تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

المعنى (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ابتداء كلام منقطع عمّا قبله لابداء توحيده في معبوديّته أو في مرجعيّته ان أخذ الإله من اله بمعنى عبد أو التجأ أو في خالقيّته ان أخذ من لاه يلوه بمعنى خلق ولاثبات بعض صفاته الاخر الثبوتيّة والسلبيّة والحقيقيّة والاضافيّة ، أو جواب لسؤال ناش عن قوله (لكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) كأنّه قيل إذا لم يكن فاعل سواه فما حاله؟ أو قيل : لم لم يكن سواه فاعل؟ وما ورد في فضل قراءة آية الكرسىّ يشعر بكونه مقطوعا عمّا قبله وفي فضل آية الكرسي وقراءتها دبر الصّلوات الفريضة اخبار كثيرة فعن رسول الله (ص) انّه قال : اىّ آية في كتاب الله أعظم؟ ـ قال الرّاوى : فقلت : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) قال : فضرب (ص) في صدري ثمّ قال : لهناك العلم ؛ والّذى نفس محمّد (ص) بيده انّ لهذه الآية لسانا وشفتين يقدّس الملك عند ساق العرش. وفي المجمع باسناده قال النّبىّ (ص): من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلوة مكتوبة كان الّذى يتولّى قبض نفسه ذا الجلال والإكرام ، وكان كمن قاتل مع أنبيائه حتّى استشهد ، وعن علىّ (ع) انّه قال : سمعت نبيّكم على أعواد المنبر وهو يقول : من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلوة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة الّا الموت ، ولا يواظب عليها الّا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره ، وعنه (ع) انّه قال : سمعت رسول الله (ص) يا علىّ سيّد البشر آدم (ع) الى ان قال : وسيّد الكلام القرآن وسيّد القرآن البقرة ، وسيّد البقرة آية الكرسىّ ، يا علىّ انّ فيها لخمسين كلمة وفي كلّ كلمة خمسون بركة ، وعن ابى جعفر (ع): من قرأ آية الكرسىّ مرّة صرف الله عنه الف مكروه من مكاره الدّنيا ، والف مكروه من مكاره الآخرة ؛ أيسر مكروه الدّنيا الفقر ، وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر ، وعن ابى عبد الله (ع): انّ لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسىّ ، والسرّ في ذلك انّ فيها أصول الصّفات الإلهيّة وأمّهات الإضافات الربوبيّة (الْحَيُ) خبر بعد خبر أو خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبره القيّوم ، أو ما بعد القيّوم أو خبر ابتداء ، ولا اله جملة حاليّة أو معترضة مدحيّة كالجمل الدّعائيّة المعترضة ، والحيوة صفة مستلزمة للإدراك والمشيّة والارادة والقدرة والاختيار والفاعليّة الاراديّة فهي مشيرة الى كثير من الصّفات الإلهيّة (الْقَيُّومُ) صفة أو خبر أو خبر بعد خبر وهو من قام المرأة وعليها مأنها وكفى أمورها ، وهو من أسمائه الخاصّة به تعالى ومعنى قيّوميّته تعالى للأشياء إيجاده لها وكفايتها في جميع مالها الحاجة اليه من جميع ما به إضافاته اليه واضافاتها اليه فهي جامعة لجميع صفاته الاضافيّة ، ولمّا كان القائم بأمر غيره كثيرا ما يختلّ امره بالغفلة عن أمره وكان عمدة أسباب الغفلة السّنة والنّوم نفى هذين عنه تعالى فقال (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ) السنة كعدة والوسن محرّكة والوسنة ثقل النّوم أو اوّله أو النّعاس والجملة جواب لسؤال مقدّر أو خبر أو خبر بعد خبر أو حال أو معترضة مدحيّة (وَلا نَوْمٌ) وهو ردّ على اليهود وغيرهم الّذين قالوا : انّ الرّبّ فرغ من الأمر واستراح أو استلقى على ظهره كما أشير اليه في الاخبار (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وهذه كسابقتها في وجوه الاعراب واللّام في مثل المقام يستعمل في المبدئيّة والمرجعيّة والمالكيّة والمراد منه معنى عامّ للثّلاثة فهو تصريح بما استفيد اجمالا من القيّوم وكثيرا ما يقال لزيد ما في الصّندوق ويراد به الصّندوق وما فيه خصوصا إذا كان ما في الصّندوق غاليا (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ) تأكيد لقيّوميّته تعالى ولها الوجوه السّابقة مقطوعة ومرتبطة ويجوز تقدير القول بالوجوه السّابقة (إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) هذه أيضا كسوابقها في الوجوه المذكورة وهو أيضا تأكيد لما استفيد التزاما من القيّوم ، والمراد بما بين أيديهم طولا الدّنيا والآخرة ، وعرضا

٢٢١

ما يأتى أو ما مضى كما مضى الاشارة اليه عند قوله (فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها)(وَما خَلْفَهُمْ) يعلم بالمقايسة (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ).

بيان الاحاطة بما شاء الله من علمه

اعلم انّ العلم بمعنى ظهور الشّيء عند شيء آخر له معنى مصدرىّ هو من المفاهيم العامّة ومعنى ينتزع ذلك الظّهور منه وهو صورة المعلوم الّتى حصلت عند العالم هذا في العلوم الحصوليّة وامّا العلم الحضورىّ فليس هناك ما به الظّهور وغير الظّاهر ، بل المعلوم بذاته حاضر عند العالم لا بصورة ينتزع منها المعنى المصدرىّ للعلم فالعلم والمعلوم فيه متّحد ان وإذا كان المعلوم بالعلم الحضورىّ ذات العالم كان العلم والمعلوم والعالم متّحدة وعلى ما قيل وهو الحقّ ؛ انّ العلوم الصوريّة شؤن للعالمين وليست كيفيّات نفسانيّة ولا إضافات كما قيل كان العلم والعالم فيها متّحدين ، وإذا كان العلوم الحضوريّة شؤن العالمين كما قيل وهو الحقّ كان العلم الحضورىّ والعالم والمعلوم متّحدة مطلقا ، ولمّا كان علم الله بالأشياء عالياتها ودانياتها بحضور وجوداتها عنده لا بحصول صورها فيه أو في لوح حاضر عنده كما قيل كان جملة ما سوى الله علومه تعالى كما انّها معلومات له لاتّحاد العلم والمعلوم كما علمت والصّور الحاصلة في النّفوس والحاضرة عندها من جملة معلوماته تعالى وعلومه تعالى ، وعلى ما ذكر انّ العلم شأن من النّفس الانسانيّة كان الإنسان محيطا بعلمه حضوريّا كان أم حصوليّا ولما كان العلوم حادثة وكلّ حادث مسبوق بمشيّته تعالى لم يكن يحدث علم الّا بمشيّته تعالى فتبيّن معنى قوله تعالى (لا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) وانّ المعنى لا يحدث لأحد شيء من علم الله الّا بمشيّته تعالى (وَسِعَ) هذه كالجمل السّابقة في الوجوه المحتملة (كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) المشيّة بوجهها الى الله عرش وبوجهها الى الخلق كرسىّ ، ويسمّى الفلك الثامن لكونه مظهرا للكرسىّ بالكرسىّ كما يسمّى الفلك المحيط بالعرش ، ولمّا كانت المشيّة فعله تعالى وهو لا بشرط شيء ويجتمع مع كلّ شرط وفيها جميع صفاته وأسمائه بوجود واحد جمعىّ جاز تفسير الكرسىّ بالعلم وتفسير العرش بجملة الخلق وصحّ ورود الاخبار بالاختلاف في تفسيرهما ؛ فعن النّبىّ (ص): ما السّموات السّبع والأرضون السّبع مع الكرسىّ الّا كحلقة ملقاة في فلاة ، وفضل العرش على الكرسىّ كفضل تلك الفلاة على تلك الحلقة ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : حين سئل عن العرش والكرسىّ ما هما؟ ـ العرش في وجه هو جملة الخلق والكرسىّ وعاؤه ، وفي وجه آخر : العرش هو العلم الّذى اطّلع الله عليه الأنبياء (ع) ورسله (ع) وحججه (ع) والكرسىّ هو العلم الّذى لم يطّلع عليه أحدا من أنبيائه (ع) ورسله (ع) وحججه (ع) (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما) لا يثقله حفظه لهما (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) حال بمنزلة التّعليل (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) استيناف منقطع عن سابقه والدّين الجزاء والإسلام والعادة والعبادة والطّاعة والغلبة والسّلطان والملك والحكم والسّيرة والتّوحيد واسم لجميع ما يتعبّد الله به والملّة والعزّة والذّلّة والمراد به هاهنا الإسلام الحقيقىّ الّذى هو الطّريق الى الايمان الّذى هو طريق الآخرة ، أو المراد الايمان الحقيقىّ الّذى هو البيعة الخاصّة الولويّة الّتى يعبّر عنها بالولاية ، أو المراد السّلوك الى الآخرة بالايمان ، ولذلك نفى الإكراه عنه والّا فالدّين بمعنى مطلق الإسلام أو العبادة أو الطّاعة أو السّيرة أو الملّة كثيرا ما كان يحصل بالسّيف كما قال (ص): انا نبىّ السّيف ، وامّا الإسلام الحقيقىّ والايمان الحقيقىّ والسّلوك الى الآخرة فلا يمكن الإكراه فيها لأنّها امر معنوىّ لا يتصوّر الإكراه الجسمانىّ فيها ، أو نقول : ليس الدّين الّا الولاية الّتى هي البيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة ، وما سواها يسمّى بالدّين لكونه مقدّمة لها ، أو مسبّبا عنها ،

٢٢٢

أو مشاكلا لها ، ولا إكراه في الولاية ، أو المعنى لا إكراه في الدّين بعد تماميّة الحجّة بقبول الرّسالة وتنصيص الرّسول (ص) على صاحب الدّين (قَدْ تَبَيَّنَ) اى تميّز (الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) استيناف في مقام التّعليل أو حال والمعنى لا يكره أحد في الدّين بالنّفى أو لا يكره بالنّهى على ان يكون الاخبار في معنى النّهى لتميّز الرّشد أو حالة تميّز الرّشد من الغىّ وفي الاخبار إشارات الى انّ المراد لا إكراه في ولاية علىّ (ع) (فَمَنْ يَكْفُرْ) عطف على سابقه والفاء للتّرتيب في الاخبار اى فنقول : من يكفر أو جزاء لشرط مقدّر والتّقدير إذا تبيّن الرّشد فمن يكفر (بِالطَّاغُوتِ) فقد توسّل بالرّشد المعلوم له فلا يزول ولا ينفصم توسّله لعلمه التّحقيقىّ الّذى لا زوال له ، والطّاغوت في الأصل طغيوت من الطّغيان فقلب فصار فلعوت والتّاء زائدة لغير التّأنيث فيه وفي نظائره ولذا تكتب بالتّاء وتثبت في الجمع فيقال طواغيت وطواغت وقد تكتب بالهاء مثل جبروة وطاغوة وتسقط من الجمع مثل طواغ وحينئذ تكون للتّأنيث ويجرى على ألفاظها احكام التّأنيث وهذه الهيئة للمبالغة في معنى المصدر سواء جعلت مصدرا مثل رحموت ورهبوت ورغبوت وجبروت أو اسم مصدر ، وسواء استعملت في معنى الحدث أو في معنى الوصف مثل الطّاغوت ، وفسّر الطّاغوت بالشّيطان والكاهن والسّاحر والمارد من الجنّ والانس والصّنم وكلّ ما عبد من دون الله تعالى والحقّ انّ الطّاغوت يشمل النّفس الامّارة الانسانيّة وكلّما يتبعه تلك النّفس من الشّيطان والأصنام والجنّة والكهنة والسّحرة ورؤساء الضّلالة جميعا والآية في شأن ولاية علىّ (ع) والمقصود من قوله تعالى (وَيُؤْمِنْ بِاللهِ) الايمان الخاصّ الّذى لا يحصل الّا بالبيعة على يد علىّ (ع) فانّ الايمان العامّ الّذى يحصل بالبيعة العامّة النّبويّة لا يدخل به شيء في القلب فلا يتوسّل بشيء حتّى يصحّ ان يترتّب عليه قوله تعالى (قَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها) جملة حاليّة أو جواب لسؤال مقدّر.

