تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

مع سليمان من بيت المقدّس ستّمائة الف كرسىّ عن يمينه وشماله وأمر الطّير فأظلّتهم وأمر الرّيح فحملتهم حتّى وردت بهم مدائن كسرى ثمّ رجع فبات في فارس فقال بعضهم لبعض : هل رأيتم ملكا أعظم من هذا أو سمعتم؟ ـ قالوا : لا ؛ فنادى ملك من السّماء : تسبيحة في الله أعظم ممّا رأيتم ونسب الى الباقر (ع) انّه قال : لمّا هلك سليمان (ع) وضع إبليس السّحر ثمّ كتبه في كتاب فطواه وكتب على ظهره : هذا ما وضع آصف بن برخيا لملك سليمان (ع) بن داود (ع) من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا وكذا فليفعل كذا وكذا ، ثمّ دفنه تحت السّرير ثمّ استبان لهم فقرأه فقال الكافرون : ما كان يغلبنا سليمان (ع) الّا بهذا ، وقال المؤمنون : بل هو عبد الله ونبيّه فعلى ما سبق من سلطنة الشّياطين وفرار سليمان كان معنى الآية كما في تفسير الامام (ع): انّ هؤلاء اليهود الملحدين والنّواصب المشاركين لهم لمّا سمعوا من رسول الله (ص) فضائل علىّ بن ابى طالب (ع) وشاهدوا منه (ص) ومن علىّ (ع) المعجزات الّتى أظهرها الله تعالى لهم عليهما نبذوا التّوراة والقرآن وأفضى بعض اليهود والنّصاب الى بعض وقالوا : ما محمّد (ص) الّا طالب الدّنيا بحيل ومخاريق وسحر ونيرنجات تعلّمها وعلّم عليّا بعضها فهو يريد ان يتملّك علينا في حيوته ويعقد الملك لعلىّ (ع) بعده ، وليس ما يقول عن الله بشيء انّما هو قوله ليعقد علينا وعلى ضعفاء عباد الله بالسّحر والنّيرنجات الّتى يستعملها ، وكان أوفر النّاس حظّا من هذا السّحر سليمان (ع) بن داود (ع) الّذى ملك بسحره الدّنيا كلّها والجنّ والانس والشّياطين ونحن إذا تعلّمنا بعض ما كان يعلمه سليمان تمكّنا من إظهار مثل ما يظهره محمّد (ص) وعلىّ (ع) وادّعينا لأنفسنا ما يدّعيه محمّد (ص) ويجعله لعلىّ (ع) واتّبعوا ما تتلوه الشّياطين اى تتبعه أو تكذبه أو تقرأه مستولين على مملكة سليمان (ع) أو غالبين على سلطنته من السّحر والنّيرنجات الّتى لا يدرك مداركها أحد ، أو اتّبعوا ما تفترى الشّياطين على سلطنة سليمان (ع) من أنّه بالسّحر الّذى نحن عالمون به ، أو اتّبعوا ما تقرأه الشّياطين من السّحر والأوراد الّتى بها يقع تمزيج القوى الرّوحانيّة والطّبيعيّة ويظهر به الخوارق الّتى يعجز عن مثلها البشر وتنفثه على مملكة سليمان لادامته لهم ، وزعم هؤلاء اليهود والنّواصب والشّياطين انّ سليمان كفر (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) ولا استعمل السّحر كما قال : هؤلاء الكافرون (وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا) حالكونهم (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) أو كفروا لتعليمهم السّحر على ان يكون جوابا لسؤال مقدّر.

تحقيق السّحر

والسّحر اسم لقول أو فعل أو نقش في صفحة يؤثّر في عالم الطّبع تأثيرا خارجا عن الأسباب والمعتاد وذلك التّأثير يكون بسبب مزج القوى الرّوحانيّة مع القوى الطّبيعيّة ، أو بتسخير القوى الرّوحانيّة بحيث تتصرّف على ارادة المسخّر السّاحر وهذا أمر واقع في نفس الأمر ليس محض تخييل كما قيل ، وتحقيقه ان يقال : انّ عالم الطّبع واقع بين الملكوت السّفلى والملكوت العليا كما مرّ ، وانّ لأهل العالمين تصرّفا بإذن الله في عالم الطّبع بأنفسهم أو بأسباب من قبل النّفوس البشريّة ، وانّ النّفوس البشريّة إذا تجرّدت من علائقها وصفت من كدوراتها بالرّياضات الشّرعيّة أو غير الشّرعيّة وناسبت المجرّدات العلويّة أو السّفلية تؤثّر بالأسباب أو بغير الأسباب في أهل العالمين بتسخيرها ايّاهم وجذبها لهم الى عالمها وتوجيههم في مراداتها شرعيّة كانت أو غير شرعيّة ، وإذا كان التّأثير من أهل العالم السّفلىّ تسمّى أسبابه سحرا وقد يسمّى ذلك التّأثير والأثر الحاصل به سحرا ، وإذا كان من أهل العالم العلوىّ يسمّى ذلك التّأثير والأثر الحاصل به معجزة وكرامة ، وقد تتقوّى في الجهة السّفليّة أو العلويّة فتؤثّر بنفسها من دون حاجة الى التّأثير في الأرواح ويسمّى ذلك التّأثير والأثر أيضا سحرا ومعجزة ، فالسّحر هو السّبب المؤثّر في الأرواح الخبيثة

١٢١

الّذى خفي سببيّته أو تأثير تلك الأرواح وآثارها في عالم الطّبع بحيث خفي مدركها ثمّ أطلق على كلّ علم وبيان دقيق قلّما يدرك مدركه ، ويطلق على العالم بذلك العلم اسم السّاحر ؛ ومنه : (يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ) على وجه فيستعمل السّاحر على هذا في المدح والذّمّ.

حكاية هاروت وماروت ورموزها

(وَما أُنْزِلَ) ويعلّمون النّاس ما أنزل ، أو هو عطف على ما تتلوا الشّياطين ، أو لفظ ما نافية وهو عطف على ما كفر سليمان ، أو حال عن السّحر اى لم ينزل السّحر (عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) هما اسمان أعجميّان ولذا لم ينصرفا أو عربيّان مأخوذان من هرت ومرت كما قيل بمعنى كسر ولا وجه حينئذ لعدم صرفهما ، وقيل من هرى بمعنى انضج اللّحم ، ومن مرى من المرية أو من المماراة ، ووزنهما فلعوت مقلوب هريوت ومريوت مثل طاغوت ، ويجوز ان يكون من مار يمور بمعنى تحرّك وتموّج ، أو من مار يمير بمعنى جلب الطّعام الى اهله ، أو من هار الجرف بمعنى انصدع ووزنهما حينئذ فلعوت من غير قلب ، ومنع صرفهما لمكان التّاء والعلميّة. وعن الصّادق (ع) أنّه قال كان بعد نوح قد كثر السّحرة والممّوهون فبعث الله ملكين الى نبىّ ذلك الزّمان بذكر ما يسحر به السّحرة وذكر ما يبطل به سحرهم ويردّ به كيدهم فتلقّاه النّبىّ عن الملكين وأدّاه الى عباد الله بأمر الله عزوجل وأمرهم ان يقفوا به على السّحر وان يبطلوه ونهاهم ان يسحروا به النّاس وهذا كما يدلّ على السّمّ ما هو ، وعلى ما يدفع به غائلة السّمّ ، ثمّ يقال لمتعلّم ذلك : هذا السّمّ ؛ فمن رأيته سمّ فادفع غائلته بكذا ؛ وايّاك ان تقتل بالسّمّ أحدا ، قال : وذلك النّبىّ أمر الملكين ان يظهرا للنّاس بصورة بشرين ويعلّماهم ما علّمهما الله من ذلك ويعظاهم ونسب الى أبى جعفر (ع) انّه قال : انّ الملائكة كانوا ينزلون من السّماء الى الأرض (الى ان قال) فقالت طائفة من الملائكة : يا ربّنا اما تغضب ممّا يعمل خلقك في أرضك وممّا يصفون فيك الكذب (الى ان قال) فأحبّ الله ان يرى الملائكة القدرة ونفاذ أمره في جميع خلقه فأوحى الله الى الملائكة ان انتدبوا منكم ملكين حتّى أهبطهما الى الأرض ثمّ أجعل فيهما من طبائع المطعم والمشرب والشّهوة والحرص والأمل مثل ما جعلته في ولد آدم ثمّ أختبرهما في الطّاعة لي ، قال : فندبوا لذلك هاروت وماروت وكانا من أشدّ الملائكة قولا في العيب لولد آدم (ع) فأوحى الله إليهما : ان اهبطا الى الأرض فقد جعلت لكما مثل ما جعلت لولد آدم ثمّ أوحى الله إليهما : انظرا الّا تشركا بى شيئا ولا تقتلا النّفس الّتى حرّم الله ولا تزنيا ولا تشربا الخمر ؛ فهبطا ناحية بابل فرفع لهما مشرف فأقبلا نحوه وإذا بحضرته امرأة جميلة حسناء متزيّنة عطرة مسفرة مقبلة نحو هما ، قال : فلمّا نظرا إليها وناطقاها وتأمّلاها وقعت في قلوبهما موقعا شديدا فرجعا إليها رجوع فتنة وخذلان وراوداها عن نفسها ، وإجمال الخبر أنّها أمرتهما بسجود الصّنم وشرب الخمر ليتوسّلا بهما الى الزّنا معها ، فتوامرا بينهما وقالا : هذه ثلاثة خصال ممّا نهينا عنه ، فغلبت عليهما الشّهوة فأجاباها فشربا الخمر وسجدا الصّنم فلمّا تهيّأت لهما وتهيّئا لها دخل عليهما سائل يسأل فلمّا ان رآهما ورأياه ذعرا منه فقال لهما : انّكما لمريبان ذعران قد خلوتما بهذه المرأة انّكما لرجلا سوء وخرج عنهما ، فقالت لهما ؛ لا والهى ما تصلان الآن الىّ وقد اطّلع هذا الرّجل على حالكما ويخبر بخبر كما ولكن بادرا الى هذا الرّجل وا قتلاه قبل ان يفضحكما ثمّ دونكما فاقضيا حاجتكما فقتلا الرّجل ثمّ رجعا إليها فلم يرياها وبدت لهما سوآتهما قال الله : اختارا عذاب الآخرة أو عذاب الدّنيا ، فاختارا عذاب الدّنيا وكانا يعلّمان النّاس السّحر في أرض بابل ثمّ لمّا علّما النّاس السّحر رفعا من الأرض الى الهواء فهما معذّبان منكّسان معلّقان في الهواء الى يوم القيامة وقيل : انّ هذه القضيّة وقعت بعد رفع إدريس (ع) الى السّماء فقالت

١٢٢

الملائكة : ما يصنع هذا الخاطي فينا فلم يرضه الله تعالى منهم وجعلهم معرضا لامتحانه ثمّ قال : اختاروا من بينكم من هو أصلح منكم فاختاروا ثلاثة من الملائكة أحدهم عزرائيل فهبطوا الى الأرض واختلط بهم طباع أهلها ولبسوا لباسهم ثمّ استعفى عزرائيل من الحكومة في الأرض فقبل الله منه ورفعه الى السّماء وبقي هاروت وماروت في الأرض بناحية بابل يحكمان بين النّاس في النّهار وإذا جاء اللّيل خلع منهما طباع البشر ورفعا الى السّماء فجاءت ذات يوم امرأة حسناء لمهمّ لها عندهما فوقعت في قلوبهما فراوداها الى ان قتلا السّائل وعلّما الاسم الأعظم لها فلمّا أرادا الاختلاط بها صعدت الى السّماء بواسطة الاسم الأعظم ومسخت كوكبا وهي هذه الزّهرة المعروفة ؛ والزّهرة كانت اسما لها ، وبقيا في الأرض بعد التّنبّه بأنّهما عصيا واختارا عذاب الدّنيا على عذاب الآخرة بمشورة جبرئيل فعلّقا في بئر في مغارة جبل من بابل. وقيل : كانت القضيّة في عهد إدريس (ع) واختيار عذاب الدّنيا كان بمشورة إدريس (ع) ومسئلته من الله. وقيل : انّهما كانا رجلين صالحين كانا في النّاس يحكمان بينهم وسميّا ملكين لصلاحهما ، ويؤيّده قراءة الملكين بكسر اللّام.

