تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

المدّة بحنث ايمانهم وكفّارتها فلا شيء عليهم (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما فرط منهم بعد الكفّارة (رَحِيمٌ) يرحمهم بترخيص المراجعة بعد الحلف (وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لطلاقهم (عَلِيمٌ) بنيّاتهم وإراداتهم من انّها إفساد أو إصلاح.

اعلم انّه تعالى كرّر هاهنا ذكر الجلالة بأوصاف مختلفة في اربعة مواضع ؛ والوجه العامّ كما مرّ اقتضاء محبّة المخاطب والتذاذه تكرار ذكر المحبوب واقتضاء محبّة المتكلّم للمخاطب تطويل الكلام بالبسط والتّكرار واختلاف الأوصاف انّما هو باقتضاء خصوصيّة المقام ، فانّ النهى عن جعله تعالى عرضة للايمان يقتضي التّهديد بانّه تعالى يسمع كلّما ينطق به الإنسان ومن جملتها كثرة الايمان وابتذال اسم الله يجعله مقدّمة لهوى النّفس ويعلم ما في الجنان من الحقّ والباطل والكذب والصدق ومقام الامتنان بترك المؤاخذة باللّغو في الايمان ، والمؤاخذة على ما كسبت القلوب تقتضي ذكر المغفرة بالنّسبة الى ترك المؤاخذة والحلم بالنّسبة الى المؤاخذة وترك العجلة والفيء بعد النّظر الى مساوي المرأة والغضب عليها والحلف على اضرارها الى الإحسان إليها ، وغضّ البصر عن ذنوبها يقتضي ذكر مغفرة الله ورحمته تعالى وعزم الطّلاق ببقاء الغضب عليها والنّظر الى ذنوبها ، والتّفوّه بصيغة الطّلاق يقتضي ذكر السّماع والعلم بنيّة المطلّق وغضبه والعلم بمساويه لعلّه يتنبّه ويغفر طلبا لغفران الله ونسب الى الصّادقين (ع) انّهما قالا : إذا الى الرّجل ان لا يقرب امرأته فليس لها قول ولا حقّ في الاربعة أشهر ولا اثم عليه في كفّه عنها في الاربعة أشهر فان مضت الاربعة أشهر قبل ان يمسّها فسكنت ورضيت فهو في حلّ وسعة وان رفعت أمرها قيل له امّا ان تفيء فتمسّها ، وامّا ان تطلّق وعزم الطّلاق ان يخلّى عنها فاذا حاضت وطهرت طلّقها وهو أحقّ برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء فهذا الإيلاء أنزل الله تبارك وتعالى في كتابه وسنّته (وَالْمُطَلَّقاتُ) لمّا انجرّ الكلام الى ذكر الطّلاق ذكر تعالى بعض أحكامه ولفظ المطلّقات يشمل جميع أقسام الطّلاق وجميع المطلّقات المدخول بهنّ يائسات وغير يائسات حاملات وغير حاملات ذوات إقراء وغير ذوات الأقراء وهنّ في سنّ ذوات الأقراء ، والغير المدخول بهنّ لكنّ المراد ذوات الأقراء المدخول بهنّ الغير الحوامل فالآية مثل سائر الآيات من المجملات المحتاجة الى البيان (يَتَرَبَّصْنَ) اخبار في معنى الأمر واشعار بانّ هذا ديدنهنّ لا حاجة لهنّ الى الأمر به ولا يمكنهنّ غيره والمقصود التّأكيد في التّربّص (بِأَنْفُسِهِنَ) الباء للتّعدية اى يحملن انفسهنّ على انتظار رجوع الأزواج أو للسببيّة مثل ضرب الأمير بنفسه يعنى (١) لا بواسطة غلامه فانّه ليس للدّلالة على وساطة النّفس بل على نفى وساطة الغير وكلاهما يدلّان على المبالغة وانّ النّساء كان انفسهنّ لا تطيعهنّ في التّربّص أو لفظ الباء مثله في قولهم ربص بفلان وتربّص به خيرا أو شرّا يعنى انتظر الخير أو الشّرّ له فهو للإلصاق كأنّ التّربّص من المتربّص ملصق بالمتربّص به والمعنى انّ المطلّقات يتربّصن رجوع أزواجهنّ (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) القرء من الاضداد للطّهر والحيض والمشهور من الاخبار والفتوى انّ المراد به هاهنا الطّهر (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) يعنى انهنّ مصدّقات في كونهنّ طاهرات وفي انقضاء العدّة وفي الحمل وعدمه ولا يحلّ لهنّ ان يكتمن ما في ارحامهنّ من الدّم والحمل لتعجيل العدّة أو لتعجيل الطّلاق أو لعدم ردّ الولد على والده (إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) شرط تهييج

__________________

(١) يعنى انهن يحتجن ان يتكلفن ويحملن أنفسهنّ على التربص بعدم طاعة الأنفس أو يحتجن لهن ان يعاون بأنفسهن لتربص انفسهن وان يتكلفن في ذلك لعدم طاعة انفسهن للتربص.

٢٠١

(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) بإرجاعهنّ الى النّكاح من غير عقد كما بيّن لنا (فِي ذلِكَ) الزّمان وامّا بعد ذلك الزّمان يعنى زمان العدّة فالبعولة وغيرهم سواء بحسب الحكم الشّرعىّ وان كانوا بحسب بعض الدّواعى اولى بنكاحهنّ بعقد جديد مثل ان يكون بينهما أولاد صغار لم يكن أحد يتكفّل تربيتهم وغير ذلك (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) اشارة الى انّ من لم يرد إصلاحا لم يكن اولى في نفس الأمر ولم يكن له رجوع في نفس الأمر وان كان الحكم كلّيّا في ظاهر الشّرع وكان له الرّجوع ولا يخفى انّ هذه الآية مثل سابقتها مطلقة مجملة ولكنّ المراد المعتدّة بالعدّة الرجعيّة لا البائنة (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ) يعنى في مدّة العدّة كما هو الظّاهر يعنى كما انّ للزوج حقّ الرجوع في العدّة من غير رضى منها فلها عليه النفقة والمسكن في تلك المدّة ، أو المراد انّ للنّساء حين بقاء الزوجيّة وعدم الطّلاق مثل الحقّ الّذى عليهنّ من الرّجال فيكون بيانا لحقوق الطرفين في زمن الزّوجيّة يعنى انّ حقّ الزوج على المرأة ان تطيعه ولا تمنعه من تمتّعاته ولا تخرج من بيتها ولا تدخل في بيتها أحدا ولا تتصرّف في ماله ولا تتصدّق من بيته ولا تصوم تطوّعا ولا تزور حيّا أو ميّتا الّا باذنه ، وتحفظه في نفسها وماله كذلك لها عليه ان ينفق عليها ويكسوها ويسكنها ويوفى حقّ قسامتها كلّ ذلك بحسب حالها واستطاعته (بِالْمَعْرُوفِ) بما لم يكن فيه ضرر وإضرار يمنعه الشّرع (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) بما فضلّهم الله بزيادة العقل وبما كفّلهم الله القيام بامرهنّ ، عن الباقر (ع) انّها جاءت امرأة الى رسول الله (ص) فقالت : يا رسول الله ما حقّ الزّوج على المرأة؟ ـ فقال لها ان تطيعه ولا تعصيه ولا تتصدّق من بيته بشيء الّا باذنه ولا تصوم تطوّعا الّا باذنه ولا تمنعه نفسها وان كانت على ظهر قتب ولا تخرج من بيتها الّا باذنه فان خرجت بغير اذنه لعنتها ملائكة السّماء وملائكة الأرض وملائكة الغضب وملائكة الرّحمة حتّى ترجع الى بيتها ، فقالت : يا رسول الله من أعظم النّاس حقّا على الرّجل؟ ـ قال : والده ، قالت : فمن أعظم النّاس حقّا على المرأة؟ ـ قال : زوجها قالت : فما لي من الحقّ عليه مثل ما له علىّ؟ ـ قال : ولا من كلّ مائة واحد ، فقالت : والّذى بعثك بالحقّ نبيّا لا يملك رقبتي رجل أبدا (وَاللهُ عَزِيزٌ) يعنى لا ينبغي للرّجال ان يؤاخذوا النّساء بجهالاتهنّ وقصورهنّ في الأفعال بعد ان فضّلهم الله على النّساء فانّ الله عزيز لا يمنعه مانع من إرادته ولا يؤاخذكم بقصوركم وتقصيركم (حَكِيمٌ) لا يجعل في جبلّة الرجال الفضيلة على النّساء ولا يأمر بقيامهم بأمرهنّ ولا في جبلّتهنّ المحكوميّة الّا لحكم ومصالح فلا تخرج المحكومات عن طريق محكوميتهنّ ولا يتعدّ الحاكمون في حكومتهم (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) هذه العبارة من المتشابهات المحتاجة الى البيان فانّها بظاهرها تدلّ على انّها لا تحلّ للزّوج بعد الطّلقتين أو لا يجوز طلاقها بعد الطّلقتين بل يجب إمساكها أو لا يقع الطّلاق دفعة الّا مرّتين ولو قال : زوجتي طالق ثلاثا أو كرّر الصّيغة ثلاثا وليس شيء منها مقصودا والمقصود انّ الطّلاق الجاري على سنّة الطّلاق وهي ان يكون للزّوج رجعة في العدّة مرّتين (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ) بعد هما بان لا يطلّق ويمسك المرأة بشيء من المعروف لا بجهة الإضرار (أَوْ) تطليق (تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) اى متلبّس بشيء من الإحسان وهذا الّذى فسّر الآية في الاخبار به (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَ) من المهر وغيره (شَيْئاً) حقّ العبارة ان يقول : لا يحلّ لهم اى لبعولتهنّ المذكورين سابقا لكن لمّا كان الغالب انّ أخذ المهر أو أزيد أو اقلّ من النّساء لا يكون الّا بمعونة المصلحين

