تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

وامنع لمكر الماكرين (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) نهى محتمل لبناء الفاعل ولبناء المفعول والمعنى لا يضرّ الكاتب ولا الشّهيد بالدّائن ولا بالمديون أو لا يضرّ الدّائن ولا المديون بالكاتب والشّهيد حين الدّعاء للكتابة أو تحمّل الشّهادة أو أدائها بتعطيل وقت الكتاب والشّهود عن معيشتهم من غير جعل وعلى هذا لم يكن الجعالة على الكتابة والشّهادة إذا كانتا ممّا يستحقّا عليهما جعالة حراما ، أو بتعطيل أيديهم عن أشغالهم الّتى يتضرّرون بتركها (وَإِنْ تَفْعَلُوا) المضارّة عوقبتم (فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) في المضارّة أو في جملة أوامره ونواهيه (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) أمثال هذه الواو ممّا لا يمكن جعلها واو العطف لعدم ما تعطف عليه في الكلام ؛ أو لعدم ارادة معنى العطف منها ، ولا جعلها بمعنى مع لعدم انتصاب المضارع بعدها جعلوها واو الاستيناف مثل (لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ،) ومثل لا تأكل السّمك وتشرب اللّبن ، على رفع تشرب والمقصود من جعلها للاستيناف انّها ليست من حيث اللّفظ مرتبطة بسابقتها لا انّها من حيث المعنى منقطعة عمّا قبلها فانّ المعنى في مثل لا تأكل السّمك وتشرب اللّبن على النّهى عن الجمع بين أكل السّمك وشرب اللّبن سواء كان تشرب بالرّفع أو بالنّصب وهذا المعنى لا يستفاد الّا إذا كانت الواو بمعنى مع لكن لم يقدّر بعدها ان إذا كان ما بعدها مرفوعا كما يقدّر في صورة النّصب ومثلها الواو هاهنا فانّ هذه العبارة تفيد ترتّب العلم على التّقوى سواء قيل اتّقوا الله يعلّمكم الله أم ويعلّمكم الله بالنّصب أو بالرّفع فالواو تفيد هاهنا معنى المعيّة الّتى هي نحو معيّة الغاية للمغيّا ، ولمّا لم يكن ما بعدها منصوبا على نحو الواو الّتى بمعنى مع قالوا انّها للاستيناف مثل حتّى الدّاخلة على المضارع المرفوع فانّه يقال انّها للاستيناف مع انّها مربوطة بما قبلها ، ولمّا كان التّقوى بجميع مراتبها إدبارا عن النّفس الّتى هي معدن الجهل وإقبالا على العقل الّذى هو باب العلم كانت مستلزمة للعلم وازدياده كما في قوله تعالى : (إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) وقوله : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ)(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم منكم المضارّة والتّقوى ؛ ترهيب وترغيب ، قيل في سورة البقرة خمسمائة حكم ، وفي هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) يعنى حين التّداين (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يكتب لكم وثيقة (فَرِهانٌ) فالوثيقة رهان أو يقدّر ما يناسب المقام مثل المأخوذ ومثله وقرئ رهن بضمّتين ورهن بضمّ الرّاء وإسكان العين والجميع جمع الرهن (مَقْبُوضَةٌ) وقد اتّفق الاماميّون على انّ شرط اللّزوم في الرّهن القبض (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) في السّفر أو مطلقا في التّداين بترك الكتابة وترك الرّهان أو في إعطاء الرّهان أو في مطلق الأمانات (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ) اى المديون أو مطلق الأمين (أَمانَتَهُ) دينه سمّاه امانة لائتمان الدّائن المديون عليه أو مطلق الامانة (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في الخيانة والخديعة (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) خاطب الشّهود (وَمَنْ يَكْتُمْها) من غير داع شرعىّ مبيح لكتمانها (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) وفي نسبة الإثم الى القلب مبالغة في الإثم فانّ الإثم من النّفس يظهر على الأعضاء وامّا القلب المقابل للنّفس فانّه بريء من الإثم ، والقلب بمعنى النّفس وان كان منشأ للاثم لكن لا ينسب الإثم اليه بل الى الشّخص أو الى أعضائه ، وفي نسبته الى القلب إيهام انّ الإثم سرى من أعضائه الى نفسه ، ومنها الى قلبه البريء من الإثم ، وعن النّبىّ (ص) انّه نهى عن كتمان الشّهادة وقال : من كتمها أطعمه الله لحمه على رؤس الخلائق وهو قول الله عزوجل : ولا تكتموا الشّهادة ومن

٢٤١

يكتمها فانّه آثم قلبه (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من أداء الامانة والخيانة فيها وأداء الشّهادة وكتمانها (عَلِيمٌ) وعد ووعيد (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) مستأنف في مقام التّعليل لاحاطة علمه (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) ومنه إبداء الشّهادة ولكن لا اختصاص له بها بل يجرى في كلّ ما في النّفوس من العقائد والنيّات والإرادات بل يجرى بوجه في مكمونات النّفوس الّتى لا شعور لصاحبها بها وإبداء تلك المكمونات بظهورها على صاحبها وشعورهم بها (أَوْ تُخْفُوهُ) ومنه كتمان الشّهادة ويجرى في كلّ خطرة وخيال ونيّة وارادة وشأن بل في المكمونات الّتى لا شعور لصاحبيها بها ممّا بقي في النّفوس قواها واستعداداتها ولم تصر بالفعل بعد حتّى يستشعر بها صاحبوها فانّها بمضمون (أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) و (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) يوم القيامة يظهر جميع المكمونات ولا يعزب عنه تعالى شيء منها (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) وما ورد في الاخبار من عدم المؤاخذة على عزم المعاصي أو على الخطرات أو على الوسوسة انّما هو بحسب المؤاخذة الدّنيويّة والعقوبات الاخرويّة ولا ينافي ذلك المحاسبة وعدم ارتفاع الدّرجة ، وما ورد في جواب من ذكر الخطرات من عدم استواء ريح الطيّب وريح المنتن يدلّ على انّ فيها محاسبة ما ، وعن رسول الله (ص): وضع عن أمّتي تسع خصال : الخطاء ، والنّسيان ، وما لا يعلمون ، وما يطيقون ، وما اضطرّوا اليه ، وما استكرهوا عليه ، والطّيرة ، والوسوسة في التفكّر في الخلق ، والحسد ما لم يظهر بلسان أو يد (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) قرئ بالرّفع وبالجزم مع الفاء وبدونه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ آمَنَ الرَّسُولُ) ابتداء كلام بل ابتداء آية منقطعة عمّا قبلها كما سيجيء (بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) وهذا تبجيل وتنصيص من الله على محمّد (ص) بإيمانه (وَالْمُؤْمِنُونَ) عطف على الرّسول أو ابتداء كلام كما سيجيء (كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ) من المقرّبين والصّافّات صفا والمدبّرات امرا واولى الاجنحة والرّكّع والسّجّد ارضيّين كانوا أم سماويّين (وَكُتُبِهِ) من الكتاب المبين والكتاب المبين والكتاب المحفوظ وكتاب المحو والإثبات العلمىّ والعينىّ (وَرُسُلِهِ) من الملائكة ومن البشر في الكبير والصّغير (لا نُفَرِّقُ) اى قائلين وقرئ لا يفرّق بالياء حملا على لفظ كلّ ولا يفرقّون حملا على معناه (بَيْنَ أَحَدٍ) اضافة بين الى أحد امّا لعمومه لوقوعه في سياق النّفى أو لتقدير غيره معه اى بين أحد وغيره (مِنْ رُسُلِهِ) والمقصود عدم التّفريق في التّصديق لا في التّفصيل (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ) اغفر أو نطلب غفرانك (رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) إظهار لإقرارهم بالمعاد بعد إظهار إقرارهم بالمبدأ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً) بشيء من تكاليف المعاد والمعاش والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : هل يخرجون من عهدة التّكليف بعد ما قالوا سمعنا وأطعنا؟ ـ فقال : لا يكلف الله نفسا (إِلَّا وُسْعَها) حتّى لا يخرجوا من عهدته ويجوز ان تكون الجملة حالا مفيدة لهذا المعنى والمراد بالوسع ما يسعه قدرتهم وتفضل هي عنه (لَها ما كَسَبَتْ) حال أو جواب لسؤال مقدّر (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) يعنى انّ نفع حسناتها عائدة إليها لا الى غيرها وكذا ضرّ سيّئاتها ، وكسب المال بمعنى اصابه من غير اعتبار تعمّل في تحصيله بخلاف اكتسب فانّ المعتبر فيه التعمّل والاجتهاد واستعمال الكسب في الطّاعات والمعاصي للاشارة الى انّ الحركات الصّادرة من الإنسان بوفاق الأمر الإلهيّ وبخلافه مورثة لحصول شؤن نورانيّة أو ظلمانيّة للنّفس

٢٤٢

هي كالاموال الحاصلة بالحركات المعاشيّة واستعمال الكسب في جانب الخير للاشعار بانّ الإنسان لمّا كانت فطرته فطرة الخير كان كلّما يحصل له من طريق الخير يبقى للنّفس والنّفس إذا خليّت وطبعها لا تتعمّل في كسب الخير بخلاف الشّرّ فانّه إذا لم يتعمّل الإنسان في تحصيله لم يبق اثره لنفسه وانّ النّفس إذا خليّت وطبعها لا تحصل الشّرّ الّا بالتعمّل (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) جزء مقول المؤمنين وقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ ؛) كانت معترضة (إِنْ نَسِينا) شيئا من المأمور بها (أَوْ أَخْطَأْنا) في شيء من المنهيّات ، والخطاء كالنّسيان يكون في الفعل الّذى لم يكن الفاعل على عزيمة فيه (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) الإصر بالكسر العهد والذنب والثقل وقد يضمّ ويفتح في الكلّ والمراد به هنا الثّقل أو الحمل الثّقيل وحمل الإصر من الله عبارة عن التّكاليف الشاقّة الّتى كانت في الأمم السّالفة كما سيأتى وعن الواردات الّتى كان تحمّلها شاقّا مثل الواردات الّتى كانت في بنى إسرائيل على ما روى انّ القبطي كانوا يقيّدونهم بالاغلال ثمّ يكلّفونهم نقل الطّين واللّبن على السّلاليم ، وعن الواردات النّفسانيّة الّتى كان تحمّلها شاقّا قبل الإسلام والايمان من مهيّجات الغضب والشّهوة ومن المصائب الواردة (كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) من الأمم السّالفة والجنود النّفسانيّة (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) من التّكاليف والبلايا الّتى هي فوق الطّاقة ، ووجه استعمال التّحميل الدّالّ على المبالغة هاهنا والحمل الدّالّ على مطلق الحمل هناك يستفاد من مفعولهما (وَاعْفُ عَنَّا) عفى عنه ذنبه ترك العقوبة عليه أو طهّر القلب من الحقد عليه ، وقد يستعمل العفو في المحو والإمحاء (وَاغْفِرْ لَنا) واستر ذنوبنا عن خلقك أو عن أنفسنا لانتفاعنا (وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا) تعليل واستعطاف (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) من الشّياطين الانسيّة والجنّية في خارج وجودنا أو داخله فانّه حقيق على المولى ان ينصر مواليه على أعدائه. وفي الاخبار انّ هذه الآية مشافهة الله لنبيّه (ص) حين أسرى به الى السّماء فأوحى الى عبده ما اوحى فكان فيما اوحى اليه هذه الآية : (لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وكانت الآية قد عرضت على الأنبياء من لدن آدم (ع) الى ان بعث الله تبارك اسمه محمّد (ص) وعرضت على الأمم فأبوا ان يقبلوها من ثقلها وقبلها رسول الله (ص) وعرضها على أمّته فقبلوها فلمّا رأى الله عزوجل منهم القبول على انّهم لا يطيقونها فلمّا ان سار الى ساق العرش كرّر عليه الكلام ليفهمه فقال (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ) فأجاب مجيبا عنه وعن أمّته فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ، فقال جلّ ذكره لهم الجنّة والمغفرة على ان فعلوا ذلك ، فقال النّبىّ (ص) امّا إذا فعلت ذلك بنا فغفر انك ربّنا وإليك المصير يعنى المرجع في الآخرة ، قال فأجابه الله عزوجل وقد فعلت ذلك بك وبامّتك ، ثمّ قال عزوجل امّا إذا قبلت الآية بتشديدها وعظم ما فيها وقد عرضتها على الأمم فأبوا ان يقبلوها وقبلها أمّتك فحقّ علىّ ان ارفعها عن أمّتك ، وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ) من خير (وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) من شرّ فقال النّبىّ (ص) لمّا سمع ذلك امّا إذا فعلت ذلك بى وبأمّتى فزدني ، قال : سل ، قال : (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) قال الله تعالى : لست أؤاخذ أمّتك بالنّسيان والخطاء لكرامة منك علىّ ، وكانت الأمم السّالفة إذا نسوا ما ذكّروا به فتحت عليهم أبواب العذاب وقد رفعت ذلك عن أمّتك ، وكانت الأمم السّالفة إذا أخطئوا أخذوا بالخطاء وعوقبوا عليه ؛ وقد رفعت ذلك عن أمّتك لكرامتك علىّ فقال النّبىّ (ص) :