اعلم أنّ أمثال هذه من مرموزات الأنبياء والحكماء السّلف ولذا اختلف الأخبار وكتب السّير في نقلها ولمّا كانت من المرموزات وقد حملها العامّة على مفاهيمها العرفيّة الّتى لا يمكن تصحيحها بالنّسبة الى مقام الأنبياء والملائكة المعصومين عن الخطاء قرّرها المعصومون تارة وأنكروها أخرى فانّه نسب الى الامام الحسن العسكري (ع) انّه سئل عن هاروت وماروت وما نسب إليهما ممّا ذكر سابقا فقال الامام (ع) : معاذ الله من ذلك انّ ملائكة الله معصومون من الخطاء محفوظون من الكفر والقبائح بألطاف الله (الى آخر ما قال فيهم) ووجه صحّتها انّ المراد بالملكين القوّتان العلّامة والعمّالة اللّتان أنزلهما الله من عالم الأرواح وجعل فيهما ما جعل في البشر من الطبائع المتضادّة والشّهوات المتخالفة والآراء المتناقضة وابتلاهما بالمرأة المتعطّرة المتزيّنة الّتى هي النّفس الانسانيّة وقد عبّر عنها في الأخبار بالمرأة ودعت النّفس القوّتين الى متابعتها وقد افتتنتا بشهواتها ولذّاتها ولم يتيسّر لهما التّمتع بها الّا بشرب خمر الغفلة وسجدة وثن الهوى وقتل الملك الزّاجر لهما الّذى أنزله الله تعالى معهما زاجرا لهما عن متابعة النّفس في أوّل الأمر ثمّ لمّا عزمتا على مخالطة النّفس واستحكم ذلك فيهما زال عنه قوّة الزّجر والمنع بغلبتهما عليه فصار سائلا متضرّعا ، ولمّا لم يتيسّر لهما التّمتع بها مع مسئلته قتلتاه بأمرها ثمّ وضعتا للوصول الى شهواتها الطرائق الخفيّة الّتى بها تتصرّفان في الطبيعيّات باستمداد من الأرواح الخبيثة وبهذا الاعتبار يسمّى سحرا ثمّ تعلّمت منهما ما ترتقى به عن عالم الملك وتتّصل بروحانيّات الكواكب العلويّة خصوصا روحانيّة الزّهرة الّتى هي المربيّة للنّسأ والمزيّنة والمراد بالمسخ المسخ الملكوتي لا الملكىّ ، ولمّا اتّصلت بروحانيّة الزّهرة قالوا مسخت بها وبقيتا في عالم الطّبع معذّبتين بأمره تعالى في خدمة الجسد ولوازمه في بئر له سبعمائة درجة باعتبار وفي الهواء باعتبار (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ) من ذلك السّحر وإبطاله (حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ) امتحان للخلق جعلنا الله امتحانا لهم حتّى يعلم من يجاهد في سبيله ولا يتعلّم ما يضرّ بدينه أو لا يستعمل ما يتعلّمه ممّا يضرّ ممّن لا يجاهد (فَلا تَكْفُرْ) بترك المجاهدة وتعلّم ما يضرّك أو استعماله وبادّعاء الانانيّة لنفسك ونسبة ما تعلّمته إليها مع انّه عارية من الله لها (فَيَتَعَلَّمُونَ) بترك نصحهما (مِنْهُما) من الملكين أو من الصّنفين اى السّحر وما أنزل على الملكين (ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) من الأعمال والأقوال والرّقىّ ويتركون نصائح الملكين ويضرّون

١٢٣

بعباد الله (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ) وما المتعلّمون بضارّين بما يفرّقون به بين المرء وزوجه أو بما يتعلّمونه (١إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) لمّا توهّم من نبذ الكتاب واتّباع ما تتلو الشّياطين على ملك سليمان وتلاوة الشّيطان واستيلائه على ملك سليمان بما تلاه وتعليم الشّيطان النّاس السّحر وبالجملة من انتساب الأفعال الى المذكورين استقلالهم بها واستبدادهم فيها رفع ذلك التّوهّم بانّ هذه ابتلاءات من الله على أيدى هؤلاء وليس يقع بدون اذنه شيء (وَيَتَعَلَّمُونَ) من الملكين أو من الصّنفين (ما يَضُرُّهُمْ) من أنواع السّحر والنّيرنجات سوى ما يفرّقون به بين المرء وزوجه ، أو المراد أنّهم يتعلّمون ما يضرّهم أعمّ من التّفريق وغيره من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ للاهتمام بالخاصّ ولتطويل مقام الذّمّ ولذا أتى بالعاطف ، أو المراد أنّهم يتعلّمون من غير الملكين ومن غير الصّنفين ما يضرّهم من العلوم والحرف ، أو أنّهم يتعلّمون من كلّ ما يتعلّمون جهته الدّنيويّة الّتى تضرّهم في دينهم وفي دنياهم تبعا لدينهم ، ولا يتعلّمون الجهة الّتى تنفعهم في دينهم فتنفعهم في دنياهم أيضا (وَلا يَنْفَعُهُمْ) مع أنّهم أمروا بالتّعلّم لينتفعوا والملكين أنزلا ليتعلّموا منهما ما ينفعهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ) اى اشترى ما تتلو الشّياطين بكتاب الله كأنّ كتاب الله بحسب فطرته كان مملوكا له بخلاف ما تتلو الشّياطين لانّ التّدوينىّ من كتاب الله صورة كتابه التّكوينىّ والصّورة الانسانيّة مختصرة من التّكوينىّ وما تتلو الشّياطين ليس منسوبا الى الانسانيّة بل هو ضدّ ونافر منها فاشتراءه بكتاب الله شراء مبيع خسيس رديء بثمن نفيس مملوك له مملوكيّة ذات الشّيء للشّيء ولذا قال بعيد ذلك (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ،) أو المعنى انّهم علموا لمن اشترى ما يضرّه بما ينفعه كأنّ ما ينفعه مملوك له فجعله ثمنا (ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) نصيب (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) كتاب الله فانّه أنفسهم كما عرفت ، أو ما ينفعهم فانّه أيضا من شؤن أنفسهم وشأن الّشيء هو الشّيء بوجه ، أو المقصود أنّهم باشتراء ما تتلو الشّياطين بكتاب الله عرضوا أنفسهم في معرض البيع للّشيطان فباعوها منه بالأعراض والأغراض الفانية ، أو المعنى لبئس ما اشتروا به انانيّتهم كما سبق في نظير الآية (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لانتهوا عمّا ارتكبوه أو لما اشتروه ، أو المعنى على التّمنّى

تحقيق العلم ومصاديقه وحقيقته

اعلم انّ العلم يطلق على مطلق الإدراك الانسانىّ سواء كان بالمدارك الظّاهرة أو الباطنة ، وسواء كان جزئيّا أو كلّيّا تصوّرا أو تصديقا ، ولا يطلق على ادراك سائر الحيوان لانّه ليس مطلق الإدراك بل الإدراك المأخوذ في مفهومه الشّعور بالشّعور في عرف العامّ والإدراك الموصوف بالاشتداد اى المستعقب لادراك آخر فوق ذلك الإدراك في طريق الإنسان في عرف الشّارعين ، ويطلق على الإدراك الكّلّى أو المركّب مقابل المعرفة الّتى تطلق على الإدراك الجزئىّ أو البسيط ، وعلى التّصديق ظنيّا أو علميّا تقليديّا أو عاديّا أو برهانيّا ، وعلى الفنون العلميّة والصّناعات والحرف العلميّة من دون اعتبار ادراك مدرك لها ، وعلى الملكة الحاصلة للإنسان من ممارستها ومدارستها علما ومواظبتها عملا الّتى يقتدر بها على تفصيل مسائلها وإتقان عملها ، ولمّا كان العلوم والإدراكات متخالفة متضادّة والفنون والصّناعات مختلفة والعلوم والجهالات متشابهة غير متمايزة الّا عند من له بصيرة بداري العلم والجهل ، وانّ أىّ الإدراكات صدر من دار العلم وأيّها من دار الجهل ، وأيّها يؤدّى الى العلم وأيّها يؤدّى الى الجهل ، وهذا البصير نادر الوجود ولكن طالب تلك البصيرة كثير ولتشابه العلوم والجهالات يضلّ كثير من الطّلاب عن طريق