٢٠٢

أو الحكّام أتى بخطاب الجمع لئلّا يتوهّم من ضمير الغائب انّ المراد البعولة فقط وانّ الحرمة خاصّة بهم وليجبر كراهة ترك المهر بلذّة المخاطبة ونسبة الإيتاء الى الجميع مع انّ المؤتى الزّوج فقط من باب التّغليب ولانّ الإيتاء أيضا في الأغلب يكون بمعونة الغير وإصلاحه (إِلَّا أَنْ يَخافا) اى الزّوجان وللاشارة الى انّ المخاطبين الأزواج والحكّام والمصلحون لا النّساء والبعولة ، نسب الخوف الى الزّوجين هاهنا بطريق الغيبة ولانّ الأصل في ظنّ عدم اقامة الحدود الزّوجان وامّا الحكّام والمصلحون فانّهم يظنّون ذلك بعد ما ظنّاه (أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) بالنّشوز من الطّرفين وعدم امتثال الزّوج الأمر بالقيام بحقوقها وقسامتها والزّوجة الأمر بتحصّنها وتمكينه وحفظه في غيبته في نفسها وماله (فَإِنْ خِفْتُمْ) خاطب الجماعة دون الزّوجين لانّ المصلحين والحكّام يظنّون ذلك أيضا ولانّ خطاب الحرمة كان معهم فخطاب نفى الحرج ينبغي ان يكون معهم (أَلَّا يُقِيما) نسب عدم الاقامة هاهنا الى الزّوجين بطريق الغيبة بعد نسبة الخوف الى الجماعة بطريق الخطاب اشعارا بانّ الخوف وان كان يشمل الحكّام والمصلحين تبعا للأزواج لكن اقامة حدود الزّوجيّة ليست الّا من الأزواج (حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) حقّ العبارة بعد نسبة عدم الإحلال الى الجماعة ونسبة الخوف إليهم بطريق الخطاب ان يقول : فلا جناح عليكم حتّى ينفى الحرج عمّن نسب عدم الإحلال إليهم لكنّه نفى الحرج عن الزّوجين للاشارة الى انّ المتحرّج بالاصالة هما الزّوجان وحرج غيرهما انّما هو تابع لحرجهما (فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ) الأحكام المذكورة من احكام القصاص وما بعده أو ما قبله وما بعده أو من احكام الزوجيّة فقط (حُدُودَ اللهِ) حدود حمى الله (فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لا ظلم خارجا من التعدّى فانّ الظّلم الّذى هو منع الحقّ عن المستحقّ وإعطاؤه لغير المستحقّ تجاوز عن حدّ الله كما انّ التّجاوز عن كلّ حدّ منع عن الحقّ وإعطاء لغير المستحقّ (فَإِنْ طَلَّقَها) هذا أيضا من المجملات لكنّ المراد ان طلّقها بعد الثانية (فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ) اى بعد الطّلاق الثّالث (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها) الزّوج الثّانى (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) اى على الزّوج الاوّل والزّوجة (أَنْ يَتَراجَعا) بالزّواج (إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ) الأحكام المذكورة من الحرمة بعد الطّلاق الثّالث وحلّيّتها بعد نكاح الغير لها بشرط ظنّ اقامة الحدود (حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) اى يعدّون من العلماء لا من البهائم وغير العقلاء وتفصيل الطّلاق الموجب للحرمة بعد الثّالثة وشروطه مذكورة في الكتب الفقهيّة (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) اى آخر عدّتهنّ بحيث ما خرجن من العدّة ولذا فسّره المفسّرون بقرب آخر المدّة (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) بشيء ما يعرفه الشّرع والعقل حسنا يعنى راجعوهنّ وامسكوهنّ بنحو إمساك الأزواج وأداء حقوق الزوجيّة (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) والتّسريح بالمعروف ان يخلّى سبيلهنّ ولا يمنعن عمّا يفعلن في انفسهنّ ويعطين ما يسرّون به (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً) لمضارّتهنّ أو إمساك ضرار أو مضارّين أو مضارّات بان تراجعوهنّ لان تحبسوهنّ ان ينكحن ولا تقوموا بحقوقهنّ (لِتَعْتَدُوا) عليهنّ بمنعهنّ عن نكاح الغير وعن حقوق الزوجيّة

٢٠٣

أو الجائهنّ الى الافتداء كما هو ديدن أهل الزّمان إذا كرهوا الأزواج ، عن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية فقال : الرّجل يطلّق حتّى إذا كادت ان يخلو أجلها راجعها ثمّ طلّقها يفعل ذلك ثلاث مرّات فنهى الله عن ذلك (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) فانّ ظلمه للمرأة يضرّ المرأة في دنياها والأغلب انّه ينفعها في عقباها لكن هذا الظّالم يضرّ بدنيا نفسه وعقباها ولا ينتفع في شيء منهما فهو من الأخسرين أعمالا (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ) احكامه الشّرعيّة القالبيّة وآياته التدوينيّة وآياته الآفاقيّة والانفسيّة وخصوصا الآيات الكبرى (هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) النّعمة امّا مصدر بمعنى الانعام اى انعام الله عليكم فعليكم متعلّق بها أو اسم مصدر بمعنى ما ينعم به والمعنى واذكروا نعمة الله واردة عليكم من الله فالظرف حال وعلى اىّ تقدير فالمعنى لا تنظروا الى الآيات من حيث أنفسها حتّى تتّخذوها هزوا واذكروا انعام الله بها عليكم وكونها آيات الله حتّى تشكروا وجودها ، أو المعنى واذكروا نعم الله عليكم من غير التفات الى النّهى السّابق ومن غير اختصاص للنّعم بالآيات والنّعمة ما يوافق الإنسان ويريده لا ما لا يوافقه ويكرهه ، ولمّا كان الإنسان ذا مراتب وقد يكون ما يوافق مرتبة منه منافرا لمرتبة اخرى منه كان تحقيق النّعمة حقيقا بالبيان فنقول :

تحقيق النّعمة ومراتبها بحسب مراتب الإنسان

انّ الإنسان بما هو إنسان عبارة عن اللّطيفة السيّارة الانسانيّة المتّحدة في كلّ مرتبة مع تلك المرتبة بوجه والمغايرة لها بحسب الذّات والآثار بوجه ، فانّ كلّ مرتبة منه محدودة بحدود خاصّة موقوفة على تعيّن خاصّ بخلاف تلك اللّطيفة فانّها غير محدودة وغير واقفة على شأن من الشّؤن ، بل لها السّير الى ما لا نهاية له من الولاية المطلقة فموافقات المراتب ان كانت موافقة لتلك اللّطيفة كانت نعما للإنسان بما هو إنسان والّا كانت نقما له فجعل الشّهوة في الرّجل والمرأة وخلق آلات التّناسل بالوضع المخصوص وتقاضى الشّهوة للأبوين وتحريكها لهما وتقاربهما وإيصال النّطفة الى المقرّ المخصوص وامتزاج النّطفتين وجعل الرّحم عاشقا لها حافظا ايّاها ممسكا لها ، وجعل الدّم في الرّحم غذاء لها وتوجّه نفس الامّ الى حفظها وتربيتها وإيصال الغذاء إليها وجعله سببا لنموّها نعم من الله على الإنسان ؛ وهكذا جميع ما ينفعه ويلزمه الى أو ان البلوغ وبعد البلوغ كلّما يعينه في سيره الى الله من القرناء والنّاصحين والأنبياء والزّاجرين وبالجملة كلّما ينفعه في سيره الى الله سواء كان نافعا في مقام بشريّته أو غير نافع ، وسواء عدّ نعمة أو نقمة نعم من الله تعالى عليه فتوفير الأموال وتصحيح الأنفس وإنذار الأنبياء وتبشير الأولياء (ع) نعمة من الله تعالى كما انّ الابتلاء في الأموال والأنفس وزجر الأشقياء وأذاهم للمؤمنين كان نعمة منه تعالى ولذا قال تعالى : (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً ، وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) بطريق التّوكيد والقسم ، فموسى (ع) ودعوته ولطفه كانت نعمة كما انّ فرعون وقهره وشدّته كانت أيضا نعمة للمؤمنين ، ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره مشيرا الى انّ اللطف والقهر كليهما نعمة للمؤمنين :

چونكه بى رنگى أسير رنگ شد

موسيئى با موسيئى در جنگ شد

چون ببيرنگى رسى كان داشتى

موسى وفرعون دارند آشتى

يا نه جنگ است اين براى حكمتست

همچو جنگ خر فروشان صنعت است

يا نه اينست ونه آن حيرانى است

گنج بايد گنج در ويرانى است

٢٠٤

فكلّما أعان الإنسان بحسب التّكوين أو بحسب التّكليف على السّير الى مقامه الّذى هو الولاية المطلقة الّتى لا حدّ لها كان نعمة له ، وإذا وصل الإنسان الى ذلك المقام تمّ النّعمة عليه بل صار بنفسه نعمة تامّة فانّ الولاية هي النّعمة لا غير الولاية ، وما كان متّصلا بالولاية بان كان ناشئا منها أو راجعا إليها كان نعمة بسبب اتّصاله بها ، وما لم يكن كذلك لم يكن نعمة كائنا ما كان ، والمراد بالنّعمة هاهنا امّا نعمة الآيات أو مطلق ما يعين الإنسان في انسانيّته فيكون قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ أو خصوص الأنبياء والأولياء فيكون قوله : (وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ) من قبيل عطف المغاير والمراد بالكتاب النّبوّة والرّسالة وأحكامهما والكتاب التّدوينىّ من آثارهما وبالحكمة الولاية وآثارها (يَعِظُكُمْ بِهِ) مستأنف جواب لسؤال عن حال ما انزل أو عن علّة النّزول أو حال عن ما أو عن فاعل انزل (وَاتَّقُوا اللهَ) اى سخطه في الغفلة عن حيثيّة النّعمة وفي عدم الاتّعاظ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) فيعلم استهزاءكم وغفلتكم واتّعاظكم وعدمها وعد ووعيد ، ولمّا كان النّفوس ضنينة بتخلية النّساء بعد الطّلاق وانقضاء العدّة وبتزويجهنّ قدّم النّهى عن الاستهزاء بالاحكام وعدم الاعتداد بها والأمر بتذكّر النّعم وأحكام الشّريعه وحكمها ومصالحها حتّى يكون معينا على امتثال الأوامر والنّواهى ثمّ عقّبه بالأمر بالتّقوى والوعد والإيعاد بذكر احاطة علمه بالجليل والحقير ثمّ قال : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) اى وصلن الى آخر العدّة من غير انقضاء لها أو بلغن اخرها بحيث انقضت العدّة (فَلا تَعْضُلُوهُنَ) اى لا تمنعوهنّ ايّها الأزواج (أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ) الّذين خطبوهنّ وكانوا غيركم أو لا تعضلوا ايّها الأولياء على ان يكون الخطاب الثّانى غير الاوّل ، أو على ان يكون الخطاب الاوّل للأولياء أيضا باعتبار انّهم كانوا معينين للطّلاق ان ينكحن أزواجهنّ الّذين كانوا أزواجهم قبل الطّلاق (إِذا تَراضَوْا) اى الخطّاب والنّساء أو الأزواج السّابقة والنّساء (بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ) المذكور من الأحكام والآيات السّابقة المذكورة جملة أو من منع عضل النّساء (يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) فانّ من لم يذعن بالله حالا ولا باليوم الآخر كانت الآيات في الوعد والوعيد اسمارا له (ذلِكُمْ) أتى بأداة خطاب الجمع هاهنا بخلاف سابقه لكون الحكم متوجّها هاهنا الى جميع المخاطبين بخلاف السّابق يعنى انّ تخلية النّساء وعدم منعهنّ عن الأزواج كان خاصّا بالأزواج أو الأولياء أو كان الخطاب خاصّا بمحمّد (ص) (أَزْكى لَكُمْ) من الزّكاة بمعنى النّمو والتنعمّ أو الصّلاح (وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ) ما ينفعكم ممّا يضرّكم ولذا يأمركم بما تكرهونه وينهاكم عمّا تحبّونه لنفع ذلك ومضرّة هذا (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ولذا تحبّون الضارّ وتكرهون النّافع (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ) بعد ذكر النّكاح وذكر انّ النّساء حرث للولد وانجراره الى ذكر الطّلاق ذكر تعالى الأولاد وكيفيّة إرضاع الوالدات والجملة خبر في معنى الأمر أو اخبار عن مدّة الإرضاع واشعار بعدم وجوب الإرضاع عليهنّ فكأنّه تعالى قال : والوالدات ان أردن ان يرضعن أولادهنّ يرضعنهم (حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) التّأكيد به لانّ كثيرا ما يتسامح فيقال : حولين لحول كامل وجزء من الحول الثّانى ، روى انّها لا تجبر الحرّة على إرضاع الولد وتجبر

