تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

(وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعَذابِ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا) إذ ظرف لشديد العذاب ، أو لقوله لله ، أو ليرون ، أو بدل من العذاب ، أو من إذ الاولى ؛ والمعنى لو يرى الّذين ظلموا إذ تبرّأ الّذين اتّبعوا المتبوعون ، أو الاتباع على قراءة المجهول والمعلوم (مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا) الاتباع أو المتبوعين على القراءتين (وَرَأَوُا الْعَذابَ) حال بتقدير قد أو عطف على تبرّأ أو على اتّبعوا الاوّل أو الثّانى (وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ) جمع السّبب وهو الحبل الّذى يشدّ به الشّيء ويجرّ والأسباب استعارة للوصلات الّتى بينهم من القرابات وصور المبايعات الدّينيّة النّاشئة من مقام أنفسهم الشّيطانيّة والتّناسبات الدّنيويّة ، ولفظ بهم اما صلة تقطّعت على ان يكون الباء للتّعدية والمعنى شتّتهم الأسباب الّتى كانت بينهم وكانت سببا لاجتماعهم وتؤلّفهم في الدّنيا فانّها كانت لأغراض فانية وبين نفوس هالكة وكانت مانعة عن الالفة الرّوحانيّة الباقية فصارت أسبابا للفرقة في الآخرة أو لفظ بهم حال عن الأسباب تقدّم عليه والباء للإلصاق (وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً) الى الدّنيا لو للتمنّى ولذا نصب الفعل بعد الفاء في جوابه (فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ) هناك (كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا) هاهنا (كَذلِكَ) اى مثل اراءة اتّباعهم للرّؤساء المضلّين حسرة عليهم (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ) جميعا (حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ) يعنى كما انّ أصل اتّباعهم لرؤسائهم كان سببا لبعدهم عن الله وقربهم الى دار العذاب فتحسّروا عليه جميع أعمالهم الّتى عملوها كانت سببا لبعدهم وحسرة وندامة عليهم ، ونسب الى الصّادق (ع) أنّه قال في قوله عزوجل : (يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ،) هو الرّجل يدع ما له لا ينفقه في طاعة الله بخلا ثمّ يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة الله أو معصية الله فانّ عمل به في طاعة الله رآه في ميزان غيره فرآه حسرة وقد كان المال له ، وان كان عمل به في معصية الله قوّاه بذلك المال حتّى عمل به في معصية الله عزوجل ، وهذا اشعار بوجه من وجوه التّأويل فانّ الممسك بخلا ليس الّا من اتّباع الجهل وان كان بحسب الظّاهر مؤمنا (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ) حال عن فاعل قال أو فاعل اتّبعوا أو مفعول يريهم وفيه ردّ لتمنّاهم وتشديد عليهم بذكر تأبيد عذابهم.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) من أنواع المأكول والمشروب ولا بأس بتعميم الاكل والآكل والمأكول فانّ القوى كلّها لها أكل ومأكول خاصّان بها ، والمراد نفى البأس أو إيجاب الاكل أو استحبابه بحسب الأشخاص بالنّسبة الى الاكل بالفم وسماع الأصوات الحسنة والنّظر الى الأمور المعجبة وشمّ الرّوائح الطيّبة ولمس الملموسات الشّهيّة وهو تعريض بمن يتحرّج عن أكل الطيّبات ولبس الملابس البهيّة وعن النّكاح وغيرها من حظوظ النّفس نعم صرف الهمّ إليها وجعلها غاية للخلقة أو ترك اتّباع الخلفاء أو اتّباع من لا يستأهل للاتّباع والعداوة مع من يستأهل للاتّباع كلّها حرام وكلّما فعل هذا التّارك للاتّباع كان حراما ، سواء أكل الجريش أو الشّهىّ ، وسواء لبس الخرق أو الجميل ، وسمع الصّوت المنكر أو الحسن وهكذا لكن ليس الحرمة بحسب ظاهر الشّريعة ، والتّابع للإمام (ع) إذا وجد انّ ارتكاب شيء من ملاذّ النّفس يقوّى دواعيه النّفسانيّة ويضعّف داعي العقل كان عليه الاجتناب منه وسنبيّن وجه اختلاف هذه الآية مع قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) في ترك الأكل والتحرّج بالطيّبات الّتى لم يحظرها الشّريعة أو في الاكل كما نبيّنه.

١٦١

بيان خطوات الشّيطان

والخطوة اثر القدم أو الفرجة بين القدمين والمراد بخطوات الشّيطان الخيالات والخطرات الفاسدة والاهوية الكاسدة الناشئة منها واتّباع خطواته في المأكول تحصيله من غير وجهه وفي الاكل ان يؤكل المأكول حين كون الاكل تابعا لائمّة الضّلالة أو معاندا لائمّة الهدى أو غافلا عن الاتّباع لائمّة الهدى وائمّة الضّلالة أو تابعا لائمّة الهدى غافلا عن التّبعيّة وعن ذكر الله آكلا لمحض تشهىّ النّفس من غير ملاحظة أمر من الله وقوّة للبدن وإبقاء لمركب الرّوح للعبادة وبالجملة الآكل إذا كان مسلما حقيقة أو مؤمنا بالايمان الخاصّ وكان متذكّرا لله وآكلا لأمره تعالى وإباحته تعالى لتقوية ظهره وبقاء بدنه للعبادة وتفريح نفسه بسبب الوصول الى حظوظها وكان المأكول ممّا أباح الشّريعة كان أكله من غير اتّباع لخطوات الشّيطان ، وان كان غير ذلك كان أكله باتّباع خطوات الشّيطان وكان غذاؤه مقويّا للشّيطان المغوى ومضعّفا للملك الزّاجر وقد ذكروا أنّ الاكل مع تشتّت البال يورث التفرقة في الخاطر ومع جمعيّته يورث الاطمئنان وجمعيّة الخاطر ، [فاحذروا إخواني] من اتّباع خطوات الشّيطان فانّ اتّباعه يجعله متمكّنا منكم بحيث لا يمكنكم الفرار منه ، وقد يؤوّل خطوات الشّيطان بأئمّة الضّلالة فانّهم المتحقّقون بخطوات الشّيطان كأنّه ليس في وجودهم الّا اثره (إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر عداوته أو مظهر لعداوته على من كان له جهة إلهيّة لا على غيره.

اعلم انّ الشّيطان من عالم الظّلمة وأنّ الظّلمة ضدّ للنّور ومفنية له كما انّ النّور ضدّ لها ومفنيها وانّ الإنسان ببدنه ونفسه واقع بين عالمي النّور والظّلمة ولتصرّفها وانّ كلّ شيء يقتضي بالفطرة ان يصير مجاورة سنخه وانّ كلّ ذي شعور يقتضي بفطرته السّعة والاحاطة بما يمكن له الاحاطة به ولهذا كان كلّ عاقل يطلب الاحاطة العلميّة بما لم يعلمه وانّ اللّطيفة السّيارة الانسانيّة طليعة من عالم النّور تنزّلت منه وأشرقت على النّفس الحيوانيّة والانسانيّة وهذه الطّليعة ما دامت باقيّة لا يتيسّر للشّيطان التصرّف التامّ في الإنسان ، وإذا انطفت صار ملك الإنسان ملكا للشّيطان من غير معارض ، فاذا تحقّق ذلك علم انّ الشّيطان عداوته للإنسان ذاتيّة ظاهرة على من كانت هذه اللّطيفة فيه باقية (إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ) جواب للسّؤال عن حاله مع الإنسان أو عن علّة النّهى عن اتّباع خطواته ، والسّوء كلّ ما عدّه الشّرع أو العقل أو العرف قبيحا لكنّ المراد منه هاهنا ما لم ينته في القبح (وَالْفَحْشاءِ) وهو ما انتهى من ذلك في القبح (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) حقيقته أو اثره النّافع أو الضارّ كان تنسبوا الحرمة أو الاباحة في شيء من الادوية أو الاغذية الى الله تعالى من غير ان تعلموا أنّه ضارّ أو نافع.

تحقيق القول على الله بما لا يعلمه

وعلى هذا إذا علم الإنسان أنّ هذا الدّواء بحسب الأسباب الطبيعيّة مضرّ لشخص خاصّ أو لعموم النّاس لا مانع له من ان يقول : هذا حرام من الله لهذا الشخص أو لعموم النّاس ، وان كان هذا يرجع الى ما علم حرمته من الشّريعة بالضّرورة ، أو ان تقولوا وتفتروا على الله ما لا تعلمون انتسابه الى الله من الأحكام الشّرعيّة والأخلاق النّفسيّة والعقائد الدينيّة وعلم ذلك امّا بالوحي أو بالاتّصال الى عالم الأمر أو بالتّقليد من صاحب الوحي أو صاحب الاتّصال ؛ فصاحب الوحي لا ينطق عن الهوى بل ينطق عن وحي يوحى ، وصاحب الاتّصال هو الّذى علم حقيقة الأمر وآثاره فلا ينطق عن الهوى أفتمارونه على ما يرى وصاحب التّقليد شأنه التسليم يقول : كلّ من عند ربّنا ، وامّا غير الثّلاثة فلا يجوز له القول في الضارّ والنّافع من الأشياء ولا القول بالحلّ والحرمة فيها والظّنّ لا يقوم هاهنا مقام العلم الّا ان يدلّ دليل على خروجه من القضيّة الكلّيّة القائلة بأنّ الظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا والعامّة العمياء القائلة بالظّنّ والرّأى والقياس

١٦٢

والاستحسان قائلون على الله ما لا يعلمون وامّا الخاصّة فليس شأنهم الّا التسليم واتّباع صاحب الوحي والاتّصال وتقليدهم ، نعم ان خرجوا من التّسليم والتّقليد واتّبعوا الرّأى والقياس واجترءوا على الفتيا من غير اذن واجازة من صاحب الاجازة كانوا مثلهم من غير فرق ولا يستعمل العلم في الظّنّ حتّى يجوز ادّعاء الظّنّ من العلم هاهنا وظنّيّة الطريق لا يفيد الّا الظّنّ بالحكم ، والقطع بجواز العمل بالمظنون غير القطع بالحكم فنسبة المظنون الى الله قول على الله بما لا يعلم والتّصويب ليس من مذهب الشّيعة وقد صرّح بعض العامّة بأنّ في هذه الآية منعا من اتّباع الظّنّ في المسائل الدّينيّة ولا حاجة لمن تأمّل فيها ادنى تأمّل الى بيان آخر ولكن لمزيد التّوضيح نذكر قليلا ممّا ورد من المعصومين (ع) فنقول : نسب الى الصّادق (ع) أنّه قال : ايّاك وخصلتين ففيهما هلك من هلك ؛ ايّاك ان تفتي النّاس برأيك أو تدين بما لا تعلم ، وعنه (ع): أنهاك عن خصلتين فيهما هلك الرّجال ، أنهاك ان تدين الله بالباطل وتفتي النّاس بما لا تعلم ، وعنه (ع) انّ الله خصّ عباده بآيتين من كتابه ان لا يقولوا حتّى يعلموا ولا يردّوا ما لم يعلموا ، قال الله تعالى : (أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَ) وقال بل كذّبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولمّا يأتهم تأويله ، وعن الباقر (ع) من أفتى الناس بغير علم ولا هدى لعنته ملائكة الرّحمة وملائكة العذاب ولحقه وزر من عمل بفتياه ، وعنه (ع) انّه سئل ما حقّ الله على العباد؟ ـ قال : ان يقولوا ما يعلمون ويقفوا عند ما لا يعلمون ، وعن الصّادق (ع) انّه قال : قال رسول الله (ص): من عمل بالمقائيس فقد هلك وأهلك ومن أفتى النّاس بغير علم وهو لا يعلم النّاسخ من المنسوخ والمحكم من المتشابه فقد هلك وأهلك ، وأمثال هذه الاخبار كثيرة جدّا (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ) عطف على محذوف جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل فما يفعل الّذين يأمرهم الشّيطان؟ ـ فقال : يتّبعونه ، وإذا قيل لهم (اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) في ولاية علىّ (ع) على ما هو المقصود من بيان حال المنافقين مع علىّ (ع) (قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا) ويجوز ان يكون عطفا على محذوف جوابا للسّؤال عن حال السّوء والفحشاء والقول على الله على ما سبق من التّأويل (أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً) انكار وتوبيخ على تقليد من لا يميّزه الإنسان ولا يعلم حاله بأنّه من أهل التّحقيق والعلم الّذين أغناهم الله بعلمهم من غيرهم ، أو من أهل التّقليد العاقلين الّذين لا يستقبح تقليدهم لاتّباعهم للعاقل فانّ قوله تعالى (وَلا يَهْتَدُونَ) نفى للاهتداء الى العاقل ، وهذه الآية بيان لحال النّاس من أهل كلّ مذهب الّا من شذّ وندر فانّ الكلّ ينادون بأعلى الأصوات بلسان الحال : انّا لا نقدر على ترك اتّباع ما وجدنا عليه آباءنا ، لاتّكالهم على التّقليد وعلى ما رأوه من آبائهم واقرانهم وممّن سمّوه عالما من زمان صغرهم من غير اعمال رويّة وتميز ونعم ما قيل :