٢٤٣

اللهم إذا أعطيتني ذلك فزدني فقال الله تعالى له سل ، قال : (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) يعنى بالإصر الشّدائد الّتى كانت على من كان قبلنا فأجابه الله تعالى الى ذلك فقال تبارك اسمه : قد رفعت عن أمّتك الآصار الّتى كانت على الأمم السّالفة كنت لا اقبل صلوتهم الّا في بقاع من الأرض معلومة اخترتها لهم وان بعدت وقد جعلت الأرض كلّها لامّتك مسجدا وطهورا ؛ فهذه من الآصار الّتى كانت على الأمم قبلك فرفعتها عن أمّتك ، وكانت الأمم السّالفة إذا أصابهم أذى من نجاسة قرضوها من أجسادهم وقد جعلت الماء طهورا لامّتك ؛ فهذه من الآصار الّتى كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك ، وكانت الأمم السّالفة تحمل قرابينها على أعناقها الى بيت المقدّس فمن قبلت ذلك منه أرسلت اليه نارا فأكلته فرجع مسرورا ، ومن لم اقبل ذلك منه رجع مثبورا وقد جعلت قربان أمّتك في بطون فقرائها ومساكينها فمن قبلت ذلك منه أضعفت ذلك له أضعافا مضاعفة ، ومن لم اقبل ذلك منه رفعت عنه عقوبات الدّنيا وقد رفعت ذلك عن أمّتك ؛ وهي من الآصار الّتى كانت على الأمم قبلك ، وكانت الأمم السّالفة صلوتها مفروضة عليها في ظلم اللّيل وأنصاف النّهار وهي من الشّدائد الّتى كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك ، وفرضت عليهم صلوتهم في أطراف اللّيل والنّهار وفي أوقات نشاطهم (الى ان قال) وكانت الأمم السّالفة حسنتهم بحسنة وسيّئتهم بسيّئة وهي من الآصار الّتى كانت عليهم فرفعتها عن أمّتك وجعلت الحسنة بعشر والسيّئة بواحدة ، وكانت الأمم السّالفة إذا نوى أحدهم حسنة ثمّ لم يعملها لم تكتب له وان عملها كتبت له حسنة وانّ أمّتك إذا همّ أحدهم بحسنة ولم يعملها كتبت له حسنة وان عملها كتبت عليه سيّئة ، وانّ أمّتك إذا همّ أحدهم بسيّئة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة (الى ان قال) وكانت الأمم السّالفة إذا أذنبوا كتبت ذنوبهم على أبوابهم وجعلت توبتهم من الذّنوب ان حرّمت عليهم بعد التّوبة احبّ الطّعام إليهم وقد رفعت ذلك عن أمّتك وجعلت ذنوبهم فيما بيني وبينهم وجعلت عليهم ستورا كثيفة وقبلت توبتهم بلا عقوبة ، ولا أعاقبهم بان احرّم عليهم احبّ الطّعام إليهم ، وكانت الأمم السّالفة يتوب أحدهم من الذّنب الواحد مائة سنة أو ثمانين سنة أو خمسين سنة ثمّ لا اقبل توبته دون ان أعاقبه في الدّنيا بعقوبة (الى ان قال) وانّ الرّجل من أمّتك ليذنب عشرين سنة أو ثلاثين سنة أو أربعين أو مائة سنة ثمّ يتوب ويندم طرفة عين فأغفر ذلك كلّه ، فقال النّبىّ (ص) : اللهمّ إذا أعطيتني ذلك كلّه فزدني ، قال : سل ، قال : (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) قال تبارك اسمه : قد فعلت ذلك بك وبامّتك وقد رفعت عنهم عظيم بلايا الأمم وذلك حكمي في جميع الأمم ان لا اكلّف خلقا فوق طاقتهم ، قال : (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا ،) قال الله عزوجل : قد فعلت ذلك بتائبى أمّتك ، قال : (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) قال الله جلّ اسمه انّ أمّتك في الأرض كالشّامة البيضاء في الثّور الأسود ، هم القادرون وهم القاهرون ويستخدمون ولا يستخدمون لكرامتك علىّ وحقّ علىّ ان أظهر دينك على الأديان حتّى لا يبقى في شرق الأرض وغربها دين الّا دينك أو يؤدّون الى أهل دينك الجزية.

والاخبار في فضل هذه الآية والّتي قبلها وانّهما من كنوز العرش كثيرة ، وروى انزل الله آيتين من كنوز الجنّة كتبهما الرّحمن بيده قبل ان يخلق الخلق بألفى سنة من قرأهما بعد عشاء الآخرة أجزأتاه عن قيام اللّيل ، وفي رواية : من قرء الآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه.

٢٤٤

سورة آل عمران

وهي مدنيّة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الم اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قد مضى اوّله في اوّل سورة البقرة مفصّلا وما بعده في آية الكرسيّ (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من الكتب والشّرائع (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ) هو اسم لكتاب موسى (ع) أعجميّ ودخول اللّام عليه لتعريبه ، أو هو عربيّ من ورى الزند إذا ظهرت ناره ، أو من واراه إذا ستره ؛ وأصله وورية مثل دحرجة مصدر الفعل الملحق بدحرج فأبدلت الواو تاء والياء ألفا (وَالْإِنْجِيلَ) بكسر الهمزة وفتحها وهو أيضا عجمىّ ودخول اللّام لتعريبه أو عربيّ مأخوذ من النّجل بمعنى الولد أو الوالد أو الرّمى بالشّيء ، أو العمل ، أو الجمع الكثير ، أو السّير الشّديد ، أو المحجّة أو محو الصبىّ لوحه أو من النّجل بالتّحريك بمعنى سعة العين (مِنْ قَبْلُ) اى قبل القرآن أو هذا الزّمان (هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) اى القرآن ، ويعلم من هذا انّ المراد بالكتاب في اوّل الآية جملة الكتاب الّتى نزلت على قلبه (ص) في ليلة القدر ، أو جملة احكام الرّسالة ، أو آثار الولاية الّتى فصّلت بالتّنزيل على مقام صدره وبالتّعبير بالعبارات النّفسيّة واللّفظيّة بألفاظ الكتاب الإلهيّ والاخبار القدسيّة والنّبويّة فعلى هذا يكون الفرقان مصدرا بمعنى المفروق المفصّل أو بمعنى الفارق المفصّل وقد فسّر في اخبار كثيرة القرآن بجملة الكتاب ، والفرقان بالمحكم الواجب العمل به ؛ وهو يشعر بما ذكرنا وقد مضى بيان للقرآن والفرقان ويستنبط ممّا ذكر وجه التّعبير بالتّنزيل في تنزيل الكتاب وبالانزال في إنزال التّوراة والإنجيل والفرقان ؛ فانّ نزول الكتاب كان من مقام الإطلاق الى مقام التّقييد وكان محتاجا الى كثير تعمّل من جانب القابل المستعدّ لنزوله بخلاف نزول التّوراة والإنجيل والفرقان فانّها نزلت من مقام التّقييد الاجمالىّ الى مقام التّقييد التّفصيلىّ فلم تكن محتاجة الى كثير تعمّل ولذلك لم يأت فيها بالتّنزيل الدّالّ على المبالغة ولمّا صار المقام مقام السّؤال عن حال من كفر بالكتب أجاب تعالى بقوله (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) مؤكّدا بالتّأكيدات ، والآيات اعمّ من الآيات الانفسيّة والآفاقيّة والتّدوينيّة فانّ شؤنات النّفوس ووارداتها الجسمانيّة والنّفسانيّة وموجودات العالم الكبير كلّها آيات جماله وجلاله تعالى ، والمراد بالكفر بالآيات الكفر بها من حيث كونها آيات لا من حيث ذواتها في أنفسها فانّ كثيرا من الكافرين بالآيات مشاهدون لذواتها غير ساترين لها مع انّهم كافرون بها من حيث انّها آيات (وَاللهُ عَزِيزٌ) جملة حاليّة