تحقيق الاستمساك بالعروة الوثقى وبيان العروة الوثقى

اعلم انّ امر الولاية الّتى هي عبارة عن البيعة الخاصّة الولويّة والاتّصال بولىّ الأمر بعقد اليمين اجلّ وارفع من ان يوصف لانّ صورتها وان كانت من الأعمال الجسمانيّة المحسوسة لكنّ الاتّصال الرّوحانىّ الحاصل بها امر غيبىّ لا يدرك بالأبصار ولا يتوهّم بالأمثال ولا يتعقّل بالعقول لأنّه لا حدّ له ولا رسم ولا كيف له ولا كمّ بل هو كما قال المولوىّ قدس‌سره :

اتّصالى بى تكيّف بى قياس

هست ربّ النّاس را با جان ناس

وللاشارة الى انّ هذا الاتّصال ليس الّا لمن قبل الولاية بالبيعة الخاصّة الولويّة قال المولوى :

ليك گفتم ناس من نسناس نى

ناس غير جان جان أشناس نى

فلا بدّ من التّمثيل والتّشبيه إذا أريد التّنبيه عليه فنقول : انّ الإنسان يزداد في جوهر ذاته من اوّل تولّده وليس استكماله بمحض الازدياد في كيفيّاته كما قيل وكلّما ازداد في ذاته وحصل له فعليّة من فعليّات طريقه المؤدّى الى فعليّات انسانيّته صار اسم الانسانيّة واسم شخصه اسما لتلك الفعليّة وصارت الفعليّات السّابقة فانية ومغلوبة لتلك الفعليّة فاذا بلغ الى مقام عقله الّذى هو مناط التّكليف والتّدبير صار قابلا لتصرّف الشّيطان وتصرّف الملك والرّحمن ولا ينعقد قلبه على شيء منهما بمعنى انّه لا يتمكّن الشّيطان من التصرّف فيه ولا الملك ما لم يرد الولاية فتنعقد فعليّاته بتصرّف الشّيطان أو لم يقبلها فتنعقد فعليّاته بولىّ امره فهو حينئذ كالنّخلة الّتى لا تثمر الّا بالتّأبير وكشجرة الفستق الّذى لا يصير فستقه ذا لبّ الّا بالتلقيح ، أو كاللّبن الّذى لا ينعقد

٢٢٣

الّا بالانفحة فاذا انعقد قلبه على الولاية صار كلّ فعل وفعليّة له منعقدا بالولاية وجميع فعليّاته مغلوبا ومحكوما بحكم فعليّة الولاية وصار اسم الانسانيّة واسم شخصه اسما لفعليّة الولاية وفعليّة الولاية كما سبق تحقيقها عند قوله: (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ؛) نازلة ولىّ الأمر ، وبتلك النّازلة يتحقّق نسبة الابوّة والبنوّة بين التّابع والمتبوع ، ونسبة الأخوّة بين الاتباع ، وبهذه النّسبة قال عيسى (ع) : انا ابن الله ، وقال : كلّ من حصل له تعميد التّوبة على يدي أو أيدي خلفائي فهو ابن الله ، ولذلك قالت النّصارى : نحن أبناء الله ولو لا تنزّل ولىّ الأمر في وجود المولىّ عليه لم يتحقّق شيء لتصحيح تلك النّسبة وقد أشار المولوىّ الى حصول تلك وتصحيحها بقوله :

هست إشارات محمّد المراد

كل گشاد اندر گشاد اندر گشاد

صد هزاران آفرين بر جان أو

بر قدوم ودور فرزندان أو

آن خليفه زادگان مقبلش

زاده اند از عنصر جان ودلش

گر ز بغداد وهرى يا از ريند

بى مزاج آب وگل نسل ويند

عيب جويان را از اين دم كور دار

هم بستّارى خود اى كردگار

ولكون الفعليّات والأفعال بدون الولاية قشورا خالية من الألباب ورد لو انّ عبدا عبد الله تحت الميزاب سبعين خريفا قائما ليله صائما نهاره ولم يكن له ولاية ولىّ امره أو ولاية علىّ (ع) بن ابى طالب (ع) لأكبّه الله على منخريه في النّار وغير ذلك من الاخبار المفيدة لهذا المضمون ، ولكون تلك الولاية عبارة عن الأعمال البدنيّة جعلت قرين الصّلوة والزّكاة والحجّ والصّوم في الاخبار الدّالّة على انّ الإسلام بنى على خمس ، ولكونها أصل الكلّ وأصل جميع الخيرات كما عرفت ورد في بعض الاخبار انّها أفضل وانّها مفتاحهنّ والوالي هو الدّليل عليهنّ ، وفي بعضها : لم يناد بشيء ما نودي بالولاية ؛ فأخذ النّاس بأربع وتركوا هذه يعنى الولاية ، وفي بعضها : من مات ولم يعرف امام زمانه مات ميتة الجاهليّة ، وأحوج ما يكون الى معرفته إذا بلغت نفسه هاهنا ؛ وأهوى بيده الى صدره ، وفي بعضها : انّ الله فرض على خلقه خمسا فرخّص في اربع ولم يرخّص في واحدة ، وفي بعضها : حبّ علىّ حسنة لا يضرّ معها سيّئة ، وفي بعضها : إذا عرفت فاعمل ما شئت من قليل الخير وكثيره ، وغير ذلك من الاخبار الدّالّة على فضائل الولاية ، ونقل عن ابن أبى يعفور في بيان آخر الآية انّه قال : قلت لأبى ـ عبد الله (ع) انّى أخالط النّاس فيكثر عجبي من أقوام لا يتولّونكم ويتولّون فلانا وفلانا لهم امانة وصدق ووفاء ، وأقوام يتولّونكم ليست لهم تلك الامانة ولا الوفاء ولا الصّدق قال : فاستوى ابو عبد الله جالسا فأقبل علىّ كالغضبان ثمّ قال : لا دين لمن دان الله بولاية امام جائر ليس من الله ، ولا عتب على من دان الله بولاية امام عادل من الله ، قلت : لا دين لأولئك ولا عتب على هؤلاء؟ ـ قال : نعم ، ثمّ قال (ع) : الا تسمع لقول الله : عزوجل (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) يعنى من ظلمات الذّنوب الى نور التّوبة والمغفرة لولايتهم كلّ امام عادل من الله عزوجل وقال (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) انّما عنى بهذا انّهم كانوا على نور الإسلام فلمّا ان تولّوا كلّ امام جائر ليس من الله خرجوا بولايتهم من نور الإسلام الى ظلمات الكفر فأوجب لهم النّار مع الكفّار وفي خبر : فأعداء علىّ (ع) أمير المؤمنين هم الخالدون في النّار وان كانوا في أديانهم على غاية الورع والزّهد والعبادة ، والحاصل انّ ولىّ علىّ لا يأكل الّا الحلال وعدوّ علىّ (ع) لا يأكل الّا الحرام ، ومن لم يكن ذا ولاية وعداوة لا يحكم عليه بحلّيّة ولا حرمة ؛ وكان مرجى لأمر الله ، وقوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) بتعليق إحلال البهيمة على الوفاء بالعقود اشارة الى البيعة مع علىّ بالخلافة في غدير خمّ وجمع العقود لانّهم عقدوا البيعة في ذلك اليوم في ثلاثة مواطن وورد في عشرة مواطن للتّأكيد

٢٢٤

المطلوب في هذا الأمر وقوله تعالى : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) ، و (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) ، و (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ) بتعليق يأس الكفّار وإكمال الدّين وإتمام النّعمة والرّضا بالإسلام دينا وإحلال الطّيّبات والمحصنات من النّساء على يوم البيعة مع علىّ (ع) في غدير خمّ يدلّ على ان لا حليّة لشيء بدون الولاية ، وقد مرّ مرارا انّه كلّما ذكر عهد وعقد وميثاق ويمين فالنّظر اوّلا الى عقد البيعة وخصوصا البيعة الخاصّة الولويّة ، وكلّما ذكر نقض عقد وعهد وميثاق فالمقصود عقد البيعة ولا سيّما الولاية ؛ والحاصل انّ الإنسان بمنزلة المادّة للولاية ، والولاية صورته وفعليّته فما لم ينعقد بالولاية لم يكن له فعليّة الانسانيّة ، وإذا انعقد بالولاية حصل له الانسانيّة وتمّ له الفعليّة فكأنّه قبل الولاية لم ينفخ فيه روح الحيوة وكان ميتا أفمن كان ميتا فأحييناه يعنى بالولاية اشارة الى ما ذكر ، وقوله (ع): النّاس موتى وأهل العلم أحياء ؛ اشارة اليه فانّ اهليّة العلم منحصرة بهم وبشيعتهم كما قالوا : شيعتنا العلماء بطريق الحصر فكلّ نعمة وخير وصلاح نعمة وخير وصلاح بالولاية ، والّا كان نقمة وشرّا وفسادا كائنا ما كان ، وبالولاية احياء النّسل والحرث وإصلاح الأرض وعمارتها ، وبردّها إهلاك النّسل والحرث وإفساد الأرض وخرابها ، وهي ذروة الأمر وسنامه ومفتاح الأشياء وباب الأبواب ورضى الرّحمن وجنّة الرضوان وأصل الخيرات وأساس الحسنات ، وهي الحكمة الّتى من أوتيها فقد اوتى خيرا كثيرا ، وهي رحمة الله وبها يكون فضل الله وقوام النّبوّة والرّسالة ، ومن عرف من أمّة محمّد (ص) واجب حقّ ولايته وجد طعم حلاوة ايمانه وعلم فضل طلاوة إسلامه ، بها دين العباد وبنورها استهلال البلاد ، وببركتها نموّ التلاد ، وهي حيوة الأنام ، ومصباح الظلام ، ومفتاح الكلام ، ودعامة الإسلام ، وبالجملة الإنسان غاية خلق العالم والولاية غاية خلق الإنسان (وَاللهُ سَمِيعٌ) جملة حاليّة للتّرغيب في الايمان بالله كأنّه قال : (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) مع انّ الله الّذى آمن به سميع لأقواله (عَلِيمٌ) بأفعاله فيجزيه بها (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) جملة حاليّة مكتفية عن الرّابط بتكرار ذي الحال أو مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما شأن الله مع من آمن به وما يفعل بهم؟ ـ فقال تعالى : هو وليّهم وقدّم الله هاهنا بخلاف القرين الآتي حيث أخّر الطّاغوت لشرافته والالتذاذ والتبجّح بذكره والدّلالة على انّه ليس في قلبه (ص) سواه (يُخْرِجُهُمْ) خبر بعد خبر ، أو حال عن المستتر في الخبر ، أو عن الموصول أو عنهما ، أو مستأنف جواب لسؤال عن حاله معهم ، أو عن علّة إثبات ولايته ، وأتى بالخبر الاوّل وصفا لعدم التجدّد والحدوث في الولاية بعد ثبوته بالبيعة الولويّة بخلاف إخراجه تعالى للمؤمنين من الظّلمات فانّه امر يتطرّق التجدّد والحدوث فيه آنا فانا (مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ).