خلق را تقليدشان بر باد داد

اى دو صد لعنت بر اين تقليد باد

(وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا) عطف على جملة إذا قيل (الى آخرها) ووضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بأنّ من كان هذا جوابه كان كافرا ، أو حال المعنى انّهم قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا والحال أنّهم كالبهائم أو آبائهم كالبهائم في عدم التّفطّن (كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً) نعق بغنمه كمنع وضرب نعقا ونعيقا ونعاقا ونعقانا صاح بها وزجرها والمعنى مثل هؤلاء القائلين أو آبائهم في عدم قصد المعنى من كلماتهم كمثل داعي البهائم أو رادعهم في عدم قصد المعنى من ألفاظه سوى الدّعاء أو النّداء والزّجر

١٦٣

أو مثل القائلين أو آبائهم في عدم تفطّن المعنى من كلمات الغير كمثل بها ثمّ الّذى ينعق بالبهائم الّتى لا تسمع من الألفاظ الّا دعاء وزجرا ، والمقصود انّ مثل الكافرين بولاية علىّ (ع) في دعائك لهم الى ولايته كمثل بهائم الدّاعى الّتى لا تسمع الادعاء ونداء ، روى عن الباقر (ع) أنّه قال : اى مثلهم في دعائك ايّاهم الى الايمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم الّتى لا تفهم وانّما تسمع الصّوت ولا يلزم في التشبيهات المركّبة ان يصحّ التشبيه بين أجزاء الطّرفين فضلا عن التطابق في الترتيب (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) قد مضى بيان لهذه في اوّل السّورة (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) لتنزّلهم الى مقام المدارك الحيوانيّة وسدّهم روازنها الى العقل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) نادى المؤمنين خاصّة بعد نداء النّاس أجمعين تشريفا لهم كأنّ نداء النّاس كان تقدمة لندائهم ولذلك غيّر أسلوب الأمر بالأكل بنسبة الرّزق الى نفسه وإيقاعه عليهم كأنّهم المقصودون بإيجاد المأكول وتقديم الطيّبات وافادة كون الأمر بالأكل للوجوب أو النّدب هاهنا بإفادة الاباحة من رزقناكم بخلاف سائر النّاس فانّه لا يستفاد من أمرهم الّا الاباحة وبالتّرغيب الى الشّكر بعد الأمر بالأكل كأنّهم لا حاجة لهم الى التّحذير ولا خطوة للشّيطان فيهم ، والإتيان بالشّرط التّهييجىّ بعد الأمر بالشّكر وتعيين المحرّمات كأنّه لا حاجة لهم الى التّحذير منها انّما الحاجة الى تشخيص ما يحترز منه (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ) المراد بالشّكر هاهنا صرف النّعمة في وجهها لاستفادة ملاحظة المنعم والانعام في النّعمة من رزقناكم ولذا التفت من التكلّم الى الغيبة كأنّه قال بعد ملاحظة أنعامنا في النّعمة ينبغي التّوجّه الى ما خلقت له بالانصراف من الحضور والتّوجّه الى ما خلقت لأجله (إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) شرط تهييجىّ وتنبيه على أنّ المؤمن ينبغي ان يكون كون عبادته مقصورة على معبوده لا ينظر في عبادته الى غيره من الرّضا والقرب والنّعيم والخلاص من الجحيم والأغراض المباحة الفانية والأغراض الفاسدة المحرّمة من الرّيا والسمعة والمناصب والجاه والتحبّب الى النّاس وغير ذلك مسلّما مفروغا عنه (إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ) والحصر هاهنا ضافىّ يعنى لا ما حرّمتموه بأهوائكم من البحيرة والسّائبة والوصيلة والحام وغير ذلك ممّا لم يرد به نهى من الله (وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) وما رفع الصّوت بسببه لغير الله يعنى ما ذكر اسم غير الله عليه وقوله (لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) اعمّ ممّا ذكر اسم غير الله عليه فالتّخصيص هاهنا بما ذكر اسم غير الله عليه امّا للاهتمام بحرمة هذا القسم لشدّته أو لأنّ عدم ذكر اسم الله لا ينفكّ عن ذكر اسم غير الله فانّ النّفس ان لم تكن مؤتمرة بأمر الله كانت مؤتمرة بأمر الشّيطان وإذا لم تكن متذكّرة بذكر الله كانت متذكّرة بذكر الشّيطان لعدم خلوّها من ايتمار ما وذكر ما ، والتّفسير بذبيحة ذكر اسم غير الله عليها بيان لتنزيل الآية ، ولا يخفى على من استبصر اجمالا بطريق التّأويل تعميم ما أهلّ به لكلّ ما يدخل تحت اليد ولكلّ فعل من افعال القوى يعنى لا تأخذوا ولا تأكلوا ولا تنكحوا ولا تفعلوا صغيرا ولا كبيرا ذكر اسم غير الله أو لم يذكر اسم الله عليه ، وفسّر بما ذكر اسم الله أو اسم غير الله لأجل غير الله يعنى ما ذبح لأجل الأصنام أو لأجل ما نصبوه للعبادة سوى الأصنام (فَمَنِ اضْطُرَّ) الى شيء من هذه المحرّمات (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) من البغية بمعنى الطلب أو من البغي بمعنى الفجور والزّنا ، أو من البغي بمعنى الاستطالة وفسّر في الخبر بطالب الصّيد لهوا وبطالب اللّذّة وبالباغى المستطيل على الامام والعادي المتجاوز عن الحدّ سواء كان التّجاوز عن الحدّ في الامامة بان يقول بامامة امام باطل أو بتشريك امام باطل للإمام الحقّ

١٦٤

أو بالغلّو في الامام الحقّ بان يقول فيه ما لم يقله هو في حقّه أو في سائر الحقوق الإلهيّة والخلقيّة ، أو في جملة الأفعال الصّادرة من المدارك والقوى العمّالة فانّ المفرط والمفرّط فيها متجاوز عن الحدّ وعاد ، وقد فسّر بكلّ منها في الاخبار (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في الاكل عن هذه (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر عليكم ما هو نقص وشين لكم (رَحِيمٌ) يرحمكم بالاذن في المخمصة ان ترتكبوا ما حرّمه عليكم في غيرها ، عن الصّادق (ع): من اضطرّ الى الميتة والدّم ولحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت فهو كافر (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ) امّا المقصود منافقو الامّة واسقاطهم من الكتاب مناقب علىّ (ع) ومثالب أحزابهم ولذا أتى بالمضارع اخبارا بما يقع بعد ، أو المراد أعمّ من أهل الكتاب ومنافقي الامّة و «من الكتاب» صلة أنزل اى ما أنزل الله من اللّوح المحفوظ أو من مقام النّبوّة وهو مقام القلب الى الصّدر وعالم الطّبع أو حال ممّا أنزل الله ، ومن للتّبعيض على ان يكون المراد بالكتاب التّدوينىّ أو اعمّ منه ومن احكام النّبوّة (وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) قد مضى بيان مبسوط لاشتراء الثمن القليل بالآيات في اوّل السّورة عند قوله (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً)(أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ) اى ما يدخلون بالأكل من الأعواض الّتى يأخذونها بما أنزل (فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ) ومثل هذه قد تكرّر في الكتاب والكلّ مبنىّ على التّضمين (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) كناية عن عدم الاعتداد بهم لشدّة الغضب (وَلا يُزَكِّيهِمْ) لا يطهّرهم ، أو لا يثنى عليهم بأنّهم أزكياء ، أو لا ينعم عليهم من زكى الرّجل إذا صلح وتنعّم (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى) اى استبدلوا الضّلالة الّتى هي ملك الشّيطان بالهدى الّذى كان لهم ملكا في الدّنيا (وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ) في الآخرة (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) فما أجرأهم على فعل يدخلهم في النّار ويبقيهم فيها فهو تعبير عن الشّيء باللّازم ولذا اختلف الاخبار في تفسيرها واختلف المفسّرون في بيانها (ذلِكَ) المذكور من الحكم على كاتمي ما انزل الله بإدخال النّار وعدم تكليمهم الله وعدم تزكيتهم وثبوت العذاب الأليم لهم واستبدال الضّلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة (بِأَنَّ اللهَ) بسبب أنّ الله فهو خبر لذلك لا حاجة له الى تقدير مبتدء أو خبر أو فعل ناصب (نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) بسبب الحقّ المخلوق به وهو المشيّة الّتى خلق الأشياء بها ، أو متلبّسا بالحقّ موصوفا به ، أو مع الحقّ مقارنا له فالكاتم له كاتم للحقّ ومستحق لما ذكر ، والمراد بالكتاب أحكام النّبوّة والتّوراة والإنجيل والقرآن صورتها (وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا) عطف على (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) واختلف ضدّ اتّفق أو بمعنى تردّد وعلى الاوّل فالمعنى انّ الّذين اختلفوا معك أو انّ الّذين وقع الاختلاف بينهم وعلى الثّانى فالمعنى انّ الّذين تردّدوا (فِي الْكِتابِ) لاستنباط الأحكام الشّرعيّة ولان يقيسوا ما لم يكن فيه بما يجدونه فيه والمراد بالكتاب أحكام النّبوّة والتّوراة والإنجيل والقرآن صورتها (لَفِي شِقاقٍ) لفي ظرف منكم أو من الله (بَعِيدٍ) أو لفي عناد معكم وعداوة.

اعلم انّ من استسلم وانقاد لنبىّ (ص) أو وصىّ ليس من شأنه ان يخالف أمثاله في حكم من الأحكام لانّه ليس له رأى في شيء من نفسه وانّما هو منقاد لغيره بخلاف من لم يكن منقادا لنبىّ (ص) أو وصىّ فانّ

١٦٥

الشّيطان متمكّن منه لا محالة الّا ان يكون في حكم المنقاد ، ومن تمكّن الشّيطان منه لا يمكن له التّوافق مع أحد بل كان شأنه الاضطراب في الآراء وعدم الثّبات على شيء منها والخلاف والعناد مع كلّ النّاس فالمؤمنون ان كان أحكامهم مختلفة كانوا متوافقين مترافقين متّحدين ، وغير المؤمنين ان كانوا متوافقين في الأحكام كانوا متخالفين متعاندين غير خارجين من العناد ، وما نقل من اختلاف أصحاب الائمّة مع بعض لا ينافي مرافقتهم مع كلّ النّاس لأنّ المخالفة الّتى ظهرت فيهم لاستلزام المخالفة من طرف ظهورها في طرف آخر.