٢٤٥

أو معطوفة في مقام التّعليل والتّأكيد ومعنى عزّته تعالى انّه لا يمنعه مانع من مراده (ذُو انْتِقامٍ) من شأنه الانتقام ممّن خالفه وعصاه (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى) استيناف في مقام التّعليل أو جواب للسّؤال عن علمه تعالى بهم وبكفرهم كأنّه قيل : هل يعلم كفرهم؟ ـ فقال انّه لا يخفى (عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) اى في جملة ما سوى الله لانّ الأرض تعمّ العوالم الثّلاثة : عالم الأقدار النّورانيّة والأقدار الظّلمانيّة والأجساد الطّبيعيّة ، والسّماء تعمّ الأرواح المدبّرة والأرواح المجرّدة (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ) حال أو مستأنف جواب لسؤال تقديره ؛ هل يعلم بواطن الأشياء فيهما؟ ـ أو جواب لسؤال عن علّة إثبات الحكم يعنى انّه يعلم ظواهر ما في العالم لانّه هو الّذى يصوّركم (فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) فهو يعلم بواطن الأشياء وما لم يوجد بعد فكيف لا يعلم ظواهرها الّتى وجدت في العالم ، ولا اختصاص للأرحام بأرحام الامّهات الجسمانيّة فانّ النّفوس الحيوانيّة والبشريّه أرحام للّطيفة السيّارة الانسانيّة الّتى يكون خطاب الله متوجّها إليها بل الموادّ البعيدة من الحبوب واللّحوم والبقول والفواكه الّتى تصير اغذية الاناسىّ والكيلوس والكيموس والدّماء الجارية في العروق والأعضاء والدّماء المتشبّهة بالأعضاء أرحام للنّطف الّتى هي في المراتب الجنينيّة أرحام للنّفوس الحيوانيّة والبشريّة واللّطيفة الانسانيّة والمراتب العالية للنّفس الانسانيّة كلّ بوجه رحم للأعلى منها ولذلك فسّر البطن فيما ورد من ، انّ السّعيد سعيد في بطن أمّه ؛ بالولاية ، فانّ الإنسان ما لم يدخل تحت الولاية التّكليفيّة بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة حاله حال النّطفة في صلب الرّجل وبعد الدّخول في الولاية بالبيعة الخاصّة حاله حال النّطفة المستقرّة في الرّحم ولا يظهر السّعادة والشّقاوة الّا بعد الدّخول في الولاية ، ولذلك كان علىّ (ع) قسيم الجنّة والنّار ، ومن لم يدخل في الولاية لا يخرج من الدّنيا الّا بعد عرض الولاية عليه وظهور علىّ (ع) لديه حتّى ينكر أو يقبل ؛ فيشقى أو يسعد ، روى عن الصّادق (ع): انّ الله إذا أراد ان يخلق خلقا جمع كلّ صورة بينه وبين آدم (ع) ثمّ خلقه على صورة احديهنّ فلا يقولنّ أحد هذا لا يشبهني ولا يشبه شيئا من آبائي ، وفي حديث خلق الإنسان وتصويره في الرّحم ؛ ثمّ يبعث الله ملكين خلّاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء الله يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة فيصلان الى الرّحم وفيها يعنى في النّطفة الرّوح القديمة المنقولة في أصلاب الرّجال وأرحام النّساء فينفخان فيها روح الحيوة والبقاء ويشقّان له السّمع والبصر وجميع الجوارح وجميع ما في البطن بإذن الله تعالى ثمّ يوحى الله الى الملكين : اكتبا عليه قضائي وقدري ونافذا أمرى واشترطا لي البداء فيما تكتبان ، فيقولان : يا ربّ ما نكتب؟ ـ قال : فيوحى الله عزوجل إليهما : ان ارفعا رؤسكما الى رأس أمّه فيرفعان رؤسهما فاذا اللّوح يقرع جبهة أمّه فينظران فيه فيجدان في اللّوح صورته وزينته واجله وميثاقه شقيّا أو سعيدا وجميع شأنه ، قال : فيملى أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللّوح ويشترطان فيه البداء فيما يكتبان ثمّ يختمان الكتاب ويجعلانه بين عينيه ثمّ يقيمانه قائما في بطن أمّه قال : فربّما عتا فانقلب ولا يكون ذلك الّا في كلّ عات أو مارد ، وإذا بلغ أو ان خروج الولد (الى ان قال) فيزجره الملك زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فيصير رجلاه فوق رأسه ورأسه في أسفل البطن ليسهّل الله على المرأة وعلى الولد الخروج ؛ الى آخر الحديث. واقتحام الملكين من فم المرأة كناية عن دخولهما عن الجهة الّتى بها بقاء الامّ وهي الجهة الغيبيّة والّا فلا جهة لدخول الملك وخروجه في عالم الطّبع لانّه خارج عن الجهات فلا يتحدّد بالجهات ، وكتابة القضاء والقدر من اللّوح القارع جبهة الامّ كناية عن استنباط أحوال ما بالقوّة عن المحلّ الّذى تلك القوّة فيه وتأثّر ما بالقوّة عن المحلّ بآثاره ، واشتراط البداء لكون ما بالقوّة قد يتأثّر من الأسباب الخارجة عن

٢٤٦

المحلّ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) حال أو مستأنف في موضع التّعليل (الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنعه مانع عن تصوير ما يشاء في الرّحم (الْحَكِيمُ) الّذى لا يصوّره الّا بصورة اقتضاها استعداده وتستعقب مصالح عائدة إليها أو الى العالم (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) حال أو مستأنف وبيان لحكمته ، والكتاب هاهنا عبارة عن جملة ما سوى الله فانّ ما سواه كتابه كما مضى في اوّل الكتاب ، ونزوله عبارة عن ظهوره على مقام محمّد (ص) مقامه النّازل بصور مناسبة له في ذلك المقام ، أو ظهوره على مقام رسالته (ص) بما أرسل به من الأحكام ، أو ظهوره بالألفاظ والعبارات والنّقوش والكتابات الّتى هي كتابه التّدوينىّ منه.

بيان المحكم والمتشابه

(مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) احكم الأمر والبناء أتقنه بحيث لا يتطرّق الانثلام والزّوال اليه ، واحكم الحكم أتقنه بحيث لا يتطرّق المحو والنّسخ اليه ، واحكم اللّفظ أتقنه بحيث لا يتطرّق الاحتمال اليه ، والمتشابه في كلّ من هذه مقابل المحكم وكلّما ورد من المعصومين (ع) ونقل من غيرهم في بيان المحكم والمتشابه راجع الى هذه المعاني ، والكتاب التّكوينىّ الكبير آياته العقلانيّة والنّفسانيّة من حيث وجوهها العقلانيّة محكماتها وأصول متشابهاتها وآياته العينيّة الطّبيعيّة والعلميّة الملكوتيّة العالية والسّافلة من حيث تطرّق المحو والزّوال إليها متشابهاتها ، والكتاب التّكوينىّ الانسانىّ المختصر من الكتاب الكبير ؛ آياته الرّوحيّة والعقليّة محكماته ، وآياته النّفسيّة والطّبيعيّة متشابهاته ، ومن حيث نشأته العلميّة علومه العقلانيّة محكماته لعدم تطرّق الزّوال إليها وعدم تخلّف معلوماتها عنها ؛ لانّ معلوماتها من حيث انموذجاتها نفس تلك العلوم وعلومه النّفسانيّة كلّيّاتها وجزئيّاتها تصديقاتها وتصوّراتها يقينيّاتها وظنيّاتها متشابهاته لانمحائها عن النّفس ومغايرتها لمعلوماتها وجواز تخلّف معلوماتها عنها ولذلك سمّيت بالظّنون ، ومن حيث أفعاله الاراديّة جميع أفعاله وأقواله وخطراته ولمّاته متشابهاته لزوالها وعدم بقائها ، ومن جهة اخرى ما كان صدورها عن الله تعالى ورجوعها اليه تعالى معلوما محكماته ، وما كان صدورها من الله غير معلوم أو صدورها من الشّيطان معلوما متشابهاته ، وهكذا حال ما كان رجوعه الى الله معلوما ؛ وحال ما لم يكن رجوعه الى الله معلوما ، ومن الأحكام التّكليفيّة ما لم يتطرّق النّسخ اليه كان محكما ، وما كان منسوخا أو يتطرّق النّسخ اليه كان متشابها ، وما كان عامّا جاريا على كلّ مكلّف كان محكما ، وما كان خاصّا غير جار على كلّ مكلّف كان متشابها ، ومن الكتاب التّدوينىّ ما كان واضح الدّلالة غير محتمل غير مدلوله أو ما كان ناسخا أو ما كان حكمه عامّا أو ما كان ثابتا غير منسوخ أو ما كان متعيّن التّأويل بعد تعيّن تنزيله كان محكما ، وما كان خلاف ذلك كان متشابها ، ولمّا كان علىّ (ع) بجميع اجزائه محكوما بحكم الرّوح وراجعا الى الله ومتحقّقا بالأرواح العالية ومخالفوه بعكس ذلك صحّ تفسير المحكمات بعلىّ (ع) والائمّة (ع) ، وتفسير المتشابهات بمخالفيهم كما ورد عن ابى عبد الله (ع) في قوله تعالى : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ ،) ولمّا كان المحكمات أصلا وعمادا للكتاب قال : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) ولم يقل أمّهات الكتاب مع انّ قياس الحمل على الآيات يقتضي الجمع لانّه تعالى فرض المجموع المسمّى بالكتاب امرا وحدانيّا وهذا الفرض يقتضي الوحدة فيما ينسب اليه لا الجمعيّة ، ولانّ مجموع المحكمات من حيث الاجتماع يكون أصلا واحدا للكتاب وليس كلّ واحد منها أصلا برأسه (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) ميل عن الحقّ وانحراف عن جهة القلب والآخرة (فَيَتَّبِعُونَ) من العالم الكبير متشابهاته الّتى هي موجودات دار الدّنيا وزينتها الزّائلة الفانية بسرعة ، والّتى هي موجودات الملكوت السّفلى

٢٤٧

وتمويهاتها ، ومن العالم الصّغير متشابهاته الّتى هي الشّهوات الفانية الممزوجة بالآلام والإدراكات الشّيطانيّة والأفعال والأقوال الزّائغة أو المشتبهة بالزّائغة ، ومن الأحكام مشتبهاتها الموافقة لآرائهم الكاسدة ، أو السّائغة التّأويل إليها ، ومن القرآن المتشابهات الموافقة لاوهامهم أو الجائزة التّأويل إليها فهم يدعون المحكمات من الكتاب ويتّبعون (ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) شاعرين بالابتغاء أو غير شاعرين ؛ فانّ ابتغاء الفتنة كابتغاء مرضاة الله قد يكون من قصد اليه وقد يكون من غير قصد لانّ الواقعين في دار النّفس وجهنّام الطّبع لا يكون منهم الّا إفساد ارض العالم الصّغير أو الكبير وإهلاك حرثها ونسلها وبكلّ فعل أو قول منهم يشتدّ ذلك الإفساد ، وذلك الاشتداد هو الابتغاء للافساد سواء لم يكونوا شاعرين بإصلاح وإفساد أو كانوا عالمين بانّه إفساد قاصدين له ، أو كانوا ظانّين انّهم مصلحون غير مفسدين كما تفوّهوا وقال : (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) الى ما يوافق آرائهم (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) جملة حاليّة على جواز دخول الواو على المضارع المنفىّ بما ، أو معطوفة والتّأويل امّا بمعنى المأوّل اليه أو بمعناه المصدرىّ يعنى لا يعلم ما هو تأويله في نفس الأمر (إِلَّا اللهُ) اعلم أنّ تأويل الشّيء بمعنى ارجاعه لا يصدق الّا إذا أعيد الى ما منه بدئ ، ولمّا كان مبدأ الكلمات الإلهيّة التّكوينيّة والتّدوينيّة مقام ظهوره تعالى الّذى هو مقام المشيّة لم يكن يعلم تأويلها بنحو الإطلاق الّا الله (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) رسوخا تامّا وهم الّذين بلغوا الى مقام المشيّة وارتقوا عن مقام الإمكان وهم محمّد (ص) وأوصياؤه الاثنا عشر لا غيرهم كما بلغ إلينا ، وامّا غيرهم من الأنبياء والأولياء فلمّا لم يرتقوا عن مقام الإمكان لم يعلموا تأويلها التّامّ بل بقدر مقامهم وشأنهم ، ولمّا كانت الكلمات بوجه ناشئة عن مقام الغيب صحّ ان يقال : لا يعلم تأويلها التّامّ الّا الله ، وامّا الرّاسخون في العلم فلا يعلمونه و (يَقُولُونَ) من باب التّسليم (آمَنَّا بِهِ) وعلى هذا فالوقف على الّا الله وقوله (الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) ابتداء جملة اخرى فصحّ ان يقال : لا يعلم تأويل القرآن الّا الله ، أو يقال : علم تأويل القرآن منحصر في النّبىّ (ص) والائمّة (ع) ولا يعلمه غيرهم ، أو يقال : علمه منحصر فيهم وفي خواصّ شيعتهم ، وقد أشير الى كلّ من هذه في الاخبار (كُلٌ) من المحكم والمتشابه (مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) في خبر نحن الرّاسخون في العلم ، وفي رواية : فرسول الله (ص) أفضل الرّاسخين ، وفي خبر : انّ الرّاسخين في العلم من لا يختلف في علمه ، وفي خبر ، ثمّ انّ الله جلّ ذكره بسعة رحمته ورأفته بخلقه وعلمه بما يحدثه المبدّلون من تغيير كلامه قسّم كلامه ثلاثة أقسام : فجعل قسما منه يعرف العالم والجاهل ، وقسما لا يعرفه الّا من صفا ذهنه ولطف حسّه وصحّ تميزه ممّن شرح الله صدره للإسلام ، وقسما لا يعرفه الّا الله وأنبياؤه والرّاسخون في العلم ، وانّما فعل ذلك لئلّا يدّعى أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله (ص) من علم الكتاب ما لم يجعله لهم ، وليقودهم الاضطرار الى الايتمار عن ولاة أمرهم فاستكبروا عن طاعته تعزّزا وافتراء على الله عزوجل واغترارا بكثرة من ظاهرهم وعاونهم وعاند الله جلّ اسمه ورسوله (وَما يَذَّكَّرُ) انّ في الكتاب محكما ومتشابها ، وانّ المتشابه لا يعلمه الّا الله أو من كان خليفة لله ، وانّ الكتاب لا يتصوّر إيجاده وانزاله الّا بالاشتمال على المتشابه.

