تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

ما في ضميرك نحوا من الافهام الّا إفهام رمزا وفي حال من الأحوال الّا رامزا أو رامزين وانّما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصّة دون ذكر الله ليخلص في تلك المدّة لشكره وذكره قضاء لحقّ النّعمة ، وهذا دليل على انّ طلب الآية كان لمعرفة وقت الحمل طلبا لازدياد الشّكر والذّكر.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً) يعنى في تلك الايّام عرّفه انّ حبس لسانه عن الكلام بغير ذكر الله لا عن ذكر الله ليكثر ذكر الله في تلك المدّة (وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِ) قيل من الزّوال الى الغروب ، وقيل من العصر الى ذهاب صدر اللّيل وهذا هو المتبادر ، وقيل : من الغروب الى ذهاب صدر اللّيل (وَالْإِبْكارِ) من طلوع الفجر الى الضّحى والتّسبيح بمعنى التّنزيه والتّطهير لكنّه إذا نسب الى الله يراد به تنزيهه من النّقائص مع عدم اعتبار تنزّهه عن النّسب والإضافات ، أو مع اعتبار النّسب والإضافات الى الكثرات كما سبق تحقيقه وتحقيق الفرق بينه وبين التّقديس في اوّل سورة البقرة عند قوله و (نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ).

تحقيق تسبيح الرّبّ وتسبيح اسم الرّبّ

اعلم انّ في كلّ فرد من افراد بنى آدم بل في كلّ جزء من أجزاء العالم لطيفة إلهيّة هي تربيّه وتحرّكه الى كمالاته الثّانويّة وتخرجه من القوى والاستعدادات المودعة فيه الى فعليّاته ، وتلك اللّطيفة بوجه ربّه وبوجه اسم ربّه وقول الشّاعر :

دل هر ذرّه را كه بشكافى

آفتابيش در ميان بيني

وقول الآخر :

يكى ميل است با هر ذرّه رقّاص

كشاند ذرّه را تا مقصد خاصّ

رساند گلشنى را تا بگلشن

دواند گلخنى را تا بگلخن

اشارة الى هذه اللّطيفة وهذه محتجبة تحت اعدام الطّبع ورذائل النّفس ، وتنزيهها عبارة عن تطهيرها عن الاعدام والنّقائص والرّذائل ولا يمكن ذلك الّا بكثرة الذّكر المأخوذ ممّن كان مجازا من الله بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط ، ولذا أمر به بعد الأمر بالّذكر الكثير وكلّما ذكر تسبيح مطلقا أو مقيّدا باسم الرّبّ أو بالرّبّ أو بالله واقعا عليها بنفسه أو متعلّقا بها باللّام أو بالباء فالمراد تنزيه تلك اللّطيفة لانّها اسم للرّبّ وربّ ونازلة من الله والمراد بالعشىّ والأبكار امّا تمام الأوقات فانّه قد يراد بذكر طرفي النّهار استغراق جميع الأوقات في العرف ، أو خصوص طرفي النّهار فانّهما وقت نشاط النّفس واشتداد شوقها الى أصلها بخلاف جوف اللّيل ووسط النّهار فانّهما وقت كلال النّفس وفتور القوى ولا تقربوا الصلوة وأنتم كسالى (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) عطف على قوله (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) أو مستأنف بتقدير اذكر أو ذكّر إذ قالت الملائكة لمريم شفاها سواء كانت رأتهم أم لم تر أشخاصهم لانّها كانت محدّثة والمحدّث قد يرى وقد لا يرى كما سبق الاشارة اليه عند قوله (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما)(يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) من ذرّيّة الأنبياء (وَطَهَّرَكِ) من السّفاح (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ) اى عالمي زمانك لولادة عيسى (ع) وهذا مضمون ما في الخبر وقيل فيه أشياء أخر ، ولعلّ المراد بالاصطفاء الاوّل اصطفاؤها بالنّظر الى نفسها واستعدادها واستحقاقها وبالاصطفاء الثّانى اصطفاؤها بالنّسبة الى نساء عالمها ولذا جاء بالتّطهير بينهما يعنى يا مريم انّ الله نظر إليك ووجدك أهلا لخدمته وقربه فاصطفاك لخدمته وطهرّك من نقائص الكثرات وقرّبك اليه وافناك ممّا ينبغي ان يفنى عنه ثمّ أبقاك ببقائه وأحياك بحيوته وأحياك بما يحيى الباقون بعد الفناء حتّى تفضّلت على نساء العالمين فاصطفاك عليهنّ (يا مَرْيَمُ اقْنُتِي) أطيعي أو أديمي

٢٦١

القيام في العبادة أو ادعى أو اسكتي (لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي) اخضعى أو انحنى (وَارْكَعِي) صلّى أو كبّى على وجهك وامّا معنى القنوت والسّجود والرّكوع الشرعيّة فغير مراد قطعا إذا لحقائق الشرعيّة على فرض ثبوتها انّما هي في شريعتنا لا في الشّرائع السّابقة على انّ قنوت صلوة شريعتنا وسجودها وركوعها غير ثابتة في شريعتها وعلى هذا فلا حاجة الى بعض التّوجيهات ولا الى القول بانّ الآية ممّا قدّم وأخّر بعض اجزائها (مَعَ الرَّاكِعِينَ) اى المصليّن الإتيان باسم الفاعل الدالّ على دوام الفعل وثباته دون الّذين ركعوا للاشارة الى انّ الأمر امر بدوام الرّكوع فانّ المصاحب بفعله لدائم الفعل لا بدّ ان يكون دائم الفعل ، والإتيان بجمع المذكّر للاشارة الى تشريفها بجعلها في عداد الرّجال (ذلِكَ) الاخبار باخبار امّ مريم (ع) وزكريّا (ع) ومريم (ع) (مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) اى من الأنباء الّتى كانت في غيب منك أو من أنباء الغائبين والغائبات منك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) خبر بعد خبر أو حال أو خبر ابتداء أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) قد مضى حكاية القرعة في كفالة مريم (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) في كفالة مريم حين لفّتها أمّها في خرقة وأتت بها الى الأحبار أو حين كبرها وعجز زكريّا عن تربيتها كما قيل ، ويجوز ان يراد إذ يختصمون عند ولادة عيسى (ع) (إِذْ قالَتِ) بدل من قوله (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أو من قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) وقوله (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) إذ قالت (الْمَلائِكَةُ) تعليل لكون الاخبار في غيب منه (يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) قد مضى وجه تسمية عيسى (ع) لكلمة الله (اسْمُهُ الْمَسِيحُ) وهو بالعربيّة بمعنى المبارك وله معان أخر تناسب التّسمية بها وقيل هو معرّب مشيحا بالسّريانية بمعنى المبارك (عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) خبر بعد خبر أو خبر مبتدء محذوف (وَجِيهاً) حال مقدّرة من كلمة والجاه والوجاهة رفعة المنزلة (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) من الله (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ) هو ما يمهد لمضجع الصبىّ (وَكَهْلاً) يعنى يكلّم النّاس في طفوليّة كما تكلّم حين الشّهادة لنفسه ولأمّه بالطّهارة عن السّفاح بقوله (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ) أو (يُكَلِّمُ النَّاسَ) في طفوليّته بالرّسالة والمحاجّة عليها فانّه بعث في ابن خمس أو ابن سبع وفي زمان بلوغه مبلغ الكمال لا الكهولة العرفيّة على ما قيل انّه رفع في شبابه وقيل : انّ المراد بتكلّمه كهلا تكلّمه حين نزوله من السّماء (وَمِنَ الصَّالِحِينَ قالَتْ) مثل زكريّا (ع) مستغربة بحسب الأسباب الطبيعيّة (رَبِّ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) ويجوز ان يكون استفهاما وسؤالا لتعلم انّ الولد يكون بلا زوج أو يكون بعد تزوّجها (قالَ كَذلِكِ) الولد من غير مسيس البشر (اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً) استيناف جواب سؤال مقدّر عن كيفيّة خلقه ما يشاء (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير أسباب كما جرى سنّته بان يخلق الأشياء الطبيعيّة تدريجا بالأسباب (وَيُعَلِّمُهُ) قرئ بالنون وبياء الغيبة وهو عطف على يخلق أو على الله يخلق أو على كذلك الله يخلق ما يشاء ، ويجوز ان يكون عطفا على ما قبل قوله تعالى : قالت (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) ويكون هذا القول معترضا حتّى يكون تعليمه الكتاب ممّا بشّرت به والمعنى انّ الله يبشّرك بكلمة يعلّمه (الْكِتابَ) قد مضى تحقيق الكتاب في اوّل الكتاب ويجوز ان يراد به الكتابة هنا فانّه قيل انّ الله

٢٦٢

أعطى عيسى (ع) تسعة أجزاء من الخطّ وسائر النّاس جزءا واحدا (وَالْحِكْمَةَ) آثار الولاية (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) خصّ الكتابين لشرفهما بالنّسبة الى سائر الكتب السّالفة (وَرَسُولاً) عطف على يعلّمه الكتاب على ان يكون هو عطفا على ما قبل قالت ربّ انّى يكون لي ولد أو عطف عليه بتقدير يرسله أو يكلّم رسولا (إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) خصّ بنى إسرائيل لانّه كان رسولا إليهم ، أو لانّهم كانوا أشرف المرسل إليهم ، أو لانّ المراد ببني إسرائيل من لم ينقطع نسبته الفطريّة الى الأنبياء فانّهم المنتفعون بهم والمرسل إليهم حقيقة (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ) بانّى قد جئتكم على تقدير التكلّم والنّطق قبل رسولا أو تضمين رسولا معنى النّطق (بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) حجّة لا تشكّون انّها ليست من قوّة البشر على صحّة نبوّتي (أَنِّي أَخْلُقُ) بدل من آية من ربّكم أو بدل من انّى قد جئتكم أو خبر مبتدء محذوف اى هي انّى أخلق (لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ) اى في هذا الطّين أو في المخلوق من الطّين أو مماثل هيئة الطّير على ان يكون الكاف اسما (فَيَكُونُ طَيْراً) اى حيّا ذا لحم وعظم وجناح وطيران ولمّا كان صيرورة الطّين لحما وعظما وجناحا وذا حيوة ممّا يخرج من قدرة البشر قيّده بقوله تعالى (بِإِذْنِ اللهِ) لئلّا يتوهّم متوهّم ما توهّمه النّصارى في حقّه والمعروف انّه الخفّاش المعروف (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) الأعمى أو الّذى ولد أعمى أو الممسوح العين (وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) تكرار بإذن الله للاهتمام بدفع ذلك التوهّم ، ولمّا كان الغالب في زمان عيسى (ع) والمعتبر في انظار اهله الطبابة والمعالجات الغريبة الّتى يعجز عن أمثالها أكثر اطبّاء الأمصار اعطى الله تعالى عيسى (ع) آية من سنخ ما كان معتبرا عندهم خارجة عن قدرة البشر حتّى يعترفوا بعد ما عرفوا بحذاقتهم انّها خارجة عن قدرتهم بأنّها من الله (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) يعنى أخبركم بأحوالكم الّتى هي معلومة لكم وغائبة عنّى حتّى تعلموا انّى اعلم المغيبات (إِنَّ فِي ذلِكَ) المذكور من خلق الطيّر من الطّين الى قوله (وَما تَدَّخِرُونَ) أو في ذلك الأنباء (لَآيَةً) عظيمة (لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) اى ان كان سجيّتكم الإذعان والتّصديق بما يذعن به أو ان كنتم مؤمنين بالأنبياء السّلف ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال : انّ عيسى (ع) كان يقول لبني إسرائيل : انّى رسول الله إليكم وانّى أخلق لكم من الطّين كهيئة الطّير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأبرئ الأكمه والأبرص ، والأكمه هو الأعمى قالوا : ما نرى الّذى تصنع الّا سحرا فأرنا آية نعلم انّك صادق قال : أرأيتكم ان أخبرتكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم يقول ما أكلتم في بيوتكم قبل ان تخرجوا وما ادّخرتم باللّيل تعلمون انّى صادق؟ ـ قالوا : نعم وكان يقول : أنت أكلت كذا وكذا ، وشربت كذا وكذا ، ورفعت كذا وكذا ، فمنهم من يقبل منه فيؤمن ، ومنهم من يكفر ، وكان لهم في ذلك آية ان كانوا مؤمنين (وَمُصَدِّقاً) عطف على رسولا أو على قد جئتكم بتقدير جئت أو عطف على أخلق بتقدير كنت أو جئت بان جعل تصديقه للتّورية آية صدقة والمعنى انّى قد جئتكم بآية من ربّكم انّى كنت مصدّقا (لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ) عطف على مصدّقا باعتبار المعنى فانّ المقصود منه التّعليل أو عطف على جئت مصدّقا بتقدير جئت أو عطف على قد جئت بآية من ربّكم بتقدير جئت لاحلّ لكم (بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ببغيكم مثل كلّ ذي ظفر وشحوم البقر والغنم