٢٠٥

امّ الولد ، وروى انّه ليس للصبىّ لبن خير من لبن أمّه (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) يعنى هذا الحكم لمن أراد من النّساء أو الرّجال ان يتمّ الرضاعة والّا جاز الاقتصار على اقلّ من ذلك أو يرضعن للآباء الّذين أرادوا ان يتمّوا الرضاعة (وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ) اى الاباء والتأدية بهذه العبارة للاشارة الى انّ الأولاد للآباء ولا شركة للامّهات فيهم وللاشارة الى علّة الحكم (رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) بالنّسبة الى المعطى بان لا يكون بنحو يضرّه وبالنّسبة الى المنفق عليها بان لا يكون غير موافق لما يقتضيه شأن أمثالها ، ظاهر الآية وجوب الإرضاع على الامّهات كنّ في بيوت الآباء اوّلا ، ووجوب الإنفاق على الآباء كنّ في بيوتهم أو في بيوت أزواج غيرهم ولكنّ الاخبار والفتاوى غير ذلك (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) قد فسّر الوسع بالجدّة وبالطّاقة لكنّ المراد به في القرآن كلّما استعمل هو ما تسعه النّفس سواء كان من الأموال أو من الأفعال فهو اسم مصدر بمعنى ما تسعه النّفس اى مال يسعه مال النّفس بمعنى انّه لا يظهر بالإنفاق النّقصان فيه أو فعل تسعه النّفس بمعنى انّه لا يظهر على النّفس منه كلفة فوسع النّفس دون طاقتها في الفعال ، ودون التضرّر به في الأموال ، وهو تعليل للتّقييد بالمعروف كما انّ قوله تعالى (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها) بدل تفصيلىّ من قوله (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها) على قراءة رفع لا تضارّ وامّا على قراءة فتحها فهي منقطعة عمّا قبلها مستأنفة (وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ) ويجوز جعل لا تضارّ مبنيّا للفاعل ومبنيّا للمفعول ولا فرق فيهما بحسب المعنى ، والمضارّة بالولد اعمّ من التمانع عن حقوق الزوجيّة خوفا على الولد ، أو التقتير في الإنفاق عليها بحسب ماله أو بحسب حالها ، والإجحاف في ماله كذلك ، أو منعها من إرضاع الولد مع ميلها ذلك ، أو ابائها عنه مع ان لم يوجد بدلها ، أو لم يألف الولد بغيرها ، عن الصّادق (ع): إذا طلّق الرّجل المرأة وهي حبلى أنفق عليها حتّى تضع حملها فاذا وضعته أعطاها أجرها ولا يضارّها الّا ان يجد من هو أرخص اجرا منها فان هي رضيت بذلك الأجر فهي احقّ بابنها حتّى تفطمه (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) وهذا من المجملات المحتاجة الى البيان يعنى على وارث المولود له الإنفاق والكسوة للمرضعة بعد موت المولود له لكن بقدر اجرة الرّضاع من مال الولد ان كان له ارث (فَإِنْ أَرادا فِصالاً) اى قبل الحولين والّا فبعد الحولين لا حاجة الى التّقييد بقوله تعالى (عَنْ تَراضٍ مِنْهُما) يستفاد من هذا القيد انّ رضى الامّ شرط في فطام الولد وهو كذلك قبل الحولين لانّ لها الحضانة في الحولين وهي تقتضي ان يكون الفطام قبلهما برضاها (وَتَشاوُرٍ) منهما طلبا لما هو صلاح الولد ، والأمر بمشورة الامّ هاهنا مع كراهة مشورة النّساء لكونها ابصر بحال الولد (فَلا جُناحَ عَلَيْهِما) في الفطام قبلهما وهذا توسعة في الرّضاع بعد تحديده بالحولين والتّضييق فيه ، ولمّا قال والوالدات يرضعن أولادهنّ وعلى المولود له رزقهنّ وكسوتهنّ توهّم من ظاهره وجوب إرضاع الوالدات ووجوب إنفاق الآباء فأراد رفع ذلك التّوهّم وانّ هذا أمر غير واجب الّا بعوارض فقال : (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) تطلبوا من يرضع (أَوْلادَكُمْ) غير الامّهات (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) وهذا أيضا من المجملات فانّه بظاهره يدلّ على جواز الاسترضاع من غير الامّهات مع وجودهنّ وارضاعهنّ بلا اجرة أو بأجرة مثل اجرة الغير وكفاية لبنهنّ لهم وليس كذلك لانّه ينافي حضانتهنّ الواجبة على القول به (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ) ما أردتم أو ينبغي ايتاؤه المراضع أو الامّهات على حسب الشّرط أو على حسب امر الله تعالى يعنى انّ للامّهات

٢٠٦

حقّا عليكم من النّفقة والكسوة إذا كنّ أزواجكم ومن التّسريح بإحسان إذا كنّ مطلّقات وللمرضعات غير الامّهات حقّا عليكم بسبب إرضاع أولادكم فاذا آتيتم كلّ ذات حقّ حقّها بحيث يكنّ راضيات منكم فلا جناح عليكم وللاشارة الى استرضائهنّ أضاف قوله تعالى (بِالْمَعْرُوفِ) والاخبار في انّ المرضعة كيف ينبغي ان تكون وانّ اللّبن يؤثّر في نفس الرّضيع وانّ لبن الامّهات خير الألبان للأولاد كثيرة (وَاتَّقُوا اللهَ) تحذير للآباء عن التّعدّى على الامّهات أو الأولاد بسبب اللّجاج أو شحّ النّفوس أو الخطاب للآباء والامّهات جميعا (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأطيعوه ولا تخالفوا أمره ونهيه ترغيب وتهديد (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) توفّى الشّيء اخذه بتمام اجزائه وتوفّى الإنسان أخذ روحه بتمام فعليّاتها ، واستعمال التوفّى في قبض الرّوح للاشعار بأنّه لا يبقى بعد الموت في الدّنيا من الإنسان الّا مادّة قابلة لا مدخليّة لها في الإنسان لا في حقيقته ولا في تشخّصه (وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) قد مضى بيان التربّص بالأنفس عند قوله تعالى والمطلّقات يتربّصن بأنفسهنّ (أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) اى عشرة ايّام لكنّه انّث العشر لتقدير اللّيالى جمع اللّيلة تميزا.

بيان حكمة عدّة النّساء

اعلم انّ الحكمة في العدّة ، عدّة أشياء : الاوّل حفظ حرمة المؤمن ، والثّانى ترقّب حصول الرّغبة من الطّرفين بمضىّ مدّة لم يتضاجعا وحصول المراجعة والمواصلة بينهما فانّ الطّلاق والفرقة مبغوضان لله ، والوصال والالفة محبوبان له ، والثّالث تبرئة الرّحم من الحمل ، والرّابع مراعاة تعلّق قلب المرأة بالزّوج وقطعه فانّها تسكن حرقة المرأة بعد الطّلاق في ثلاثة أشهر وحرقة المتوفّى عنها زوجها لا تسكن الّا في اربعة أشهر وعشرا كما في الخبر ، والخامس مراعاة صبر المرأة عن الجماع وطاقتها فانّ المرأة تصبر عنه اربعة أشهر ولذلك تقرّر ذلك في القسم والإيلاء وهذا أيضا مذكور في الخبر وقد يتخلّف بعض ذلك في بعض الموارد فانّ المطلّقة الغير المدخولة والمطلّقة اليائسة لا عدّة لهما ، والامة والمتعة تعتدّان في الطّلاق وفي انقضاء المدّة أو هبتها نصف الحرّة الدّائمة وفي الوفاة كالحرّة الدّائمة على خلاف ، وذات الأقراء تعتدّ بالأقراء ، وذات الأشهر بالأشهر بعد التربّص قبل الطّلاق بثلاثة أشهر ، وتعتدّ من طلاق الغائب من حين الطّلاق ومن وفاته من حين وصول الخبر ، روى عن الباقر (ع) انّه قال : كلّ النّكاح إذا مات الزّوج فعلى المرأة حرّة كانت أو أمة وعلى اىّ وجه كان النّكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدّة اربعة أشهر وعشرا وقد أشرنا الى انّ في بعض هذه خلافا (فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ) اى آخر مدّة عدّتهنّ يعنى إذا انقضت العدّة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ايّها الأولياء أو الأزواج أو الأولياء والأزواج جميعا (فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ) من النّكاح واجابة الخطاب والتّعرّض لهم (بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) فاحذروا ولا تمنعوا النّساء بعد انقضاء العدّة من التزويج ولمّا علّق تعالى نفى الحرج بسبب الخطبة والنّكاح على انقضاء العدّة توهّم من مفهوم المخالفة انّه قبل انقضاء العدّة يكون الحرج ثابتا على الرّجال المذكورين ولا يكون الّا بسبب اثم النّساء في التّعرّض للخطاب حينئذ واثمهنّ في ذلك يلزمه اثم الخطّاب في ذلك فرفع ذلك التّوهّم بقوله تعالى (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ) ايّها الخطّاب (بِهِ) لا فيما صرّحتم به (مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ) واكتفى بنفي الجناح عن الخطّاب عن ذكر انتفاعه عن النّساء والرّجال المذكورين ، والتّعريض ان يذكر شيئا للمرأة ويشير الى ارادة نكاحها بعد انقضاء عدّتها والرّغبة فيها حتّى لا تجيب غيره وتحبس نفسها له (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي

٢٠٧

أَنْفُسِكُمْ) من غير إظهار بألسنتكم لا تصريحا ولا تلويحا (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) فأباح لكم التّعريض بخطبتهنّ لا التّصريح بها فانّه خلاف حفظ حرمة المؤمن (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) استدراك عن محذوف مستفاد من قوله (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ) اى فاذكروهن (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) اى في مكان خال أو مواعدة مكان خال ، أو هو بنفسه مفعول مطلق نوعىّ من غير لفظ الفعل فانّ الخلوة مع الاجنبيّة المرغوبة تدعوا الى ما لا يرضيه الشّرع ، أو لا تواعدوهنّ جماعا وفعلا يستتر به فانّه كثيرا ما يكنّى عن الجماع وما يستقبح بالسرّ اى لا تواعدوهنّ المضاجعة والملاعبة ، أو لا تواعدوهنّ العقد قبل انقضاء العدّة ، أو كثرة المضاجعة معهنّ بعد النّكاح حتّى لا يملن الى غيركم بان تصفوا أنفسكم بكثرة المضاجعة ، أو لا تواعدوهنّ خلوة بان تقول قبل انقضاء العدّة للمرأة الّتى تريد نكاحها : موعدك بيت آل فلان وقد أشير اشارة ما الى الكلّ في الاخبار (إِلَّا أَنْ تَقُولُوا) استثناء متّصل في كلام تامّ بدل من السّرّ أو استثناء مفرّغ اى لا تواعدوهنّ سرّا بشيء أو لشيء أو في حال أو مواعدة شيء الّا ان تقولوا (قَوْلاً مَعْرُوفاً) من التّعريض المرخّص فيه (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) اى عقده والفرق بينهما كالفرق بين المصدر واسمه ، والنّهى عن العزم عليها مبالغة في النّهى عنها (حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ) اى المفروض من العدّة (أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ) من العزم على العقد أو الرّفث أو الفسوق (فَاحْذَرُوهُ) اى الله ، أو ما في أنفسكم من العزم المذكور ، أو وعد السّرّ (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما في نفوسكم إذا لم تفعلوا (حَلِيمٌ) لا يعاجل عقوبة من يرتكب ما نهى عنه فلا تغتّروا بعدم المؤاخذة سريعا (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ) استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل بعد ذكر الطّلاق وذكر احكام المطلّقات : ما للمطلّقة على المطلّق؟ ـ فقال تعالى : لا تبعة عليكم من المهر وغيره (إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) كناية عن الجماع (أَوْ تَفْرِضُوا) الّا ان تفرضوا أو حتّى تفرضوا ، أو لفظة أو بمعنى الواو (لَهُنَّ فَرِيضَةً) فعيل بمعنى المفعول والتّاء للنقل أو مصدر فذكر تعالى حكم المطلّقات بالمنطوق والمفهوم تفصيلا واجمالا من حيث المهر فنفى الحرج وغرامة المهر عمّن طلّق زوجته الغير الممسوسة والغير المفروض لها بمنطوق الآية واثبت غرامة ما لمن طلّق الممسوسة أو المفروض لها والمفروض لها الغير المدخول بها لها نصف ما فرض لها كما سيأتى ، والممسوسة الغير المفروض لها ، لها مهر أمثالها والممسوسة المفروض لها لها ما فرض لها (وَمَتِّعُوهُنَ) اى فطلّقوهن ومتّعوهنّ استحبابا أو وجوبا (عَلَى الْمُوسِعِ) اى الّذى كان ذا سعة في ماله فانّ همزة الأفعال في مثله للصيرورة (قَدَرُهُ) ما يقدر عليه ويطيقه ، أو ما يقدّر على حسب سعته (وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) ويستفاد من الاخبار انّ مناط تقدير المتعة ليس حال المطلّق فقط بل ينظر الى حال المطلّق وشأن المطلّقة ويقدّر المتعة بحسب حالهما جميعا فانّ تمتيع الّتى لها حسب ونسب وشرف ليس كتمتيع من ليس لها ذلك وان كان المطلّق واحدا (مَتاعاً) مصدر من غير لفظ الفعل أو مفعول به اى تمتيعا (بِالْمَعْرُوفِ) على الاوّل ، أو جنسا متلبّسا بالمعروف على الثّانى ، أو يكون الظّرف حينئذ متعلّقا بقوله متّعوهن والتّقييد بالمعروف يدلّ على مراعاة حال الطّرفين (حَقًّا) صفة متاعا أو مصدر مؤكّد لغيره (عَلَى الْمُحْسِنِينَ) اى لمريدى الإحسان الى النّاس ، ومطلّقاتهم اولى بإحسانهم أو على من ديدنهم الإحسان الى النّاس ، أو على المحسنين في فعالهم وأتى بهذا الاسم الظّاهر مع انّ

