تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

الصّورىّ بلقاء الامام بحسب الصّورة والحجّ المعنوىّ بلقائه المعنوىّ فيكون امرا بالفكر الّذى هو مصطلح الصّوفيّة وهو عبارة عن المجاهدة في العبادة والاذكار القلبيّة واللّسانيّة حتّى يصفوا النّفس من الكدورات فيتمثّل الامام على الجاهد (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ) الحصر والإحصار الحبس والمنع لكنّه خصّص في الحجّ بمن منعه غير العدوّ عن إمضاء حجّه والصّدّ بمن منعه العدوّ وأحكامهما موكولة الى الكتب الفقهيّة (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) اى فعليكم ما استيسر من الهدى (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) مرضا يحوجه الى الحلق قبل وصول الهدى محلّه (أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ) يحتاج بسببه الى حلقه (فَفِدْيَةٌ) اى فعليه حلقه وفدية (مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) نسب الى الصّادق (ع) أنّه قال : إذا أحصر الرّجل بعث بهديه فان أذاه رأسه قبل ان ينحر هديه فانّه يذبح شاة في المكان الّذى أحصر فيه أو يصوم أو يتصدّق والصّوم ثلاثة ايّام والصّدقة على ستّة مساكين نصف صاع لكلّ مسكين (فَإِذا أَمِنْتُمْ) اى إذا كنتم آمنين من الحصر والصّدّ (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ) تلذّذ بالمحلّلات في العمرة بان أحلّ من إحرامها أو بسبب إحلال العمرة أو بنفس العمرة تلذّذا روحانيّا فانّ العبادات ولا سيّما مناسك الحجّ الّتى هي صور مناسك بيت الله الحقيقىّ فيها لذّة روحانيّة لا تقاس باللّذّات الجسمانيّة (إِلَى الْحَجِ) اى إحرام الحجّ أو منصرفا الى الحجّ أو مستمرّا تمتّعه الى إتمام الحجّ (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فعليه ما تيسّر له من دم وأقلّه شاة يعنى انّ من أحرم بحجّ التّمتّع بان يقدّم العمرة على الحجّ فأحرم من الميقات ودخل مكّة وطاف بالبيت وصلّى وسعى وأحلّ ثمّ أحرم بالحجّ من الحرم يجب عليه الهدى وهذا النّوع من الحجّ فرض النّائى عن مكّة وهو من كان بين منزله وبين مكّة اثنا عشر ميلا أو ثمانية وأربعون ميلا أو ثمانية عشر ميلا أو أزيد من تلك المقادير على خلاف في الاخبار والفتاوى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) الهدى ولا ثمنه (فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ) اى فعليه ان يصوم ثلاثة ايّام في ايّام الحجّ والأفضل ان يصوم قبل العاشر بثلاثة ايّام والمجوّز من اوّل العشرة فان لم يصم قبل فبعد ايّام التّشريق (وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) الى أهاليكم لا من منى كما قيل (تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) الإتيان بالفذلكة من عادة المحاسبين فجرى تعالى على عادتهم والتّوصيف بالكاملة امّا للاشارة الى انّها كاملة كمال الاضحيّة لئلّا يتوهّم متوّهم انّ الصوم ينقص من الاضحيّة وهذا مروىّ عن الصّادق (ع) وعلى هذا فالتّعديل بالاضحيّة وجه آخر للإتيان بالفذلكة وقيل : الإتيان بالفذلكة والتّأكيد بالكاملة لرفع توهّم كون الواو بمعنى أو للاباحة أو التّخيير (ذلِكَ) التّمتّع بالعمرة الى الحجّ لا الصّيام بدل الاضحيّة ولا الهدى (لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) قد مضى انّه فرض النّائى (وَاتَّقُوا اللهَ) اى سخطه في تغيير أحكامه ومخالفة أوامره ونواهيه (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) في موضع النّكال والنّقمة، (الْحَجُّ أَشْهُرٌ) مستأنف لبيان حكم من احكام الحجّ كأنّه قيل : اىّ وقت وقت الحجّ؟ ـ فقال : وقت الحجّ أشهر (مَعْلُوماتٌ) وفي حمل الذّات على المعنى ما مرّ من انّه بالمجاز في اللّفظ أو في الحذف أو في النّسبة والأشهر المعلومات شوّال وذو القعدة وذو الحجّة الى التّاسع أو الى العاشر للمختار والمضطرّ (فَمَنْ فَرَضَ

١٨١

فِيهِنَّ الْحَجَ) نسب الى الصّادق (ع) انّه قال : الفرض التّبلية والاشعار والتّقليد ، واستعمال الفرض مع انّ الحكم جار في النّدب والفرض للاشعار بأنّ النّدب بعد الإحرام يصير كالفرض في وجوب الإتمام والقضاء لو اخلّ بالوطى قبل المشعر وقيل : من أحرم لزمه الإتمام مطلقا واجبا كان أو ندبا شرط لنفسه العدول أو لا (فَلا رَفَثَ) لإجماع ولا نظر بشهوة ولا قبلة ولا مواعدة (وَلا فُسُوقَ) الكذب والسّباب أو مطلق ما يخرج الإنسان من الحقّ (وَلا جِدالَ) لا مخاصمة بحقّ أو باطل وفسّرت بالجماع وبالكذب والسّباب وبقول : لا والله ، وبلى والله ، (فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ) ترغيب في العمل لله والمقصود أنّه يجازيكم لأنّه عالم وعادل لا يهملكم من غير مجازاة (وَتَزَوَّدُوا) كانوا لا يتزوّدون في طريق الحجّ ويلقون كلّهم في الطّريق على الغير فنهاهم الله تعالى عن ترك التّزوّد بالطّعام وقيمته والتّزوّد بالتوكّل وإلقاء الكلّ على الغير (فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى) عن السّؤال وإلقاء الكلّ على الغير لا التّوكّل على الله والتذلّل على النّاس أو المراد تزوّدوا في مناسك الحجّ لمعادكم بالتّقوى عمّا نهيتم عنه ظاهرا ممّا يترك في الحجّ وباطنا من النيّات والأغراض سوى امر الله (وَاتَّقُونِ) اى سخطى وعذابي في مخالفة أمرى ونهيي (يا أُولِي الْأَلْبابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) كانوا يتأثّمون بالتّجارة في طريق الزّيارة كما كانوا لا يتزوّدون لذلك وكما انّ المتزهّدين في زماننا يتحرّجون بالتّجارات في طريق الزّيارات وهكذا حال السّلاك في طريق بيت الله الحقيقىّ يتحرّجون بالالتفات الى ما وراءهم وبالتّجارات الرّائجة في حقّ حرثهم ونسلهم وقد كفلهم الله القيام بأمر النّسل وحفظ الحرث فنفى تعالى الجناح عنهم في التّجارة بل أمرهم بها فانّ نفى التّأثّم في أمثال المقام عن شيء يستعمل في الأمر به فقال : ليس عليكم جناح (أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ) بالتّجارات الظاهرة والباطنة (فَإِذا أَفَضْتُمْ) أفاض الماء أفرغه والنّاس (مِنْ عَرَفاتٍ) دفعوا أنفسهم أو رجعوا وتفرّقوا أو أسرعوا أو اندفعوا من عرفات اسم لا بعد مناسك الحجّ من مكّة سمّيت بعرفات لارتفاعها وارتفاع جبالها ، أو لانّ إبراهيم (ع) عرفها بما وصفها به جبرئيل ، أو لانّ جبرئيل قال لآدم (ع) في هذا الموضع : اعترف بذنبك واعرف مناسكك ، أو لانّ آدم (ع) وحوّاء التقيا فيها وعرف كلّ صاحبه ، أو لانّ يوم الوقوف بها يوم عرفة وسمّى يوم عرفة بعرفة لانّ إبراهيم (ع) عرف في هذا اليوم انّ رؤياء ذبح الولد كانت رحمانيّة لا شيطانيّة والإتيان بالفاء الدّالّة على التّعقيب وبإذا الدّالّة على الوقوع بعد الأمر بابتغاء الفضل يومى الى انّ الافاضة من عرفات الدّالّة على الوقوع فيها متحقّقة مسلّمة مفروغ عنها ولا حاجة الى ان يحكم بها وهذا يناسب التّأويل فانّ السّالك الى الله والحاجّ للبيت الحقيقىّ الّذى هو القلب يتحرّج بحمل الزّاد وبابتغاء الفضل ، وإذا ابتغى الفضل بسبب أمره تعالى يتنزّل الى ابعد مراتب النّفس من القلب كما مرّ سابقا وإذا وقع الى انزل مراتبها لا يمكنه القرار فيها بل يفيض منها كأنّه يدفعه دافع الى طريقه لكنّه لا يصل الى البيت من دون وقوف في الطّريق فيقف في المزدلفة ثمّ في منى ثمّ يفيض منه الى مكّة القلب فكان الوقوع في عرفات والوقوف لازم لابتغاء الفضل والافاضة منها لازمة للوقوع فيها ، وهكذا الوقوف بالمزدلفة والمنى (فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ) بالوقوف فيه ليلة النّحر وبأداء الصّلوة الفريضة والادعية والاذكار المأثورة وغير المأثورة ، وفي تفسير الامام (ع) أنّه قال : بآلائه ونعمائه والصّلوة على سيّد أنبيائه

١٨٢

وعلى سيّد أصفيائه (وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ) اى مثل الذّكر الّذى هديكم اليه على لسان نبيّه (ص) أو من اجازة نبيّه (ص) ، وهذا يدلّ على ما قالته العلماء الاعلام وعرفاء الإسلام انّ العمل إذا لم يكن بتقليد عالم حىّ لم يكن مقبولا ولو كان مطابقا. وقال الصوفيّة : انّ الذّكر اللسانىّ أو القلبىّ إذا لم يكن مأخوذا من عالم مجاز من أهل الاجازة وعلماء أهل البيت لم يكن له أثر ولا ينتفع صاحبه به ، ويحتمل ان يكون ما مصدريّة أو كافّة والمعنى اذكروه ذكرا يوازى هدايته لكم وعلى اىّ تقدير يستنبط التّعليل من اعتبار حيثيّة الهداية ولذلك قيل : انّ هذه العبارة للتّعليل (وَإِنْ كُنْتُمْ) ان مخفّفة من المثقّلة (مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) الجملة حالية (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) يعنى أفيضوا من عرفات والافاضة منها مستلزمة للوقوع فيها فكأنّه قال : قفوا بعرفات ثمّ أفيضوا منها ولا تقتصروا على الوقوف بالمزدلفة والافاضة منها ، فانّه كانت قريش لا يرون للوقوف بعرفات فضلا وكانوا يقفون بالمشعر الحرام وبه يفتخرون على النّاس فنهاهم الله عن ذلك وأمرهم بالوقوف بعرفات والافاضة منها ، وعلى هذا فالإتيان بثمّ للتّفاوت بين الأمرين يعنى بعد ما علمتم الوقوف بالمزدلفة ينبغي لكم الوقوف بعرفات مثل النّاس فلا تستنكفوا منه ولا تفتخروا بالوقوف بالمزدلفة ، وقيل : انّ الآية على التّقديم والتّأخير اى ليس عليكم جناح ان تبتغوا فضلا من ربّكم ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس فاذا أفضتم من عرفات ، وروى عن الباقر (ع) أنّه قال : كأنت قريش وحلفاؤهم من الحمس (١) لا يقفون مع النّاس بعرفات ولا يفيضون منها ويقولون : نحن أهل حرم الله فلا نخرج من الحرم فيقفون بالمشعر ويفيضون منه فأمرهم الله ان يقفوا بعرفات ويفيضوا منها ، وعن الحسين (ع) انّه قال : في حجّ النّبىّ (ص) ثمّ غدا والنّاس معه وكانت قريش تفيض من المزدلفة وهي جمع ويمنعون النّاس ان يفيضوا منها فأقبل رسول الله (ص) وقريش ترجوا ان تكون إفاضته (ص) من حيث كانوا يفيضون ، فأنزل الله ، ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس يعنى إبراهيم (ع) وإسماعيل (ع) وإسحاق (ع) ، ويجوز بحسب اللّفظ ان يكون المراد بالافاضة هاهنا الافاضة من المشعر الحرام بل لا تدلّ الآية بظاهرها الّا عليه وفي تفسير الامام (ع) ما يدلّ عليه فانّ فيه ثمّ أفيضوا من حيث أفاض النّاس اى ارجعوا من المشعر الحرام من حيث رجع النّاس من جمع ، قال والنّاس في هذا الموضع الحاجّ غير الحمس فانّ الحمس كانوا لا يفيضون من جمع ، وفيه دلالة على انّ جمعا اسم لموضع خاصّ من المشعر وانّ المراد من الافاضة من حيث أفاض النّاس الافاضة من موضع خاصّ من المشعر الحرام لكنّه مخالف لما روته العامّة والخاصّة من انّهم كانوا لا يفيضون من عرفات فأمرهم الله ان يقفوا بعرفات ثمّ يفيضوا منها (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ) ممّا فعلتم بآرائكم الزّائغة وأهوائكم الباطلة من تغيير المناسك والاستنكاف من الوقوف بعرفات مثل النّاس (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر بعد الاستغفار والاعتراف والدّخول تحت طاعة خليفته الذّنوب والنّقائص اللّازمة لكم من انانيّتكم (رَحِيمٌ) يرحمكم بعد مغفرتكم بفتح باب القلب وادخالكم في دار رحمته (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ) جملة افعال الحجّ الى الثّالث عشر من ذي الحجّة (فَاذْكُرُوا اللهَ) حيثما كنتم أو مناسككم بعرفات والمزدلفة فاذكروا الله بمنى ومكّة أو إذا قضيتم مناسككم فيهما وفي منى بالحلق أو التّقصير فاذكروا الله بمكّة أو إذا قضيتم في هذه المواضع وفي مكّة فاذكروا الله في ايّام منى ، ويؤيّده تفسير الذّكر بالتكبيرات في ايّام منى (كَذِكْرِكُمْ