بيان صيرورة الإنسان ذا لبّ

(إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الّذين صارت أعمالهم وعلومهم ذوات الباب بتعقيد قلوبهم على الولاية على أيدي أولياء الأمر كما مضى وهو معطوف من الله الحاكي على المحكىّ من قولهم ، أو هو من المؤمنين القائلين ، والاشكال بأنّ الإتيان بالكلام المتشابه المحتمل

٢٤٨

الوجوه غير ظاهر المرام ليس من دأب الحكيم ليس في محلّه ؛ لانّ المعنى ان كان من جنس المحسوسات وممّا يدركه العوامّ يمكن الإتيان بالكلام نصّا في المرام وما يمكن الإتيان به غير محتمل لغيره قد يؤتى به لأغراض صحيحة عقلانيّة محتمل الوجوه العديدة وقد عدّوا الإتيان بالكلام محتمل الوجهين أو الوجوه من محسّنات الكلام وان كان من الأمور الغيبيّة الّتى لا شبيه لها في هذا العالم فانّها بمقدّراتها ومجرّداتها نورانيّة وما في هذا العالم بجملتها ظلمانيّة ولا مناسبة بوجه من الوجوه بين النورانىّ والظّلمانىّ بل النورانىّ إذا ظهر أفنى الظلمانىّ ولذلك قال تعالى : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) لانّ الموجودات النّورانيّة إذا ظهرت في هذا العالم بوجوداتها افنت ما فيها لا يمكن التعبير عنها الّا بالأمثال ، والتّصوير بالأمثال لا يمكن الّا بالعبارات المتشابهة المحتاجة الى التّأويل كالرّؤيا المحتاجة الى التّعبير فانّها تصوير ما في ذلك العالم عند المدارك الاخرويّة بالأمثال وليست الّا محتاجة الى التّعبير ولا يجوز ذلك التّأويل وهذا التّعبير الّا من بصير ناقد بوجوه المناسبة بين الأمثال والممثّل لها نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قال : اعلم انّ الرّاسخين في العلم هم الّذين أغناهم الله عن الاقتحام في السّدد المضروبة دون الغيوب فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا : آمنّا به كلّ من عند ربّنا ؛ فمدح الله عزوجل اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما وسمّى تركهم التعمّق فيما لم يكلّفهم البحث عنه منهم رسوخا فاقتصر على ذلك ولا تقدّر عظمة الله على قدر عقلك فتكون من الهالكين (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن الاستقامة على طريق الاعتراف بالعجز فيما لا نعلم وترك التّصرّف في المتشابه الّذى لا نعلم تأويله والإقرار بأنّه من عند الله الى التّصرّف فيما لا نعلم والتفوّه بالآراء وتأويل المتشابه من عند أنفسنا واتّباع ما يوافق منه أهواءنا (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الى التّسليم وترك الاستبداد بالآراء بقبول الولاية والبيعة الخاصّة (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) سألوا الإبقاء على التّبرّى وازدياد التولّى ، والهبة الإعطاء من غير عوض وهذا المعنى على التّحقيق خاصّ بالله أو من تخلّق بأخلاقه ، عن الكاظم (ع) انّ الله قد حكى عن قوم صالحين انّهم قالوا (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)، حين علموا انّ القلوب تزيغ وتعود الى عماها ورداها انّه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ، ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة يبصرها ويجد حقيقتها في قلبه ، ولا يكون أحد كذلك الّا من كان قوله لفعله مصدّقا وسرّه لعلانيته موافقا لانّ الله لم يدلّ على الباطن الخفىّ من العقل الّا بظاهر منه وناطق عنه (رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ) اى في يوم أو لحساب يوم (لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) تعليل لقوله تعالى : (لا رَيْبَ فِيهِ) أو لقوله تعالى (إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ) ، والميعاد وقت الوعد أو محلّه (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ابتداء كلام من الله منقطع عن سابقه ، ويجوز ان يكون من جملة مقول المؤمنين تعليلا للسّابق والمراد بالكفر الكفر بالولاية فانّ الآية تعريض بالامّة ويدلّ عليه قوله تعالى (ذَّبُوا بِآياتِنا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ) اغنى زيدا عن عمر وجعله غنيّا عن الاحتياج الى عمرو ، واغنى العذاب عن زيد جعل العذاب غنيّا عن الاحتياج الى زيد كأنّ العذاب محتاج اليه في وروده فجعله غنيّا عنه كناية عن دفعه عنه فالمعنى لن تدفع عنهم (أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ) حال عن قوله تعالى (شَيْئاً) اى لن تدفع شيئا حالكونه نازلا من الله (وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ) في الجحيم كما انّهم في الدّنيا وقود نار الغضب والحرص والحسد وغيرها (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) اى شأنهم وديدنهم وهو متعلّق بلن تغني ، أو بوقود النّار ،

٢٤٩

أو خبر لمحذوف (وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا) بالرّسل وأوصيائهم وسائر الآيات (فَأَخَذَهُمُ اللهُ) التفات من التكلّم الى الغيبة لانّ المؤاخذة لا تكون الّا في المظاهر الدّانية لله بخلاف الآيات فانّها منسوبة اليه تعالى باعتبار المقام العالي (بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ قُلْ) يا محمّد (ص) (لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ) في الدّنيا وحال الموت وفي البرازخ وفي المحشر (وَتُحْشَرُونَ) بعد الانتهاء الى المحشر (إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ) نسب الى الرّواية انّه لمّا أصاب رسول الله (ص) قريشا ببدر وقدم المدينة جمع اليهود في سوق قينقاع فقال : يا معشر اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر وأسلموا قبل ان ينزل بكم ما نزل بهم فقد عرفتم انّى نبىّ مرسل تجدون ذلك في كتابكم فقالوا : يا محمّد (ص) لا يغرّنّك انّك لقيت قوما اغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة امّا والله لو قاتلتنا لعرفت انّا نحن النّاس فأنزل الله هذه الآية وقد فعل الله ذلك بهم وصدق وعده بقتل بنى قريظة واجلاء بنى النّضير وفتح خيبر ووضع الجزية على من بقي منهم وغلب المشركين وهو من دلائل النّبوّة (قَدْ كانَ لَكُمْ) ايّها اليهود أو مطلق الكفّار أو مطلق النّاس من المسلمين والكفّار (آيَةٌ) علامة دالّة على صدق محمّد (ص) في رسالته (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا) ببدر (فِئَةٌ) قليلة عددهم ثلاثمائة وثلاثة عشر (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ) كثيرة عددهم قريب من الالف وهم مشركو مكّة (يَرَوْنَهُمْ) الفاعل راجع الى الفئة المسلمة أو الكافرة والمفعول امّا راجع الى مرجع الفاعل أو الى مقابله وهكذا ضمير قوله تعالى (مِثْلَيْهِمْ) راجع الى مرجع الفاعل أو مقابله والكلّ صحيح بحسب المعنى وبحسب اللّفظ فانّ المسلمين رأوا المشركين قليلين ليجترؤا عليهم ولعلّهم رأوهم قبل الغزو كثيرين ليلتجئوا الى الله ولا يتّكلوا على عددهم وقوّتهم ، والمشركين رأوا المسلمين قليلين قبل الغزو ليقدموا على المقاتلة ثمّ رأوهم كثيرين حين الغزو ليجنبوا ويهزموا (رَأْيَ الْعَيْنِ) لا رأى الخيال (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ) التّقليل والتكثير والغلبة من القليل على الكثير (لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ) المدركة من الأشياء ما يعتبرون به ولمّا صار المقام مقام ان يسأل ما كان سبب توقّف النّاس عن القبول بعد وضوح الآيات أجاب بانّه (زُيِّنَ لِلنَّاسِ) اى ذوي النسيان لا الإنسان (حُبُّ الشَّهَواتِ) الشّهوة هي المحبّة النفسانيّة والحبّ اعمّ منها ، وتزيين الشّيء إراءته بحيث يكون مرغوبا فيه للرّائى وتعليق التّزيين على الحبّ للاشارة الى انّ تزيّن الشّيء وتزيينه ليس الّا من حيث نفس الحبّ لا من حيث شيء آخر ولا من حيث خصوصيّات المحبّة من كونها شهوة أو حبّا إلهيّا أو عشقا أو شوقا ، واضافة الحبّ الى الشّهوات للاشارة الى انّ المانع من الاعتبار هو الحبّ الحاصل في ضمن الشّهوة وعلى هذا فالحبّ والشّهوة على معانيهما المصدريّة وقوله تعالى (مِنَ النِّساءِ) حال من الشّهوات ولفظة من ابتدائيّة وتقديم النّساء لكونهنّ أتمّ في الاشتهاء من سائر المشتهيات (وَالْبَنِينَ) بل مطلق الأولاد لكن لكراهة بعض النّفوس للبنات على الإطلاق وكراهة بعضها لهنّ قبل وجودهنّ ونموّهنّ لم يذكرهنّ في المشتهيات (وَالْقَناطِيرِ) جمع القنطار وهو أربعون وقيّة (١) من الذهب ، أو الف ومائتا دينار ، أو ثمانون الف درهم ، أو مأة رطل من ذهب ، أو فضّة ، أو الف ومائتا أوقيّة (٢) أو سبعون الف دينار أو ملء مسك ثور ذهبا أو فضّة (الْمُقَنْطَرَةِ) التامّة المكمّلة (مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ) المرعاة أو المعلمة أو الحسنة من السّيماء (وَالْأَنْعامِ) الثّلاثة البقر والغنم والإبل (وَالْحَرْثِ)

__________________

(١ ، ٢) الاقيّة بضم الالف وكسر القاف وتشديد الياء المفتوحة وكذا الوقيّة عبارة عن سبعة مثاقيل ، جمع أواق وأواقي ووقايا.

