تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

(أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) وكما قال أمّة عيسى (ع) (هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ)(تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) في الجهل والعمى عمّا ينفعهم والعناد واللّجاج (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) استيناف بيانى كأنّه قيل الم يظهر حقّيّة الحقّ ورسوله حتّى سألوا مثل هذا السّؤال فقال تعالى : (قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ) ولم نتركهم بلا بيّنة لكنّهم أهل شكّ وريبة وليسوا أهل عقل وايقان حتّى أيقنوا بما من شأنه ان يوقن به ولو جئناهم بكلّ آية مقترحة أو غير مقترحة لما أيقنوا وما قبلوا (إِنَّا أَرْسَلْناكَ) استيناف بيانىّ أيضا كأنّه قال (ص) : فما أصنع مع هؤلاء وليس من شأنهم الإيقان وقد أمرتنى بدعوتهم؟ ـ فقال : انّا أرسلناك (بِالْحَقِ) برسالة حقّة أو متلبّسا بالحقّ أو مسبّبا رسالتك عن الحقّ (بَشِيراً وَنَذِيراً) يعنى شأنك التّبشير والإنذار قبلوا أو ردّوا أيقنوا أو شكّوا ، وليس من شكّهم وردّهم وبال وعقوبة عليك (وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ) قرء بالنّفى مبنيّا للمفعول وبالنّهى مبنيّا للفاعل وعلى قراءة النّهى فالمقصود تهويل عذابهم ونارهم لا ما قاله بعض العامّة انّه نهى للرّسول (ص) عن السّؤال عن حال أبويه العياذ بالله والجحيم النّار الشّديدة التّأجّج وكلّ نار بعضها فوق بعض وكلّ نار عظيمة في مهواتها ، والمكان الشّديد الحرّ وجحم من باب منع بمعنى أوقد ، ومن باب كرم وفرح بمعنى اضطرم (وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى) عطف على جملة لا تسأل أو جملة انّا أرسلناك (حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) اقناط له (ص) عن رضاهم بأنّهم لا يرضون عنه الّا بما هو محال عنده وردع للمؤمنين عن طلب رضاهم (قُلْ) للمؤمنين (إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدى) لا استرضاء اليهود والنّصارى ورضاهم ، أو قل لليهود والنّصارى : انّ هدى الله هو الهدى لا ما اعتدتموه من الملّة المأخوذة من الآباء المهويّة لكم بسبب اعتيادها (لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) آراء أنفسهم من غير مداخلة العقل أو مهويّاتهم (بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) بحقّيّة ملّتك وبطلان ملّتهم وآرائهم (ما لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) لم يأت بالفاء لكونه جوابا للقسم لا للشّرط وهو على «ايّاك اعنى واسمعي يا جارة» تعريض بأمّته (ص) (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) لا للّذين أوتوا الكتاب فأشار الى امتيازهم من أهل الكتاب بتشريف نسبة الإيتاء الى نفسه يعنى الّذين استعدّوا بفطرتهم وبقابليّتهم المكتسبة لإيتاء الكتاب فآتيناهم أحكام النّبوّة وصور الكتب السّماويّة مشتملة على معانيها الواقعيّة والجملة مستأنفة جواب لسؤال مقدّر كأنّه قيل : فلا يؤمن أهل الكتاب بمحمّد (ص) ورسالته أو بكتابهم أو بكتابه (ص) أو بجنس الكتاب ولا يتلوه وهو تسلية للرّسول والمؤمنين بأنّ الّذين آتاهم الله الكتاب وكلّ واحد منهم خير من الف الف من الّذين آتاهم الشّيطان كتابا (يَتْلُونَهُ) خبر أو حال أو معترضة جواب لسؤال مقدرّ قبل تمام الكلام كأنّه قيل : ما يفعل من شرفته بإيتاء الكتاب؟ ـ فقال تعالى : يتلونه (حَقَّ تِلاوَتِهِ) نسب الى الباقر (ع) أنّه قال : يتلون آياته ويتفقّهون فيه ويعملون بأحكامه ويرجون وعده ويخافون وعيده ويعتبرون بقصصه ويأتمرون بأوامره وينتهون بنواهيه ما هو والله حفظ آياته ودرس حروفه وتلاوة سوره ودرس أعشاره وأخماسه ؛ حفظوا حروفه وأضاعوا حدوده ، وانّما هو تدبّر آياته والعمل بأحكامه ؛ قال الله تعالى : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) فالّذين آتاهم الله الكتاب وشرّفهم بذلك يحزنهم ترك الرّعاية والقصور

١٤١

والتّقصير في مراعاته والّذين آتاهم الشّيطان الكتاب أو أخذوه من الآباء بحسب ما اعتادوه أو تلقّفوه من الرّجال بحسب ما تدارسوه فانّهم يعجبهم حفظ الرّواية ولا يبالون بترك الرّعاية (أُولئِكَ) العظماء (يُؤْمِنُونَ بِهِ) بالكتاب أو بمحمّد (ص) أو بالله على ان يكون في الكلام التفات ومحلّ الجملة يعلم بالمقايسة الى الجملة السّابقة (وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) لا خاسر سواهم (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) قد مضى الآيتان الّا انّ الآية الاخيرة كانت فيما مضى هكذا (وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) وكرّر الآيتين لكمال الاهتمام بالنّصح وللاشعار بأنّ أصل جملة النّصائح تذكير النّعم والموت والتّهديد منه بجعلها مقدّمة للنّصائح وفذلكة لها.

تحقيق ابتلاء إبراهيم بكلمات

(وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ) ابتليته اختبرته وامتحنته أو استخبرته فأبلانى اى أخبرنى وكلا المعنيين صحيح هنا والمعنى امتحنه بسبب عرض كلمات عليه هل يعلمه أو يتحمّله أم لا أو استخبره كذلك وقرئ إبراهيم ربّه برفع إبراهيم ونصب ربّه بمعنى سأل إبراهيم ربّه على ان يكون ابتلى بمعنى استخبر المستلزم للّسؤال ، والكلمات جمع الكلمة وهي في عرف الأدباء لفظ موضوع لمعنى مفرد ، وفي اللّغة اللّفظة والقصيدة وتستعمل في كلّ لفظ موضوع مفردا كان أم مركّبا ، ناقصا أم تامّا ، وفي الكلمات النّفسيّة كذلك ، وفي عرف الشرع تستعمل في الكلمات اللّفظيّة والنّفسيّة كاللّغة ، وفي الكلمات الوجوديّة الّتى هي مراتب الوجود طولا وأنحاء الوجودات عرضا ، فانّ خصوصيّات المصاديق غير معتبرة في مفاهيمها عندهم فانّ القلم مثلا اسم لما يكتب به وليس كونه قصبا أو حديدا أو غير ذلك معتبرا في مفهومه ، والكلمة ما دلّ على معنى من دون اعتبار خصوصيّة اللّفظ أو النّقش أو الوضع من واضع بشرىّ فيها ، وقد كثر اطلاق الكلمات في الآيات والاخبار على أنحاء الوجودات والمراد بالكلمات مراتب الوجودات الّتى هي شؤن انسانيّة الإنسان المستلزمة للكمالات الانسانيّة النّفسيّة والاضافيّة من الأخلاق والنّبوّات والرّسالات والامامات ، والمراد بالابتلاء بهنّ عرضهن عليه بايداع أنموذج من كلّ في وجوده بحيث يستشعر ويلتذّ به ويشتاق الى أصله فيجول بشوقه حتّى يبلغ الى حقيقته وتمكّن وتحقّق بها فانّه إذا أراد الله بعبد ان يظهر منه خيرا أو شرّا ابتلاه بشيء من الغيب بمعنى انّه ينبّهه على انّ ما وراء الشّهادة شيء فيظنّ اوّلا ذلك الشيء ويشتاقه فقد يجول حول ظنّه وقد يسكن عن الحركة الى مآرب نفسه حتّى يصير ظنّه علما فيشتدّ شوقا فقد يجول حول علمه أكثر من جولانه حول ظنّه وقد يسكن عن الحركة الى ما اقتضته نفسه حتّى يصير علمه وجدانا بايداع أنموذج ذلك الأمر في نفسه شاعرا كان في تلك المراتب بظنّه وعلمه ووجدانه أو غير شاعر فيجول حول وجدانه أكثر من جولانه السّابق حتّى يصير وجدانه شهودا فيجول حول مشهوده أكثر من السّابق حتّى يتّصل فيلازم المتّصل به حتّى يتّحد فيلازم حتّى يبقى المتّحد به وحده وكلّ من تلك المراتب له درجات بحسب اشتداده وضعفه وللسّالك في الدّرجات حالات بحسب تلوينه وتمكينه ، وان سكن المتنبّه وحام حول نفسه عن مظنونه ومعلومه كان كمن آتاه الله آياته فانسلخ منها وظهر شرّه ، والمراد بإتمام الكلمات إتمامها من حيث الاضافة اليه عليه‌السلام لا من حيث أنفسها فانّها تامّات من حيث أنفسها بل فوق التّمام وتماميّته اضافتها بالتمكّن في التحقّق بها وهو آخر المراتب والدّرجات ، فالمعنى واذكر حتّى تكون على بصيرة في أمرك

١٤٢

أو في أمر من تعلّمه السّلوك الى الآخرة أو ذكّر حتّى يعلم من يريد السّلوك الى الله وقتا ابتلى إبراهيم (ع) ربّه بإذاقة طعم من اللّطائف الوجوديّة الغيبيّة واشمام رائحة منها فوجد والتذّ واشتاق واهتزّو انماث وطاب ووصل واتّصل واتّحد (فَأَتَمَّهُنَ) وصار واحدا متحقّقا متمكّنا ولمّا كان ظهور لطائف الأنوار الخمسة محمّد (ص) وعلىّ (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) أو الاثنى عشر أو الاربعة عشر من لوازم إتمام تلك الكلمات ، وهكذا الحال في الامتحان بذبح الولد فسّر الكلمات في الاخبار بها ، ولمّا كان إبراهيم (ع) بالنّسبة الى محمّد (ص) ناقصا وان كان بالنّسبة الى سائر الأنبياء تامّ الكلمات أتى بالجمع السّالم خاليا عن اللّام مفيدا للقلّة بخلاف محمّد (ص) حيث قال فآمنوا بالله ورسوله النّبىّ الامّىّ الّذى يؤمن بالله وكلماته فأتى بالكلمات مضافة مفيدة للعموم ، ولمّا أتمّ الكلمات وأتمّت له العبوديّة والنّبوّة والرّسالة والخلّة فانّها كانت من لوازم تلك الكلمات وبتماميّتهن تكون تماميّتها