اعلم انّ اللّطيفة السيّارة الانسانيّة المعبّر عنها بالإنسان ليست في بدو حصول مادّتها واستقرارها في الرّحم الّا قوّة محضة وعدما شأنيّا ثمّ تتدرّج في الخروج من القوّة والعدم الى الفعليّة والوجود الى زمان بلوغها مبلغ الرّجال فيصير الإنسان إنسانا بالفعل واقعا بين دار النّور ودار الظّلمة مختلطا فيه نور الانسانيّة بظلمة الحيوانيّة والطّبع والمادّة والشّيطنة ، وظلمة الحيوانيّة تنشعب الى شعب كثيرة فان أدركته العناية الإلهيّة وبلغ الى من دعاه الى الإسلام وأسلم بالتّسليم والانقياد للنّبىّ (ص) ونوّابه وبايع البيعة الاسلاميّة وحصل له الحالة الحاصلة بالبيعة ازداد نوريّته واشتدّت بواسطة نور الإسلام وأخرجه الله قليلا من الظّلمات المذكورة الى النّور ، فان أدركته العناية مرّة أخرى ودخل في الايمان بقبول الولاية والبيعة الخاصّة الولويّة وحصل له الحالة الحاصلة بالبيعة الخاصّة

٢٢٥

أخرجه الله من قواه واعدامه متدرّجا الى نور الايمان ، ثمّ يتفضّل الله عليه بدوام الإخراج التجدّدىّ ويتدرّج هو في الخروج الى ان يخرج من تمام القوى والاعدام والحدود الى تمام الفعليّة والنّور ، ولمّا كان النّور حقيقة واحدة ليس اختلافها الّا بالشدّة والضعف الّذى يؤكّد الوحدة وسعتها أو باختلاف الحدود والمهيّات ولا يؤثّر اختلاف الحدود في ذاته وكانت الظّلمات اى القوى والحدود والاعدام الشّأنيّة متكثّرة مختلفة بذواتها ومورثة للكثرة في النّورانى بالنّور مفردا وبالظّلمات جمعا (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ) قد مضى بيان الطّاغوت قبيل هذا ، وتأخير الطّاغوت عن الأولياء مع انّه مبتدء بقرينة حمل الولىّ على الله في قرينة لعدم الاعتداد به ، وجمع الأولياء مع افراد الطّاغوت امّا لارادة الجنس من الطّاغوت والاشعار بتعدّد الطّواغيت كالظّلمات ، أو للاشارة الى تعدّد جهات ولاية كلّ طاغوت كأنّه مع وحدته أولياء للكافر (يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ) فسّر في أخبارنا النّور في الفقرتين بنور الإسلام والظّلمات بظلمات الكفر وبآل محمّد (ص) وأعدائهم وبنور التّوبة وظلمات الذّنوب (أُولئِكَ) الكافرون أو الطّواغيت أو المجموع (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) الإتيان باسم الاشارة واسميّة الجملة وتأكيد الخلود المستفاد من صحابة النّار بالتّصريح به للتّغليظ والتّطويل والتّأكيد المطلوب في مقام الذمّ (أَلَمْ تَرَ) الم ينته رؤيتك (إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ) التعدّية ب إلى للتّضمين المذكور المشعر ببعد المفعول عن الرّؤية والإدراك والجملة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما الشّاهد على الاخراجين؟ ـ فقال تعالى إخراج نمرود حين المحاجّة في الله من نور التّسليم لربوبيّة الله الى ظلمات انكار الرّبّ والمغالطة في المحاجّة والتّحيّر حين المغلوبيّة وإخراج النّبىّ الّذى مرّ على القرية من ظلمة الشّكّ والحيرة وحجاب العلم الى نور الشّهود والعيان لكنّه أخرجه في صورة الاستفهام التعجيبىّ تفضّلا في الجواب بالمبالغة في استغراب القضيّتين ، ونمرود حاجّ إبراهيم (ع) قبل القائه في النّار كما قيل أو بعد القائه وخروجه سالما من النّار كما نسب الى الصّادق (ع) (أَنْ آتاهُ) اى إبراهيم (اللهُ الْمُلْكَ) ملك النّبوّة والطّاعة أو نمرود الملك الصورىّ وهو بتقدير لام التّعليل (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) بدل من الّذى حاجّ نحو بدل الاشتمال ، أو ظرف لحاجّ والمقصود إذ قال إبراهيم بعد ما قال نمرود له من ربّك يا إبراهيم؟ ـ (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) أتى بوصف الأحياء الّذى يعجز عنه غير الله وذكر الاماتة ليس للتّعجيز بل لمناسبة التضادّ أو هي أيضا للتعجيز فانّ الاماتة إزهاق الرّوح من دون فعل من المميت بالنّسبة الى بدن الميّت أو روحه ، وهذا خاصّ بالله فان كان الإزهاق بسبب فعل فاعل كان قتلا لا إماتة (قالَ) مثل هذا يكون جوابا لسؤال مقدّر (أَنَا أُحْيِي) بان لا اقتل من وجب القتل عليه وانجيه من الحبس (وَأُمِيتُ) بقتل من أردت قتله ، وهذا مغلطة منه في الجواب تمويها على العوامّ لانّ إبقاء الحيوة الحاصلة من الله ليس احياء على انّه ليس إبقاء للحيوة بل هو ترك لفعل يؤدّى الى إزهاق الرّوح ؛ وهكذا الحال في الاماتة ، ولمّا كان إلزامه ببيان مغلطته في الجواب لم يكن يظهر على العوامّ عدل عن الإلزام ببيان المغلطة الى التّعجيز بوصف آخر ، روى عن الصّادق (ع): انّ إبراهيم (ع) قال له فأحى من قتلته ان كنت صادقا و (قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) لمّا ادّعى الرّبوبيّة لنفسه بالاشارة الى قياس مستفاد من ادّعاء حصر الأحياء والاماتة في نفسه بتقديم المسند اليه في قوله (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) تصويره هكذا ربّك الّذى يحيى ويميت وكلّ محيى ومميت انّا فانا ربّك ، وموّه ذلك على العوامّ

٢٢٦

عدل عن اسم الرّبّ وقال : فانّ الله يأتى ؛ باسم الجلالة حتّى لا يتأتّى له التّمويه بوصف المسند اليه ولا بوصف المسند (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ) البهت كالنّصر الانقطاع والتّحيّر وفعلهما كعلم ونصر وكرم وعنى والوصف مبهوت لا باهت وقرء مبنيا للفاعل ومبنيّا للمفعول والمعنى فانقطع حجّته أو تحيّر (الَّذِي كَفَرَ) اى نمرود (وَاللهُ لا يَهْدِي) جملة حاليّة والمعنى فانقطع حجّته والحال انّه لم يكن له معين يعينه فانّ المعين ليس الّا الله والله لا يهدى (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) على أنفسهم ثمّ على الخلق ثمّ على خلفاء الله (أَوْ كَالَّذِي) عطف على صلة الموصول اى الم تر الى الّذى كالّذي (مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ) وقيل في اعرابه وجوه أخر والمارّ كان عزير النّبىّ (ع) أو ارمياء (ع) وهما مذكوران في الاخبار ، وقيل : كان خضرا والقرية بيت المقدّس حين خرابه بجنود بختنصّر ، وقيل : الأرض المقدّسة اى الشام ، وقيل : القرية الّتى خرج منها الألوف فقال لهم الله : موتوا (وَهِيَ خاوِيَةٌ) خالية أو خربة وعليهما فقوله تعالى : (عَلى عُرُوشِها) حال أو ساقطة على سقوفها بمعنى انّ سقوفها سقطت ثمّ سقطت جدرانها على سقوفها ، (قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ) اى أهل هذه القرية أو انّى يعمر هذه القرية (اللهُ بَعْدَ مَوْتِها) اى موت أهلها أو خرابها وانّما قال ذلك استعظاما لأمرها لا إنكارا لقدرة الله عليها (فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ) يعنى انظر الى قدرة الله وعجيب صنعه في انّ طعامك وشرابك (لَمْ يَتَسَنَّهْ) في طول هذه المدّة ، والهاء للسّكت والمعنى لم يتغيّر (وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ) كيف صار رميما وتفرّقت عظامه مع بقاء طعامك وشرابك (أَوْ) فعلنا ذلك بك (لِنَجْعَلَكَ) أو فعلنا ذلك بك لتصير موقنا مشاهدا ولنجعلك (آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ) عظام بدنك وعظام حمارك (كَيْفَ نُنْشِزُها) نرفعها ونركّب بعضها على بعض وقرء بالرّاء المهملة من باب الأفعال ومن الثلاثىّ المجرّد (ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ) وشاهد ما علمه سابقا بعد إماتته مائة عام (قالَ) النّبىّ (أَعْلَمُ) على قراءة المضارع أو قال الله اعلم على قراءة الأمر وقد ذكر في الاخبار وجوه لا ماتة هذا النّبيّ (ع) وتفاصيل لكيفيّتها من أراد فليرجع الى المفصّلات (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه الأحياء بعد الاماتة (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) عطف على مجموع (إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ) أو على الموصول المجرور ب إلى واشارة الى وجه آخر لإخراج المؤمن من ظلمات حجاب العلم الى نور العيان ، أو عطف على قوله (إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ) على ما نقل انّه قال بعد قول نمرود انا أحيى وأميت انّ احياء الله بردّ الرّوح الى بدن الميّت فقال نمرود : وهل عاينته؟ ـ فلم يقدر ان يقول : نعم ، فسأل الله بعد ذلك في الخلوة وقال (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى) حتّى أجيب به نمرود (قالَ) الله (أَوَلَمْ تُؤْمِنْ) أو لم تذعن بانّى اقدر على ذلك وافعل ذلك في الآخرة؟ ـ (قالَ بَلى) أذعنت بذلك وأيقنته (وَلكِنْ) اسأل ذلك (لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) بالعيان بعد البيان ، اعلم انّ الظّنّ كما سبق يطلب العلم بالمظنون والعلم يطلب الشهود والعيان ، والعيان يجذب التّحقّق ويحرّك كلّ صاحبه ولا يدعه يسكن عن الطّلب حتّى يوصله الى ما فوقه ، فقال : إبراهيم (ع) بعد العلم بذلك : انّ علمي يهيّجنى ويجعل قلبي مضطربا في طلب العيان فأطلب العيان ليطمئنّ قلبي (قالَ فَخُذْ) الفاء

٢٢٧

جزائيّة لشرط مقدّر يعنى ان أردت ذلك فخذ (أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ) جمع الطّائر أو اسم جمع له كصحب وصاحب (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) حتّى لا يلتبس عليك قرئ بضمّ الصّاد وكسرها من صار يصور وصار يصير بمعنى أمال وبضمّ الصّاد وكسرها وشدّ الرّاء من صرّ مشدّد الرّاء من باب نصر وضرب ، وبفتح الصّاد وشدّ الرّاء وكسرها من التصرية والجميع بمعنى الجمع فاقتلهنّ وقطّعهنّ ومزّجهنّ وجزئهنّ (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ) من الجبال العشرة ، وقيل : كانت الجبال اربعة وقيل كانت سبعة (مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً) إتيان سعى أو هو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل أو هو حال بمعنى ساعيات.

