل ثمّ يزيد فيه زيادة اخرى وهكذا حتّى يستوفي بالشّيء اليسير في الزّمان القليل جميع مال المديون فهو نهى عن أقبح افراده أو نهى عنه مطلقا ببيان قبحه الشّأنىّ حتّى يكون علّة للنّهى وليس تقييدا للنّهى حتّى يكون بمفهوم مخالفته منافيا لما سبق في سورة البقرة من النّهى عنه مطلقا ضمنا ولما يأتى في سورة النّساء من التّصريح بالنّهى عنه مطلقا (وَاتَّقُوا اللهَ) في ارتكاب ما نهيتم عنه من الرّبوا (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) بالتجنّب عن مثل أفعالهم من أكل الرّبوا ، وغيره وقد سبق وجه تحريم الرّبوا في سورة البقرة عند قوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ،) وبعد ما نهى عمّا يضرّ الإنسان ويجرّه الى النّيران اغراه الى ما ينفعه ويجرّه الى الجنان فقال (وَأَطِيعُوا اللهَ) بطاعة الرّسول فيما أمركم به ونهاكم عنه ولذلك لم يكرّر أطيعوا وقال (وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) قد سبق انّ الإتيان بأدوات التّرجّى من عادة الكبار من النّاس وانّ التّرجّى من الله واجب غير متخلّف عنه (وَسارِعُوا) بالمسارعة الى طاعة الرّسول والاهتمام بها (إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ).

٢٩٨

وجه التّعبير عن عرض الجنّة بعرض السّموات والأرض

اعلم انّ العرض والطّول في المسطّحات عبارة عن اقلّ الامتدادين وأكثرهما ، وفي المجسّمات عبارة عن اقصر الامتدادات الثّلاثة وأطولها ، والعرض في الأسطوانات والمخروطيّات عبارة عن امتداد قواعدها والطّول فيها عبارة عن امتداد سهامها ، ولمّا كان عوالم الإمكان مبتدئة من المشيّة الّتى هي الوحدة الحقّة الظّليّة الّتى هي كالنّقطة في عدم تطرّق الكثرة إليها منتهية الى عالم الأجسام الّذى هو لكثرته مثل قاعدة المخروط شبّه العوالم الطوليّة بالمخروط المنتهى من طرف الى النّقطة ومن طرف الى القاعدة ، ولمّا كان عالم الطّبع بكثرته مثل قاعدة المخروط في كثرتها وقد علمت انّ عرض المخروط عبارة عن قطر قاعدته قال تعالى : (عَرْضُهَا) نفس (السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) من غير تخلّل اداة التّشبيه ، ولمّا كان هذه كلّها على طريق تشبيه المعقول بالمحسوس قال في سورة الحديد : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بتخلّل اداة التّشبيه.

ثمّ اعلم انّ سعة عالم الطّبع ومكانه ووعاء لسعة العوالم العالية كما انّ زمانه وعاء لا مد بقائها وكما انّ سعة الدّهر الّذى هو أمد بقاء العوالم العالية بالنّسبة الى الزّمان أضعاف الزّمان بألف أو بخمسين ألفا لانّ يوما من الدّهر الّذى وعاءه ومظهره يوم من الزّمان كألف سنة في المرتبة الاولى أو كخمسين الف سنة في المراتب الاخر كذلك سعة وعاء العوالم العالية الّذى هو بمنزلة مكان عالم الطّبع بالنّسبة الى المكان الّذى هو وعاء ومظهر لوعاء العوالم العالية أضعافه بألف أو خمسين ألفا ، وهذه السّعة غير السّعة بحسب الكثرة فلا ينافي تشبيه عالم الطّبع بالقاعدة في الكثرة والعوالم العالية بالنّقطة في الوحدة (أُعِدَّتْ) صفة بعد صفة أو حال بتقدير قد أو مستأنف جوابا لسؤال مقدّر كأنّه قيل ، لمن هذه الجنّة؟ ـ فقال : اعدّت (لِلْمُتَّقِينَ) قد مضى في اوّل سورة البقرة بيان مراتب التّقوى فانّ التّقوى الحقيقيّة هي الّتى تكون بعد الايمان واوّل مراتبها التّقوى عن نسبة شيء من الأموال والأفعال الى نفسه وآخر مراتبها التّقوى عن ذاته بحيث لا يبقى له ذات وانانيّة وهي آخر مراتب العبوديّة واوّل مراتب الرّبوبيّة (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) من الأموال والأبدان والاعراض والقوى والأوصاف والانانيّات (فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) اى في جميع الأحوال لا يمنعهم حال من الأحوال من الإنفاق وهذا بيان للمتّقين وليس تقييدا له كما عرفت (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) الحابسين له ، والأوصاف الثّلاثة بيان لبعض مراتب الإنفاق لانّ كظم الغيظ في الحقيقة إنفاق من سورة القوّة الغضبيّة كما انّ العفو عن النّاس وطهارة القلب عن الحقد عليهم والانزجار من إساءتهم ثمّ الإحسان إليهم بعد إساءتهم إنفاق من سورة كبرياء النّفس وانانيّتها (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) العفو هاهنا بمعنى الصّفح فانّهما كالفقراء والمساكين لانّ كظم الغيظ يعنى العفو وترك الانتقام وقد ذكر فالعفو بمعنى الصّفح الّذى هو تطهير القلب عن الحقد على المسيء.