٢٠٨

حقّ العبارة ان يقول حقّا عليكم ترغيبا لهم في التّمتيع ، أو المقصود انّه حقّ على المحسنين منكم وانّه شأنهم فينبغي لكم ان تطلبوا هذا الشّأن ولا تحديد في الاخبار لمتعة المطلّقة المذكورة كما في الآية وفي بعض الاخبار ذكر وجوبها ، وقيل : يقدّر بقدر نصف مهر أمثالها (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) فعليكم (فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) وهذا بيان لأحد شقوق مفهوم المخالفة من الآية السّابقة وبقي شقّ طلاقهنّ بعد المسيس مع الفرض وحكمه ظاهر فانّه بالعقد يثبت الفريضة ويفرض والمسقط للنّصف هو الطّلاق قبل المسيس وقد فرض الطّلاق بعد المسيس وشقّ طلاقهنّ بعد المسيس مع عدم الفرض (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ) اى المطلّقات عن النّصف الّذى هو حقّهنّ (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) اى الأب أو الجدّ أو الوكيل المطلق لهنّ ، أو الوكيل في امر نكاحهنّ وطلاقهنّ ، أو المراد من الّذى بيده عقدة النّكاح الأزواج والمعنى الّا ان يعفو الأزواج عن النّصف الّذى كان حقّ النّساء وصار بالطّلاق قبل المسيس حقّا لهم وقد أشير في الاخبار الى الكلّ ويؤيّد المعنى الأخير قوله تعالى (وَأَنْ تَعْفُوا) خطابا للأزواج بظاهره ، ويحتمل ان يكون خطابا للمطلّقين والمطلّقات تغليبا ، أو لأولياء النّكاح ، أو للجميع (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) عن الظّلم فانّ مطالبة الحقّ الثّابت قلّما تنفكّ عن انكسار ما لقلب المطلوب منه (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ) اى الفضل الّذى أنعم الله به على بعضكم فيكون خطابا للأزواج فانّهم فضّلهم الله على النّساء ، ومعنى عدم نسيان الفضل تذكّر الفضل الّذى فضّلهم به على النّساء حتّى يكون ذلك التذكّر داعيا لهم الى العفو فانّ ذا الفضل اولى بالعفو والإعطاء ، أو المعنى لا تنسوا تحصيل الفضل دائرا (بَيْنَكُمْ) فانّ العفو والإعطاء سبب لحصول الفضل وزيادة الدّرجات فليكن كلّ من الأزواج والنّساء والأولياء متذكّرا للفضل طالبا له فالآية ترغيب في العفو للأزواج فقط على المعنى الاوّل وللجميع على المعنى الثّانى ، روى عن علىّ (ع) انّه قال : سيأتى على النّاس زمان عضوض يعضّ المؤمن على ما في يده ولم يؤمر بذلك قال الله تعالى : (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فما يفوتكم بالعفو لا يفوته فيجازيكم بعشرة أمثاله الى سبعمائة الف.

(حافِظُوا) ابتداء كلام للتّرغيب في الصّلوة والتّوجّه الى الله بعد ذكر النّساء واحكامهنّ والطّلاق واحكامه كأنّه قال : هذه احكام الكثرات لكن لا ينبغي لكم الغفلة عن جهة الوحدة والتّوجّه الى الله فواظبوا (عَلَى الصَّلَواتِ) بالمحافظة على مواقيتها وحدودها وأركانها وقد مضى في اوّل السّورة بيان للصّلوة ومراتبها وانّها ذات مراتب كمراتب الإنسان والصّلوات القالبيّة لكون كلّ في عرض الاخرى لا في طولها لا تفاضل بينها وانّ مراتب الصّلوة الطوليّة كلّ عالية منها محيطة بالدانية ومقوّمة لها وحكمها بالنّسبة الى دانيتها حكم الرّوح بالنّسبة الى الجسد وهي متوسّطة معتدلة كما انّ الرّوح بالنّسبة الى الجسد متوسّطة معتدلة فقوله تعالى :

بيان الصّلوة الوسطى

(وَالصَّلاةِ الْوُسْطى) اى الفضلى أو المتوسّطة أو المعتدلة اشارة الى المراتب العالية من الصّلوات لا الى شيء من الصّلوات العرضيّة ، وتفسيرها بصلوة الظّهر كما في الاخبار الواردة من طريق الشّيعة لكونها مظهرا للصّلوة الوسطى بوجه كما انّ ليلة القدر والاسم الأعظم عبارة عن ليلة هي روح بالنّسبة الى اللّيالى العرضيّة وعن اسم كذلك وقد فسّروهما بشيء من اللّيالى

٢٠٩

والأسماء العرضيّة لكونهما مظهرين لهما مظهريّة خاصّة غير المظهريّة العامّة المشترك فيها جميع اللّيالى والأسماء وقد فسّروها بصلوة العصر والمغرب أو العشاء أو الصّبح ، وقد نقل انّها مختفية في الصّلوات الخمس لم يعيّنها الله وأخفاها في جملة الخمس ليحافظوا على جميعها كما انّه اختفى ليلة القدر في ليالي شهر رمضان أو في ليالي السّنة والاسم الأعظم في جميع الأسماء ، وساعة الاستجابة في ساعات يوم الجمعة (وَقُومُوا) في الصّلوة (لِلَّهِ قانِتِينَ) اى داعين بوضع قنوت الصّلوة أو خاشعين أو طائعين أو ساكتين عن هواجس النّفس أو عن كلام غير ذكر الله أو قوموا اى اعتدلوا لله أو قوموا بأمور الكثرات واكفوا مهمّات أهليكم ، ولفظ لله امّا متعلّق بقوموا أو بقانتين وكان التّقديم للحصر والاهتمام (فَإِنْ خِفْتُمْ) من عدوّ ولصّ وسبع «ف» حافظوا عليها (فَرِجالاً) جمع راجل أو رجيل أو رجلان أو رجل بكسر الجيم أو ضمّه يعنى لا يلزم القيام والتّوقّف في الصّلوة وقت الخوف (أَوْ رُكْباناً) جمع راكب ولا اختصاص له بركوب الجمل وغيره وعن الصّادق (ع) انّه قال : إذا خاف من سبع أو لصّ يكبّر ويومى إيماء (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ) فصلّوا ، أو المراد مطلق الذّكر ، أو المراد الذّكر القلبىّ الّذى هو صلوة الصّدر (كَما عَلَّمَكُمْ) ذكرا يكون مثل تعليمه ايّاكم يعنى يوازى تعليمه ايّاكم ، أو كذكر علّمكم بلسان خلفائه ، أو كالذّكر الّذى علّمكم بلسان خلفائه على ان يكون ما مصدريّة أو موصوفة أو موصولة وعلى الأخيرين فقوله تعالى (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) يكون بدلا (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ) اى يظنّون التّوفّى بظهور آثاره أو يعلمون التّوفّى في المستقبل (مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً) قرء بالنّصب بتقدير يوصون خبرا للّذين وبالرّفع بتقدير عليهم وصيّة (لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً) مصدر لمحذوف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يفعلون بالوصيّة فقال : يمتّعون أزواجهم متاعا (إِلَى الْحَوْلِ) أو بدل عن وصيّة نحو بدل الاشتمال ، أو منصوب بنزع الخافض اى يوصون وصيّة بمتاع (غَيْرَ إِخْراجٍ) بدل نحو بدل البعض من الكلّ ، أو حال عن الأزواج مؤوّلا باسم المفعول ، أو عن فاعل يذرون مؤوّلا باسم الفاعل ، وقيل في اعراب أجزاء الآية أشياء أخر أجودها ما ذكرنا ، وفي الاخبار : انّ الآية منسوخة بآية عدّة الوفاة وآية ميراثهنّ فانّه كان الحكم في اوّل الإسلام ان ينفق الوارث على المرأة الى الحول ثمّ تخرج من غير ميراث ؛ فنسختها بكلا حكميها آية العدّة وآية ميراثهنّ ؛ وان كانت آية العدّة متقدّمة في النّظم فانّها كانت متأخّرة في النّزول (فَإِنْ خَرَجْنَ) من منازل الأزواج يعنى بعد الحول على ان يكون الحكم بعدم الإخراج في الحول واجبا أو قبل الحول على ان يكون غير واجب (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ) ايّها الورّاث أو الخطّاب لأولياء النّساء أو للحكّام (فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) كالتّزيين والتعرّض للخطّاب واجابة خطبتهم والنّكاح لهم (وَاللهُ عَزِيزٌ) لا يمنع ممّا يريد فاحذروا انتقامه في مخالفته واحذروا الظّلم على من تحت أيديكم (حَكِيمٌ) لا يأمر ولا ينهى الّا بما فيه صلاحكم (وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ) تعميم بعد تخصيص وبيان حكم ندب بعد الحكم الفرض فانّ حكم التّمتيع فيما سبق كان للمطلّقات الغير الممسوسات الغير المفروض لهنّ ، وفي الخبر : متعة النّساء واجبة دخل أو لم يدخل ؛ وتمتّع قبل ان تطلق ؛ وفي بيان هذه الآية عن الصّادق (ع): متاعها بعد ما تنقضي عدّتها على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، قال : وكيف يمتّعها وهي في عدّتها ترجوه ويرجوها ويحدث الله بينهما ما يشاء (حَقًّا) مفعول مطلق مؤكّد لغيره أو حال (عَلَى الْمُتَّقِينَ