اعلم انّه قد اختلف الاخبار في سبب سؤال إبراهيم (ع) ذلك ؛ ففي بعضها انّه لمّا رأى ملكوت السّماوات والأرض رأى جيفة على ساحل البحر نصفها في البحر ونصفها في البرّ تأكلها سباع البحر وسباع البرّ ثمّ يحمل بعض السّباع على بعض فيأكل بعضها بعضا فتعجّب إبراهيم (ع) وسأل ذلك ، وفي بعض انّ الله أوحى الى إبراهيم (ع) انّى متّخذ من عبادي خليلا ان سألنى احياء الموتى أجبته فوقع في نفسه أنّه ذلك الخليل فسأل ذلك ليطمئنّ انّه ذلك الخليل ، وقد مضى وجه آخر انّ نمرود قال : هل رأيت احياء الميّت بردّ الرّوح الى بدنه؟ ـ فسأل ذلك من الله ، واختلف الاخبار في تعيين الطّيور ؛ ففي بعضها أخذ إبراهيم نسرا وبطّا وطاووسا وديكا ، وفي بعض انّه أخذ الهدهد والصّرد والطّاووس والغراب ، وفي بعضها الدّيك والحمامة والطّاووس والغراب ، وفي بعضها : الدّيك والطّاووس والوزّة والنّعامة ، وقد اختلف الاخبار أيضا في كيفيّة مزجها وتجزيتها ؛ وفي بعض الاخبار : هذا تفسيره في الظّاهر وتفسيره في الباطن : خذ اربعة ممّن يحتمل الكلام فاستودعهنّ علمك ثمّ ابعثهنّ في أطراف الأرضين حججا على النّاس ، وإذا أردت ان يأتوك دعوتهم بالاسم الأكبر يأتونك سعيا بإذن الله ، واختلاف الاخبار في تعيين الطّيور وكيفيّة قتلها ومزجها وتجزيتها ودعوتها وإحيائها ، واختلافها في عدد الجبال واشارتها الى بعض وجوه التّأويل يدلّ على انّ ليس المراد من هذه الحكاية ظاهر القصّة فقط بل كان ظاهرها مرادا للتّنبيه على باطنها وانّ المقصود من الطّيور الاربعة الشّيطنة والشّهوة ؛ والغضب والحرص المتولّد منهما ، أو طول الأمل المتولّد منها فانّهما متلازمان فانّها أمّهات جنود النّفس والجهل ، والمراد بقتلها إماتتها عن الحيوة النّفسانيّة وبإحيائها إحيائها بالحيوة العقلانيّة حتّى تصير من جنود العقل فانّ الطّاووس مظهر للشيطنة المقتضية للانانيّة الباعثة للتجلّى كلّ آن بلون على نفسه وعلى غيره والدّاعية لتعجيب نفسه وغيره ، والدّيك للغضب ، والحمام للشّهوة ، والبطّ للحرص ، ولمّا كانت هذه الصّفات تظهر من طيور أخر أيضا اختلف الاخبار في تعيين الطّيور وقد ذكر في تعيين الصّفات وتأويل الطّيور نظما ونثرا وجوه غير هذا ، والتّعبير بالطّيور مع انّ في الدّوابّ ما هو مظاهر الصّفات بل هي اشدّ ظهورا في بعض الدّوابّ من الطّيور لانّ النّفس وجنودها لكونها كشجرة خبيثة اجتثّت من فوق الأرض مالها من قرار لا ثبات لها على شيء بل هي كالطّير كلّ آن على غصن فبالشّيطنة تعرض نفسها على نفسها وعلى غيرها كلّ ساعة بلون وصفة ، وبالشّهوة تتمنّى كلّ آن مشتهى ، وبالغضب يعضّ كلّ حين على سليم ، وبالحرص والأمل يتبع كلّ آن مأمولا ، وبعد القتل يتبدّل الأوصاف وتصير من جنود العقل منقادة مطيعة كلّما دعاها العقل يسر عن في الاجابة.

(وَاعْلَمْ) من قبيل عطف المسبّب على السّبب كأنّه قال حتّى تعلم بعد احياء الموتى (أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يمنعه شيء من مراده (حَكِيمٌ) لا يفعل شيئا من الاماتة والأحياء الّا لحكم ومصالح ولا يعطى شيئا من القوى

٢٢٨

والأعضاء جندا للجهل أو للعقل الّا لمصالح عديدة ، أو المعنى واعلم انّ الله عزيز حكيم حتّى لا تقول : لم امر بقتل الحيوان وإيذائه؟! (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) جواب لسؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : ما لمن قتل الطّير الّتى هي من جنود الجهل سوى إحيائها بحيوة العقل؟ ـ فقال : مثل الّذين يقتلون جنود الجهل في ابتغاء العقل وينفقون (أَمْوالَهُمْ) الحقيقيّة الّتى هي قواهم (فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) اى ما لا حدّ له والتّفاضل في عوض الإنفاق واجره انّما هو بالتّفاوت في حال المنفق ونيّته وشأنه والمال المنفق وحال المنفق عليه ، وفي الخبر إذا أحسن العبد المؤمن عمله ضاعف الله له عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف ، وذلك قول الله تعالى (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) ، وفي هذا الخبر دلالة على انّ المراد بالأموال في الآية اعمّ من الاعراض الدّنيويّة والقوى والأعضاء البدنيّة حيث اشهد بها على تضعيف أجر الأعمال من الله وليست الأعمال الّا إنفاق القوى البدنيّة والحركات العضويّة والأعضاء البدنيّة وانّ المراد بقوله : (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ ،) حصر تضعيف الأجر الى سبعمائة في الله لا تكثير الضعف فوق السّبعمائة ولا تقييد التّضعيف بمن يشاء وهو وجه من وجوه الآية (وَاللهُ واسِعٌ) عطف في معنى التّعليل ان كان المراد بقوله (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ) تكثير التّضعيف فوق السّبعمائة ، أو المراد به تكثير التّضعيف فوق السّبعمائة ان كان المراد بذلك حصر التّضعيف في الله أو تقييده بمن يشاء (عَلِيمٌ) بانفاقكم وقدر المنفق ونيّة المنفق وحال المنفق عليه فيضاعف بقدر استعدادكم واستحقاقكم ليس فعله وإرادته جزافا من دون نظر الى استحقاقكم فربّ منفق يبطل إنفاقه أو يعذّبه الله عليه ، وربّ منفق يجازيه بالأحسن الى العشرة ، الى السّبعين ، الى السّبعمائة ، الى السّبعة الآلاف ، الى السّبعين ألفا ، الى ما شاء الله ، الى ما لا نهاية له (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) جواب سؤال مقدّر كأنّه قيل : هذا لكلّ من أنفق أو لبعض دون بعض؟ ـ فقال تعالى تفصيلا للمنفقين : الّذين ينفقون (أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا) العطف بثمّ للتّفاوت بين الاخبارين ، والمنّ ان تنظر الى المنفق عليه معتدّا بانفاقك (وَلا أَذىً) وهو ان تتطاول عليه وتستحقره وتستقدمه وتستقبله بكلام خشن وتعدّ إحسانك عليه ، ومن أقبح الخصال الاعتداد بإحسانك الى الغير وبإساءة الغير إليك ونسيان إحسان الغير إليك ونسيان إساءتك الى الغير ، ومن أجمل الخصال كمال الاعتداد بإحسان الغير إليك والتندّم على إساءتك اليه ونسيان إحسانك الى الغير ونسيان إساءته إليك ، والاعتداد بالإحسان يورث الانانيّة المخالفة للإنفاق والوبال للنّفس مع ابطال الإحسان ، وفي الاخبار : انّ المراد المنّ والأذى لمحمّد (ص) وآله (ع) (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) لم يأت بالفاء هاهنا وأتى به في قوله : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ ؛) الآية لانّ المقصود هاهنا بيان بطلان الصّدقة بالمنّ والأذى ولذلك بسط بعدا في الانفاقات الباطلة ولم يكن المقصود ترتّب الأجر على الإنفاق حتّى يأتى بالفاء المؤكّد للتّرتّب بخلاف ما يأتى فانّ المقصود هناك بيان ترتّب الأجر وناسبه الإتيان بمؤكّدات التلازم واضافة الأجر إليهم لتفخيم الأجر وللاشارة الى اختلاف الأجر بحسب اختلاف المنفقين بحيث لا يمكن تحديد حدّ له الّا بالاضافة الى المنفقين (عِنْدَ رَبِّهِمْ) تشريف آخر لهم بانّ امر أجرهم غير موكول الى غيرهم (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى وجه اختلاف القرينتين في اوّل السّورة (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) جواب سؤال

٢٢٩

مقدّر كأنّه قيل : ما يفعل من لا يقدر على ترك المنّ والأذى في إنفاقه؟ ـ فقال : قول معروف يعنى ما لا ينكره العرف والعقل مع عدم اجابة السّائل وعدم الإحسان اليه (وَمَغْفِرَةٌ) يعنى إغماض المسؤل عن قبائح السّائل وقبائح الحاجة أو ستر على السّائل وسؤاله ، أو ادراك مغفرة الله بإزاء القول المعروف (خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً) اكتفى عن المنّ بذكر الأذى فانّه نحو أذى ، وأتى بأداة التّفضيل بناء على مخاطبات العرف والّا فلا فضيلة للصّدقة الّتى يتبعها الذي بل لها وبال كما مضى (وَاللهُ غَنِيٌ) عن صدقاتكم ليس امره بها لأجل حاجة له الى انفاقكم على عياله وانّما أفقر بعض عباده لابتلاء بعض آخر لا لعدم قدرته على اغنائه (حَلِيمٌ) لا يعجل بعقوبة من يمنّ ويوذي في إنفاقه وهو يدلّ على وبال المانّ بالإنفاق (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) اى أسلموا بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة بعد ما مدح الإنفاق وذمّ المنّ والأذى عليه نادى المؤمنين خاصّة تلطّفا بهم واعتناء بشأنهم ثمّ نهاهم عن الإنفاق المذموم كأنّ غيرهم ليسوا مكلّفين حتّى يتوجّه النّهى إليهم فقال : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) اعلم انّ الإنفاق إذا كان الدّاعى اليه صدق المنفق في امتثال الأمر الإلهيّ من دون شراكة أغراض النّفس كان صدقة ، وابطالها من حيث انّها صدقة بان لم يكن هذا الصّدق في الإنفاق أو كان لكن يذهب به بعده فقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ) معناه : لا تذهبوا بصدقكم في انفاقكم ، والإتيان بعنوان الصّدقات مقام الإنفاق للتّنبيه على انّ المؤمن ينبغي ان يكون إنفاقه قرينا للصّدق لكن قد يطرو عليه ما يذهب بصدقه (كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ) مفعول له أو حال. اعلم انّ العبادات إذا كان الدّاعى إليها قرب العابد من الله بمعنى انّ القرب المستلزم لشدّة الحبّ المستلزم لخدمة المحبوب صار سببا للعبادة والقيام بخدمة المعبود وامتثال أمر المحبوب كانت عبادة ، وإذا كان الدّاعى انتفاع النّفس من الله ولو بقرب الله لم تكن عبادة حقيقة ، وإذا كان الدّاعى انتفاع النّفس من الغير لم تكن عبادة لا حقيقة ولا صورة بل كانت محرّمة ووبالا ولذلك قالوا : انّ المرائاة في الصّلوة مبطلة لها بل المرائى اشرّ من تارك الصّلوة بمراتب فانّه مستهزء بالله ومنافق ومشرك أو كافر ويحسب انّه محسن ويعجب بنفسه بخلاف التّارك فانّه متوان في أمره تعالى ويعلم انّه تارك ؛ وكثيرا ما يتنبّه ويلوم نفسه (وَلا يُؤْمِنُ) لا يذعن (بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) حين المرائاة أو مطلقا (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ) اعلم انّ التشبيهات التمثيليّة المركّبة لا يلزم ان يكون جميع أجزاء المشبّه والمشبّه به مذكورة ولا يلزم التّرتّيب بين اجزائهما في الذّكر ولا ذكر تمام اجزائهما فقوله فمثله يحتمل ان يكون المراد به مثل المنفق المرائى في صلابة قلبه وقساوته وعدم إنبات النّبات فيه واستتار قلبه تحت صورة الإنفاق الّذى هو من وجوه الخير الّذى يدلّ على صلاح قلبه وصلاحيته لبذر الآخرة وانباته ونموّه كمثل صفوان (عَلَيْهِ تُرابٌ) صالح للزّرع ونموّه وابطال المرائاة الصلاحية المتراياة من ظاهر الإنفاق كابطال المطر العظيم القطر الصلاحية المتراياة من ظاهر تراب الصّفوان وان يكون المراد به مثل المال المنفق في ذهابه عن المنفق وعدم الانتفاع به بشيء من وجوه الانتفاع لابطال الرّياء له مع انّه بحسب صورة الإنفاق يترائى انّ المنفق ينتفع به كمثل بذر وقع على صفوان عليه تراب (فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً) عن التّراب والبذر جميعا (لا يَقْدِرُونَ) حال عن فاعل ينفق أو عن الضّمير المضاف اليه للمثل فانّ المثل يصحّ حذفه وجمع الضّمير مع افراد الضّمير الّذى هو ذو الحال باعتبار لفظ ، الّذى ، ومعناه فانّ معناه

٢٣٠

الجنس العامّ الشامل لكلّ فرد ، أو جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما حال المنفق المرائى في إنفاقه؟ ـ أو لم قلت كمثل صفوان؟ ـ أو كأنّه قيل : ما حال المبطل إنفاقه بالمنّ والمرائى في إنفاقه؟ ـ فقال : لا يقدرون (عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا) فلا إشكال حينئذ في جمع الضّمير وهذا يدلّ على انّ المراد بالإنفاق مطلق الأعمال فانّ الكسب اعمّ ممّا يكسب بالإنفاق (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) عطف على لا يقدرون والاهتمام بالله منع من مراعاة التّناسب بين المتعاطفين أو حال والمعنى انّهم بأنفسهم لا يقدرون ولا معين لهم سوى الله والله لا يهديهم ووضع الظّاهر موضع المضمر للتصريح بانّهم كافرون ولتعليل الحكم.