(لَيْسَ الْبِرَّ) كلام مستأنف لابداء حكم آخر أو جواب سؤال ناش من السّابق كأنّه قيل : فما بالنا اختلفنا في القبلة بالصّلوة الى بيت المقدّس تارة والى مكّة أخرى وأمر القبلة من الكتاب؟ ـ فقال : ليس الطّاعة (أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ) على انّ الاختلاف في العمل من باب التّسليم لأمر الآمر الإلهيّ اتّفاق في الاعتقاد والقول بخلاف الاختلاف من آراء مختلفة ، والبرّ بكسر الباء مصدر بمعنى الصّلة والخير والاتّساع في الإحسان والصّدق والطّاعة ، والإحسان الى الغير ضدّ العقوق وفعله من باب علم وضرب وهذا ردّ على من خاض من أهل الكتاب في أمر القبلة بعد تحوّل المسلمين الى الكعبة وعلى من خاض من المسلمين في أمرها بعد صرف وجوههم الى الكعبة ، روى عن السّجّاد (ع) انّه قال : قالت اليهود قد صليّنا على قبلتنا هذه الصّلوات الكثيرة وفينا من يحيى اللّيل صلوة إليها وهي قبلة موسى الّتى أمرنا بها ، وقالت النّصارى : قد صليّنا الى قبلتنا هذه الصّلوات الكثيرة وفينا من يحيى اللّيل صلوة إليها وهي قبلة عيسى الّتى أمرنا بها ، وقال كلّ واحد من الفريقين : أترى ربّنا يبطل أعمالنا هذه الكثيرة وصلوتنا الى قبلتنا لأنّا لا نتّبع محمّدا (ص) على هواه في نفسه وأخيه فأنزل الله يا محمّد (ص) قل : ليس البرّ والطّاعة الّتى تنالون بها الجنان وتستحقّون بها الغفران ان تولّوا وجوهكم قبل المشرق يا أيّها النّصارى وقبل المغرب يا أيّها اليهود وأنتم لأمر الله مخالفون وعلى ولىّ الله مغتاظون (وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ) حمل الّذات على المعنى مثل حمل المعنى على الذّات محتاج الى تصرّف فهو امّا بتقدير مضاف في الاوّل أو في الثّانى أو بجعل البرّ بمعنى البارّ أو بادّعاء الاتّحاد بين المعنى والذّات للمبالغة في اتّصاف الذّات بالمعنى (بِاللهِ) يعنى انّ البرّ الايمان والإذعان بالله والتّسليم له وهو روح العمل لا صورة العمل واعتبار الجهة فيه (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) يعنى الإقرار بالمبدأ والمعاد (وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ) الّذى هو الشّريعة الإلهيّة (وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ) اى مشتملا على حبّ الله أو على حبّ المال أو على حبّ الإيتاء وعلى الثّلاثة يجوز ان يكون الضّمير المجرور فاعلا راجعا الى من آمن وواحد من هذه الثلاثة مفعولا مقدّرا ، ويجوز ان يكون راجعا الى واحد من هذه الثلاثة مفعولا والفاعل محذوفا ، ويجوز ان يكون راجعا الى الله فاعلا (ذَوِي الْقُرْبى) ذوي قرباه أو ذوي قربى النّبىّ (ص) يعنى يعطى من ماله ندبا أو من الخمس فرضا وامّا الزّكاة الفرض فانّها تذكر بعد (وَالْيَتامى) عطف على القربى على عدم جواز إعطاء الصّدقات المستحبّة للأيتام أنفسهم ، أو على تقدير كون المال من الحقوق الواجبة ، أو عطف على ذوي القربى وهو جمع اليتمان بمعنى اليتيم ويتم من باب ضرب وعلم بمعنى انفرد لا نظير له وفقد الأب في الاناسىّ والأمّ في سائر الحيوان إذا لم يبلغ (وَالْمَساكِينَ) المسكين أسوأ حالا من الفقير لكن إذا افترقا اجتمعا (وَابْنَ السَّبِيلِ) اى المسافر الّذى انقطع نفقته وكان

١٦٦

من قرابات الرّسول ان كان المال مال الخمس أو مطلقا ان كان غيره والعرب يسمّى كلّ من يباشر أمرا أبا ذلك الأمر وابنه (وَالسَّائِلِينَ) الّذين يتعفّفون عن السّؤال صريحا ويسألون في ضمن إظهار الحال كناية حتّى لا ينافي الحقوق الواجبة على فرض عدم جواز اعطائها السّائل بالكفّ ، أو المراد أعمّ من السّؤال بالكفّ ان أريد الإيتاء ندبا (وَ) مالك الرّقاب أو العبيد أنفسهم (فِي الرِّقابِ) في استخلاصها سواء كانوا مكاتبين أو تحت الشّدّة أو لم يكونوا كذلك (وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) يعنى انّ البرّ الايمان والإذعان بالله وترك ما فيه خيره لخير الغير والتّوجّه التامّ الى الله والتّسليم والخروج من الانانيّة ولوازمها الّتى هي خلاف التّسليم من الخلاف والنّزاع والرّأى من النّفس وغير ذلك من دواعي الانانيّة لا توجيه وجه البدن الى المشرق أو المغرب والرّأى فيه والتّوقّف عليه. وقد مر بيان للصّلوة والزّكاة في اوّل السّورة من أراد فليرجع اليه (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ) عطف على من آمن وجعله خبر مبتدء محذوف أو مبتدء خبر محذوف تقدير من غير حاجة ، والعدول الى الاسم للاشعار بانّ الوفاء بالعهد امر يطلب فيه الاستمرار والثّبوت بخلاف الايمان فانّه يحدث سواء أريد به الإقرار أو البيعة وبقاء الحالة الحاصلة منه ليس ايمانا انّما هو بقاء الايمان ، وبخلاف الزّكاة والصّلوة فانّهما لا تكونان الّا متجدّدتين ، وامّا الوفاء بالعهد فانّه ليس الّا البقاء على العهد ؛ وهكذا الحال في الصّبر ، والمراد بالعهد العهد الحاصل في ضمن البيعة أو مطلق العهد (إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ) علم وجه العدول الى الاسم والعدول الى النّصب لقصد المدح بتقدير فعل (فِي الْبَأْساءِ) البأس العذاب والشّدّة في الحرب بؤس ككرم فهو بئيس شجاع ، وبئس كسمع اشتدّت حاجته ، والبأساء الدّاهية والمناسب هاهنا ان يفسّر بشدّة الحاجة والدّاهية في المال (وَالضَّرَّاءِ) في الأنفس (وَحِينَ الْبَأْسِ) شدّة القتال (أُولئِكَ) العظماء المحصرون بتلك الأوصاف العظام (الَّذِينَ صَدَقُوا) لا صادق سواهم في أقوالهم بتصديق أفعالهم لأقوالهم وفي أفعالهم وأحوالهم لتصديق آثار الأفعال والأحوال صدقها (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) لا متّقى غيرهم وقد فسّر بعلىّ (ع) لانّ الجامع بين الأوصاف بحقائقها لا يكون الّا محمّدا (ص) وعليّا (ع) وأولاده الطّاهرين وامّا غيرهم من الأنبياء والأوصياء فانّ لهم حظّا من هذه وبقدر حظّهم تصدق عليهم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ وقبول الدّعوة الظّاهرة والبيعة العامّة النّبويّة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) في اللّوح المحفوظ أو في صدر النّبىّ (ع) والمعنى فرض ولذلك وللاشعار بتضرّرهم عدّاه بعلى (الْقِصاصُ) ان يفعل بالجانى مثل ما فعل بالمجنىّ عليه ، وكونه فرضا على الحكّام بعد مطالبة ولىّ المجنىّ عليه لا ينافي كون الولىّ مخيّرا بين القصاص والدّية والعفو (فِي الْقَتْلى) متعلّق بكتب (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) اى يقتل الحرّ بالحرّ أو الحرّ مقتول بالحرّ اى إذا كان القتل عمدا لا خطاء ولا شبها للخطاء والآية مثل سائر الآيات مجملة محتاجة الى البيان فلا يرد انّ المسئلة بخلاف مفهوم مخالفة القيد فان مفهوم القيد غير معتبر قطعا هاهنا وتفصيل المسئلة موكول الى الفقه (وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) نقل انّه كان حيّان من العرب وكان لأحدهما طول على الآخر وكان بالمواضعة بينهما ان يقتل ذو الطّول الحرّ بالعبد ، والذّكر بالأنثى ، والرّجلين

١٦٧

بالرّجل فلمّا جاء الإسلام تحاكموا الى رسول الله (ص) فنزلت فأمرهم بالتكافؤ (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ) اى الجاني الّذى عفى له (فَمَنْ) قبل (أَخِيهِ) الّذى هو ولىّ الدّم أو من دم أخيه المقتول وأدّاه بلفظ الأخوّة للاشعار بانّ العفو يقتضي ويقتضيه التّعاطف فالمناسب في المقام اللّفظ الّذي يقتضي ويقتضيه التعاطف (شَيْءٌ) من العفو وهو العفو من القصاص دون الدّية أو شيء من العفو بان عفى وارث واحد (فَاتِّباعٌ) اى فليكن من العافي اتّباع أو فحكمه اتّباع أو فعليه اتّباع للعفو في مطالبة الدّية (بِالْمَعْرُوفِ) بطريق يستحسنه العقلاء ويعرفونه بالحسن يعنى لا يكون في مطالبة الدّية تعنّف ولا إضرار ولا زيادة على القدر المقرّر وليكن من الجاني (أَداءٌ) للدّية (إِلَيْهِ) الى العافي (بِإِحْسانٍ) متلبّسا بنحو من الإحسان وصيّة للعافى بالمداراة وعدم التعنّف وعدم التعدّى وللجاني بعدم المماطلة وعدم الخدعة والبخس والإكراه (ذلِكَ) اى الاذن في العفو مع الانتقال الى الدّية أو بدونه يعنى التّخيير بين الثلاثة فانّ العفو عن الدّية يستفاد بطريق اولى من العفو عن القصاص المستفاد من قوله (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ) (الى آخرها) (تَخْفِيفٌ) فيما فرضنا عليكم من المؤاخذة بالجناية (مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ) منه عليكم بتجويز العفو المستلزم لبقاء النّفوس وعدم تكليف ولىّ المقتول بالعفو بلا عوض ، نقل انّه كان لأهل التّوراة القصاص أو العفو ، ولأهل الإنجيل العفو أو الدّية ، ولهذه الامّة التخيير بين الثّلاثة ونسب الى الرّواية انّ القصاص كان في شرع موسى (ع) والدّية كانت في شرع عيسى (ع) فجاءت الحنيفيّة السمحة بتشريع الأمرين (فَمَنِ اعْتَدى) تجاوز عمّا حدّ له من أولياء الدّم ومن الجاني (بَعْدَ ذلِكَ) المذكور من القصاص أو العفو أو الدّية (فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ) قد مضى وجه توصيف العذاب بالألم ، ولمّا جاز ان يتوهّم من تشريع القصاص انّ فيه افناء للنّفوس البشريّة وافناء النّفوس البشريّة خلاف الحكمة الإلهيّة كما عليه الملل الباطلة رفع ذلك لتّوهّم بأنّ في القصاص إبقاء للنّفوس لا افناء لها ؛ لانّ في تشريع القصاص ردعا لجملة النّفوس عن التّجرّى على القتل ففيه افناء نفوس قليلة وإبقاء نفوس كثيرة بخلاف تركه فقال : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ) وذكروا وجوها من التّرجيح لهذا الكلام على مقابله الّذى هو قول القائل القتل انفى للقتل (يا أُولِي الْأَلْبابِ) خصّ اولى الألباب بالنّداء تشريفا لهم ، ولأنّهم يعرفون وجه كون الحيوة في القتل ، ولأنّهم المخصوصون بتشريع الأحكام والمنظور إليهم في خلق الأشياء المعتنى بهم للبقاء دون غيرهم (لَعَلَّكُمْ) يا اولى الألباب (تَتَّقُونَ) ترجّى ناش من ذكر القصاص أو من إيداع الحيوة في القصاص ، أو من ذكر الحيوة ؛ فان كان الاوّلان فالمعنى شرع الله لكم القصاص أو جعل الحيوة في القصاص لعلّكم تتّقون القتل أو تتّقون المعاصي أو تتّصفون بالتّقوى ، وان كان الثّالث كان المعنى استبقاءكم لعلّكم تتّقون المعاصي أو تتّصفون بالتّقوى والتّرجّي من الله ليس على حقيقته لانّ التّرجّى لا يكون الّا من جاهل مترقّب لحصول مرغوب خارج عن اختياره والحقّ ليس كذلك فهو منه تعالى بمعنى التّعليل أو لجريه تعالى شأنه على شاكلة الملوك والأكابر من الخلق حيث يعدون مواعيدهم الّتى ينجّزونها بليت ولعلّ وعسى حتّى لا يتّكل من يعدونه على الوعد ويكونوا بين الخوف والرّجاء ، أو لملاحظة حال العباد وانّ شأنهم شأن الرّجاء والأطماع فالتّرجىّ باعتبار حال المخاطب.