٢٦٣

وبعض الأعمال في يوم السّبت وغير ذلك ، نسب الى الصّادق (ع) انّه قال كان بين داود (ع) وعيسى بن مريم (ع) اربعمائة وكانت شريعة عيسى (ع) انّه بعث بالتّوحيد والإخلاص وبما اوصى به نوح (ع) وإبراهيم (ع) وموسى (ع) وأنزل عليه الإنجيل وأخذ عليه الميثاق الّذى أخذ على النّبيّين وشرع له في الكتاب اقام الصّلوة مع الدّين والأمر بالمعروف والنّهى عن المنكر وتحريم الحرام وتحليل الحلال وانزل عليه في الإنجيل مواعظ وأمثال وحدود وليس فيها قصاص ولا احكام حدود ولا فرض مواريث وأنزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التّوراة وهو قول الله عزوجل في الّذى قال عيسى بن مريم (ع) لبني إسرائيل ولاحلّ لكم بعض الّذى حرّم عليكم وامر عيسى (ع) من معه ممّن اتّبعه من المؤمنين ان يؤمنوا بشريعة التّوراة والإنجيل (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) لمّا كان إحلال المحرّمات في شريعة ثابتة مصدّقة محلّا للإنكار وموهما لكذب المحلّل وأراد ان يأمر بطاعته بعد ما أتى بما هو موهم لكذبه كرّر قوله (جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) ليكونوا على ذكر من معجزاته فلا ينكروه ولا ينكروا امره (فَاتَّقُوا اللهَ) يعنى إذا كنت جئتكم بآية من ربّكم دالّة على رسالتي منه فاتّقوا سخطه في مخالفتي (وَأَطِيعُونِ) فيما أدعوكم اليه وفيما أمرتكم به ونهيتكم عنه.

تحقيق كون الإنسان فطريّ التعلّق واقتضاء ذلك الايتمام بأمر

اعلم انّ اللّطيفة السيّارة الانسانيّة خلقت مفطورة التعلّق بمعنى انّ التعلّق ذاتىّ لها لا انّه عرضىّ لها كسائر الاعراض بل نقول : ذاتها ليست الّا التعلّق وكلّما كان سواها فهو ليس ذاتا ولا ذاتيّا لها بل هو عرضىّ مانع لها من ظهورها بذاتها وعائق لها عن قربها من أصلها وكمالها بطرح ما سوى التعلّق وظهور التعلّق بدون قيد من القيود ولذلك قال تعالى حين تماميّة كمال محمّد (ص) وكمال قربه من مبدئه دنا فتدلّى يعنى انتهى في دنّوه حتّى لم يبق له الّا التدلّى الّذى هو ذاته والّا فالتدلّى كان له من اوّل وجوده ، وقولهم : القيد كفر ولو بالله ؛ اشارة الى انّ ذات الإنسان تعلّق محض من دون ضميمة قيد إليها وكلّما ضمّ اليه قيد من القيود ولو كان تقيّدا بالله اقتضى ذلك القيد الاثنينيّة والاستقلال في الوجود وحجبه عن ذاته وعن مشاهدة ربّه ، وهذا بخلاف سائر الموجودات الامكانيّة فانّها كلّها متحدّدات بحدود مخصوصة يكون كمالها ببلوغها الى تلك الحدود وقوفها في تلك المواقف واستقلالها بحدودها فهي وان كان مقتضية للتعلّق لكنّ التعلّق فيها مختفية تحت التحدّد والاستبداد وكانت أرباب أنواعها تحت ربّ نوع الإنسان لتحدّدها وإطلاقه ولمّا كانت تلك اللّطيفة بذاتها مقتضية للتعلّق وكان التّكليف مطابقا للتّكوين أمروا العباد بالاقتداء والتعلّم والايتمام والطّاعة وذكروا انّ طاعة الامام أصل كلّ الخيرات فانّه نسب الى ابى جعفر (ع) انّه قال : ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضى الرّحمن تبارك وتعالى الطّاعة للإمام بعد معرفته ثمّ قال : انّ الله تبارك وتعالى يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) ؛ وفي هذا المعنى اخبار كثيرة. ونسب الى علىّ (ع) انّه قال : اعلموا انّ صحبة العالم واتّباعه دين يدان الله به ، وطاعته مكسبة للحسنات ، ممحاة للسيّئات ، وذخيرة للمؤمنين ، ورفعة فيهم في حيوتهم ، وحبل بعد مماتهم ، بل ورد في اخبار كثيرة صراحة واشارة الى ان لا خير ولا حسنة لغير المطيع ، ولا ذنب للمطيع ، وان أتى غير العارف المطيع للإمام بجميع اعمال الخير والعارف المطيع بجميع اعمال الشرّ ، والاخبار الدّالّة على انّ من مات ولم يكن له امام مات ميتة الجاهليّة أو ميتة كفر ؛ تدلّ على فضل الطّاعة للإمام ، ولذلك امر الأنبياء أممهم اوّل دعوتهم بالتّقوى الّتى هي قبل الإسلام ثمّ بالطّاعة لهم وقال الكبار من المشايخ (ره) : ان كانت تحت طاعة عبد حبشيّ كان خيرا لك من ان تكون تحت طاعة نفسك ، وقال الفقهاء رضوان الله عليهم : من عمل من المقلّدين بطاعة ربّه من

٢٦٤

غير تقليد لعالم وقته وكان عمله مطابقا لحكم الله كان باطلا غير مقبول ان كان مقصّرا في ترك التقليد ، والاخبار الدّالّة على وجوب طلب العلم مثل : طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ، ومثل : لو يعلم النّاس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج وخوض اللّجج والاخبار الدّالّة على انّ أصناف النّاس ثلاثة : عالم ومتعلّم وغثاء أو همج ، أو سواقط ، كلّما تدلّ على وجوب الطّاعة فانّ العلم على التّحقيق ليس بمحض انتقاش النّفوس بنقوش المحسوسات والمظنونات والمعلومات ، بل هو من شؤن النّفوس وفعليّاتها في طريق الإنسان لانّ انتقاش النّفوس بنقوش المدركات وفعليّاتها وشؤنها إذا لم تكن في طريق الإنسان بل كانت في طريق الشّيطان أو الحيوان لم يكن علما بل يسمّى جهلا عند أهل الله ، والحقّ انّه لا يحصل فعليّة في طريق الإنسان بعد بلوغ الإنسان مبلغ الرّجال الّا باتّباع صاحب الطّريق وطاعته ، فانّ الإنسان لا توجّه له اختيارا من اوّل طفوليّته الّا الى البهيميّة والسّبعيّة ، وإذا بلغ أو ان التّكليف يزداد عليهما الشّيطنة وان كان يحصل له حينئذ زاجر إلهيّ أيضا لكنّ الزّاجر الإلهيّ يكون في غاية الضعف وهذه الثّلاثة في غاية القوّة ولا يمكنه الخلاص من حكومة هذه والسّير على الطريق المستقيم الانسانىّ الّا بالتمسّك بولاية صاحب الولاية الّتى هي العروة الوثقى الّتى لا انفصام لها ، وقوله تعالى (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) اشارة الى الزّاجر الإلهي اعنى الولاية التكوينيّة والى الولاية التكليفيّة يعنى لا يكفى الحبل من الله الّا بضميمة الحبل من النّاس الّذى هو الولاية والطّاعة لولىّ الأمر ، ولعدم حصول العلوم والفعليّات في طريق الإنسان الّا باتّباع الامام أو من اجازه للاقتداء قالوا بطريق الحصر : نحن العلماء وشيعتنا المتعلّمون وسائر النّاس غثاء ، ولعلّ بعضهم لم يتعلّموا ساعة بطريق المعروف بل كان جمّالا أو راعيا أو محترفا ، ولمّا كان حصول الفعليّات والعلوم في طريق الإنسان بسبب الاتّصال المعنوىّ الّذى عبّر عنه بالحبل وكان الاتّصال الصورىّ سببا للاتّصال المعنوىّ وقنطرة له كان الأنبياء (ع) وأوصياؤهم (ع) من لدن آدم (ع) الى الخاتم (ص) مهتميّن بأمر البيعة وعقد الايمان ومعانين فيها ولم يكونوا ليدعوا أحدا من تابعيهم بدون أخذ البيعة والميثاق عنه (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) جواب لسؤال مقدّر في مقام التّعليل للأمر بتقوى الله ولمّا أراد تعليل الأمر بالتّقوى بالآلهة وبالمرسليّة وبربوبيّتهم أتى بهذه العبارة فكأنّه قال : جئتكم بآية من ربّكم دالّة على صدقى في ادّعائى الرّسالة فاتّقوا الله في مخالفتي لآلهته وربوبيّته لكم وإرساله ايّاى لانّ صاحب الآلهة هو ربّكم وربّكم مرسلي إليكم (فَاعْبُدُوهُ) اى إذا كان الله ربّكم فاعملوا له اعمال العبيد أو صيروا عبيدا له خارجين من عبوديّة أنفسكم (هذا) المذكور من العبادة واعتقاد الربوبيّة أو من التّقوى والطّاعة للنّبىّ (صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) فانّ العبادة والخروج من الانانيّة والدّخول تحت امر الأمر الإلهيّ صراط مستقيم انسانىّ كما سبق وكذا التّقوى الّتى هي الخروج من الانانيّة والاستقلال بالرّأى والطّاعة اى الدّخول تحت امر الآمر الالهىّ صراط مستقيم انسانىّ (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) بعد ما دعاهم الى الله وأتمّ لهم الحجّة والمراد بإحساس الكفر إدراكه اوّل الإدراك ولذا فسّر في الخبر بقوله (ع) لمّا سمع ورأى انّهم يكفرون (قالَ) معرضا عنهم مقبلا على الله داعيا لمن يريد الموافقة له (مَنْ أَنْصارِي) حمل الجمع على لفظ من باعتبار معناه اى من الّذين يذهبون معى بالاعانة لي (إِلَى اللهِ) أو من أنصاري مع الله لإظهار الدّين وإعلانه؟ أو من أنصاري مع الله على معاداة الكفّار ومقاتلتهم؟ ويجوز ان يكون معيّة الله مع الأنصار ومع المنصور ؛ هكذا فسّرت الآية ، لكنّ الاوّل هو المراد لانّه كما نقل كان كلّما احسّ من قوم كفرا ومعاداة اعراض عنهم وفرّ منهم الى قوم آخر (قالَ