٢٥٠

الكسب أو جمع المال أو الزّرع (ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حالها؟ ـ ومتى يكون التّمتّع بها؟ ـ وما لمن تركها؟ ـ (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) لمن تركها (قُلْ) يا محمّد (ص) للتّرغيب عنها والتّحريص فيما عند الله (أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ) للّذين اتّقوا خبر مقدّم والجملة بيان للخير مع الزّيادة ولذا لم يأت بأداة الوصل أو هو مثل سابقه متعلّق بخير و (جَنَّاتٌ) مرتفع خبرا لمبتدء محذوف (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) اى من تحت عماراتها أو من تحت أشجارها أو من تحت طبقاتها فانّ الجنّة إذا كانت ذات طبقات ويجرى تحت كلّ طبقة نهر كانت أحسن منظرا (خالِدِينَ فِيها) فانّ تمام النّعمة بان لا تزول (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ) ممّا يستقذر من النّساء من الاحداث والاخباث وكثافات الاخلاط وممّا يستكره من رذائل الأخلاق (وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ) الرّضوان بالكسر والضّمّ مصدر ورضوان الله آخر مقامات النّعم لا نعمة فوقه وهو يستلزم رضى العبد عن الله ، وفي تقدّم رضا الله عن العبد على رضا العبد عن الله أو تأخرّه مثل سائر صفات الله الظّاهرة في العباد إشكال وقد تقدّم في اوّل سورة البقرة في بيان توابيّته تعالى بيان لذلك وقد أشار تعالى الى مراتب النّعم ؛ أوليها أصناف متاع الحيوة الدّنيا ، وثانيتها الجنّات الصوريّة ، وثالثتها الأزواج المطهّرة ، ورابعتها رضوان الله وليس فوقه مقام (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيبصر مقام كلّ ودرجات شقاوته أو سعادته فيجزى كلّا بحسبها (الَّذِينَ يَقُولُونَ) بلسان حالهم أو لسان قالهم فانّ المتّقى لتعلّقه بالله بسبب قبوله الولاية يضطرّ الى قول ربّنا حالا وقالا ولذلك جعله بيانا للّذين اتّقوا ، ويجوز ان يكون مقطوعا بالرّفع أو النّصب للمدح فعلى هذا كان شأن الّذين اتّقوا ان يقولوا (رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) كأنّ مقصودهم من إظهار الايمان عرض حالهم عليه تعالى لا المنّة بايمانهم فانّ عرض الحال من العباد مرغوب كما انّ المنّة بالأعمال مكروهة وتمهيد لسؤال المغفرة والحفظ من النّار (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) فانّ ظهور الذّنوب علينا شين لنا وشين لصاحبنا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) لانّ ايلامنا إيلام صاحبنا (الصَّابِرِينَ) وصف آخر للمتّقين (وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ) توسيط العاطف بين الأوصاف لتعدّد مباديها ، وللاشارة الى استقلال كلّ وانفراده بالمدح أو الذّمّ أو غير ذلك من الأغراض ، والصّبر أقدم صفات الايمان ولذا ورد انّه من الايمان كالرّأس من الجسد ، وبه يحصل الصّدق الّذى هو الاستقامة في الأقوال والأفعال والأحوال ، وبالاستقامة المذكورة يتمّ الطّاعة الّتى هي القنوت وبتمام الطّاعة يسهل الإنفاق الّذى هو بذل فعليّات النّفس ، وبه يحصل القرب من يوم الدّين والدّخول في سحر يوم الدّين وستر مساوي ليل الطّبع ، ولمّا كان التّكليف مطابقا للتّكوين والظّاهر عنوانا للباطن كلّف الله العباد بالاستغفار اللّسانىّ في اسحار ليالي الطّبع منفردا أو في مطلق الصّلوة أو في صلوة الوتر.

كيفيّة شهادة الله بانّه لا اله الّا هو

(شَهِدَ اللهُ) كلام منقطع عمّا قبله والشّهادة حفظ القضيّة المشهودة أو ما في حكمها أو الاخبار بها واخبار الله بالتّوحيد لجملة الأشياء عبارة عن خلقها مفطورة على التّوحّد واقتضاء التّوحّد مع ما يجاورها وهذا اخبار من الله لها عن توحّد صانعها ووحدته واحديّته واخباره تعالى بالتّوحيد لذوي العقول في مقام العلم بخلق الآيات الآفاقيّة وجعلها بحيث يدركها العقول الصّافية دالّة على وحدة خالقها وخصوصا الآيات الكبرى الدّالّة بألسنة أقوالهم وأحوالهم على التّوحيد المشار اليه

٢٥١

بقوله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ) وبإنشاء الآيات الانفسيّة وجعلها دالّة على وجود الحقّ وصفاته المشار اليه بقوله تعالى : (وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) وفي مقام المشاهدة بظهوره تعالى في كلّ شيء وفيء المشار اليه بقوله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)(أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ) بذواتهم والسنة أحوالهم ، وأقوالهم ويجوز ان يكون عطفا على المستثنى بحيث لا يكون منافيا للتّوحيد ولا مستلزما لتعدّد الآلهة ، وقوله تعالى : (قائِماً بِالْقِسْطِ) قائم بالمجموع أو بالله معنى وهو بحسب الاعراب صفة لاسم لا أو حال عن المستثنى أو المستثنى منه والمعنى شهد الله كافيا للخلق بسبب القسط أو مقيما للقسط وقول الباقر (ع) انّ اولى العلم الأنبياء (ع) والأوصياء (ع) وهم قيام بالقسط يؤيّد قيامه بالمجموع ، ولرفع توهّم تعدّد الآلهة على احتمال عطف الملائكة على المستثنى اكّد التّوحيد بقوله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) من دون عطف كأنّه قيل : يلزم من ذلك تعدّد الآلهة المنافى للتّوحيد فقال : لا آله الّا هو لانّ آلهة الملائكة واولى العلم ليست الّا ظهور آلهة الله وليست آلهتهم مغايرة حتّى يلزم تعدّد الآلهة (الْعَزِيزُ) الغالب الّذى لا مجال لآلهة غيره معه (الْحَكِيمُ) الّذى لا يجعل أحدا مظهرا لآلهيّته الّا بحكم ومصالح (إِنَّ الدِّينَ) له معان والمراد به هاهنا الطّريق الى الآخرة والى الله (عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) يعنى بعد ظهور الإسلام انحصر الطّريق الى الله في الإسلام وانقطع ما كان حقّا من سائر الأديان وقد مضى بيان للإسلام والايمان في اوّل سورة البقرة (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) من اليهود والنّصارى في حقّيّته أو في انحصار الدّين فيه (إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ) بظهوره وبعثة محمّد (ص) الآتي به يعنى كانوا متّفقين على حقّيّة محمّد (ص) ودينه وانحصار الدّين في دينه قبل مبعثه الى ان بعث وأيقنوا انّه النبىّ الموعود فاختلفوا في حقّيّته بان اقرّ بعض وأنكر بعض بعد يقينهم ببعثته (بَغْياً بَيْنَهُمْ) استطالة وطلبا للرّياسة في أهل ملّتهم أو طلبا للمآكل المقرّرة لهم في أهل ملّتهم (وَمَنْ يَكْفُرْ) حال أو عطف (بِآياتِ اللهِ) التّدوينيّة والتّكوينيّة كآيات التّوراة والإنجيل النّاطقة بحقّيّة دين الإسلام وصدق محمّد (ص) وآيات القرآن الدّالّة على حقّيّته وحقّيّة ووصيّه وكمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وأولادهما (ع) فانّ الله يعذّبه على كفره لانّه لا يدع عملا بلا جزاء ولا يفوته كفر الكافر (فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) وعيد لمن كفر منهم ومن يكفر بعلىّ (ع) بعد محمّد (ص) من أمّته (فَإِنْ حَاجُّوكَ) في حقّيّة الإسلام أو في انحصار الدّين فيه (فَقُلْ) الإسلام إخلاص الوجه لله و (أَسْلَمْتُ) اى أخلصت عن الشّرك والخديعة أو سلّمت (وَجْهِيَ لِلَّهِ) بسبب الإسلام وهذا وصف لا ينكره أحد فلا وجه لمحاجّتكم لي في دين الإسلام والمراد بالوجه الذّات فانّ شيئيّة الشّيء بصورته لا بمادّته وصورة كلّ شيء فعليّته الاخيرة ، وفعليّته الاخيرة ما به توجّهه كما انّ وجه البدن ما به توجّهه (وَمَنِ اتَّبَعَنِ) عطف على الضّمير المرفوع ولم يؤكّد بالضّمير المنفصل للفصل بينه وبين المعطوف عليه أو عطف على الله اى أخلصت وجهي لله ولمن اتّبعن ، أو سلّمت وجهي الى الله والى من اتّبعن ، فانّ المسلم والمؤمن له وجهان وجه الى الله ووجه الى الخلق ، والإسلام كما يقتضي إخلاص الوجه لله وتسليمه اليه يقتضي إخلاص الوجه لخلق الله وتسليمه إليهم (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ) الّذين لا كتاب لهم ولا نبىّ يعنى الّذين ما حصل لهم من الكمالات الانسانيّة شيء سوى الانتساب الى الام (أَأَسْلَمْتُمْ) يعنى بعد ما ذكرت لهم انّ الإسلام يقتضي

٢٥٢

إخلاص الوجه لله وهو وصف مطلوب لكلّ عاقل صار المقام مقام السّؤال عن اتّصافهم بالإسلام والمعنى اصرتم مسلمين أو مخلصين وجوهكم لله (فَإِنْ أَسْلَمُوا) صاروا مسلمين أو مخلصين وهو تهييج لهم على الإسلام (فَقَدِ اهْتَدَوْا) لانّ الإسلام اهتداء ووصول الى طريق الايمان ، وإخلاص الوجه لله اهتداء الى الكمالات الانسانيّة (وَإِنْ تَوَلَّوْا) عن الإسلام أو إخلاص الوجه فليس عليك وباله (فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ) اى التبليغ وقد بلّغت وليس عليك قبولهم حتّى يكون وبال عدم قبولهم عليك ، والبلاغ اسم مصدر من الإبلاغ أو التّبليغ (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فيجازى كلّا بعمله ؛ وعد ووعيد (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) استيناف بيانىّ جواب لسؤال مقدّر (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) للتّبيين لا للتّقييد (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) اى اتّباع الأنبياء والمبتاعين بالبيعة الخاصّة فانّ البائع بالبيعة الخاصّة يأمر بالقسط البتّه ولو في مملكة وجوده (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) نزلت في بنى إسرائيل الّذين قتلوا ثلاثة وأربعين نبيّا من اوّل النّهار في ساعة واحدة فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عبّاد بنى إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا في آخر النّهار في ذلك اليوم ، هكذا روى عن رسول الله (ص) لكنّ الآية جارية في كلّ من كان مثلهم وسنخهم وكلّ من قتل نبيّه الباطنىّ واتباعه وان لم يقتل نبيّا في الخارج ولا تابعا لنبىّ ، وتعريض بمن تعرّض لقتل الائمّة واتباعهم بعد وفاة الرّسول (ص) (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ) بطلت وذهبت (أَعْمالُهُمْ). اعلم انّ العمل مقابل العلم عبارة عمّا يظهر على الأعضاء مسبوقا بقصد من العامل قولا كان أو فعلا أو ما يصدر من النّفس في الباطن من المجاهدات الباطنيّة ، وكلّ منهما لا يبقى بنفسه لكنّ النّفس تتجوهر بكيفيّة تكون مصدرا لهما ثمّ تتزايد تلك الكيفيّة منهما وتكون تلك الكيفيّة باقية معها في الدّنيا والآخرة وثمرتها في الدّنيا الخلاص من عذاب الأوصاف الرّذيلة وفي الآخرة التلذّذ بالأمور الاخرويّة وبمناجاة الله ، وبعبارة اخرى النّفس تتكيّف منهما بجهتيها ، جهتها الدّنيويّة الّتى يحصل بها للإنسان الاضافة الى الخلق وجهتها الاخرويّة الّتى بها يحصل الاضافة الى عالم الأرواح ، وثمرة كيفيّة جهتها الدّنيويّة الفراغ من رذائل تلك الاضافة ومتاعبها ، وثمرة كيفيّة جهتها الاخرويّة التلذّذ بالأمور الاخرويّة وبمناجاة الله ؛ وعلى هذا فقوله تعالى : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) حال من أعمالهم أو ظرف للحبط (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يدفعون عنهم العذاب الّذى تبشّرهم به (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) الم تر الى كذا كلمة تعجّب وتعجيب ، والرّؤية اعمّ من رؤية البصر ورؤية القلب ، ونزول الآية ان كان في أحبار اليهود فهي جارية في كلّ من أقرّ بشريعة وكتاب ثمّ اعرض عن شريعته وكتابه فانّ الكتاب عبارة عن احكام الرّسالة والنّبوّة ، والكتب التّدوينيّة السّماويّة صورة تلك الأحكام وظهورها ، والمنظور منافقوا الامّة حيث أقرّوا بمحمّد (ص) وشريعته وكتابه واعرضوا عن كتابه بعد وفاته (يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ) حال أو جواب لسؤال مقدّر ، وان كان المراد به التّوراة فالتّعريض بالامّة والقرآن (لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ) قرئ بفتح الياء وضمّها وفتح الكاف (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ) عن كتاب الله عطف على يدعون والإتيان بأداة التّراخى اشارة الى انّ التولّى وقع منهم بعد الدّعاء الى الكتاب بمهلة فانّه (ص) على ما قيل دخل مدرسهم ودعاهم الى الإسلام فقالوا : على اىّ دين أنت؟ ـ قال : على ملّة إبراهيم (ع) فقالوا :