بيان ابتغاء مرضات الله بحيث لا يخلّ بإخلاص العمل

(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) لفظة من لابتداء الغاية داخلة على الفاعل مثل زعما منهم وعدم توافق المفعول له والعامل في المسند اليه مغتفر هاهنا لانّه تابع ويغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل ، أو داخلة على المفعول بتضمين التّثبيت معنى الطّلب اى طلبا للثّبات من أنفسهم ، أو من للتّبعيض قائمة مقام المفعول به اى تثبيتا لبعض أنفسهم كأنّ أنفسهم موزّعة على المال والرّوح ومن يجاهد بالمال يثبّت بعض نفسه على الطّاعة أو على الإنفاق ، ومن يجاهد بنفسه يثبّت البعض الآخر. اعلم انّ الإنفاق مثل سائر الطّاعات إذا كان الدّاعى عليه امرا زائدا على شاكلة الإنسان مقصودا انتفاعه به سواء كان قربا من الله أو رضاه أو نعيمه أو الخلاص من جحيمه أو غير ذلك من الدّواعى الرّاجحة والمباحة المأذون فيها والغير المأذون فيها لم يكن طاعة بل معاوضة وايتجارا ، وإذا كان شاكلة الإنسان غير الهيّة كان اعماله غير الهيّة سواء قصد منها أمرا اخرويّا أو غير اخروىّ ؛ أو لم يقصد أمرا سوى شاكلته وكان الدّاعى نفس شاكلته ، وإذا كان شاكلته أمرا الهيّا قربا من الله أو ابتغاء مرضاته أو التذاذا بأمره وامتثاله أو التشأن بحبّه وابتغاء خدمته أو غير ذلك من الشّؤن الإلهيّة وكان تلك الشّاكلة داعية على العمل من غير قصد لأمر زائد وكانت الغاية اشتداد الدّاعى فانّ كلّ هذه بذاتها تقتضي الاشتداد وتقتضي القيام بأمره تعالى كان العمل طاعة وعبادة وخالصا لوجه الله ، فعلى هذا يكون معنى الآية مثل الّذين ينفقون أموالهم لحصول ابتغاء مرضاة الله الّذى هو شاكلتهم ولحصول تثبيت أنفسهم الّذى هو شاكلتهم وتمكينها في شاكلتها يعنى لاقتضاء ابتغاء المرضاة الحاصل لهم أو لتحصيل الابتغاء الّذى هو اشتداد شاكلتهم لكن من غير قصد زائد على اقتضاء الابتغاء الاشتداد ، بل بقصد بسيط حاصل في نفس الاقتضاء الاشتداد فانّه إذا كان الإنفاق لتحصيل اشتداد الابتغاء بقصد مركّب عن شعور تركيبىّ وقصد زائد لحصول امر للنّفس نافع لها لم يكن حاصلا كان المقصود به انتفاع النّفس الّذى يفسد العبادة (كَمَثَلِ جَنَّةٍ) اى كمثل غارس جنّة وقد مضى انّ التّشبيهات المركّبة لا يلزمها ان يكون ترتيب أجزاء المشبّه به مثل أجزاء المشبّه ولا ان يكون التّالى للمثل أو لأداة التّشبيه نفس المشبّه به ، ولا ان يصحّ التّشبيه بين أجزاء الطّرفين (بِرَبْوَةٍ) الرّبوة بتثليث الرّاء ، المكان المرتفع ؛ وقرئ بالتثليث ، شبّه المنفق في زرع القلب بزراعة الآخرة بغارس جنّة واقعة في مكان مرتفع في انّها محفوظة عن الاغبرة الكثيرة الواردة على الأمكنة المنخفضة وعن صدمة السيل وعن ضياع ثمرها باحتباس الهواء ، وفي نضارتها وطراوتها بمجاورة الهواء الصّافى ورطوبة الهواء المرتفع ، وفي تضعيف ثمرها بذلك (أَصابَها وابِلٌ) لا السّيل (فَآتَتْ أُكُلَها) اى ثمرها (ضِعْفَيْنِ) بما ذكر من أسباب حسنها (فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ) بواسطة

٢٣١

مجاورة الهواء المرتفع الرّطب ، والطّل ما يقع في اللّيل على النّبات شبه الثّلج (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) تحذير عن ابطال الإنفاق بالمنّ والرّياء وترغيب في إخلاص الإنفاق لله (أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ) تمثيل آخر لمن أنفق ثمّ أبطل إنفاقه بالمنّ والأذى بعده كما انّ المثال السّابق كان لمن كان إبطاله مع الإنفاق فانّه شبّه الإنفاق الّذى هو غرس في جنّة القلب للآخرة بجنّة كذا وصاحبه بصاحب الجنّة في حال شدّة الاحتياج من اصابة الكبر وكونه معيلا وعياله ذرّيّة ضعفا ومنّه وأذاه بنار أتت فاحترقت جنّته حالكونه لا يرجو غيرها لكنّه ادّاه بالاستفهام الانكارىّ تجديدا للاسلوب لتنشيط السّامع وتهييجه للاستماع وتأكيدا في التحذير عن المنّ والأذى (أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) يعنى تكون الجنّة منهما لكن كان في خلالهما سائر أنواع الأشجار ، ويجوز ان يراد بالثّمرات مطلق المنافع من الثّمرات والحبوب وغيرها (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ) حتّى يضعف عن القيام بأمر ذرّيّته ويكون كفاية ذرّيّته من تلك الجنّة (وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) عجزة عن الاكتساب (فَأَصابَها إِعْصارٌ) الاعصار الرّيح المثيرة للسّحاب ، أو الّتى فيها نار ، أو الّتى تهبّ من الأرض كالعمود نحو السّماء مستديرة ، أو الّتى فيها العصار اى الغبار الشّديد (فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ) اى مثل بيان هذه الأمثال للإنفاق الخالص ولإبطاله (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) الانفسيّة وغيرها (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) وتنتقلون من ظاهر الأمثال الّتى هي الآيات الآفاقيّة الى الممثّل لها الّتى هي الآيات الانفسيّة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أراد ان يذكر حال المنفق بعد ما ذكر الإخلاص في الإنفاق وانّ المنفق ينبغي ان يكون جيّدا محبوبا للنّفس لا خبيثا مكروها لها ، فنادى المؤمنين تهييجا لهم بلذّة المخاطبة والنّداء وقال : (أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ) حلاله وجياده (وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) اى من طيّبات حبوبكم واثماركم والمستخرجات من معادنكم ، عن الصّادق (ع) كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهليّة فلمّا أسلموا أرادوا ان يخرجوها من أموالهم ليتصدّقوا بها فأبى الله تبارك وتعالى الّا ان يخرجوا من طيّبات ما كسبوا (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ) تيمّمه قصده وكأنّه مبدل الياء من الهمزة وقرء تؤمّموا وتيمّموا من باب التفعيل والخبيث الردىّ (مِنْهُ) ممّا كسبتم أو ممّا أخرجنا لكم أو من كلّ واحد على ان يكون متعلّقا بتيمّموا أو من الخبيث على ان يكون متعلّقا بقوله تعالى (تُنْفِقُونَ) والجملة حال أو مستأنفة (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) نزلت في أقوام لهم اموال من ربوا الجاهليّة وكانوا يتصدّقون منها ، وفي خبر آخر انّها نزلت في أقوام كانوا يجيئون بالحشف فيدخلونه في تمر الصّدقة ، وفي خبر آخر إذا امر رسول الله (ص) بالنّخل ان يزكّى يجيء قوم بألوان من التّمر هو من أردى التّمر يؤدّونه من زكوتهم تمرة ، يقال له الجعرور والمعافارة قليلة اللّحا عظيمة النّوى وكان بعضهم يجيء بها عن التّمر الجيّد فقال رسول الله (ص) لا تخرصوا هاتين التّمرتين ولا تجيئوا منهما بشيء وفي خبر آخر انّها نزلت في صدقة الفطر كانوا يأتون بها الى مسجد رسول الله (ص) وفيها أردى التّمر ويستفاد من مجموع الاخبار انّه لا اختصاص للطيبّ بالحلال ولا للخبيث بالحرام ولا للصّدقة بالواجبة ولا للواجبة بزكوة المال (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌ) يعنى انّ المحتاج قد يقبل الردىّ لحاجته والله غنى لا يقبل الردىّ أصلا (حَمِيدٌ)

٢٣٢

يعنى الغنىّ الذميم قد يقبل الردىّ بخلاف الحميد فهما كناية عن عدم قبول الردّى أصلا (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما بالنا لا نقدر على إنفاق الطيّب وترك تيمّم الخبيث في الإنفاق؟ ـ فقال : لانّ الشّيطان يعدكم (الْفَقْرَ) اى يوعدكم ويخوّفكم (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) اى البخل بالطيّب فانّ البخيل يسمّى بالفاحش في لغة العرب وحينئذ لم يكن ما بعده جزاء من الجواب أو التّقدير لم أمرنا الله بالإنفاق من الطيّب ونهانا عن تيمّم الخبيث؟ ـ فقال : لانّ الإنفاق من الطيّب ليس الّا بالخروج من انانيّة النفس وحكومته والدّخول في حكومة الله وامره ، والإنفاق من الخبيث بدل الطيّب ليس الّا من حكومة الشّيطان والدّخول تحت امره والشّيطان يخوّفكم بالفقر ثمّ يأمركم بالفحشاء (وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً) كان مقتضى المطابقة بين الفقرتين ان يقول والله يعدكم الغنى ويأمركم بالمعروف لكنّه عدل الى ما ذكر لاستنباط الأمر بالمعروف من الأمر بإنفاق الطيّب ، وللاشارة الى انّ وعد الله يعمّ الدّنيا والآخرة بخلاف إيعاد الشّيطان فانّه لا يتجاوز عن الدّنيا ، وقدّم المغفرة لانّها وعد اخروىّ بخلاف الفضل ، ونكّرهما للتفخيم ، وأتى بالفضل مقام الغنى للاشعار بانّ الغنى الموعود ليس كالغنى الموهوم الّذى ليس الّا الفقر والحاجة والعناء بل هو من فضل الله الّذى لا فقر فيه ولا نصب ولا نفاد ، وقدّم إيعاد الشّيطان لكون المقام لذمّ الّذين تيمّموا الخبيث فاقتضى المقام الاهتمام بايعاد الشّيطان ولان يختم الآية بالخير كما بدئت به ولارادة انجرار وعد الله الى إيتاء الحكمة والخروج عن مقام ذكر الوعد والإيعاد (وَاللهُ واسِعٌ) لا يخاف الضّيق والفقر فلا خلف في وعده (عَلِيمٌ) بمصالحكم فلا يأمركم الّا بما فيه صلاحكم ، ولا ينهاكم الّا عمّا فيه فسادكم.