٢٦٥

الْحَوارِيُّونَ) سمّوا به لأنّهم كانوا قصّارين يبيّضون الثّياب روى انّهم اتّبعوا عيسى (ع) وكانوا اثنى عشر وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرج لكلّ إنسان منهم رغيفين يأكلهما ، وإذا عطشوا قالوا : يا روح الله عطشنا فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا فيخرح ماء فيشربون ؛ قالوا : يا روح الله من أفضل منّا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنّا بك واتّبعنا قال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ، فصاروا يغسلون الثّياب بالكرى أو لانّهم كانوا مبيّضى الثّياب ، أو لانّهم كانوا أنصارا له فانّ الحوارىّ يطلق على الناصر وعلى ناصر الأنبياء ، أو لانّهم كانوا مبيّضى القلوب مخلصين في أنفسهم ومخلصين غيرهم من دنس الذّنوب وأصله الحوار اتّصل به الياء المشدّدة للمبالغة وكأنّه لم يستعمل في هذه المعاني بدون الياء (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ) كان اقتضاء التّوافق في الجواب ان يقولوا : نحن أنصارك الى الله لكنّهم عدلوا الى هذا للاشعار بانّ نصرته نصرة الله من غير فرق (آمَنَّا بِاللهِ) استيناف بيانىّ في مقام التعّليل أو لبيان حالهم (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) منقادون مطيعون ، أو المراد بالايمان الإذعان وبالإسلام البيعة العامّة ، أو المراد بالايمان والإسلام كليهما البيعة العامّة النبويّة وقبول دعوة الظّاهرة ثمّ صرفوا الخطاب عن عيسى (ع) وخاطبوا الله بقولهم (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) على عيسى (ع) أو بجملة ما أنزلت (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ) يعنى عيسى (ع) (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) بوحدانيّتك ورسالة رسولك أو مع محمّد (ص) وأمّته فانّهم الشّهداء على النّاس بقوله تعالى ، (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(وَمَكَرُوا) اى اليهود الّذين احسّ عيسى (ع) منهم الكفر مكروا لقتله بما سيجيء والمكر إخفاء المقصود وإظهار غيره للعجز عن إمضاء المقصود جهارا وبهذا المعنى لا يجوز إطلاقه على الله الّا من باب المشاكلة (وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) من حيث المكر لكون الإخفاء والإعلان بيده وفي حكمه بخلاف غيره من الماكرين ، أو لكون المكر منه عدلا ومن غيره ظلما ، أو لكون مكره واستدراجه ماضيا لا محالة دون غيره.

تفصيل حال عيسى واخذه وصلبه

نقل انّ عيسى (ع) بعد إخراج قومه ايّاه من بين أظهرهم عاد إليهم مع الحواريّين وصاح فيهم بالدّعوة فهمّوا بقتله وتواطؤوا على القتل فذلك مكرهم به ، ومكر الله بهم القاؤه شبهه على صاحبه الّذى أراد قتل عيسى (ع) حتّى قتل وصلب ورفع عيسى (ع) الى السّماء وقيل : لمّا أراد ملك بنى إسرائيل قتل عيسى (ع) دخل خوخته وفيها كوّة فرفعه جبرئيل من الكوّة الى السّماء وقال الملك لرجل منهم خبيث : ادخل عليه فاقتله فدخل الخوخة فألقى الله عليه شبه عيسى (ع) فخرج الى أصحابه يخبرهم انّه ليس في البيت فقتلوه وصلبوه وظنّوا انّه عيسى (ع) وقيل اسرّوه ونصبوا له خشبة ليصلبوه فأظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينه وبينهم فأخذوا رجلا يقال له يهودا وهو الّذى دلّهم على المسيح وذلك انّ عيسى (ع) جمع الحوارييّن تلك اللّيلة وأوصاهم ثمّ قال : ليكفرنّ بى أحدكم قبل ان يصيح الدّيك بدراهم يسيرة ؛ فخرجوا وتفرّقوا ، وكانت اليهود تطلبه فأتى أحد الحواريّين إليهم فقال : ما تجعلون لي ان ادلّكم عليه؟ فجعلوا له ثلاثين درهما فأخذها ودلّهم عليه فالقى الله عليه شبه عيسى (ع) لمّا دخل البيت ورفع عيسى (ع) فأخذ فقال : انا الّذى دللتكم عليه فلم يلتفتوا الى قوله وصلبوه وهم يظنّون انّه عيسى (ع) فلمّا صلب شبه عيسى (ع) وأتى على ذلك سبعة ايّام قال الله عزوجل لعيسى (ع) : اهبط على مريم لتجمع لك الحواريّين فهبط واشتعل الجبل نورا فجمعت له الحواريّين فبثّهم في الأرض دعاة ثمّ رفعه الله سبحانه وتلك اللّيلة هي اللّيلة الّتى

٢٦٦

يدّخر فيها النّصارى فلمّا أصبح الحواريّون حدّث كلّ واحد منهم بلغة من أرسله عيسى (ع) إليهم فذلك قوله عزوجل ، (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، وذكر في الإنجيل انّ يهودا الّذى دلّهم على عيسى (ع) ندم على فعله والقى الدّراهم اليسيرة وكانت ثلاثين قطعة من الفضّة في معبدهم وقتل نفسه. وورد في أخبارنا انّه القى شبه عيسى (ع) على شابّ من تابعيه ليكون معه في درجته. وفي الإنجيل انّ الّذى كفر به اللّيلة الّتى أخذ فيها ثلاث مرّات قبل ان يصيح الدّيك كان شمعون وانّه كفر به ، وأنكره ثلاث مرّات ، وفي الإنجيل انّ اليهود صلبوا عيسى (ع) والتمس رجل من تابعيه من الملك ان يدفن جثّته فأذن له ودفنه في قبر نحته من الحجر لنفسه والقى على بابه حجرا عظيما ثمّ رفع من القبر بعد الموت واجتمع له الحواريّون وعلّم كلّ بلغة من أرسل إليهم ، وروى عن النّبىّ (ص) انّه قال بعث الله عيسى بن مريم (ع) واستودعه النّور والعلم والحكم وجميع علوم الأنبياء قبله وزاده الإنجيل وبعثه الى بيت المقدّس الى بنى إسرائيل يدعوهم الى كتابه وحكمته والى الايمان بالله ورسوله فأبى أكثرهم الّا طغيانا وكفرا فلمّا لم يؤمنوا دعا ربّه وعزم عليه فمسح منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك الّا طغيانا وكفرا فأتى بيت المقدّس فمكث يدعوهم ويرغّبهم فيما عند الله ثلاثة وثلاثين سنة حتّى طلبته اليهود وادّعت انّها عذّبته ودفنته في الأرض حيّا ، وادّعى بعضهم انّهم قتلوه وصلبوه وما كان الله ليجعل لهم سلطانا عليه وانّما شبّه لهم ، وروى عن الباقر (ع) انّ عيسى (ع) وعد أصحابه ليلة رفعه الله اليه فاجتمعوا اليه عند الماء وهم اثنا عشر رجلا فأدخلهم بيتا ثمّ خرج عليهم من عين في زاوية البيت وهو ينفض رأسه من الماء فقال انّ الله اوحى الىّ انّه رافعي اليه السّاعة ومطهّرى من اليهود فايّكم يلقى عليه شبحي فيقتل ويصلب فيكون معى في درجتي؟ ـ فقال شابّ منهم : انا يا روح الله قال فأنت هو فقال لهم عيسى (ع) اما انّ منكم من يكفر بى قبل ان يصبح اثنتى عشرة كفرة فقال له رجل منهم انا هو يا نبىّ الله فقال عيسى (ع) أتحسّ بذلك في نفسك فلتكن هو ثمّ قال لهم عيسى (ع) اما انّكم ستفرقون بعدي على ثلاث فرق ، فرقتين مفتريتين على الله في النّار وفرقة تتّبع شمعون صادقة على الله في الجنّة ، ثمّ رفع الله عيسى (ع) اليه من زاوية البيت وهم ينظرون اليه ثمّ قال انّ اليهود جاءت في طلب عيسى (ع) من ليلتهم فأخذوا الرّجل الّذى قال له عيسى (ع) : انّ منكم لمن يكفر بى قبل ان يصبح اثنتى عشرة كفرة ، وأخذوا الشابّ الّذى القى عليه شبه عيسى (ع) فقتل وصلب وكفر الّذى قال له عيسى (ع) يكفر بى قبل ان يصبح اثنتى عشرة كفرة.

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) اى قابضك من الأرض بحيث لم ينالوا منك شيئا من غير قبض روحك من توفّيت مالي بمعنى أخذته بتمامه أو متوفّيك توفّى منام على ما روى انّه رفع نائما نظيره قوله (هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) اى ينيمكم أو متوفّيك توفّى مماة ؛ على ما نقل انّه أماته ثلاث ساعات أو على ما نقل في الإنجيل انّه صلب وقتل ودفن أو هو على التّقديم والتّأخير معنى بناء على انّ الواو لا يفيد ترتيبا اى انّى رافعك ثمّ متوفّيك (وَرافِعُكَ إِلَيَ) اى الى سمائي وسمّى رفعه الى السّماء رفعا الى نفسه تشريفا للسّماء لانّها بمنزلة حضرته (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من لوث مجاورتهم ومعاشرتهم أو من منقصة قصدهم وقتلهم ايّاك (جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بك من اليهود المكذّبين وغيرهم وامّا المسلمون فانّهم غير مكذّبين له وغير كافرين به بل هم الّذين اتّبعوه حقيقة في اخباره ببعثة محمّد (ص) فهم أيضا فوق الّذين كفروا بالحجّة والغلبة في الدّنيا والآخرة ، وأتى باسم الفاعل في الأوصاف المذكورة الدالّ على الثّبات والاستمرار