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) استيناف لإظهاره حكم آخر غير مرتبط بسابقه

١٦٨

ولذا قطعه عن سابقه ، وعامل إذا فعل الشّرط كما هو قول المحقّقين في جميع موارد إذا لا كتب كما قيل ؛ لأنّه للماضي وإذا للمستقبل ، ولا الوصيّة لعدم جواز تقدّم معمول المصدر المعرّف باللّام وان كان ظرفا عليه ، وجوابه محذوف وهو جملة معترضة بين الفعل ومرفوعه اى إذا حضر أحدكم الموت فليوص ، أو جوابه قوله تعالى (إِنْ تَرَكَ خَيْراً) على القول بعدم لزوم الفاء في جواب إذا ، أو جوابه قوله تعالى (الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ) على هذا القول ، وعلى هذا فجملة (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) نائب فاعل كتب لانّ فيه معنى القول وجملة ان ترك خيرا معترضة كما كانت معترضة على تقدير حذف جواب إذا ؛ والمراد بالخير امّا مطلق المال أو المال الكثير كما نسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه دخل على مولى له في مرضه وله سبعمائة درهم أو ستّمائة فقال : الا اوصى؟ ـ قال : لا انّما قال الله تعالى ان ترك خيرا وليس لك كثير مال وروى هذا الخبر وغيره بهذا المضمون عن طريق العامّة أيضا ، والوصيّة نائب فاعل لكتب وتذكير الفعل لكون الوصيّة مؤنّثا مجازيّا ، ويجوز ان يكون الوصيّة مبتدء وللوالدين خبره والجملة نائب فاعل كتب (وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) بوصيّة يعرفها العقل والعرف حسنا فانّ المعروف صار اسما لما استحسنه العرف يعنى بوصيّة لا يكون فيها حيف وإضرار بالوارث مثل ان كان له كثير مال يستغنى وارثه ببعضه ويكون الوالدان والأقربون محتاجين ويوصى لهم بما لا يحوج الوارث (حَقًّا) حقّ حقّا مفعول مطلق مؤكّد لنفسه ان جعل مؤكّدا لمضمون كتب ، ومؤكّد لغيره ان جعل مؤكّدا لمضمون الوصيّة للوالدين (عَلَى الْمُتَّقِينَ) بدل من عليكم أو متعلّق بحقّا وعلى اىّ تقدير فهو تنبيه على انّ المنظور في تشريع الأحكام اولو الألباب وهم المؤمنون المبائعون بالبيعة الخاصّة وأمّا غيرهم فلا نظر إليهم في شيء من أحكام البشر ومنافعه وإيجاد الأشياء لأجله الّا تبعا ، وما ورد في الاخبار من نسخ هذه الآية بآية المواريث يدلّ على أنّه كان المقصود من الكتب الفرض وأنّ المنسوخ هو الوجوب لا الجواز والّا ففي آية المواريث ذكر من بعد وصيّة وهو يؤكّد ثبوت الوصيّة لا أنّها تنسخها ، ونسب الى أمير المؤمنين (ع) انّه قال : من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه شيء جعله الله تعالى لصاحب هذا الأمر قيل : هل لذلك حدّ؟ ـ قال : ادنى ما يكون ثلث الثّلث ، وعنه (ع) انّه حقّ جعله الله تعالى في أموال النّاس لصاحب هذا الأمر قيل : لذلك حدّ محدود؟ ـ قال : نعم ، قيل : كم؟ ـ قال : أدناه السّدس وأكثره الثّلث (فَمَنْ بَدَّلَهُ) اى كتب الوصيّة بان لا يعمل به ويترك الإيصاء للوالدين والأقربين أو من بدلّ الوصيّة الثّابتة من المحتضر سواء كان المبدّل الوصىّ أو الوارث أو الشّهود أو الحاكم ، وتذكير الضّمير باعتبار الإيصاء (بَعْدَ ما سَمِعَهُ) اى فرض الله وحكمه على الاوّل والإيصاء على الثّانى والتّقييد به اشارة الى انّه مثل سائر التّكاليف لا مؤاخذة عليه قبل العلم به (فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ) وضع الظّاهر موضع المضمر اشعارا بعلّة الحكم وزيادة زجر منه بتكريره والحصر هاهنا حصر قلب ادّعائىّ فرضيّ فانّه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفيّة وأهل العرف إذا أرادوا المبالغة في المنع عن شيء أو التّرغيب في شيء يقولون : لا تفعله فليس وباله الّا عليك ، أو افعله فليس أجره الّا لك كأنّ المتكلّم يدّعى انّ فاعل هذا القبيح يعلم انّ على هذا الفعل عقوبة لكن يحسب أنّ عقوبته على غير الفاعل فيفعله فيقول : ليس كما زعمت ليس وباله الّا عليك وهكذا الحال في التّرغيب (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لما قاله الموصى حين الإيصاء أو المبدّلون حين التّبديل (عَلِيمٌ)

١٦٩

بأغراضهم فيجازى كلّا بحسب قوله وغرضه وهو تهديد للمبدّلين (فَمَنْ خافَ) الفاء للتّعقيب باعتبار لازم الحكم اى العلم بالحكم كأنّه قال بعد ما علم الإثم على مبدّل الوصيّة فاعلم انّه لا اثم على مبدّل خاف (مِنْ مُوصٍ جَنَفاً) ميلا عن الحقّ خطأ كما فسّر في الخبر (أَوْ إِثْماً) ميلا عنه عمدا والمراد الزّيادة عن الثّلث ، أو إضرار الوارث بان كان المال قليلا والوارث محتاجا أو حرمان بعض الوارث أو كلّهم (فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ) بين الوارث والموصى له أو بين الموصى والورثة بان غيّر الوصيّة بعد وفاة الموصى أو بان منع الموصى عن الوصيّة بنحو الإضرار حال حيوته ومنع الوارث عن ان يمنعوا الموصى عن الوصيّة الى الثّلث (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) في التّبديل أو في المنع المذكور (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يغفر ما يتوهّم من الإثم على التّبديل بعد التّسجيل بالإثم على المبدّل (رَحِيمٌ) يرحم ويتفضّل على المصلح رفع للحرج عن المصلح ووعد له بالرّحمة ، والاشكال بأنّ الخوف من المحتمل الوقوع ، لا ممّا وقع وتعلّق خاف هاهنا بما وقع من الوصيّة والجنف فيه مدفوع بأنّ المعنى : من خاف من موص من حيث انّه موص جنفا أو إثما حين ارادة الوصيّة ، أو المعنى : من علم من موص فانّ استعمال الخوف في العلم كثير ولا حاجة الى بعض التّكلّفات والاخبار تدلّ على المعنى الأخير ، فعن الباقر (ع) أنّه سئل عن قول الله تعالى : فمن بدّله قال نسختها الآية الّتى بعدها فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا اثم عليه قال (ع) يعنى الموصى اليه ان خاف جنفا من الموصى فيما اوصى به اليه فيما لا يرضى الله تعالى به من خلاف الحقّ فلا اثم على الموصى اليه ان يردّه الى الحقّ والى ما يرضى الله به من سبيل الخير ويجوز حمل هذا الخبر على التّبديل حال الحيوة ، وعن الصّادق (ع) إذا اوصى الرّجل بوصيّة فلا يحلّ للوصي ان يغيّر وصيّته بل يمضيها على ما أوصى الّا ان يوصى بغير ما أمر الله تعالى فيعصى في الوصيّة ويظلم ، فالموصى اليه جائز له ان يردّها الى الحقّ مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كلّه لبعض ورثته ويحرم بعضها فالوصىّ جائز ان يردّها الى الحقّ فالجنف الميل الى بعض ورثتك دون بعض ، والإثم ان تأمر بعمارة بيوت النّيران واتّخاذ المسكر فيحلّ للوصىّ ان لا يعمل بشيء من ذلك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) لمّا كان هذا الحكم نوعا آخر من التّكليف غير التّكليف الاوّل الّذى كان في المعاملات وكان من أشقّ العبادات صدّره بالنّداء ليتدارك كلفة التّكليف بلذّة المخاطبة ، وعن الصّادق (ع) انّ لذّة النّداء أزال تعب العبادة والعناء وقد سبق مكرّرا انّ المراد بالايمان في أمثال المقام الايمان العامّ الحاصل بالبيعة العامّة وقبول الدّعوة الظّاهرة وعن الصّادق (ع) انّه سئل عن هذه الآية وعن قوله سبحانه : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ) فقال (ع) : هذه كلّها تجمع الضّلال والمنافقين وكلّ من أقرّ بالدّعوة الظّاهرة (كُتِبَ) اى في اللّوح المحفوظ أو في صدر النّبىّ (ص) أو في الكتاب التّدوينىّ الإلهيّ أو فرض (عَلَيْكُمُ الصِّيامُ) الصّوم والصيّام مصدر اصام يصوم صوما بمعنى الإمساك المطلق لغة وبمعنى الإمساك المخصوص شرعا (كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) يعنى انّها عبادة قديمة كانت واجبة من لدن آدم (ع) فانّه لم يكن نبىّ الّا كان في شريعته إمساك ما ، روى عن أمير المؤمنين (ع) انّ اوّلهم آدم فالتّشبيه في أصل الإمساك المخصوص المشروع لا في جميع مخصّصاته فانّه لم يكن صيامنا موافقا لصيام اليهود والنّصارى في الوقت وعدد الايّام والممسك عنه (لَعَلَّكُمْ