__________________

(١) الحمس بالضم والسكون لقّب به قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم في الجاهليّة لتحمسّهم في دينهم وتصليهم.

١٨٣

آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) نسب الى الباقر (ع) انّه قال : كانوا إذا فرغوا من الحجّ يجتمعون هناك ويعدّون مفاخر آبائهم ومآثرهم فأمر الله سبحانه ان يذكروه مكان ذكر آبائهم في هذا الموضع أو اشدّ ذكرا (فَمِنَ النَّاسِ) عطف نحو عطف التّفصيل على الإجمال باعتبار المعنى كأنّه قيل النّاس في ذكر الله أصناف أو قائم مقام جزاء شرط محذوف كأنّه قال : وإذا ذكرتم الله فأخلصوا نيّاتكم عن طلب الدّنيا لأنّ من النّاس (مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) ولم يذكر المسؤل للاشعار بأنّه من جنس الدّنيا فلا حاجة الى ذكره بخلاف المؤمن فانّه لا يطلب في الدّنيا الّا ما هو مطلوب للآخرة ولذلك ذكر مطلوبه.

اعلم انّ الدّنيا معبر الكلّ لا وقوف لأحد فيها قد وكّل الله على كلّ نفس جنودا كثيرة يعنفونه السّلوك الى الآخرة لا يدعونه يقف آنا واحدا في مقام ، فالاحمق من يظنّ المقام فيها ويطلب من القادر الغنىّ ما يتركه ويذهب هو عنه فالطّلب للدّنيا من غاية العمى عنها وعن الآخرة ، ولمّا كان النّاظر الى الدّنيا أعمى عنها وعن ذهابها عنه وكان لا يطلب فيها للآخرة شيئا وما يطلب للدّنيا لا يبقى معه فيخرج من الدّنيا صفر اليد من متاع الدّنيا والآخرة قال تعالى (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) نصيب من الخير فانّه يستعمل في الخير (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) قد فسّرت الحسنة في الدّنيا بنعيمها ، وبسعة الرّزق ، والمعاش ، وبحسن الخلق ، وبالعلم ، والعبادة ، وبالمرأة الصّالحة ، وباللّسان الشّاكر والقلب الذّاكر والزّوجة المؤمنة ، بل روى انّ من اوتى تلك الثلاثة فقد اوتى حسنة الدّنيا والآخرة ، والوجه في ذلك انّ المراد بحسنة الدّنيا ما يرجع الى القوى النّفسانيّة وحظوظها بحيث لا يعاوقها عن سلوكها الى ربّها ؛ ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

آتنا في دار دنيانا حسن

آتنا في دار عقبانا حسن

راه را بر ما چو بستان كن لطيف

مقصد ما باش هم تو اى شريف

(وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) يعلم حسنة الآخرة بمقايسة ما ذكر في حسنة الدّنيا (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) لمّا كان كلّ ما يسوء الإنسان من حيث انسانيّته من مظاهر الجحيم وآلامها سواء كانت من ملايمات الحيوانيّة أو لا فسّر عذاب النّار بالمرأة السوء والشّهوات والذّنوب وبالحمى وسائر الآلام (أُولئِكَ) العظام (لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا) يعنى من جملة ما كسبوا ومنها سؤالهم حسنة الدّنيا والآخرة يعنى لا يضاع عمل عامل منهم ، والمعنى لهم نصيب ناش ممّا كسبوا أو نصيب هو بعض ممّا كسبوا وهذا المعنى يشعر بصحّة تجسّم الأعمال كما عليه أهل المذهب وهو حقّ مثبت بالاخبار الكثيرة ويشعر به الآيات ويحكم به العقل ، فانّ التّحقيق ؛ انّ العلم ليس بصورة عرضيّة هي كيف للنّفس كما عليه المشّاؤن ، ولا بإضافة بين العالم والمعلوم كما قيل ، ولا بمحض مشاهدة ربّ النّوع أو صورة المعلوم في عالم المثال ، بل هو شأن من النّفس به يحصل سعتها والنّفس وشؤنها من عالم المتقدّرات والأجسام النّوريّة باعتبار مركبها المثالىّ وكلّ عمل يعمله الإنسان لا بدّ ان يتصوّره في مقامه المجرّد اجمالا ويصدّق بالغاية النّافعة المترتّبة عليه ثمّ ينزله من مقامه العالي الى مقامه الخيالىّ فيتصوّره بنحو التّفصيل والجزئيّة ويصدّق في ذلك المقام بغايته ثمّ يحدث له ميل اليه ثمّ عزم ثمّ اراده فتهيج الارادة القوّة الشّوقيّة وهي تبعث القوّة المحرّكة وهي تحرّك الاعصاب ثمّ الأوتار ثمّ العضلات ثمّ الأعضاء ثمّ يتدرّج العمل في الوجود ثمّ يعود متدرّجا كما يحدث متدرّجا من طريق الباصرة أو السّامعة الى الحسّ المشترك ثمّ

١٨٤

الى الخيال والواهمة ثمّ الى العاقلة فيعود الى ما منه بدأ ، فكلّ عمل يحصل صورته في المقامات العلميّة للإنسان نزولا وصعودا وقد عرفت انّ بعض مقاماته العلميّة غير خارج عن التقدّر والتّجسّم فالعمل يتصوّر في مقام تجسّم النّفس فيصحّ ان يقال انّ العمل تجسّم ولتجسّم الأعمال وجه آخر وهو انّ الله تعالى يوجد بعمل العبد من الأجسام الاخرويّة ما يشاء من الأنهار والأشجار والاثمار والحور والقصور ، بمعنى انّ الأعمال تكون مادّة هذه يعنى انّ الأعمال تتجسّم في عالمه الصّغير وينشأ في الكبير أمثال صورها في العالم الصّغير فانّ العالم الكبير كالمرآة للعالم الصّغير (وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) عطف فيه دفع توهمّ فانّه قد يتوهّم انّ اعمال العباد كثيرة متدرّجة لا يمكن ضبطها حتّى يجزى بها العباد فقال تعالى دفعا لهذا الوهم : انّ الله يحاسب على الجليل والحقير والقليل والكثير ولا يعزب عنه شيء لانّه سريع الحساب ومن سرعة حسابه انّه ينظر الى حساب الكلّ دفعة واحدة وكما انّ الكلّ منظور اليه دفعة واحدة كلّ الأعمال من صغيرها وكبيرها يقع في نظره دفعة واحدة فلا يفوته حساب أحد ولا يعزب عنه شيء من عمل أحد ، وأنموذج محاسبة الله ومكافاته ومجازاته يكون مع العباد من اوّل التّكليف ولا يشذّ من أعمالهم حقير ولا جليل الّا يظهر شيء من مجازاته عليهم لو كانوا متنبّهين لا غافلين ولمعرفة هذا الأمر أمروا العباد بالمحاسبة قبل محاسبة الله فانّ العبد إذا حاسب نفسه بان يكون مراقبا لها ومحاسبا لاعمالها يظهر عليه انّ كلّ فعل من الخير والشّرّ يستعقب فعلا آخر أو عرضا من اعراض النّفس أو خلقا من أخلاقها ، فحاسبوا عباد الله قبل ان تحاسبوا حتّى تعلموا انّ الله لا يدع شيئا من اعمال العباد الّا يجازيه ولا يشغله عمل عامل منكم عن عامل آخر ، ولا يشذّ عنه حقير لحقارته (وَاذْكُرُوا اللهَ) عطف على قوله (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ)(فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ) فسّرت الايّام المعدودات بايّام التّشريق وهي ثلاثة ايّام بعد النّحر والذّكر بالمأثور من التّكبيرات عقيب الصّلوات الخمس عشرة من ظهر يوم النّحر الى صبح الثّالث عشر لمن كان بمنى ولغيره الى عشر صلوات الى صبح الثّانى عشر والتكبيرات المأثورات : الله أكبر ، الله أكبر ، لا اله الّا الله والله أكبر ، الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر ، على ما هدينا ، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الانعام. وقوله تعالى (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) يدلّ على هذا التّفسير للايّام المعدودات فلا يعبأ بغيره والمراد التّعجيل في النّفر في اليوم الثّانى عشر والتأخير الى الثّالث عشر سواء قدّر من تعجّل في النّفر أو في الذّكر ، والمراد بتعجيل الذّكر تعجيل إتمامه في منى في الثّانى عشر وبتأخيره تأخير إتمامه الى الثّالث عشر (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ردّ على من اثّم المتعجّل من أهل الجاهليّة فانّ بعضهم كانوا يؤثّمون المتعجّل (وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) ردّ على جماعة اخرى كانوا يؤثّمون المتأخّر (لِمَنِ اتَّقى) اى هذا الحكم والتّخيير في النّفر بين الثّانى عشر والثّالث عشر لمن اتّقى الصّيد في إحرامه فان اصابه لم يكن له ان ينفر في النّفر الاوّل وهذا مدلول بعض الاخبار ، وفي بعض الاخبار لمن اتّقى منهم الصّيد واتّقى الرّفث والفسوق والجدال وما حرّم الله عليه في إحرامه ، وفي بعض الاخبار ليس هو على ان ذلك واسع ان شاء صنع ذا وان شاء صنع ذا ؛ لكنّه يرجع مغفورا له لا اثم عليه ولا ذنب له يعنى ليس المقصود بيان التّخيير فقط بل بيان تطهيره من الذّنوب كيوم ولدته أمّه ان اتّقى ان يواقع الموبقات فانّه ان واقعها كان عليه إثمها ولم يغفر له تلك الذّنوب السّالفة بتوبة قد أبطلها بموبقاته بعدها وانّما تغفر بتوبة يجدّدها ، وفي بعض الاخبار : من مات قبل ان يمضى الى أهله فلا اثم عليه ومن تأخّر فلا اثم عليه لمن اتّقى الكبائر أو لمن اتّقى الكبر وهو ان يجهل الحقّ ويطعن على أهله ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قال : انّما هي لكم والنّاس سواء وأنتم الحاجّ وفي خبر أنتم والله هم انّ