١٢٤

الحقّ ويحسب العلم في الجهل واليقين في الظّنّ حتّى أنّه يحسب ان ليس وراء مظنونه علم وادراك كان التّعرّض لتحقيق العلم وأقسامه وتمييزه عن الجهل وأفنانه من المهمّات فنقول : العلم كالوجود وكذا سائر الصّفات الحقيقيّة الإلهيّة حقيقة مشكّكة ذات مراتب عديدة فمرتبة منه واجب الوجود تعالى شأنه ، ومرتبة منه فعله المسمّى بالمشيّة والحقيقة المحمّديّة (ص) وعلويّة علىّ (ع) ونفس الرّحمن ومقام المعروفيّة وهو الواسطة بين الخلق والحقّ ولذا سمّى بالحقّ المخلوق به ، ومرتبة منه الأقلام العالية بأنواعها ومراتبها ، ومرتبة منه الألواح النّوريّة بمراتبها الكلّيّة والجزئيّة ، ومرتبة منه الألواح العينيّة بسماواتها وسماويّاتها وارضيها وارضيّاتها والعلم في المراتب العالية لظهور الوجود فيها وخفاء المهيّات وانغمار التّعيّنات وانمحاء الكثرات وظهورها بأنفسها وانكشاف غيرها لها وانكشافها لدى غيرها وإدراكها لإدراكها يسمّى علما وعقلا كما يسمّى وجودا ونورا ، وامّا في مراتب المادّيّات وخصوصا الأرضيّات فلخفاء الوجود وغلبة الاعدام والتّعيّنات وغيبتها عن أنفسها وعن غيرها بحقائقها لا يسمّى شعورها الضّعيف الخفىّ علماء فانّ للكلّ شعورا بقدر وجوده ولكن لا شعور له بشعوره كما في قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) يعنى انّ للكلّ تسبيحا وشعورا ولكن لا شعور لهم بتسبيحهم (على قراءة لا يفقهون بالغيبة) وهكذا الحال في ادراك الحيوان مع انّ له إحساسا بالمدارك الظّاهرة وإدراكا بالمدارك الباطنة لعدم شعوره بشعوره ، والسّرّ في ذلك انّ المادّة الاولى فعليّة وجوده عين القوّة وعدم الوجود الشأنىّ فليس لها وجود في نفسها حتّى يكون لها وجود لنفسها ، أو يكون لغيرها وجود لها فلا يكون لها علم بنفسها ولا بغيرها لانّ العلم بالشيء عبارة عن وجود ذلك الشّيء للعالم به وحضوره عنده ، والمادّة الثّانية الّتى هي الامتداد الجسمانىّ والصّور المنطبعة فيها من صور العناصر والجمادات والنّباتات لها فعليّة ما ووجود في أنفسها ووجود لأنفسها لكن فعليّتها مختفية تحت القوّة ووجوداتها في أنفسها عين أعدامها وتكوّناتها نفس تصرّماتها على ما تقرّر عند الصّوفيّة وبعض من قلّدهم من الفلاسفة من الحركات الجوهريّة والتّجدّدات الذّاتيّة وانّ موجودات عالم الطّبع بتمامها موادّها وصورها وأوصافها وأعراضها من قبل أنفسها في الفناء والعدم ومن قبل موجدها في البقاء والوجود ، ووجوداتها لأنفسها بعينها أعدامها وغيبوبتها عن أنفسها ، على انّ الامتداد الجسمانىّ كلّ جزء من أجزائه الغير المتناهية المفروضة في الغيبة عمّا سواه وعن الكلّ والكلّ في الغيبة عن الاجزاء ، وما كان كذلك لم يكن له حضور عند غيره ولا لغيره حضور عنده ، فلم يكن عالما بنفسه ولا بغيره ولا معلوما لغيره الّا لمن كان الامتداد الجسمانىّ متقوّما به ومتبدّلا غيبته بالحضور وتجدّده بالثّبات عنده ، وغير الإنسان من الحيوان لتجرّد نفسه الحيوانيّة عن المادّة تجرّدا ما كان له وجود في نفسه ولنفسه فكان عالما ومعلوما لنفسه وكان لغيره أيضا وجود ما له بصورته المجرّدة عن المادّة تجرّدا مثل تجرّد النّفس الحيوانيّة فكان عالما بغيره أيضا لكن لمّا كان علمه وإدراكه مجرّدا عن الشّعور بالشّعور وعن الاشتداد لا يسمّى علما بل إحساسا وإدراكا ، والإنسان من اوّل انفصال مادّته واستقرارها في مقرّها حاله حال الجماد البرزخ بين الجماد والنّبات ، وبعد ذلك يصير نباتا ، وبعد ذلك يصير حيوانا كالخراطين له قوّة ضعيفة للحركة الخفيفة وادراك ضعيف باللّامسة ، فاذا تولّد صار حيوانا كاملا بحسب المدارك الظّاهرة لكن مداركه الباطنة الحيوانيّة بعد في ضعف حتّى بلغ الى عامين أو ثلاثة فيصير حينئذ حيوانا كاملا في مداركه الظّاهرة والباطنة ، ولا فرق بينه وبين الأجناس الثلاثة في تلك المراتب الّا انّه واقع في طريق الإنسان غير واقف على شيء من المراتب الثلاث ووجوده لا بشرط شيء بخلافها فانّها واقفة في مقاماتها غير مستعدّة للتّجاوز عنها لكن شعوره البسيط في المراتب كشعورها لا يسمّى علما وان كان في الاشتداد ؛ لما عرفت انّ الجماد والنّبات

١٢٥

شعورهما كلا شعور ولا يسمّى إدراكا وشعورا فكيف يسمّى علما ، وانّ الحيوان وان كان شعوره شعورا وإدراكا لكن لانفكاك الاشتداد والشّعور بالشّعور عنه لا يسمّى علما فاذا بلغ أو ان التميز وادراك المعقولات من البديهيّات سمّى عالما وإدراكه علما لحصول الشّعور بالشّعور له مع الاشتداد لإدراكه في الطّريق الانسانىّ فعلم من ذلك انّ اسم العلم وقع على الإدراك بعد ما سلب عنه حين صيرورته قرينا للشّعور بالشّعور حالكونه مشتدّا في الطّريق الانسانىّ ، ودوران اطلاق العلم على الإدراك وسلبه عنه على وجود الشّعور بالشّعور وعدمه دليل على اعتباره في اطلاق العلم ، واعتبار اشتداد الإدراك في صدق العلم يستفاد من إشارات الآيات والاخبار وانّ الفطرة قاضية بأنّ العلم يقتضي العمل بمقتضاه لانّ الإنسان العطشان إذا علم انّ خلف الجدار ماء وعلم أنّه لا يصل اليه الّا بالحركة اليه ؛ فعلمه يدعوه الى الحركة اليه ، على أنّ في الاخبار إشارات اليه والعمل يورث العلم بنصوص الاخبار مثل : من عمل بما علم ورّثه الله علم ما لم يعلم ، وبإشارات الكتاب مثل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) حيث جعل التّعليم المورث للعلم ميراث التّقوى ، فالعلم على هذا يقتضي العلم ، وما في سورة التّكاثر صريح في اقتضاء العلم الاشتداد والازدياد من قوله تعالى : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ* ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) وقد ذكر المولوى قدس‌سره اقتضاء العلم الاشتداد بقوله.

اين عجب ظنّى است در تو اى مهين

كه نمى پرّد ببستان يقين

هر گمان تشنه يقين است اى پسر

ميزند اندر تزايد بال وپر

چون رسد در علم پس پويا شود

مر يقين را علم أو جويا شود

علم جوياى يقين باشد بدان

وين يقين جوياى ديدست وعيان

فاذا سمع الإنسان نباح الكلب مثلا وانتقل منه الى تسخّره للغضب ومنه الى تسخّر الغضب لربّ نوعه ، ومنه الى تسخّره لربّ الأرباب كان سماعه علما ، وإذا سمع نبىّ وقته يقول : يا قوم اتّقوا الله وأطيعونى فانّ في طاعتي وسماع قولي فلاح الدّنيا والآخرة ، وأدرك منه لموافقة شاكلته أنّ فلاح الدّنيا بكثرة المال والتّرأّس على العباد والتّبسّط في البلاد سواء حمل ذلك القول من النّبىّ على طلبه ذلك أو لم يحمل لم يكن إدراكه علما بل كان جهلا ، وهكذا الحال في تعلّم الصّناعات العلميّة فانّه إذا تعلّم فانّه إذا تعلّم السّحر للاطّلاع على طرقه الخفيّة لحفظ دين الله وضعفاء عباد الله وابطال السّحر به ، أو تعلّم الشّطرنج للتنبّه على كيفيّة السّير في البيوت والغلبة على الخصم منتقلا به الى سير قواه في مدارج الآخرة والغلبة على الخصم الّذى هو الشّيطان وجنوده كان إدراكه علما ، وإذا تعلّم الفقه أو علم الأخلاق أو علم العقائد الدّينيّة ولم يكن المقصود منه العمل وامتثال الأوامر والنّواهى وتبديل الأخلاق ولا التّرقّى من حضيض العلم الى أوج اليقين والشّهود بل كان مقصوده التحبّب الى النّاس أو التّرأّس عليهم أو الصّيت في بلادهم أو التّصرّف في الأوقاف والوصول الى المناصب الشّرعيّة أو غير الشّرعيّة أو غير ذلك من الأغراض النّفسانيّة كان إدراكه جهلا لا علما فمدار علميّة الإدراك وجهليّته شاكلة الإنسان لا صورة المدرك والصّناعات فربّ متعلّم للفقه كان عبدا للشّيطان بل ابنا له ، وربّ متعلّم للسّحر والشّطرنج والموسيقار الّتى قالوا بحرمة تعلّمها كان إدراكه علما ؛ وبالجملة كلّما أخذ النّاقص بدون الاذن والانقياد للكامل صار في وجوده نقصا وعلّة ، وما أخذه الكامل أو النّاقص بإذن الكامل وانقياده كان كمالا وفضيلة ؛ ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

دست ناقص دست شيطان است وديو

زانكه اندر دام تكليف است وريو

كاملى گر خاك گيرد زر شود

ناقص ار زر برد خاكستر شود

١٢٦

جهل آيد پيش أو دانش شود

جهل شد علمي كه در ناقص رود

هر چه گيرد علّتى علّت شود

كفر گيرد ملّتى ملّت شود

والحاصل أنّ كلّ ادراك يكون سببا للادبار عن الدّنيا والإقبال على الآخرة يسمّى عند أهل الله علما ، وكل ادراك لم يكن كذلك لم يكن علما ، والعالم من كان يعلم ما يحتاج اليه في معاشه ومعاده مع إقباله على الآخرة ، والمتعلّم من كان طالبا لادراك ما يحتاج اليه مع إقباله على الآخرة ، ومن كان مقبلا على الدّنيا لم يكن عالما ولو كان مدركا لجميع المسائل الشّرعيّة والمطالب الخلقيّة والعقائد الدّينيّة بالبرهان المتقن ؛ ونعم ما قيل : انّ العلم هو الّذى لم يجتمع مع الأغراض الدّنيويّة والأهواء النّفسانيّة ؛ وما اجتمع مع تلك فهو جهل مشابه للعلم وليس بعلم ، فقول المعصوم (ع): طلب العلم فريضة على كلّ مسلم ومسلمة ؛ اشارة الى هذا الإدراك سواء كان مع الجلوس في المدرسة أو مع الاكتساب للمعيشة والّا كان أكثر النّاس محروما من هذه الفضيلة ، وكذا قوله (ع): كن عالما أو متعلّما ولا تكن ثالثا فتهلك ، اشارة الى هذا العلم وطلبه والّا كان الأمر به أمرا بالمحال لأغلب النّاس.