٢٦٧

للاشارة الى انّها واقعة منه من حين التكلّم وعلى هذا يجوز ان يكون (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) متعلّقا بالجميع على سبيل التّنازع لا بجاعل الّذين اتّبعوك فقط (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) الخطاب لعيسى (ع) وتابعيه ومكذّبيه (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ثمّ بيّن الحكم بينهم بقوله تعالى (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا) كون هذه الجملة تفصيلا لقوله تعالى (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) وترتّب قوله (فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) على قوله تعالى (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ) وتعقيبه لقوله تعالى (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) يدلّ على انّ الرّجوع الى الله بعد إتمام جعلهم فوق الكفّار بالوصول الى يوم القيامة والتّعذيب في الدّنيا يكون بعد رجوعهم الى الله وهو يدلّ على انّ الرّجوع الى الله يجوز ان يقع حين كونهم في الحيوة الدّنيا كما عليه محقّقوا العلماء والعرفاء يعنى إذا تمّ فوقيّة المؤمنين على الكفّار بوصولهم الى يوم القيامة حالكونهم في الحيوة الدّنيا انقلب أبصارهم ورأوا رجوع الكلّ الى الله وانّه في المحاكمة بينهم بتعذيب الكفّار في الدّنيا برذائل النّفوس ووارداتها ومخوفاتها بحيث يحسبون كلّ صيحة عليهم وبالواردات الغير الملائمة من القتل والأسر والنّهب وغير ذلك (وَالْآخِرَةِ) بأنواع عذاب الجحيم أو في الدّنيا بالواردات الغير الملائمة البدنيّة وفي الآخرة بالأوصاف والواردات الغير الملائمة النّفسانيّة (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) لا في الدّنيا ولا في الآخرة (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) في الدّنيا والآخرة بقرينة المقابلة (وَاللهُ لا يُحِبُ) اى يبغض كما مرّ مرارا (الظَّالِمِينَ) أبدل الظّالمين من الكافرين للاشعار بذمّ آخر لهم (ذلِكَ) المذكور من قوله (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) الى قوله (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) وأتى باسم الاشارة البعيدة مقدّما للاشعار بتعظيمه (نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ) من بيانيّة والمراد بالآيات الآيات التّدوينيّة أو الآيات العظام من الأنبياء المذكورين وامّ مريم ومريم وزكريّا ويحيى (ع) وعيسى (ع) وأبناؤهم المذكورة (وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) تعبير عن الآيات بوصف آخر فانّها كلّها ذكر لله لأنفسها ولغيرها بحيث لا يتطرّق النّسيان والغفلة ولا الابطال والإفساد إليها ، أو من في قوله من الآيات ابتدائيّة اى نأخذها من الآيات العظام الّتى هي الذّكر الحكيم والكتاب المبين واللّوح المحفوظ والقلم الأعلى ولمّا كان خلق عيسى (ع) بلا أب محلّا للشّكّ والإنكار وموهما للريبة والبهتان كما وقع ذلك لليهود والنّصارى فقال بعضهم انّه من السّفاح وبعضهم انّه من يوسف النّجّار الّذى كانت مريم (ع) في خطبته كما كان موهما للغلوّ والآلهة حتّى قالوا : انّه آله وكان مورثا للسّؤال عن حاله هل له مثال ردّ الله تعالى هذا الوهم وأجاب عن هذا السّؤال فقال : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) فلا غروفى خلقه بلا أب لانّ آدم (ع) خلق بلا أب وامّ وهم يقرّون به مع انّه اغرب (خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) مستأنف جواب لسؤال مقدّر أو حال بتقدير قد وبيان لوجه الشّبه يعنى خلق عيسى (ع) من الرّيح مثل خلق آدم من التّراب ، ونكّر التّراب للاشعار بأنّه كان ترابا خاصّا لا يمكن تعريفه (ثُمَّ قالَ لَهُ) اى لآدم والإتيان بثمّ للتفاوت بين الاخبارين فانّ التّفصيل مرتبة بعد الإجمال أو المعنى قدّر خلقه من تراب ثمّ قال له (كُنْ) أو صوّر صورته من تراب ثمّ قال له كن بشرا تامّا (فَيَكُونُ) وقد مرّ هذه الكلمة وبيانها عند قوله (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من سورة البقرة (الْحَقُ) اى هذا المذكور من خلق عيسى (ع) بلا أب وعدم كونه من سفاح ، أو من

٢٦٨

أب وكونه مخلوقا لله لا إلها هو الحقّ (مِنْ رَبِّكَ) أو الحقّ مبتدء ومن ربّك خبر عنه والمعنى انّ جنس الحقّ أو جميع افراده من ربّك فلا حقّ من غيره وكلّما كان مغايرا لما هو من ربّك فهو باطل (فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) في توحيد الله بسبب قولهم انّه ثالث ثلاثة ، ولا في رسالتك بانكارهم رسالتك ، ولا في امر عيسى (ع) بقولهم انّه ولد من أب أو من سفاح أو انّه ربّ أو انّه ابن الله (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) اى في عيسى (ع) أو في الحقّ الّذى من ربّك من التّوحيد ورسالتك وخلق عيسى (ع) وكونه بنفخ من الله من غير سفاح ومن غير أب وفي كونه عبدا غير ربّ (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) من بيانيّة أو تبعيضيّة ولم يقل من بعد ما أخذت أو تعلّمت العلم للاشعار بانّ العلم اجلّ وارفع من ان يحصل بالكسب وانّما هو نور يقذفه الله في قلب من يشاء والتّفسير بمجيء البيّنات الموجبة للعلم كما عن العامّة تفسير مستغنى عنه (فَقُلْ) لهم بعد ان لم ينجع فيهم الحجّة ولم يرتدعوا بالبيان والبرهان (تَعالَوْا) إلينا أو الى مجتمع النّاس حتّى نجيء نحن للحجّة الفارقة الّتى لا يشكّ أحد عند مشاهدتها في الغالب والمغلوب والمحقّ والمبطل وتلك الحجّة هي الابتهال الّذى هو الاجتهاد في الدّعاء بخير أو بشرّ ليلحق لعن الحقّ تعالى وعقوبته للمبطل منّا ويظهر بطلانه ، ودعاء الخصم الى مثل هذا الأمر لا يكون الّا من العلم بصدق نفس الدّاعى وبطلان خصمه واليقين بإجابة الله له ، فانّ الشاكّ في امره لا يجترئ على مثل هذا الأمر ، والشاكّ في الاجابة يتخوّف من بطلان الدّعوى بعدم الاجابة ، ولكونه على يقين من أمره أمر بدعاء أعزّة آهالهم فانّ الإنسان لا يقدم على إهلاك اهله معه بل يخاطر بنفسه دونهم ويجعل نفسه غرضا للبلايا والقتل لحفظهم ولذلك قدّم الاهمّ فالاهمّ فانّ الأبناء اعزّ الأنفس على الرّجل ثمّ النّساء لانّ غيرة النّاموس تقتضي الدّخول في المهالك لحفظهنّ ومن ثمّ كانوا يسوقون الظّعائن في الحروب معهم لتمنعهم من الهرب وقال : تعالوا.

تحقيق شرافة من كان مع محمّد في المباهلة

(نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ) هذا من قبيل قالوا كونوا هودا أو نصارى (وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ) يجتهد كلّ منّا في الدّعاء على الآخر (فَنَجْعَلْ) بدعائنا (لَعْنَتَ اللهِ) طرد الله وابعاده من رحمته وهو كناية عن العقوبة (عَلَى الْكاذِبِينَ) هذه الآية من أدلّ الدّلائل على صدقه في نبوّته ، وعلى شرافة من أتى بهم للمباهلة وكونهم أعزّة اهله وأصحابه ، ولا خلاف بين الفريقين انّه (ص) لم يأت بأحد معه للمباهلة سوى الحسنين (ع) وفاطمة (ع) وعلىّ (ع). روى عن الصّادق (ع) انّ نصارى نجران لمّا وفدوا على رسول الله (ص) وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد وحضرت صلوتهم فأقبلوا يضربون بالنّاقوس وصلّوا فقال أصحاب رسول الله (ص) : يا رسول الله (ص) هذا في مسجدك؟ ـ فقال : دعوهم ، فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله (ص) فقالوا الى ما تدعوا؟ ـ فقال : الى شهادة ان لا اله الّا الله وانّى رسول الله وانّ عيسى عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث ، قالوا : فمن أبوه؟ ـ فنزل الوحي على رسول الله (ص) فقال : قل لهم ما تقولون في آدم (ع) أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ ـ فسألهم النّبىّ (ص) ، فقالوا : نعم ، قال : فمن أبوه؟ ـ فبهتوا فأنزل الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) الى قوله (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) ، فقال رسول الله (ص) : فباهلوني فان كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم وان كنت كاذبا أنزلت علىّ ، فقالوا : أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلمّا رجعوا الى منازلهم قال رؤساؤهم : ان باهلنا بقومه باهلناه فانّه ليس نبيّا وان باهلنا بأهل بيته خاصّة فلا نباهله فانّه لا يقدم الى أهل بيته الّا وهو صادق ، فلمّا أصبحوا جاؤا الى

٢٦٩

رسول الله (ص) ومعه أمير المؤمنين (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) فقال النّصارى : من هؤلاء؟ ـ فقيل لهم : انّ هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه علىّ بن ابى طالب (ع) وهذه بنته فاطمة (ع) وهذان ابناه الحسن (ع) والحسين (ع) ففرقوا وقالوا الرّسول الله (ص) : نعطيك الرّضا فاعفنا عن المباهلة فصالحهم رسول الله (ص) على الجزية وانصرفوا ، وفي الكشّاف روى : انّه (ص) لمّا دعاهم الى المباهلة قالوا : نرجع وننظر فلمّا تخلّوا قالوا العاقب وكان ذا رأيهم : يا عبد المسيح ما ترى؟ ـ فقال : والله لقد عرفتم يا معشر النّصارى انّ محمّدا (ص) نبىّ مرسل ولقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم والله ما باهل قوم نبيّا قطّ فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم ولئن فعلتم لنهلكنّ فان أبيتم الّا الف دينكم والاقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرّجل وانصرفوا الى بلادكم ، فأتوا رسول الله (ص) وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلىّ (ع) خلفها وهو يقول : إذا انا دعوت فأمنّوا ، فقال اسقف نجران : يا معشر النّصارى انّى لأرى وجوها لو سألوا الله ان يزيل جبلا من مكانه لازاله بها ، فلا تباهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصرانىّ الى يوم القيامة ، فقالوا : يا أبا القاسم رأينا ان لا نباهلك وان نقرّك على دينك ونثبت على ديننا ، قال : فاذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم ، فأبوا قال : فانّى أناجزكم ، فقالوا : مالنا بحرب العرب من طاقة ولكن نصالحك على ان لا نغزونا ولا تردّنا عن ديننا على ان نؤدّى إليك كلّ عام ألفى حلّة الف في صفر والف في رجب وثلاثين درعا من حديد ؛ فصالحهم على ذلك ، وقال : والّذى نفسي بيده انّ الهلاك قد تدلّى على أهل نجران ولو لا عنوان لمسخوا قردة وخنازير ، ولا اضطرم عليهم الوادي نارا ولا استأصل الله نجران وأهله حتّى الطير على رؤس الشّجر. وعن عائشة رضى الله عنها انّ رسول الله (ص) خرج وعليه مرط مرحّل من شعر اسود فجاء الحسن (ع) فأدخله ثمّ جاء الحسين (ع) فأدخله ثمّ فاطمة (ع) ثمّ علىّ (ع) ثمّ قال: (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) ، فان قلت : ما كان دعاؤه الى المباهلة الّا لتبيين الكاذب منه ومن خصمه وذلك امر يختصّ به وبمن يكاذبه فما معنى ضمّ الأبناء والنّساء؟ ـ قلت : ذلك. أكد في الدّلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه حيث استجرأ على تعريض اعزّته وأفلاذ كبده واحبّ النّاس اليه لذلك ولم يقتصر على تعريض نفسه له وعلى ثقته بكذب خصمه حتّى يهلك خصمه مع احبّته واعزّته هلاك الاستيصال ان تمّت المباهلة وخصّ الأبناء والنّساء لانّهم أعزّ الأهل وألصقهم بالقلوب وربّما فداهم الرّجل بنفسه وحارب دونهم حتّى يقتل ومن ثمّ كانوا يسوقون مع أنفسهم الظّعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب وقدّمهم في الذّكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم وليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها ، وفيه دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء (ع) ، وفيه برهان واضح على صحّة نبوّة النّبىّ (ص). تمّ ما نقل من الكشّاف ، وقد نقلناه بطوله ليعلم انّهم مقرّون بفضل أصحاب الكساء وانّهم علىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) ، وانّه لم يكن أحد اعزّ عليه من هؤلاء وانّ من منعهم حقّهم أو آذاهم كان اشدّ على نفسه ممّن منع حقّه وآذاه والحمد لله (إِنَّ هذا) المذكور من بناء عيسى (ع) وحمل مريم (ع) به وتولّده الى آخر ما ذكر في حقّه (لَهُوَ الْقَصَصُ) مصدر قصصت الحديث واقتصصته رويته على جهته وهو بمعناه المصدرىّ اى بمعنى المقصوص وهذا يفيد الحصر سواء كان الضّمير للفصل أو اسما مبتدء ثانيا والمراد الحصر الاضافىّ بالنّسبة الى ما قالوه في حقّ عيسى (ع) فانّه لا يخلو من شوب باطل بخلافه فانّه القصص (الْحَقُ) الّذى لا يشوبه باطل (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) تصريح ببعض ما يستفاد من الحصر السّابق يعنى هذا هو الحقّ لا ما قالوه في حقّه ومن جملة ما قالوه انّه آله وانّه ثالث ثلاثة وما من آله الّا الله (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا يمنع من مراده