٢٥٣

انّ إبراهيم كان يهوديّا ، فقال : انّ بيننا وبينكم التّوراة فأبوا من الرّجوع إليها بعد محاجّات وقعت بينهم ، ونسب في مجمع البيان الى ابن عبّاس انّه قال : ان رجلا وامرأة من أهل خيبر زنيا وكانا ذوي شرف فيهم وكان في كتابهم الرّجم فكرهوا رجمهما لشرفهما ورجوا ان يكون عند رسول الله (ص) رخصة في أمرهما ، فرفعوا أمرهما الى رسول الله (ص) فحكم عليهما بالرّجم فقالوا جرت يا محمّد ليس عليهما الرّجم فقال (ص) : بيني وبينكم التّوراة ، قالوا قد أنصفتنا قال : فمن أعلمكم بالتّوراة؟ ـ قالوا : ابن صور يا ساكن فدك فأرسلوا اليه فقدم المدينة وكان جبرئيل قد وصفه لرسول الله (ص) الى ان قال فدعا رسول الله (ص) بشيء من التّوراة فيها الرّجم مكتوب فقال له : اقرء فلمّا أتى على آية الرّجم وضع كفّه عليها وقرأ ما بعدها فقال ابن سلام يا رسول الله (ص) قد جاوزها وقام الى ابن صوريا ورفع كفّه عنها ثمّ قرأ على رسول الله (ص) وعلى اليهود بانّ المحصن والمحصنة إذا زنيا وقامت عليهما البيّنة رجما ، فأمر رسول الله (ص) باليهوديّين فرجما ، فغضب اليهود وأنكروا على ابن صوريا فأنزل الله هذه الآية (وَهُمْ مُعْرِضُونَ) والحال انّ سجيّتهم الاعراض عن الحقّ مطلقا (ذلِكَ) التولّى والاعراض (بِأَنَّهُمْ) سهّلوا على أنفسهم عقوبة الآخرة و (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) قيل يعنى عدد ايّام عبادة أسلافهم العجل أربعين يوما أو سبعة ايّام وقيل ايّاما منقطعة (وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من انقطاع العذاب أو قولهم : نحن أبناء الله واحبّاؤه ، أو ان آبائهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو انّ الله وعد يعقوب ان لا يعذّب أولاده (فَكَيْفَ) حالهم تهويل لهم وتفخيم لعذابهم (إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ) في يوم أو لمجازاة يوم (لا رَيْبَ فِيهِ) لا ينبغي الرّيب فيه روى انّ اوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفّار راية اليهود فيفضحهم الله على رؤس الاشهاد ثمّ يأمر بهم الى النّار (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) ادّيت إليها تمام ما كسبت على تجسّم الأعمال أو تمام جزاء ما كسبت (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب أو زيادة عقاب.

اعلم انّ النفوس البشريّة تكسب فعلية من الأعمال البدنيّة والرّياضات النّفسيّة وتلك الفعليّة ليست كيفيّة عرضيّة كما يظنّ بل هي شأن جوهريّ من شؤن النّفس على ما حقّق في الفلسفة من الحركات الجوهريّة وذلك الشّأن ان يبق للنّفس بعد رفع حجب الطّبع بالموت الاختيارىّ أو الاضطرارىّ يتمثّل بصورة موافقة له مملوكة للنّفس وهذا معنى تجسّم الأعمال ويتفضّل الله على صاحبها بمثل تلك الصورة أو يضعف عذابها بمثلها على اختلاف الكسب وهذا أحد وجوه الجنّتين في قوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) واحد وجوه قوله (لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ) والتّوفية تأدية تمام ما ينبغي ان يؤدّى وعلى هذا جاز ان يقال أعطاه الله نفس ما كسبت وان يقال أعطاه الله جزاء ما كسبت وحبط الأعمال ومحو السيّئات عبارة عن بطلان تلك الفعليّة وانمحاؤها عن صفحة النّفس ، وتبديل السيّئات حسنات عبارة عن تسخير تلك الفعليّة للعاقلة بعد ان كانت مسخرة للشّيطان والعفو عن السيّئات وغفرانها عبارة عن بقاء تلك الفعليّة مع سترها عن الانظار وعدم تمثّلها وعدم ظهورها بصورة مناسبة لها.

(قُلِ اللهُمَ) أصله يا الله حذف اداة النّداء وأتى بالميم المشدّدة في الآخر عوضا عنها تعظيما لاسمه الشّريف ان يؤتى بصورة النّداء وتفخيما للفظه واشعارا باشتداد المحبّة فانّ شدّة الحبّ كشدّة الغضب تقتضي التّشديد في اللّفظ وقيل أصله يا الله امّ بخير فخفّف بحذف حرف النّداء وهمزة القطع وعدم التفوّه بهذا الأصل

٢٥٤

وعدم اجتماع الميم مع حرف النّداء دليل الاوّل (مالِكَ الْمُلْكِ) صفة اللهمّ أو منادى بحذف حرف النّداء والإتيان به قبل الحكم للبراعة ، وليكون مشعرا بعلّة الحكم ، والمراد بالملك عالم الملك المقابل للملكوت ويقال لعالم الطّبع عالم الملك لانّه ليس فيه الّا حيثيّة المملوكيّة بخلاف الملكوت والجبروت لانّ فيهما حيثيّة المالكيّة أظهر من حيثيّة المملوكيّة والملك بتثليث الميم وبالفتحتين وبالضّمّتين ما تملكه وتستبدّ بالتّصرّف فيه ، أو المراد به مطلق عالم الإمكان من الملك والملكوت والجبروت ، أو مطلق مراتب العالم الصّغير والكبير حتّى يشمل ملك القلوب ودولة الرّسالة والنّبوّة وخلافتهما (تُؤْتِي الْمُلْكَ) حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر أو مستأنف للمدح والمراد بالملك الثّانى امّا عين الاوّل كما هو المتبادر من تكرار المعرفة ، أو المراد به بعض معاني الاوّل (مَنْ تَشاءُ) ان تؤتيه من غير مانع وعجز (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) إعزازه والعزّة هاهنا مقابل الذّلّة والمراد به امّا عزّ الملك فيكون تأكيدا لمفهوم الاوّل ، أو غير العزّة اللازمة للملك فيكون تأسيسا (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ) لا بيد غيرك جنس (الْخَيْرُ) أو جميع أنواعه وافراده وهذه الجملة حال أو مستأنف جوابا لسؤال مقدّر أو للمدح وتخصيص الخير بالذّكر امّا لكون المقام للتّرغيب فيما عنده والمناسب له ذكر الخير ، أو لانّ الشرّ عدميّ راجع الى العدم والعدم لا شيء محض لا يجرى عليه حكم الشّيء (إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تعميم بعد تخصيص والجملة كالجمل السّابقة في الاعراب (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ) وهذه كالجمل السّابقة في الاعراب والمراد بايلاج اللّيل في النّهار إيلاج بعضه بنقصان اللّيل والزّيادة في النّهار ، أو المراد تعقيبه للنّهار فيكون المراد إيلاج اللّيل مكان النّهار ولا اختصاص للّيل بليل الزّمان بل يشمله ويشمل عالم الأرواح الخبيثة وعالم الطّبع ومادّة الإنسان وطبيعته ومرضه وغمّه وألمه ورذائله وكفره وجهله ، وذكر هذه بعد تعميم القدرة للاشارة الى صعوبتها كأنّها معدودة من الممتنعات الغير المقدور عليها فانّها جمع بين الاضداد (وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) هذه تعلم بالمقايسة (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) الحيوان من الجماد ، أو المؤمن من الكافر ، أو العالم من الجاهل ، أو النّفس الانسانيّة من النّفس الحيوانيّة ، أو النّفس الحيّة من الطّبع الميّت ، أو الباقي من الفاني ، فانّ فناء الإنسان موت حقيقىّ له وبقاءه بعد الفناء حيوة حقيقيّة بحيوة الله تعالى ، أو المراد تميّز الحىّ من الميّت بالمعاني السّابقة (وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ) تعلم هذه بالمقايسة (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) ذكر هذه بعد تعميم القدرة لاقتضاء مقام التّرغيب فيما عنده التّكرير والتّأكيد بأمثاله (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ) اى أولياء المودّة أو أولياء التصرّف (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) قد مضى بيان معنى من دون في اوّل البقرة عند قوله (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) وانّ دون بمعنى الغير ولفظة من للتّبعيض والظّرف مستقرّ حال والمعنى حالكون الكافرين بعضا من غير المؤمنين والتّقييد به للاشعار بعلّة الحكم ولتحريك الغيرة في المؤمنين ، وقيل في مثله أشياء أخر (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اى اتّخاذ الكافرين أولياء (فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) اى ليس في شيء من النّسب والولايات حالكونها ناشئة من الله أو ليس في شيء من المراتب والمعارج حالكونها بعضا من الله لانّ الله ذو المعارج (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا) استثناء مفرّغ من قوله : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ ،) أو من قوله : (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ) اى الّا لان تتّقوا ، أو في ان تتّقوا ، وفي الكلام التفات من الغيبة