تحقيق مراتب الخلق من النّبوّة والرّسالة والخلّة والامامة

(قالَ) تشريفا له (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) وهذه الامامة غير إمامة امام القوم في ضلالة كانت أم في رشد ، وغير إمامة امام الجماعة والجمعة حقّا كان أم باطلا ، وغير الامامة الحقّة الجزئيّة الّتى اتّصف بها مشايخ الاجازة في الرّواية أو في الهداية ، وغير الامامة الحقّة الجزئيّة الّتى اتّصف بها كلّ نبىّ ووصىّ بل هي فوق كلّ المراتب الانسانيّة وهي مقام التّفويض الكلّىّ الحاصل بعد الولاية والرّسالة الكلّيّتين ولذا ورد عن الصّادق (ع): انّ الله تبارك وتعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل ان يتّخذه نبيّا ، وانّ الله اتّخذه نبيّا قبل ان يتّخذه رسولا ، وانّ الله اتّخذه رسولا قبل ان يتّخذه خليلا ، وانّ الله اتّخذه خليلا قبل ان يجعله إماما ، فلمّا جمع له الأشياء قال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) فالامامة آخر جميع مراتب كمالات الإنسان فانّ اوّل كمالاته العبوديّة من اولى درجاتها ، وهي اولى درجات السّلوك الى الطّريق متدرّجا فيه الى الوصول الى الطّريق متدّرجا في السّلوك على الطّريق الى الله الى ان خرج من انانيّته ورقيّة نفسه ودخل في زمرة عباده واستكمل العبوديّة وصار عبدا خالصا ، فان أدركته العناية وأبقاه الله بعد فنائه وأحياه بحيوته لتكميل خلقه فامّا ان يوكّله بإصلاح قلبه الّذى هو بيت الله حقيقة وبإصلاح أهل مملكة نفسه من غير اذن له في الرّجوع الى خارج مملكته وهو مقام النّبوّة المفردة عن الرّسالة ، أو يأذن له مع ذلك بإصلاح المملكة الخارجة وهو الرّسالة المفردة عن الخلّة ، أو يختاره مع ذلك لنفسه ممتازا به عن سائر رسله معيدا له كرّة أخرى غير العود الاوّل فانّ العود الاوّل كان بطرح كلّ ما أخذ وبهذا العود يعود معه جميع ما أعطاه الله وهو جميع ما سواه وهو الخلّة ، فان استكمل مقام الخلّة بان كان مقامه مع الحقّ هو مقامه مع الخلق مع التمكّن في ذلك اختاره للامامة وتفويض جملة الأمور اليه بحيث لا يسقط ورق من شجر الّا بإذن وكتاب وأجل منه ، وليس وراء هذه مقام ومرتبة. وقد علم من هذا انّ كلّ امام خليل ، وكلّ خليل رسول ، وكلّ رسول نبىّ ، وكلّ نبىّ عبد ؛ وليس بالعكس ، وانّ الامامة بهذا المعنى هو الجمع بين المقام في الخلق والمقام عند الحقّ من غير قصور في شيء منهما مع التّمكّن في ذلك ولمّا نظر إبراهيم (ع) الى مقام الامامة وشرافتها وكان حافظا للخلق مع المقام عند الحقّ اقتضى مقامه في الخلق مراعاة أرحامه الجسمانيّة والرّوحانيّة فتبجّح بما أعطاه الله وسأل ذلك لا عقابه ، ولمّا علم أنّ جميع ذراريه لا يمكن ان يكونوا بهذا الشّأن (قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) بمن التبعيضيّة عطفا على ضمير الخطاب في جاعلك ، وقد يفعل مثل ذلك المتخاطبان فيعطف أحدهما

١٤٣

شيئا من قوله على شيء من قول الآخر مثل ان يقال : سأكرمك فيقول المخاطب : وزيدا ، أو عطفا على جملة (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) بتقدير واجعل من ذرّيّتى ، واعتبار معنى الإنشاء : في انّى جاعلك كأنّه قال : لا جعلك ، للنّاس إماما ، قال : واجعل من ذرّيّتى ، ولفظ قال في المراتب الثلاث جواب لسؤال مقدرّ ويجوز ان يكون إذ ابتلى ظرفا متعلّقا بقال الاوّل لا مفعولا لمقدّر والذرّيّة مثلّثة الذّال وقرء بالضمّ والكسر نسل الرّجل فعيلّة أو فعولّة من الذّر بمعنى التّفريق وأصله ذريرة أو ذروة قلبت الرّاء الاخيرة ياء جوازا مثل أحسيت في أحسست ثمّ تصرّف فيه بحسب اقضاء الصّرف أو من الذّرأ بمعنى الخلق أو بمعنى التّكثير وأصله ذريئة أو ذروئة فتصرّف فيه على حسب اقتضاء الصرّف (قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) اجابة لمسؤله وتعيين للمعطي والمحروم وتنبيه له على أنّ من ذرّيّته من يكون ظالما ، وعلى انّ المتّصف بالظّلم لا يصلح للامامة ، وابطال لامامة كلّ ظالم الى يوم القيامة ، وقد اعترف بعض مفسّرى العامّة بأنّ الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من الكبائر قبل البعث وانّ الفاسق لا يصلح للامامة ، والعهد الوصيّة والتّقدّم الى المرء في شيء والموثق والكتاب الّذى يكتب للولاة مشتملا على ما ينبغي ان يعملوا بالنّسبة الى الرّعيّة مأخوذ من الوصيّة والحفاظ ورعاية الحرمة والامان ، والمراد بالعهد المذكور الامامة السّابقة فانّ الاضافة للعهد ويناسبها كلّ من المعاني المذكورة ، ومضى بيان للظلم وقد ورد في الأخبار أنّ محمّدا (ص) والائمّة (ع) هم المقصودون بدعوة إبراهيم (ع) (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ) الكعبة فانّ اللّام للعهد الخارجىّ أو القلب فانّه المعهود بين المتخاطبين المنظور اليه لهما والمتراجع اليه ومحلّ الجزاء له (ص) وللخلق حقيقة ، والكعبة لمّا كانت صورته جعلت بالمواضعة متراجعا إليها ومحلّا لجزاء الرّاجع إليها (مَثابَةً) محلّ ثواب وجزاء ومحلّ رجوع (لِلنَّاسِ وَأَمْناً) لا يصطاد صيدها ولا يعنف الجاني المستجير بها ، والبلد الطيّب ، والحرم بحسب التّأويل صورة النّفس المطمئنّة والصّدر المنشرح ، ويسرى حكم البيت الى المسجد والحرم بمجاورتهما له ، وهكذا حال النّفس والصّدر وسيأتى تحقيق البيت ومظهريّته للقلب والمناسبة بين مناسك الكعبة ومناسك القلب (وَاتَّخِذُوا) عطف على جعلنا بتقدير قلنا أو عطف على عامل إذا ومعترضة معطوفة على مقدّر كأنّه قيل بعد ما قال جعلنا البيت مثابة وأمنا فما نصنع؟ ـ قال : ارجوا اليه واتّخذوا (مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ) هو الحجر الّذى عليه أثر قدم إبراهيم (ع) (مُصَلًّى) محلّا للدّعاء أو للصّلوة الّتى هي فريضة الحجّ ، أو للصّلوة النّافلة ؛ روى عن الباقر (ع) أنّه قال (ع): ما فرية أهل الشّام على الله تعالى يزعمون انّ الله تبارك وتعالى حيث صعد الى السّماء وضع قدمه على صخرة بيت المقدّس ولقد وضع عبد من عباد الله قدمه على صخرة فأمرنا الله ان نتّخذه مصلّى ، وروى أنّه نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة ، مقام إبراهيم (ع) ، وحجر بنى إسرائيل ، والحجر الأسود (وَعَهِدْنا) أوصينا (إِلى إِبْراهِيمَ) عليه‌السلام (وَإِسْماعِيلَ) عليه‌السلام (أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) ولعلّك تفطّنت بتعميم البيت والتّطهير والطّائف والعاكف والرّاكع والسّاجد وروى عن الصّادق (ع) انّ المعنى نحيّا عنه المشركين وروى أنّه سئل يغتسلن النّساء إذا أتين البيت؟ ـ قال : نعم انّ الله يقول : (طَهِّرا بَيْتِيَ) ؛ الآية ، فينبغي للعبد ان لا يدخل الّا وهو طاهر قد غسل عنه العرق والأذى وتطهّر (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا) البلد الّذى هو مكّة أو هذا الصّدر الّذى صار مكّة مظهرا له على ما سبق الاشارة اليه (بَلَداً آمِناً) من تغلّب المتغلّبين بمحض الارادة

١٤٤

ومن اقتصاص الجاني الملتجئ اليه ومن اصطياد صيده بالمواضعة التّكليفيّة ومن شرّ الشّياطين من الانس والجنّ ومن استراق السّمع بحافظيّتك إذا أريد البلد الّذى هو الصّدر المنشرح (وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ) أهل بلد مكّة من ثمرات الدّنيا كما نقل انّه يوجد فيه ثمرات الصّيف والشّتاء في وقت واحد. وروى انّ إبراهيم لمّا دعا بهذا الدّعاء أمر الله تعالى بقطعة من الأردن (١) فسارت بثمارها حتّى طافت بالبيت ثمّ أمرها ان تنصرف الى هذا الموضع الّذى سمّى بالطّائف ولذلك سمّى طائفا. وعن الباقر (ع) انّ الثّمرات تحمل إليهم من الآفاق وقد استجاب الله له حتّى لا توجد في بلاد المشرق والمغرب ثمرة لا توجد فيها حتّى حكى انّه يوجد فيها في يوم واحد فواكه ربيعيّة وصيفيّة وخريفيّة وشتائيّة وعن الصّادق (ع) يعنى من ثمرات القلوب اى حبّهم الى النّاس ليأتوا إليهم ويعودوا ، وهذا بيان لتأويل الثّمرات وعلى تأويل البلد فالمعنى وارزق أهله من ثمرات العلوم ومن ثمرات القلوب وثمرات القلوب ان تتولّاهم وتقبّل ولايتهم (مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بدل من أهله نسب الى السجّاد (ع) أنّه قال : انّ المقصود منهم الائمّة من آل محمّد (ص) وشيعتهم (قالَ وَمَنْ كَفَرَ) عطف على من آمن على ان يكون البدل بدل الكلّ من الكلّ بدلا تفصيليّا يكون تتميمة من الله ويكون قوله تعالى : (فَأُمَتِّعُهُ) اوّل كلام من الله ، أو من كفر ابتداء كلام من الله معطوف على مقدّر جواب لمسؤل إبراهيم (ع) كأنّه تعالى قال اجابة لمسؤله من آمن أرزقه ومن كفر فانا أمتّعه ؛ على ان يكون من شرطيّة ودخول الفاء في المضارع المثبت مع عدم جوازه بتقدير أنا ، ورفعه لكون الشّرط ماضيا ، أو من موصولة ودخول الفاء في الخبر لتضمّن المبتدأ معنى الشّرط ، وترتّب التّمتيع على الكفر باعتبار التّقييد بالقلّة وتعقيب الاضطرار الى العذاب (قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) نسب الى السجّاد (ع) انّه قال : عنى بذلك من جحد وصيّه ولم يتّبعه من أمّته كذلك والله هذه الأمّة (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) قائلين (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا) بناء البيت بأمرك طلبا لرضاك (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ) لدعائنا (الْعَلِيمُ) بأعمالنا ونيّاتنا ، عن الصّادق (ع) انّ إسماعيل (ع) لمّا بلغ مبلغ الرّجال أمر الله إبراهيم (ع) ان يبنى البيت فقال : يا ربّ في أىّ بقعة؟ ـ قال : في البقعة الّتى أنزلت بها على آدم ، القبّة ، فأضاء لها الحرم فلم يدر إبراهيم (ع) في اىّ موضع يبنيه فانّ القبّة الّتى أنزلها الله على آدم كانت قائمة الى ايّام الطّوفان فلمّا غرقت الدّنيا رفع الله تلك القبّة وبقي موضعها لم يغرق ولهذا سمّى البيت العتيق لأنّه أعتق عن الغرق ، فبعث الله جبرئيل (ع) فخطّ له موضع البيت فأنزل الله عليه القواعد من الجنّة وكان الحجر لمّا أنزله الله على آدم (ع) أشدّ بياضا من الثّلج فلمّا مسّته أيدى الكفّار اسودّ ، فبنى إبراهيم (ع) البيت ونقل إسماعيل الحجر من ذي طوى (٢) فرفعه في السّماء تسعة أذرع ثمّ دلّه على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم (ع) ووضعه في الموضع الّذى هو فيه الآن فلمّا بنى جعل له بابين ، بابا الى المشرق وبابا الى المغرب يسمّى المستجار ثمّ القى عليه الشّجر والإذخر (٣) وعلّقت هاجر على بابه كساء كان معها ، وكانوا يكتسون تحته. وفي خبر انّه قال (ع): يا بنىّ قد أمرنا الله ببناء الكعبة وكشفا عنها

__________________

(١) الاردن ، بضم الالف والدال وشدّ النون كورة من الشام.