١٨٥

رسول الله (ص) قال لا يثبت على ولاية علىّ (ع) الّا المتّقون (وَاتَّقُوا اللهَ) بعد تلك الايّام ان تواقعوا الموبقات حتّى لا تحملوا أثقال ذنوبكم السّالفة مع ثقل الذّنب الّذى أتيتموه ولا تحتاجوا الى توبة اخرى أو الأمر بالتّقوى مطلق اى اتّقوا سخط الله في ترك المأمورات وارتكاب المنهيّات (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) فيجازى كلّا على حسب عمله ترغيب وتهديد (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) تخلّل الاجنبىّ يمنع من عطفه على قوله (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : رَبَّنا آتِنا) (الى آخرها) ، وانشائيّة الجمل السّابقة تمنع من عطفه عليها ، وكون الواو للاستيناف ممّا يمنع منه السّليقة المستقيمة فبقي ان يكون عطفا على محذوف مستفاد من السّابق فكأنّه قال : فمن النّاس من يذكر الله من غير نفاق لمحض الدّنيا ، ومنهم من يذكره للدّنيا والآخرة ، ومنهم منافق لا يذكر الله الّا للتّدليس وهو بحيث يعجبك قوله (فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) حال عن مفعول يعجبك أو متعلّق بقوله أو حال عنه أو عن الضّمير في قوله يعنى إذا تنزلّت في مقام الحيوة الدّنيا ونظرت من ذلك المقام الى مقاله تعجّبت منه أو هو إذا تكلّم في امر الحيوة الدّنيا أو حفظها تعجّبت منه لا إذا كنت في مقام الحيوة الاخرى ، أو لا إذا تكلّم في الحيوة الاخرى (وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ) ادّعاء بادّعاء انّ ما في قلبه هو الحقّ الموافق لقوله لا على ما في قلبه حقيقة فانّه يدلّس بإظهار ما لم يكن في قلبه والمراد بالاشهاد جعله متحمّلا للشّهادة أو مؤدّيا لها وهذا ديدن الكذّاب فانّه لمّا لم يجد من يصدّقه ولا ما يحتجّ به يحلف بالله ويشهد بالله وصار قولهم : الكذّاب حلّاف مثلا ، وقد أشار تعالى بقوله : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) الى انّه كذّاب (وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ) ألد افعل مثل أحمر وليس للتّفضيل مثل أفضل بمعنى الخصم الشّحيح الّذى لا يزيغ الى الحقّ ، والخصام مصدر ، أو جمع لخصم والآية عامّة لجملة المنافقين وان ورد في نزولها انّها في معاوية ومن وافقه (وَإِذا تَوَلَّى) أدبر عنك أو تولّى امرا من أمورك أو أمور الدّنيا أو صار واليا على الخلق (سَعى) اى أسرع في السّير (فِي الْأَرْضِ) ارض العالم الصّغير أو العالم الكبير ، أو ارض القرآن ، أو الاخبار ، أو السّير الماضية من الأنبياء (ع) وخلفائهم (ع) (لِيُفْسِدَ) ليوقع الفساد (فِيها) والإفساد تغيير الشّيء عن الكمال الّذى هو عليه ، أو منعه عن الوصول الى كماله ، واللّام لام الغاية أو لام العاقبة فانّ المنافقين يظنّون انّهم يصلحون ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ : لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ)(وَيُهْلِكَ) اى يفنى أصلا (الْحَرْثَ) ما يزرعه النّاس من نبات الأرض أو ما أنبته الله من مطلق نبات الأرض (وَالنَّسْلَ) الولد الصّغير من المتوالدات أو من الإنسان.

تحقيق الإفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنّسل

اعلم انّ عالم الطّبع بسماواته وسماويّاته وأرضه وارضيّاته متجدّد ذاتا وصفة وفي كلّ آن له فناء من قبل نفسه وبقاء من قبل موجده ، وحاله بالنّسبة الى موجده حال شعاع الشّمس بالنّسبة الى الشّمس فانّ الشّعاع الواقع على السّطح لا بقاء له في آنين بدليل انّه إذا وقع الشّعاع من روزنة بعيدة على سطح ينعدم عنه بمحض سدّ الرّوزنة ولا يبقى بعد سدّها آنين والمبقى للأشياء على سبيل الاتّصال بحيث يختفى تجدّدها هو المشيّة بوجه كونها رحمة رحمانيّة عامّة ، وانّ الكائنات لها قوّة واستعداد وبحسب تفاوت الاستعدادات تتدرّج في الخروج من القوّة الى الفعل سريعا أو بطيئا ، وتجدّد الفعليّات عليها ليس الّا بالمشيّة بوجه كونها رحمة رحيميّة والمتحقّق بالمشيّة بوجه كونها رحمة رحمانيّة

١٨٦

محمّد (ص) من حيث رسالته والمتحقّق بها بوجه كونها رحمة رحيميّة هو (ص) من حيث ولايته فبقاء الأشياء بالرّسالة واستكمالها بالولاية فكلّ شيء بلغ الى آخر كمالات نوعه كان قابلا للولاية على ما ينبغي له وما لم يبلغ انتقص من قبوله الولاية بحسبه ، وكلّما لم يستكمل في نوعه بشيء من كمالاته لم يكن يقبل شيئا من الولاية كما ورد عنهم (ع) في الأراضي السّبخة والمياه المرّة أو المالحة والبطيحة انّها لم تقبل ولايتنا أهل البيت ، هذا بحسب التّكوين ولو انقطع هذه الرّحمة الرّحيميّة التكوينيّة عن الأشياء لم يستكمل شيء منها في شيء من مراتب كمال نوعه كما انّه لو انقطع الرّحمة الرّحمانيّة عن الأشياء لما بقي شيء آنين ، والى هذا الانقطاع أشاروا (ع) بقولهم : لو ارتفع الحجّة من الأرض لساخت الأرض بأهلها ، وامّا بحسب التّكليف فالنّاس مكلّفون بالإقبال والتّوجّه على الولاية كما انّ صاحب الولاية متوجّه إليهم وبهذا الإقبال وذلك التوجّه يستكمل الحرث والنّسل في العالم الصّغير ويزرع ما لم يكن يزرع بدون قبول الولاية والبيعة والمعاهدة ويتولّد ما لم يكن يولد بدونها ، وكلّما ازداد التّوجّه من الخلق ازداد التّوجّه من صاحب الأمر وبازديادهما التّوجّهين يزداد الحرث والنّسل واستكمالهما في العالم الصّغير وبازديادهما وازدياد استكمالهما في الصّغير يزداد وجودهما واستكمالهما في العالم الكبير فكلّ من جاهد في استرضاء صاحبه ازداد بحسب جهاده توجّه صاحب الوقت ورضاه عنه ، وبحسب ازدياد توجّهه ورضاه يزداد البركة في الحرث والنّسل في العالم الصّغير والكبير ؛ واليه أشار بقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ) في العالم الصّغير والأرض في العالم الكبير ؛ أو من كليهما في كليهما ، وبقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) يعنى في الصّغير وفي الكبير ؛ ونعم ما قال المولوى قدس‌سره :

تا توانى در رضاي قطب كوش

تا قوى گردد كند در صيد جوش

چون برنجد بينوا گردند خلق

كز كف عقل است چندين رزق خلق

أو چو عقل وخلق چون اجزاى تن

بسته عقل است تدبير بدن

ضعف قطب از تن بود از روح نى

ضعف در كشتى بود در نوح نى

يارئى ده در مرمّه كشتيش

گر غلام خاص وبنده گشتيش

ياريت در تو فزايد نى در أو

گفت حق : ان تنصرو الله ينصر

ومن هذا يعلم انّ التّوجّه التّكليفىّ وازدياده مورث لقوّة الولاية التكوينيّة ، وازدياد الحرث والنّسل وازدياد استكمالهما في الصّغير والكبير ، والاعراض عن الولاية التكليفيّة مورث لافسادهما واهلاكهما في الصّغير والكبير ، وكلّما ازداد الاعراض ازداد الإفساد والإهلاك وإذا انجرّ الاعراض الى منع الغير ازداد اشدّ ازدياد وإذا انجرّ الى التّكذيب والاستهزاء كان غاية الإفساد والإهلاك ؛ وقوله تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) اشارة الى هذا ؛ وعلى هذا يجوز ان يقال : وإذا تولّى عن الولاية سعى في الأرض ولكن غاية سعيه الإفساد فيها وإهلاك الحرث والنّسل ولا يشعر هو به (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) ومثله يستعمل في معنى يبغض الفساد وان كان بحسب مفهومه اعمّ منه (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ) اتّق سخط الله في الإفساد والإهلاك استنكف من نصح النّاصح لانّه لا يظنّ من نفسه سوى الإصلاح يعنى (أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ) اى المناعة والاستنكاف (بِالْإِثْمِ) اى بسبب الإثم الّذى اكتسبه قبل أو أخذته العزّة بقيد الإثم الّذى ينهى عنه اى حملته العزّة على

١٨٧

ازدياد الإفساد والإهلاك للجاجته (فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) المهاد ككتاب الفراش والموضع الّذى يهيّئ للسكون عليه (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) يبيع (نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) يعنى لا لنفسه أو لنفسه ولكن من غير استشعار بالابتغاء فانّه ان كان ابتغاء مرضات الله لنفسه بالاستشعار كان مناقضا لقوله (يَشْرِي نَفْسَهُ) ، ونزول هذه الآية في علىّ (ع) وبيتوتته على فراش النّبىّ (ص) ليلة فراره (ص) كما روى بطريق العامّة والخاصّة وتجري الآية الاولى في كلّ منافق لا يتوسّل الى ربّه والثّانية في كلّ من قام عن نفسه وطرح انانيّته وفنى في ربّه وبينهما مراتب ودرجات أدرجها تعالى في صنفين الاوّل من توسّل بالله لتعمير دنياه بمراتبه والثّانى من توسّل بالله لدنياه وآخرته وأشار إليهما بقوله : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ) الى آخر الآية (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فبرأفته يمهل المنافق ويحفظ الفاني ويجزى طالب الدّنيا والآخرة والرّأفة والرّحمة متقاربتان إذ اجتمعتا فانّ الرّحمة امر نفسانىّ والرّأفة ما يشاهد من آثارها على الأعضاء (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بعد ما بيّن أصناف النّاس نادى المؤمنين اى الدّاعين لله للدّنيا أو للدّنيا والآخرة أو لذاته تهييجا لهم بلذّة النّداء ثمّ أمرهم بالدّخول في مرتبة الصنّف الأخير فقال (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ) بالكسر والفتح الصلح وقرئ بهما والمراد بالايمان هو الإسلام الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظاهرة ، والمراد بالسّلم الولاية والبيعة الخاصّة وقبول الدّعوة الباطنة سمّيت بالسّلم لانّ الدّاخل في الايمان الحقيقىّ بقبول الدّعوة الباطنة وقبول الولاية يحصل له تدريجا الصلح الكلّىّ مع كلّ الموجودات ولا ينازع شيئا منها في شيء من الأمور (كَافَّةً) جميعا حال عن فاعل ادخلوا أو عن السّلم بمعنى الدّخول في جميع مراتب السّلم ، ويجوز ان يكون اسم فاعل من كفّ بمعنى منع ويكون التاء للمبالغة ويكون حالا من السّلم اى ادخلوا في السّلم حالكونه مانعا لكم عن الخروج أو عن الشين والنّقص (وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) عن الصّادق (ع) السّلم ولاية علىّ (ع) والائمّة (ع) والأوصياء من بعده ، وخطوات الشّيطان ولاية أعدائهم. وعن تفسير الامام (ع) يعنى في السّلم والمسالمة الى دين الإسلام كافّة جماعة ادخلوا فيه في جميع الإسلام فاقبلوه واعملوا فيه ولا تكونوا كمن يقبل بعضه ويعمل به ويأبى بعضه ويهجره ، قال (ع) ومنه الدّخول في قبول ولاية علىّ (ع) كالدّخول في قبول نبوّة محمّد (ص) فانّه لا يكون مسلما من قال : انّ محمّد (ص) رسول الله فاعترف به ولم يعترف بانّ عليّا (ع) وصيّه وخليفته وخير أمّته ، وقد مضى بيان لخطوات الشّيطان واتّباعها عند قوله تعالى : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ)(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) قد مضى بيانه هنا لك (فَإِنْ زَلَلْتُمْ) عن الدّخول في السّلم (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج الواضحات على ما دعيتم اليه (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يمنعه عن الانتقام مانع (حَكِيمٌ) في علمه يدرك دقائق ما صدر منكم ، وحكيم في عمله لا يدع شيئا منها بلا مكافاة ، ولا سبب للعفو عنكم حتّى يعفو عن بعض أعمالكم ، أو المراد فان زللتم من بعد دخولكم في السّلم ومن بعد ما جاءتكم البيّنات اى الواردات والحالات الإلهيّة المشهودة لكم فاعلموا انّ الله عزيز لا يمنعه من العفو أو لا يمنعه من الانتقام مانع حكيم يجعل السّلم بحكمته سببا للعفو ، أو يكافئ القليل والكثير (هَلْ يَنْظُرُونَ) ثمّ صرف الكلام الى المنافقين بعد نداء الفرق الثّلاث من المسلمين فقال تعالى : هل ينظر هؤلاء المنافقون المتزيّنون في ظاهر حالهم (إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ) اى امر الله