٢٥٥

الى الخطاب (مِنْهُمْ) اى من شرّهم واضرارهم (تُقاةً) قرئ بكسر القاف والياء المشدّدة وبفتح القاف والالف وهو مفعول مطلق أو مفعول به في معنى اسم المفعول يعنى ان خاف أحد من الكافرين على نفسه أو ماله أو عياله أو عرضه أو إخوانه المؤمنين جاز له إظهار الموالاة مع الكافرين مخالفة لما في قلبه لا انّه يجوز موالاتهم حقيقة فانّ التقيّة المشروعة المأمور بها ان تكون على خوف من معاشرك ان اطّلع على ما في قلبك فتظهر الموافقة له بما هو خلاف ما في قلبك ولا اختصاص لها بالكافر فانّه ذكر في حديث انّه ذكر التقيّة عند عليّ بن الحسين (ع) فقال : لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لكفّره (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) فلا تتجاوزوا في موالاتهم عن موضع الرّخصة (وَإِلَى اللهِ) لا الى غيره (الْمَصِيرُ) فلا ينبغي الموالاة لغيره ولا الحذر من غيره الّا باذنه (قُلْإِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ) من المودّة للكافرين وغيرها (أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تعميم بعد تخصيص (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على اعزازكم من دون موالاة الكافرين واذلالكم بموالاتهم فلا تتعرّضوا لما نهاكم عنه ظنّا منكم انّ عزّتكم تحصل منه (يَوْمَ تَجِدُ) ظرف لتودّ أو لقدير على معنى ظهور قدرته في ذلك اليوم ، أو ليعلم ما في السّماوات ، أو ليعلمه الله على هذا المعنى ، أو لا ذكر مقدّرا (كُلُّ نَفْسٍ) خيّره وشريره (ما عَمِلَتْ) صورة ما عملت على تجسّم الأعمال كما سبق تحقيقه أو جزاء ما عملت أو صحيفة ما عملت (مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ) عطف على ما عملت من خير أو لفظة ما شرطيّة وجملة (تَوَدُّ) جزاؤها وارتفاعه لكون الشّرط ماضيا غير ظاهر فيه الجزم ، أو لفظة ما موصولة متضمّنة لمعنى الشّرط مبتدء خبره جملة تودّ (لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً) غاية (بَعِيداً) ولفظة لو هذه مصدريّة محذوفة الفعل أو شرطيّة محذوفة الفعل والجواب اى لو ثبت انّ بينها وبينه أمدا بعيدا تودّ ذلك (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) كرّره للتّوكيد والتّذكير والتّطويل في مقام التّهديد (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ولذا لا يعجّل العقوبة للمسيئين ويحذّرهم رأفة بهم جمع بين صفتي اللّطف والقهر للتّرهيب والتّرغيب (قُلْ) ابتداء خطاب للهداية الى حقّ وصواب (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ) جملة شرطيّة وفعل الشّرط محبّة العباد مقيّدة بالانتساب الى الله والتّمكين فيها المستفاد من تخلّل قوله كنتم فانّ الإتيان بلفظ كان في أمثال المقام للاشارة الى الاستمرار وكون الفعل كالسجيّة ومفهوم مخالفته انتفاء المحبّة المتعلّقة بالله الصائرة كالسجيّة وانتفاؤها امّا بانتفاء المقيّد أو بانتفاء كلّ من القيدين (فَاتَّبِعُونِي) جزاء للشّرط المذكور (يُحْبِبْكُمُ اللهُ) جزاء للشّرط المقدّر المستنبط من الاتّباع اللّازم للمحبّة المقيّدة المذكورة والمقصود انّ محبوبيّتكم لله لازمة لاتّباع الرّسول (ص) بعد المحبّة الثّابتة الرّاسخة لله فمن لم يكن له محبّة كأكثر أهل الجبال والرّساتيق والأكراد والأعراب وغيرهم ممّن لا يعرفون من المحبّة الّا حبّ المأكول والمشروب والوقاع ، أو كان له محبّة ما ؛ لكن كان محبّته للأرواح الخبيثة فقط أو للأرواح الخبيثة والطيّبة شاعرا بانّ محبتّه للأرواح الخبيثة كالابليسيّة والكهنة والثنويّة يعنى المحقّقين المكاشفين منهم أو غير شاعر كالهنود المرتاضين بالمخالفات الشّرعيّة الظّانّين انّ عالم الأرواح واحد وقالوا : انّ طريق الوصول اليه امّا طريق التأسيسات الشّرعيّة وهذا أبعد الطريقين ، أو طريق مخالفة النّواميس الشّرعيّة وهذا أقرب الطريقين ، وكالمبايعين بالبيعة الخاصّة مع من لم يكن أهلا للبيعة مثل أهل السّلاسل الباطلة الباقية آثارهم

٢٥٦

الحقّة في أيدي المبطلين المتشبّهين بالمحقّين فانّ المبايعين لهؤلاء المبطلين كانت لهم محبّة صادقة وبعد انحرافهم الى المبطلين صارت محبّتهم محبّة شيطانيّة وكلّ هؤلاء الفرق محبّتهم للأرواح الخبيثة ولمظاهرها الانسيّة شديدة وليست محبّة الهيّة وهؤلاء ومن لم يكن لهم محبّة أصلا لا يصيرون محبوبين لله سواء اتّبعوا الرّسول (ص) ظاهرا أو لم يتّبعوا ، ومن كان له محبّة إلهيّة لكن لم يكن محبّته راسخة كأكثر افراد الإنسان الّذين لم يستهلك فطرتهم تحت البهيميّة والسبعيّة والشّيطنة فانّهم قد يتشأّنون بشأن المحبّة الإلهيّة ويتألّمون من بعدهم عن الحضرة الإلهيّة ويتحسّرون على تضييع أعمارهم في غير الطّلب لتلك الحضرة لم يفوزوا بالمحبوبيّة ما لم ـ يتمكّنوا في تلك المحبّة باتّباع رسول حقّ من الله ، نعم ان تمكّنوا فيها بسبب اتّباع رسول حقّ فازوا بالمحبوبيّة لله تعالى ومن كان متمكّنا في المحبّة الإلهيّة كالمجذوبين والمبتاعين بالبيعة الخاصّة مع من كان أهلا للبيعة لكن لم يكونوا ذوي عناية بالشّريعة واتّباع من كان أهلا لبيان احكام الكثرة لم يكن محبوبا لله تعالى وان لم يكن مبغوضا له أيضا ، ومن كان متمكّنا في المحبّة الإلهيّة ثابتا في اتّباع الشّريعة كان محبوبا لله تعالى مغبوطا لجملة المقرّبين وهذا تأديب من الله تعالى لا كثر السّلاك البائعين بالبيعة الخاصّة مع من كان أهلا للبيعة المغترّين بالآيات والاخبار المثيرة للغرور مثل آية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) (الى آخر الآية) ومثل آية : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ومثل : حبّ علىّ حسنة لا يضرّ معها سيّئة ، ومثل ولىّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحلال ، ومثل : إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره ، ومثل : لا دين لمن دان الله بولاية امام جائز ليس من الله ، ولا عتب على من دان الله بولاية امام عادل ، ومثل قوله (ع): قال الله تعالى : لأعذّبنّ كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ امام جائر ليس من الله وان كانت الرّعيّة في أعمالها برّة تقيّة ولأعفونّ عن كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ امام عادل من الله وان كانت الرعيّة في أنفسها ظالمة مسيئة وغير ذلك من أمثال ما فيه شبهة غرور فانّ هؤلاء وان فرض انّهم لم يكونوا مبغوضين لكن اين هؤلاء من المحبوبين فالسّالك ينبغي له ان يكون تمام اهتمامه باتّباع الشّريعة المطهّرة بحيث لا يشذّ عنه أدب من آدابه المستحبّة ولا يقنع بعدم المبغوضيّة حتّى فاز بدرجات المحبوبيّة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ).

اعلم انّ اقتضاء المحبوبيّة ان لا يبقى في نظر المحبّ نقص وشين من المحبوب بل كلّ ما فعل الحبيب كان حبيبا عنده ولذلك كان تعالى يجزيهم بأحسن ما كانوا يعملون لانّ تمام افعال الحبيب وجميع أوصافه وأخلاقه تظهر في نظر المحبّ مثل أحسن أفعاله وأوصافه وهذا أحد وجوه تبديل السيّئات حسنات ، وهذا أحد معاني غفران الذّنوب فمن أراد ان يكون بجميع اعماله وأوصافه محبوبا لله فليتّبع الرّسول بشرائط المتابعة ومواثيق المبايعة بعد ما نكت في قلبه نقطة المحبّة وليحذر من مخالفة دقيقة من دقائق الشّريعة (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) جملة حاليّة مؤكّدة مشعرة بعلّة غفرانه لمحبوبه والمعنى انّه من شيمته المغفرة والرّحمة بالنّسبة الى كلّ أحد فكيف يكون مغفرته لمن يكون محبوبه (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ) يعنى بعد ما قلت لهم انّ محبوبيّة الله في متابعتك بعد محبّة الله قل لهم أطيعوا الله (وَالرَّسُولَ) لم يكرّر أطيعوا اشعارا بانّ اطاعة الله تكليفا ليس الّا طاعة الرّسول لا انّ طاعة كلّ مستقلة مغايرة لطاعة الآخر (فَإِنْ تَوَلَّوْا) لفظ تولّوا هذا مشترك بين المضىّ والمضارعة (فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) بطاعة الله وطاعة الرّسول (ص) لانّ المراد به الكفر بالطّاعة هاهنا والمعنى انّه يبغضهم

٢٥٧

وان كان نفي الحبّ اعمّ من البغض فانّه يستعمل في أمثال المقام في أحد فرديه ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشارة الى علّة الحكم والى انّ التولّى عن الطّاعة كفر (إِنَّ اللهَ اصْطَفى) في موضع تعليل للأمر بطاعة الرّسول وسببيّة اتّباعه (ص) للمحبوبيّة كأنّه قال (ص) : فاتّبعونى وأطيعوني لانّى نبىّ من ذرّيّة إبراهيم ومن آله وانّ الله اصطفى (آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ) لنبوّتهم (عَلَى الْعالَمِينَ) وقد ورد في اخبار كثيرة انّهم قرءوا آل إبراهيم وآل عمران وآل محمّد على العالمين ، وفي بعض آل إبراهيم وآل محمّد (ص) بدل آل عمران وقال (ع) فوضعوا اسما مكان اسم والمراد بآل عمران موسى (ع) وهارون (ع) وأولادهما ، أو عيسى (ع) ومريم ابنة عمران ، ولعلّ هذا هو المراد كما سيجيء أو المجموع لصدق آل عمران على المجموع ، وقيل بين العمرانين كان الف وثمانمائة سنة والمراد بآل إبراهيم ، إبراهيم وآله كما سبق الاشارة اليه ، والعدول من إبراهيم الى آل إبراهيم ليعمّ الأنبياء (ع) والأوصياء (ع) بعده بلفظ واحد فانّ الكلّ منسوبون اليه بالنّسب الجسمانيّة كما انّهم منسوبون اليه بالنّسب الرّوحانيّة وذكر آل عمران وآل محمّد (ص) بعده من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ للاهتمام بالخاصّ كأنّه قال : انّ الله اصطفى آل إبراهيم واصطفى منهم آل عمران وآل محمّد (ص) (ذُرِّيَّةً) حال من نوح وآل إبراهيم وما بعده ، أو منصوب بفعل محذوف للمدح ، أو بدل من ما قبله ، والذّريّة بالضمّ والكسر ولد الرّجل للواحد والجمع (بَعْضُها) ناش (مِنْ بَعْضٍ) ولا ينافي كون بعضها من بعض تشعّبها من إبراهيم بشعبتبن (وَاللهُ سَمِيعٌ) لاقوال عباده بلسان استعدادهم ولسان قالهم فيعطى كلّا من المصطفى وغيره بحسب استعداده (عَلِيمٌ) بمكمونات العباد من القوى البعيدة من الاستعدادات القريبة من الفعل فينظر منهم الى قواهم البعيدة من الفعل ولا يعطى جزافا كما لا يمنع جزافا فاصطفى هؤلاء باستحقاقهم واستعدادهم والجملة حال أو عطف على جملة انّ الله اصطفى أو على معمولى انّ في مقام التّعليل لاصطفاء هؤلاء ، أو هي في مقام التّعليل لاصطفاء آل عمران كأنّه كان وجه اصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم معلوما بخلاف اصطفاء آل عمران فقال في بيان وجهه : انّ الله اصطفى آل عمران لانّه كان سميعا لاقوال امرأة عمران عليما باستحقاقها (إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) فعلى هذا لفظ إذ كان ظرفا لسميع وعليم أو مفعولا به لهما باعتبار المضاف اليه نظير الوصف بحال المتعلّق ، أو ظرف لاصطفى المقدّر قبل آل عمران وعلى الوجه الاوّل قوله (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) كان مفعولا لا ذكر مقدّرا وكان منقطعا عمّا قبله واسم امرأة عمران كان حنّة وكانتا أختين إحداهما عند عمران بن اشهم من ولد سليمان (ع) بن داود (ع) وقيل عمران بن ماثان وكان بنو ماثان رؤساء بنى إسرائيل ، والاخرى عند زكريّا وكان اسمها أشياع ، وفي أخبارنا انّ زوجة زكريّا كانت أخت مريم لا أخت أمّها وكانت حنّة قد أمسك عنها الولد حتّى اسنّت فبينا هي تحت شجرة إذ رأت طائرا يزّق فرخا له فتحرّكت نفسها للولد فدعت الله ان يرزقها ولدا فحملت بمريم ونذرت ولدها لخدمة بيت المقدّس وروى انّ الله اوحى الى عمران انّى واهب لك ذكرا سويّا مباركا يبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله وجاعله رسولا الى بنى إسرائيل فحدّث امرأته حنّة فلمّا حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما فلمّا وضعتها قالت ربّ انّى وضعتها أنثى وليس الذّكر كالأنثى لا يكون البنت رسولا يقول الله تعالى والله اعلم بما وضعت فلمّا وهب الله لمريم عيسى (ع) كان هو الّذى بشّر به عمران ووعده ايّاه فاذا قلنا في الرّجل منّا شيئا وكان في ولده أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك ، ولمّا ظنّت انّ حملها الذّكر الموعود نذرته لخدمة بيت المقدّس وقالت (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً) معتقا من خدمتنا لخدمة المتعبّدات أو مختارا