بيان الحكمة ومراتبها

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّ الرّسول (ص) بعد ما أيقن وشاهد المفاسد المترتّبة على طاعة الشّيطان والمصالح اللّازمة لطاعة الله قال : ما للنّاس لا يتأمّلون ولا ينظرون الى تلك المفاسد والمصالح؟! ولا يرتدعون عن تلك ولا يرغبون في هذه؟ ـ فقال : لانّ النّظر في دقائق هذه والعمل بمقتضاها من شعبتى الحكمة النّظريّة والعمليّة ولا يؤتى الله الحكمة لكلّ أحد بل يؤتيها (مَنْ يَشاءُ) ويجوز ان تكون الجملة حاليّة أو خبرا بعد خبر مفيدة لهذا المعنى ، والحكمة كما مرّ عبارة عن ادراك دقائق المصنوع الإلهي وغاياته المترتّبة عليه ؛ وهي الحكمة النّظريّة ، وعن القدرة على صنع مصنوع مشتمل على دقائق الصّنع والغايات المترتّبة الى غاية هي أشرف الغايات بالنّسبة الى مقام الصّانع ؛ وهي الحكمة العمليّة ، وتطلق الحكمة على كلّ واحد منهما وعلى المجموع ، ولمّا كان ادراك الدّقائق المودعة في المصنوعات واعمال الدّقائق المتصوّرة لها خاصّين بالله فالحكيم على الإطلاق هو الله تعالى وسائر النّاس حكماء بقدر ادراكهم وقدرتهم على الصّنع ، وتلك الحكمة اى ادراك دقائق المصنوع الالهىّ والغايات المترتّبة عليه والقدرة على صنع مصنوع مشتمل على غايات منتهية الى غاية هي أشرف الغايات لا يمكن حصولها الّا بعد فتح باب القلب بالولاية لانّه ما لم يفتح باب القلب لم يفتح عين القلب ، وما لم يفتح عين القلب لم يمكن الإدراك الّا بعين الخيال ، والخيال مخطئ في إدراكه وغير متجاوز عن الغايات الدّنيويّة ، وإذا فتح باب القلب بالولاية يدرك الإنسان اوّلا دقائق الصّنع المودعة في نفسه وعالمه الصّغير ، ويدرك حيل الشّيطان في اغوائه ، ولطائف الملك في تصرّفه ، ويقدر على دفع حيل الشّيطان وتقوية تصرّف الملك ، فاذا استقام في ذلك وخلص من تصرّف الشّيطان تمكّن من ادراك دقائق الصّنع في العالم الكبير والغايات المترتّبة على مصنوعاته تعالى ، ويقدر

٢٣٣

على التصرّف فيها بقدر قوّته قليلا أو كثيرا ، وادراك الدّقائق في عالمه الصّغير والقدرة فيه عبارة عن النّبوّة وخلافتها ، وذلك الإدراك والقدرة في العالم الكبير عبارة عن الرّسالة وخلافتها وأساس ذلك هي الولاية كما عرفت فيجوز تفسير الحكمة بكلّ من الولاية والنّبوّة والرّسالة وبمعرفة الامام وطاعته وبمعرفة الامام واجتناب الكبائر وبالكتاب وبالثّبات عند أوائل الأمور والوقوف عند عواقبها وبهداية الخلق الى الله وبمعرفة الامام والفقه في الدّين ، والحكمة سبب عمارة البيوت فما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الّا كان خرابا ، وقد فسّرت بالتشبّه بالإله علما وعملا وهي غاية خلق الإنسان بل غاية عالم الإمكان ولذلك قال تعالى : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ) بالحكمة أو باستلزامها للخير الكثير (إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) اعلم انّ الإنسان بتمام عباداته وعظيم طاعاته ما لم ينعقد قلبه بالولاية كان كشجرة اللّوز والفستق الّتى كانت كثيرة اللّوز والفستق اللّذين لم يكن لهما لبّ وينبغي ان يوقد في النّار ولا يبصر شيئا من دقائق المصنوع ولا من دقائق حيل الشّيطان فلا يقدر على دفع شيء من حيله ، وإذا انعقد قلبه بالولاية صار اثمار أعماله ذوات ألباب وأبصر من الدّقائق والحيل بقدره فما لم ينعقد قلبه بالولاية لا يتذكّر ذلك وإذا انعقد تذكّر (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ممّا يطلق عليه اسم النّفقة قليلا كان أم كثيرا في حقّ أم باطل صحيحا أو فاسدا مبطلا أو مبقى سرّا أو علانيّة (أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ) كذلك تجزوا به (فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ) ويقدر على المجازاة ولا مانع من مجازاته (وَما لِلظَّالِمِينَ) اى مانعي الحقوق من أهاليها ومعطيها لغير أهاليها في الإنفاق والنّذر أو في مطلق الموارد ومنها الإنفاق والنّذر (مِنْ أَنْصارٍ) يدفعون عقوبة الله عنهم (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : إبداء الإنفاق خير أو اسراره؟ ـ فقال : ان تبدوها (فَنِعِمَّا هِيَ) اى فنعم شيئا أو نعم الشّيء الصّدقات المبدءات وجعل المخصوص هاهنا الصّدقات للاشعار بأنّ مدح الإبداء انّما هو لمدح الصّدقات بخلاف اخفائها فانّه ممدوح في نفسه وممدوح لمدح الصّدقات أيضا (وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ) اى الإخفاء (خَيْرٌ لَكُمْ) كما انّ نفس الصّدقة خير لكم ، وجعل المخصوص بالمدح في الفقرة الاولى إبداء الصّدقات كما قدّروا يذهب باللّطف المندرج في العبارة. في الخبر : انّ كلّما فرض الله عليك فإعلانه أفضل من اسراره ، وما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه ، ولو انّ رجلا حمل زكوة ماله على عاتقه فقسمها علانية كان ذلك حسنا جميلا ، وفي خبر ، انّهم يعنى أصحاب الرّسول (ص) كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النّوافل ، والوجه في ذلك انّ الفرائض بعيدة عن المراءاة فيها والعجب والانانيّة بخلاف النّوافل ، لكن نقول : هذا كسائر الأحكام يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال فربّ صدقة نفل يكون اعلانها أفضل بمراتب من إعلان الزّكاة الفرض ، وربّ زكوة فرض يكون اسرارها أفضل من اسرار النفل (وَيُكَفِّرُ) اى الله أو الإخفاء قرئ بالرّفع عطفا على مجموع جملة الشّرط والجزاء ، أو على الجزاء ولم يجزم لكون المعطوف عليه جملة اسميّة غير ظاهر فيها الجزم ، أو لتقدير مبتدء حتّى يصير المعطوف على الجزاء جملة اسميّة ، وقرئ بالنّون وبالتّاء المثنّاة من فوق على ان يكون الفعل للصّدقات مرفوعا ومجزوما (عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) ترغيب في الأسرار بعد التّنبيه على انّه أفضل بجعله محكوما عليه بالخير دون الإبداء (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) كان النّبىّ (ص) بعد ما أظهر الله تعالى ابطال الصّدقة بالمنّ والأذى وابطالها بالرّياء وان لا ناصر لمن ظلم في الإنفاق والنّذر تحرّج (ص) من عدم اهتداء أمّته وقومه الى وجوه الخير في الإنفاق

٢٣٤

والى ما في البخل وابطال الإنفاق من الوبال والحرمان حتّى لم يهتدوا بسببه الى الإسلام والايمان وقال : فما أصنع حتّى يهتدوا الى ذلك؟ ـ فقال تعالى : (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) حتّى تتحرّج من عدم هداهم (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) «ف» هو نافع (فَلِأَنْفُسِكُمْ) فما بالكم تمنّون به على غيركم أو تؤذون به من تنفقون عليه أو غيره (وَما تُنْفِقُونَ) اى لا ينبغي لكم ان تنفقوا (إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) لكنّه ادّاه بصورة الاخبار عن الإنفاق لوجه الله تهييجا لهم على ذلك (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) اى من مال حلال مكتسب من جهة حلّيّته الّتى هي الولاية فانّها جهة حلّيّة المحلّلات كما سبق وكما يأتى عند قوله تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) فانّ خيريّة المال ان يكون مكتسبا من الحلال ، وخيريّة النّفقة ان تكون خالصة لوجه الله كما أشير اليه بقوله تعالى : (وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ) يعنى نفقة غير مشوبة بالمنّ والأذى والرّياء وغير مدنّسة بالأغراض النّفسانيّة وان تكون سرّا كما أطلق الخير في السّابق عليه (يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) التوفية تكون بأداء تمام ما ينبغي ان يؤدّى (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) بنقص فيما يؤدّى إليكم جزاء انفاقكم (لِلْفُقَراءِ) جواب لسؤال تقديره قد علم فضل الإنفاق وكيفيّته فلمن الإنفاق؟ ـ فقال : الإنفاق للفقراء (الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) اى حبسهم الله في السّبيل بحيث لا يمكنهم السّير والترقّى أو احصرهم الله بالامراض البدنيّة والشّؤن النّفسانيّة عن المكاسب ، أو أحصرهم الرّسول (ص) أو أنفسهم عن المكاسب ، أو المعنى أحصروا حالكونهم في سبيل الله بالتعلّم والعبادة والتهيّؤ للجهاد ، في الخبر : انّها نزلت في أصحاب الصّفة وقيل : انّ أصحاب الصّفة كانوا نحوا من اربعمائة كانوا في صفّة المسجد لم يكن لهم في المدينة مأوى ولا عشائر ، اشتغلوا بالتعلّم والعبادة وكانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول الله (ص) فحثّ الله النّاس على الإنفاق عليهم وللاهتمام بهم والحثّ عليهم اقتصر في بيان مصارف الصّدقة عليهم (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) للسّلوك الى الآخرة أو للمكاسب (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ) بحالهم أو مطلقا (أَغْنِياءَ مِنَ) أجل (التَّعَفُّفِ) عن السّؤال (تَعْرِفُهُمْ) الخطاب للرّسول (ص) أو عامّ لكلّ من يتأتّى منه الخطاب (بِسِيماهُمْ) السّومة بالضمّ والسّيمة والسّيما بالقصر والسّيماء بالمدّ والسّيمياء بزيادة الياء والمدّ ، وبالكسر في الاربعة بمعنى العلامة يعنى انّ علامة الفقر عليهم ظاهرة من رثاثة الحال وصفرة الوجه واغبرار اللّون (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) سؤال إلحاح أو مفعول مطلق من غير لفظ الفعل أو حال (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ) كرّره لتأكيد الشّرطيّة السّابقة فانّ توفية تمام المنفق تقتضي العلم بتمامه وللاهتمام والتّأكيد في حقّ هؤلاء الفقراء كأنّه قال : وما تنفقوا من خير عليهم (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) فيجازيكم عليه (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ) جواب لسؤال ناش من قوله : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ) ؛ تقديره : ما حال من جمع بين السّرّ والعلانية في الإنفاق؟ ـ فقال : الّذين ينفقون (أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ) وهذا من قبيل الفضل في الجواب أو على إمكان منشئيّة السّابق للسّؤال عن الجمع بين السّرّ والعلانية في الإنفاق وعن استغراق الإنفاق لجميع الأوقات (سِرًّا وَعَلانِيَةً) لم يعطفه للاشارة الى عدم مغايرة السّرّ والعلانية لما في اللّيل والنّهار (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ) أشار الى تفخيم الأجر بإضافته إليهم كما مضى (عِنْدَ رَبِّهِمْ) اشارة اخرى الى تفخيم الأجر (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) في المجمع انّ الآية

٢٣٥

نزلت في علىّ (ع) كانت معه اربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا ، وبدرهم نهارا ، وبدرهم سرّا ، وبدرهم علانيّة. وليس المراد من مثل هذا الخبر تعيين درهم واحد للّيل ، ودرهم واحد للنّهار حتّى يغاير درهم السّرّ درهم العلانية بل المراد انّه (ع) تصدّق بشيء في اللّيل وبشيء في النّهار وبشيء في السّرّ ليلا أو نهارا وبشيء في العلانية ليلا أو نهارا ، وقيل : انّ الآية إذا نزلت في شيء فهي منزلة في كلّ ما تجري فيه ، والاعتقاد في تفسيرها انّها نزلت في أمير المؤمنين (ع) وجرت في النّفقة على الخيل وأشباه ذلك ، وفي خبر : انّها ليست من الزّكاة.