٢٧٠

(الْحَكِيمُ) في علمه وعمله وهو عطف في معنى التّعليل يعنى انّ الإله ينبغي ان يكون عزيزا وحكيما حتّى يعلم غايات الأمور على ما ينبغي ، ويتمكّن من العمل على ما ينبغي ، وحتّى لا يغلب في مراده ؛ وهذه الأوصاف منحصرة في الله فما من آله الّا الله لا عيسى (ع) متفرّدا أو مشاركا (فَإِنْ تَوَلَّوْا) يعنى هؤلاء المحاجّون عنك أو عن دينك أو عن قصص عيسى (ع) على ما ذكر فليحذروا (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) اى بهم ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بأنّهم في التّولّى مفسدون في عالمهم الصّغير والكبير (قُلْ) يا محمّد (ص) بعد ما أتممت لهم الحجّة بتقرير حال عيسى (ع) وإثبات المخلوقيّة والعبديّة له من بيان أحواله ثمّ بالزامهم بالمباهلة بعد ان لم تنجع فيهم الحجّة البيانيّة وانقيادهم شيئا من الانقياد مع بقائهم على دينهم لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى بطريق اللّطف في المحاجّة والمدارة فيها (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا) من الخلاف والشّقاق (إِلى) الاتّفاق والاجتماع في (كَلِمَةٍ) واحدة هي توحيد الله في العبادة وفي الآلهة وفي الطّاعة (سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) يعنى حتّى تصير تلك الكلمة متساوية النّسبة في القبول بيننا وبينكم فلفظ سواء مصدر بمعنى اسم الفاعل للزّمان الآتي (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) بخلاف عبدة عزير باعتقاد انّه ابن الله من اليهود ، وعبدة المسيح باعتقاد انّه الله أو انّه ابن الله من النّصارى وهو خبر مبتدء محذوف أو بدل من كلمة (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) في الآلهة بخلاف من قال من النّصارى انّ الله ثالث ثلاثة (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) في الطّاعة بخلاف من اتّخذ الأحبار والرّهبان والرّؤساء أربابا في الانقياد والطّاعة ثابتين بعضا من غير الله ، أو ناشئة ربوبيّتهم من غير الله ، أو من غير اذن الله فلفظ من للتّبعيض والظّرف مستقرّ وصف لاربابا ، أو لفظ من للابتداء والظّرف لغو ، أو مستقرّ وصفة لاربابا ، وطاعة المخلوق في الدّين من غير اذن الله وأمره به نحو عبادة للمطاع من حيث لا يشعر ؛ ولذلك قال في سورة التّوبة : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً) يعنى انّ طاعتهم للأحبار من غير نظر الى اذن الله وأمره عبادة لهم وما أمروا الّا بالعبادة للاله الواحد وروى انّه لمّا نزلت آية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) قال عدىّ بن حاتم : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله (ص)؟ ـ قال : أليس كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟ ـ قال : نعم ، قال : هو ذاك (فَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الاتّفاق في الاتّفاق في الكلمة معكم مع انّ الأنبياء وأممهم كانوا متّفقين في تلك الكلمة (فَقُولُوا) جمع الامّة معه (ص) في الخطاب لانّ هذا الكلام امر بالموادعة معهم بعد إتمام الحجّة وإلزامهم ، وهذا الجميع الامّة بخلاف الكلمات السّابقة فانّها كانت دعوة واحتجاجا وليسا الّا شأنه (ص) ولذلك خصّه في السّابق بالخطاب (اشْهَدُوا) يعنى تبجّحوا وتفاخروا بالانقياد لتلك الكلمة وقولوا لمن تولّوا عن الانقياد : اشهدوا علينا (بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) منقادون لتلك الكلمة (يا أَهْلَ الْكِتابِ) نداء من محمّد (ص) وأمّته لهم على سبيل التبجّح وما بعده من كلامهم أو مستأنف من الله تعالى أو النّداء من الله لهم وعلى اىّ تقدير يدلّ الإتيان بأداة نداء البعيد على كمال غفلتهم وحاجتهم الى نداء البعيد (لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) اى في شريعته وملّته وانّه على اىّ ملّة كان على ما قيل انّ أحبار اليهود ونصارى نجران اجتمعوا عند رسول الله (ص) فتنازعوا في إبراهيم (ع) فقالت اليهود : ما كان الّا يهوديّا ، وقالت النّصارى : ما كان الّا نصرانيّا فأنزل الله هذه الآية (وَما أُنْزِلَتِ

٢٧١

التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) يعنى انّ ملّة التهوّد وشريعته كانت من التّوراة وشريعة التّنصر كانت من الإنجيل ونزلت التّوراة بعد إبراهيم نحوا من الف سنة ونزل الإنجيل بعده نحوا من ألفين (أَفَلا تَعْقِلُونَ) انّ هذه دعوى برهان بطلانها معها ولا يدّعى مثلها العاقل (ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) منادى أو بدل أو خبر والإتيان به وبأداتى التّنبيه للاشعار بانّهم من حمقهم وبلادتهم لا يتنبّهون بدون التأكيد في التّنبيه وبدون النّداء ، وإذا كان هؤلاء بدلا أو خبرا كان كالتّصريح ببلادتهم فانّ المعنى أنتم هؤلاء الحمقى الّذين ادّعوا دعوى برهان بطلانها معها (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من امر موسى (ع) وشريعته وامر عيسى (ع) وشريعته يعنى كان في ذلك علم اجمالىّ لكم وشأنكم ان يكون ذلك معلوما لكم فحاججتم وصرتم مغلوبين في المحاجّة (فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) من امر إبراهيم وشريعته يعنى انّ العاقل إذا صار مغلوبا حين المحاجّة في امر يكون معلوما له أو من شأنه ان يكون معلوما له ينبغي ان يتحرّز عن المحاجّة فيما ليس له به علم ، ومن لم يتحرّز عن المحاجّة فيما ليس من شأنه العلم به كان سفيها غير عاقل (وَاللهُ يَعْلَمُ) فيعلّم نبيّه (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فمحاجّتكم مع الرّسول محاجّة الجاهل مع العالم وليست وصف العاقل (ما كانَ) متعلّق بيعلم ولا تعلمون على سبيل التّنازع وعلّقهما لفظ ما عن العمل ، أو ابتداء كلام من الله للردّ على اليهود والنّصارى والمشركين في دعاويهم الباطلة فانّه بعد ما سفّههم تلويحا وتصريحا صرّح بالمدّعى وابطال دعواهم فقال : ما كان (إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً) مستقيما أو مائلا الى الدّين الحقّ من الأديان الباطلة ولمناسبة أحد المعنيين فسّر بالخالص وهو تعريض بهم (مُسْلِماً) منقادا لله أو صابرا ذا سلامة من عيوب النّفس وبهذا المعنى فسّر بالمخلص وهو أيضا تعريض بهم (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ردّ على المشركين لانّه ادّعى مشركو مكّة انّ ملّتهم ملّة إبراهيم (ع) ولمّا كان نفى الإشراك خارجا ممّا كان البحث والمحاجّة فيه كرّر النّفى والفعل للاشعار بكونه نفيا آخر ، نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قال : لا يهوديّا يصلّى الى المغرب ولا نصرانيّا يصلّى الى المشرق ولكن كان حنيفا مسلما على دين محمّد (ص) (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إذا لم يكن اليهوديّة والنّصرانيّة وملّة الشّرك منسوبة الى إبراهيم فمن كان أقرب الخلق اليه؟ ـ فقال : انّ أقرب النّاس واحقّهم (بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) في زمانه وبعده الى بقاء أمّته (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة العامّة على يده تعريض بهم ونفى لاولويّتهم به فانّهم ادّعوا أولويّتهم به كلّ بوجه فقال تعالى : انّ الاولى به في زمانه أمّته ، وفي هذا الزّمان محمّد (ص) وأمّته لانّهم أحيوا ملّته وما خالفوه في أصول العقائد ، واولى النّاس بالأنبياء أعملهم بما جاؤا به ، عن الصّادق (ع) هم الائمّة ومن اتّبعهم يعنى الّذين آمنوا فأراد من الايمان ، الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة المورثة دخول الايمان في القلب والباعثة لمعرفة هذا الأمر والدّخول في أمرهم وعن عمر بن يزيد عنه قال : أنتم والله من آل محمّد (ص) فقلت : من أنفسهم جعلت فداك؟ ـ قال : نعم والله من أنفسهم ثلاثا ثمّ نظر الىّ ونظرت اليه ، فقال : يا عمر انّ الله يقول في كتابه : انّ اولى النّاس ؛ الآية ، وعن أمير المؤمنين (ع) انّ اولى النّاس بالأنبياء أعملهم بما جاؤا به ، ثمّ تلا هذه الآية : قال : انّ ولىّ محمّد (ص) من أطاع الله وان بعدت لحمته ، وانّ عدوّ محمّد (ص) من عصى الله وان قربت قرابته (وَاللهُ وَلِيُ

٢٧٢

الْمُؤْمِنِينَ) تشريف آخر لهم وتعريض بأهل الكتاب حيث قالوا : نحن أبناء الله واحبّاؤه (وَدَّتْ) كلام منقطع عن سابقه كأنّه أراد بعد تسفيه أهل الكتاب وتشريف المؤمنين ان يهيّجهم لئلّا يغترّوا بإضلال أهل الكتاب فقالت : ودّت (طائِفَةٌ) قليلة لانّ أكثرهم كالبهائم لا يتنبّهون بضلال وإضلال وهداية (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) اى اضلالكم (وَما يُضِلُّونَ) بإرادة إضلال المؤمنين (إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) فانّ الضّالّ إذا أراد إضلال الغير اشتدّ ضلال نفسه فهو بإضلال الغير يضلّ نفسه (وَما يَشْعُرُونَ) انّهم في إضلال الغير ومنعه عن الخير يضلّون أنفسهم ويمنعونها عن خيرها ، أو ما يضلّون من المؤمنين الّا أسناخهم فانّ من لم يكن من سنخهم من المؤمنين لا يضلّ بإضلالهم ، ومن يضلّ بإضلالهم كان من سنخهم لانّه كان كافرا مثلهم وكان الايمان عرضا معارا لهم ، أو ما يضلّون وما يزيدون بإرادة إضلال المؤمنين الّا في ضلال أمثالهم من الكفّار فانّ الكافر إذا رأى وسمع إضلال قرينه للمؤمنين اشتدّ ضلاله (يا أَهْلَ الْكِتابِ) ناداهم بنداء البعيد تحقيرا وتبعيدا لهم عن ساحة الحضور وتنبيها على كمال غفلتهم (لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة الثّابتة في التّوراة والإنجيل والقرآن في نعت محمّد (ص) ووصيّه (ع) وفي الأحكام المشروعة لكم فيها ، أو التّكوينيّة الثّابتة في العالم الكبير من موسى (ع) وعيسى (ع) ومحمّد (ص) ، أو الثّابتة في العالم الصّغير من العقول الزاجرة عن اتّباع الهوى والواردات الزّاجرة والمرغّبة (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) تعلمون آيات الله أو حاملون للشّهادة لآيات الله ، والكفر والكتمان بعد العلم اشدّ ، أو أنتم تؤدّون الشّهادة بصدق الآيات إذا خلوتم مع أمثالكم ، أو أنتم تشاهدون وتعاينون الآيات من حيث انّها آيات ، وهذه الآية مثل الآية الآتية تعريض بأمّة محمّد وكفرهم بآيات الله التّدوينيّة والتّكوينيّة مع تحمّلهم للشّهادة على خلافة علىّ (ع) (يا أَهْلَ الْكِتابِ) كرّر النّداء لما ذكر من وجه الإتيان بنداء البعيد (لِمَ تَلْبِسُونَ) تخلطون (الْحَقَّ بِالْباطِلِ) والمراد به ما كانوا يفعلونه من تحريف التوراة والإنجيل وكتمان ما فيهما من نعت محمّد (ص) ووصيّه (ع) ومن إظهار الإسلام صدر النّهار والرّجوع منه آخره تدليسا على المؤمنين وتشكيكا لهم ، ومن إظهار الكفر بمحمّد (ص) وابطان التّصديق به ومن إظهار تصديق موسى (ع) وعيسى (ع) ، وابطان انكار ما ورد منهما في نعت محمّد (ص) ويجرى ذلك الخلط والكتمان في أهل الكتاب ممّن أسلم على يد محمّد (ص) بالبيعة العامّة أو آمن بالبيعة الخاصّة فانّه يقال لهم : لم تلبسون العقائد الحقّة المأخوذة بالآراء الكاسدة النّفسانيّة ، واللّمّات الإلهيّة باللّمّات الشّيطانيّة ، والزاجرات الملكيّة بالشّهوات الحيوانيّة ، والعبادات القالبيّة والقلبيّة بالأغراض الفاسدة ، ولو كانت قربا من الله أو رضاه من العابد أو انعامه عليه (وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الحقّ أو اللّبس والكتمان ، أو أنتم العلماء وكون الآية تعريضا بالامّة ظاهر (وَقالَتْ طائِفَةٌ) قليلة لما ذكر في السّابق من انّ أكثرهم كالبهائم لا يهتدون الى الحيل الشّيطانيّة (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا) اى أظهروا ايمانكم (بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ) لتتمكّنوا من الإنكار وإلقاء الشّبه في قلوب الّذين آمنوا فانّ المقرّ بشيء إذا أنكره كان إنكاره أوقع واشدّ تأثيرا من انكار من لا يعرف ذلك الشّيء لانّ السّامع يظنّ انّه ابصر خللا فيه وأنكره (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ) اى آخر النّهار (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) روى في نزول الآية انّ رسول الله (ص) لمّا قدم المدينة وهو يصلّى نحو بيت المقدّس أعجب ذلك القوم فلمّا صرفه الله عن بيت المقدّس