١٨٨

أو بأسه أو يأتيهم الله بحسب مظاهره فانّ إتيان المظاهر إتيان الله بوجه كما قال ولكنّ الله قتلهم ، ولكنّ الله رمى ، ويعذّبهم الله بأيديكم وقد قال علىّ (ع): يا حار همدان من يمت يرنى ؛ والمراد من وقت إتيان الله وقت نزع الرّوح (فِي ظُلَلٍ) جمع الظلّة وهي ما اظلّك (مِنَ الْغَمامِ) على التّشبيه فانّ الأهوال عند الموت ترى كالغمام وسمّى الحساب غماما لا يراثه الغمّ فيناسبه الأهوال (وَالْمَلائِكَةُ) قرئ بالرّفع والجرّ عطفا على الله أو الظّلل أو الغمام. وعن الرّضا (ع) الّا ان يأتيهم الله بالملائكة في ظلل من الغمام قال : وهكذا نزلت (وَقُضِيَ الْأَمْرُ) امرا هلاكهم وهو عطف على ان يأتيهم وأتى بالماضي تأكيدا في تحقّق وقوعه ، ويجوز ان يكون حالا بتقدير قد ، ويجوز ان يراد بالآية المحاسبة يوم القيامة أو الرّجعة ، وقد أشير في الاخبار الى الكلّ.

تحقيق معنى الرّجوع الأمور الى الله تعالى

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) يعنى بعد انقضاء الحياة وارتفاع الحجب يظهر انّ الأمور كانت بيد الله ولم يكن لا حديد عليها وانّما كانت أيدى الغير اكماما ليده تعالى ، ولضعف الأبصار في الدّنيا كانوا لا يشاهدون الّا الأكمام ، وبعد ارتفاع الحجب عن الأبصار وقوّتها تشاهد انّ الكلّ كانت اكماما والفاعل كان يده تعالى وان لا امر بيد غيره تعالى ، واستعمال الرّجوع الّذى هو الانتهاء الى الابتداء تدريجا للاشارة الى هذا المعنى يعنى كلّما ارتفع حجاب عن أبصارهم شاهدوا فاعلا آخر للأمور حتّى ارتفع الحجب تماما فيشاهدوا ان لا فاعل سواه وان لا امر من غيره (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ) تهديد آخر للامّة على طريق التّعريض فانّ الكناية والتّعريض أبلغ من التّصريح.

خوشتر آن باشد كه سرّ دلبران

گفته آيد در حديث ديگران

(كَمْ آتَيْناهُمْ) على أيدي أنبيائهم أو مطلقا (مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ) حجّة واضحة على صحّة نبوّة أنبيائهم (ع) كما آتينا أمّتك آيات بيّنات دالّات على صدق نبوّتك وخلافة خليفتك أو كم آتيناهم من آية تدوينيّة في كتبهم دالّة على صحّة نبوّة أنبيائهم وصحّة نبوّتك وخلافة وصيّك كما آتينا أمّتك آيات دالّة على ذلك فكأنّه قال : سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية دالّة على ولاية علىّ (ع) فانّها النتيجة حتّى تذكر أمّتك بالآيات التكوينيّة والتدوينيّة واخبارك الدّالّة على ولايته ، ثمّ هدّدهم بانّ من بدّل ولاية علىّ (ع) بالكفران فله العقوبة فلا تبدّلوا ولايته كما بدّل بنو إسرائيل (وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللهِ) الآيات الهاديات بتبديل حيثيّة هدايتها بحيثيّة اضلالها ، ولمّا كان أصل النّعمة وحقيقتها وفرعها ومنبعها ولاية علىّ (ع) جاز ان يقال : ومن يبدّل مدلول الآيات الّذى هو ولاية علىّ (ع) وهي النّعمة بحقيقتها بالكفران (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ) فلا يأمن من عذاب الله (فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) فهو من اقامة السّبب مقام الجزاء (زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) بالولاية بعد وضوح الحجّة استيناف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : لم كفروا وبدّلوا مع مجيء الآيات وعقوبة المبدّل؟ ـ فقال: لانّه زيّن للّذين كفروا (الْحَياةُ الدُّنْيا) وبتزيّنها صرف انظارهم عن الآخرة وعمّا يؤدّى إليها فاحتجبوا عن الآيات مع كمال وضوحها مثل من توغّل في امر فانّه لا يستشعر بمن رآه وما رآه مع كمال ظهور المرئىّ فيستغرب من زيّن له الحيوة الدّنيا الانصراف عنها والتّوجّه الى غيرها ويعدّون من اشتغل بمدلول الآيات وآمن بالولاية مجنونا (وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة وقبول الولاية عطف على جملة زيّن

١٨٩

والإتيان بالمضارع مع انّ توافق المتعاطفين اولى من تخالفهما للاشعار بأنّ التّزيين وقع وبقي اثره في انظارهم وامّا السّخريّة فهي أمر متجدّد على سبيل الاستمرار (وَالَّذِينَ اتَّقَوْا) اى المؤمنون بالولاية فانّ التّقوى الحقيقيّة ليست الا لمن قبل الولاية ودخل في الطّريق الى الله كما حقّق في اوّل السّورة ووضع الظّاهر موضع المضمر لذكرهم بوصف آخر والتّعريض بالمنافقين والاشعار بعلّة الحكم وهي جملة حاليّة أو معطوفة على يسخرون. والتّخالف للتّأكيد والثّبات في الثّانية ، أو الّذين اتّقوا عطف على الّذين آمنوا عطف المفرد ، وقوله تعالى (فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) حال منه يعنى ان كانوا في الدّنيا تحت حكمهم في بعض الأوقات فهم في الآخرة فوق المنافقين حكما وشرفا ومنزلا (وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) اى يرزقهم فانّ الإتيان به في هذا المقام إظهار للامتنان على المؤمنين بانّ الفوقيّة بالنّسبة الى المنافقين ادنى شأن لهم فانّ الله يرزقهم من موائد الآخرة ما لا يقدر على حسابه المحاسبون ، وعلى هذا فوضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بتشريفهم بكونهم مرضيّين لله ، وقيل : فيه أشياء آخر (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) جواب لسؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : هل كان النّاس متّفقين؟ ـ ومن اين وقع هذا الاختلاف؟ ـ فقال تعالى : كان النّاس أمّة واحدة تابعة لمشتهياتهم محكومة لأهويتهم غافلة عن ربّهم ومبدئهم ومعادهم كما يشاهد من حال الأطفال في اتّباع الشّهوات من غير زاجر عنها ، وكما يشاهد من حال أهل العالم الصّغير قبل إيجاد آدم (ع) وإسكانه جنّة النّفس فانّهم يكونون أمّة واحدة محكومة بحكم الشّياطين (فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ) في العالم الكبير والصّغير (مُبَشِّرِينَ) للمنقادين بجهة ولايتهم (وَمُنْذِرِينَ) للكافرين بجهة رسالتهم فاختلفوا بالإنكار والإقرار ، واختلف المنكرون بحسب مراتب الإنكار ، والمقرّون بحسب مراتب الإقرار (وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ) يعنى الأحكام الإلهيّة اللّازمة للرّسالة ، أو الكتاب التّدوينىّ المشتمل على الأحكام فانّه لا يصدق الرّسالة الّا إذا كان مع الرّسول احكام أرسل بها (بِالْحَقِ) بسبب الحقّ المخلوق به الّذى هو علويّة علىّ (ع) وولايته المطلقة ، أو مع الحقّ أو الباء للآلة وعلى اىّ تقدير فالجارّ والمجرور ظرف لغو متعلّق بأنزل وجعله حالا محتاجا الى تقدير عامل مستغنى عنه بعيد جدّا (لِيَحْكُمَ) الله على لسان النّبيّين أو ليحكم الكتاب على طريق المجاز العقلىّ وقرئ ليحكم مبنيّا للمفعول (بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) يعنى بعد بعث النّبيّين اختلفوا فأنزل الكتاب لرفع الاختلاف وهو دليل تقدير ، فاختلفوا بعد قوله تعالى منذرين فانّ عدم انفكاك الأحكام عن الرّسالة مع كونها لرفع الاختلاف وكون النّاس قبل الرّسالة أمّة واحدة دليل حدوث الاختلاف بالرّسالة والمراد بما اختلفوا فيه هو الحقّ الّذى انزل الكتاب به وهو النّبأ العظيم الّذى هم فيه مختلفون (وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ) في الحقّ أو الكتاب الّذى انزل بالحقّ (إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ) وامّا غيرهم فحالهم في الغفلة وكونهم أمّة واحدة حال النّاس قبل البعثة (مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) الحجج الواضحات لا قبل إتمام الحجّة فليس اختلاف المنكر مع المقرّ الّا عن عناد ولجاج لا عن شبهة واحتجاج ولذا قال تعالى (بَغْياً) ظلما واستطالة واقعة (بَيْنَهُمْ) يعنى انّ المنكرين لم ينكروا الحقّ بشبهة سبقت الى قلوبهم ولا لعنادهم للحقّ بل الإنكار انّما هو للاستطالة والتّعدّيات الّتى بينهم فإقرار المقرّ صار سببا لانكار المنكر (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) بعد الهداية أو كان فيهم قوّة الإذعان والموافقة لا الّذين كان فيهم قوّة الاستطالة