٢١٠

كَذلِكَ) التّبيين لأحكام النّساء في توفّى أزواجهنّ وفي طلاقهنّ (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) الثّابتة في حقّ أنفسكم وفي حقّ مخالطيكم ومخالطاتكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) تصيرون عقلاء أو تدركون بعقولكم كونها آيات وأحكام لله وتدركون مصالحها وحكمها (أَلَمْ تَرَ) استفهام إنكارىّ وكان حقّ العبارة ان يقول الم تذكر لكنّه أتى بالرّؤية الدّالّة على جواز الرّؤية لهم للاشعار بأنّهم وان كانوا قد مضوا ولا يراهم المقيّدون بالزّمان لكنّهم بالنّسبة اليه (ص) حاضرون فانّ الأزمان بالنّسبة اليه (ص) منطوية ولا فرق عنده (ص) بين الماضي والمستقبل والحال لكونه (ص) محيطا بالزّمان والزّمانيّات (إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ) قولا مناسبا لشأنه لا بنداء يسمع ولا بصوت يقرع بل بإرادة هي ظهور فعله (لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) روى انّ هؤلاء كانوا أهل مدينة من مدائن الشّام وكانوا سبعين الف بيت وكان الطّاعون يقع فيهم في كلّ أو ان فكانوا إذا أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم وبقي فيها الفقراء لضعفهم فكان الموت يكثر في الّذين أقاموا ويقلّ في الّذين خرجوا ، فيقول الّذين خرجوا : لو كنّا أقمنا لكثر فينا الموت ، ويقول الّذين أقاموا : لو كنّا خرجنا لقلّ فينا الموت ، قال : فاجتمع رأيهم جميعا انّه إذا وقع الطّاعون وأحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة فلمّا أحسّوا بالطّاعون خرجوا جميعا وتنحّوا عن الطّاعون حذر الموت فسافروا في البلاد ما شاء الله ثمّ انّهم مرّوا بمدينة خربة قد جلا أهلها عنها وأفناهم الطّاعون فنزلوا بها ، فلمّا حطّوا رحالهم واطمأنّوا قال لهم الله : موتوا جميعا فماتوا من ساعتهم وصاروا رميما يلوح وكانوا على طريق المارّة فكنستهم المارّة فنحوّهم وجمعوهم في موضع فمرّ بهم نبىّ من أنبياء بنى إسرائيل يقال له حزقيل فلمّا رأى تلك العظام بكى واستعبر وقال : يا ربّ لو شئت لأحييتهم السّاعة كما أمتّهم فعمروا بلادك وولدوا عبادك وعبدوك مع من يعبدك من خلقك ، فأوحى الله اليه أفتحبّ ذلك؟ ـ قال : نعم يا ربّ ؛ فأحياهم الله ، قال : فأوحى الله عزوجل ان قل كذا وكذا ؛ فقال الّذى أمره الله عزوجل ان يقوله قال ، قال ابو عبد الله (ع) : وهو الاسم الأعظم ؛ فلمّا قال حزقيل ذلك نظر الى العظام يطير بعضها الى بعض فعادوا احياء ينظر بعضهم الى بعض يسبّحون الله عزوجل ويكبّرونه ويهلّلونه ، فقال حزقيل عند ذلك : اشهد انّ الله على كلّ شيء قدير ، وذكر في نيروز الفرس انّ النّبىّ (ص) أمره الله ان صبّ الماء عليهم فصبّ عليهم الماء في هذا اليوم فصار صبّ الماء في يوم النّيروز سنّة ماضية لا يعرف سببها الّا الرّاسخون في العلم ، وروى انّ الله ردّهم الى الدّنيا حتّى سكنوا الدّور وأكلوا الطّعام ونكحوا النّساء ومكثوا بذلك ما شاء الله ثمّ ماتوا بآجالهم (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ) تعليل للأحياء بعد الاماتة أو لمجموع الاماتة والأحياء بعدها اى أماتهم ثمّ أحياهم ليستكملوا بذلك لانّ الله ذو فضل على النّاس أو ليعتبر غيرهم بهم لانّ الله ذو فضل على النّاس فيجعل بعضهم عبرة للآخرين (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فضله عليهم فلا ينظرون الى انعامه ولا يصرفون نعمته فيما خلقت لأجله (وَقاتِلُوا) عطف على مقدّر مستفاد ممّا سبق كأنّه قال : فلا تحذروا الموت وكلوا أمركم الى القدر فانّه لا ينجى الحذر من القدر وقاتلوا (فِي سَبِيلِ اللهِ) قد مضى بيان سبيل الله وانّ الظّرف لغو أو مستقرّ والظّرفيّة حقيقيّة أو مجازيّة وانّ المعنى قاتلوا حالكونكم في سبيل الله أو في حفظ سبيل الله وإعلانه وانّ سبيل الله الحقيقىّ هو الولاية وطريق القلب وكلّ عمل يكون معينا على ذلك أو صادرا منه فهو سبيل الله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما يقوله المجاهدون والقاعدون والمثبّطون والمرغّبون (عَلِيمٌ) بالمتخلّف

٢١١

ونيّته والمجاهد ومراده ؛ ترغيب وتهديد ووعد ووعيد.

بيان قرض الله وتحقيقه

(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) القرض ما تعطيه لتقاضاه ، وأقرضه أعطاه قرضا ، والاقراض لا يكون الّا ممّا كان مملوكا للمقرض فلو كان شيء عارية ووديعة عند الشّخص فانّ ردّه الى صاحبه لم يكن ذلك الردّ قرضا وان أعطاه غير صاحبه كان حراما وتصرّفا غصبيّا لا اقراضا ، وما للإنسان من الأموال العرضيّة الدّنيويّة والقوى النباتيّة والحيوانيّة والآلات والأعضاء الجسمانيّة والمدارك والشّؤن الانسانيّة كلّها ممّا أعارها الله ايّاه فان ردّ شيئا منها الى الله كان ذلك ردّ العارية الى صاحبها لا اقراضا وان أعطى شيئا منها غير صاحبها كان حراما وتصرّفا في مال الغير من دون اذن صاحبه ، والله تعالى من كمال تلطّفه بعباده ورحمته عليهم يستقرض منهم ما أعاره ايّاهم ليشير بمادّة القرض الى إعطاء العوض ولا اختصاص لما استقرضه الله بالمال الدّنيوىّ بل يجرى في جميع ما للإنسان بحسب نشأته الدّنيويّة والاخرويّة من الأموال والقوى والأعضاء ؛ ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره في بيان عموم ما استقرضه الله تعالى :

تن چو با برگ است روز وشب از آن

شاخ جان در برگ ريز است وخزان

برگ تن بى برگى جانست زود

زين ببايد كاستن وانرا فزود

أقرضوا الله قرض ده زين برگ تن

تا برويد در عوض در دل چمن

قرض ده كم كن أزين لقمه تنت

تا نمايد وجه لا عين رأت

تن ز سرگين خويش چون خالي كند

پر ز گوهرهاي اجلالى كند

قرض ده زين دولتت در أقرضوا

تا كه صد دولت ببينى پيش رو

وحسن الاقراض ان لا يطلب به عوضا ولو كان قربه تعالى (فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) الأضعاف جمع الضعف بكسر الضّاد واقلّ معناه مثلي ما يضاف اليه وأكثره لا حدّ له ، وهو مفعول ثان ليضاعفه أو حال أو مصدر عددىّ على ان يكون الضعف اسم مصدر ، ويصدق الأضعاف الكثيرة على عشرة أمثاله الى ما لا يعلمه الّا الله ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : لمّا نزلت هذه الآية من جاء بالحسنة فله خير منها قال رسول الله (ص) ربّ زدني فأنزل الله سبحانه (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ،) فقال رسول الله (ص) : ربّ زدني فأنزل الله سبحانه : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) فعلم رسول الله (ص) انّ الكثير من الله لا يحصى وليس له المنتهى ، ومنه يستفاد انّ كلّ طاعة لله إقراض لله سواء كانت فعلا أو تركا وهو كذلك فانّ الطاعة ليست الّا بتحريك القوى المحرّكة وإمساك القوى الشهويّة والغضبيّة وكسر سورتهما فطاعة الله إقراض من القوى (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) جملة حاليّة وترغيب في الاقراض لانّ المعنى من ذا الّذى يقرض الله فيضاعفه له فأقرضوا ولا تمسكوا خوف الفقر والافناء لانّ الله لا غيره يقبض الرّزق من أقوام ويبسط على أقوام ، أو يقبض في حال ويبسط في حال ولا يكون الإمساك سببا للبسط ولا الإنفاق سببا للقبض ، أو المراد فيضاعفه له فأقرضوا ولا تمسكوا لانّ الإمساك حينئذ امّا لخوف عدم اطّلاع الله أو لخوف عدم الوصول الى الله والحال انّ الله تعالى هو يقبض القرض لا غير الله ويبسط الجزاء (وَإِلَيْهِ) لا الى غيره (تُرْجَعُونَ) فتستحقّون رضاه عنكم وقربكم له زيادة على مضاعفة العوض. وقيل : المعنى انّ الله يقبض بعضا بالموت ويبسط من ارثه على وارثه ؛ وهو بعيد جدّا ، وروى انّ الآية نزلت في صلة الامام ، وروى : ما من شيء احبّ الى الله من إخراج الدّراهم الى الامام وانّ الله ليجعل له الدّرهم في الجنّة مثل جبل أحد ؛ وعلى هذا فقوله تعالى (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) بطريق الحصر يكون مثل قوله (أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ

٢١٢

وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ) فانّ معناه هو يقبل التّوبة في مظاهر خلفائه فيكون معنى (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ) انّ الله لا غيره في مظاهر خلفائه يقبض القرض ويبسط الجزاء (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ) اى اشرافهم ومتكلّميهم قد مضى قبيل هذا وجه الإتيان بالرّؤية مع انّ حقّ العبارة ان يقال الم تذكر (مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا) إذ اسم خالص بدل من الملأ بدل الاشتمال أو ظرف للرّؤية (لِنَبِيٍّ لَهُمُ) اسمه شمعون بن صفيّة من ولد لاوى ، أو اسمه يوشع بن نون من ولد يوسف (ع) ، أو اسمه اشموئيل وهو بالعربيّة إسماعيل وهو المروىّ عن الصّادق (ع) وعليه أكثر المفسّرين (ابْعَثْ) أرسل واجعل (لَنا مَلِكاً) أميرا (نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ) روى انّه كان الملك في ذلك الزّمان هو الّذى يسير بالجنود والنّبىّ يقيم له امره وينبئه بالخبر من عند ربّه (قالَ) النّبىّ (هَلْ عَسَيْتُمْ) هل ترقّبتم عسى يستعمل في ترقّب المرغوب واستعماله هاهنا مع طلبهم للقتال ورغبتهم فيه اشارة الى انّهم كانوا أصحاب نفوس كارهة للقتال راغبة في ترك الجهاد ولم يكن لهم عقول راغبة في الجهاد ومقصوده من الاستفهام تذكيرهم بكراهة القتال وتثبيتهم عليه بتعاهدهم على القتال (إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وضع الظاهر موضع المضمر للاشارة الى انّهم في ذلك التّولّى ظالمون (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ) كانت النّبوّة في ولد لاوى والملك في ولد يوسف ولم يجتمع النبوّة والملك في بيت واحد وطالوت كان من ولد بن يامين وسمّى طالوت لطول قامته بحيث إذا قام الرّجل وبسط يده رافعا لها نال رأسه قيل : كان سقّاء ، وقيل : كان دبّاغا ، وكان سبب سؤالهم ان يبعث الله لهم ملكا انّ بنى إسرائيل بعد موسى عملوا بالمعاصي وغيّروا دين الله وعتوا عن امر ربّهم وكان فيهم نبىّ يأمرهم وينهاهم فلم يطيعوه ، وروى انّه كان ارميا النّبىّ (ص) فسلّط الله عليهم جالوت وهو من القبط فآذاهم وقتل رجالهم وأخرجهم من ديارهم وأخذ أموالهم واستعبد نساءهم ففزعوا الى نبيّهم وقالوا : اسئل الله ان يبعث لنا ملكا ، فلمّا قال انّ الله بعث لكم طالوت ملكا أنكروا وقالوا : هو من ولد بنيامين وليس من بيت النبوّة ولا من بيت الملك ، فلا يجوز ان يكون له السّلطنة علينا لانّا من بيت النبوّة والملك ، (وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ) وشرط السّلطنة السّعة في المال حتّى يتيسّر له القيام بلوازم السّلطنة ، تعريض بوجه آخر لاستحقاقهم الملك دونه وهو كثرة مالهم (قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ) جواب اجمالىّ يعنى ليس الملك بقياسكم وتدبيركم بل هو فضل من الله يؤتيه من يشاء وامّا الجواب التّفصيلىّ فانّ السّلطان ينبغي ان يكون عظيم الجثّة يهابه النّاس ، وكثير العلم ينظر عاقبة الأمور ؛ وتفضّل الله بهما عليه (وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) وليس الإيتاء موقوفا على بيت دون بيت كما زعمتم فالمقتضى لاعطاء الملك موجود من قبل طالوت وهو اصطفاؤه بالبسط في العلم والجسم والمانع للمعطي مفقود فانّه امّا خارجىّ أو كون طالوت من غير بيت الملك أو كونه غير ذي سعة في المال أو جهله تعالى بأهليّته للملك وليس كذلك فانّه يؤتى ملكه من يشاء من غير مانع لا من الخارج ولا من قبل المعطى له (وَاللهُ واسِعٌ) يجبر قلّة سعة طالوت بسعته (عَلِيمٌ)

٢١٣

يعلم من يستأهل للملك ليس جاهلا يكون فعله وحكمه عن قياس ظنّى وحجّة تخمينيّة فقوله : (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ) امّا عطف على معمولى انّ ، أو على مجموع انّ الله اصطفاه ، أو حال.

بيان التّابوت والسّكينة

(وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) لالزامهم بعد ما رأى إنكارهم بقياسهم الفاسد (إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ) امّا فعلوت من تاب إذا رجع فانّه كان سببا لكثرة مراجعة صاحبه الى الله ولكثرة مراجعة الله عليه ، أو فلعوت مثل طاغوت من تبى يتبو إذا غزا أو غنم فانّه كان سبب الغلبة والغنيمة في الغزاء ، ويجوز ان يكون وزنه فاعولا وان كان نحو سلس وقلق قليلا فان بتّوتا مثل تنّور بمعنى التّابوت يدلّ على انّه فاعول وكان ذلك التّابوت هو الصّندوق الّذى أنزله الله على امّ موسى فوضعته فيه وألقته في اليمّ وكان في بنى إسرائيل يتبرّكون به فلمّا حضر موسى (ع) الوفاة وضع فيه الألواح ودرعه وما كان عنده من آيات النبوّة وأودعه يوشع وصيّه فلم يزل التّابوت بينهم حتّى استخفّوا به وكان الصّبيان يلعبون به في الطّرقات فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ وشرف ما دام التّابوت بينهم فلمّا عملوا بالمعاصي واستخفّوا بالتّابوت رفعه الله تعالى عنهم فلمّا سألوا النّبىّ وبعث الله تعالى طالوت إليهم ملكا يقاتل ردّ الله عليهم التّابوت كما قال الله تعالى انّ آية ملكه ان يأتيكم التّابوت (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) قد اختلف الاخبار في بيان السّكينة وفي خبر انّها ريح من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان وكان إذا وضع التّابوت بين أيدي المسلمين والكفّار فان تقدّم التّابوت رجل لا يرجع حتّى يقتل أو يغلب ، ومن رجع عن التّابوت كفر وقتله الامام ، وفي خبر ، السّكينة روح الله يتكلّم كانوا إذا اختلفوا في شيء كلمّهم وأخبرهم ببيان ما يريدون ، وفي خبر انّ السّكينة الّتى كانت فيه كانت ريحا هفّافة من الجنّة لها وجه كوجه الإنسان ، وفي خبر انّها ريح تخرج من الجنّة لها صورة كصورة الإنسان ورائحة طيّبة وهي الّتى نزلت على إبراهيم (ع) فأقبلت تدور حول أركان البيت وهو يضع الأساطين ، وفي خبر انّ السّكينة لها جناحان ورأس كرأس الهرّة من الزّبرجدّ (وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ) يعنى موسى (ع) وهارون (ع) وآلهما فانّه يراد كثيرا بإضافة شيء الى امر ذلك الأمر والمضاف جميعا خصوصا إذا كان حيثيّة الاضافة منظورا إليها ، واختلف الاخبار في تفسير تلك البقيّة ففي بعض الاخبار انّها ذرّيّة الأنبياء ، وفي بعض ذرّيّة الأنبياء ورضراض الألواح فيها العلم والحكمة ، وفي بعض الأقوال العلم جاء من السّماء فكتب في الألواح وجعل في التّابوت ، وفي بعض : فيه ألواح موسى الّتى تكسّرت والطّست الّتى يغسل فيها قلوب الأنبياء ، وفي بعض كان فيه عصا موسى (ع) ، وفي بعض الأقوال كان التّابوت هو الّذى أنزل الله على آدم (ع) فيه صور الأنبياء فتوارثه أولاد آدم (ع) (تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ) قيل : انّ الملائكة كانوا يحملونه بين السّماء والأرض ، وفي الخبر كان التّابوت في أيدي أعداء بنى إسرائيل من العمالقة غلبوهم لمّا برح امر بنى إسرائيل وحدث فيهم الاحداث ثمّ انتزعه الله من أيديهم وردّه على بنى إسرائيل ، [وقيل] : لمّا غلب الأعداء على التّابوت أدخلوه بيت الأصنام فأصبحت أصنامهم منكبّة فأخرجوه ووضعوه ناحية من المدينة فأخذهم وجع في أعناقهم وكلّ موضع وضعوه فيه ظهر فيه بلاء وموت ووباء ؛ فتشأمّوا به فوضعوه على ثورين فساقتهما الملائكة الى طالوت ، وفي خبر سئل (ع) : كم كان سعته؟ ـ قال : ثلاثة اذرع في ذراعين. ويستفاد من جملة الاخبار وبيان السّكينة والبقيّة انّه كان المراد بالتّابوت الصّدر المستنير بنور الامام (ع) الظّاهر فيه صورة غيبيّة من الجنّة والصّدر الظّاهر فيه صورة غيبيّة مصاحب للنّصرة والظّفر وتحمله الملائكة وفيه الطست الّتى يغسل فيها قلوب الأنبياء وفيه ذراري الأنبياء وصورهم وبقيّة آل موسى (ع)

٢١٤

وهارون (ع) ، وفيه العلوم والحكمة وهذه الصورة كانت مع إبراهيم (ع) وتدور حول أركان البيت ، وظهور هذه الصورة بشارة من الله بالنبوّة والولاية لو تمكّنت في الإنسان فانّها ريح تفوح من الجنّة وتبشّر بالعناية من الله وهذه سبب استجابة الدّعاء ونزول النّصرة والتّأييد من الله ولذلك ذكرت السّكينة في القرآن قرينة للنّصر والتّأييد بجنود لم تروها وقد اصطلح الصوفيّة على تسمية هذه الصّورة بالسّكينة فانّها سبب سكون النّفس واطمئنانها ، وبها يرتفع كلفة التكليف ويتبدّل الكلفة باللّذّة ، ويحصل الإحسان الّذى هو العبادة ؛ بحيث كان العابد يرى الله فانّ رؤيتها كرؤية الله ، وقول الصّادق (ع): الست تراه في مجلسك؟ اشارة الى هذه الرّؤية ، وقوله تعالى (كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) ، (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ ، وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، واهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) وقوله (ع): انا الصّراط المستقيم ، وقول المولوى (قدّه) : وقوله :

چونكه با شيخي تو دور از زشتيئى

روز وشب سيارى ودر كشتيئى

هيچ نكشد نفس را جز ظلّ پير

دامن آن نفس كش را سخت گير

وأمثال ذلك كلّها اشارة الى هذا الظّهور وتلك المعيّة ولمّا كان المعاني تقتضي الظّهور في المظاهر الدّانية جاز ان يكون التّابوت في الظّاهر صندوقا من خشب الشّمشاد مموّها بالّذهب محسوسا للكلّ دار معه الملك أو النّبوّة كلّما دار وكأنّه كان كثير من بنى إسرائيل يظهر التّابوت والسّكينة وبقيّة آل موسى (ع) وهارون (ع) بحسب المعنى والتّأويل على صدورهم لتأثير قوّة نفوس آبائهم فيهم وتفضّل الله عليهم بسبب آبائهم ولذلك كان فيهم أنبياء كثيرون بحيث قتلوا منهم في يوم واحد الى الضّحى جماعة كثيرة ولم يتغيّر حالهم كأنّهم لم يفعلوا شيئا ، ولمّا عملوا بالمعاصي ارتفع ذلك الفضل عنهم وحرموا التشرّف بالتّابوت والسّكينة وبعد ما اضطرّوا والتجئوا الى نبيّهم تفضّل الله عليهم به وجعله الله آية ملك طالوت وقال (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ) ويجوز ان يكون هذا من تتمّة كلام نبيّهم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط تهييجىّ وبعد ظهور التّابوت والإقرار بطالوت جمعوا له الجنود وخرجوا الى قتال جالوت (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ) يعنى لمّا أخرجهم من مواطنهم قيل كان الجنود ثمانين ألفا وقيل سبعين وذلك أنّهم لمّا رأوا التّابوت وآثار النّصر تبادروا الى الجهاد (قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ) كما هو عادته في حقّ المؤمنين وابتلاؤهم لتثبيتهم على الايمان (فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) اى من أتباعى (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) الطّعم عامّ في المشروب والمأكول (فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) وقرئ غرفة بفتح الغين والفرق بينهما انّ مضموم الفاء اسم للمصدر ومفتوحها مصدر عددىّ وهو استثناء من من شرب منه وتقديم الجملة المعطوفة عليه للاهتمام بها (فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) الّا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا من جملة الثمانين ألفا منهم من اغترف ومنهم من لم يطعمه ومن لم يطعمه استغنى عنه ومن اقتصر على الغرفة كفته لشربه واداوته ومن لم يقتصر غلب عطشه واسوّدت شفته ولم يقدر ان يمضى ، وملكهم كان علم ذلك الابتلاء بالوحي والإلهام أو باخبار نبيّهم ، وكان ذلك صورة الدّنيا تمثّلت لهم لتنبّههم انّ الدّنيا هكذا كان حالها لمن اجتنبها ولمن أرادها (فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يعنى الّذين لم يشربوا أو اغترفوا غرفة ورأوا كثرة جنود جالوت وقلّة عددهم (قالُوا) اى الّذين اغترفوا (لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ) اى يعلمون وقد مرّ انّ العلوم الحصوليّة لمغايرة معلومها لها حكمها حكم