(٢) ذو طوى ، بتثليت الطاء وقد ينون موضع قرب مكة.

(٣) الإذخر ، الحشيش الأخضر ونبات طيّب الرائحة.

١٤٥

فاذا هو حجر واحد أحمر فأوحى الله اليه ضع بنائها عليه وأنزل الله اربعة أملاك يجمعون اليه الحجارة فكان إبراهيم (ع) وإسماعيل (ع) يضعان الحجارة والملائكة تناولهما حتّى تمّت اثنى عشر ذراعا وهيّئا له بابين. وفي حديث فنادى ابو قبيس إبراهيم (ع) انّ لك عندي وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه. وفي خبر آخر : كان البيت درّة بيضاء فرفعه الله الى السّماء وبقي أسّه فهو بحيال هذا البيت يدخله كلّ يوم سبعون الف ملك لا يرجعون اليه أبدا ، وفي خبر انّ إسماعيل (ع) اوّل من شقّ لسانه بالعربيّة (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) من أسلم بمعنى انقاد أو من أسلم بمعنى أخلص يعنى صار ذا سلامة من آفات النّفس وشرورها ، وامّا أسلم بمعنى صار مسلما وداخلا في ملّة الإسلام فانّه من المشتقّات الجعليّة المأخوذة بعد اشتهار ملّة الإسلام (وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا) الجسمانيّة والرّوحانيّة أو الجسمانيّة فقط فانّهم أولى بالشّفقة ومن للتّبعيض وهو مع قوله تعالى (أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) عطف على مفعولي اجعل أو من للبيان وأمّة ومسلمة عطف على مفعولي اجعل ومن ذرّيّتنا حال عن الامّة أو مسلمة صفة أمّة ولك في مقام المفعول الثّانى ومن ذرّيّتنا حال عمّا بعده. وفي بعض الأخبار انّ المراد أهل البيت الّذين أذهب الله عنهم الرّجس وفي رواية أراد بنى هاشم خاصّة (وَأَرِنا) أعلمنا (مَناسِكَنا) محالّ أعمالنا للحجّ أو محالّ عباداتنا على ان يكون جمع المنسك اسم المكان ، أو عباداتنا على ان يكون جمع المنسك مصدرا ميميّا والنّسك بتثليث النّون وإسكان السّين أو بضمّتين العبادة أو اعمال الحجّ مخصوصا (وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) قد مضى بيان لتوبة العبد وتوبة الرّبّ عند قوله تعالى : (إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)(رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ) هذا يدلّ على انّ المراد من الذرّيّة من بعث فيهم محمّد (ص) ولذلك قال (ص) على ما نسب اليه (ص) انا دعوة أبى إبراهيم (يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ) يقرأ عليهم آياتك التّدوينيّة (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قد مضى بيان للكتاب والحكمة وانّ المراد بالكتاب أحكام الرّسالة والنّبوّة من العقائد الدّينيّة وعلم الأخلاق النّفسيّة وعلم الأعمال البدنيّة ، وانّ الحكمة قد تستعمل في كمال القوّة النّظريّة ، وقد تستعمل في كمال القوّة العمليّة ، والمراد بها هاهنا كمال القوّة العمّالة والمعنى يعلّمهم العلوم الّتى ينبغي تعلّمها والأعمال الدّقيقة المتقنة الّتى لا تتعلّم الّا بكثرة المواظبة والممارسة عليها (وَيُزَكِّيهِمْ) بعد تعليم المسائل وتعليم إتقان العمل لسهولة التّزكية ، وهذا يدلّ على انّ السّالك ينبغي ان يكون تحت ارادة الشّيخ بلغ ما بلغ في العلم والعمل ؛ وهو كذلك فانّ الخلاص من الرّذائل وآفات النّفس والشّيطان لا يكون الّا بامداد الشّيخ واعانته لانّ الإنسان العليل كلّما أزال علّة من نفسه ازداد علّة أخرى في نفسه ، وكلّما ظنّه مقوّيا لصحّته صار سببا لزيادة مرضه أو لحدوثه ، وسيأتى عند قوله تعالى (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ) بيان للتزكية ولتقديم التّعليم هاهنا وتأخيره هناك (إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ) الّذى لا يمنعك مانع عمّا تريد (الْحَكِيمُ) العالم بدقائق المعلومات القادر على دقائق المصنوعات ، وكأنّه إقرار بعجزه عن درك مصالح مسئوله وتعليق للسّؤال على اقتضاء حكمة كأنّه قال : وابعث فيهم رسولا كذا ان اقتضته حكمتك ؛ وهذا غاية الأدب في السّؤال (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) استبعاد وانكار (إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ) سفه نفسه بالحركات الثّلاث في عين سفه يعنى حملها على السّفاهة ونصب نفسه على ضمّ الفاء وفتحه للتّشبيه بالمفعول كما في الحسن الوجه

١٤٦

وعلى الكسر قيل : انّه متعدّ ، وقيل : انّه كذلك (وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ) حال في موضع التّعليل (فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) فلا ينبغي الرّغبة عنه وعن ملّته (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ) تعليل لاصطفائه وصلاحه (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ وَوَصَّى بِها) اى بالملّة أو بكلمة الإسلام (إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) يعنى ينبغي ان يكون إسلامكم ثابتا راسخا حتّى لا يزول عند الموت ؛ والآية تعريض بإنكار التهوّد والتّنصّر وانّ إبراهيم ما أمر باليهوديّة ولا بالنّصرانيّة بل أمر بالإسلام ووصىّ هو ويعقوب بينهما بالإسلام لا بالتهوّد والتنصّر (أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ) أم منقطعة متضمّنة للهمزة والمقصود إظهار انّ بنى يعقوب أقرّوا بعبادة الله وتوحيده تعريضا باليهود والنّصارى في عبادة العزير والمسيح ، وأقرّوا بالإسلام تعريضا بنفي التهوّد والتنصّر (إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ) بدل من إذ حضر (لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي) سأل (ع) عمّا يعبدونه تذكيرا بالتّوحيد وتقريرا لهم عليه وعلى الإسلام (قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ) عدّوه من الاباء لانّ العمّ كالأب ويسمّيه العرب أبا (وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً) صرّح بالتّوحيد تعريضا باليهود والنّصارى في القول بأنّ عزيرا ابن الله والمسيح ابن الله أو ثالث ثلاثة (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) لا يهوديّون ولا نصرانيّون (تِلْكَ أُمَّةٌ) جماعة قاصدون لمقصود واحد (قَدْ خَلَتْ) والمراد إبراهيم (ع) ويعقوب وبنوهما (لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) يعنى انّ انتسابكم إليهم لا ينفعكم به حسناتهم ولا يضرّكم به سيّئاتهم فانظروا الى اعمال أنفسكم لا الى انسابكم وآبائكم (وَقالُوا) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال ، قال إبراهيم (ع) ويعقوب (ع) كونوا مسلمين وقالوا (كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى) اى قالت اليهود : كونوا هودا وقالت النّصارى : كونوا نصارى فلفظة أو ليست للتّخيير والاباحة بل هي للتفصيل (تَهْتَدُوا قُلْ) لهم يا محمّد (بَلْ) كونوا مسلمين واتّبعوا (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) وكونوا أهل ملّة إبراهيم أو على ملّة إبراهيم (حَنِيفاً) مستقيما أو مائلا عن الأديان المعوّجة وهو حال عن الملّة أو إبراهيم ولم يقل حنيفة لكون الملّة بمعنى الدّين أو لكسبه التّذكير من المضاف اليه وروى انّ الحنيفيّة هي الإسلام (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) تعريض بالمشركين كما انّ قوله تعالى (بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) كان ردّا لأهل الكتاب فانّ المشركين أكثرهم مقرّون برسالة إبراهيم (ع) (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ) خطاب للمؤمنين أو للائمّة خاصّة كما ورد عن الباقر (ع) انّما عنى بذلك عليّا (ع) وفاطمة (ع) والحسن (ع) والحسين (ع) وجرت بعدهم في الائمّة. ثمّ يرجع القول من الله في النّاس فقال تعالى : فان آمنوا يعنى النّاس بمثل ما آمنتم به ؛ الآية (وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا) من الأحكام والقرآن (وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) وهم أولاد أولاد يعقوب. سئل الباقر (ع) : هل كان ولد يعقوب أنبياء؟ ـ قال : لا ولكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء ؛ ولم يكونوا فارقوا الدّنيا إلا سعداء ، تابوا وتذكّروا