٢٧٣

الى بيت الله الحرام وجدت اليهود من ذلك وكان صرف القبلة صلوة الظّهر فقالوا : صلّى محمّد (ص) الغداة واستقبل قبلتنا فآمنوا بالّذى انزل على محمّد (ص) وجه النّهار واكفروا آخره ، يعنون القبلة حين استقبل رسول الله (ص) المسجد الحرام لعلّهم يرجعون الى قبلتنا (وَلا تُؤْمِنُوا) من كلام تلك الطّائفة وعطف على آمنوا والمعنى لا تظهروا ايمانكم اللّسانىّ مع ابطان التّهوّد أو التّنصرّ (إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) اى الّا لمن كان على دينكم قبل إسلامه فانّهم أقرب الى قبول قولكم ولا يكون رجوعهم الّا الى دينكم فيتقوّى به دينكم وأهل دينكم بخلاف غيرهم فانّهم لا ينجع فيهم قبولكم وانكاركم ، ولو نجع لا تنتفعون برجوعهم عن دين الإسلام لعدم دخولهم في دينكم ، أو المعنى لا تصدّقوا الّا لمن تبع دينكم ، أو لا تظهروا إقراركم بان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم الّا لمن تبع دينكم ، أو قوله تعالى (وَلا تُؤْمِنُوا) خطاب من الله للمؤمنين يعنى لا تغترّوا ايّها المؤمنون بقول أهل الكتاب بمحض إظهار الايمان ولا تصدّقوا لأحد الّا لمن تبع دينكم حتّى يظهر صدق قوله بآثار فعله وعلى اىّ تقدير فقوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) معترضة وقوله تعالى (أَنْ يُؤْتى) متعلّق بلا تؤمنوا والمعنى لا تؤمنوا بان يؤتى ، أو قوله (قُلْ إِنَّ الْهُدى) ابتداء كلام من الله وهدى الله بدل من الهدى ، أو خبر له وان يؤتى خبر له على الاوّل وخبر بعد خبر على الثّانى والمعنى انّ الهدى اعتقاد ان يؤتى (أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ) من الكتاب والشّريعة (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) بان يحاجّوكم أو حتّى يحاجّوكم وضمير يحاجّوكم راجع الى أحد لعمومه معنى وقرئ ان يؤتى بالمدّ بهمزة الاستفهام وتخفيف همزة ان على معنى أتذكرون ان يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتّى يحاجّوكم عند ربّكم وقرئ بكسر همزة ان على معنى النّفى (قُلْ) لأهل الكتاب ليس فضل الله بأيديكم حتّى تؤتوه وتمنعوه بحيلكم (إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ) والمراد بالفضل اعمّ من الكتاب والحكمة والرّسالة والنّبوّة والهداية والسّعة في الصّدر والدّنيا (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ) لا نفاد في فضله بايتائه لموسى (ع) وعيسى (ع) وأمّتهما حتّى لا يؤتيه غير هما كما زعمتم وادّعيتم (عَلِيمٌ) بمن كان أهلا لايتائه فكلّما وجد أهلا له أعطاه ولو كرهتموه (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) اى يميز برحمته من يشاء من غيره ولمّا كان الفضل عبارة عن الرّسالة وعن قبولها بالبيعة العامّة النبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة وكان الرّحمة عبارة عن الولاية وعن قبولها بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة أتى في جانب الفضل بالايتاء الدالّ على مطلق الإعطاء لعموم دعوة الرّسالة وعموم قبولها وفي جانب الرّحمة بالاختصاص المشعر بالامتياز والاختيار (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) بحيث لا نفاد في فضله ولا ضنّة له في إعطائه (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : من أهل الكتاب من يحتال بالحيل الشّيطانيّة ومنهم من يكون سالما من الحيل ، ومن أهل الكتاب في مقام الامانة والخيانة (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) الباء التّعدية والقنطار أربعون وقيّة من الذّهب أو الف ومأتا دينار أو ثمانون الف درهم ، أو مائة رطل من الذّهب أو الفضّة ، أو الف دينار أو ملء مسك ثور ذهبا أو فضّة ، أو الف ومأتا وقيّة ، أو سبعون الف دينار والمراد مدح بعضهم بأنّك ان تأمنه بكثير من المال لا يخنه و (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) قيل : المراد بهذا البعض النّصارى (وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ) أصله دنّار بدليل دنانير والمقصود المال القليل يخنه و (لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) اى الّا ما لم تغب عن نظره وقيل : المراد بهذا البعض اليهود والحقّ انّه لا اختصاص لشيء منهما

٢٧٤

بفرقة منهما (ذلِكَ) المذكور من عدم الأداء (بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي) حقّ (الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) يعنى ليس علينا عقوبة في التّقصير في حقوق من ليسوا من أهل الكتاب والمراد بالامّيّين امّا أهل مكّة أو أهل الإسلام لانتسابهم الى محمّد (ص) المبعوث من مكّة ، أو محمّد (ص) الّذى لم يقرأ ولم يكتب ، أو المراد كلّ من لم يكن له كتاب وشريعة وملّة إلهيّة وذلك انّهم استحلّوا ظلم من خالفهم وقالوا : لم يجعل لهم في التّوراة حرمة وعن النّبىّ (ص) انّه لمّا قرأ هذه الآية قال : كذب أعداء الله ما من شيء كان في الجاهليّة الّا وهو تحت قدمي الّا الامانة فانّها مؤدّاة الى البرّ والفاجر (وَيَقُولُونَ) اى يعلّقون بقولهم هذا (عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انّه كذب وهذا تعريض بالامّة وما أحدثوه بعد وفاة الرّسول (ص) من الاختلاف وانكار كلّ فرقة حرمة الاخرى كما هو واقع في زماننا بين المنتحلين للتشيّع والمقرّين بالأئمّة الاثنى عشر حيث يكفّر ويلعن بعضهم بعضا ويستحلّون أموالهم ودماءهم وفروج المحصنات من نسائهم بادّعاء كلّ انّ المخالف لمذهبنا لا حرمة له في نفسه وماله وعرضه (بَلى) عليهم سبيل فانّ الله لا يدع ظلامة العباد (مَنْ أَوْفى) ابتداء كلام تعليل لجملة تضمّنتها بلى يعنى عليهم سبيل لانّ كلّ من اوفى (بِعَهْدِهِ) الّذى عاهده مع نبىّ (ص) أو وصىّ نبىّ (ع) بالبيعة العامّة أو الخاصّة والوفاء بسائر العهود من الوفاء بهذا العهد فانّه مأخوذ فيه (وَاتَّقى) من مخالفة ما عاهد به في بيعته والامانة جزء ما عاهد به سواء كان أمّيّا أو من أهل الكتاب (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بعلّة الحكم فكأنّه قال : فانّ الله يحبّه والمحبّ ينتقم ممّن ظلم محبوبه ويجوز ان يكون بلى تقريرا لسابقه على مرجوحيّة ويكون المعنى : بلى لا سبيل على المؤمن المعاهد بشرط الوفاء بالعهد واتّقاء مخالفة ما وصف في عهده لانّ من اوفى بعهده واتّقى المخالفة صار محبوبا لله والمحبوب لا يناله مكروه من المحبّ ولا يؤاخذه المحبّ على ما فرط منه بالنّسبة الى عدوّه (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ) كان اقتضاء المقابلة ان يقال : ومن لم يوف بعهده ولم يتّق فانّ الله يبغضهم لكنّه أبرزه في صورة الجواب لسؤال مقدّر ليكون أوقع ، واكّده بمؤكّدات وبسط في الكلام لاقتضاء مقام السّخط ذلك فكأنّه قيل : قد علم حال الوافي بالعهد المتّقى فما حال هؤلاء النّاقضين النّاكثين؟ ـ فقال : انّ الّذين يشترون (بِعَهْدِ اللهِ) الّذى عاهدوه في البيعة (وَأَيْمانِهِمْ) جمع اليمين بمعنى القسم وانّما سمّى يمينا لانّهم كانوا حين الحلف يعقدونه بايمانهم ، أو المراد عقود البيعة فانّ البيعة لا تعقد الّا بالايمان (ثَمَناً قَلِيلاً) من اعراض الدّنيا وأغراضها فانّ الدّنيا برمّتها ثمن بخس عند من يرتضيها ، وامّا من كان متوجّها الى الآخرة متلذّذا بلذائذها فهو نافر منها كلّ النفرة منزجر عنها كلّ الانزجار ، وان توقّف عليها بأمر من الله كان كمن حبس في مزبلة كثيرة الحشرات خبيثة الموذيات (أُولئِكَ) تكرار المبتدأ باسم الاشارة البعيدة للتّأكيد وللاحضار بالأوصاف الذّميمة وللتبعيد عن ساحة الحضور (لا خَلاقَ لَهُمْ) لا نصيب لهم (فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) عدم التّكليم وعدم النّظر كناية عن سخطه تعالى عليهم (وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يثنى عليهم ولا يذكرهم بخير ، أو لا يطهّرهم من ذنوبهم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) اثبت العذاب الأليم بعد ما نفى الأوصاف الّتى فيها تشريف بترتيب الأشرف فالادون عنهم ، نسب الى النّبىّ (ص) انّه من حلف على يمين يقطع بها مال أخيه لقى الله عزوجل وهو عليه غضبان فأنزل الله تصديقه في كتابه ، (إِنَّ الَّذِينَ

٢٧٥

يَشْتَرُونَ) ؛ الآية (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) عطف على قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ) وأتى بأداتى التّأكيد في المعطوف لأنّه أبلغ في الّذمّ ويتطرّق الشّكّ والإنكار فيه ، ولواه فتله وثناه ، ويشبه ان يكون الكلام على القلب والتّقدير يلوون الكتاب بألسنتهم ومثل هذا القلب كثير ، أو هو على الأصل بناء على تشبيه اللّسان بالمفتول والكتاب بآلة الفتل ، أو على كون المعنى يحرّكون ألسنتهم بالكتاب ، والمقصود انّهم يحرّفون الكتاب بحسب اللّفظ بالزّيادة والنّقيصة والتّبديل ، وبحسب المعنى بالتّغيير عن معناه والحمل على المعنى الغير المراد ، أو المعنى يفتلون الكتاب بألسنتهم لا بلسان الله أو يحرّكون ألسنتهم لا لسان الله بالكتاب (لِتَحْسَبُوهُ) اى الّذى جرى على ألسنتهم (مِنَ الْكِتابِ) لتشابهه صورة بما في الكتاب يعنى أنّهم بآرائهم وانانيّاتهم يقرؤن شيئا من التّوراة والإنجيل ، أو يذكرون شيئا من أحكام شريعة موسى (ع) وعيسى (ع) بناء على عدم اختصاص الكتاب بصورة التّوراة والإنجيل لتحسبوا المقروّ أو المذكور ايّها السّامعون من التّوراة والإنجيل ، أو من الشّريعتين.