١٩٠

والطّغيان والمخالفة (لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ) من بيانيّة والظرف مستقرّ حال من ما أو من ضمير فيه والعامل فيه عامل ذي الحال (بِإِذْنِهِ) بترخيصه وإباحته التّكوينيّة ظرف لغو متعلّق باختلفوا أو بآمنوا أو بهدى وتفسيره بالإباحة والتّرخيص اولى من تفسيره بالعلم كما فسّره بعض (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) تأكيد لما سبق ودفع لتوهّم الشّريك له تعالى في الهداية فانّ تقديم المسند اليه يفيد الحصر والتّأكيد ، وتنبيه على انّ مناط هدايته تعالى ليس من قبل العبد بل هو مشيّته تعالى حتّى يخرج العباد من مشيّتهم ولا ينظروا الى أعمالهم وتصريح بكون المؤمنين مرضيّين كما كانوا مهديّين وكون ما اختلفوا فيه هو الصّراط المستقيم (أَمْ حَسِبْتُمْ) أم منقطعة متضمّنة للاستفهام الإنكاري أو مجرّدة عن الاستفهام والاضراب عن انزجارهم بسبب الاختلاف وعن إنكارهم جواز الاختلاف بعد بعث الرّسل كأنّه قيل : لا ينبغي الانزجار من الاختلاف والانزعاج من أذى المختلفين وانكار جواز الاختلاف بسبب بعث الرّسل فكأنّه قال : هل ضجرتم من الاختلاف وأنكرتموه بعد بعث الرّسل؟! بل ظننتم (أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) يعنى لا ينبغي لكم مثل هذا الظّنّ فانّ الرّاحة بدون العناء لا تكون الّا نادرا فوطّنوا أنفسكم على الاختلاف الشّديد والأذى الكثير من المخالفين حتّى تفازوا بالجنّة (وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) جملة حاليّة (مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ) مستأنفة جواب لسؤال مقدّر أو حال بتقدير قد (وَالضَّرَّاءُ) البأساء الضّرر الّذى يكون من قبل الخلق على سبيل العداوة نفسيّا كان أم ماليّا ، والضّرّاء ما يكون من قبل الله ، أو من قبل الخلق لا على سبيل إعلان العداوة ، ويستعمل كلّ في كلّ وفي الاعمّ (وَزُلْزِلُوا) اضطربوا اضطرابا شديدا في معاشهم ودنياهم من أذى المخالفين أو في دينهم أيضا من مشاهدة غلبة المخالفين ومغلوبيّتهم (حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ) قرئ بالنّصب بتصوير الحال الماضية حاضرة بتصوير الزّلزال حاضرا والقول بالنّسبة اليه مستقبلا ، وبالرّفع بتصوير القول حاضرا أو ماضيا (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ) استبطاء لنصره تعالى وهذا بالنّسبة الى المؤمنين جائز الوقوع فانّ الاضطراب في الدّين أو الدّنيا قد يقع منهم لضعفهم وعدم تمكينهم وامّا بالنّسبة الى الرّسول فيكون على سبيل المشاكلة ، أو هذا الكلام منه ومنهم على سبيل المسئلة لا الاستبطاء والانزجار (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) كلام من الله جواب لسؤال مقدّر تقديره هل يكون النّصر بطيئا؟ ـ فقال : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ،) أو التّقدير فما قال الله لهم؟ ـ فأجيب : قال الله: (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ،) فحذف قال أو كلام منهم كأنّه قيل : أفما قالوا غير ذلك؟ ـ فقيل : قالوا بعد ما تأمّلوا فيما شاهدوا من فضل الله عليهم : (أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ ،) أو الكلام من قبيل قالوا كونوا هودا أو نصارى بان يكون القول الاوّل من الامّة وهذا من الرّسول (يَسْئَلُونَكَ) مستأنف منقطع عمّا قبله (ما ذا) اىّ شيء أو ما الّذى (يُنْفِقُونَ) وعلى الاوّل فما ذا في موضع نصب مفعول لينفقون (قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ) ما يصدق عليه اسم الخير من المال كائنا ما كان قليلا أو كثيرا جيّدا أو غير جيّد ، ولا يصدق اسم الخير على المال الّا إذا كان كسبه بقلب صاف ونيّة صادقة والتّصرّف فيه كذلك وما مفعول أنفقتم ولا حاجة الى جعله مبتدء حتّى يحتاج الى تقدير العائد (فَلِلْوالِدَيْنِ) كأنّ سؤالهم عن المنفق فأجاب تعالى بالمصرف تنبيها على انّ الاهتمام في الإنفاق بان يقع في موقعه ويصدر عن قلب صاف ونيّة صادقة كما أشير اليه بعنوان الخير لا بعين المنفق فانّه قد يقع التمرة في موقعه فيفضل القنطار (وَالْأَقْرَبِينَ

١٩١

وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) بيّن المصرف بالتّرتيب الاولى فالاولى (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) ترغيب في الإنفاق بأنّ مطلق فعل الخير معلوم له تعالى ولا يدعه من غير مجازاة ؛ وما مفعول تفعلوا (تِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) مستأنف منقطع عمّا قبله مثل سابقه ولا حاجة الى تكلّف الارتباط بينهما فانّ كلّا من هذه بيان لحكم من احكام الرّسالة غير الحكم الآخر (وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) اعلم انّ ملائمات النّفس كلّها مطلوبة محبوبة للإنسان في مرتبته البشريّة ومولمات النّفس كائنة ما كانت مكروهة له في مرتبته البشريّة ، وكثيرا ما يكون الإنسان جاهلا بانّ ملائمات النّفس ومكروهاتها ملائمة لقوّته العاقلة أو غير ملائمة ، والقتال من حيث احتمال النّفس تلفها وتلف اعضائها وتعبها في الطّريق وحين البأس والخوف من العدوّ وسماع المكروه من المقاتلين وغير ذلك مكروه لها ، لكنّه من حيث تقوية القلب والاتّصاف بالشّجاعة والتّوكّل على الله والتّوسّل به وتحصيل قوّة السّخاء وقطع النّظر عن الآمال وغير ذلك من المحامد الحاصلة بسببه خير للإنسان ، وهكذا الحال في سائر ملائمات النّفس ومولماتها ؛ ولذلك قال تعالى : (وَاللهُ يَعْلَمُ) انّ في القتال وفي سائر ما كرهتموه الّذى أمركم الله به خيرا لكم ولذلك يأمركم بها (وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) ولذلك تكرهون (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ) قد مضى الأشهر الحرم والتّوصيف بالحرام لحرمة القتال فيه ولذا أبدل عنه بدل الاشتمال قوله تعالى (قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) ارادة الجنس والتّوصيف بالظّرف مسوّغ للابتداء بقتال (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) مبتدء خبره أكبر والجملة عطف على مقول القول أو هو عطف على كبير أو على قتال عطف المفرد (وَكُفْرٌ بِهِ) عطف على صدّ (وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عطف على سبيل الله وليس عطفا على المجرور بالباء لعدم اعادة الجارّ أو عطف عليه على قول من اجازه (وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ) عطف على صدّ ان جعل مبتدء والّا فمبتدأ خبره (أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) وهو رفع لتحرّج المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ) في الأشهر الحرم وغيرها هو من كلامه تعالى عطف على يسألونك أو مقول قوله تعالى عطف على جملة قتال فيه كبير (حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا) فقاتلوهم ما استطعتم في الأشهر الحرم وغيرها فانّه لا يجوز التّوانى في المقاتلة إذا كانت مدافعة عن النّفس والمال والعيال فكيف إذا كانت مدافعة عن الدّين فلا يمنع منها شهر حرام ولا مكان محترم (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) من كلامه تعالى وعطف على لا يزالون أو على يسألونك أو مقول قول الرّسول (ص) أو جملة حاليّة (فَيَمُتْ) عطف على يرتدد (وَهُوَ كافِرٌ) تقييد الموت بالكفر في ترتّب العقوبة للاشعار بانّ من مات وكان كافرا قبل الاحتضار لا يحكم عليه بالعقوبة لجواز ان يقبل الولاية حين الاحتضار وظهور علىّ (ع) عليه فان ظهر عليه علىّ (ع) حين الاحتضار وأنكر هو ؛ كان موته على الكفر والّا فلا ، ومن لا يعلم حال المحتضر من القبول والرّدّ لا يجوز له الحكم عليه بإسلام ولا كفر ، ولا ينبغي التّفوّه باللّعن عليه (فَأُولئِكَ) تكرار المبتدء باسم الاشارة البعيدة لاحضارهم ثانيا باوصافهم

١٩٢

الذّميمة ولتحقيرهم حتّى يكون أبلغ في الزّجر والرّدع (حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) قد مضى قبيل هذا انّ الأعمال القابليّة الّتى هي عبارة عن الحركات والهيئات والاذكار المتجدّدة الّتى لا يجتمع جزء منها مع جزء ولا يبقى جزء منها آنين لا يحكم عليها بالثّبات ولا بالتّجسّم ، وامّا حقائقها الدّاعية الى تلك الأعمال والمكتسبة منها فهي شؤن النّفس الجوهريّة وهي ثابتة متّصفة بالتقدّر والتجسّم والحبط ، وحبط العمل عبارة عن بطلانه وزواله عن صفحة النّفس ، ولمّا كان النّفس ذات جهتين جهة دنيويّة وهي جهة اضافتها الى الكثرات وجهة أخرويّة وهي جهة اضافتها الى عالم التّوحيد والأرواح وإذا صدر عنها عمل جسمانىّ أو نفسانىّ تتكيّف النّفس بجهتيها ؛ وثمرة كيفيّة جهتها الدّنيويّة الخلاص من عذاب الأوصاف الرّذيلة ، وثمرة كيفيّتها الاخرويّة الفراغ من الخلق والتلذّذ بمناجاة الله ، فمن ارتدّ حبطت أعمالهم (فِي الدُّنْيا وَ) من يمت وهو كافر حبطت أعمالهم في (الْآخِرَةِ) هذا على ان يكون الظّرف ظرفا للحبط ، ويجوز ان يكون حالا من أعمالهم والمعنى من يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر حبطت أعمالهم حالكونها ثابثة في جهاتهم الدّنيويّة وثابتة في جهاتهم الاخرويّة ، ومن يرتدد منكم عن دينه ويمت على الايمان ثبتت اعماله فيهما (وَأُولئِكَ) كرّر اسم الاشارة البعيدة لما ذكر (أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) قيل في نزول الآية انّ المسلمين قتلوا في اوّل غزاة غزوها مع المشركين قبل البدر ومن المشركين في اوّل رجب فسأل المشركون محمّدا (ص) عن الشهر الحرام ، وقيل سأل المسلمون عن ذلك (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا) كلام مستأنف لتشريف المؤمنين ورفع الجناح عن المسلمين المقاتلين فانّه كما قيل : نزل في السريّة الّتى قاتلوا وقتلوا في اوّل رجب ، وكثر القول فيه وعاب المشركون والمسلمون ذلك كأنّه بعد ما نزل الآية الاولى سأل سائل : هل يكون أجر لهؤلاء المقاتلين في رجب؟ ـ فقال مؤكّدا لكون المخاطبين في الشّكّ من ذلك : انّ الّذين آمنوا اى أسلموا فانّ المراد بالايمان في أمثال المقام هو أحد معاني الإسلام وقد مرّ في اوّل السّورة معاني الإسلام والايمان مفصّلة (وَالَّذِينَ هاجَرُوا) كرّر الموصول اهتماما بشأن الهجرة كأنّها أصل برأسه مثل الايمان ولا سيّما الهجرة عن مقام النّفس الّذى هو دار الشّرك حقيقة الى مقام القلب الّذى هو دار الايمان حقيقة (وَجاهَدُوا) لم يأت بالموصول للاشارة الى التّلازم بين الهجرة والجهاد كأنّهما شيء واحد فانّ الإنسان بعد الإسلام ما لم يهجر الوطن لم يظهر مغايرته للمشركين وما لم يظهر مغايرته لم يكن قتال ومخالفة (فِي سَبِيلِ اللهِ) قد مضى نظيره وأنّه ظرف لغو ظرفيّة مجازيّة أو حقيقيّة ، أو ظرف مستقرّ كذلك (أُولئِكَ) كرّر المبتدأ باسم الاشارة البعيدة للاحضار والتّفخيم (يَرْجُونَ) قد مضى انّ عادة الملوك تأدية الوعد بأدوات التّرجّى وانّ وعد الملوك لا يتخلّف ولو كان بلفظ التّرجّى ووعيدهم كثيرا ما يتخلّف ولو كان بنحو الجزم (رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر مساويهم (رَحِيمٌ) يغشيهم برحمته بعد الغفران (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) استيناف لابداء حكم آخر من احكام الرّسالة (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ) وقرئ كثير بالثاء المثلّثة (وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ) لمّا أتى بالإثم مفردا وبالمنافع جمعا توهّم انّ نفعهما غالب على إثمهما فرفع ذلك التوهّم بقوله تعالى : (وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