وما ورد في أخبار كثيرة من أقسام العلم وطلبته وأقسام العالم يدلّ على ما ذكر مثل ما روى : انّ رسول الله (ص) دخل المسجد فاذا جماعة قد أطافوا برجل فقال (ص) : ما هذا؟ ـ فقيل : علّامة ، فقال (ص): وما العلّامة؟ ـ فقالوا : أعلم النّاس بأنساب العرب ووقائعها وأيّام الجاهليّة والاشعار العربيّة ، فقال النّبىّ (ص): ذاك علم لا يضرّ من جهله ولا ينفع من علمه ، ثمّ قال النّبىّ (ص) : انّما العلم ثلاثة ؛ آية محكمة ، أو فريضة عادلة ، أو سنّة قائمة ، وما خلا هنّ فهو فضل. فانّه اشارة الى الأقسام الثّلاثة للعلم العقلانىّ والنّفسانىّ والجسمانىّ بحيث يكون مشتملا على الإقبال على المعلوم والعمل المستلزم للاشتداد فانّ الآية المحكمة عبارة عن العلوم العقلانيّة الّتى يجد العالم شيئا من حقائق المعلومات ويستلذّ به والّا لم تكن آيات ومرائى ، والّتى لم يكن للرّيب والّشكّ والزّوال مجال فيها والّا لم تكن محكمة ، وهذا بخلاف العلوم الخياليّة الّتى حصّلها الفلسفىّ والمتكلّم باستخدام الخيال للعاقلة وجعلتها أنفسهم الزّائغة وسائل لمآربها النّفسانيّة من الأعراض الدّنيويّة أو الأغراض النّفسانيّة من الرّاحة عن كلفة الطّاعات الشّرعيّة فانّها ليست آيات ولا محفوظة عن الرّيب والشّكّ والزّوال لكونها مأخوذة بالتّقليد من أمثالهم ، والفريضة العادلة عبارة عن العلوم النّفسانيّة المتعلّقة بالرّذائل والخصائل بحيث يصير العالم بها متخلّيا عن الرّذائل متحلّيا بالخصائل لانّ اطلاق الفريضة على هذا العلم انّما هو باعتبار تلك التّخلية والتّحلية وكذا اطلاق العادلة فانّ معنى العلم العادل ان يكون العالم به عادلا أو معلومه متوسّطا ولا يكون المعلوم من الأخلاق متوسّطا الّا إذا صار جزئيّا موجودا في وجود العالم به ، وهذا معنى استلزام العلم للعمل المستلزم لعلم آخر اللّازم للإقبال على الآخرة ، والسنّة القائمة عبارة عن العلوم القالبيّة المأخوذة من النّبىّ (ص) أو خليفته العامل صاحبها بها بحيث ينتصب عن اعوجاجه أو يعتدل عن الإفراط والتّفريط ، أو تكفى مهامّ صاحبها في الدّنيا والآخرة لانّ السّنّة بحسب العرف واللّغة لها معان عديدة لكنّها في عرف الشّارعين اسم للعلوم المتعلّقة بالأعمال الجسمانيّة بحيث تؤدّى صاحبها الى العمل لانّ تسمية العلوم بالسّنّة ليست الّا باعتبار العمل ، والقائمة امّا من قام بمعنى انتصب أو اعتدل وبكلا المعنيين تكون وصفا بحال المتعلّق اى سنّة قائم صاحبها ، أو من قام المرأة وعليها بمعنى مأنها وكفى أمورها وبهذا المعنى يكون وصفا بحال الموصوف فالعمل والإقبال الى الآخرة مأخوذان في مفهوم الكلمتين. ومثل ما روى عن الصّادق (ع) في أقسام طلبة العلم من قوله (ع) طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم ؛ صنف يطلبه للجهل والمراء ، وصنف يطلبه للاستطالة

١٢٧

والختل (١) وصنف يطلبه للفقه والعقل ، فصاحب الجهل والمراء موذ ممار متعرّض للمقال في أندية الرّجال بتذاكر العلم وصفة الحلم قد تسربل بالخشوع وتخلّى من الورع فدّق الله من هذا خيشومه وقطع منه حيزومه (٢) ، وصاحب الاستطالة والختل ذو خبّ (٣) وملق يستطيل على مثله من أشباهه ويتواضع للأغنياء من دونه فهو لحلوائهم (٤) هاضم ولدينه حاطم ، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء اثره ، وصاحب الفقه والعقل ذو كأبة وحزن وسهر قد تحنّك في برنسه وقام اللّيل في حندسه ، يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا مقبلا على شأنه ، عارفا بأهل زمانه ، مستوحشا من أوثق إخوانه ، فشّد الله من هذا أركانه ، وأعطاه الله يوم القيامة أمانه. وهذا الحديث يدلّ على ما ذكرنا من انّ اعتبار جهليّة الإدراك وعلميّته انّما هو بشأن المدرك ونيّته لا بحال المدرك المعلوم وشرافته وخساسته فانّ المراد بالعلم في قوله (ع) : طلبة العلم ؛ مطلق الإدراك المطلق عليه العلم بمفهومه العرفىّ ، وقوله (ع) صنف يطلبه للجهل يعنى يطلب العلم اى الإدراك أو المدرك للجهل يعنى يجعل غاية طلبه للعلم الجهل وهذا بظاهره متناقض وبيانه بحيث لا يتوهّم تناقض ان نقول : انّ الإنسان له قوّة درّاكة ويعبّر عنها بالقوّة العلّامة والقوّة النظريّة ، وقوّة عمليّة ويعبّر عنها بالقوّة العمّالة ، والقوّة العمّالة تنشعب الى الشّهويّة الّتى تجذب المنافع والملاذّ والغضبيّة الّتى تدفع المضارّ والمولمات وهذه الثّلاث امّا مسخّرة للعاقلة وخادمة لها ولا يكون تسليمها للعاقلة الّتى هي رسول باطنيّ الّا إذا صارت منقادة لولىّ أمره الّذى هو عقل خارجىّ أو مسخّرة للشّيطان وخادمة له فان كانت خادمة للعاقلة كان ادراك العلّامة علما ومورثا للعمل الاخروىّ وللعلم الآخر وكان عمل العمّالة للآخرة سواء كان شهويّا أو غضبيّا ، ومورثا لعلم آخر غير العلم الّذى صار محرّكا له على العمل ، وان كانت مسخّرة للشيطان كان إدراكه مورثا لازدياد جهله فانّ الجهل الحقيقىّ هو ملك الشّيطان وليس المراد به الجهل الّذى هو عدم لملكة العلم بل المراد به ازدياد الإدراك الّذى يصير سببا لسعة النّفس الّتى سعتها قبل التّسليم سعة ملك الشّيطان ، وكثيرا ما يورث هذا الإدراك إدراكا آخر هو جهل آخر. وقول علىّ عليه‌السلام في حديث أقسام النّاس : انّ النّاس آلوا بعد رسول الله (ص) الى ثلاثة ؛ آلوا الى عالم على هدى من الله قد أغناه الله بما علم عن علم غيره ، وجاهل مدّع للعلم لا علم له معجب بما عنده قد فتنته الدّنيا وفتن غيره ، ومتعلّم من عالم على سبيل هدى من الله ونجاة ؛ (الى آخر الحديث) اشارة الى ما ذكرنا ؛ فانّ المراد بالجاهل المدّعى للعلم المعجب بما عنده المفتتن بالدّنيا ؛ والمفتّن غيره ليس الجاهل السّاذج بل الّذى سمّاه أشباه النّاس عالما واكتنز من قشر العلوم كنوزا وجعلها لمآربه معدّة ، ولا علم له بالمعنى الّذى ذكر مع انّه مليء بالإدراكات الجهليّة المورثة لازدياد ملك الشّيطان الّذى هو ملك الجهل ، وكان عمله بتسخير الشّيطان جلبا لما اشتهته نفسه ، ودفعا لما لا يلائم نفسه من غير اعتبار للتّأدية الى الآخرة وهذا المسخّر للشّيطان بقوّته الدّراكة وحيلته الشّيطانيّة يريد مداما ارائة مدّخراته للخلق فيتعرّض للمقال في أندية الرّجال ويؤذى جليسه بإعجابه بنفسه وإظهاره مزخرفاته ويمارى من يظنّه مثله أو فوقه ؛ ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

علم تقليدي وتعليمي است آن

كز نفور مستمع دارد فغان

__________________

(١) الختل كالضرب من باب ضرب ونصر الخديعة ؛ ختل ختلا وختلانا.

(٢) الحيزومة الصدر أو وسطه أو ما استدار على الظهر والبطن وما اكتنف الحلقوم من الصدر ، والخب بالكسر الخداع والخبث والغش.

(٣) الحلواء مقصورا وممدودا معروف ، والحلوان بضم الحاء وبالنون اخره الدلال والكاهن ومهر المرأة ، أو ما تعطى على متعتها أو ما يعطى من نحو رشوة ومثلها.

١٢٨

سورة البقرة

چون پى دانش نه بهر روشنى است

همچو طالب علم دنياي دنى است

طالب علم است بهر عام وخاص

نى كه تا يابد از اين عالم خلاص

علم وگفتارى كه آن بى جان بود

عاشق روى خريداران بود

گر چه باشد وقت بحث اين علم زفت

چون خريدارش نباشد مرد ورفت

وعلامة العلم ان يكون العالم طالبا للخلوة مع معلومه نافرا من هذه الجهة من أوثق إخوانه فكيف بغيرهم ، وان كان من جهة الحبّ في الله طالبا للسّلّاك الى الله لتمام خلق الله قائلا :

مشترى من خداى است ومرا

مى كشد بالا كه الله اشترى

خونبهاى من جمال ذو الجلال

خونبهاى خود خورم كسب حلال

وبقوّته السّبعيّة يريد الاستطالة على من يمكن له الاستطالة عليه فيستطيل على أمثاله الّذين لا يظن حصول ملائمات قوّته البهيميّة منهم ويتملّق لمن يظنّ حصول ملائماتها منه سواء كانوا أدنى منه في الشّرف أو أمثاله أو أشرف منه ، فمعنى الحديث صنف من طلبة العلم يطلبه لازدياد مدركاته الحاصلة باستمداد الشّيطنة الموجب لازدياد جهله ؛ وصفة هذا الصّنف ما ذكره (ع) ، وصنف يطلبه لتقوية قوّته الغضبيّة الظّاهرة بالاستطالة على الخلق ولتقوية قوّته البهيميّة الظّاهرة بالختل مع الخلق والتملّق ، وصنف يطلبه للفقه وازدياد العلم الاخروىّ واشتداده ، والعقل يعنى كمال الإدراك الّذى هو التعقّل مقابل نقصان الإدراك الّذى هو الشّيطنة والجهل. وروى عن أمير المؤمنين (ع) في عبّاد العامّة وجهّالهم الّذين سمّاهم أشباه النّاس عالمين انّه قال : انّ من أبغض الخلق الى الله تعالى لرجلين ، رجل وكله الله تعالى الى نفسه وهو جائر عن قصد السّبيل مشعوف بكلام بدعة قد لهج (١) بالصّوم والصّلوة فهو فتنة لمن افتتن به ، ضالّ عن هدى (٢) من كان قبله ، مضلّ لمن اقتدى به في حيوته وبعد موته ، حمّال خطايا غيره ، رهن بخطيئته ، ورجل قمش (٣) جهلا في جهّال النّاس عان بأغباش (٤) الفتنة قد سمّاه أشباه النّاس عالما ولم يغن فيه يوما سالما ، بكّر فاستكثر ما قلّ منه خير ممّا كثر حتّى إذا ارتوى من ماء آجن واكتنز من غير طائل جلس بين النّاس قاضيا ضامنا لتخليص ما التبس على غيره ، وان خالف قاضيا سبقه لم يأمن ان ينقض حكمه من يأتى بعده لفعله بمن كان قبله ، وان نزلت به احدى المبهمات المعضلات هيّأ لها حشوا من رأيه ثمّ قطع به فهو من لبس الشّبهات في مثل غزل العنكبوت لا يدرى أصاب أم أخطأ ، لا يحسب العلم في شيء ممّا أنكر ، ولا يرى انّ وراء ما بلغ فيه مذهبا ، ان قاس شيئا بشيء لم يكذّب نظره وان أظلم عليه امر اكتتم به لما يعلم من جهل نفسه لكيلا يقال له : لا يعلم ، ثمّ جسر فقضى فهو مفتاح عشوات (٥) ركّاب شبهات خبّاط جهالات ، لا يعتذر ممّا لا يعلم فيسلم ، ولا يعضّ في العلم بضرس قاطع فيغنم ، يذري الرّوايات ذرو الرّيح الهشيم ، تبكي منه المواريث وتصرخ منه الدّماء ، يستحلّ بقضائه الفرج الحرام ، ويحرّم بقضائه الفرج الحلال ، لا مليء بإصدار ما عليه ورد ، ولا هو أهل لما منه فرط من ادّعائه علم الحقّ. والاوّل من الرّجلين اشارة الى من لم يدخل في باب الهدى ولم يأخذ علمه من أهله الّذين أمر الله العباد بالأخذ منهم ، فصار حريصا على الصّوم والصّلوة فافتتن النّاس بهم من حيث انّهم رأوهم متعبّدين فظنّوا أنّهم من خواصّ أهل الله فاقتدوا بهم ، والثّانى اشارة الى علمائهم الّذين لم يدخلوا في باب الولاية ولم يأخذوا علمهم من أهله بل جمعوه من الصّحف وأخذوه من الرّجال

__________________

(١) لهج له اى اولع به.