١٤٧

ما صنعوا ، وهذا يدلّ على أنّ السّبط أعمّ من الولد وولد الولد (وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ) المذكورون وغير المذكورين يعنى قولوا آمنّا بالله وما أنزل إلينا من الأحكام والكتاب تفصيل أو آمنّا بما أنزل على سائر النّبيّين من الّشرائع والكتب اجمالا لعدم اطّلاعهم على ما أنزل الى الأنبياء تفصيلا (مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) أضيف بين الى أحد لوقوعه في سياق النّفى وعمومه (وَنَحْنُ لَهُ) لله (مُسْلِمُونَ) روى انّ أمير المؤمنين (ع) علّم أصحابه ان إذا قرأتم قولوا : آمنّا فقولوا آمنّا بالله ، الآية ، وهذا يدلّ على انّ القارئ ينبغي ان يقدّر لسانه لسان الله وان يتصوّر انّ الأمر الجاري على لسانه انّما هو جار من الله وفرض نفسه مأمورة وأوقعها موقع الامتثال والايتمار فان كان المأمور به قولا ذكره وكرّره ، وان كان عملا عمله مثل الأمر بالسّجدة في آيات السّجدة (فَإِنْ آمَنُوا) اى النّاس غير الائمّة أو أهل الكتاب غير المسلمين (بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ) الباء للآلة أو للّسببيّة والمعنى فان اتّصفوا بالايمان بإيمان أو بسبب ايمان مثل ايمان آمنتم به أو للمصاحبة والمعنى فان آمنوا مصاحبين بإيمان مثل ايمان آمنتم به أو الباء للآلة والمعنى فان آمنوا بطريق مثل طريق ما آمنتم به ، أو لفظ الباء زائدة ولفظ المثل مقحم ، أو الكلام محمول على المبالغة بفرض المثل والمعنى فان آمنوا بمثل ما آمنتم به من الله وما أنزل الله على الأنبياء لو فرض له مثل (فَقَدِ اهْتَدَوْا) فكيف يكون حالهم إذا آمنوا به نفسه (وَإِنْ تَوَلَّوْا) فلا تستغربوه (فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) لكم أو للايمان وليس لهم بسبب كونهم في شقاق الّا التولّى والإنكار فهو من اقامة الّسبب مقام الجزاء أو المعنى ان تولّوا يقعوا في شقاق لكم أو للاهتداء والتّأدية بالجملة الاسميّة للاشارة الى التأكيد والثّبات ، والشّقاق المخالفة والعداوة (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ) وعدله (ص) وللمؤمنين بالنّصر وكفايته تعالى مؤنة دفعهم وقد وفي (وَهُوَ السَّمِيعُ) لما قلتم وقالوا (الْعَلِيمُ) بكم وبأعمالكم ونيّاتكم ، وبهم وبأعمالهم ونيّاتهم (صِبْغَةَ اللهِ) اى صبغنا الله صبغة فحذف الفعل وأضيف المصدر الى الفاعل بعد تأخيره والجملة حال أو مستأنفة جواب عن سؤال مقدّر كأنّهم بعد ما قالوا : آمنّا بالله قيل : ما فعل الله بكم؟ ـ قالوا : صبغنا الله صبغة وفسرّت الصّبغة بالإسلام وبالايمان لانّ الصّبغ كما يظهر على الثّوب وينفذ فيه كذلك الإسلام والايمان يظهر أثرهما على البدن ويؤثّر في القلب ، أو للتشبيه بما يفعله النّصارى بأولادهم من الغمس في ماء أصفر يسمّونه بالمعموديّة وبه يتحقّق نصرانيّتهم (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) تبجّحوا وباهو هم بهذه العبارة (وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ) لسنا مشركين في عبادته مثلكم (قُلْ أَتُحَاجُّونَنا) أتخاصموننا مع علمكم بأنّ ديننا حقّ وانّ دينكم منسوخ أو مع جهلكم بحقّيّة ديننا وبطلانه يعنى هل تكون محاجّتكم محض الغلبة علينا من غير اعتبار حقيّة ما تحاجّون به أو بطلانه فان المحاجّة لا تستعمل الّا في المبالغة في المخاصمة (فِي اللهِ) أضاف اليه قوله في الله ليكون من القضايا الّتى قياساتها معها بالنّسبة الى انكار المحاجّة يعنى أنتم تخاصمون في فضل الله وانعامه على عباده ، وكلّ من يخاصم في فضل الله على عباده مطرود عن الخير ؛ فأنتم مطرودون عن الخير ولذا أضاف اليه قوله تعالى (وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ) يعنى ينبغي لنا ولكم التّوافق والتّسليم لأمره لا المحاجّة في أمره (وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) يعنى ان كنتم تحاجّوننا في الله

١٤٨

فهو ربّكم كما أنّه ربّنا ، وان كنتم تحاجّوننا لانكاركم علينا أعمالنا فلا ضرر من أعمالنا عليكم حتّى تخاصموننا بل نفعها لنا وضررها علينا ولا تنقصكم من أعمالكم شيئا حتّى تحاجّونا لذلك (وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) واقتضاء الإخلاص ان لا يتضرّر أحد بعملنا وان لا يخاصمنا من انتسب اليه تعالى (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى) اى تعتقدون ذلك وتثبتون بذلك على دينكم وتنكرون ما وراءه وتحتجّون علينا فيه (قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ) وقد أخبرنا الله بانّ إبراهيم ما كان يهوديّا ولا نصرانيّا واحتجّ عليه بما لا مرد له من قوله (ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) وبهذين الكتابين ثبتت اليهوديّة والنّصرانيّة (وَ) قل تعريضا بهم وبكتمانهم شهادة الله لمحمّد (ص) الّتي ثبتت في كتبهم وأخبرهم بها أسلافهم (مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) اى ممّن كتم شهادة ثابتة من الله مودعة عنده فقوله من الله ليس متعلّقا بكتم بل هو صفة لشهادة ولفظة من ابتدائيّة داخلة على فاعل المصدر مثل زعما منهم (وَ) قل (مَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) لتهديدهم أو قوله (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ) ابتداء قول من الله (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ) كرّر العبارة للتّأكيد في الزّجر عن الافتخار بالآباء والاتّكال على الأنساب فانّه كان ديدن العامّة قديما وجديدا كما كان المحاجّة بالآباء والتعصّب لدينهم ديدنهم.

الجزء الثّانى

(سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ) اخبار من الله بما سيقع منهم والمراد بالّسفهاء من خفّت أحلامهم واعتادوا ما رأوا من آبائهم ولم ينظروا بعقولهم ولم ينقادوا الّذي نظر من المنافقين والمشركين وأهل الكتاب (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) يعنى بيت المقدّس (قُلْ) بعد ما قالوا ذلك (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وهو من الله ما اقتضته حكمته ومن الخلق التّسليم لأمره روى أنّه جاء قوم من اليهود بعد انصرافه (ص) الى الكعبة فقالوا : يا محمّد (ص) هذه القبلة بيت المقدّس قد صليّت إليها اربع عشرة سنة ثمّ تركتها الآن أفحقّا كان ما كنت عليه فقد تركته الى باطل فانّ ما يخالف الحقّ فهو باطل ، أو كان باطلا فقد كنت عليه طول هذه المدّة فما يؤمننا ان تكون الآن على باطل؟ ـ فقال رسول الله (ص) بل ذلك كان حقّا وهذا حقّ يقول الله تعالى : قل : (لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذا عرف صلاحكم يا ايّها العباد في استقبال المشرق أمركم به ، وإذا عرف صلاحكم في استقبال المغرب أمركم به ؛ الى آخر الحديث (وَكَذلِكَ) اى مثل هداية الله لكم الى الايمان بالله تعالى والمنزل على إبراهيم وإسماعيل ومثل الهداية الى الصّراط المستقيم المستفاد من السّابق ، ولذا أتى بأداة العطف كأنّه قال : هديناكم الى الايمان بالله وبما أنزل والى الصّراط المستقيم وكذلك (جَعَلْناكُمْ) الخطاب للائمّة (ع) وآل الرّسول بحسب مقام رسالته وهم الائمّة (ع) والاتباع الّذين صاروا منهم بقوّة متابعتهم (أُمَّةً) الامّة تطلق على من يؤمّ شخصا آخر

١٤٩

واحدا كان أو جماعة وتطلق على من يؤتمّ به واحدا كان أم جماعة ، وفي اللّغة الامّة بالضمّ الرّجل الجامع للخير والامام وجماعة أرسل إليهم رسول والجماعة من كلّ حىّ والجنس ومن هو على دين الحقّ والعالم ، ومن الرّجل قومه ؛ والامّة هاهنا امّا بمعنى الائمّة أو بمعنى الآمّين (وَسَطاً) متوسّطة بين المفرطين والمفرّطين كما ورد : نحن النمرقة الوسطى بنا يلحق التّالى وإلينا يرجع الغالي (لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) وهذا يدلّ على انّ المراد بالامّة الأئمّة (ع) ومن يحذو حذوهم من مشايخهم نسب الى الباقر (ع) انّما أنزل الله وكذلك جعلناكم ائمّة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرّسول شهيدا عليكم ، قال : ولا يكون شهداء على النّاس الّا الأئمّة والرّسل فأمّا الامّة فانّه غير جائز ان يستشهدها الله وفيهم من لا تجوز شهادته في الدّنيا على حزمة بقل. ونسب اليه (ع) وأيم الله لقد قضى الأمر أن لا يكون بين المؤمنين اختلاف ولذلك جعلهم شهداء على النّاس ليشهد محمّد (ص) علينا ، ولنشهد على شيعتنا ، وليشهد شيعتنا على النّاس ، والشّهداء جمع الشّهيد وقد يكسر شينه بمعنا الحامل للشّهادة أو المؤدّى لها فيكون فعيل بمعنى الفاعل والشّهيد بمعنى القتيل في سبيل الله فهو فعيل بمعنى المفعول لانّه مشهود عليه يعنى حضرته الملائكة أو شهد الله عليه وملائكته بالجنّة (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) والمراد بالشّهادة عليهم إظهار ما هم عليه من الخير والشّرّ فتكون اعمّ من الشّهادة عليهم ولهم وانّما عدّى العبارة بعلى للاشعار بأنّ شهادتهم ليست كشهادة النّاس بعضهم على بعض بل الشّهادة هناك عبارة عن احاطة الشّاهد بالمشهود عليه وله وإظهاره ما للمشهود عليه وما عليه ، لا الأخبار باللّسان فقط وان كان لهم هناك اخبار بلسان موافق لذلك العالم وهذا لا يكون الّا باستيلاء الشّاهد المستفاد من لفظ على (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) يعنى بيت المقدّس كنت عليها مدّة اربع عشرة سنة (إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) يرتدّ عن دين محمّد (ص) بعد التديّن به ، شبّه المرتدّ عن الدّين بمن يرجع القهقرى ، واسناد العلم بنحو الحدوث في المستقبل أو في الحال الى الله امّا باعتبار مظاهره وخلفائه أو باعتبار العلم الّذى هو مع المعلوم لا العلم الّذى هو قبل المعلوم كما نسب الى الامام (ع) انّه قال يعنى الّا لنعلم ذلك منه وجودا بعد ان علمناه سيوجد واتّصاف العلم الّذى هو مع المعلوم بالحدوث انّما هو باعتبار تعلّق معلوم به لا باعتبار انتسابه الى العالم فانّ الواجب بالذّات واجب من جميع الجهات ، أو المعنى الّا ليظهر علمنا أو لتميّز ، وقوله تعالى (مِمَّنْ يَنْقَلِبُ) دليل هذا المعنى فانّ لفظة من هاهنا هي الّتي تستعمل بعد التميّز فان كان نزول الآية قبل صرفهم الى الكعبة كان المعنى وما جعلنا القبلة الّتي كنت عليها في مكّة الّا لنعلم من يتبّع الرّسول ومن يتبّع الهوى فانّ أهل مكّة لألفهم الى مكّة كان هواهم في الكعبة ، وان كان بعد صرفهم الى الكعبة يحتمل ان يراد بالقبلة الكعبة وبيت المقدّس نسب الى الامام (ع) انّه قال : وذلك انّ هوى أهل مكّة كان في الكعبة فأراد الله تعالى ان يبيّن متبّع محمّد (ص) ممّن خالفه باتّباع القبلة الّتى كرهها ومحمّد (ص) يأمر بها ، ولمّا كان هوى أهل المدينة في بيت المقدّس أمرهم بمخالفتها والتّوجّه الى الكعبة لتبيّن انّ من يوافق محمّدا فيما يكرهه فهو مصدّقه وموافقه (وَإِنْ كانَتْ) القبلة الّتي كنت عليها أو الصّلوة الى تلك القبلة في ذلك الوقت (لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) لا على الّذين بايعوا محمّد (ص) لأغراض نفسانيّة من دون هداية من الله ، ولفظة ان مخفّفة من المثقّلة (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) اى صلوتكم سمّى الصّلوة ايمانا لأنّها أعظم آثاره وبدونها لم يكن الايمان