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) منقطعة عن السّابق لابداء حكم آخر أو جواب سؤال ناش عن سابقه كأنّه قيل : قد علم حال المنفق فما حال آخذ مال الغير؟ ـ أو فما حال آخذ الرّبوا؟ ـ فقال : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا) والأكل هاهنا وفي كثير من الآيات بمعنى الأخذ والتّصرّف سواء كان التّصرّف بالأكل اللّغوىّ أم لا ، وذكر الأكل لأنّه عمدة منافع المال وعمدة مقاصدهم منه ، والرّبوا بالكسر الزّيادة على رأس المال ورسم ان يكتب بالواو والالف اشعارا بمادّته وتشبيها لواوه بواو الجمع وسيجيء بيانه ووجه حرمته (لا يَقُومُونَ) عن قبورهم أو عن قعود أو بأمور معاشهم (إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ) تخبّط الشّيطان فلانا مسّه بأذى أو أفسده أو أفسد عقله (مِنَ الْمَسِ) من أجل مسيسه ايّاه وقد يكون المسّ بمعنى الجنون لكنّ المناسب هنا ما ذكرنا.

بيان الخبط من مسّ الشّيطان

اعلم انّ الإنسان واقع بين عالم الجنّة والشّياطين وعالم الملائكة وقابل لتصرّف الأرواح الخبيثة والأرواح الطيّبة فيه ، وقوله (ع): لكلّ إنسان شيطان يغويه وملك يزجره ؛ يشير اليه فاذا بلغ مبلغ الرّجال وحصل له العقل الّذى هو مناط التّكليف والتّدبير وقع في تصرّف الملك والشّيطان ، وأسباب غلبة كلّ منهما داخلة وخارجة كثيرة مثل اختلاف الاستعدادت بالذّات وتخيّل المتخيّلات الممدّة لكلّ ومدد مركب النّفس بالاغذية المباحة أو المشتبهة والاغذية المأكولة على تذكّر وجمعيّة البال ، أو على غفلة وتفرقة ، ومثل ادراك مدرك موافق لكلّ بالمدارك الظّاهرة ، والمجالسة مع الأخيار والأشرار والاشتغال بأعمال الأبرار والفجّار وغير ذلك وتصرّف الشّيطان في أغلب النّاس بالغلبة عليهم بحيث يصدر أفعالهم من الشّيطان أو بمشاركته من غير استشعار لهم بذلك مع بقاء العقل الّذى هو مناط تدبيرهم وكونه خادما للشّيطان ، وقد يغلب على بعض بحيث يذهب العقل منه فان كان في قلبه ومداركه قويّا يبقى الشّعور له والّا يغشى عليه ، وقد يظهر صورة الجنّ عليه في حال ذهاب العقل شاعرا أو مغشيّا عليه وقد لا يظهر أو لا يستشعر ، وقد يخبر بالأمور الغائبة ابتداء وقد يستنطق عن المغيبات ويستخبر في خبر شاعرا أو غير شاعر ، وقد يقع المناسبة بينه وبين الأرواح الخبيثة بحيث يشاهد عالمها ويشاهد صور عالم الطّبع فيه من دون زوال عقله فيخبر بالمغيبات والآتيات ، أو يظهر عليه بعض من الشّياطين والجنّة فيخبره بخبر السّماء والأرض فيغترّ بأنّه من عالم الأرواح الطيّبة وقد زعم المغترّون بهذا العالم وأهله انّ عالم الأرواح واحد وانّ طريق الوصول اليه متعدّد وانّ أقرب الطّرق للوصول اليه طريق الرّياضات الغير الشّرعيّة وارتكاب منافيات الشّرائع الإلهيّة من سفك الدّماء المحرّمة وخصوصا دم الإنسان وشربها والزّنا لا سيّما مع المحارم وانتهاك حرمة الكتب السّماويّة ، وما اشتهر منهم من تعليق القرآن وسائر الكتب السّماويّة في المزابل صحيح ، وقد يظهر أنواع الخوارق والاخبار بالمغيبات والآتيات منهم ، وعن الباقر (ع) في بيان ما ذكر انّه ليس من يوم ولا ليلة الّا وجميع الجنّ والشّياطين تزور ائمّة الضّلالة ويزور امام الهدى عددهم من الملائكة حتّى إذا أتت ليلة القدر فيهبط فيها من الملائكة الى ولىّ الأمر خلق الله أو قال قيّض الله عزوجل من الشّياطين بعددهم ثمّ زاروا ولىّ الضّلالة فأتوه بالإفك والكذب حتّى يصبح

٢٣٦

فيقول : رأيت كذا وكذا فلو سأل ولىّ الأمر عن ذلك لقال رأيت شيطانا أخبرك بكذا وكذا حتّى يفسّر له تفسيرا ويعلمه الضّلالة الّتى هو عليها ، وهؤلاء لا يدخلون في طريقهم من أرادوا إدخاله الّا بعد أخذ الميثاق عنه بما هو مقرّر عندهم ، وهكذا الحال في أنواع تصرّف الملائكة وغلبتهم ، وقد قال المولوىّ قدس‌سره في بيان غلبة الشّياطين والملائكة :

عقل خود شحنه است چون سلطان رسيد

شحنه بيچاره در كنجى خزيد

چون پرى غالب شود بر مردمى

گم شود از مرد وصف مردمى

هر چه گويد أو پرى گفته بود

زين سرى نه زان سرى گفته بود

چون پرى را اين دم وقانون بود

كردگار آن پرى خود چون بود

وانكار الفلاسفة لذوات الجنّة والشّياطين وتأويلهم لها غير مسموع في مقابل المشهود ، وعن الصّادق (ع) انّ رسول الله (ص) قال لمّا اسرى بى الى السّماء رأيت قوما يريد أحدهم ان يقوم فلا يقدر ان يقوم من عظم بطنه فقلت : من هؤلاء يا جبرئيل؟ ـ قال : هؤلاء الّذين يأكلون الرّبوا لا يقومون الّا كما يقوم الّذى يتخبّطه الشّيطان من المسّ وإذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النّار غدوّا وعشيّا يقولون ربّنا متى تقوم السّاعة ، وفي خبر : أكل الرّبوا لا يخرج من الدّنيا حتّى يتخبّطه الشّيطان ، أو المقصود انّ أكل الرّبوا لا يكون في الدّنيا الّا كالمجنون فانّ المجنون أفعاله وأقواله خارجة عن ميزان عقل المعاش وهو خارج عن ميزان عقل المعاد ، فلا فرق بينهما الّا بشيء غير معتدّ به (ذلِكَ) الأكل منهم بواسطة مغلطة وقعت منهم أو ذلك العقاب لهم (بِأَنَّهُمْ) قاسوا الربوا بالبيع حيث رأوا جواز البيع بضعفي القيمة السوقيّة للسّلعة فقاسوا هذا البيع في زيادة الثّمن عن قيمة السّلعة بالبيع الرّبوىّ في زيادة العوض عن أصل المال و (قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ) بزيادة الثّمن (مِثْلُ الرِّبا) في الزّيادة فيصحّ الرّبوا كما يصحّ هذا البيع فالتّشبيه انّما وقع في زيادة العوض والأصل في ذلك هو الرّبوا لا في الصّحة حتّى يرد انّ الأصل في الصّحة هو البيع فينبغي ان يقول انّما الرّبوا مثل البيع وانّما شبّه البيع بالزّيادة عن القيمة بالرّبا كناية عن تشبيه الرّبوا بالبيع في الصّحة ليكون أبلغ فأبطل تعالى قياسهم بقوله تعالى (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) حال بتقدير قد أو عطف (وَحَرَّمَ الرِّبا) يعنى انّ الصحّة والفساد ليسا بالتماثل في الصّورة انّما هما بأمر الله ونهيه ، قيل : كان الرّجل منهم إذا حلّ دينه على غريمه فطالبه به قال المطلوب منه : زدني في الأجل وأزيدك في المال فيتراضيان عليه ويعملان به ، فاذا قيل لهم : هذا ربوا قالوا : هما سواء يعنون بذلك انّ الزّيادة في الثّمن حال البيع والزّيادة فيه بسبب الأجل عند محلّ الدّين سواء. اعلم انّهم كانوا في الجاهليّة يتّجرون ويستربحون بان يدينوا مالا الى أجل بربح معلوم كما هو ديدن أهل زماننا وكانوا يقولون : هذا الرّبح عوض تعطيل مالنا عن التّجارة ، أو يدينوا جنسا من مثل الحنطة والشّعير الى أوان بلوغه بأزيد من ذلك الجنس وكانوا يقولون ان كان قيمته عشرة معجّلا صحّ ان نبيعه بخمسة عشر مؤجّلا فصحّ ان نقرضه عشرة بخمسة عشر مؤجّلا ، ولمّا كان في ذلك الاتّكال على الرّبح وترك التّوكّل على الله وتعطيل الأعضاء والقوى عن الحركة في طلب المعاش الّتى هي أعظم أقسام العبادات وتعطيل النّفس عن التّضرّع والالتجاء الى الله والمسئلة منه وإضرار المدين بأخذ ماله بلا عوض وترك اصطناع المعروف بالقرض الحسن وكلّ ذلك كان مخالفا لما اراده تعالى من عباده نهى الله تعالى عنه وشدّد على فاعله ، وفي الخبر درهم ربوا اشدّ عند الله من سبعين زنية كلّها بذات محرم ، وفي خبر زيد : في بيت الله الحرام ، وعن أمير المؤمنين (ع): لعن رسول الله (ص) الرّبوا وأكله وبائعه ومشتريه وكاتبه