١٧٠

تَتَّقُونَ) تتّصفون بالتّقوى وتصيرون أتقياء أو لعلّكم تتّقون المعاصي ودواعي النّفس لانّ إمساك النّفس عن المأكول والمشروب مدّة غير معتادة يضعّفها وفي ضعفها ضعف دواعيها ومقتضياتها وقوّة العقل واقتضائه للتّقوى عمّا هو شرّ للإنسان ، نسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : خصاء أمّتي الصّوم ، وفي الخبر : من لم يستطع الباءة فليصم فانّ الصّوم له وجاء. وعن الصّادق (ع) انّه قال : انّما فرض الصّيام ليستوي به الغنىّ والفقير وذلك انّ الغنىّ لم يكن ليجد مسّ الجوع فيرحم الفقير فأراد الله سبحانه ان يذيق الغنىّ مسّ الجوع ليرقّ على الضعيف ويرحم الجائع (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) قلائل فانّ العرف تكنّى عن القلّة بالمعدودات وهو متعلّق بتتّقون ومتعلّق الصّيام محذوف بقرينة هذا والمراد بها ايّام الدّنيا أو ايّام الصّوم وامّا تعلّقه بكتب أو الصّيام فغير مستقيم لاخلال الاوّل بالمعنى والثّانى باللّفظ لوقوع الفصل بين المصدر ومعموله بالأجنبيّ الّذى هو لعلّكم تتّقون وهو غير جائز لضعفه في العمل (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً) يعنى في تلك الايّام المقرّرة للصوم (أَوْ عَلى سَفَرٍ) وقد بيّن الفقهاء رضوان الله عليهم حدّ السّفر فيه وشرائطه وشرائط القصر والإفطار به وحدّ المرض والإفطار به (فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فبدلها عدّة ايّام أو فعليه عدّة ايّام من ايّام أخر وقرئ بالنّصب بتقدير فليصم عدّة من ايّام أخر وهذا بظاهره يدلّ على لزوم الإفطار لكليهما والانتقال الى البدل فانّه تعالى أتى بالشّرطيّة وجعل لازم الشّرط الّذى هو المرض أو السّفر استبدال أيّام الصّوم بأيّام أخر من دون قيد وأفاد انّ هذا الجزاء لازم لهذا الشّرط المطلق. وعن طريق العامّة اخبار كثيرة دالّة على الإفطار في السّفر وتقدير شرط بان يقال فعدّة من ايّام أخر ان أفطر خلاف الظّاهر ومع ذلك فنقول : ان لم يكن فيها حجّة لنا عليهم كانت من المجملات المحتاجة الى البيان وقد بيّنوها لنا مثل سائر مجملات القرآن فانّ أخذ الأحكام من محض الألفاظ خصوصا مجملات القرآن ليس الّا محض التّفسير بالرأى فان أصاب الحقّ فقد أخطأ وليتبوّء مقعده من النّار (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ) طاق الشّيء طوقا واطاقه وعليه قدر ؛ وعلى هذه القراءة قيل : انّه كان النّاس في بدو الإسلام لم يتعوّدوا الصّوم فخيّرهم الله تعالى بين الصّوم والفدية ثمّ نسخت ، أو كان المراد على الّذين يطيقونه من المرضى والمسافرين ثمّ جاءت العزيمة بعد ، أو كان المراد على الّذين يطيقون الصّيام من المفطر المريض أو المسافر عوضا عمّا أفطر ثمّ نسخ التّخيير وبقي الصّوم فقط أو الفدية ان لم يصم الى شهر رمضان الّذى بعد هذا الشّهر الّذى أفطره ، أو المراد على الّذين يطيقونه من أمثال الشّيخ والشّيخة والمرضعة وذي العطاش فانّهم ان لم يطيقوه أفطروا وجوبا ، وان أطاقوه كانوا مخيّرين بين الصّوم والفدية ، وأشير في الاخبار الى أكثر هذه الوجوه ، وقرئ يطوّقونه من التّفعيل ويتطوّقونه من التفعّل ويطوّقونه منه بإدغام التّاء في الطاء بعد الإبدال وطيقونه ويطيّقونه ملحقا بالفعللة والتّفعلل أصلهما يطيّقونه ويتطيوقونه كلّ ذلك من الطّوق بمعنى القدرة ، أو بمعنى القلادة مع افادة معنى التكلّف والجهد وعلى هذه القراءة فالمعنى على الّذين يتكلّفون الصّوم ويتعبون بسببه مثل المشايخ والمراضع وذوي العطاش ولا إشكال فيه بعد ذلك فالآية مجملة مثل سائر المجملات (طَعامُ مِسْكِينٍ) مدّ من الطّعام أو مدّ ان كما قيل (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً) اى عمل خيرا على التّجريد أو من عمل بطريق الطّاعة خيرا في أداء الفدية بان يزيد فيها أو بان يجمع بين الصّوم والفدية ، أو من تطوّع خير من جملة الطّاعات الدّينيّة (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا) ايّها النّاس المخيّرون بين الصّوم والفدية أو المرضى والمسافرون أو القاضون

١٧١

المخيّرون أو المعذورون أو المتكلّفون بسبب الصّوم أو المؤمنون على ان يكون كلاما مستقلّا ترغيبا في الصّوم من غير نظر الى ما تقدّمة (خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ان كنتم من أهل العلم أو ان كنتم تعلمون أنّه أفضل اخترتموه.

تحقيق نزول الكتاب جملة ونجوما

(شَهْرُ رَمَضانَ) مبتدأ خبره (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) أو هو صفته وخبره محذوف اى هذه الايّام أو خبر مبتدء محذوف اى هذه الأيّام شهر رمضان ، أو بدل من الصّيام بتقدير مضاف اى صيام شهر رمضان ووجه نزول القرآن في شهر رمضان مع أنّه نزل في طول ثلاث وعشرين سنة انّ القرآن جملة نزل من مقام الجمع ومن عند الحكيم الخبير الى البيت المعمور الّذى هو في السّماء الرّابعة بحذاء الكعبة ومقام قلب النّبىّ (ص) ومنه نزل مفصّلا في تلك المدّة على صدر النّبىّ (ص) وينزل في كلّ سنة من البيت المعمور على صدر النّبىّ (ص) أو وصيّه من تأويل القرآن ومتشابهاته ما شاء الله من نسخ منسوخه وإثبات مثبته ، واطلاق مطلقة وتقييد مقيّده ، وتعميم عامّه وتخصيص خاصّه ، وعلى ما روى نزل أكثر الصّحف السّماويّة في شهر رمضان لانّه شهر حبس النّفس عن التّوجّه الى القوى والمدارك الظّاهرة وعن المشتهيات النّفسيّة وما لم يحبس النّفس المعبّر عنها بالصّدر عن التّوجّه الى الدّار الدّنيا لا تستعدّ للانتقاش بنقوش الغيب ولا للمشاهدة والسّماع منه وباعتبار التّأويل ، شهر رمضان عبارة عن مقام ظهور النّفس بالإمساك عن غير الله والتّوجّه الى الله ولذا سمّى بشهر رمضان فانّ رمضان اسم لله تعالى.

تحقيق كون القرآن بيّنات من الهدى

(هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) من بيانيّة ، اعلم انّ الرّسل متفاضلون في المقامات والدّرجات فانّ مقامات لطائف الرّسالة ودرجاتها غير متناهية وأمّهاتها قد تحدّ بمأة الف وقد تحدّ بمأة وعشرين ألفا وقد تحدّ بمأة أربعة وعشرين ألفا ، وتلك المقامات والدّرجات بعضها فوق بعض وكلّ عال منها محيط بما دونه بمعنى انّ ما دونه يكون من جملة شؤنه ، ولكلّ مقام صاحب من الرّسل لانّ كلّ مقام يقتضي لطيفة خاصّة من لطائف الرّسالة وكلّ لطيفة من تلك اللّطائف يظهر في رسول من الرّسل وكلّ رسول بلغ الى مقام عال يكون محيطا بمن دونه من الرّسل وهم يكونون من جملة شؤنه ، وكلّ كتاب وشريعة من الرّسول العالي يكون محيطا بالشّرائع والكتب الّتى دونه وانّهما ناشئان من آخر مقامات الرّسول الآتي بهما وأعلاها نازلان منه الى مقام صدره ، وانّ محمّدا (ص) آخر مقاماته المقام الّذى هو فوق الإمكان وهو مقام الجمع المطلق الّذى لا مقام فوقه بخلاف سائر المقامات فانّ فيها فرقا بوجه ولو بالتّقييد بالإمكان والامتياز من الوجوب ، ولهذا كانت الأنبياء (ع) وكتبهم وشرائعهم تحت لوائه وكتابه وشريعته وكان حلاله حلالا الى يوم القيامة وحرامه حراما الى يوم القيامة ، ولم يتطرّق الاندراس والنّسخ الى كتابه وشريعته ، وكان اسم القرآن خاصّا بكتابه لانّه مصدر مأخوذ من قرأ قرآنا بمعنى جمع جمعا ، وان كان مأخوذا من قرأ قرآنا بمعنى تلا تلاوة فانّه أيضا مأخوذ من قرأ بمعنى جمع والنّاشى من مقام الجمع المطلق هو كتابه (ص) لا سائر الكتب ، فانّها نشأت من مقامات الإمكان الّتى لا يخلو شيء منها من الفرق والكتاب الّذى نزل من مقام عال الى مقام الصّدر ، والطّبع له وجهان ؛ وجه الى عالم المقام العالي ووجه الى عالم المقام الدّانى ، وباعتبار وجهه الى العالي يكون هاديا لأهل العالم النّازل الى ذلك المقام العالي وباعتبار وجهه الى المقام النّازل يكون مفصلا بنحو تفصيل ذلك المقام وظاهرا بنحو ظهور ذلك المقام وفارقا بين اسناخ المقام العالي وأشباح العالم الأنزل ، فيكون بتفاصيله بيّنات واضحات هي عبارة عن الهدى باعتبار وجهه الى العالي وعن الفرقان باعتبار وجهه الى الدّانى

١٧٢

(فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ) تفريع على السّابق يعنى إذا كان شهر رمضان شهر نزول القرآن فيلزم عليكم فيه الإمساك عن غير الله وعن مشتهيات مقامكم الدّانى وهو مقام النّفس حتّى يفتح عليكم مشتهى الرّوح وباب الغيب ، فمن كان منكم حاضرا لا مسافرا كما فسّره الصّادق (ع) ردّا على من خيرّ في السّفر بين الصّوم والإفطار حيث قال : ما أبينها ...! من شهد فليصمه ومن سافر فلا يصمه ، فاعتبر (ع) مفهوم المخالفة فانّ المفاهيم وان لم تكن حجّة لكنّها معتبرة في مقام الخطابة (فَلْيَصُمْهُ) فليصم فيه (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) مرضا يضرّ الصّوم بسببه (أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) تصريح بمفهوم المخالفة يعنى من لم يكن حاضرا في الشّهر فلا يصمه وعليه ان يصوم عدد الايّام الفائتة من الشّهر أيّاما أخر من غيره ، وقد أكّد الأمر بالإفطار في المرض والسّفر بالتّصريح اوّلا والاشارة ثانيا وتأكيد مفهوم المخالفة ثالثا (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ) جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : ما يريد الله من الأمر بالصّوم تارة ، ثمّ بالإفطار والصّوم بعد الإفطار أخرى؟ ـ فقال : يريد اليسر حالكونه ملصقا بكم (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) وفي الصّوم في المرض والسّفر عسر شديد وفي ترخيص الإفطار فيهما تيسير لكم (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال لئلّا يعسر الصّوم عليكم ولتكملوا العدّة وانّما عدل الى قوله يريد الله للتّصريح بإرادة الله ذلك تشريفا لهم وتلطّفا بهم فالاوّل علّة التّرخيص في الإفطار وهذا علّة الأمر بالصّوم في ايّام أخر (وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) علّة للأمر بالصّوم مطلقا فانّ الصّوم صورة التبرّى وبالتبرّى يرتفع موانع القلب عن التّوجّه الى الله وعظمته ، وبالتّوجّه يظهر عظمة الله وكبرياؤه ، وبظهور عظمته وكبريائه يرتفع الغفلة والنّسيان فانّهما ليسا الّا من استتار عظمته كما قال المولوى قدس‌سره :

لا تؤاخذ ان نسينا شد گواه

كه بود نسيان بوجهي هم گناه

زانكه استكمال تعظيم أو نكرد

ورنه نسيان در نياوردى نبرد

وبعدم الغفلة والنّسيان عن المنعم في النّعمة يحصل الشّكر ولذلك عقّبه بقوله (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) يعنى تنظرون الى المنعم في نعمة وهو من أجلّ مقامات الإنسان ولمّا كان الصّوم موجبا لتكبير الله وتعظيمه سنّ الله تعالى في آخر الصّوم اعنى ليلة الفطر بعد الصّلوة الى صلوة العيد التّكبير بالكيفيّة المخصوصة المذكورة في الكتب الفقهيّة (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي) جملة مستأنفة على مجيء الواو للاستيناف ولكن مجيء الواو للاستيناف المحض من غير ارتباط ما بالسّابق بعيد جدّا فان شئت فسمّه استينافا شبيها بالعطف أو عطفا باعتبار المعنى كأنّه قيل ؛ إذا سألوا عن طاعتي فقل : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ ،) وإذا سألوا عن نسبتي فانّ المراد بالسّؤال عنه السّؤال عن نسبته الى عباده بقرينة الجواب بنسبته الى خلقه.