١٥٠

ايمانا (إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ) تعليل للسّابق والرّأفة كالرّحمة لفظا ومعنى لكنّها هنا أشدّ الرّحمة أو أرقّها أو الأثر الظّاهر من الرّحمة وفي حديث : قال المسلمون للنّبىّ بعد ما انصرف الى الكعبة أرأيت صلواتنا الّتى كنّا نصلّى الى بيت المقدّس ما حالنا فيها وحال من مضى من أمواتنا وهم يصلّون الى بيت المقدّس فأنزل وما كان الله ليضيع ايمانكم (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) ابتداء كلام منه تعالى لابداء حكم ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنّه (ص) بعد ما انزجر من اليهود وما قالوه فيه وفي توجّهه في صلوته الى قبلتهم كان يسأل ربّه تحويل وجهه في الصّلوة ومن شأن السّائل المتضرّع ان يقلّب وجهه في جهة المسؤل وكأنّه كان يريد الكعبة لأنّها كانت قبلة إبراهيم (ع) وبناءه ومولد علىّ (ع) وموطنه وموطن نفسه (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) في صلوتك وهي الكعبة وانّما يرضيها للميل الفطرىّ الّذى يكون للإنسان بالنّسبة الى موطنه ومولده وموطن آبائه وآثار أجداده ولأنّها كانت مرجعا للعرب والتّوجّه إليها يقتضي رغبتهم الى دين الإسلام (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) اى الحرام هتكه ، والحرام امّا مشترك بين المصدر والصّفة أو في الأصل مصدر يستعمل في معنى الصّفة والمسجد الحرام جزء من الحرم كما انّ الكعبة جزء من المسجد ، والكعبة قبلة أهل الحرم والحرم قبلة أهل العالم كما روى فالمراد بالمسجد الحرام امّا تمام الحرم من باب استعمال الجزء في الكلّ أو المسجد نفسه ، ولم يقل شطر الكعبة لأنّ المعتبر من القبلة للبعيد هو استقبال الجهة الّتى يكون البيت فيها لا استقبال عين البيت وهذا المعنى يستفاد من شطر المسجد مع انّ فيه تطبيقا للتّنزيل على التّأويل والمعنى ولّ وجه بدنك شطر المسجد الحرام الصّورىّ ووجّه نفسك شطر المسجد الحرام الّذى هو الصّدر المنشرح بالإسلام الّذى فيه كعبة القلب في حال الصّلوة البدنيّة وفي حال الصّلوة النّفسيّة الّتى هي كلّ الأحوال. وفي الخبر انّ النّبىّ (ص) بعد ما اغتمّ بقول اليهود انّ محمّدا (ص) تابع لقبلتنا خرج في بعض اللّيل يقلّب وجهه في السّماء فلمّا أصبح صلّى الغداة فلمّا صلّى من الظّهر ركعتين جاء جبرئيل فقال له : قد نرى تقلّب وجهك في السّماء فلنولّينّك قبلة ترضيها فوّل وجهك شطر المسجد الحرام ثمّ أخذ بيد النّبىّ (ص) فحوّل وجهه الى الكعبة وحوّل من خلفه وجوههم حتّى قام الرّجال مقام النّساء والنّساء مقام الرّجال فكان أوّل صلوته الى بيت المقدّس وآخرها الى الكعبة فسمّى ذلك المسجد مسجد القبلتين (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) خصّه (ص) اوّلا بالخطاب تعظيما لشأنه (ص) وتنبيها على اجابة مسئوله وعلى مراعاة رغبته وانّ الحكم له (ص) بالأصالة ولامّته بالتّابعيّة ثمّ عمّم الحكم والخطاب للأمّة والأمكنة كلّها ان كان الرّسول (ص) داخلا في المخاطبين أو صرف الخطاب عنه الى أمّته وخاطبهم للاشارة الى عموم الحكم وأنّه ليس له (ص) خاصّة ؛ وهذا الوجه هو الأنسب ، لأنّه تعالى كرّر هذا الحكم وفي كلّ من مراتب التّكرار ذكر الرّسول (ص) وحده ثمّ ذكر الأمّة وعلّق الحكم حين ذكر الرّسول (ص) على ما يناسب شأنه وحين ذكر الامّة على ما يناسب شأنهم كما سنذكره (وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) والمراد بالكتاب الشّريعة الإلهيّة من اىّ نبىّ كانت أو كتاب التّوراة والإنجيل والجملة حال أو عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : فانّه حقّ من ربّكم وانّ الّذين أوتوا الكتاب (لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ) اى التّحويل أو التّوجّه أو شطر المسجد أو المسجد من حيث التّوجّه (الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) لأنّهم أهل شرائع الهيّة وكلّ من دخل في شريعة الهيّة يعلم انّ احكام كلّ شريعة مغايرة لشريعة أخرى ، وبعض ما في شريعة

١٥١

ينسخ بشريعة اخرى على انّ أهل الكتاب قرءوا في كتبهم وسمعوا من أحبارهم بأخبار أنبيائهم أنّ محمّدا (ص) يصلّى الى القبلتين (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ) وعد ووعيد للمقرّ والمنكر ، وقرئ يعملون بالغيبة (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ) معجزة مقترحة لهم أو غير مقترحة (ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ) لأنّهم أصحاب النّفس والنّفس كالشّيطان من فطرتها عدم الانقياد ؛ وطلب الآية ليس الّا للفرار من الانقياد ولو أتيت بالآية المقترحة لما انقادت واعتذرت بعذر آخر واقترحت آية أخرى وهذا قطع لأطماع المؤمنين عن اتّباع أهل الكتاب لهم (وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ) قطع لأطماعهم من متابعته (ص) قبلتهم فانّهم قالوا : لو كنت ثابتا على قبلتنا لكنّا نرجو ان تكون صاحبنا الّذى ننتظره (وَما بَعْضُهُمْ) كالنّصارى (بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ) كاليهود فانّ اليهود كما قيل تستقبل الصّخرة والنّصارى مطلع الشّمس (وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ) خطاب له (ص) والمقصود أمّته (ص) كسابقتها فانّ المؤمنين لرغبتهم في إسلام أهل الكتاب كانوا يودّون لو كان رسول الله (ص) بقي على قبلتهم حتّى يسلموا (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ) قطع لاطماع المؤمنين عن بقائه (ص) على قبلتهم واتّباعه (ص) لأهوائهم (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) جواب لسؤال مقدّر ولذا لم يأت بأداة الوصل كأنّه قيل : الا يعرف أحد منهم محمّدا (ص) وقبلته؟ ـ فقال الّذين آتينا هم الكتاب يعنى أحبارهم ولذا نسب الفعل الى نفسه تشريفا لهم ونسب الكتمان الى فريق منهم (يَعْرِفُونَهُ) اى محمّدا (ص) أو تحويله الى قبلة اخرى في صلوته (كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) في منازلهم بحيث لا يمكن الشكّ والريبة لهم (وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ) وهم الّذين عاندوا الحقّ عن علم لمحض اللّجاج (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) الحقّ أو انّ محمّدا (ص) نبىّ ، أو المراد أنّهم علماء على ان يكون المفعول منسيّا (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) مبتدأ وخبر جواب لسؤال مقدّر كأنّه (ص) قال فما أفعل؟ ـ فقال تعالى : الحقّ من ربّك اى اثبت عليه ولا تغتمّ بكتمانه وقرئ الحقّ بالنّصب ؛ على ان يكون مفعول يعلمون (فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها) الضّمير لله أو لكلّ والتولية بمعنى الإقبال والأدبار وبمعنى التّوجيه وقرئ لكلّ وجهة بالاضافة وقرئ [هو مولّيها] بالألف اسم مفعول ؛ والآية بتنزيلها ردّ على من أنكر التّوجّه الى الكعبة في الصّلوة من أهل الكتاب ومن ضعفاء المسلمين والمعنى لكلّ أمّة قبلة مخصوصة بها تلك الامّة ، والله مولّيها إليها ، (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) ولا تشتغلوا بالقول في أمر القبلة ، وبتأويلها ردّ على من أنكر الولاية وتوجّه النّفوس الى القلب وصاحب القلب كالعامّة ، وترغيب في التّوجّه من الجهات النّفسانيّة الفانيّة الى الجهة القلبيّة الاخرويّة الولويّة الباقية والمعنى لكلّ صنف أو فرد وجهة يتوجّه إليها ولا ينفكّ أحد منكم عن التّوجّه الى جهة من الجهات فتوجّهوا الى ما ينفعكم ويبقى معكم وهو جهة القلب الّتى لا يمكن التّوجّه إليها الّا بقبول الولاية فاستبقوا الولاية الّتى هي أصل جميع الخيرات ولذا فسّر الخيرات بالولاية في الخبر ، وسيأتى بيان للخير وأنّ أصل الخير والحسن والحقّ والصّلاح هي الولاية ، وكلّ ما كان مرتبطا بالولاية كان خيرا وحسنا كائنا ما كان ، وكلّما لم يرتبط بالولاية لم يكن خيرا كائنا ما كان. (أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللهُ جَمِيعاً) استيناف في مقام التّعليل يعنى أينما تكونوا من جهات النّفس ومقامات الإنسان والشّيطان والسّباع والبهائم يأت بكم الله ؛ وهذا يقتضي استباق الخيرات أو الأمر بالاستباق

١٥٢

حتّى تكونوا مرضيّين عنده ، وورد في أخبار كثيرة انّ المراد أصحاب القائم (ع) وأنّهم المفتقدون من فراشهم المصبحون بمكّة وهذا وجه من وجوه تأويله (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على جمعكم في مكان واحد ومقام واحد ومحشر واحد مع اختلافكم في المكان والمقام (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) للسّفر في البلاد وللحركة في الشّؤن والتّقلّب في الأحوال (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ) اى شطر المسجد أو المسجد من حيث التّوجّه اليه أو التّوجّه الى شطر المسجد (لَلْحَقُ) اىّ الثّابت (مِنْ رَبِّكَ) أو الحقّ الّذى هو غير الباطل حالكونه من ربّك على ان لا يعتبر فيه معنى الوصفيّة والجملة حاليّة ، أو معطوفة على مقدّر ، أو باعتبار المعنى والتّقدير فانّه للحقّ من ربّك وهذا المعنى مستفاد من السّابق (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) قرئ بالياء وبالتّاء (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) ولمّا كان المقام مقام السّخط على أهل الكتاب الكاتمين لوصف محمّد (ص) وموطنه ومهاجره وقبلتيه وكان ترك القبلة الّتى كانوا عليها مدّة أربع عشرة سنة وأشهرا مظنّة الإنكار من ضعفاء المسلمين ومورد الحجّة المرضيّة عند ضعفاء العقول من المعاندين والمسلمين ناسبه التّأكيد والتّكرار ووضع الظّاهر موضع المضمر كما فعل تعالى شأنه بتكرار الأمر بالتّولية نحو المسجد الحرام وتكرار قوله (مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) ، (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ، وعلم أهل الكتاب مع كتمانهم وأتى تعالى حين أمر الرّسول (ص) بتولية وجهه شطر المسجد بقوله : (مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ) ، وحين أمر الأمّة بقوله : (حَيْثُ ما كُنْتُمْ) للاشعار بأنّ محمّدا (ص) لا مقام له في مقام وشأن بل هو دائم السّير والحركة وأنّ أمّته (ص) بالنّسبة اليه كأنّه لا حركة لهم من مقام الى مقام آخر ، ومن هذا يعلم انّ الخطاب في قوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ) خاصّ بأمّته من غير مشاركته لهم (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ) تعليل للأمر بالتّولية أو للتّولية والمعنى أمرناكم بالتّوجّه الى الكعبة لئلّا يرد عليكم من معانديكم حجّة صحيحة وهي انّ من علامات النّبىّ المبعوث في آخر الزّمان الصّلوة الى الكعبة أو الى القبلتين ، وحجّة كاسدة وهي انّه لو كان نبيّا لما تبع قبلة الغير وانّه لو كان ديننا باطلا كان قبلتنا باطلة (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) اى وضعوا الشّيء في غير موضعه فانّهم يوردون عليك حجّة باطلة هي أنّه لو كان الصّلوة الى بيت المقدّس باطلة لكان صلوتهم في المدّة الماضية باطلة ، ولو كان صحيحة لكانت صلوتهم الى الكعبة باطلة (فَلا تَخْشَوْهُمْ) فانّ حجّتهم داحضة ومطاعنهم غير ضارّة (وَاخْشَوْنِي) فانظروا الى أمرى ونهيي ولا تنظروا الى غيري (وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ) بإقبالكم الى الكعبة الّتى هي ظهور القلب وصورته كما سيأتى ان شاء الله والإقبال الى الكعبة منّبه على الإقبال الى القلب ، ومؤدّ اليه وتمام النّعمة في الإقبال الى القلب ولذا قال : (وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) الى القلب الّذى هو عرش الرّحمن من الإقبال الى الكعبة الّتى هي صورته (كَما أَرْسَلْنا) يعنى أتمّ نعمتي إتماما مثل إرسال الرّسول ، أو تهتدون اهتداء مثل الاهتداء بإرسال الرّسول ، أو هو متعلّق بقوله : (فَاذْكُرُونِي) ، أو (أَذْكُرْكُمْ) ، والفاء زائدة ، أو متعلّق بمحذوف يفسّره المذكور والمعنى اذكروني ذكرا يوازى نعمة إرسال الرّسول المستتبع لجميع الخيرات ، أو أذكركم مثل ذكركم بإرسالنا (فِيكُمْ) لا في غيركم (رَسُولاً مِنْكُمْ) يشابهكم في الجسد والبشريّة لا من غيركم