تحقيق التواء الكتاب باللّسان المضاف الى النّفس

(وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) لانّ الكتاب هو الّذى يجرى على لسان صار لسان الله لخلوّ صاحبه من نسبة الوجود الى نفسه وصيرورته وصيرورة أعضائه الات الله ، وهذا المقرّو وان كان بصورة الكتاب لكنّه جار على لسان لا نسبة بينه وبين الله ، ونقوش الكتاب وحروفه وان كانت كلّيّة لا اختصاص لها بنقش كتاب مخصوص ولا بحرف لسان مخصوص لكن شرط صدق الكتاب عليها ان تكون صادرة عن يد منتسبة الى الله ، أو لسان منسوب اليه كأيدى الأنبياء (ع) وألسنتهم ، غاية الأمر ان يكون نسبة التّابع أضعف من نسبة النّبىّ (ص) المتبوع ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) يعنى لا بيد الله ثمّ يقولون (هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ؛) الآية ، وللاشارة الى انّه ينبغي ان يكون لسان العبد حين القراءة وكذلك يده حين الكتابة لسان الله ويده امر الله تعالى عباده بتلاوة القرآن وامر المعصومون ان يقولوا : لبّيك اللهمّ لبّيك ؛ عند قوله: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ،) وان يقولوا كذلك الله ربّى ؛ عند قراءة التّوحيد ، وان يسبّحوا ويحمدوا ويستغفروا الله ؛ عند قراءة إذا جاء نصر الله ، وأمثال ذلك ممّا يدل على انّه ينبغي ان يفرض لسان القارى لسان الله ثمّ عومل مع المقروّ نحو معاملة مقروّ الله كثيرة (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) بل هو من عند أنفسهم ومن عند الشّيطان (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) بهذا القول (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انّه كذب ، أو هم المعدودون من العلماء ، أو المعنى يقولون على الله الكذب غير ما يفتلونه بألسنتهم وهم يعلمون انّه كذب (ما كانَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يجوز لنبىّ (ص) ان يدعو النّاس الى نفسه؟ ـ أو هو جواب لسؤال كان مذكورا ولم يحك لنا على ما قيل : انّ أبا رافع القرظىّ والسيّد النجرانىّ قالا : يا محمّد (ص) أتريد ان نعبدك ونتّخذك ربّا؟ ـ فقال : معاذ الله ان نعبد غير الله وان نأمر بعبادة غير الله فما بذلك بعثني ، ولا بذلك أمرنى ، فنزل ما كان اى ما صحّ (لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ) والمراد بالكتاب الرّسالة وأحكامها والكتاب التّدوينىّ صورتها وبالحكم الولاية وآثارها والنّبوّة برزخ بينهما ولذلك أخّرها (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي) لانّه ما لم يخرج من انانيّته ولم يحي بانانيّة الله ولم يبق بالله لم يؤت الكتاب ، وإذا خرج من انانيّته لم يكن له نفسيّة حتّى يقول : كونوا عبادا لي

٢٧٦

(مِنْ دُونِ اللهِ) بل ان قال (كُونُوا عِباداً لِي) كان قوله متّحدا مع قوله كونوا عبادا لله فانّه ان قال أنا كان أناه من الحق جاريا على لسانه لا من نفسه كما أشار اليه المولوىّ قدس‌سره :

گفت فرعونى انا الحق گشت پست

گفت منصورى انا الحق وبرست

اين انا هو بود در سرّ اى فضول

ز اتّحاد نور نز راه حلول

بود انا الحق در لب منصور نور

بود انا الله در لب فرعون زور

آن انا بى وقت گفتن لعنت است

وين انا در وقت گفتن رحمت است

وكما انّه لا يجوز الدّعوة الى نفسه لمن بقي عليه من انانيّته شيء كذلك لا يجوز ذلك إذا كان المدعوّ محجوبا عن مشاهدة الحقّ تعالى في المظاهر فانّ المحجوب إذا دعا الى المظاهر كان اضلالا ودعوة الى عبادة الاسم دون المعنى ، ولهذا طرد الصّادق (ع) أبا الخطّاب بعد ما كان يدعوا المريدين ممّن لا يرى الله في المظاهر الى الهة الصّادق (ع) ، وإذا خرج الدّاعى من انانيّته وبقي بانانيّة الله كان الدّاعى هو الله لانّ الدّعوة كانت من الله بآلة لسان الدّاعى وإذا كان المدعوّ أيضا لا يرى في مظهر النّبىّ (ص) الّا الله كان النّبىّ (ص) اسما محضا من غير شوب كونه مسمّى ، فاذا دعا هذا الدّاعى الى نفسه كان دعاؤه الى الله وإذا لم ير المدعوّ في مظهر الدّاعى الّا الله لم يكن توجّهه الّا الى المسمّى لا الاسم فلم يكن عبادته الّا للمسمّى بإيقاع الاسم عليه ، وبهذا الوجه قيل بالفارسيّة :

اگر كافر ز بت آگاه بودى

چرا در دين خود گمراه بودى

اگر مؤمن بدانستى كه بت چيست

يقين كردى كه دين در بت پرستى ست

(وَلكِنْ) يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) هو منسوب الى الرّبّ بزيادة الالف والنّون وهذه الزّيادة تدلّ على المبالغة في النّسبة الى الربّ ، والمبالغ في الانتساب الى الرّبّ من لا يرى في المظاهر الّا الربّ وخصوصا في المظاهر الفانية من أنفسهم فلا يرى للدّاعى نفسيّة حتّى يكون دعوة الى نفسه فيقول النّبىّ (ص): كونوا خارجين عن حجب انانيّاتكم حتّى تروا الله في كلّ المظاهر (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) يعنى كونوا تعلّمون الكتاب وتدرسونه حتّى تكونوا ربّانيّين بما كنتم تعلّمون الكتاب أمثالكم على قراءة تشديد اللّام (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) اى تقرؤن الكتاب على قراءة تخفيف الرّاء لانّ الاشتغال بالكتب السّماويّة والتّدبّر في الشّرائع الإلهيّة وتذكّرها يخرجكم تدريجا من ظلمات انانيّاتكم ويدخلكم في نور ظهور عبوديّتكم وبروز ربوبيّتكم وقرء تعلمون بتخفيف اللام وتدرسون من باب التّفعيل أو الأفعال (وَلا يَأْمُرَكُمْ) ايّها النّاقصون المؤتمّون قرء بالرّفع وحينئذ فالفاعل امّا راجع الى الله والجملة عطف على ما كان لبشر فانّه في معنى لا يأمر الله بشرا ان يدعو النّاس الى عبادته ، أو حال بتقدير مبتدء لعدم جواز الواو في المضارع المنفي بلا ، أو راجع الى بشر بالوجهين السّابقين في اعرابه ، وقرئ بالنّصب والفاعل أيضا امّا راجع الى الله فيكون الواو بمعنى مع ، أو الى بشر فيكون الفعل عطفا على يقول ، ولفظة لا زائدة لتأكيد النفي السّابق ، أو يكون الواو بمعنى مع اى مع ان لا يأمركم والمقصود انّ الله لا يأمر الأنبياء ان يدعوا النّاس بعبادتهم ولا يأمر العباد ان يعبدوا الأنبياء والملائكة تعريضا بالنّصارى واليهود في عبادة عيسى (ع) وعزير وبعبادة الملائكة فلا يأمركم (أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) لمّا كان الخطاب للأمم النّاقصين الّذين لا يرون من المظاهر الّا المظاهر ولا يتمكّنون من رؤية الله في المظاهر لم يأت بقيد من دون الله لعدم الاحتياج الى ذكره ، أو ترك ذكره بقرينة السّابق وبقرينة قوله تعالى : (أَيَأْمُرُكُمْ

٢٧٧

بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) بقبول النبوّة من الأنبياء والبيعة معهم بالبيعة العامّة النبويّة (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ) اذكر أو ذكّرهم ويجوز ان يكون إذ هذه عطفا على إذ في قوله (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) والمعنى أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون منقادون وبعد إذ أخذ الله (مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) ميثاق كلّ على يد النّبىّ السّابق أو وصيّه أو في عالم الذّرّ على ايمان كلّ بالآخر أو على ايمان الكلّ بمحمّد (ص) أو بعد إذ أخذ الله ميثاق أمم النّبيّين على أيدي أنبيائهم أو في عالم الّذرّ على ان يؤمن كلّ أمّة بالنّبىّ الّذى يأتى بعد نبيّهم أو بمحمّد (ص) ان أدركوا زمانه (ص) يعنى انّه أخذ ميثاق كلّ من الأنبياء على الايمان والنّصرة لمن يأتى بعده أو لمحمّد (ص) وكذلك أممهم فكيف يأمر الأنبياء بالاستقلال والرّبوبيّة والأمم باتّخاذهم أربابا وقد أشير الى كلّ من المعاني في الاخبار وقيل : (إِذْ أَخَذَ اللهُ) عطف على قوله (إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ) وهو في غاية البعد ولو قال هو عطف على قوله (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى) كان أقرب ، والميثاق العهد الّذى يثق المتعاهد به شبه العهد بالرّهن ثمّ استعمل الأخذ استعارة تخييليّة وترشيحا للاستعارة (لَما آتَيْتُكُمْ) كان حقّه ان يقول : لما آتاهم لكنّه أتى بالتكلّم والخطاب حكاية لحال الخطاب (مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) قرئ بكسر اللّام صلة للاخذ وما مصدريّة أو موصولة وإذا كانت موصولة فالعائد محذوف من الصّلة والعائد في الجملة المعطوفة تكرار الموصول اعنى لما معكم ، ولفظة من تبعيضيّة على تقدير كون ما مصدريّة ، وبيانيّة على تقدير كونها موصولة ، وقرئ بفتح اللّام فاللّام تكون موطّئة وما شرطيّة أو موصولة ، وإذا كانت موصولة فالعائد مثل السّابق ، والمراد بالكتاب أحكام الرّسالة والكتاب التّدوينىّ صورتها وبالحكمة آثار الولاية (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) من الكتاب والأحكام القالبيّة والحكمة الّتى هي العقائد الحقّة الدّقيقة الّتى لا تدرك الّا بالمشاهدة بعين البصيرة (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) اللّام للقسم والجملة منقطعة عن سابقها على قراءة كسر لام لما آتيتكم وتكون بمنزلة جواب القسم لقوله : (إِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) فانّه بمنزلة القسم وهي خبر لما على قراءة فتح اللّام وكون ما موصولة وجواب للقسم والشّرط على تقدير كون ما شرطيّة ، والضّمير المجرور راجع الى ما فيما آتيتكم ، أو الى محمّد (ص) أو الى نبىّ يأتى بعد النّبىّ الاوّل يعنى أخذ الله ميثاق كلّ نبىّ لمن يأتى بعده أو الى نبىّ كلّ أمّة على ان يكون التّقدير أخذ الله ميثاق أمم النّبيّين من كلّ أمّة لنبيّها وقد نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء (ع) قبل نبيّنا (ص) ان يخبروا أممهم بمبعثه ونعته ويبشّروهم به ويأمروهم بتصديقه ونقل : انّ الله أخذ الميثاق على الأنبياء على الاوّل والآخر فأخذ الله ميثاق الاوّل لتؤمننّ بما جاء به الآخر ، وعن الصّادق (ع) انّه قال تقديره : إذ أخذ الله ميثاق أمم النّبيّين كلّ أمّة بتصديق نبيّها والعمل بما جاءهم به وانّهم خالفوهم ممّا بعد وما وفوا به وتركوا كثيرا من شريعته وحرّفوا كثيرا منها (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الضّمير المفعول راجع الى مرجع الضّمير المجرور السّابق ، أو الى أمير المؤمنين (ع) على ما روى عنهم فانّه نسب الى الصّادق (ع) انّه قال : ما بعث الله نبيّا من لدن آدم فهلمّ جرّا الّا ويرجع الى الدّنيا وينصر أمير المؤمنين (ع) وهو قوله (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) يعنى أمير المؤمنين (ع) ، وعن الباقر (ع) عن أمير المؤمنين (ع) في حديث طويل يبيّن كيفيّة خلقهم انّه قال : وأخذ ميثاق الأنبياء بالايمان والنّصرة لنا وذلك قوله عزوجل : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) يعنى لتؤمننّ