٢٥٨

أو مهذّبا مقوّما من الحريّة مقابل الرّقيّة أو بمعنى كون الشّيء مختارا أو من تحرير الكتاب بمعنى تقويمه وذكروا انّ المحرّر إذا حرّر جعل في الكنيسة يقوم عليها ويكنسها ويخدمها لا يبرح حتّى يبلغ الحلم ثمّ يخيّر فان احبّ ان يقيم فيه اقام وان احبّ ان يذهب ذهب حيث شاء (فَتَقَبَّلْ مِنِّي) نذري (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لقولي ونذري (الْعَلِيمُ) بنيّتى وانّى لا أريد بنذرى سواء رضاك (فَلَمَّا وَضَعَتْها) وكانت ترجوا ان تضع وذكرا ورأتها أنثى خجلت واستحيت و (قالَتْ) منكسّة رأسها مظهرة لخجلتها (رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى) أو لمّا وضعتها أنثى وكانت ترجو انّ الولد ذكر وخابت عن متمنّاها قالت إظهارا لخيبتها ربّ انّى وضعتها أنثى أو لمّا وضعتها ورأت انّها أنثى وعلمت انّ الأنثى تكون ضعيفة في عقلها قالت تقدمة لسؤال استعاذتها ربّ انّى وضعتها أنثى والأنثى تكون ضعيفة فأعيذها بك من الشّيطان ، أو قالت ربّ انّي وضعتها أنثى تقدمة لعدولها عن نذرها يعنى انّ الأنثى لا تصلح لخدمة المعابد فلا اقدر على الوفاء بنذرى قيل : مات عمران حين حملها ووضعتها بعد وفات عمران (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) جملة معترضة من الله لتبجيل ما وضعت يعنى هو اعلم بشأن ما وضعت ومقامها العالي وتحسّرها على كونها أنثى كان لجهلها بمقامها وقرئ بضمّ التّاء على ان يكون من كلامها تسلية لنفسها وبكسر التّاء على ان يكون من كلامها خطابا لنفسها تسلية لها وعلى ان يكون من كلام الله تعالى خطابا لها وتسلية لها وقوله تعالى (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) من كلامه تعالى تسلية لها يعنى ليس الذّكر المتمنّى مثل هذه الأنثى المولودة في الشّرف والمقام أو هو من كلامها تعليلا لتمنّيها وتحسّرها على الأنثى اى ليس جنس الذّكر مثل جنس الأنثى في الخسّة والممنوعيّة من الرّسالة والمعابد بواسطة الانوثة والحيض ، أو ليس الذّكر الموعود مثل هذه الأنثى في الخسّة والممنوعيّة وقيل فيه غير هذا (وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) تفؤّلا فانّ مريم كانت بمعنى العابدة (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) نسب الى النّبىّ (ص) انّه ما من مولود الّا والشّيطان يمسّه حين ولد فيستهلّ صارخا من مسّ الشّيطان ايّاه الّا مريم وابنها (فَتَقَبَّلَها رَبُّها) مع أنوثتها من المنذور لخدمة بيت المقدّس ولم يقبل قبلها أنثى في ذلك أو المعنى تقبّلها وتكفّل أمرها بحيث ما عرتها علّة ساعة من ليل أو نهار أو تقبّلها بتكفيل نبيّه لها (بِقَبُولٍ حَسَنٍ) الباء فيه مثل الباء في قوله (فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ) فالباء فيه للمصاحبة أو للآلة وحسن قبولها أخذها مقام الذّكر وحفظها من الآفات وتسلّمها عقيب ولادتها قبل ان تكبر وتصلح للخدمة وتكفيلها زكريّا نسب الى الرّواية انّ حنّة لمّا ولدتها لفّتها في خرقة وحملتها الى المسجد ووضعتها عند الأحبار وقالت : دونكم هذه النذيرة فتنافسوا فيها لانّها كانت بنت امامهم وصاحب قربانهم فانّ بنى ماثان كانوا رؤس بنى إسرائيل وملوكهم فقال زكريّا : انا احقّ بها عندي خالتها فأبوا الّا القرعة وكانوا سبعة وعشرين فانطلقوا الى نهر فألقوا فيه أقلامهم فطفى قلم زكريّا ورسبت أقلامهم فتكفّلها (وَأَنْبَتَها) من حنّة أو أنماها في نفسها (نَباتاً) امّا مصدر من غير لفظ الفعل أو حال موطّئة للتّوصيف يعنى أنبتها حالكونها نباتا (حَسَناً) بان سوّى خلقها أو بان جعلها بحيث كانت تنمو في يوم ما ينمو غيرها في عام ، أو جعلها بحيث صامت نهارها وقامت ليلها وتبتّلت الى الله حين بلغت حتّى فاقت الأحبار (وَكَفَّلَها) الله (زَكَرِيَّا) كما سبق وقرئ بتخفيف الفاء وزكريّا كان من ولد سليمان وفيه ثلاث لغات المدّ والقصر وتشديد الياء بدون الالف ولمّا كفّل زكريّا مريم بنى لها بيتا واسترضع لها أو ضمّها الى خالتها امّ يحيى حتّى إذا شبّت وبلغت مبلغ النّساء بنى لها محرابا في المسجد

٢٥٩

وجعل بابه في وسطه لا يرقى إليها الّا بسلّم مثل باب الكعبة ولا يصعد إليها غيره وكان يأتيها بطعامها وشرابها ودهنها كلّ يوم (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ) اى بيتها سمّى محرابا لكونه معبدها ومحلّ محاربتها للشّيطان (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) فاكهة في غير حينها غضّا طريّا والجملة جواب كلّما (قالَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قال لها كلّما وجد عندها رزقا؟ ـ فقال تعالى : قال (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا) كيف لك أو من اىّ مكان لك هذا الرّزق وهو للتعجّب (قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) استيناف في مقام التّعليل (هُنالِكَ) في ذلك المكان أو في ذلك الزّمان (دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) يعنى بعد ما شاهد من مريم ما شاهد من إكرام الله لها حنّ الى ولد كريم على الله مثلها فدعا ربّه (قالَ رَبِّ هَبْ لِي) لانتفاعى (مِنْ لَدُنْكَ) لا من لدن غيرك من الملائكة أو الشّياطين حتّى يكون عوده الى حضرتك (ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ) اى مجيبه فانّ السّماع في أمثال المقام يستعمل في الاجابة والجملة مستأنفة لبيان علّة الدّعاء أو لبيان حاله تعالى في مقام الدّعاء «ف» أجاب الله تعالى دعاءه و (فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ) في مصلّاه (أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) هذا اجابة منه تعالى لدعائه (ع) فانّ التصديق بكلمة الله دليل الطيبوبة والمراد بكلمة الله هو المسيح فانّه لفنائه في نفسه وبقائه بربّه صار كالكلمة الغير القارةّ الغير المستقلّة بنفسها القائمة بالمتكلّم (وَسَيِّداً) للخلق في الشّرف ولقومه في الطّاعة (وَحَصُوراً) مبالغا في منع النّفس عن الّشهوات ولذلك فسّر بمن لا يأتيه النّساء (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) واتّصافه بالأوصاف الثّلاثة من الفضل في الاجابة (قالَ) قد مضى مكرّرا انّ أمثال هذا جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما قال بعد البشارة من الله بالولد؟ ـ قال قال (رَبِّ أَنَّى) كيف (يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) والكبير لا يصلح نطفته لانعقاد الولد كان الظّاهر ان يقول وقد بلغت الكبر لكنّه نسب البلوغ الى الكبر للاشعار بانّ الهرم كالطّالب الآتي الى الإنسان (وَامْرَأَتِي عاقِرٌ) ما كان يصلح رحمها لانعقاد الولد قبل الكبر فكيف بعد الكبر وهذا تعجّب واستبعاد منه للولد بحسب الأسباب الطبيعيّة ولذلك أتى بعده بانقطاع الأسباب الطبيعيّة وتبجّح منه بإفضال الله وإكرامه مع عدم الأسباب لا انّه انكار منه لفعل الله بدون الأسباب حتّى يكون مخالفا لمقام الأنبياء (ع) قيل كان زكريّا يوم بشّر بالولد ابن عشرين ومائة وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة (قالَ) الله أو الملك المنادي (كَذلِكَ) خبر مبتدء محذوف اى الأمر كما بشرّت به أو متعلّق بيفعل يعنى مثل إعطاء الولد من غير وجود الأسباب الطبيعيّة (اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) كانت أسبابه موجودة أو لم تكن ، وقيل : كان استفهامه على سبيل التعرّف أيعطيهما الولد على حال الشّيخوخة أم يجعلهما شابّين ثمّ يعطيهما ، وقيل : يحتمل ان يكون اشتبه الأمر عليه أيعطيه من امرأته العجوز العاقر أم من امرأة أخرى شابّة صالحة للولد ، وقيل : انّما سأل ذلك ليعرف انّ البشارة كانت حقّة وكانت من الملك أم كانت من الشّيطان ولذلك (قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً) وقيل انّما قال ذلك ليتعرّف بها وقت الحمل ليزيد في العبادة والشّكر أو ليتعجّل السّرور به (قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ) لا تقدر على التكلّم (ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً) استثناء مفرّغ منقطع اى لكن ترمز إليهم رمزا ، أو المراد بالتكلّم الافهام والاستثناء متّصل والمعنى آيتك ان لا تفهم النّاس

٢٦٠