تحقيق قربه تعالى

(فَإِنِّي قَرِيبٌ) يعنى فأجبهم بأنّه قريب لأنّى قريب فهو من اقامة السّبب مقام المسبّب وقربه تعالى ليس قربا مكانيّا ولا زمانيّا ولا شرفيّا ولا رتبيّا بل قربه لا ماهيّة له حتّى يحدّ ولا كيف حتّى يعرف بالرّسم ، وانّما هو قرب قيّوميّ نظير قرب ما به قوام الأشياء من الأشياء بل نظير قرب الوحدة من مراتب الاعداد فانّه إذا نظر الى مراتب الاعداد لا يوجد فيها الّا الوحدة الصّرفة من دون ضميمة ضمّت إليها مع أنّها غير الوحدة وآثارها وخواصّها غير آثار الوحدة وخواصها فالوحدة أقرب الأشياء الى الاعداد مع أنّها أبعد الأشياء عنها حتّى قيل : انّها ضدّ لها ، فما أقربك يا من لك وحدانيّة العدد وأبعدنا موصوفين

١٧٣

بالكثرات ونعم ما قيل :

دوست نزديكتر از من بمن است

وين عجبتر كه من از وى دورم

وللاشارة الى هذا القرب

قال (ع): داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء ؛ اشارة الى عدم تكيّفه أيضا وهذا القرب نتيجة الرّحمة الرّحمانيّة الّتى يستوي فيها كلّ الأشياء ، وله قرب آخر هو نتيجة الرّحمة الرّحيميّة وبهذا القرب يتفاضل المتفاضلون وفيه تنافس المتنافسين وتسابق المتسابقين ، وبه يتجلّى الله على عباده كلّ يوم في شأن جديد والى هذه القربات أشار بعض المطايبين لقوله :

بيزارم از آن كهنه خدائى كه تو داري

هر روز مرا تازه خدائى دگر استى

وهذا القرب لمن أقرض الله من كثراته النفسانيّة باختياره شيئا وجزاه الله من وحدته شيئا ومن لم يكن له من هذا القرب شيء كان ملعونا مطرودا مبغوضا ومن كان له حظّ منه كان مرحوما مدعوّا مرضيّا ، ولذّة هذا القرب واقتضاءه الاشتداد سهّلت على السّلّاك الرّياضات والمجاهدات وسهر الليالي وظمأ الهواجر ولو لا لذّة ـ هذا القرب لما غلب أحد النّفس وشهواتها ، روى أنّ اعرابيّا سأل رسول الله (ص) أقريب ربّنا فنناجيه؟ ـ أم بعيد فنناديه؟ ـ فنزلت ، وقيل : انّ قوما سألوا رسول الله (ص) كيف ندعو الله؟ ـ فنزلت.

تحقيق اجابته تعالى وعدم اجابته للعباد

(أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ) أجيب خبر بعد خبر أو مستأنف جواب لسؤال مقدّر ، والدّعوة بمعناها المصدرىّ أو بمعنى المدعوّ له ، والدّاع وصل بنيّة الوقف ، وإسقاط الياء للاشعار بأنّ دعاء كلّ داع قاصر عن البلوغ الى مقام الذّات بان يكون المدعوّ هو الذّات من غير عنوان له ، وإذا دعان شرط محذوف الجزاء بقرينة سابقه ، وإسقاط ياء المتكلّم والإقصار على نون الوقاية وكسرته للاشعار المذكور ، وليس إذا ظرفا للاجابة سواء كان متضمّنا لمعنى الشّرط بان يقدّر أجيب جوابا له أو لم يكن بان يكون متعلّقا بأجيب المذكور لكثرة الاخبار الدّالّة على تأخرّ الاجابة عن وقت الدّعاء بل هو منصوب بدعان أو نقول : هو ظرف للاجابة لكنّ المراد انّ الدّاعى إذا دعان لا غيري سواء كان الغير من أسمائى أو من غير أسمائى أجبته بلا مهلة لا محالة ، فانّ الإنسان إذا كان مظهرا للشّيطان كان داعيا له سواء كان دعاؤه بلفظ الله والرّحمن والرّحيم أو غيرها ، وإذا لم يكن مظهرا للشّيطان وكان متوجّها الى الرّحمن فان كان واقفا في مقام ومتحدّدا بحدّ فدعاؤه لا يتجاوز عن ذلك الحدّ بل كان داعيا لله بعنوان ظهوره في ذلك المقام وكان الاسم الّذى ظهر الله به عليه مسمّى في ذلك المقام فكان داعيا للاسم لا المسمّى ؛ وان لم يكن متحدّدا بحدّ وواقفا في مقام لم يكن العنوان الّذى يدعو الله به مسمّى بل كان اسما وكان الدّاعى داعيا للمسمّى بإيقاع الأسماء عليه وحينئذ لا يتأخرّ اجابة الله عن وقت الدّعاء بل نقول : الدّاعى حينئذ هو الله حقيقة وفي حقّه قال المولوىّ قدس‌سره :

چون خدا از خود سؤال وكد كند

پس دعاي خويش را چون رد كند

وشروط استجابة الدّعاء المستفادة من الاخبار الكثيرة تدلّ على هذا المعنى وانّه يجيب دعوة الدّاعى إذا دعا ذاته لا غير ذاته يعنى إذا صار الدّاعى إلهيّا لا شيطانيّا أو واقفا على حدّ فانّه روى عن الصّادق (ع): انّه قرأ أم من يجيب المضطرّ إذا دعاه ؛ فسئل مالنا ندعو ولا يستجاب لنا؟ ـ فقال : لانّكم تدعون من لا تعرفون ، وتسألون ما لا تفهمون ، فالاضطرار عين الّدين ، وكثرة الدّعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان من لم يشدّ ذلّة نفسه وقلبه وسرّه تحت قدرة الله حكم على الله بالسّؤال وظنّ ان سؤاله دعاء والحكم على الله من الجرأة على الله ، فانّ قوله : من لا تعرفون ؛ اشارة الى الاحتجاب عن الله بالحدود ، وقوله : فالاضطرار عين الدّين ؛ اشارة الى انّ المتديّن

١٧٤

من انقطع وسائله واضطرّ في التّوسّل الى الله وليس ذلك الّا إذا خرج من انانيّته وحدوده تماما وقوله : وكثرة الدّعاء مع العمى عن الله من علامة الخذلان ؛ اشارة الى صيرورته مظهرا للشّيطان لا مظهرا للرّحمن ، وقوله : من لم ـ يشدّ ذلّة نفسه (الى آخر الحديث) استشهد بذلك على انّ كثرة الدّعاء مع العمى عن الله علامة كونه مظهرا للشّيطان فانّ من لم يظهر سلطان قدرة الله عليه لم يخرج من انانيّته ، ومن لم يخرج من انانيّته كان مظهرا للشّيطان ويحكم على الله بحكم الشّيطان ، فالمعرفة وفهم المسؤل وانقطاع الوسائل الّذى هو الدّين وغلبة سلطان الله على انانيّة العبد من شروط الدّعاء المستفادة من هذا الخبر والكلّ يدلّ على انّ العبد إذا لم يخرج من انانيّته لم يدع الله بل يحكم على الله أو يدعو غير الله ، وفي خبر آخر عنه (ع): من أطاع الله عزوجل فيما أمره ثمّ دعاه من جهة الدّعاء أجابه ، قيل : وما جهة الدّعاء؟ ـ قال تبدأ فتحمد الله وتذكر نعمه عندك ، ثمّ تشكر ثمّ تصلّى على النّبىّ (ص) ، ثمّ تذكر ذنوبك فتقرّبها ، ثمّ تستعيذ منها ؛ فهذه جهة الدّعاء. وفي خبر آخر عنه (ع) انّه قال في جواب من سأل عن عدم الاستجابة : لأنّكم لا توفون بعهده ، وفي خبر عنه (ع): من سرّه ان يستجاب له فليطيّب مكسبه ، وفي خبر عنه (ع) فلييأس من النّاس كلّهم ولا يكون له رجاء الّا عند الله عزوجل ، وكلّ ذلك يدلّ على ان شرط الدّعاء الخروج من الانانيّة والتذلّل تحت قدرة الله حتّى يصير المدعوّ هو الله أو نقول : هو ظرف للاجابة لكنّ المراد انّ الدّاعى إذا دعان بان يكون المطلوب بدعائى هو ذاتي لا امرا آخر من أمور الدّنيا أو الآخرة ، أو المراد انّ الدّاعى إذا دعان لا غيري بان يكون مظهرا للشّيطان وداعيا له بصورة دعائي أجبته في مدعوّه مدخّرا له أو واصلا اليه ان كان في اجابته صلاحه ، وان لم يكن صلاحه فيها أجبته بشيء آخر فيه صلاحه ، وفي خبر انّ العبد ليدعو فيقول الله للملكين قد استجبت له ولكن احبسوه بحاجته ، وفي خبر آخر ما يدعو أحد الا استجاب له امّا الظّالم فدعاؤه مردود الى ان يتوب ، وامّا المحقّ فاذا دعاه استجاب له وصرف عنه البلاء من حيث لا يعلمه أو ادّخر له ثوابا جزيلا ليوم حاجته اليه ، وان لم يكن الأمر الّذى سأل العبد خيرا له ان أعطاه أمسك (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) ولمّا ذكر انّه تعالى كتب الصّيام وليس الصّيام الّا الإمساك عن مشهيّات الحيوان صار المقام مقام ان يسأل عن الجماع والاكل والشّرب هي حلال أم حرام باللّيل كما أنّها حرام بالنّهار؟ ـ فأجاب ذلك بقوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) اى ليلة يوم الصّيام (الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) الرّفث الجماع والفحش وتعديته ب إلى لتضمين معنى التّقرّب أو التوجّه (هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ) تعليل لا حلال الجماع والتّشبيه باللّباس للتّلازم بين النّساء والرّجال وشدّة الاحتياج بينهما والمقصود التّنبيه على قلّة الصّبر عنهنّ وصعوبة اجتنابهنّ (وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ) وكون هذه الجملة جوابا لسؤال مقدّر مبتن على ظاهر اللّفظ وامّا على ما روى انّ المضاجعة كانت حراما في شهر الصّيام في اللّيل والنّهار وانّه كان من نام في اللّيل كان الاكل والشّرب حراما عليه بعد أو كان الحكم انّ من كان ينام في اللّيل كان الاكل والشّرب والمقاربة حراما عليه فالآية مستأنفة لابتداء حكم آخر ناسخ للحرمة وقوله تعالى : (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) يؤيّد هذا الوجه ، وخيانة الله ورسوله في عدم الوفاء بما شرط عليه في عهده خيانة لأنفسهم لتقوية عدوّها عليها (فَتابَ عَلَيْكُمْ) بالتّرخيص فيما نهى عنه من الجماع في ليلة الصّيام والاكل والشّرب بعد النّوم (وَعَفا عَنْكُمْ) يعنى عمّا فعلتموه قبل التّرخيص (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ) في ليلة الصّيام فلفظ الآن ظرف للتّرخيص المستفاد