تحقيق مراتب النّاس في القصاص وتركه

(وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) حقّ العبارة ان يقول والمحسنين لكنّه عدل اليه لافادة القسيم وكونه محبوبا لله بأخصر لفظ ، ولمّا كان الممدوح من هذه الثّلاثة ما كان سجيّة وما كان منها صادرا عن سجيّة أتى بها أسماء بخلاف الإنفاق فانّ المقصود والممدوح منه حدوث الفعل وطرح الفضول ونفع الغير وان كان سجيّته أيضا ممدوحة ولذلك أتى به فعلا دالّا على التّجدّد الاستمرارىّ وقد أشار تعالى بهذه العبارة الوجيزة الى مراتب التّقوى ومنازل السّلوك ؛ فانّ اولى مراتب التّقوى والسّلوك الانزجار عن فضول الدّنيا ومساوي النّفس وهو نحو إنفاق من تشهيّات النّفس ثمّ إنفاق الفضول

٢٩٩

وطرح شهوات النّفس وفي هذه المرتبة يباح له القصاص عن المسيء لكنّه ينهى عن الزّيادة على قدر الاساءة وهو أيضا تقوى وإنفاق من القوّة الغضبيّة وإمضائها فانّها لا تقف في مقام مكافاة المسيء على حدّ وهذه المرتبة لها درجات عديدة ، وثانيتها مقام كظم الغيظ وترك إمضاء الغضب على المسيء ولهذه المرتبة أيضا درجات ، وثالثتها العفو عن المسيء وتطهير القلب عن الحقد عليه ولا يكون الّا إذا حصل للسّالك مقام الشّهود والعيان وشاهد الحقّ الاوّل في مظهر من مظاهره ولهذه المرتبة أيضا درجات وفي هذه المرتبة مهالك عديدة ومفاسد غير محدودة وكلّ من زاغ وانحرف الى مذهب من المذاهب الباطلة نشأ انحرافه من هذه المرتبة وآخرة درجاتها آخرة درجات العبوديّة واوّل ظهور الرّبوبيّة وهو مقام الإحسان ومقام المحبوبيّة لله (وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) عطف على الّذين ينفقون والفاحشة تطلق على الزّنا مخصوصا وعلى ما يشتدّ قبحه مطلقا وعلى كلّ ما نهى الله عزوجل عنه (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) الظّاهر المتبادر ان يكون المراد بالفاحشة البالغ في القبح وبظلم النّفس مطلق القبيح حتّى يكون من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ أو الغير البالغ في القبح حتّى يكون قسيما للفاحشة لكنّه نسب الى النّبىّ (ص) انّه فسّر الفاحشة بالزّنا وظلم النّفس بارتكاب ذنب أعظم من الزّنا وانّ الآية نزلت في شابّ كان ينبش القبور سبع سنين حتّى نبش قبر جارية من بنات الأنصار وأخذ كفنها ثمّ جامعها فسمع صائتا يقول من ورائه : يا شابّ ويلك من ديّان يوم الدّين يوم يقفني وايّاك كما تركتني عريانة في عساكر الموتى ونزعتني من حفرتي وسلبتني أكفاني وتركتني أقوم جنبة الى حسابي فويل لشبابك من النّار ، فندم وأتى النّبىّ (ص) باكيا متضرّعا ولمّا علم النّبىّ (ص) بحاله بعد استعلام حاله نحّاه من عنده فيئس وخرج الى بعض الجبال وتضرّع على الله أربعين صباحا حتّى انزل الله تعالى قبول توبته وانزل هذه الآية على نبيّه (ص) فخرج مع أصحابه في طلبه فدلّوه عليه فجاء اليه ودنا منه وأطلق يديه من عنقه ونفض التّراب من رأسه وقال : يا بهلول أبشر فانّك عتيق الله من النّار (ذَكَرُوا اللهَ) يعنى لم يكن الفاحشة أو ظلم النّفس من التّمكّن في الجهل بل كان من اللّمم النّازلة بالعباد المغفورة لانّها لم تكن كبيرة كما سبق انّ الكبير ما كان صادرا من التّمكّن في اتّباع الطّاغوت وامّا إذا كان الإنسان متمكّنا في اتّباع علىّ (ع) وولايته فكلّما صدر عنه من المساوى فهو من قبيل اللّمّات ومن الصّغائر وهذا الإنسان كلّما يوقعه الشّيطان في قبيح يتذكّر الله لا محالة ويندم على قبيحه ويستغفر ربّه وما ورد في الاخبار من انّ الإصرار ان يذنب الذّنب فلا يستغفر الله ولا يحدّث نفسه بتوبة ، ومن قوله (ع): لا صغيرة مع الإصرار ولا كبيرة مع الاستغفار ، ومن قول النّبىّ (ص): ما اصرّ من استغفر وان عاد في اليوم سبعين مرّة ، وغير ذلك ممّا ورد في بيان الكبائر والصّغائر يشعر بما ذكرنا فصاحبوا الصّغيرة هم الّذين إذا فعلوا فاحشة اىّ فاحشة كانت ذكروا الله (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) وصاحبوا الكبيرة هم الّذين إذا فعلوا فاحشة لم يتذكّروا ولم يستغفرا الله لذنوبهم ، وما ورد من تعداد الكبائر وحصرها في السّبعة أو أكثر انّما هو للاشارة الى الكبارة بنسبة بعضها الى بعض (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) معترضة أو حاليّة والمقصود تأييس العباد عن التوجّه الى غيره تعالى والاستغفار ممّن سواه وتوصيفه تعالى بسعة المغفرة مع حصرها فيه (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) عطف على قوله (فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ ،) والإصرار على المعصية كما علم سابقا توطين النّفس على المعصية من دون احداث توبة سواء صدرت عنه مكرّرة أم لا كما انّ الكبيرة هي المعصية الصّادرة عن تمكين النّفس في الجهل واتّباع الطّاغوت (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) يعنى لم يصرّوا على الفاحشة أو ظلم أنفسهم والحال انّهم كانوا يعلمون بقبح فعلهم يعنى انّ مناط

٣٠٠