١٩٣

تحقيق مراتب كمال الإنسان

اعلم انّ الإنسان قبل هبوط آدم (ع) في العالم الصّغير وبعث الرّسول الباطنىّ كافر محض لا يعرف مبدء ولا معادا وبعد بعث الرّسول الباطنىّ يظهر له إقرار فطريّ بأنّ له مبدء مسخّرا له لكنّه امّا لا يستشعر بهذا الإقرار أصلا ويحتاج الى منبّه خارجىّ ينبّهه على فطرته ، أو يستشعر استشعارا ضعيفا مغلوبا في غفلاته وهذا في قليل من النّاس وقد يستشعر استشعارا قويّا يحمله على الطّلب ولا يدعه حتّى يوصله الى مطلوبه ، مثل الكبريتيّة تكاد تشتعل ولو لم تمسسها نار وهذا في غاية النّدرة ؛ والقسمان الاوّلان امّا يبقون في كفرهم الصّراح ولا يتنبّهون من المنبّهات الخارجيّة والرّسل الإلهيّة وليس لهم همّ إلا قضاء شهواتهم ومقتضيات نفوسهم ، وهؤلاء عامّة النّاس سواء دعاهم رسول خارجىّ أو نوّابهم الى الله اوّلا وسواء قبلوا الدّعوة الظّاهرة وبايعوا البيعة العامّة اولا ؛ غاية الأمر انّ من قبل الدّعوة الظّاهرة ودخل في الإسلام ان مات في حال حيوة الرّسول أو نائبه الّذى بايعه كان ناجيا نجاة ما وكلّ هؤلاء مرجون لأمر الله ، لكنّ البائعين ليسوا مرجين لأمر الله بحسب اوّل درجات النّجاة بل بحسب كمال درجات النّجاة أو يتنبّهون فيطلبون من يدلّهم على مبدئهم فامّا لا يصلون أو يصلون ، والواصل الى الدّليل امّا يعمل بمقتضى دلالة الدّليل أو لا يعمل ، والعامل امّا يبقى في الكفر بحسب الحال أو يتجاوز الى الشّرك الحالىّ أو الى الشّرك الشّهودىّ أو يتجاوز الى التّوحيد الشّهودىّ والتحقّقىّ وفي هذا الحال ان لم يبق له اشارة الى التّوحيد ولا توحيد كان عبد الله وهو آخر مقامات العبوديّة وتماميّة الفقر وحينئذ يحصل له بداية مقامات الرّبوبيّة ان أبقاه الله تعالى بعنايته وان بقي على هذه الحالة ولم يبقه الله بعد فنائه لم يكن له عين ولا اثر فلم يكن له اسم ولا رسم ولا حكم ؛ وهذا أحد مصاديق الحديث القدسىّ : انّ أوليائي تحت قبابى لا يعرفهم غيري ، واحد مصاديق الولىّ والامام (ع) كما نبيّنه.

تحقيق الولىّ والنّبىّ والرّسول والامام

وان أبقاه الله بعنايته بعد فنائه وتفضّل عليه بالصّحو بعد المحو صار وليّا لله وهذه الولاية روح النّبوّة والرّسالة ومقدّمة عليهما وهي الامامة الّتى تكون قبل النّبوّة والرّسالة ، فان تفضّل عليه وأرجعه الى مملكته وأحيى له أهل مملكته بالحيوة الثّانية الاخرويّة وهذه هي الرّجعة الّتى لا بدّ منها لكلّ أحد اختيارا في حال الحيوة أو اضطرارا بعد الممات وهي الرّجعة في العالم الصّغير صار نبيّا أو خليفة للنّبىّ ، وللنّبوّة وخلافتها مراتب ودرجات لا يحصيها الّا الله ، وتطلق الامامة عليهما أو على خلافة النّبوّة وهي النّبوّة الّتى هي روح الرّسالة ومقدّمة عليها فان وجده الله أهلا لا صلاح مملكته بان لم يكن مفرطا ولا مفرّطا في الحقوق وأرجعه الى الخلق لإصلاحهم صار رسولا أو خليفته وتطلق الامامة عليهما أو على خلافة الرّسالة ومراتب الرّسالة وخلافتها أيضا لا تحصى [وهذه الاربعة أمّهات مراتب الكمال] ولكلّ من هذه حكم واسم غير ما للأخرى. [فانّ الاولى] تسمّى بالعبوديّة لخروج السّالك في تلك المرتبة من انانيّته ومالكيّته وحرّيّته من أسر نفسه ، وبالولاية لظهور ولاية الله وسلطانه هنالك الولاية لله مولاهم الحقّ ومحبّته الخالصة ونصرة الله له وقربه منه ، وبالامامة لوقوعه امام السّالكين ، وبالفقر لظهور افتقاره الذّاتىّ حينئذ وغير ذلك من الأوصاف والثّانية تسمّى بالامامة لوقوع العبد فيها امام الكلّ أيضا ، ولكونها امام النّبوّة والرّسالة وبمقام التّحديث والتّكليم لتحديث الملائكة للعبد فيها من غير رؤيتهم نوما ويقظة ، وبالولاية لما ذكر في المقام الاوّل وغير ذلك من الأسماء كالصّحو بعد المحو والبقاء بعد الفناء والبقاء بالله ، [والثّالثة] تسمّى بالنّبوّة لكون العبد فيها خبيرا من الله ومخبرا عنه والعبد في تلك المرتبة يسمع صوت الملك في النّوم واليقظة ويرى في المنام شخصه ولا يرى في اليقظة ويسمّى في تلك المرتبة اخبار الملائكة وتلقّى العلوم من دون اخبار الملائكة بالوحي والإلهام لا بالتّحديث والتّكليم للفرق بينها وبين سابقتها ، بانّه ليس في السّابقة الّا التّحديث من دون مشاهدة الملك المحدّث من الله ، [والرّابعة] تسمّى بالرّسالة

١٩٤

لرسالة العبد فيها من الله الى الخلق وفيها يرى العبد ويسمع من الملائكة يقظة ونوما ويسمّى ما به رسالته الى الخلق شريعة وسنّة ومن هاهنا يعلم وجه ما ورد في اخبار كثيرة من الفرق بين الرّسول والنّبىّ (ص) والمحدّث أو الامام : بأنّ الرّسول يسمع من الملك ويرى شخصه في المنام ويعاينه في اليقظة ، والنّبىّ يسمع ويرى في المنام ولا يعاين والمحدّث أو الامام يسمع ولا يرى ولا يعاين ، فانّ المحدّث كما علمت هو الّذى يبقى بعد فنائه من غير رجوع الى مملكته ومن غير احياء لأهل مملكته بالحيوة الملكيّة الاخرويّة حتّى يصير أهل مملكته اسناخا للملائكة فلم يكن له مدرك ملكي حتّى يدرك شيئا منهم لكنّ السّامعة لقوّة تجرّدها وموافقتها لذات الإنسان كأنّها لا تنفكّ عنه فاذا استشعر بذاته بعد صحوه استشعر بالسّامعة أيضا وحييت بحيوته الاخرويّة ، وإذا استشعر بالسّامعة سمع بقدر استشعاره من الملك والنّبىّ هو الّذى رجع بعد حيوته الى مملكته وأحيى الله تعالى له أهل مملكته بالحيوة الثّانية الاخرويّة المناسبة لأهل الآخرة من الملائكة من وجهتهم الاخرويّة لا من وجهتهم الدّنيويّة فيرى في المنام يعنى بالوجهة الاخرويّة للباصرة ويسمع في النّوم واليقظة لقوّة تجرّد السّامعة ومناسبتها لأهل الآخرة ولا يعاين ولا يلامس ، والرّسول هو الّذى رجع بعد رجوعه الى مملكته الى خارج مملكته لاصلاح أهل العالم الكبير ولا بدّ ان يكون أهل مملكته مناسبين لأهل الآخرة من الوجهة الاخرويّة والوجهة الدّنيويّة حتّى يتمّ له الدّعوة بالوجهة الدّنيويّة فيسمع ويرى ويشمّ ويذوق ويلامس في النّوم واليقظة ، ولا يذهب عليك انّ المراد بالرّسالة أعمّ من الرّسالة وخلافتها ، والمراد بالنّبوّة أعمّ من النّبوّة وخلافتها حتّى يشكل عليك ما ورد من الائمّة (ع) انّ الملائكة يطأون بسطنا ، ويلاعبون أطفالنا ، ويصافحوننا ، ونلتقط زغب الملائكة ، وانّهم يزورون في ليلة القدر ولىّ الأمر ، بل نقول : انّ السّالك النّاقص قد يطرو عليه تلك الحالات من الافاقة والرّجوع الى مملكته والى مملكة الخارج بل التّكميل لا يتمّ الّا بطروّ تلك الأحوال ، فالنّبىّ والرّسول لا بدّ لهما من حفظ مراتب كلّ من أهل الملك الصّغير أو الكبير ومراعاة حقوقهم وإبقاء كلّ بحيث يرجع الى الله والنّهى عن تضييع الحقوق وتعطيلها وافناء أهلها ومنعهم عن السّير الى الله والأمر بما يوجب حفظ الحقوق وما يعين على السّير المزبور. والإنسان خلق ذا مراتب عديدة وفي كلّ مرتبة منها له جنود وكلّ منها في بقائه محتاج الى أشياء ففي مرتبته النباتيّة والحيوانيّة يحتاج قواه النباتيّة والحيوانيّة وبقاء بدنه وبقاء نفسه النباتيّة والحيوانيّة والانسانيّة الى المأكول والمشروب والملبوس والمسكن والمركوب والمنكوح ، وفي التّوانى في كلّ منها تضييع لحقّ ذي حقّ أو افناء لذي حقّ ، وفي الإفراط فيها تعطيل لحقّها ولحقّ المراتب الاخر أيضا فالرّسول لا بدّ ان ينهى عن الطرفين ويأمر بالوسط فيها مثل قوله تعالى : كلوا فانّه امر بالأكل ونهى عن تركه ، ولا تسرفوا فانّه نهى عن الإفراط ، وهكذا الحال في الجميع ولمّا كان الإنسان بالفطرة جاذبا لما يحتاج اليه دافعا لمن منعه عنه فلو لم يكن قانون يرجع الكلّ اليه في الجذب والدّفع وقع التّدافع بينهم بحيث يكون تضييع الحقوق وافناء ذوي الحقوق أكثر من ترك الجذب والدّفع فلا بدّ ان يؤسّس الرّسول (ص) قانونا يكون ميزانا للجذب والدّفع ، وان يؤسّس لتأديب من خرج من ذلك القانون قانونا وان يمنع عن جذب ما في يد الغير بلا عوض وبما فيه خديعة النّاس فانّها من رذائل النّفس المانعة عن سيرها الى الله ، وبما فيه ذلّة النّفس مثل التملّق والسّؤال والسّرقة وغير ذلك ممّا فيه رذيلة من الرّذائل ، وبما فيه تعطيل الأرض عن التعمير وبما فيه افناء المال رأسا ، والقمار فيه خديعة النّاس وتعطيل الأرض وافناء المال من أحد الطّرفين رأسا بلا عوض ، وفي مرتبة الانسانيّة خلق ذا قوّة عاقلة مدبّرة لأمور أهل مملكته مسخّرة للواهمة المسخّرة للخيال المسخّر للمدارك والقوى الشّوقيّة المسخّرة للقوى المحرّكة المسخّرة للاعصاب والأوتار والعضلات والأعضاء فهو محتاج الى بقاء العاقلة بهذه الكيفيّة حتّى يحفظ الحقوق فالرّسول (ص) لا بدّ ان يأمر

١٩٥

بما يحفظ هذه الكيفيّة بحيث يؤدّى بالإنسان الى السّلوك الى الله وينهى عمّا يزيل تلك الكيفيّة ، والمسكرات تماما لمّا كانت مزيلة لتسخير العاقلة كان شأن الرّسول (ص) النّهى عنها كما ورد : انّه لم يكن شريعة من لدن آدم (ع) الّا كانت ناهية عن الخمر ، وفي زوال تدبير العاقلة وتسخيرها مفاسد عديدة ولذا سمّيت الخمر بأمّ الخبائث ولكن فيها منافع عديدة من تسمين البدن وتحليل الغذاء وجلاء الأعضاء وتفتيح الّسدد وتشحيذ الذّهن وصفاء القلب وتهييج الحبّ والشّوق وتشجيع النّفس ومنع الشّحّ عنها وغير ذلك.