١٧٥

من هيئة الأمر ، وليلة الصّيام ظرف للمباشرة فانّه ليس المراء تقييد المباشرة بالآن الحاضر ولا تبتغوا بالمباشرة قضاء الشّهوة فقط (وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) من الصّيام اى حفظه وامتثاله أو ابتغوا ما كتب الله وجعله في المضاجعة من المؤانسة والسّكون إليهنّ وفراغ القلب باستفراغ الشّهوة ، أو ما كتب الله لكم من الولد فانّه فرض تكوينىّ لانّ إيداع الشّهوة في الرّجال والنّساء بحيث لا يطيقون الصّبر عنها في الأغلب وجعل آلاتها بحيث يتولّد الولد من قضائها أمر بالولد وفرض له وعلى أىّ تقدير فالمعنى لا تنسوا امر الله في المضاجعة (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ) يظهر اشدّ ظهور (لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) الظّاهر المتبادر ان يكون من الفجر تعليلا أو يكون من للابتداء ولذلك كانوا في الصّدر الاوّل ينظرون الى الخيطين فيمسكون عن الاكل والشّرب حين تميّز الخيطين من الفجر ، ويحتمل ان يكون من تبعيضيّا أو بيانيّا والجارّ والمجرور حال من الخيط الأبيض فالآية كسائر الآيات من المجملات وبيّنوها لنا بأنّ المراد البياض المعترض المكتنف به سواد اللّيل وهما في اوّل ما يبد وان كالحبلين الممتدّين لكنّه تعالى شبّههما بالخيطين للمبالغة في الإمساك في اوّل ظهورهما وقد ذكر عدّة اخبار في وجه نزول الآية في التّفاسير ، وحتّى يتبيّن ، غاية لباشروهن وكلوا واشربوا جميعا (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ) كأنّه قال : فصوموا ثمّ أتمّوا الصّيام واكتفى عن صوموا بمفهوم الغاية وبيّن آخر وقت الصّيام (إِلَى اللَّيْلِ) واوّل اللّيل اوّل الغروب كما عليه أكثر الهيويّين والمنجّمين وأهل العرف أو اوّل المغرب الشّرعىّ كما عليه أهل الشّرع من الشّيعة (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) بيان حدّ آخر من حدود المضاجعة وهو المحرّمة وقت الاعتكاف الشّرعى ليلا ونهارا واقتصر على هذا من بين محرّمات المضاجعة لمناسبة الاعتكاف للصّوم لكون الصّوم شرطا له (تِلْكَ) الأحكام المذكورة من اوّل قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ)(حُدُودُ اللهِ) اى حدود جعلها الله لحماه لئلّا يتجاوز عنها المؤمنون فيقعوا في الهاوية والعذاب ، نسب الى النّبىّ (ص) انّه قال : انّ لكلّ ملك حمى وانّ حمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك ان يقع فيه (فَلا تَقْرَبُوها) مبالغة في النّهى عنها مثل نهى آدم (ع) عن قرب الشّجرة (كَذلِكَ) التّبيين لآيات الأحكام وحدود الحمى (يُبَيِّنُ اللهُ آياتِهِ) المطلقة من احكام القالب والقلب وآيات الآفاق والأنفس وخصوصا الآيات الكبرى الّتى هي ذوات الأنبياء (ع) والأوصياء (ع) (لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يتّصفون بالتّقوى أو يتّقون الحدود والمحرّمات.

(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) عطف على السّابق وإبداء لحكم آخر حالكونها (بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) يعنى لا تأكلوا الأموال الّتى جعلها الله بينكم سواء لا اختصاص بشيء منها بشخص منكم بذاته بل الاختصاص ليس الّا بالاعتبار وكلّ وجه اعتبره الشّارع للاختصاص فهو حقّ وكلّ وجه لم يعتبره الشّارع فهو باطل ضائع لعدم استناده الى اعتبار معتبر حقّ ، فأخذ الأموال وأكلها بوجه لم يعتبره الشّارع منهىّ عنه ، أو لا تأكلوا الأموال المشتركة بينكم بالوجوه الحقّة بداع باطل وباعث غير حقّ بان تبتغوا التصرّف فيها بما لم يأذن به الشّارع ويدخل في الأموال المشتركة المائدة والقصعة والخبز والمياه والفواكه والمجالس المشتركة والوجه الرّاجح في التصرّف فيها الإيثار والمباح المواساة والمرجوح التّفاضل مع علم الشّريك ورضاه والمنهىّ الخدعة

١٧٦

في التّفاضل وهكذا الحال في سائر الأموال المشتركة ، أو لا تأكلوا أموالكم بنيّة باطلة وداع شيطانىّ بأن تأكلوا أموال أنفسكم لان تتقوّوا على إضرار النّاس أو لمحض تشهّى النّفس أو لا تأكلوا أموال أنفسكم متلبّسين بالباطل الّذى هو ولاية غير ولىّ الأمر أو لا تأكلوها متلبّسين بالغفلة عن التذكّر أيّها المؤمنون ، أو لا تأكلوها غافلين عن الولاية أيّها المسلمون ؛ أو لا تأكلوها غافلين عن اتّباع النّبوّة ايّها النّاس (وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ) عطف على المنهىّ أو منصوب بتقدير ان وهذا من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ فانّ الأدلاء بمعنى الإلقاء ادلى بماله الى فلان دفعه وألقاه اليه ؛ والمراد لا تلقوا امر الأموال الى الحكّام الإلهيّة أو الغير الإلهيّة لتدلّسوا على الحكّام الإلهيّة وتستظهروا بسبب الرّشوة بالحكّام الغير الالهيّة ؛ فانّ الأخذ بالتّدليس على الحكّام الإلهيّة اشدّ حرمة من السّرقة حيث جعل آلة الدّين شركا للدّنيا ، والاستظهار بالحكّام الغير الإلهيّة تحاكم الى الطّاغوت ومن تحاكم إليهم فأخذ بحقّ فقد أخذ سحتا فكيف حال من أخذ بباطل (لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ) الّذى هو التّدليس والرّشوة (وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) اى أنتم العلماء أو تعلمون قبح الباطل والإثم ولا فرق بين كونه قيدا للنّهى أو المنهىّ وقد أشير في الاخبار الى الوجوه الّتى ذكرت في الآية.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ) مستأنف مقطوع عن سابقه ولذلك لم يأت بأداة الوصل ، والقمر في اوّل الشّهر الى ليلتين هلال ، وقيل : الى ثلاثة ، وقيل : الى سبعة ، وكانوا يسألون عن الهلال ما باله يبد وفي اوّل الشّهر ضعيفا ثمّ يتزايد حتّى يصير بدرا ثمّ يتناقص حتّى يصير ضعيفا ومختفيا الى ان يظهر في اوّل الشّهر الآخر هلالا ، وكان مقصودهم الاستفسار عن سبب ذلك ولمّا لم يكونوا أهل نظر ولم يقتدروا على ادراك دقائق أسباب ذلك ولم يكن علم ذلك نافعا لهم في دنياهم ولا في آخرتهم أعرض تعالى شأنه عن الجواب المطابق للسؤال وامر نبيّه (ص) ان يجيب بالحكم والغايات المترتّبة عليه فقال : (قُلْ هِيَ مَواقِيتُ) جمع الميقات وهو ما يقدّر به الوقت ويعلم يعنى أنّ الاهلّة واختلافها سبب لمعرفة الأوقات ومعرفة ما يعرف بالأوقات من الزّراعات والتّجارات والدّيون وعدد النّساء والحجّ والصّوم والفطر (لِلنَّاسِ) اى لانتفاع النّاس (وَالْحَجِ) اى لمناسكه خصّ هذا بالذّكر للاهتمام به لانّ أكثر مناسكه موقّت من الشّهر ، ويعرف هذه الغايات المترتّبة على اختلاف الاهلّة بأدنى تذكّر ، وفي معرفتها فوائد كثيرة من معرفة فاعل حكيم مدبّر عليم قدير معتن بخلقه ولا سيّما بالإنسان ومعرفة انعامه وإحسانه المستلزم لتعظيمه وشكره والتّوجّه اليه والتضرّع عليه في الجليل واليسير والقليل والكثير بخلاف ما سألوا عنه.

تحقيق إتيان البيوت من الأبواب ومنع الإتيان من الظّهور

(وَلَيْسَ الْبِرُّ) عطف على هي مواقيت أو على يسألونك بطريق الالتفات من الغيبة الى الخطاب ووجه المناسبة بينهما حتّى أتى بأداة الوصل انّ السّؤال عن اختلاف الاهلّة من غير اطّلاع على هيئة الأفلاك ومناطقها ومقادير حركاتها وحقيقة القمر واكتسابه الضّوء من الشّمس دخول في بيت طلب هذا العلم أو في هذا العلم من ظهره لا من بابه فانّ باب العلم بما ذكر (بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ) لا اختصاص للبيوت بما يسمّيّه العرف بيوتا كما عرفت (مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى) الإتيان من الظّهور وقد مضى في مثل الآية انّ حمل الذّات على المعنى امّا بتصرّف في الاوّل أو في الثّانى أو في النّسبة (وَأْتُوا) عطف على محذوف مستفاد من قوله تعالى : (لَيْسَ الْبِرُّ