٢٧٨

بمحمّد (ص) ولتنصرنّ وصيّه وسينصرونه جميعا وانّ الله أخذ ميثاقي مع ميثاق محمّد (ص) بنصرة بعضنا لبعض فقد نصرت محمّدا وجاهدت بين يديه وقتلت عدوّه ووفيت لله بما أخذ علىّ من الميثاق والعهد والنّصرة لمحمّد (ص) ولم ينصرني أحد من أنبياء الله ورسله وذلك لما قبضهم الله اليه وسوف ينصرونني ويكون لي ما بين مشرقها الى مغربها وليبعثهم الله احياء من آدم (ع) الى محمّد (ص) كلّ نبىّ مرسل يضربون بين يدىّ بالسّيف هام الأموات والأحياء والثّقلين جميعا (الى آخر الحديث بطوله) (قالَ) الله (أَأَقْرَرْتُمْ) ايّها الأنبياء أو ايّها الأنبياء مع الأمم أو ايّتها الأمم (وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) الإصر بالكسر وقد يضمّ ويفتح العهد والذّنب والثّقل والمراد به العهد (قالُوا) اى الأنبياء أو الأنبياء وأممهم أو الأمم (أَقْرَرْنا قالَ) الله للملائكة (فَاشْهَدُوا) على الأنبياء وأممهم أو قال الله للأنبياء فاشهدوا على أممكم (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عن الصّادق (ع) قال لهم في الذّرّ : (أَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) اى عهدي؟ ـ قالوا أقررنا ، قال الله للملائكة فاشهدوا ، وعن أمير المؤمنين (ع) قال الله للأنبياء فاشهدوا على أممكم (فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) الميثاق عن نبيّه وشريعته ووصيّته في حقّ محمّد (ص) ووصيّه أو فمن تولّى منكم ايّها الحاضرون عن الايمان بمحمّد (ص) بعد ذلك الميثاق أو بعد ما ذكر من ميثاق الأنبياء على الايمان بمحمّد (ص) وهو عطف على فاشهدوا ليكون محكيّا بالقول ، أو عطف على قال ليكون ابتداء كلام مع الموجودين ، أو هو جزاء شرط محذوف اى إذا علمتم ذلك فمن تولّى بعد ذلك (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون عن عهد الله وميثاقه (أَ) لا يؤمنون بمحمّد (ص) بعد ما تذكّروا انّ الله أخذ ميثاق جميع الأنبياء على الايمان به وأخذ الأنبياء ميثاق أممهم عليه وبعد ما علموا انّ دين الله هو الايمان بمحمّد (ص) (فَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَ) الحال انّه (اللهِ) اى لله أو لمحمّد (ص) (أَسْلَمَ) انقاد (مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) في عالم الذّرّ أو بحسب التّكوين أو له أسلم بحسب التّكليف من في السّماوات تماما ومن في الأرض صفوتهم وخلاصتهم الّذين هم المقصودون العاقلون ، وامّا غيرهم فسواقط معدودون في عداد البهائم ، أوله أسلم من في الأرض تماما حين ظهور الدّولة الحقّة بظهور القائم عجّل الله فرجه ، أوله أسلم من في الأرض في الدّنيا قبل الموت ، أو حين الموت والتّعبير بالماضىّ لتحقّق وقوعه (طَوْعاً وَكَرْهاً) الإسلام طوعا وكرها فرقا من السّيف بحسب التّكليف ظاهر ، وامّا بحسب التّكوين فانقياد أجسام المواليد واتّحادها مع طبائعها ونفوسها ليس إلا قسرا وكرها والكره في عالم الذّرّ يكون بحسبه ، عن الصّادق (ع) انّ إسلامهم هو توحيدهم الله عزوجل وهو اشارة الى إسلامهم التّكوينىّ أو إقرارهم في عالم الذّرّ وفي خبر آخر عنه (ع) انّ معناه أكرم أقوام على الإسلام وجاء أقوام طائعين قال كرها اى فرقا من السّيف وهو اشارة الى الإسلام التّكليفىّ وعنه (ع) انّها نزلت في القائم وفي رواية تلاها فقال : إذا قام القائم لا يبقى ارض الّا نودي فيها شهادة ان لا اله الّا الله ، وانّ محمّد (ص) رسول الله (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) يعنى انّ إسلامهم عبارة عن إقرارهم بأنّه تعالى خالقهم ومبدئهم ورجوع الكلّ يكون اليه فلا ينبغي ان يبغوا غير دين من يكون مبدئهم ومعادهم (قُلْ) يا محمّد (ص) على سبيل المتاركة بعد ما أتممت لهم الحجّة من قبل نفسك وأمّتك نحن : (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى

٢٧٩

وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) يعنى نحن آمنّا وأسلمنا فأنتم ان شئتم أسلمتم وان شئتم لم تسلموا (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ) المذكور فيكون اللّام للعهد الذّكرىّ أو غير دين الإسلام فيكون اللّام للعهد الذّهنىّ (دِيناً) ملّة أو طريقا الى آخرته (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ابتغاؤه وجهده (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) حيث أنفق بضاعته من القوى والمدارك وأنفد عمره في طلب ما لا ينفعه بل يضرّه.

تحقيق أصناف النّاس بحسب طلب الدّين والبقاء عليه والارتداد منه

اعلم انّه تعالى أشار في هذه الآيات الى أقسام النّاس التسعة بالمنطوق والمفهوم لانّ الإنسان امّا طالب لدين أو غير طالب ، والطّالب امّا يبتغى الإسلام دينا فجهده مقبول وهو من الرّابحين وهو مفهوم مخالفة من يبتغ غير الإسلام دينا وامّا يبتغى غير الإسلام دينا وهو منطوقه ، وغير الطّالب امّا داخل في الإسلام أو غير داخل سواء كان داخلا في دين وملّة اخرى أو كان واقفا في جهنّام الطّبع ، وغير الدّاخل في دين الإسلام كافر وهو امّا يموت على الإسلام حين ظهور الولاية عليه حال الاحتضار أو على الكفر وقد أشار إليهما بمنطوق قوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) وبمفهومه ، والدّاخل في الإسلام امّا يرتدّ عن ملّة الإسلام أو يبقى عليها من غير ازدياد فيها ، والمرتدّ الملّىّ امّا يتوب أو يبقى على ارتداده من غير ازدياد فيه ومن غير انجراره الى الارتداد الفطرىّ ، وقد أشار الى هذه الثّلاثة بمنطوق قوله (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) الى قوله (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ومفهومه وقد أشار الى الباقي على الارتداد مع انجراره الى الارتداد الفطرىّ الّذى لا توبة له ، والى الباقي على الإسلام مع ازدياده وانجراره الى الايمان بمراتبه بقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) الى آخر الآية بمنطوقه ومفهومه.

واعلم أيضا انّ الإنسان له اتّصال بالأرواح الطيّبة وآبائه العلويّة بحسب الفطرة والخلقة وهذا الاتّصال يورث استعداده للارتقاء الى أوائل علله وهذا هو الحبل من الله المذكور في الكتاب وهو الفطرة الّتى فطر الله النّاس عليها فان اتّصل مع ذلك بخلفاء الله بالبيعة العامّة أو الخاصّة صار مسلما أو مؤمنا ويعبّر عن هذا الاتّصال والدّخول تحت الأحكام الإلهيّة القالبيّة أو القلبيّة بالإسلام والايمان والملّة والدّين ، وهذا الاتّصال هو الحبل من النّاس المذكور في الكتاب ، والمتّصل بهذا الاتّصال ان ارتدّ عن هذا الاتّصال وقطع هذا الاتّصال بإنكار الله أو خلفائه أو احكامه ولم يؤدّ ارتداده الى قطع الفطرة صار مرتدّا ملّيّا بمعنى انّه ارتدّ عن الملّة وقطع الحبل من النّاس لا عن الفطرة وهذا المرتدّ لبقاء الحبل من الله وعدم قطع الفطرة ان تاب يقبل توبته لبقاء استعداده للاتّصال ثانيا والارتقاء الى الأرواح وهذا هو المرتدّ الملّىّ ، وان ارتدّ وزاد في ارتداده حتّى ينجرّ الى قطع الفطرة وابطالها وقطع الحبل من الله صار مرتدّا فطريّا لارتداده عن الاتّصال الفطرىّ ، وهذا المرتدّ لبطلان فطرته واتّصاله الّذى كان سبب استعداده للاتّصال التّكليفىّ لا يقبل توبته ولذا قيل بالفارسيّة : «مردود شيخي را اگر تمام مشايخ عالم جمع شوند وخواهند إصلاح نمايند نتوانند» ، وما ورد في الاخبار وأفتى الفقهاء رضوان الله عليهم به من الاشارة الى انّ المرتدّ الملّىّ من ولد على الكفر ونشأ عليه ثمّ دخل في الإسلام ثمّ ارتدّ منه ، والمرتدّ الفطرىّ من ولد على الإسلام ونشأ عليه ثمّ دخل فيه ثمّ ارتدّ منه ، اشارة الى انّهما كاشفان من الارتدادين فانّ المتولّد على الإسلام والناشئ عليه الدّاخل فيه لكون إسلامه كالذاتيّات قلّما يخرج منه ما لم يقطع الفطرة ، والمتولّد على الكفر النّاشئ عليه الدّاخل في الإسلام لكون إسلامه مثل العرضيّات كثيرا ما يخرج من الإسلام من غير ابطال الفطرة وحينئذ لا حاجة لنا الى تكلّف قبول توبة المرتدّ الفطرىّ باطنا وعدم قبوله ظاهرا ؛ إذا عرفت ذلك فقوله

٢٨٠