١٥٣

من أصناف الملائكة وغيرهم حتّى تستوحشوا منه يستتبع نعما جليلة فانّه (يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا) التّدوينيّة فينبّهكم بها ويعلّمكم بها آياتنا الآفاقيّة والانفسيّة أو يتلو عليكم آياتنا التّدوينيّة والأحكام الشّرعيّة ويتلو عليكم ويذكّر لكم آياتنا الآفاقيّة والانفسيّة (وَيُزَكِّيكُمْ) يطهّركم من الأخلاق الرّذيلة والنّقائص البشريّة أو يحملكم على الطّهارة عن النّجاسات الشّرعيّة والأدناس العرفيّة بتأسيس آداب النّظافة أو ينميكم في ذاتكم وصفاتكم أو يحملكم على تأدية زكوة أموالكم وأبدانكم ، أو يصلحكم ويجعلكم متنعّمين أو يعطشكم لأمور الآخرة (يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) قد سبق بيان الكتاب والحكمة (وَيُعَلِّمُكُمُ) من الأمور الغيبيّة (ما لَمْ تَكُونُوا) بقوّتكم البشريّة (تَعْلَمُونَ) بالفكر والنّظر والتعلّم البشرىّ ممّا ذكر من أوصاف الجنّات الصّوريّة الّتى أنكرها أكثر الفلاسفة ومن دقائق الحكم المودعة في الأحكام الشّرعيّة من العبادات والمعاملات ومن كيفيّة ارتباط الأعمال البدنيّة بالأمور الغيبيّة والأخلاق النفسيّة فانّه لا طريق للبشر الى ادراك هذه الّا بطريق الوحي ولذا أنكر الفلاسفة الّذين يعدّون أنفسهم من العلماء أكثر العوالم الغيبيّة وأكثر الأحكام الشّرعيّة وأنكر الدّهريّة والطبيعيّة كلّ الأمور الشّرعيّة والعوالم الغيبيّة. وقدّم التّزكيّة على تعليم الكتاب والحكمة هاهنا وفي سورة آل عمران في قوله تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ؛) الآية ، وفي سورة الجمعة في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ ؛) الآية بخلاف دعوة إبراهيم (ع) الّتى سبقت للاشعار بإجابة دعاء إبراهيم (ع) والتفضّل عليه (ع) بالزيادة على مسئوله فانّ التعليم الّذى هو قبل التزكية ليس الّا بالعلم التّقليدىّ الّذى يكون عاديّة للعالم به بخلاف التّعليم الّذى هو بعد التّزكية فانّه يكون بالعلم التحقيقىّ بمراتبه من علم اليقين وعين اليقين وحقّ اليقين ولهذا أضاف على دعائه قوله تعالى : (ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

تحقيق الذّكر ومراتبه وفضائله

(فَاذْكُرُونِي) باللّسان جهرا ودون الجهر وبالجنان سرّا وعند الفعال بتذكرّ الأمر والنّهى وعند النّعم بالشكر (أَذْكُرْكُمْ) الذّكر بالكسر حفظ الشّيء في الخاطر ويستعمل في اجرائه على اللّسان وفي الصّيت والشّرف وقوله (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) يحتملهما وإطلاقه على المعاني الثّلاثة بمناسبة التذكار في الخاطر ، والآيات والاخبار الدّالّة على فضيلة ذكر الله كثيرة وكفى في فضله هذه الآية الدّالّة على ايراث ذكر العبد لله ذكر الله له ؛ ولا شرف أشرف منه ، وما ورد في عدّة اخبار قدسيّة من قوله تعالى : انا جليس من ذكرني ؛ يدلّ على أنّه لا شرف أشرف منه وما ورد عن الصّادق (ع) انّه قال : من كان ذاكرا لله على الحقيقة فهو مطيع ، ومن كان غافلا عنه فهو عاص ، والطّاعة علامة الهداية والمعصية علامة الضّلالة ، وأصلهما من الذّكر والغفلة ، وهذا الخبر يدلّ على انّ الطّاعات بذكر الله طاعات وإذا كانت خالية عن ذكر الله بان كان العابد غافلا عن الله حين العبادة كانت معصية ، وروى عن الباقر (ع) انّه قال : لا يزال المؤمن في صلوة ما كان في ذكر الله قائما كان أو جالسا أو مضطجعا ؛ انّ الله سبحانه يقول : (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ) ، وهذا يدلّ على انّ ذكر الله هو الصّلوة أو هو حقيقة الصّلوة وروحها ، والصّلوة قالبه ولذا كانت أكبر من الصّلوة ، والآيات الدّالّة على النّهى عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه والأمر بالأكل أو إباحة الأكل ممّا ذكر اسم الله عليه إذا عمّم الأكل والأكل والمأكول تدلّ على انّ ذكر الله هو المحلّل والمبيح للأشياء والأفعال

١٥٤

وبدونه لا يحلّ شيء منهما فذكر الله حقيقة الطاعات وغايتها ومصحّح العبادات ومحللّ الأشياء ومبيح الأفعال ، وغاية الذّكر ظهور المذكور في ملك الذّاكر وفناء الذّاكر بحيث لا يبقى منه ذات وأثر وذكر ويبقى المذكور في ملك الذّاكر قائلا : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟) ـ مجيبا : (لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ).

وللذّكر بحسب القرب والبعد من تلك الغاية مراتب وأمّهاتها اربع ولكلّ منها مراتب ودرجات :

واولى المراتب الأربع الذّكر اللّسانىّ وهو اجراء المذكور بأسمائه وأوصافه على اللّسان ومراتب هذا الذّكر إذا لم يكن غلافا للشّيطان بحسب غفلة الذّاكر عن المذكور وتذكّره له بدرجات التّذكّر وحضور المذكور في قلب الذّاكر وحضور الذّاكر عند المذكور باستيلاء المذكور عليه بحيث يكون المذكور أصلا والذّاكر تابعا ، وبحسب اتّحاده مع المذكور وفنائه التّامّ فيه وبقاء المذكور وحده وبقاء الذّاكر بعد الفناء ببقاء المذكور ، وكذا بحسب اقترانه بالذّكر القلبىّ كثيرة ، ودرجات كلّ مرتبة منها أيضا كثيرة.

وثانيتها الذّكر القلبىّ الّذى هو مصطلح الصوفيّة ويسمّونه بالذّكر الخفىّ ويسمّون الذّكر اللّسانىّ بالذّكر الجلىّ وله أيضا مراتب ودرجات بحسب اقترانه بالذكر اللّسانىّ وعدمه ، وتذكّر الذّاكر للمذكور وعدمه ، وبحسب الحضور والاتّحاد والفناء في المذكور والبقاء بعد الفناء وعدمه.

وثالثتها الذّكر النّفسىّ وهو تذكّر المذكور في النّفس وهو أيضا له مراتب ودرجات بحسب الاقترانات المذكورة وعدمها.

ورابعتها تذكّر المذكور عند كلّ فعل ونعمة بتذكّر أمره ونهيه وشكره وله أيضا مراتب ودرجات. والذكر اللّسانىّ والقلبىّ لمّا كانا من العبادات والعبادات لا بدّ من أخذها من صاحب الاجازة الشّرعية إذا لم يكن العابد مجازا والّا لم تكن مقبولة وافقت أم خالفت كما تقرّر في الفقه إذا لم يؤخذا من صاحب الاجازة لم يكن لهما اثر بل نقول : انّ الشّيطان قد يترصّد العابد والذّاكر الغير الآخذ من صاحب الاجازة فيخلى الأسماء الإلهيّة الجارية على لسانه من معناها ويجعل نفسه فيها فيصير الذّاكر ذاكرا للشّيطان وهو يحسب أنّه ذاكر لله ويلوى لسانه بألفاظ يظنّها أسماء لله وما هي بأسماء لله بل هي أسماء للشّيطان فيطرد بالذّكر من باب الرّحمن وهو يحسب انّه يحسن صنعا ، فالّذى ينبغي للعابد الاهتمام بتصحيح تقليده اوّلا ثمّ الإقبال على العبادة به وامّا الاحتياط فشروط صحّة العمل به كثيرة ، وسببيّة ذكر العبد لله لذكر الله للعبد كما يستفاد من الآية ومن الاخبار القدسيّة وغيرها مع أنّه ما لم يذكر الله العبد لا يذكر العبد الله انّما هي باعتبار مرتبة من ذكر الله للعبد نظير ما مضى في توّابيّة تعالى فانّ ذكره تعالى للعبد بالتّوفيق سبب لذكر العبد لله ، وذكر العبد لله سبب لذكر الله له بالجزاء ، وذكر الله له بالجزاء سبب لاشتداد ذكره لله ، واشتداد ذكره لله سبب لذكر آخر من الله ، وهكذا ، وذكر العبد لله متقوّم بذكر الله للعبد فهو ذكر من الله للعبد لكن في مقام العبد وقد ذكر في الاخبار وفي كلمات الأبرار تفاضل في الاذكار الخفيّة والجليّة فليعلم انّ التفاضل قد يعتبر بحسب اضافة الاذكار الى الأشخاص المختلفة والأحوال المختلفة لشخص واحد ، وقد يعتبر بينها بحسب اعتبارها في أنفسها فقد يكون الذّكر الفاضل في نفسه غير فاضل بالنسبة الى شخص ولمّا كان بناء الدّين وبناء السّلوك على التّبرّى والتولّى كان الذّكر المشتمل على النّفى والإثبات أفضل من غيره في نفسه ، وأفضل الاذكار المشتملة على النّفى والإيجاب : لا اله الا الله ؛ فانّه جامع للنّفى والإثبات وحافظ لجميع مراتب الوجود مع نفى الاستقلال عنها وإثبات للواحد الأحد بجميع صفاته وليس هذا الّا شأن النّبىّ الّذى هو خاتم الكلّ كما قال (ص): أوتيت جوامع الكلم ؛ ونقل انّ لا اله الّا الله خاصّة بهذه الامّة (وَاشْكُرُوا لِي)