٢٣٧

وشاهديه ، وقد ذكر في الاخبار طريق الفرار من الرّبوا وما تداولوه من المبايعة على شيء وجعل الرّبح اجرة ذلك الشّيء أو نقله بصلح ونحوه نحو فرار صحيح ، وما قالوا : انّ العقود تابعة للقصود وليس المقصود من ذلك الّا تصحيح الرّبوا فليست المبايعة صحيحة غير صحيح لانّ قصد الفرار من الرّبوا بالعقد قصد صحيح للعقد مأذون في الشّريعة نعم إذا كانت المرابحة خارجة عن قانون الإنصاف كانت من هذه الجهة مذمومة وممحوقة وما يشاهد من محق اموال المرابحين انّما هو لعدم مبالاتهم بالمبايعة وقولهم : انّما البيع مثل الرّبوا ، أو لخروجهم عن قانون الإنصاف (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) الموعظة التّذكير بما يلين القلب والزّجر عمّا يقسى القلب (مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى) عمّا نهى عنه (فَلَهُ ما سَلَفَ) ممّا أخذ من الرّبوا يعنى انّ الانتهاء عند بلوغ نهى الله اليه محلّل لما أخذه قبل ذلك ، ولا يستردّ منه شيء وهذا يدلّ على انّ من لم يعلم التّحريم وأخذ فاذا علم كان المأخوذ حلالا وفي الخبر عنهما (ع): انّ الموعظة التّوبة لكنّ المراد بها التّوبة عمّا فعل بجهالة لا التّوبة عمّا فعل عن علم ، فانّه لا يكون التّوبة محلّلا لما أكله من مال الغير محرّما (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) لا الى الحكّام حتّى يحكموا عليه بردّ ما اخذه قبل الموعظة (وَمَنْ عادَ) الى الرّبوا بعد ما جاءه الموعظة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) وفي الخبر : الرّبوا كبيرة بعد البيان ، والاستخفاف بذلك دخول في الكفر. قيل : أكل الرّبوا أسوء حالا من جميع مرتكبي الكبائر لانّه معتمد في رزقه على نفسه وتعيينه ، محجوب عن ربّه ، غير متوكّل عليه ، ومع ذلك يرى انّه محسن في فعله مع انّه مخالف لربّه ويوكّله الله في الدّنيا الى نفسه وتعيينه ، ولذا ترى أموالهم ممحوقة في حيوتهم أو بعد مماتهم (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا) يمحوه يعنى المال الحاصل من نفس الرّبوا ، أو المال الّذى فيه الرّبوا ، وافناء المال الرّبوىّ مشهود وان خذل الله واحدا من النّاس ولم يمحق ماله الرّبوىّ يمحق دينه ثمّ يمحق بعده ماله ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قيل له : قد رأى من يأكل الرّبوا يربو ماله فقال : فأىّ محق أمحق من درهم ربوا يمحق الدّين وان تاب منه ذهب ماله وافتقر (وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) يعنى في الآخرة أو يربى عوضها فيما أخرجت منه ، وفي الاخبار اشارة إليهما ففي خبر انّ الله يأخذه يعنى مال الصّدقة بيده ويربيه كما يربى أحدكم ولده حتّى تلقاه يوم القيامة وهي مثل أحد ، وفي خبر آخر : ما نقص مال من صدقة (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ) بأمر الله ونهيه والقيد الواقع في سياق النّفى قد يعتبر قيدا للنّفى وقد يعتبر قيدا للمنفىّ واردا عليه النّفى والتّقييد بالكلّ هاهنا من قبيل الاوّل (أَثِيمٍ) منهمك في ارتكاب مناهيه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة العامّة فيكون قوله تعالى (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) اشارة الى الايمان الخاصّ الحاصل بالبيعة الخاصّة الولويّة فانّ الولاية الّتى هي البيعة الخاصّة أصل جميع الصّالحات ولا صالح الّا بها ولا فاسد معها ، ومنها الايتمار بالأوامر والانتهاء عن المنهيّات (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى الآية بتمام اجزائها في اوّل السّورة (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما ذمّ الرّبوا واهله ومدح الايتمار بالأوامر والانتهاء عن المناهي نادى المؤمنين تلطّفا بهم حتّى يجبر كلفة النّهى بلذّة المخاطبة (اتَّقُوا اللهَ) اى سخطه في مخالفة جميع أوامره ونواهيه خصوصا في الرّبوا (وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا) يعنى لا تردّوا ما أخذتم منه ولكن ما بقي منه على المدينتين فلا تطالبوه (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط تهييجىّ ، في الخبر : انّ الوليد بن المغيرة كان يربى في الجاهليّة

٢٣٨

وقد بقي له بقايا على ثقيف فأراد خالد بن الوليد المطالبة بعد ان أسلم فنزلت (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا) ترك ما بقي من الرّبوا (فَأْذَنُوا) اى اعلموا (بِحَرْبٍ) عظيمة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) وهذا غاية التهديد قلّما يهدّد بمثله (وَإِنْ تُبْتُمْ) بعد ما علمتم بالحرب من مطالبة ما بقي من الرّبوا واعتقاد حلّه (فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ) ليس للمدينين ان يحاسبوا رؤس الأموال فيما أخذتموه من الرّبوا قبل البيّنة (لا تَظْلِمُونَ) بأخذ الزّيادة على رأس المال (وَلا تُظْلَمُونَ) بنقصان رأس المال (وَإِنْ كانَ) اى وجد (ذُو عُسْرَةٍ) في غرمائكم (فَنَظِرَةٌ) فله امهال (إِلى مَيْسَرَةٍ) قرئ بكسر السّين وضمّها وبتاء التّأنيث وقرئ بضمّ السّين واضافتها الى الهاء (وَأَنْتَصَدَّقُوا) على الغريم مليّا كان أو ذا عسرة أو على ذي العسرة بإبرائه من الدّين (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) شرط تهييجىّ أو تقييد لخيريّة التصدّق فانّ الجاهل مطالبته وتصدّقه كلاهما وبال عليه ، أو المعنى ان كنتم تعلمون انّ التصدّق خير لكم تصدّقتم ، والاخبار في فضل انظار المعسر وفضل التّصدّق عليه كثيرة (وَاتَّقُوا) عطف على نظرة فانّها بمعنى أنظروه ، والمقصود التّقوى عن المداقّة في المحاسبة والتعنيف في المطالبة خوفا من مداقّة الله في المحاسبة يوم يكون النّاس اشدّ اعسارا من كلّ معسر كأنّه قال : تساهلوا في المحاسبة مع المعسر واتّقوا بذلك مداقّة الله معكم (يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص الجزاء أو تضعيف العقاب ، نقل انّها آخر آية نزل بها جبرئيل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ والبيعة النّبويّة وقبول الدّعوة الظّاهرة فانّ الأحكام الشرعيّة القالبيّة كلّها متوجّهة الى المسلمين بالبيعة العامّة (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) تداين القوم دان بعض واستدان آخر ، أو دان كلّ من الآخر ، أو تعاملوا بنسيئة يعنى إذا دان بعض منكم واستدان آخر ، أو إذا وقع منكم معاملة بنسيئة وعلى هذا فالأمر بالكتابة عامّ للداين والمدين ولغيرهم ، امّا للدّاين والمدين فلرفع التّخالف والاشتباه ، وامّا لغيرهم فللإعانة على البرّ والتّقوى ، وذكر الدّين امّا للامتياز عن التّداين بمعنى المجازاة ، أو لكون التّداين بمعنى مطلق المعاملة ، أو لابتناء الكلام على التّجريد والدّين خاصّ بالقرض المؤجّل أو هو بمعنى مطلق القرض فقوله تعالى (إِلى أَجَلٍ) امّا للتّأكيد ، أو مبتن على التّجريد ، أو على اعتبار كون الدّين بمعنى مطلق القرض (مُسَمًّى) معيّن (فَاكْتُبُوهُ) ليكون ابعد من الاشتباه والاختلاف واضبط لقدر الدّين ومدّته (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ) الباء للآلة والعدل صفة للقلم المقدّر اى بالقلم العدل فانّه ينسب الاعوجاج والاستقامة الى القلم والظّرف متعلّق بكاتب أو بليكتب ، أو الباء للآلة ، والعدل بمعنى استواء الميل الى الطّرفين أو بمعنى حفظ الحقوق ، أو الباء للملابسة ، والظّرف مستقرّ صفة لكاتب (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ) أحد من الكتابين (أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ) اى كتابة مثل كتابة علّمها الله وهي الكتابة بالعدل أو كتابة تماثل تعليم الله الكتابة له ، أو مطلق تعليم الله له يعنى يكون تعليم الله نصب العين في الكتابة حتّى يكون الكتابة شكرا لتعليمه وهذا المعنى يفيد التعليل فيكون المعنى : ولا يأب كاتب ان يكتب لأجل تعليم الله (فَلْيَكْتُبْ) وللاهتمام بالكتابة أكّدها بالأمر بها اربع مرّات (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ) لانّه المقرّ المشهود عليه (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) في تلقين ما يضرّ بصاحب الحقّ (وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ) لا ينقص من الحقّ أو ممّا املى (شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي

٢٣٩

عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً) محجورا عليه (أَوْ ضَعِيفاً) غير محجور عليه لكن لا يميز بين الألفاظ الّتى هي عليه وله كما ينبغي (أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ) تأكيد للمستتر وفائدته نفى الاستطاعة عنه نفسه لا عمّن يقوم مقامه (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ) اى وليّ الّذى عليه الحقّ أو ولىّ الحقّ (بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا) أدب آخر للمعاشرة والمعاملة فانّه إذا كانت المعاملة والمداينة بالاستشهاد ، لم يقع اشتباه واختلاف بين المعاملين (شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) بالغين مسلمين حرّين ، امّا البلوغ فيستفاد من مفهوم الرّجل ، وامّا الإسلام فيستفاد من اضافة الرّجل ، وكذا الحرّيّة هكذا فسّر الآية ، ونسب الى تفسير الامام (ع) لكن إذا تحمّل العبد الشّهادة فشهادته مسموعة إذا كان مسلما (فَإِنْ لَمْ يَكُونا) اى الشّاهدان (رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ) اى فليكن رجل (وَامْرَأَتانِ) شهداء أو فليشهد رجل أو فالشّاهد رجل وامرأتان (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ) يعنى ممّن ترضون دينه بان يكون على دينكم ، وصلاحه بان يكون عادلا مأمونا ، وبصيرته بالأمور بان لا يكون ممّن يخدع (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما) علّة لاعتبار امرأتين مقام رجل واحد (فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) وكيفيّة شهادات الرّجال والنّساء بالانفراد أو بالانضمام ومحلّها ومقبولها ومردودها واعتبار عدد الشّهود مذكورة في الكتب الفقهيّة (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ) اى من كان أهلا ليحمل الشّهادة (إِذا ما دُعُوا) لتحملها أو من كان متحمّلا إذا دعوا لادائها ، أو المراد بالشّهداء معنى اعمّ منهما ، وقد أشير في الاخبار الى كلّ منهما ، وفي بعضها انّ المراد إذا دعوا للتحمّل ، وامّا حرمة الاباء عن الأداء فتستفاد من قوله : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَلا تَسْئَمُوا) ايّها المتداينون والشّهداء والكتّاب (أَنْ تَكْتُبُوهُ) اى الدّين أو الحقّ أو الكتاب نهى المتداينين عن السّأمة لانّ الكتابة حقّهم ، ونهى الشّهداء والكتّاب لانّ الكتابة من المعاونة على البرّ والتّقوى (صَغِيراً) كان (أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) متعلّق بمحذوف حال عن الحقّ اى موقّتا الى اجله فيكون اشارة الى تعيين الحقّ ومدّته في الكتابة ، أو متعلّق بقوله تكتبوه اى لا تسأموا ان تكتبوه من جميع علاماته ومعيّناته الى اجله أو متعلّق بلا تسأموا اى لا تسأموا من اوّل وقوعه الى اجله من الكتابة (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ) اى ابعد من الإفراط بأخذ الوثيقة باضعاف الحقّ مع الكتاب ومن التّفريط بإهمال الكتابة والاشهاد (وَأَقْوَمُ) من قام المرأة بمعنى كفى أمورها اى اكفى (لِلشَّهادَةِ) من تذكّر دقائقها وقدر الحقّ ومدّته وغير ذلك (وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً) استثناء مفرّغ من قوله تعالى : فاكتبوه اى فاكتبوا الدّين في كلّ حال الّا ان تكون التّجارة تجارة (حاضِرَةً) على قراءة نصب تجارة وتقدير اسم تكون ضميرا راجعا الى التّجارة المذكورة بالتضمّن ، أو الّا ان تكون تجارة حاضرة (تُدِيرُونَها) على قراءة الرّفع وتقدير تجارة فاعل تكون تامّا أو اسمه ناقصا وكون تديرونها خبره ، ويجوز ان يكون عامل المستثنى محذوفا جوابا لسؤال تقديره كلّ تجارة تكتب الّا ان تكون التّجارة تجارة حاضرة تديرونها (بَيْنَكُمْ) وتوصيف التّجارة بالحضور وبالادارة من قبيل الوصف بحال المتعلّق اى حاضرا ما به التّجارة وتديرون ما به التّجارة ، أو المراد بالتّجارة ما به التّجارة ومعنى الادارة ان يأخذ البائع الثّمن من المشترى والمشترى المبيع من البائع (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها) وهذا يدلّ على انّ الأوامر السّابقة كانت للوجوب (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فانّه ادفع للنّزاع

٢٤٠