(٢) الهدى بالفتح والسكون والهداية بالفتح أو بالكسر والسكون السيرة والطريقة.

(٣) قمش كنصر جمع ، وأغباش جمع غبش كأسباب جمع سبب بقية الليل أو ظلمة آخره.

(٤) العشوات جمع العشوة والعشوة بتثليث العين ركوب الأمر من غير بيان ، وبالفتح الظلمة.

١٢٩

فهم جمعوا سواقط خيالات النّاس ولذا استعمل فيه القمش الّذى هو جمع القماش الّتى هي ما سقط على وجه الأرض ، وسمّى سواقط خيالات النّاس ممّا سمّوه مسائل علميّة بالجهل فقال : قمش جهلا في جهّال النّاس اى جمع ما سمّوه علما في بين علماء النّاس الّذين سمّاهم أشباه النّاس علما ، فمعنى الآية على ما عرفت من معنى العلم وإطلاقاته ، ولقد علموا اى أدركوا إدراكا يسمّى في عرف أهل الله بالجهل لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون حقيقة لامتنعوا (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا) ولو انّ اليهود ومن يليهم من النّواصب آمنوا بالايمان العامّ أو بالايمان الخاصّ أو أقرّوا وأذعنوا بالكتاب الّذى نبذوه وراء ظهورهم وهو عطف على لمن اشتراه ، أو على سائر الجمل السّابقة لكن عطفه على قوله (لَمَنِ اشْتَراهُ) أوفق بحسب أجزاء ما بعده (وَاتَّقَوْا) مخالفة من بايعوا معه أو اتّباع ما تتلو الشّياطين (لَمَثُوبَةٌ) لهم (مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ) ونكّر المثوبة للاشعار بأنّ ما يصدق عليه المثوبة أىّ شيء كان يسيرا أو كثيرا خير ولم يأت بالجملة الفعليّة للاشعار بأنّ لزوم المثوبة أمر مفروغ عنه والمحتاج الى البيان لزوم خيريّة المثوبة لا نفس المثوبة ، ولم يأت بالمفضّل عليه لعدم الاعتداد به وليذهب ذهن السّامع كلّ مذهب (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) لو للتّمنّى أو للشّرط (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالايمان العامّ والبيعة العامّة روى أنّه ليس في القرآن يا أيّها الّذين آمنوا الّا وهي في التّوراة يا أيّها المساكين (لا تَقُولُوا راعِنا) كانوا يقولون للنّبىّ (ص) راعنا الى لاحظنا محسنا إلينا ، أو استمع لمقالنا ، وكان تلك الكلمة سبّا في لغة اليهود بمعنى اسمع لا سمعت كما في الصّافى فكان اليهود يتوسّلون بتلك الكلمة الى شتم رسول الله (ص) فنهى الله المؤمنين عن تلك الكلمة (وَ) قال : (قُولُوا انْظُرْنا) فانّها ليست شتما في لغتهم حتّى يتوسّلوا بها الى شتم الرّسول (ص) (وَاسْمَعُوا) إذ قال لكم رسول الله (ص) قولا وأطيعوا ، أو المعنى : واسمعوا نهيي لكم عن هذا القول ، وأمرى لكم بهذا القول ، (وَلِلْكافِرِينَ) يعنى اليهود الشّاتمين (عَذابٌ أَلِيمٌ ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ابتداء كلام لبيان مرام آخر ولذا قطعه عمّا قبله (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) ولا من المشركين الّذين منهم النّواصب والمنافقون بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) أو منافقوا الامّة داخلون في أهل الكتاب (أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) من الآيات المزيّدات في شرف محمّد (ص) وعليّ (ع) وآلهما الطّيبّين (ع) أو من نعمة من نعم الدّنيا ، أو من غلبة وغنيمة من الخصم (وَاللهُ يَخْتَصُ) يميز (بِرَحْمَتِهِ) اى ولاية علىّ (ع) فانّها رحمته تعالى أو نبوّته أو تصديق نبيّه أو ولايته وإمامته (مَنْ يَشاءُ) من عباده ودّوا ذلك أو كرهوا (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) على من يختصّه برحمته.

بيان النّسخ واقسامه

(ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ) النّسخ لغة الازالة والتّغيير والابطال واقامة شيء آخر مقام المبطل والمسخ ، ونسخ الكتاب وانتسخه واستنسخه كتبه ، وشرعا رفع حكم ثابت في الشّريعة بعد العمل به سواء كان النّاسخ والمنسوخ من شريعتين أو من شريعة واحدة ، وسواء كان بالنّسبة الى عامّة الخلق أو بالنّسبة الى أشخاص مخصوصين ، أو بالنّسبة الى شخص واحد بحسب أحواله المختلفة ؛ والاوّل هو النّسخ

١٣٠

الكلّىّ والثّانى والثّالث النّسخ الجزئىّ والنّسخ في الكتاب هو النّسخ الكلّىّ والنّسخ في الاخبار الولويّة نسخ جزئىّ بحسب الأشخاص ، أو بحسب أحوال شخص واحد ، والنّسخ في الاخبار النّبويّة يجوز فيه الامران لانّ الكتاب الإلهيّ مشرع كلّ الامّة وأحكامه المنصوصة مشرع للكلّ ، ومنسوخه منسوخ عن الكلّ وناسخه ناسخ للكلّ ، وما يجرى فيه النّسخ الجزئىّ من الآيات فهو لا يعدّ من النّاسخ والمنسوخ بل يعدّ من المتشابهات ، وامّا الاخبار الولويّة فالنّسخ المذكور فيها لا يجوز ان يكون نسخا بالنّسبة الى كلّ الأمّة والّا لزم ان يكون الائمّة مؤسّسين للشريعة لا حافظين لشريعة محمّد (ص) والحال أنّهم حافظون للشريعة ، والنّسخ الجزئىّ عبارة عن رفع حكم عن شخص كان ذلك الحكم ثابتا له بأمر شرعىّ ، أو رفع حكم ثابت بالأمر الشّرعىّ من الحافظين للشريعة أو من الشّارع لشخص أو لجمع عن شخص آخر أو عن جماعة أخرى.

وفي الاخبار إشارات وتصريحات بذلك ونذكر شطرا منها لمزيد الاستبصار ؛ فنقول : روى في الكافي عن سليم بن قيس الهلالي انّه قال ، قلت لأمير المؤمنين (ع) : انّى سمعت من سلمان والمقداد وأبى ذرّ رحمهم‌الله شيئا من تفسير القرآن وأحاديث عن نبىّ الله (ص) غير ما في أيدى النّاس ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ورأيت في أيدى النّاس أشياء كثيرة من تفسير القرآن وأحاديث عن نبىّ الله (ص) أنتم تخالفونهم فيها وتزعمون أنّ ذلك كلّه باطل أفترى النّاس يكذبون على رسول الله (ص) متعمّدين؟ ويفسّرون القرآن بآرائهم؟ ـ قال : فاقبل علىّ فقال : قد سألت فافهم الجواب ؛ انّ في أيدي النّاس حقّا وباطلا وصدقا وكذبا وناسخا ومنسوخا وعامّا وخاصّا ومحكما ومتشابها وحفظا ووهما وقد كذب على رسول الله (ص) على عهده حتّى قام خطيبا فقال : ايّها النّاس قد كثرت علىّ الكذّابة فمن كذب علىّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار ثمّ كذب عليه من بعده وانّما أتاكم الحديث من أربعة ليس لهم خامس ؛ رجل منافق يظهر الايمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم ولا يتحرّج ان يكذب على رسول الله (ص) متعمّدا فلو علم النّاس أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم يصدّقوه ولكنّهم قالوا : هذا قد صحب رسول الله (ص) ورأه وسمع منه ؛ وأخذوا عنه وهم لا يعرفون حاله وقد أخبره الله عن المنافقين بما أخبرهم ووصفهم فقال تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ) ، ثمّ بقوا بعده فتقرّبوا الى ائمّة الضّلالة والدّعاة الى النّار بالزّور والكذب والبهتان فولّوهم الأعمال وحملوهم على رقاب النّاس وأكلوا بهم الدّنيا وانّما النّاس مع الملوك والدّنيا الّا من عصم الله ؛ فهذا أحد الاربعة ، ورجل سمع من رسول الله (ص) شيئا لم يحفظه على وجهه ووهم فيه ولم يتعمّد كذبا فهو في يده يقول به ويعمل به ويرويه فيقول : أنا سمعته من رسول الله (ص) فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوه ؛ ولو علم هو أنّه وهم لرفضه ، ورجل ثالث سمع من رسول الله (ص) شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ؛ أو سمعه ينهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم فحفظ منسوخه ولم يحفظ النّاسخ ؛ فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ؛ ولو علم المسلمون إذ سمعوه منه أنّه منسوخ لرفضوه ، وآخر رابع لم يكذب على رسول الله (ص) مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (ص) لم ينسه بل حفظ ما سمع على وجهه فجاء به كما سمع لم يزد فيه ولم ينقص منه ، وعلم النّاسخ من المنسوخ فعمل بالنّاسخ ورفض المنسوخ فانّ أمر النّبىّ (ص) مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وخاصّ وعامّ ، ومحكم ومتشابه ، قد كان يكون من رسول الله (ص) الكلام له وجهان وكلام عامّ وكلام خاصّ مثل القرآن وقال الله تعالى في كتابه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) ؛ فيشتبه على من لم يعرف ولم يدر ما عنى الله به ورسوله ليس كلّ أصحاب رسول الله (ص) كان يسأله عن الشيء فيفهم وكان منهم من يسأله ولا يستفهمه حتّى ان كانوا ليحبّون ان يجيء