بيان حرمة شرب دخان الأفيون

وامّا شرب دخان الأفيون الّذى شاع في زماننا فانّ فيه ازالة التدبير العاقلة وتسخيرها تدريجا بحيث لا يعودان ، بخلاف ازالة الخمر فانّ عاقلة السّكران بالخمر بعد الافاقة في غاية التّدبير وسائر القوى فيه في غاية القوّة والسّرعة في امتثال امر العاقلة ، وبشرب دخان الأفيون ينبو العاقلة عن التّدبير ذاتا وينبو الواهمة الّتى خلقت مدركة للمعاني الجزئيّة لان تدرك الآلام واللّذّات الاخرويّة لتحرّك الشّوقيّة للتحريك الى الآخرة عن ادراك المعاني ، والمتخيّلة الّتى خلقت متصرّفة في المعاني والصور بضمّ بعضها الى بعض لاستتمام الجذب والدّفع في معاشه ومعاده والخيال الّذى خلق حافظا للصّور لحسن تدبير المعاش وتحصيل المعاد وحسن المعاملة مع العباد ، والشوقيّة الّتى هي مركب سيره الى الآخرة ومعينة امره في الدّنيا والمحرّكة الّتى هي مركب الشوقيّة والاعصاب الّتى هي مركب المحرّكة وفي نبوّ كلّ تعطيل لحقوق كثيرة ؛ على انّ فيه إضرارا بالبدن وإتلافا للمال ، وإضرار البدن محسوس لكلّ أحد بحيث يعرفون بسيماهم لا يحتاجون الى معرّف وسببه انّ دخان الأفيون بكيفيّته ضدّ للحيوة وانّه مطفئ للحرارة الغريزيّة مجفّف للرطوبة الغريزيّة مسدّد لمسامّ الأعضاء الّتى تنشف الرّطوبات الغريبة والرطوبة الغريزيّة معينة ومبقية للحرارة الغريزيّة الّتى هي معينة للحيوة ومبقية لها والرّطوبة الغريبة منفية للحرارة الغريزيّة وانّ الله تعالى بحكمته جعل جرم الريّة جسما متخلخلا ذا مسامّ لينشف الرّطوبات الحاصلة في فضاء الصّدر من الأبخرة المتصاعدة من المعدة والكبد والقلب حتّى لا تجتمع تلك الرّطوبات فتعفّن فتصير سببا للبرسام والخراج وذات الجنب وذات الصّدر وذات الكبد وذات الرّية ، ودخان الأفيون يجعل الرّية متكاثفة ومسامّها ضيّقة فلا تنشف الرّطوبات كما ينبغي فيحدث الأمراض المذكورة ، ولقد شاهدنا كثيرا من المبتلين به قد ابتلوا بهذه الأمراض وهلكوا ، ففي دخان التّرياق مفاسد الخمر موجودة وفيه مضارّ أخر عوض المنافع الّتى ذكرت في الخمر فهو أشدّ حرمة بوجوه عديدة من الخمر فلعنة الله عليه وعلى شاربه. والإثم قد يطلق على ارتكاب المنهىّ وهو الإثم الشرعىّ وقد يطلق على ما فيه منقصة النّفس وهو المراد هاهنا لانّ الآية من مقدّمات النّهى لا انّها نزلت بعد النّهى عن الخمر والميسر وقد بيّنّا وجه منقصة النّفس الانسانيّة بارتكابهما ، وشأن نزول الآية والاخبار الواردة فيها مذكورة في المفصّلات من أرادها فليرجع إليها.

(وَيَسْئَلُونَكَ) أتى بأداة الوصل لمناسبته مع سابقه بخلاف يسألونك عن الخمر والميسر (ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) والعفو ترك تعرّض المسيء بالسّوء ، أو الصّفح وتطهير القلب من الحقد عليه ، وأطيب المال وخياره ، وفضله وزيادته عن الحاجة ، والمعروف والوسط بين الإقتار والإسراف ، والميسور لا المجهود ، وما يفضل عن قوت السّنة ، والكلّ مناسب يجوز إراداته هاهنا (كَذلِكَ) التّبيين للمنفق بحيث لا يفسد مال المنفق ولا نفسه (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) متعلّق بقوله تتفكّرون اى في امر الدّنيا وشأنها فانّ في مثل هذه الآيات والأحكام الشرعيّة حفظا للدّنيا من وجه وطرحا لها من وجه وتوجّها

١٩٦

الى الدّنيا بوجه والى الآخرة بوجه ولكن يستفاد من كلّ ما ورد في امر الدّنيا وتحصيلها وحفظها انّ المراد منه ليس الّا استكمال الآخرة باستبقاء الدّنيا فشرع لكم الأحكام القالبيّة بحيث اعتبر فيها الدّنيا تقدمة للآخرة وأخذها تقدمة لطرحها والآخرة أصلا ومقصودة لعلّكم تتفكّرون في أمرهما فلا تتعلّقون بالدّنيا ولا تغفلون عن الآخرة ، أو لعلّكم تتفكّرون في دنيا الأحكام وآخرتها يعنى في جهتها الدّنيويّة وجهتها الاخرويّة حتّى تعلموا انّ جهتها الدّنيويّة ليست منظورا إليها الّا مقدّمة لجهتها الاخرويّة ، أو الظرف متعلّق بقوله يبيّن ولعلّكم تتفكّرون جملة معترضة اى يبيّن الله لكم الآيات والأحكام في امر الدّنيا وفي امر الآخرة.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى) اى عن امر اليتامى والقيام بأمرهم وأموالهم ومخالطتهم فانّه ليس المقصود السّؤال عن ذوات اليتامى فانّه كما قيل وروى بعد نزول قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً ،) وقوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) اشتدّ ذلك على من كان عنده يتيم فسألوا رسول الله (ص) عن ذلك فقال الله تعالى له (ص) (قُلْ) يا محمّد (إِصْلاحٌ لَهُمْ) بحفظ نفوسهم وتربيتهم وتكميلهم وحفظ أموالهم وتنميتها وتوفيرها (خَيْرٌ) من الإهمال والاعراض حتّى يهلك نفوسهم ويتلف أموالهم (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ) في المسكن والمعاشرة أو في المأكول والمشروب أو في الأموال (فَإِخْوانُكُمْ) في الدّين اى فهم إخوانكم ومن حقّ الأخ على الأخ المخالطة وعدم الفرق بينه وبين نفسه بل ترجيحه على نفسه في حفظ النّفس والمال والأكل والشّرب ، فاحذروا من الخيانة وترجيح أنفسكم عليهم وافسادهم في أنفسهم وأموالهم فان خنتم أو أصلحتم فلكم الجزاء على حسبه (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) فلا يعزب شيء عن علمه حتّى لم تجزوا بحسبه وقد ورد السّؤال كثيرا عن امر الأيتام ومخالطتهم والدّخول على من عنده أيتام وأكل الغذاء معهم وخدمة خادم الأيتام لهم وغير ذلك وكانوا يجيبون بما حاصله انّه ان كان فيه صلاح الأيتام فلا بأس والّا فلا ، بل الإنسان على نفسه بصيرة فيعلم قصده ونيّته من المخالطة والدّخول والأكل وغير ذلك (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ) في امر الأيتام بعدم التّرخيص في المخالطة والأمر بحفظ أموالهم وأنفسهم مع المداقّة في أمرهما (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ) لا يمنعه مانع ممّا يشاء وممّا يحكم (حَكِيمٌ) لا يفعل الّا ما اقتضته الحكمة واستعداد النّفوس واستحقاقها والجملة استيناف بيانىّ تعليل لتلازم الجزاء للشّرط ولرفع المقدم كأنّه قال : لو شاء الله لأعنتكم لأنّه عزيز لا يمنع من مراده ولكنّه لم يشأ لانّه حكيم لا يفعل ما فيه مشقّة الأنفس من غير استحقاق (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) عطف باعتبار المعنى فانّ قوله تعالى : (قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ) وقوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) معناه : أصلحوا لهم وخالطوهم نحو مخالطة الاخوة ووجه المناسبة أنّهم كانوا يتكفّلون اليتيمة ويخالطونها في بيوتهم للنّكاح ان كانت ذات مال ، وان لم تكن ذات مال أعرضوا عنها ، وربّما كانت تجتمع عند الرّجل عدّة نساء من اليتامى لم يكن يقوم بحقوقهنّ فقال تعالى بطريق العموم : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) من اليتامى وغيرهن (حَتَّى يُؤْمِنَ) ولا منافاة بين هذه الآية وبين آية إحلال الكتابيّات حتّى يكون إحداهما ناسخة للأخرى (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ) بجمالها أو مالها أو حسبها أو نسبها (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ)

١٩٧

المشركون والمشركات (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) اى الى الشّرك المؤدّى الى النّار فحقّهم عدم المخالطة والمصاهرة (وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ) حقّ العبارة ان يقول : والمؤمنون والمؤمنات يدعون الى الجنّة لكنّه عدل عنه اشعارا بانّ دعاء المؤمنين دعاء الله.

تحقيق تكيّف النّفوس من مجاورها

اعلم انّ نفس الإنسان قبل ان تستكمل وتتمكّن في شيء من السّعادة والشّقاوة قابلة محضة تتأثّر من كلّ ما تجاوره كالمرآة الصّافية الّتى ينطبع فيها كلّ ما يواجهها والمسلم والمسلمة والمؤمن والمؤمنة بواسطة الاتّصال بالنّبىّ (ص) والولىّ (ع) بالبيعة العامّة أو الخاصّة ينطبع في نفس كلّ منهم فعليّة ما من النّبىّ (ص) أو الولىّ (ع) وكلّ من يجاوره يتأثّر ممّا انطبع فيه والمشرك والمشركة سواء كان الشّرك بالله أو بالرّسالة أو بالولاية ينطبع من الشّيطان فعليّة ما في نفس كلّ منهما وكلّ من يجاوره يتأثّر ممّا انطبع فيه وينطبع فيه شيء ما منه ، ومنه يعلم وجه خيريّة العبد المسلم والامة المسلمة من المشرك والمشركة فانّهما مظهر ان للنّبىّ (ص) وهما مظهر ان للشّيطان ، ويعلم أيضا وجه العدول الى قوله تعالى : (اللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ) فانّ فعليّة النّبىّ (ص) بما هو نبىّ فعليّة من الله ويظهر وجه نسبة الدّعوة الى المشركين بطريق العموم وتأدية الفعل بالمضارع الدّالّ على الاستمرار مع انّ أكثر المشركين لا يدعون أحدا ومن يدعو لا يدعو مستمرّا ، وهكذا الحال في جانب المسلمين لانّ هذا التأثّر والانطباع لا يكون باللّسان والاستماع بل قد يكون اللّسان والسّماع معدّين له (بِإِذْنِهِ) اى بإباحته وترخيصه وهو متعلّق بيدعو وبه وبيدعون على سبيل التّنازع والمقصود انّ دعاء المشركين والمسلمين ليس بدون اذن الله تعالى وترخيصه لانّ جعله تعالى النّفوس بحيث تنطبع فيها فعليّة مجاورها وفعليّة الشّيء بحيث تؤثّر فيما تجاوره انّما هو بجعله تعالى وجعله اذنه التّكوينىّ (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ) عطف على يدعو يعنى انّ هذه الدّعوة التّكوينيّة من آيات حكمته وقدرته تعالى وتأثّر المجاور وظهور تلك الدّعوة فيه بيان للآيات ، أو المراد انّه يبيّن احكامه الشرعيّة بلسان أنبيائه (ص) وأوصيائهم (ع) (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) بدقائق الحكم المودعة في الآيات بسبب ظهور آية الشّرك من المشرك والمشركة وآية الإسلام من المسلم والمسلمة فيهم أو بسماع الآيات والأحكام من الأنبياء عليهم‌السلام.