٢١٥

الظّنون وكثيرا ما يطلق عليها الظّنون وانّ علوم النّفوس لتغيّرها وعدم ثباتها كالظّنون (أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ) وهم الّذين لم يغترفوا (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) اى بترخيصه وإمداده فانّ الاذن في أمثال المقام ليس معناه التّرخيص فقط (وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) قد مضى انّ هذه المعيّة ليست مثل المعيّة في قوله تعالى : (هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ ،) ومثلها في قوله (ع) مع كلّ شيء لا بالممازجة فانّ هذه معيّة رحيميّة وتلك معيّة رحمانيّة وعن الرّضا (ع): أوحى الله تعالى الى نبيّهم انّ جالوت يقتله من يسوّى عليه درع موسى (ع) وهو رجل من ولد لاوى بن يعقوب (ع) اسمه داود بن آسى وكان آسى راعيا وكان له عشرة بنين أصغرهم داود فلمّا بعث طالوت الى بنى إسرائيل وجمعهم لحرب جالوت بعث الى آسى ان احضر واحضر ولدك فلمّا حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه الدّرع درع موسى (ع) فمنهم من طالت عليه ومنهم من قصرت عنه فقال لآسى هل خلّفت من ولدك أحدا؟ ـ قال : نعم أصغرهم تركته في الغنم راعيا فبعث اليه فجاء به فلمّا دعا أقبل ومعه مقلاع قال : فناداه ثلاث صخرات في طريقه فقالت : يا داود خذنا فأخذها في مخلاته وكان شديد البطش قويّا في بدنه شجاعا فلمّا جاء الى طالوت ألبسه درع موسى (ع) فاستوت عليه ففصل طالوت بالجنود وقال لهم نبيّهم : يا بنى إسرائيل انّ الله مبتليكم بنهر في هذه المفازة فمن شرب منه فليس من حزب الله ومن لم يشرب فهو من حزب الله الّا من اغترف غرفة بيده فلمّا وردوا النّهر أطلق الله لهم ان يغترف كلّ واحد منهم غرفة فشربوا منه الّا قليلا منهم فالّذين شربوا منه كانوا ستّين ألفا وكان هذا امتحانا امتحنوا به كما قال الله عزوجل (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا) ملتجئين الى الله مستنصرين به كما هو ديدن كلّ من وقع في شدّة واضطرار (رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً) افرغ الماء صبّه وكأنّهم طلبوا كثرة الصّبر لشدّة خوفهم وتوحّشهم ولذلك استعملوا الإفراغ (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ) في خبر عن الصّادق (ع): انّ داود جاء فوقف بحذاء جالوت وكان جالوت على الفيل وعلى رأسه التّاج وفي جبهته ياقوتة يلمع نورها وجنوده بين يديه فأخذ داود من تلك الأحجار حجرا فرمى به ميمنة جالوت فمرّ في الهواء ووقع عليهم فانهزموا ، وأخذ حجرا آخر فرمى به ميسرة جالوت فانهزموا ، ورمى جالوت بحجر فصكّ الياقوتة في جبهته ووصلت الى دماغه ووقع على الأرض ميتا (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ) اى السّلطنة الصوريّة أو الرّسالة (وَالْحِكْمَةَ) النظريّة والعمليّة فتكون اعمّ من الرّسالة وأحكامها والنّبوّة والولاية وآثارهما ، أو أو المراد بالحكمة الحكمة العمليّة وقوله تعالى (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) كان اشارة الى الحكمة النّظريّة أو بالعكس (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) بعضهم بدل من النّاس بدل البعض والمعنى لو لا دفع الله البلاء عن النّاس عن البعض ببعض آخر يعنى عن الكفّار بالمؤمنين ، أو عن بعض المؤمنين القاصرين بالبعض الكاملين في الأعمال ، أو لو لا دفع الله النّاس أنفسهم بعضهم الكفّار بالبعض الآخر من الكفّار أو بالمسلمين ، أو لولا دفع الله النّاس بعضهم ببعض آخر كالحكّام والسّلاطين فانّ إصلاح النّاس ودفع الأشرار عن العباد بالسّلطان أكثر من الإصلاح بالرّسل ، والى الكلّ أشير في الاخبار (لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ) حيث جعل صلاح الصّالح سببا لعدم

٢١٦

هلاك الفاسد بل مصلحا لفساده أو دفع شرّ الأشرار بالأخيار أو بالأشرار (تِلْكَ) الّتى ذكرت من إماتة الألوف ووقوعهم على ما فرّوا منه واحياءهم بعد إماتتهم واستقراضه ممّن اعاده ما اعاده ايّاهم ومضاعفة العوض لهم وتسليط طالوت الفقير على الأغنياء والاشراف وابتلاء بنى إسرائيل بالنّهر وشرب الكثير وعدم شرب القليل وغلبتهم مع قلّتهم على جنود جالوت الكثيرة وقتل داود (ع) جالوت وايتائه الملك مع كونه راعيا والحكمة والعلم ، وجعل دفع النّاس بعضهم ببعض الّذى هو سبب فساد الأرض سببا لصلاحها (آياتُ اللهِ) التّكوينيّة الدّالّة على كمال قدرته وحكمته وانّه لا ينظر في عطائه الى شرف وحسب ونسب المبنيّة بآياته التّدوينيّة (نَتْلُوها) من التلاوة (عَلَيْكَ) خبر بعد خبر أو خبر ابتداء وآيات الله بدل من تلك أو حال أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر (بِالْحَقِ) ظرف مستقرّ حال عن الفاعل أو المفعول اى حالكوننا ظاهرين بالحقّ أو حالكوننا متلبّسين بالحقّ اى الصّدق أو ظرف لغو متعلّق بنتلوها اى نتلوها بسبب الحقّ المخلوق به فانّ افعال الله تعالى لا تصدر الّا بتوسّط الحقّ الّذى هو المشيّة (وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) عطف على قوله (تِلْكَ آياتُ اللهِ) أو حال عن الآيات أو عن مفعول نتلوها أو عن الضّمير المجرور والمقصود انّا نتلو الآيات عليك والحال انّك من المرسلين فبلّغها حتّى يعلموا انّك صادق في دعواك حيث تخبر بالمسطورات في كتبهم من غير تعلّم وتعرّف.

الجزء الثّالث

(تِلْكَ الرُّسُلُ) جواب لسؤال مقدّر عن حال الرّسل وتساويهم وتفاضلهم وتمهيد لبيان تفضيله (ص) على الآخرين (فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) في منقبة دون منقبة كأكثر الأنبياء الّذين لم يكونوا اولى العزم أو في أكثر المناقب كاولى العزم وغيرهم من ذوي الدّرجات منهم أو في الكلّ كخاتم الأنبياء (ص) (مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ) خبر بعد خبر ان جعل تلك الرّسل مبتدء ، أو تلك مبتدء والرّسل خبره ، أو هو خبر ابتداء ان جعل فضّلنا حالا أو معترضا ، أو هو مستأنف جواب لسؤال مقدّر أو بيان لفضّلنا بعضهم على بعض نظير عطف البيان في المفردات وهذا بيان للتّفضيل بمنقبة خاصّة (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) بيان للتّفضيل في مناقب عديده ، ودرجات تميز محوّل عن المفعول وليس حالا ولا قائما مقام المصدر كما قيل للاحتياج الى كلفة التّأويل حينئذ ، عن النّبىّ (ص) انّه قال ما خلق الله خلقا أفضل منّى ولا أكرم عليه منّى ، قال علىّ (ع) فقلت : يا رسول الله أفأنت أفضل أم جبرئيل؟ ـ فقال : انّ الله فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين وفضّلني على جميع النّبيّين والمرسلين ، والفضل بعدي لك يا علىّ وللائمّة من بعدك وانّ الملائكة لخدّامنا وخدّام محبّينا (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) المعجزات الظّاهرة المذكورة في الكتاب (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) تأييدا خاصّا غير التّأييد الّذى كان لسائر الأنبياء وقد التفت في الكلام من الغيبة الى التّكلّم ثمّ منه الى الغيبة ثمّ منها الى التّكلّم ثمّ منه الى الغيبة فيما يأتى ، والوجه العامّ في الالتفات إيقاظ المخاطب للتّوجّه الى الكلام توجّها أتمّ من التّوجّه السّابق وتجديد نشاطه ، ويوجد في خصوص الموارد بعض الدّواعى الخاصّة (وَلَوْ شاءَ اللهُ) عدم الاقتتال عطف على محذوف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل فما فعل النّاس بعد مجيء الرّسل؟ ـ فقال : اختلفوا واقتتلوا ، ولو شاء الله (مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ)

٢١٧

اى الّذين كانوا موجودين من بعد مجيئهم أو من بعد وفاتهم فيكون تعريضا بالاختلاف والقتال الواقع في زمان محمّد (ص) أو بعد وفاته (ص) وتسلية له (ص) : ولأوصيائه (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) اى المعجزات أو الدّلائل الواضحات أو الموضحات (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا) قياس استثنائىّ مشير الى رفع التّالى المستلزم لرفع المقدّم اعنى مشيّة عدم الاقتتال وهو بمفهومه اعمّ من مشيّة الاقتتال لكنّه بحسب الواقع مستلزم له (فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ) الفاء سببيّة أو عاطفة للتّفصيل على الإجمال والمراد الايمان العامّ الحاصل بالبيعة العامّة (وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا) لمّا نسب الاختلاف إليهم وكذا الايمان والكفر توهّم منها انّهم هم الفاعلون لأفعالهم من دون فاعليّة الله تعالى وسببيّة مشيّته فكرّر الشّرطيّة السّابقة دفعا لهذا التّوهّم وتأكيدا لنسبة الأفعال الى المشيّة بل حصرا لنسبة الأفعال اليه تعالى من دون استقلال الغير بها أو مشاركته ولذلك أتى باستثناء التّالى بحيث يفيد نسبة الأفعال اليه تعالى بطريق الحصر فقال :

تحقيق الجبر والقدر والأمر بين الأمرين وتحقيق بعض المطالب

(وَلكِنَّ اللهَ) لا غيره (يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) وهذا في موضع لكن اختلفوا فكأنّه قال ولكن اختلفوا وليس الاختلاف منهم ولا بمشاركتهم بل الله فعل الاختلاف في مظاهرهم وقد أشار تعالى الى كبري قياس من الشّكل الاوّل مستنبط صغراه من المقدّمات المسلّمة المشهورة وهي كلّ شيء من افعال العباد وصفاتهم وغيرها ممّا له سمة الإمكان فهو مراده تعالى لتسليم كلّ من اقرّ بالمبدء الاوّل ان لا شيء في عالم الإمكان الّا بعلمه ومشيّة وإرادته ، وكلّ مراده فهو مفعول له لا لغيره لا بالاستقلال ولا بالشّراكة فكلّ شيء من الذّوات والاعراض وافعال العباد مفعول له تعالى لا لغيره فعلى هذا يكون افعال العباد فعل الله لكن في مظاهر العباد.

وتحقيق افعال العباد بحيث لا يلزم من نسبتها الى الله جبر للعباد ولا من نسبتها الى العباد تفويض إليهم ولا تعدّد في النّسبة يستدعى ذكر مقدّمات :

الاولى ـ انّ الوجود كما تكرّر سابقا حقيقة واحدة ذات مراتب كثيرة متفاوتة بالشدّة والضّعف والتقدّم والتأخّر بحيث لا ينثلم بكثرتها وحدة تلك الحقيقة كالنّور العرضىّ فانّه حقيقة واحدة متكثرّة بحسب المراتب القريبة والبعيدة من منبعه وبحسب السّطوح المستنيرة به ، فانّ النّور يتكثّر بكثرة السّطوح بالعرض فاذا ارتفع السّطوح وحدود المراتب واعتبارها لم يبق الّا حقيقة واحدة من دون اعتبار كثرة فيها.