١٣١

الأعرابي والطّارى فيسأل رسول الله (ص) حتّى يسمعوا وقد كنت أدخل على رسول الله (ص) كلّ يوم دخلة وكلّ ليلة دخلة فيخلّينى فيها أدور معه حيث دار وقد علم أصحاب رسول الله (ص) انّه لم يصنع ذلك بأحد من النّاس غيري فربّما كان في بيتي يأتيني رسول الله (ص) أكثر ذلك في بيتي وكنت إذا دخلت عليه بعض منازله أخلاني وأقام عنّى نساءه فلا يبقى عنده غيري وإذا أتاني للخلوة معى في منزلي لم يقم عنّى فاطمة (ع) ولا أحدا من بنىّ ، وكنت إذا سألته (ص) أجابنى وإذا سكتّ عنه وفنيت مسائلي ابتدأنى ، فما نزلت على رسول الله (ص) آية من القرآن الّا أقرأنيها وأملاها علىّ فكتبتها بخطّى وعلّمنى تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصّها وعامّها ودعا الله ان يعطيني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله تعالى ولا علما أملاه علىّ وكتبته منذ دعا الله لي بما دعا ، وما ترك شيئا علّمه الله من حلال ولا حرام ولا أمر ولا نهى كان أو يكون ولا كتاب منزل على أحد قبله من طاعة أو معصية الّا علّمنيه وحفظته فلم أنس حرفا واحدا ثمّ وضع (ص) يده (ص) على صدري ودعا الله لي ان يملأ قلبي علما وفهما وحكما ونورا ، فقلت : يا نبىّ الله بأبى أنت وأمّي منذ دعوت الله لي بما دعوت لم أنس شيئا ولم يفتني شيء لم أكتبه أفتخوّف علىّ النّسيان فيما بعد؟ ـ فقال : لا لست أتخوّف عليك النّسيان والجهل.

وقد دلّ هذا الخبر على انّ في أخبار الرّسول (ص) مثل القرآن ناسخا ومنسوخا وعامّا وخاصّا ومحكما ومتشابها وقلّ من يعرف النّاسخ من المنسوخ والعامّ من الخاصّ وموارد ورود الخاصّ والمحكم من المتشابه وتأويل المتشابه ، وموارد تعلّق النّاسخ وموارد ارتفاع المنسوخ ، وليس الّا من كان له بصيرة بمراتب الرّجال واختلاف أحوالهم واقتضاء أحوالهم الأحكام اللّائقة بها ، وفي الاخبار الدّالّة على تفويض أمر العباد الى رسول الله (ص) ثمّ إليهم اشعار بأنّهم ينظرون الى أحوال العباد فيأمرونهم بحسب أحوالهم ، وفي نسبة إيقاع الخلاف بين أتباعهم الى أنفسهم دلالة على ذلك وقال محمّد بن مسلم : قلت لأبى عبد الله (ع) : ما بال أقوام يروون عن فلان وفلان عن رسول الله (ص) لا يتّهمون بالكذب فيجيئني منكم خلافه؟ ـ فقال (ع) انّ الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن. وقال منصور بن حازم قلت لأبى عبد الله (ع) : ما بالي أسألك عن مسئلة فتجيبني فيها بالجواب ثمّ يجيئك غيري فتجيبه فيها بجواب آخر؟ ـ فقال : انّا نجيب النّاس على الزّيادة والنّقصان ، قال قلت : فأخبرنى عن أصحاب رسول الله (ص) صدقوا على محمّد (ص) أم كذبوا؟ ـ قال : بل صدقوا ، قلت : فما بالهم اختلفوا؟ ـ قال : اما تعلم انّ الرّجل كان يأتى رسول الله (ص) فيسأله عن المسئلة فيجيبه فيها بالجواب ثمّ يجيئه بعد ذلك ما ينسخ ذلك الجواب فنسخت الأحاديث بعضها بعضا. وعن أبى عبد الله (ع) انّه قال : انّ الله رفيق يحبّ الرّفق فمن رفقه بعباده تسليله أضغانهم ومضادّتهم لهواهم وقلوبهم ، ومن رفقه بهم انّه يدعهم على الأمر يريد إزالتهم عنه رفقا بهم لكي يلقى عليهم عرى الايمان ومثاقلته جملة واحدة فيضعفوا فاذا أراد ذلك نسخ الأمر بالآخر فصار منسوخا. وعن زرارة ؛ أنّه قال سألت أبا جعفر (ع) عن مسئلة فأجابنى ثمّ جاء رجل فسئله عنها فأجابه بخلاف ما أجابنى ثمّ جاء آخر فأجابه بخلاف ما أجابنى وأجاب صاحبي ، فلمّا خرج الرّجلان قلت : يا ابن رسول الله (ص) رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان فأجبت كلّ واحد بغير ما أجبت به صاحبه؟! فقال : يا زرارة ، انّ هذا خير لنا ولكم ولو اجتمعتم على أمر واحد لصدّقكم النّاس علينا وكان اقلّ لبقائنا وبقائكم. وعن أبى جعفر (ع) انّ المؤمنين على منازل منهم على واحدة ، ومنهم على اثنتين ؛ وقال هكذا الى سبع ، فلو ذهبت تحمّل على صاحب الواحدة اثنتين لم يقو ؛ وهكذا الى السّبع. وفي بعض الأخبار عبّر عن المراتب بعشر وعبّر في خبر بتسعة وأربعين جزء كلّ جزء عشرة أجزاء ، وكلّ هذه يدلّ على اختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص

١٣٢

وأنّهم يأمرون وينهون على حسب أحوال النّاس ، أو على حسب أحوال شخص واحد لانّهم أطبّاء النّفوس والطّبيب يراعى أمراض المرضى وأحوالهم ، وبحسب أمراضهم وأحوالهم يجيب مسائلهم ويدبّر غذاءهم ودواءهم. وقوله تعالى : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) يدلّ على ذلك فانّ معنى البصيرة الرّؤية الباطنة والرّؤية الباطنة مرئيّها أحوال المدعوّ والدّعوة اللّائقة بحاله والمدعوّ اليه ، والطّريق الّذى يكون السّلوك عليه. والآية فعلة بالسّكون أو بالتّحريك أو هي مخففّة فاعلة بمعنى العلامة جمعها آيات وآي وآياء وزن أفعال ، وتطلق على آيات الكتاب التّدوينىّ فانّها علاماته تعالى وعلامات رسالة رسوله ، وعلى أحكام الرّسالة والنّبوّة فانّها أيضا علاماته وعلامات الرّسالة والرّسول ، وعلى آيات الآفاق والأنفس فانّها أيضا علاماته تعالى وخصوصا الآيات العظمى فانّها علاماته الّتى تحاكى تمام أسمائه وصفاته تعالى ولا اختصاص للنّسخ بالآيات التّدوينيّة والاخبار النّبويّة والولويّة فانّه كما يجرى في تلك بمعنى رفع الحكم المستفاد منها يجرى في آيات الآفاق بمعنى رفعها وإزالتها أو تغييرها لكنّ النّسخ لا يجرى الّا في الآيات النّازلة الى عالم الطّبع سواء فيه تدوينيّاتها وتكوينيّاتها فانّها آيات متشابهات يجرى فيها النّسخ لا الآيات العلويّه فانّها محكمات هنّ أمّ الكتاب وقوله تعالى (أَوْ نُنْسِها) من باب الأفعال وقرء ننسخ من باب الأفعال وننسها بفتح النون والسّين والإنساء عبارة عن محوها عن القلوب مع بقائها في الواقع أو محو آثارها عن القلوب مع بقائها أو بقاء حكمها في الواقع (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) لا إشكال في إتيانه تعالى بخير منها أو مثلها في الآيات التّدوينيّة وأحكام الرّسالة والآيات الصّغرى الآفاقيّة وأمّا الآيات العظمى فانّ الإتيان بالخير أو المثل لا يتصوّر في الأنبياء بطريق الكلّيّة فانّه كان بمضمون تلك الرّسل فضّلنا بعضهم على بعض أكثر الأخلاف أدنى مرتبة من الاسلاف فانّ كلّ من يأتى بعد اولى العزم لم يكن في مرتبتهم لكن نقول خيريّة الآيات انّما هي بالاضافة الى من تكون آيات لهم ولا شكّ في اختلاف الأزمان وأهلها وانّ بعضهم أقوياء يقدرون على قبول الأحكام من نبىّ أقوى وبعضهم ضعفاء لا يقدرون على قبول الأحكام الّا من نبىّ أضعف فخيريّة نبىّ في نفسه لا ينافي عدم خيريّته بالاضافة الى أمّة نبىّ آخر ؛ ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره :

پس بهر دورى وليي قائم است

تا قيامت آزمايش دائم است

أو چو نور است وخرد جبريل أو

آن ولىّ كم از أو قنديل أو

وآنكه زين قنديل كم مشكوة ماست

نور را در مرتبت ترتيبهاست

زانكه هفصد پرده دارد نور حق

پرده هاى نور دان چندين طبق

از پس هر پرده قومى را مقام

صف صفند اين پرده هاشان تا امام

أهل صفّ آخرين از ضعف خويش

چشمشان طاقت ندارد نور پيش

وان صف پيش از ضعيفىّ بصر

تاب نارد روشنائى بيشتر

وفي تفسير الامام عليه‌السلام اشارة الى ما ذكرنا (أَلَمْ تَعْلَمْ) يا محمّد (ص) ، أو يا منكر النّسخ ومستغربه من الله ، أو المراد كلّ من يتأتّى منه الخطاب (أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وسبب نزول الآية كما في الاخبار انّ الرّسول (ص) كان يتوجّه الى بيت المقدّس في صلوته مدّة إقامته بمكّة ثلاث عشر سنة وبعد هجرته الى المدينة الى سبعة عشر شهرا وجعل قوم من مردة اليهود يعيّرونه باستقبال بيت المقدّس فاشتدّ ذلك

١٣٣

عليه (ص) وكره قبلتهم فصعد جبرئيل (ع) بعد اخباره ايّاه بذلك ثمّ عاد فقال اقرأ : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ) (الآيات) فقالت اليهود : (ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها) فأجاب تعالى بقوله : (قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فعيّروه بأنّه ان كان الاولى حقّة فالثّانية باطلة ، وان كان الثّانية حقّة فالاولى كانت باطلة ، فنزلت هذه الآية يعنى انّ الله يقدر على نسخ حكم والإتيان بحكم آخر يكون أصلح لكم وأنفع بحالكم (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فيتصرّف فيهما على ما اقتضته حكمته (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) بنفسه بحسب نفس الأمر وبتوسّط خلفائه بحسب ظاهر الأمر أو من دون ذاته بحسب التّكوين ومن دون خلفائه بحسب التّكليف ، أو من دون الله في مظاهره العالية والدّانية تكوينا وتكليفا (مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