١٧٧

(الى آخرها) اى فلا تأتوها من ظهورها وأتوا (الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها) كان الظّاهر ان يقول : وأتاها من أبوابها لكنّه عدل الى صيغة الأمر ووضع الظّاهر موضع المضمر للاشعار بأنّ إتيان البيوت اى أمور المعاش والمعاد مأمور به ومنظور اليه في نفسه ولو قال : وأتها من أبوابها لتوهّم انّ المنظور اليه في النّفى والإيجاب كليهما هو القيد وانّ المعنى لو أردتم إتيان البيوت فأتوها من أبوابها لا من ظهورها يعنى انّ المقصود النّهى عن الدّخول من الظّهور لا الأمر بالدّخول في البيوت ، وباب الأمور وجهة الأشياء كلّها هو الولاية ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال : يعنى ان يأتى الأمر من وجهه اىّ الأمور كان ، فهو أمر بإتيان الأمور الدّنيويّة والاخرويّة جميعا من وجوهها مثل ان يأتى الحرف والصّناعات من وجوهها الّتى هي أخذ علمها من عالمها وتحصيل الاقتدار على عملها بالممارسة والتّكرار عند عاملها ، ومثل ان يأتى الصّناعات العلميّة من وجوهها الّتى هي الأخذ من عالمها والمدارسة عنده ، ومثل ان يأتى العلوم والأعمال الإلهيّة من وجوهها الّتى هي الأخذ من عالم إلهيّ والمدارسة والممارسة عنده وباذنه وتعليمه فالعمدة في طلب الأمور طلب الوجوه المذكورة ، والعمدة في طلب الآخرة والعلوم الإلهيّة طلب عالم إلهيّ منصوب مجاز من الله بلا واسطة أو بواسطة أو بوسائط وبعد معرفته التّسليم والانقياد له لا الأخذ من الاباء والإقران والمشاهدات والعمل بالرّسوم والعادات ، فقد ورد في الاخبار والآيات ذمّ من قال : (إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ) فمن لم يتأمّل في علمه وعمله وفيمن أخذهما منه ولم يميّز العالم الالهىّ بأدنى مرتبة التّمييز وهو كون فعله موافقا لقوله كان مذموما مطرودا مبغوضا سواء عدّ عالما مفتيا مقتدى أو جاهلا معدودا من السّواقط ، نسب الى الباقر (ع) انّه قال في نزول الآية : انّهم كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها ولكنّهم كانوا ينقبون في ظهور بيوتهم اى في مؤخّرها نقبا يدخلون ويخرجون منه فنهوا عن التّديّن بها (وَاتَّقُوا اللهَ) في الانحراف عن الأبواب والدّخول من الظّهور (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) وسبيل الله هو الولاية ، وجميع الأعمال الشّرعيّة من حيث صدورها عن الولاية أو إيصالها الى الولاية سبيل الله لأنّها سبل سبيل الله ، وطريق الكعبة لكونها بالمناسك المشروعة فيها سبيل الله ولكونها مظهرا للقلب الّذى هو سبيل الله حقيقة سبيل الله فقوله : (فِي سَبِيلِ اللهِ) ظرف لقاتلوا حقيقة أو مجازا أو حال عن فاعل قاتلوا ظرفا حقيقيّا أو مجازيّا والمعنى : قاتلوا في حفظ سبل الله أو في ترويجه واعلائه أو في ارتكابه والاتّصاف به أو في طريق الكعبة (الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ) هذه الآية منسوخة بحسب مفهوم قيده الّذى هو عدم تجاوز المقاتلة عن المقاتلين بقوله : (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) ، وناسخة بحسب الأمر بالمقاتلة لقوله تعالى : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ) ولقوله (كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) كما روى ، وكان النّبىّ (ص) قبل ذلك لا يقاتل أحدا ، ونقل انّه نزل هذه الآية بعد صلح الحديبية وذلك انّ رسول الله (ص) لمّا خرج هو وأصحابه في العام الّذى أرادوا فيه العمرة فساروا حتّى نزلوا الحديبية صدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدى بالحديبية ثمّ صالحهم المشركون على ان يرجع في عامه ويعود في العام القابل ويخلوا مكّة ثلاثة ايّام فيطوف بالبيت ويفعل ما يشاء فيرجع الى المدينة من فوره ، فلمّا كان العام المقبل تجهّز النّبىّ (ص) وأصحابه لعمرة القضاء وخافوا ان لا يفي لهم قريش بذلك وان يقاتلوهم وكره رسول الله (ص) قتالهم في الشّهر الحرام وفي الحرم فأنزل الله تعالى هذه الآية (وَلا تَعْتَدُوا) بابتداء القتال وبالتّجاوز عمّن أمرتم بقتاله وبالتّعدّى عن القتل الى قطع الأطراف والتمثيل (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) نفى الحبّ وان كان أعمّ من البغض لكنّه في أمثال المقام يستعمل في البغض

١٧٨

(وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) وجدتموهم وعلى ما ذكر من أنّه ناسخ للآية الاولى فنزوله كان بعدها بتراخ (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ) يعنى من مكّة كما كانوا أخرجوكم وقد فعل ذلك بمن لم يسلم (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) لمّا عاب بعض المؤمنين رجلا من الصحابة قتل رجلا من الكفّار في الشّهر الحرام وكرهوا القتال في الحرم والشّهر الحرام في عمرة القضاء قال تعالى الفتنة اى الكفر بالله والإفساد في الأرض الّتى ارتكبها المشركون أشدّ من القتال فارتكاب القتال لدفع محذور أشدّ ممدوح لا أنّه موجب للذّمّ والعقوبة ولكن احفظوا حرمة الحرم وحرمة الشّهر الحرام (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ) تصريح بمفهوم الغاية (فَاقْتُلُوهُمْ) حتّى يكون القتل منكم دفاعا والدّفاع في الحرم حفظ لحرمته لا هتك لها (كَذلِكَ) القتل بعد المقاتلة (جَزاءُ الْكافِرِينَ) بحرمة الحرم أو بالله (فَإِنِ انْتَهَوْا) عن القتال في الحرم فلا تتعرّضوا لهم فيه (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) يستر ما فرط منهم (رَحِيمٌ) يرحمهم بترك عقوبتهم على كفرهم في الحرم (وَقاتِلُوهُمْ) عطف على اقتلوهم يعنى فان قاتلوكم وبدؤكم بالقتال في الحرم فاقتلوهم وقاتلوهم أو عطف على لا تقاتلوهم عند المسجد يعنى لا تقاتلوهم في الحرم الّا ان يبدؤكم بالقتال فيه وقاتلوهم مطلقا في غيره بقرينة المقابلة (حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ) شرك وإفساد (وَيَكُونَ الدِّينُ) اى سيرة الخلق أو عبادتهم أو طاعتهم أو ملّتهم (لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا) عن المقاتلة في الحرم أو عن الشرك مطلقا فانتهوا عن القتال (فَلا عُدْوانَ) اى لا عقوبة والعدوان مصدر عدا يعدوا عدوا بمعنى الظّلم والعقوبة من غير استحقاق لكنّه جرّد هاهنا عن قيد عدم الاستحقاق واستعمل للمشاكلة (إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) المقاتلين أو المشركين (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) سمّى بالشّهر الحرام لحرمة القتال فيه حتّى لو انّ رجلا لقى قاتل أبيه أو أخيه فيه لم يتعرّض له بسوء ، والأشهر الحرم كانت اربعة ؛ ثلاثة متوالية ؛ ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم ، وواحد فرد وهو رجب ، وسمّى ذو القعدة بذي القعدة لقعودهم عن القتال فيه ولمّا كانوا متحرّجين بالقتال في عام عمرة القضاء وكان المشركون تعرّضوا لقتالهم في العام السّابق فرفع التحرّج عنهم بأنّ قتال المشركين في الشّهر الحرام بإزاء قتالهم ايّاكم في الشّهر الحرام ، أو المراد تهنئة المؤمنين وتسليتهم بأنّ دخول مكّة في ذي القعدة بإزاء صدّ المشركين في ذي القعدة في العام السّابق فالتّقدير قتال الشّهر الحرام بقتال الشّهر الحرام أو دخول مكّة في الشّهر الحرام بإزاء صدّهم عنها في الشّهر الحرام (وَالْحُرُماتُ) جمع الحرمة بالضّمّ والسّكون وبضمّتين وكهمزة ما لا يحلّ انتهاكه والذّمّة والمهابة والنصيب (قِصاصٌ) قيل : كان المشركون فخروا بردّهم رسول الله (ص) في عام الحديبية فقال تعالى : تهكّما بهم : والحرمات فيها قصاص ونسب هذا الى الباقر (ع) ، وقيل : انّه أيضا رفع لتحرّج المسلمين بالقتال في عام القضاء ، يعنى انّ الحرمات يجب حفظها ولا يجوز هتكها ولكن يجوز الاقتصاص فيها وجمع الحرامات باعتبار حرمة الشّهر وحرمة الإحرام وحرمة الحرم وقوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ) يؤيّد هذا الوجه واعتدى وعدى وتعدّى بمعنى ظلم (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) يعنى في الشّهر الحرام وفي الحرم أو مطلقا واستعمال الاعتداء مع أنّه ليس من المؤمنين اعتداء من باب المشاكلة والتّجريد

١٧٩

مثل ما مضى في العدوان (بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ) في الابتداء بالاعتداء وفي التّجاوز الى الزّيادة في الانتصار ولمّا كان النّفوس غير واقفة على قدر ما يفعل بهم في الاقتصاص بل هي طالبة لان تفعل بالجانى أضعاف ما جنى عليها خوفا من اجتراء الجاني وغيره على التّعدّى عليها وإطفاء لاشتعال غضبها رفع ذلك الخوف واطفأ هذا الاشتعال بقوله (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) فلا تخافوا من تعدّى عليكم وتسلّوا بالله لا بإمضاء الغضب.

اعلم انّ النّفوس في مراتب التّسليم والانقياد مختلفة ؛ فنفس لا تقوى على الانقياد أصلا فلا تقبل من الله تعالى امرا ولا نهيا وتعتدي على الغير ابتداء وتقتصّ من الجاني عليها بما تقدر عليه ولا كتاب معها ولا خطاب وأمرها موكول الى وقت الممات ، ونفس تقدر على قبول الأمر والنّهى لكنّها لا تقدر على ترك القصاص فرخّصها الله تعالى ونهاها عن التّجاوز عن قدر الجناية وقال لمثلها على سبيل التّلطّف : وان تصبروا فهو خير لكم ، ونفس تقدر على ترك الاقتصاص لكن لا تقدر على الصّفح الّذى هو تطهير القلب عن الحقد على الجاني فأمرها تعالى بكظم الغيظ والعفو عن الجاني ، ونفس تقدر على الصّفح لكن لا تقدر على الإحسان الى الجاني فكلّفها تعالى الصّفح وآخر المراتب القدرة على الإحسان الى الجاني والله يحبّ المحسنين ، فتكليف الله تعالى على قدر وسع النّفوس لا يكلّف الله نفسا الّا وسعها ، وما ورد من المعصومين (ع) صريحا واشارة انّ للايمان درجات فلو حمل صاحب الدّرجة الاولى على الثّانية وصاحب الدّرجة الثّانية على الثّالثة وهكذا هلك ؛ اشارة الى هذا المعنى وانّ لكلّ نفس تكليفا من الله ، وانّ المفتي ينظر الى أحوال الأشخاص ويكلّف بحسب أحوالهم.

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) قد مضى بيان مفصّل للإنفاق في اوّل السّورة وقد مرّ قبيل هذا بيان سبيل الله والظّرف لغوا وحال عن فاعل أنفقوا ظرفا مجازيّا أو حقيقيّا والمعنى أنفقوا من أموالكم الدّنيويّة واعراضكم واغراضكم وأبدانكم وقواكم وشهواتكم وغضباتكم وانانيّاتكم وبالجملة من كلّ ما ينسب الى انانيّاتكم في الولاية وكلّما ينتسب الى الولاية من الأعمال القالبيّة والقلبيّة وسبيل الحجّ والجهاد (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) يعنى من غير سبب من الخارج فانّ قوله بأيديكم بمنزلة قولهم فلان فعل بنفسه يعنى من غير واسطة فانّه في الحقيقة لنفى الواسطة لا لاثبات وساطة النّفس (إِلَى التَّهْلُكَةِ) يعنى في الإنفاق بان تنفقوا من كلّما ذكر ما لا يتحمّله النّفس فهو في الحقيقة امر بالاقتصاد في الإنفاق (وَأَحْسِنُوا) امّا تأكيد للاقتصاد المستفاد من الجمع بين الأمر بالإنفاق والنّهى عن إهلاك المال رأسا ، أو امر بإصلاح المال بعد الانتقاص بالإنفاق كأنّه قال : أنفقوا متدرّجين في الإنفاق حتّى لا يبقى لكم كثير ولا قليل ثمّ ارجعوا الى ما وراءكم وأصلحوا ما ضاع منكم بان تأخذوا ممّا أنفقتم في سبيله فيكون اشارة الى مقام البقاء بالله بعد الفناء في الله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ولمّا وقع هذا بعد آية التّرخيص في القصاص جاز ان تخصّص الكلمات بالإنفاق من القوّة المقتضية للاقتصاص والنّهى عن ترك القصاص المستلزم للحرج والإحسان الى المقتصّ منه بتخفيف القصاص والى النّفس بإمضاء بعض من غضبها (أَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) بإتمام مناسكهما وترك المحرّمات فيهما ، ونسب الى الباقر (ع) انّه قال تمام الحجّ لقاء الامام (ع) ، وعن الصّادق (ع) إذا حجّ أحدكم فليختم حجّه بزيارتنا لانّ ذلك من تمام الحجّ ، وعلى هذا فيجوز ان يقال : معنى قوله : (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أنفقوا ممّا ينسب الى انانيّاتكم في سبيل الحجّ الصورىّ والحجّ المعنوىّ واقتصدوا في الإنفاق حتّى لا تهلكوا أنفسكم قبل استكمالها ، وأتمّوا الحجّ

١٨٠