والثّانية ـ أنّ تلك الحقيقة بذاتها تقتضي الوجوب لضرورة اتّصاف الشّيء بذاته وامتناع سلبه عن ذاته.

والثّالثة ـ انّ الوجوب بالذّات يقتضي الاحاطة بجميع أنحاء الوجودات ومراتبها بحيث لو كان شيء منها مغايرا للواجب وخارجا منه تلك الحقيقة لزم تحدّد الحقيقة الواجبة بذلك الشّيء ولزم من التحدّد الإمكان فلم يكن حقيقة الوجود حقيقة الوجود بل نحوا من انحائها ، ولا الواجب واجبا بل كان ممكنا.

والرّابعة ـ أنّ تلك الحقيقة كما تقتضي الوجوب بذاتها تقتضي الاصالة في التّحقّق وفي منشئيّة الآثار لاقتضاء الوجوب الاصالة ، واقتضاء الاصالة منشئيّة الآثار وكون غيرها من التعيّنات اعتباريّا.

والخامسة ـ انّ مراتب الوجود وانحاءه بحكم المقدّمة الثّالثة عبارة عن تلك الحقيقة متحدّدة بحدود وتعيّنات وبتلك الحدود وقع التّميز بينها وليست تلك الحقيقة جنسا لها ولا نوعا.

والسّادسة ـ أنّ الآثار الصّادرة من أنحاء تلك الحقيقة صادرة من تلك الحقيقة مقيّدة بحدود تلك

٢١٨

الأنحاء بحيث يكون التّقييد داخلا والقيود خارجة وليست صادرة من تلك الحقيقة مطلقة ؛ والّا لاتّحدت ولا من الحدود لأنّها اعدام والعدم لا حكم له الّا بتبعيّة الوجود فلا منشئيّة له لا للوجودىّ ولا للعدمىّ ولا من المجموع المركّب من تلك الحقيقة والحدود ، لانّ الحدود كما لا تكون منشأ للآثار منفردة لا تكون منشأ منضّمة لانّ اعتبار الانضمام لا يفيدها شيئا لم يكن لها قبل ذلك وما يقال : انّ عدم العلّة علّة لعدم المعلول كلام على سبيل المشاكلة والّا فالعدم ليس معلولا ومجعولا حتّى يحتاج الى علّة وما يتراءى من انّ حدود الآثار وإعدامها المنتزعة منها ناشئة من حدود المؤثّرات وإعدامها المنتزعة منها وقد تفوّه به بعض الفلاسفة خال عن التّحصيل لانّ حدود الآثار من جملة لوازم وجوداتها وليست من حيث هي مجعولة ومن حيث الجهات المنتزعة هي منها فهي مجعولة بمجعوليّة وجود الآثار وبتبعيّتها لا بجعل آخر حتّى تستدعى علّة اخرى ، وإذا عرفت ذلك فاعلم انّ افعال العباد الاختياريّة صادرة عنهم بعد تصوّرها والتّصديق بغاياتها النّافعة لهم ، وبعد الميل والعزم والارادة والقدرة منهم وهذا معنى كون الفعل اختياريّا وامّا كون الاختيار بالاختيار والارادة بالإرادة فليس معتبرا في كون الفعل اختياريّا والفاعل مختارا ، لكن نقول على ما سبق من المقدّمات افعال العباد آثار حقيقة الوجود المحدودة بحدود العباد من غير اعتبار الحدود فيها ، والعباد عبارة عن تلك الحقيقة معتبرا معها تلك الحدود فهي منسوبة الى حقيقة الوجود اوّلا وبالذّات والى العباد ثانيا وبالعرض من غير تعدّد في النّسبة بالذّات انّما التعدّد والتغاير الاعتبارىّ في المنسوب اليه وليست الأفعال مفوّضة الى العباد كما قالته المعتزلة المدعوّة بمجوس هذه الأمّة لانّ التفويض يستدعى استقلالا بالفاعليّة في المفوّض اليه وقد علمت انّ اسم العبد يطلق على حقيقة الوجود باعتبار انضمام حدّ عدميّ إليها غير موجود فضلا عن استقلاله بالوجود والفاعليّة لكن عامّة النّاس وان لم يكونوا مقرّين بالتفويض لسانا قائلون به حالا مشاركون للمعتزلة فعلا فانّ المحجوبين عن الوحدة المبتلين بالكثرة المشاهدين للكثرات المتباينة المتضادّة لا يمكنهم تصوّر مبدء واحد لافعال العباد وآثار غيرهم فلا يدركون الّا استقلال العباد بأفعالهم بل لا يتصوّرون تفويضا ومفوّضا في الأفعال وهذا من عمدة اغلاط الحواسّ والخيال ولكون الخيال مخطئا في إدراكه كان الأولياء الغطام يأمرون العباد بالذّكر اللسانىّ أو القلبىّ المؤدّى الى الفكر المخصوص المخرج عن دار الكثرة والغيبة والخطاء الى دار الوحدة والشّهود والصّواب ، وليس العباد مجبورين في الفعال لانّ الجبر يقتضي جابرا مغايرا للمجبور ومجبورا مستقلّا في الوجود مريدا مختارا مسلوبا عنه الاختيار متحرّكا على حسب ارادة الجابر المخالفة لارادة المجبور وليس هناك جابر مغاير للمجبور ولا مجبور مستقلّ في الوجود ولا في الفعال ولا سلب الارادة المجبور ولا ارادة مستقلّة مغايرة لارادة الجابر فالجبر يقتضي مفاسد التّفويض مع شيء آخر من المفاسد ولذا قيل (مولوى) :

در خرد جبر از قدر رسوا تر است

زانكه جبرى حسّ خود را منكر است

علاوة على نسبة الاستقلال الى العباد وليس الأفعال بتسخير الله أيضا لما ذكر فانّه لا فرق بين التّسخير والجبر الّا بسلب الارادة وعدمه فانّ المسخّر إرادته باقية تابعة لارادة المسخّر بخلاف المجبور فانّ إرادته تكون مسلوبة وحركته تكون بإرادة الجابر المخالفة لارادة المجبور بل الأمر أدقّ وألطف من الجبر والتّسخير ومعنى الأمر بين الأمرين أنّ نسبة الأفعال الى العباد امر اجلّ وأعظم من ان يكون بطريق التفويض ، وادقّ وأخفى من ان يكون بطريق الجبر والتّسخير ، وأعلى وأسنى من ان يكون بطريق التشريك في الفاعل كما يظنّ ، وأشرف من ان يكون بطريق توسّط العباد بين الفعل والفاعل كتوسّط الآلات بين الأفعال والفاعلين كما يترائى بل الفاعل حقيقة الوجود الظّاهرة بحدود العباد وتوجّه اللّوم والتّعزير والحدّ والأمر والنّهى ان كان ذلك ممّا يعاتب

٢١٩

به العوامّ فلتخليص الانسانيّة اى تلك الحقيقة عن الحدود المخالفة لحدود الانسانيّة ، وان كان ممّا يخاطب به الأنبياء (ع) والأولياء (ع) فلتخليص الانسانيّة عن الحدود جملة وإيصالها الى الظّهور من غير حدّ ، ومن هذا يعلم انّ اللّوم واجراء الحدود والأمر والنّهى لا يجوز الّا ممّن له شأنيّة التّخليص بان يكون ممّن خلص نفسه اوّلا من حدّ يريد تخليص الغير منه وأبصر ذلك الحدّ وقوى على التّخليص ولو فاته شيء من هذه لم يجز منه ذلك ، ولمّا لم يكن الإنسان يدرك بنفسه انّ له هذا المقام احتاج الى اجازة البصير المحيط به على انّ الاجازة بها ينعقد قلب المأمور على أمر الآمر ولو لا الاجازة لا ينعقد ، ولمّا كان الأفعال منسوبة الى الله تعالى اوّلا وبالذّات والى أنحاء الوجودات ثانيا وبالعرض صحّ سلب أفعال العباد عنهم واسنادها الى الله مثل قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) ، حيث نفى القتل الصّادر منهم عنهم وأثبته لله بطريق حصر القلب أو الإفراد ، وهكذا قوله تعالى : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللهَ رَمى) ، ولمّا كان إقرار اللّسان من دون موافقة الجنان كذبا ومذموما أنكر تعالى على من تفوّه بمثل هذا من غير تحصيل بقوله (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) على أنّهم أرادوا بذلك دفع اللّوم عن أنفسهم بتعليق الإشراك والتّحريم على المشيّة وقد علم ممّا سبق انّ التعليق على المشيّة لا يوجب الجبر ولا يدفع اللّوم عن الفاعل ان كان الفعل ممّا يلام عليه ولذا ثبت تعالى بعد الإنكار عليهم ما قالوه فقال : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ.) واعلم انّ للآثار ثلاثة اعتبارات : اعتبار الإطلاق ؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المطلقة اولى ، واعتبار التقييد بالحدود من دون اعتبار الحدود معها ؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المقيّدة اولى ، واعتبار التّقييد بالحدود واعتبار الحدود معها ؛ وبهذا الاعتبار اسنادها الى الحقيقة المقيّدة المعتبر معها التعيّنات والحدود الّتى هي الموجودات اولى ، ولمّا كان الإنسان في طاعاته منسلخا من أنانيّته وحدودها متوجّها الى مولاه وامره كان اسناد طاعاته الى الله اولى ، ولمّا كان في معصيته متحدّدا بحدود انّانيّته كان نسبة معاصيه الى نفسه اولى كما أشير اليه في الحديث القدسي ، ومن هذا يعلم انّ العابد لو كان غرضه من العبادة انتفاع نفسه ولو بالقرب من الله لم يكن طاعته طاعة حقيقة لانّ قصد انتفاع النّفس ليس الا باقتضاء الانانيّة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ) بعد حصر الأفعال في الله تعالى كأنّه قيل : فما لنا لا نرى الأفعال الّا من العباد؟ ومن اين يعلم انّ الفاعل هو الله؟ فناداهم وقال : ان أردتم ان تعلموا انّ الأفعال منحصرة في الله فأنفقوا ممّا رزقناكم من الأموال والقوى والاعراض وبالجملة كلّما يزيد في انانيّاتكم وحدودها الّتى تحجبكم عن مشاهدة الموجودات كما هي ، ولمّا كان الإنفاق من أصعب العبادات جبر كلفته بلذّة النّداء (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ) يعنى لا مال فيه يفتدي به من العذاب (وَلا خُلَّةٌ) نافعة فانّ يوم الموت وهو المراد هاهنا لا ينفع فيه خليل خليلا ، ويوم القيامة يكون الاخلّاء فيه بعضهم لبعض عدوّ الّا الخليل في الله ، ولا يكون الّا بعد إنفاق الحدود والحجب (وَلا شَفاعَةٌ) وهذا يدلّ على انّ المراد به يوم الموت والّا فيوم القيامة تنفع فيه شفاعة الشّافعين (وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) امّا عطف على لا بيع فيه بتقدير العائد اى من قبل ان يأتى يوم يظهر فيه انّ الظلم منحصر بالكافرين المحجوبين عن مشاهدة نسبة الأفعال الى الله ، أو حال بهذا

٢٢٠