تحقيق الولىّ والنّصير

اعلم انّ الإنسان خلق محتاجا في بقائه واستكماله في ذاته وصفاته ومعرضا لما يفنى ذاته وكمالاته الحاصلة ولما يمنعه عن الوصول الى كمالاته المترقّبة له فاحتاج الى ما يجذب اليه ما يحتاج اليه في بقائه واستكماله ، والى ما يدفع عنه ما يفنيه ويمنعه عن كماله وكان سنّة الله ان يجرى الأشياء بالأسباب فخلق تعالى فيه قوّة شوقيّة خادمة للشّهويّة والغضبيّة الخادمتين للمدركة المنشعبة الى قوى عديدة باعثة على الحركة مستخدمة للقوّة المحرّكة المودعة في الاعصاب المستخدمة للاعصاب والرّباطات وبتوسّطها للأعضاء فتجذب بسبب الأعضاء وحكم القوّة الشّهويّة ما يلائمه وتدفع بسبب الأعضاء والقوّة الغضبيّة ما يضرّه ؛ هذا بحسب مقام جسمه ، وأمّا بحسب مقام روحه فله ما ينفعه وما يضرّه وأصل النّافعات الملك الزّاجر الموكّل عليه من الله ، وأصل الضّارّات الشّيطان المغوى الموكّل عليه فجعل الله تعالى له حكمة نظريّة يبصر بها ببصيرته تصرّف الملك وزجره ، وتصرّف الشّيطان واغوائه ، وحكمة عمليّة تخدم القوّتين اللّتين بهما الحبّ في الله والبغض في الله بإزاء الشّهويّة والغضبيّة وهما تخدمان الحكمة النّظريّة ، ولمّا جعل العالم الصّغير نسخة موجزة عن الكبير وحاكية عمّا في الكبير والتّكليف مطابقا للتّكوين كان في الكبير لا محالة قوّة جاذبة لنافع الإنسان وقوّة رادعة لضارّه سواء كانت تانك القوّتان في شخص واحد أو في شخصين ، والولىّ هو الّذى يكون مربّيا بجذب ما ينفع المولّى عليه في بقاء ذاته وحصول كمالاته ، والنّصير هو الّذى يكون دافعا عنه ما يضرّه وبوجه آخر الولىّ من يكون داخلا في ملكه ، والنصير من يكون خارجا حاميا ، والقوّة الشهويّة والقوّة المورثة للحبّ في الله في الدّاخل كالولىّ في الخارج ، والقوّة الغضبيّة والقوّة الموجبة للبغض في الله كالنّصير ، وكلّ رسول بولايته ولىّ لأمّته وبرسالته نصير ؛ وهكذا كان حال الأوصياء فانّهم كانوا بولايتهم أولياء وبخلافتهم أنصارا وكلّ رسول في زمانه كان وليّا وخليفته نصيرا فانّ الرّسول (ص) في زمانه مربّ وخليفته حام فمحمّد (ص) في حيوته كان إماما ناطقا بشيرا وليّا هاديا مربّيا رحيما ، وعلىّ (ع) إماما صامتا منذرا نصيرا حاميا قتّالا ؛ ولذا قال (ص): أنا وعلىّ أبوا هذه الامّة ، وقوله (ص): أنا المنذر وعلىّ الهاد ؛ اشارة الى حيثيّة رسالته وولاية علىّ (ع) ؛ (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) باعتبار شأن الرّسالة ، (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ ؛) باعتبار شأن الولاية ، ولاقتضاء تعدّد العنوان تعدّد المظهر كانت الدّعوة في الأغلب بتظاهر نفسين إحداهما مظهر عنوان الولىّ والاخرى مظهر عنوان النّصير.

(أَمْ تُرِيدُونَ) أم معادلة لهمزة (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ،) و (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ؛) تأكيد له أو بدل عنه بدلا تفصيليّا والإتيان بخطاب الجمع في قوله (وَما لَكُمْ

١٣٤

وتُرِيدُونَ) يدلّ على انّ الخطاب في الم تعلم لمحمّد (ص) والمقصود هو وأمّته اختصّ بالخطاب لكونه أشرف وأصلا ، أو الخطاب لغير معيّن حتّى يفيد العموم البدلىّ ويوافق المعاد لان في المسند اليه والمعنى الم تعلموا أنّ الله على كلّ شيء قدير الم تعلموا انّ الله مالك الكلّ والمالك يتصرّف في ملكه كيف يشاء ، أم تعلمون ذلك وتريدون (أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ) وتحاجّوه عالمين عامدين (كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) فأخذت السّائلين الصّاعقة فأهلكوا وفيه تهديد لهم بمثل العقوبة الّتي عوقبت بها أصحاب موسى (ع) حيث قالوا : (لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً)(وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ) بعد العلم الّذي من شأنه ان يكون صاحبه مقرّا مؤمنا أو بعد جواب الرّسول له انّ ما سأله لا يصلح اقتراحه ، أو بعد ما أظهره الله له ما اقترح ، أو بعد ما شاهد آيات الرّسول والجملة حال أو عطف على جملة ما ننسخ من آية (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) يعنى انّ الآخذ للكفر بعد ما ذكر كأنّه كان على السّبيل المستوى وضلّ عنه ولذا استعمل التّبدّل الّذى يشعر بأنّه كان على الايمان أو مشرفا على الايمان فتركه وأخذ الكفر (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً) بإلقاء الشبهات وتحريف الكلمات وتعيير الضّعفاء وتثريب المعجزات.

اعلم انّه كلّ من اختار سيرة حقّة أو باطلة يودّ ان يكون النّاس كلّهم على سيرته وهذا أمر مفطور عليه للإنسان بل لكلّ شيء من الملائكة والجنّة والشّياطين والعناصر والمواليد فان كان الإنسان واقفا في جهنّام النّفس والحسد من جنودها ولا ينفكّ عنها كان حسده أيضا باعثا عليه ، وان كان من أرباب القلوب كان رحمته باعثة عليه أيضا ولذا أضاف اليه قوله تعالى (حَسَداً) مفعول له أو حال (مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) يعنى ودّوا ذلك من حسدهم ومن اقتضاء فطرتهم على ان يكون الظرّف متعلّقا بقوله تعالى ودّ ، أو المعنى ودّوا من حسد حاصل لهم من أنفسهم الخبيثة من دون سبب آخر على ان يكون ظرفا مستقرّا صفة لحسدا (مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ) بالدّلائل المعلومة لهم من كتبهم وأخبارهم وبالمعجزات المشهودة لهم من محمّد (ص) (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) الفاء سببيّة كأنّه قال : هذه الفعلة صارت سببا للأمر بالعفو والصّفح فكأنّه جزاء أو هو جزاء حقيقة لشرط مقدّر تقديره هكذا : ان فعلوا ذلك فاعفوا ، والعفو ترك الانتقام من الجاني ، والصّفح تطهير القلب من حقده ، وكأنّهما كالفقراء والمساكين ؛ إذا افترقا يجوز ان يراد بكلّ مجموع المعنيين ، وإذا اجتمعا يراد بكلّ معناه المذكور ، والمقصود الأمر بترك مقابلة حسدهم وتثريبهم بالحسد والتّثريب وتطهير القلب من الحقد عليهم ، فانّ مقابلة الجهّال بمثل جهلهم يستلزم تنزّل الإنسان الى مقامهم وصيرورته مثلهم وازدياد جهلهم وعنادهم ، واللّبيب لا يرضى التّماثل معهم ولا ازدياد الجهل والعناد من العباد ، والحقد على الكافر والمؤمن يمنع القلب عن التوجّه الى أمور الآخرة ويذهب براحة القلب ويأكل ما اكتسبه من الخيرات ويمنع عن النّصح المطلوب من كلّ أحد والتّرحم المأمور به ، ويوجب الإضلال المنهىّ عنه على انّ تثريب العباد والحقد عليهم يرجع الى تثريب صنع الله ، وتثريب الصنّع تثريب للصّانع (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) فيهم بالقتل يوم فتح مكّة كما في تفسير الامام ، أو بالهداية لهم ، أو بضرب الجزية عليهم ، أو بالقتل والأسر والاجلاء فيهم (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فيقدر على ذلك كلّه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يعنى بعد ما سلم مدارككم وجوارحكم

١٣٥

عن المعارضة وقلوبكم عن الحقد يتأتّى لكم اقامة الصّلوة فأقيموها ، أو المقصود وأقيموا الصّلوة حتّى يتأتّى لكم العفو والصّفح (وَآتُوا الزَّكاةَ) قد مضى في اوّل السّورة بيان اقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قال : وقدّموا لأنفسكم إذا المقصود من مثله التّعريض بالأمر والإيجاب على المخاطب والمراد بالخير امّا الإحسان الى المسيئين كأنّه قال : فاعفوا واصفحوا وأحسنوا ، أو المراد منه كلّ فعل حسن فيكون ذكرا للعامّ بعد الخاصّ ويكون ، الإحسان المطلوب بعد مقام الصّفح مشارا اليه بذكر اقامة الصّلوة وإيتاء الزّكاة فانّ الإحسان لا يكون الّا بكسر سورة انانيّة النّفس والتّسليم الخالص لأمر الله وليسا الّا الزّكاة والصّلوة (تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) مدّخرا لكم بنفسه على تجسّم الأعمال أو بحقيقته أو جزائه (إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فلا يشذّ عنه شيء لا يدّخر عنده (وَقالُوا) اى أهل الكتاب من اليهود والنّصارى وهو عطف على ودّ (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) اسم جمع بمعنى اليهود ابتداء ، أو كان في الأصل جمعا لهائد بمعنى التّائب ، أو بمعنى الرّاجع الى الحقّ ، أو بمعنى الدّاخل في اليهوديّة ، على ان يكون من المشتقّات الجعليّة كالتّهويد والتّهوّد ، كعوذ جمع عائذ من دون تغيير ، أو كان أصله هوود بواوين ثمّ خفّف فصار هودا (أَوْ نَصارى) لفظة أو للتّفصيل اى كان قولهم هذا وذاك وقد مضى وجه تسمية النّصارى (تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ) المشار اليه مجموع ما سبق من عدم ودادهم نزول خير على المؤمنين ، وودادهم ارتدادهم عن الايمان ، وادّعائهم انّ الجنّة ليست الّا لأهل ملتّهم ، والامانىّ جمع الامنيّة مغيّر الامنوية كالاضحوكة بمعنى التّمنّى وترقّب حصول امر من دون تهيّؤ أسبابه وادّعائه من دون حجّة ولذا قال : يا محمّد (ص) (قُلْ) لهم ان لم يكن مدّعاكم محض تمنّى النّفس فاثبتوه بالحجّة (هاتُوا بُرْهانَكُمْ) على دعواكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعواكم (بَلى) إثبات لما نفوه بقولهم : (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى مَنْ أَسْلَمَ) أخلص (وَجْهَهُ) الوجه العضو المخصوص وما يتوجّه الشّيء به ونفس الشّيء والمعنى من أخلص جهة توجّهه أو ذاته (لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ) في أفعاله أو محسن الى خلقه (فَلَهُ أَجْرُهُ) اللّائق به الّذى لا يمكن تعيينه الّا بالاضافة اليه (عِنْدَ رَبِّهِ) كأنّه للاهتمام به لم يكل أجره الى غيره (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) جمع الضّمير مع الإفراد في الضّمائر السّابقة باعتبار لفظ من ومعناه (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) قد مضى بيان هذه الآية في اوّل السّورة (وَقالَتِ الْيَهُودُ) عطف على قالوا ، أو على ما عطف هو عليه وهو إظهار لدعوى باطلة أخرى لهم من غير حجّة تفضيحا لهم بغرورهم وحمقهم وانّ ما قالوا في انكار رسالة رسول الله (ص) من هذا القبيل ولا يقولون قولا عن حجّة (لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ) من الدّين (وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ) يعنى قالوا ذلك والحال أنّهم علماء تابعون للّشرائع أو علماء قارءون الكتب الإلهيّة والعالم لا يبرز دعوى بلا حجّة وفي الكتب الإلهيّة تأديبات وتعليمات لكيفيّة إظهار الدّعوى فالعاقل العالم القارئ للكتاب التّابع للشّرائع لا يظهر دعوى بلا حجّة وليس المقصود تكذيبهم في أصل دعواهم بل كلا الفريقين مصدّقان في أصل الدّعوى بعد نسخ أديانهما بدين محمّد (ص) ، أو المقصود