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) من حيث المجامعة بقرينة الجواب ؛ كانوا يجتنبون النّساء في الشّرائع السّابقة حال الحيض أشدّ اجتنابا من هذه الشّريعة على ما نقل ، والانسانيّة تكره مضاجعتهنّ في تلك الحالة فكانوا يسألون بعد بعثته (ص) عن ذلك (قُلْ هُوَ أَذىً) للانسانيّة من حيث استقذاره ولنفس الإنسان من حيث تأثّرها وغلبة الحيوانيّة عليها حتّى تستلذّ المضاجعة ولا تكرهها حينئذ ، ولبدن الرّجال من حيث تأثّر الآلة من اثر الدّم وكيفيّته حتّى يورث بعض الأمراض ولبدن النّساء بوجه (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ) كناية عن ترك المجامعة كما انّ المجامعة والمضاجعة والمقاربة كلّها كنايات عن النّكاح (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) من الدّم بالانقطاع وقرئ يطّهّرن بالتّشديد من التّطهّر فيكون المراد التطهّر بالاغتسال أو الوضوء أو غسل الفرج (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) ان قرئ الاوّل بالتّخفيف كان حكم حالة الدّم وحكم ما بعد الاغتسال أو الوضوء أو غسل الفرج منصوصا وحكمهنّ بعد انقطاع الدّم وقبل ذلك مجملا ، وان قرئ الاوّل بالتّشديد كان حكم ما بعد ذلك

١٩٨

إباحة المقاربة وحكم ما قبله الاعتزال وجوبا أو استحبابا وكيف كان فالآية مجملة محتاجة الى البيان (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) اى من مكان وثقبة أمركم الله بالإتيان منه ولا تأتوهنّ من مكان لم يأمركم الله بالإتيان منه ، فعلى هذا كانت الآية دالّة بمنطوقها على إباحة الإتيان من الفروج وبمفهومها على عدم إباحة الإتيان من غير الفروج ، أو المعنى فأتوهنّ من حيثيّة امره تعالى لا من حيثيّة محض الشبق أو نهيه ، أو من حيث أمره يعنى غاية امره مثل الاستيلاد واستفراغ البدن وفراغ البال من الخطرات الناشئة من امتلاء الاوعية والاستيناس وسكون النّفس والمقصود من هذا القيد ان يكون النّظر في المضاجعة الى نفس أمره أو غاية أمره من دون غفلة عنه تعالى فانّ المضاجعة مع الغفلة لا تكون الّا بشركة الشّيطان أو استقلاله ؛ وعلى هذا فالآية تدلّ بمفهومها على النّهى عن إتيان المحرّمات بالذّات أو بالعرض وعن الإتيان من الأدبار وعن الإتيان مع الغفلة عن الأمر وغاياته ، وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) يدلّ على هذا فانّ التّوّاب من كان كثير المراجعة الى الله في الكثرات فكأنّه قال : كونوا كثيرى النّظر الى الأمر وكثيرى الرّجوع في جميع أحوالكم اليه تعالى والى أمره حتّى في أخسّ أحوالكم الّذى هو إتيان النّساء لانّ الله يحبّ كثيرى الرّجوع الى الله والى امره (وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) من الاقذار الجسمانيّة بالماء فانّ الطّهارة الكاملة من الاقذار لا تحصل الّا بالماء ومن الأدناس النّفسانيّة والفضلات الشّيطانيّة بماء الأمر الإلهيّ ، نسب الى الصّادق (ع) انّه قال : كان النّاس يستنجون بالكرسف والأحجار ثمّ أحدث الوضوء وهو خلق كريم فأمر به رسول الله (ص) وصنعه فأنزل الله في كتابه (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ، وعنه (ع) انّ الآية نزلت في رجل من الأنصار أكل الدّباء فلان بطنه فتطهّر بالماء ولم يكن ديدنهم قبل ذلك التّطهير بالماء (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ) الحرث له معان لكنّ المناسب هاهنا معنى الزّرع ، وحمل المعنى على الذّات بأحد الوجوه الّتى ذكرت في حمل المعنى على الذّات ، والمقصود المبالغة في كونهنّ محلّ الزّراعة بحيث كأنهنّ لا شأن لهنّ الّا الزّرع (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ) من حيث كونهنّ حرثا لكم وبعد ما ذكر عند قوله تعالى : (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) من مفهوم المخالفة واعتبار حيثيّة وصف العنوان هاهنا لا يبقى شكّ لأحد في عدم إباحة الأدبار أو كون حكمه من المجملات لا انّ إباحته مستنبطة من الآية (أَنَّى شِئْتُمْ) كيف شئتم ، أو في اىّ ساعة شئتم ، أو في اىّ مكان شئتم ، وامّا معنى من اىّ مكان شئتم وارادة الثّقبتين منه فيجوز استعمال (أَنَّى شِئْتُمْ) فيه لكن ينافيه تعليق الإتيان على عنوان الحرث ولو سلّم عدم المنافاة بسبب عدم اعتبار حيثيّة العنوان في الحكم كانت الآية بالنّسبة الى الأدبار مجملة متشابهة فالاستدلال على الإحلال بهذه الآية ليس في محلّه ، نسب الى الرّضا (ع) انّه قال : انّ اليهود كانت تقول : إذا أتى الرّجل المرأة من خلفها خرج ولده أحول فأنزل الله تعالى (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) من خلف وقدّام خلافا لقول اليهود ولم يعن في أدبارهنّ ، فقوله من خلف وقدّام اشارة الى جعله (ع) انّى شئتم بمعنى من انّى شئتم لكن نفى ارادة الأدبار ، وقيل أنكرت اليهود الوطي إذا كانت المرأة قائمة أو قاعدة فردّ الله عليهم (وَقَدِّمُوا) امر الله على امر الشّيطان أو على امر النّفس أو على العمل في إتيان النّساء أو في كلّ عمل (لِأَنْفُسِكُمْ) اى لانتفاع أنفسكم الّتى هي مقابلة عقولكم وطبائعكم والمقصود انّكم إذا قدّمتم في إتيان النّساء الأمر الالهىّ واتيتموهنّ من جهة الأمر كان انتفاعه للأنفس المقتضية لمخالفة الأمر والغفلة عنه أو لانتفاع ذواتكم فانّه إذا كان الفاعل والمفعول واحدا في غير باب علم يتخلّل الأنفس

١٩٩

بين الفعل ومفعوله أو المعنى قدّموا أنفسكم بزيادة لام التّقوية يعنى قدّموا ذواتكم على الشّيطان أو على النّفوس المقتضية لمخالفة الرّحمن في الأعمال ولا سيّما الأعمال الموافقة للنّفوس كإتيان النّساء حتّى لا تغلب عليكم فتلهيكم عن أمره أو يكون قدّموا بمعنى تقدّموا اى تقدّموا على الشّيطان أو على الأنفس لانتفاع أنفسكم أو ذواتكم (وَاتَّقُوا اللهَ) في تقديم أمر الشّيطان أو امر النّفس أو تقدّم واحد منها عليكم (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) في الآخرة أو في الحال الحاضر ولذا أتى باسم الفاعل المتبادر منه الزّمان الحاضر يعنى إذا علمتم انّكم في حال العمل ملاقو الله أو في حال الجزاء ملاقوه اجتنبتم القبيح وتقديم الشّيطان وهوى النّفس (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) صرف الخطاب منهم اليه (ص) لانّه أهل التّبشير أو الخطاب عامّ وهذا الكلام أمر ونهى ووعد ووعيد (وَلاتَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً) معرضا (لِأَيْمانِكُمْ) جمع اليمين بمعنى الحلف يعنى لا تكثروا الحلف بالله صادقا أو كاذبا أو لغوا تأكيدا للكلام أو لا تجعلوا الله حاجزا عن اعمال الخير لأجل ايمانكم على تركها وكلاهما مرويّان (أَنْ تَبَرُّوا) لان لا تبرّوا أو كراهة ان تبرّوا أو ارادة ان تبرّوا أو لأن تبرّوا أو على ان تبرّوا أو في ان تبرّوا اى في حقّ البرّ ، أو هو بدل عن الايمان على ان يكون المراد بها الأمور المحلوف عليها (وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع ما تتفوّهون به من الايمان بالله يعلم سرائركم فيؤاخذكم ان كان ايمانكم كاذبة ونيّاتكم غير صادقة (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ) اى بالإتيان بكلام غير معتدّ به في الايمان أو بالخطاء في الايمان وعلى اىّ تقدير فالظّرف لغو متعلّق باللّغو لكونه مصدرا مقتضيا لهذا الظّرف ولا حاجة الى جعله ظرفا مستقرّا حالا من اللّغو والمراد به الايمان التّأكيديّة الّتى ليست مرادفة للنذر والعهد ولا مثبتة لحقّ أو مبطلة لحقّ ، وقيل : المراد باللغو في الايمان الخطاء فيها بان يحلف صادقا ثمّ تبيّن انّه اخطأ وكان كاذبا فلا اثم عليه ولا كفّارة ، وقيل : المراد اليمين الّتى يحلف بها الغضبان فلم يكن فيها كفّارة ان حنث ، وقيل كلّ يمين ليس له الوفاء بها ولا يكون في حقّ ولا كفّارة فيها فهي لغو (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) بالّذى كسبته أو بكسب قلوبكم.

اعلم انّ العمل فعلا كان أو قولا إذا لم يكن عن نيّة قلبيّة واعتقاد جازم بالغاية المترتّبة عليه كان لغوا ولا يثبت منه أثر معتدّ به في القلب ولا يصدق عليه انّه كسب القلب منه شيئا وإذا كان من نيّة قلبيّة واعتقاد جازم بالغاية منه حصل صورة ذلك العمل في مقام إجمال النّفس اوّلا ثمّ في مقام تفصيلها ثمّ حرّك الشوقيّة ميلا وعزما وارادة ثمّ حرّكت الارادة القوّة المحرّكة ثمّ حرّكت المحرّكة الاعصاب ثمّ الأوتار والعضلات والأعضاء ثمّ يحدث الفعل ثمّ ينتقل ذلك العمل من طريق الباصرة أو السّامعة الى الحسّ المشترك ثمّ الى الخيال والواهمة ثمّ الى مقام إجمال النّفس ، فبانتقاش الفعل مرّتين في النّفس وآلاته يحصل اثر ثابت فيها فيصدق عليها انّها كسبت من العمل شيئا ، فمعنى قوله تعالى (وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) يؤاخذ على يمين تورث أثرا في قلوبكم بسبب العزم عليها من قلوبكم وانتقاشها فيها وفي آلاتها مرّتين (وَاللهُ غَفُورٌ) يغفر لغو الايمان ولا يؤاخذكم به (حَلِيمٌ) لا يعجل بمؤاخذة ما يؤاخدكم عليه ثمّ ذكر تعالى قسما واحدا من أقسام الايمان الّتى يؤاخذ بها فقال (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ) يبعدون بالحلف (مِنْ نِسائِهِمْ) بان يحلفوا ان لا يجامعوهنّ (تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) من النّساء وأهلهنّ ومن حكّام الشّرع فلا يطالبوهم بشيء من المضاجعة والطّلاق (فَإِنْ فاؤُ) في تلك

٢٠٠