١٥٥

الشّكر ملاحظة انعام المنعم في النّعمة وملاحظة حقّ المنعم في الانعام ، ولذا فسّر بتعظيم المنعم لأجل الانعام ويلزم ملاحظة حقّ المنعم في الانعام وفي النّعمة صرف النّعمة لما أنعمها لأجله ، ولهذا قد يفسّر بصرف النّعمة فيما خلقت لأجله (وَلا تَكْفُرُونِ) المراد بالكفر هاهنا كفر النّعم وهو ستر الانعام وحقّ المنعم في النّعمة ، وايراث الشّكر ازدياد النّعم وإيجاب الكفر زوالها ممّا كثرت به الآيات والاخبار والحكايات والأمثال فليداوم العاقل الشّكر وليحذر الكفران (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) تشريف للمؤمنين بالخطاب لهم بعد إظهار الامتنان عليهم بنعمة الرّسول واستتباعه للنّعم الجليلة (اسْتَعِينُوا) في ذكرى وشكري أو في جملة ما ذكر من ترك القبلة المعتادة والانصراف الى غير المعتادة والثّبات على الحقّ واستباق الخيرات وعدم الخشية من النّاس والخشية من الله والاهتداء والذّكر والشّكر ، أو في جملة ما يهمّكم من معاشكم ومعادكم وجملة ما يحزنكم ويجزعكم (بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) وقد مضى بيان للآية عند قوله : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ ؛) الآية (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) معيّة رحيميّة خاصّة بخواصّ المؤمنين لا معيّة رحمانيّة قيّوميّة حاصلة لكلّ موجود ولا معيّة رحيميّة عامّة لكلّ مؤمن بايع ولىّ أمره ولكلّ مسلم بايع نبىّ وقته فانّ الإنسان كلّما ازداد قربه من الله حصل لله معه معيّة أخرى غير معيّته الاولى وما قيل في الفارسيّة :

بيزارم از آن كهنه خدائى كه تو داري

هر روز مرا تازه خداى دگر استى

اشارة الى تجدّد معيّته وتعدّدها وليس المراد تجدّد الآلهة روى عن الصّادق (ع) انّه قال في كلام له : فمن صبر كرها ولم يشك الى الخلق ولم يجزع بهتك ستره فهو من العامّ ؛ ونصيبه ما قال الله تعالى : وبشّر الصّابرين اى بالجنّة ، ومن استقبل البلايا بالرّحب وصبر على سكينة ووقار فهو من الخاصّ ؛ ونصيبه ما قال الله تعالى : انّ الله مع الصّابرين (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ) كلّ عمل ينتهى به الإنسان الى الله تعالى فهو سبيل الله ، وكلّما ينتهى به الى الشّيطان فهو سبيل الشّيطان وسبيل الشّيطان سبيل الله بوجه وبحسب التّنزيل فالمراد بالظّرف ظرفيّة مجازيّة أو ظرفيّة حقيقيّة بتقدير مضاف اى في زمان سبيل الله أو مكانه ؛ نقل أنّ الآية نزلت في شهداء بدر وكانوا اربعة عشر ؛ ستّة من المهاجرين وثمانية من الأنصار وكانوا يقولون : مات فلان وفلان فأنزل الله الآية وبحسب التّأويل فالسبيل الى الله هو الولاية وطريق القلب والمعنى على هذا : ولا تقولوا لمن يقتل عن الحيوة الحيوانيّة حالكونه في سبيل الله أو لا تقولوا لمن يقتل عن الانانيّة والحيوة الشّيطانيّة في سبيل الله على ان يكون ظرفا لهذا القتل (أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) لانّ حيوتهم حيوة أخرويّة وشعوركم شعور دنيوىّ ولا سنخيّة بين المدارك الدّنيويّة والمدركات الاخرويّة (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) لنختبرنّكم أو لنصيبنّكم (بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) نسب الى علىّ (ع) انّه قال : انّ الله يبتلى عباده عند الأعمال السّيّئة بنقص من الثّمرات وحبس البركات وإغلاق خزائن الخيرات ليتوب تائب ويقلع مقلع ويتذكّر متذكرّ ويزدجر مزدجر. وعن الصّادق (ع) انّ هذه علامة قيام القائم (ع) تكون من الله تعالى عزوجل للمؤمنين قال بشيء من الخوف من ملوك بنى أميّة في آخر سلطانهم والجوع بغلاء أسعارهم ونقص من الأموال فساد التّجارات وقلّة الفضل ، ونقص من الأنفس الموت الذّريع ونقص من الثّمرات بقلّة ريع ما يزرع ، وبشّر الصّابرين عند ذلك بتعجيل خروج القائم (ع) ثمّ قال : هذا تأويل

١٥٦

قال الله تعالى : وما يعلم تأويله الّا الله والرّاسخون في العلم (الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ) بشيء يؤذيه وأقلّه ان شاكته الشوكة خرجوا من انانيّتهم واستسلموا لخالقهم و (قالُوا) بلسان أبدانهم وأحوالهم (إِنَّا لِلَّهِ) مبدء وملكا (وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) في المنتهى والاخبار في فضل الصّبر على المصيبة والاسترجاع عندها كثيرة جدّا ، ولمّا كان المصائب الواردة على الإنسان لا مداخلة لنفسه واختياره فيها حتّى يجعل مآربه النّفسانيّة غاية لها كان أنموذج أجرها مشهودا له من كسر انانيّته وكبريائه والتضرّع الى ربّه والالتجاء اليه والقرب منه بخلاف العبادات الّتي يعملها الإنسان باختياره وينظر فيها الى أغراض نفسه فانّه لا يجد فيها أجرا وقربا ولذّة. (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ) جمع الصّلوة بمعنى الثّناء من الله والتشريف والتعظيم منه يعنى تشريفات وتفضيلات وهذا لظاهره وأجر قبوله الرّسالة (وَرَحْمَةٌ) وهذا لباطنه وأجر قبول الولاية (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) الى ما ينبغي ان يهتدى اليه أو الى تسهيل المصيبة بالتّسليم لأمر الله (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) ابتداء كلام منقطع بظاهره عن سابقه لبيان حكم من الأحكام التّكليفيّة ولذا قطعه من سابقه ، والصّفا والمروة جبلان بمكّة يسعى بينهما نحو الهرولة وهو من مناسك الحجّ ، والصّفا الحجر الأملس يذكّر ويؤنّث ويستعمل في المفرد وفي الجمع ، والمرو الحجارة البيض البرّاقة أو أصلب الحجارة ، وفي الخبر انّما سمّى الصفا صفا لأنّ آدم المصطفى هبط عليه فقطع للجبل اسم من اسم آدم (ع) وهبطت حوّاء على المروة فسميّت مروة لانّ المرأة هبطت عليها فقطع للجبل اسم من اسم المرأة ؛ وهذا يناسب التّأويل فانّ الصّفا كما سيجيء في تفسير : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ ؛) في سورة آل عمران الجهة العليا من النّفس ، والمروة الجهة السّفلى منها الّتى تلى الحيوانيّة والطبّع وهما باعتبار مهبط لآدم (ع) وحوّاء وباعتبار متّحدتان معهما ولهذا الاتّحاد أخذ اسم لهما من اسمهما ، وباعتبار هذا التّأويل يرتبط الآية بسابقها ، والسّعى في المسعى كناية عن لزوم تردّد الإنسان مضطربا بين صفا النّفس الانسانيّة ومروة النّفس الحيوانيّة فانّه بالتردّد بينهما وقضاء وطر قواهما يبقى الإنسان في هذا البنيان وبذلك البقاء يستكمل في ذاته وصفاته واتباعه ، وبهذا الاستكمال يستحقّ الحضور عند الرّحمن والخلّة والامامة فكما انّ الصّفا والمروة والسّعى بينهما من مناسك حجّ البيت المبنىّ من الأحجار كذلك الصّفا والمروة النّفسانيّتان والتّردّد بنحو الاضطراب بينهما لاصلاح حال أهلهما وقضاء وطرهم (مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الشّعائر جمع الشّعار بكسر الشين بمعنى العلامة ، أو جمع الشّعار بالكسر والفتح بمعنى الثّوب الملزق بالبدن ؛ أو جمع شعار الحجّ بالكسر بمعنى مناسكه ، أو جمع الشّعيرة بمعنى معظم المناسك الّتى ندب الله إليها (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ) الحجّ القصد والكفّ والقدوم والتردّد وقصد مكّة للنّسك ، وفي الشّرع اسم للنّسك المخصوصة المقرّرة الّتى هي في مقابل العمرة ويناسبه كلّ من معانيه اللّغويّة ، والعمرة الزّيارة وفي الشّرع اسم للمناسك المخصوصة الّتي هي في مقابل الحجّ (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) قيل كان على الصّفا والمروة صنمان لقريش كانوا في الجاهليّة إذا سعوا بينهما مسحوا الصّنمين فلمّا جاء المسلمون وكسر الأصنام تحرّج المسلمون ان يطّوّفوا بهما لذلك فنزلت الآية ولا دلالة للآية على نفى الوجوب فانّها تفيد الجواز والجواز أعمّ من الوجوب ويستفاد الوجوب من الاخبار فالتّمسّك بالآية على نفى الوجوب كما تمسّك بها بعض العامّة ليس في محلّه ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه

١٥٧

سئل عن السّعى بين الصّفا والمروة فريضة أم سنّة؟ ـ فقال (ع) : فريضة ، قيل : أو ليس قال الله عزوجل : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما؟) ـ قال : كان ذلك في عمرة القضاء انّ رسول الله (ص) شرط عليهم ان يرفعوا الأصنام من الصّفا والمروة فتشاغل رجل عن السّعى حتّى انقضت الايّام وأعيدت الأصنام فجاءوا اليه فقالوا : يا رسول الله (ص) انّ فلانا لم يسع بين الصّفا والمروة وقد أعيدت الأصنام فأنزل الله عزوجل (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ) الى قوله : (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) اى وعليهما الأصنام ونسب اليه (ع) أيضا انّ المسلمين كانوا يظنّون انّ السّعى بين الصّفا والمروة شيء صنعه المشركون فأنزل الله هذه الآية ولا يبعد ان يقال : انّ السّعى بينهما بطريق الهرولة شيء يستقبحه العقول الجزئيّة ويستنكف منه النّفوس الأبيّة فكان مظنّة للتّحرّج لمن لا يدرك من الأشياء الّا ظواهرها فرفع ذلك التّحرّج (وَمَنْ تَطَوَّعَ) تنفّل (خَيْراً) صفة مفعول مطلق محذوف ، أو المعنى تطوّع بخير ، أو هو مبنىّ على التّجريد اى من عمل خير ، أو المراد بالخير الطّواف والسّعى ، أو مطلق مناسك الحجّ والعمرة ، أو مطلق الأعمال الحسنة فرضا كان أم ندبا (فَإِنَّ اللهَ) يجزيه بالخير لأنّه (شاكِرٌ) لا يدع العمل الخير من العباد بلا جزاء (عَلِيمٌ) لا يعزب عنه عمل عامل (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ) اعلم أنّ أمثال هذه الآيات ما مضى منها وما يأتى نازلة في شأن علىّ (ع) وولايته سواء كان نزولها في أهل الكتاب أو في غيرهم فانّ المقصود منها التّعريض بولاية علىّ (ع) فالمعنى انّ الّذين يكتمون ما أنزلنا على محمّد (ع) من دلائل ولاية علىّ (ع) الّتى لم يخف على أحد بعد وفاة محمّد (ص) (وَالْهُدى) المطلق الّذى هو ولاية علىّ (ع) فانّه حقيقة الهدى ، وكلّما يدلّ على الولاية فهو هدى باعتبار انتهائه الى الهدى المطلق (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ) اى الهدى الّذى هو الولاية (لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) اى القرآن وأخبار الرّسول (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) اى الّذين يتأتّى منهم اللّعن من الملائكة والثقلين حتّى أنفسهم فانّهم يقولون : لعن الله الكافرين كما في تفسير الامام (ع) أو من كلّ شيء فانّ الكل باعتبار شعورهم بقدر وجودهم يلعنون الملعونين ، وهذا لا ينافي جريانه في أهل الكتاب الكاتمين لأمر محمّد (ص) وعلىّ (ع) وفي سائر العلماء الكاتمين لمطلق الحقّ وفيمن علم شيئا من الحقّ فكتمه ، ونسب الى ابى محمّد (ع) انّه قال : قيل لأمير المؤمنين (ع) : من خير خلق الله بعد ائمّة الهدى ومصابيح الدّجى؟ ـ قال : العلماء إذا صلحوا ، قيل : فمن شرّ خلق الله بعد إبليس وفرعون ونمرود وبعد المتسمّين بأسمائكم والمتلقّبين بألقابكم والآخذين لا مكنتكم والمتأمّرين في ممالككم؟ ـ قال : العلماء إذا فسدوا ؛ هم المظهرون للأباطيل الكاتمون للحقائق وفيهم قال الله عزوجل : أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللّاعنون ، ونسب الى الباقر (ع) انّه قال : انّ رجلا أتى سلمان الفارسىّ رحمه‌الله فقال : حدّثنى فسكت عنه ؛ ثمّ عاد فسكت ثمّ عاد فسكت فأدبر الرّجل وهو يتلو هذه الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ) (الى آخره) فقال له : أقبل انّا لو وجدنا أمينا حدّثناه (الحديث) (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) عن الكتمان (وَأَصْلَحُوا) ما أفسدوه بالجبران (وَبَيَّنُوا) ما كتموه (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُالرَّحِيمُ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) استيناف في مقام التّعليل ولذا قطعه عمّا قبله والمراد اصالة الكفر بولاية علىّ (ع) (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) يعنى انّ الكفّار حين الموت وظهور علىّ (ع) عليهم يعرض عليهم الولاية فيقبل بعضهم ويردّ بعضهم فلا يعلم حال الكافر بعد الموت الّا المطلّع على خفايا الأحوال ، فلا يجوز لعن الكافر بعد موته الّا لمن يعلم حاله ، والّا لمن سمع ممّن

١٥٨

يعلم حاله جواز لعنه ، ولمّا كان هذا الحكم تعليلا للسّابق ومن متعلّقاته والمتكلّم في مقام السّخط كلّما ازداد ذمّه للمغضوب عليه اشتدّ غضبه ، وكلّما اشتدّ غضبه ازداد في بسط الكلام وتغليظ الحكم وتأكيده بسط تعالى في الكلام وأكّد فقال تعالى : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها) في اللّعنة أو في نار جهنّم (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) بعد دخولهم في العذاب (وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) يمهلون قبل دخول العذاب أو لا يمهلون في العذاب برفع العذاب أو تخفيفه ليعتذروا ، أو لا ينظر إليهم (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ) جملة مستأنفة لا بداء حكم آخر على مجيء الواو للاستيناف أو حاليّة والمعنى أنّهم مخلّدون في العذاب لا يخفّف عنهم ولا يمهلون والحال ان لا اله سوى الإله المعذّب يدفع عنهم العذاب ويخلّصهم من الإله المعذّب ، والإله مأخوذ من اله بفتح العين بمعنى عبد فهو فعال بمعنى المفعول وجاء اله كفرح بمعنى تحيّر ، وعليه ؛ اشتدّ جزعه عليه ، واليه ؛ فزع ولاذ ، وآلهه أجاره وآمنه ، ويصحّ جعله مشتقّا من الجميع ؛ ومعنى آلهكم اله أنّ ما جعلتموه معبودا مستحقّ للعبادة لا انّه غير مستحقّ للعبادة (واحِدٌ) لا متعدّد (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) يعنى لا مستحقّ للعبادة سواه حتّى يكون معبودا لغيركم أو يدافعكم عن آلهكم (الرَّحْمنُ) المفيض لوجود الأشياء كلّها والمبقى لها والمعطى لما تحتاج هي اليه في بقائها (الرَّحِيمُ) المفيض للكمالات الاختياريّة البشريّة فاثبت الالاهة للاله المضاف الى المخاطبين ثمّ التّوحيد ثمّ حصر الآلهة فيه وأثبت له المبدئيّة والمنتهائيّة والمالكيّة وهذه هي أمّهات صفاته تعالى وأقام البرهان عليه بقوله : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو استيناف في مقام التّعليل وجمع السّماوات لتعدّدها حقيقة بخلاف الأرض وآيات خلق السّماوات الدّالّة على صانع حكيم عليم قادر ذي عناية بالخلق رحمن رحيم كثيرة خارجة عن إحصاء البشر وما أحصوه منها لا يحيط به البيان من وضع أفلاكها الكلّيّة والجزئيّة المحيطة وغير المحيطة وحركاتها الجزئيّة والكلّيّة المختلفة بالسّرعة والبطوء والاقامة والاستقامة والرجعة والشرقيّة والغربيّة المنضبطة في اختلافها المنوط بها نظام مواليد الأرض من توليدها وبقائها واستكمالها في ذاتها وصفاتها ووضع كواكبها واختلافها بالقرب والبعد من الأرض وشدّة النّور وضعفه وعظم الجرم وصغره والتّحسين والتّبريد وظهور آثار منها في الارضيّات وغير ذلك ممّا فصّل في علم الهيئة والنّجوم وأحكام النّجوم وكذا آيات خلق الأرض من تحيّزها حول المركز بحيث يمكن تأثير السّماويّات فيها من جوانبها ودورانها حولها وتحيّز الماء حواليها وخروج بعض سطوحها عن الماء لا مكان توليد المواليد البرّيّة عليها وتوليد الماء في جوفها ووضع الجبال عليها وانحدار سفوحها لإمكان جريان العيون عليها وإمكان اجراء القنوات فيها وجعلها غير ليّنة غامرة وغير صلبة صعبة البناء عليها متماسكة يتماسك البناء عليها وغير ذلك من المنافع الكثيرة الّتى لا يحصيها الّا الله والآيات المستنبطة من كيفيّة تعانقهما ومحبتّهما وتأثير كلّ وتأثّرها من الاخرى كثيرة أيضا. (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) اى تعاقبهما ومجيء كلّ خلف الآخر أو اختلاف كلّ منهما في أزمان السّنة بالزيادة والنّقصان أو اختلافهما بزيادة أحدهما على الآخر في أغلب الأوقات وباختلافهما في الصّفات والآثار آيات عديدة دالّة على صانع حكيم قادر رحمن رحيم (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ) يعنى في جعل الماء مائعة سائلة وجعل موادّ الفلك بحيث تطفو على وجه الماء وهدايتكم الى ترتيبها بحيث يجريها الرّياح على وجه الماء غير خارجة عن اختياركم وفي الآثار المترتّبة على الفلك وسرعة سيرها

١٥٩

مع عدم احتياجها الى مؤنة من حمل أثقال كثيرة الى بلاد بعيدة آيات عديدة دالّة على صانع حكيم قدير ذي عناية بالخلق (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ) من جهة الفلك أو من جهة العلو (مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) بتهييج قواها وإنبات نباتها وتوريق أشجارها (وَبَثَ) عطف على أنزل الله اى فيما بثّ من الحشرات والانعام والسّباع وأصناف الإنسان ، أو عطف على أحيا اى فيما أنزل من السّماء فأحياء بسببه الأرض وبثّ بسببه (فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ) ولفظة من على الاوّل بيانيّة ، وعلى الثّانى تبعيضيّة ووجه سببيّة المطر لبثّ الدّوابّ انّ توليد المتولّدات من الحشرات انّما يكون برطوبة الأرض والهواء الممتزجة بحرارة الشّمس المختلطة بالاجزاء الارضيّة المتعفّنة بسبب الحرارة وبقائها وبقاء المتولّدات وتعيّشها انّما يكون بسبب كثرة نبات الأرض الحاصلة من كثرة رطوبة الأرض والهواء الحاصلة من كثرة المطر (وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) الّذى به تبديل الهواء حتّى لا يركن فيتعفّن فيفسد أمزجة الحيوان والنّبات وحتّى يذهب بالهواء العفن ويبرد أبدان الحيوان والنّبات بتبديل الهواء المجاور المتسخّن بالمجاورة والرّكون ، وتنتفعون به في معايشكم بإجراء الفلك وإقلال السّحاب وتمييز الحبوب من الأتبان (وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) بحيث يحمل الاجزاء الرّشّيّة المائيّة ويستحيل إليها أجزاء هوائيّة فيذهب بها الى مواضع أمره الله بالامطار فيها فيمطر بحيث ينتفع الأرض به من أنواع المطر لا بحيث يفسد الأرض وعماراتها ومواليدها وقد يأتى بالثّلج في وقته أو بالبرد في محلّ ينتفع به وقد يأتى بالمطر أو الثّلج أو البرد بحيث يكون ضررها أكثر من نفعها إذا أراد الله بقوم ضرّا (لَآياتٍ) دالّة على صانع عليم حكيم قادر لا يشذّ عن علمه شيء رحمن رحيم كما أشير إليها (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يدركون بالعقول لا بالمدارك الحيوانيّة أو لقوم صائرين عقلاء ، والإتيان بالمضارع للدّلالة على حدوث العقل بعد ان لم يكن لا لغير العقلاء ممّن كانوا كالأنعام أو هم أضلّ فانّ العاقل يدرك من الأشياء دقائق الحكم المودعة فيها وأسبابها ومسبّبا لا غيره (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ) عطف على جملة (إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، أو حال (مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً) قد فسّر الآية الشّريفة في الاخبار بمنافقى الأمّة والأنداد برؤسائهم وعلى هذا فمعنى الآية من النّاس من يتّخذ أندادا لولىّ الأمر حالكون الأنداد بعضا من غير الله تعالى في مظهره أو من يتّخذ من غير اذن الله أندادا ، أو من غير اذن الله أندادا لله في مظهره (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بالبيعة الخاصّة الولويّة وقبول الدّعوة الباطنة (أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) في مظهره الّذى هو علىّ (ع) من غيرهم انّ محبّتهم نفسانيّة عرضيّة لأنّ شأن النّفس العداوة والبغضاء ومحبّة المؤمنين عقلانيّة ذاتيّة (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم بمنعها عن حقوقها الّتى هي التّسليم للولاية والقبول والتّأثّر منها واتّباع ولىّ الأمر والاستنارة بنوره ، ولفظ لو للشّرط وهو الظّاهر أو للتمنّى (إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ) إذ ظرف أو اسم خالص مفعول به ليرى وعلى الاوّل فقوله تعالى (أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) مفعول به ليرى أو بدل من العذاب على ان يكون مفعول يرى محذوفا وعلى الثّانى يكون بدلا من إذ يرون أو من العذاب ومعنى كون القوّة جميعا لله انّ قدرة كلّ ذي قدرة رقيقة من القدرة المطلقة والرّقائق متقوّمة بالمطلق ، ونسبتها الى الممكنات اعتباريّة لا حقيقة لها وقرئ ترى بالخطاب ويرون مبنيّا للمفعول من ارى وانّ القوّة بكسر انّ وكذا قوله تعالى

١٦٠