١٣٦

تكذيبهم في أصل الدّعوى وتثريبهم في طريق إظهاره فانّ كلّا بإنكار كون صاحبه على دين حقّ ينكر كون نبىّ صاحبه ودينه وشريعته وكتابه على الحقّ وهذا دعوى باطلة في نفسها باطلة من حيث عدم الإتيان بالبرهان عليها ، ولمّا كان عامّة النّاس بل عامّة الحيوان ديدنهم ان ينكروا ما وراء معتادهم وما وراء ما رأوه من آبائهم ، ويحسبوا انّ الحقّ هو ما اعتادوه من غير حجّة عليه سوى قولهم انّا وجدنا آباءنا على أمّة قال تعالى : (كَذلِكَ) اى مثل قولهم (قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) اى لا يكون لهم علم (مِثْلَ قَوْلِهِمْ) فهو تأكيد لقوله تعالى كذلك والمقصود تفضيح آخر لهم بان تشبّهوا بالجهّال يعنى انّ اتّباعهم للشّرائع وقراءتهم للكتب لم يكن يورثهم علما بل كان ذلك أيضا محض التّقليد والاعتياد والّا فما قالوا شيئا يشبه قول الجهّال وكأنّ الامّة المرحومة أخذوا هذه الشّيمة من اليهود والنّصارى فأخذ كلّ في انكار صاحبه من غير سلطان كبر مقتا عند الله ان يقولوا ما لا يعلمون لكن بما كان كلّ حزب بما لديهم فرحين لا يتركون انكار ما لا يعلمون (فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) بين الجماعتين أو بين المختلفين من اليهود والنّصارى والّذين يحذو حذوهم في هذا القول (يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من غير حجّة وعلم. وذكر في نزول الآية انّها نزلت في طائفتين من اليهود والنّصارى جاؤا الى رسول الله (ص) وعرضوا عليه هذين القولين وقالوا يا محمّد اقض بيننا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ) عطف على جملة (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) فانّها تشعر بأنّهم يمنعون عباد الله عن الإسلام وعن مساجدهم الصّوريّة وعن مساجدهم الحقيقيّة الّذين هم الرّسول وخلفاؤه ، (وَمَنْ أَظْلَمُ) استفهام إنكاري في معنى النّفى فكأنّه قال كذلك يمنع الّذين لا يعلمون مساجد الله ولا أظلم ممّن منع مساجد الله ، ومنع ضدّ أعطى وهو يتعدّى الى المفعولين بنفسه ، والى الاوّل بمن والى الثّانى بنفسه ، والى الأوّل بنفسه والى الثّانى بعن أو بمن ، ومساجد الله هاهنا مفعول اوّل وان يذكر مفعول ثان أو مساجد الله مفعول ثان وان يذكر بدل منه بدل الاشتمال والمفعول الاوّل محذوف والتّقدير : من أظلم ممّن منع النّاس عن مساجد الله عن الذّكر فيها.

تحقيق الظلم

والظّلم وضع الشيء في غير ما وضع له ومنعه عمّا وضع له ولذا فسّر بإعطاء الحقّ لغير المستحقّ ومنع الحقّ من المستحقّ وهو ينشأ من ظلمة النّفس وعدم استنارتها بنور العقل ، ولذا اشتقّ اسمه منها ، لانّ من أظلم نفسه ولم يستضئ بضياء العقل ولم يكن تابعا لولىّ الأمر لا يتميّز الحقّ والمستحقّ عنده ، ومن لم يميّز الحقّ والمستحقّ لا يمكنه إعطاء الحقّ للمستحقّ ويعطى الحقّ لغير المستحقّ ويمنع المستحقّ عن الحقّ في عالمه الصّغير فانّ لكلّ من قواه ومداركه وأعضائه حقّا ولكلّ واحد منها مستحقّا هو حقّ له وينبغي إعطاءه لذلك المستحقّ وهو العقل المنقاد لولىّ الأمر ، وإذا صار ظالما في عالمه الصّغير صار ظالما في العالم الكبير بالنّسبة الى من تحت يده والى غيرهم ولا أقلّ من الظّلم الّذى هو منع نفسه عن المستحقّ الّذى هو ولّى أمره ويتدرّج في هذا الظلّم حتّى ينتهى امره الى منع المستحقّ الّذى هو غاية الغايات الّذى هو ولىّ الأمر نبيّا كان أم وصيّا عن الحقّ الّذى هو غاية الحقوق ونهاية العبادات وهو ذكر اسم الله تعالى عنده وفيه وله كما قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) وامّا التّابع لولىّ الأمر فانّه إذا كان آخذا من ولىّ أمره عاملا بأمره تاركا لما نهى عنه كان عادلا

١٣٧

بعد له مستنيرا بنوره وان لم يكن مستنيرا بنفسه.

تحقيق المسجد

والمساجد جمع المسجد بكسر الجيم وقد يفتح وهو محلّ السّجود وهو غاية الخضوع فتمام الأرض مسجد بهذا المعنى لأنّ جملة ما فيها ليس لها الّا التذلّل فجملة وجه الأرض محلّ لتذلّل ما فيها وقال النّبىّ (ص): جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا لشهوده (ص) سجود الكلّ في كلّ الأرض وبهذا المعنى صارت الصّدور المنشرحة بنور الإسلام والقلوب المستنيرة بنور الايمان مساجد حقيقيّة لسجود كلّ ما فيهما وتذلّلها حقيقة ، وامتياز لمساجد الصوريّة من بين بقاع الأرض باسم المسجد واسم بيت الله ليس بهذا المعنى ولا لخصوص البقعة ولا لخصوص اللّبنة والطيّن والجصّ وسائر آلات البناء ، ولا لخصوص البنّاء والعملة والّا لشاركها في هذا الاسم كلّما شاركها في هذه بل الامتياز بنيّة الواقف لانّ الواقف إذا كان نيّته صحيحة خالصة لوجه الله غير مشوبة بأغراض النّفس صار صدره منشرحا وقلبه مستنيرا وصارا مسجدين لله وبتوجّهه الى تلك البقعة تصير البقعة مستنيرة وتمتاز بالمسجديّة وبكونها بيت الله ، فاذا صار الإنسان متمكنّا في ذلك الانشراح والاستنارة صار مسجدا وبيتا لله على الإطلاق ، وان لم يكن متمكّنا فيهما كان مسجدا وبيتا لله وقت الاتّصاف بهما ، وكلّما ازداد واشتدّ الاتّصاف به ازداد واشتدّت المسجديّة والبيتيّة لله ، وكلّما اشتدّ مسجديّته لله اشتدّ مسجديّة ما بناه لله ؛ واليه أشار المولوىقدس‌سره بقوله :

آن بناى انبيا بى حرص بود

لا جرم پيوسته رو نقها فزود

اى بسا مسجد برآورده كرام

ليك نبود مسجد أقصاش نام

كعبه را كه هر زمان عزّ ميفزود

آن ز اخلاصات إبراهيم بود

فالمساجد حقيقة والبيوت الّتى أذن الله ان ترفع هي الصّدور والقلوب المنشرحة المستنيرة وبعدها صاحب تلك الصّدور والقلوب ، وامّا المساجد الصّوريّة فهي مساجد حقيقة باعتبار المعنى الاوّل الّذى به تكون جملة بقاع الأرض مساجد لكن امتيازها عن سائر بقاع الأرض باسم المسجديّة فليس الّا بتوجّه المساجد الحقيقيّة الّتى هم الواقفون لها ولذلك فسّروا المساجد والبيوت الّتى اذن الله ان ترفع في أخبار كثيرة بأنفسهم ، ونعم ما قال المولوىّ قدس‌سره مشيرا الى الأنبياء والأولياء (ع).

گر نه پيدايند پيش نيك وبد

چيست با ايشان خسان را اين حسد

بر در اين خانه گستاخى ز چيست

گر همى دانند كاندر خانه كيست

ابلهان تعظيم مسجد ميكنند

در جفاى أهل دل جدّ ميكنند

آن مجاز است اين حقيقت اى خران

نيست مسجد جز درون سروران

مسجدي كو اندرون اولياست

سجده گاه جمله است آنجا خداست

وعلى هذا إذا كان الدّاعى على البناء الأغراض الشّيطانيّة لم يكن البناء مسجدا وان سمّى بالمواضعة مسجدا ، والباني الغير المستنير بنفسه والغير المنقاد لولىّ امره قلّما ينفكّ عن الأغراض فانّه إذا بالغ في الاجتهاد جعل قرب نفسه لله تعالى غاية لبنائه وداعيا عليه وصحّة مثله في غاية الاشكال ، وامّا ما قالوه في صحّة الوقف من التقرّب الى الله وعدم الانتفاع به فالمقصود ان يكون قرب الباني واقتضاء قربه الاشتداد في القرب داعيا لا انّ النّفس أرادت الاجرة عليه وجعلت القرب أجرته فانّه نحو انتفاع للنّفس بالوقف ، وامّا الأغراض الأخر كالصّيت والمراءاة والتّمدّح وغيرها من الأغراض فتجعل البناء بيتا للشّيطان ، وإذا كان الإنسان له قرب وقربه يقتضي ذلك لكنّه لم يمت النّفس ويشاركه النّفس في أغراضه كان البناء مسجدا وبيتا لله بمشاركة الشّيطان ،

١٣٨

وإذا أراد الباني اختبار نفسه فلينظر هل ترضى بإعطاء ثمن البقعة وأجرة بنائها لرجل غير معروف وبان يأمره ان يبنى المسجد من غير اطّلاع أحد على ذلك فان ترض وتسّر بذلك فالبناء لله والّا فللنّفس أو بمشاركتها (وَسَعى فِي خَرابِها) اى خراب سقوفها وجدرانها أو منع أهلها عن الرّجوع إليها وخرابها بتعطيلها عن ذكر الله وإقام الصّلوة ونزول الآية في مشركي مكّة ومنع المسلمين بعد هجرة النّبىّ (ص) عن دخول مساجدهم ، وتخريب مساجدهم لا ينافي عمومها وعموم المساجد والمانعين والممنوعين وعموم تخريبها (أُولئِكَ) المحضرون بالأوصاف المذمومة الاذلّون (ما كانَ) ينبغي (لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ) خاشعين متذلّلين أو خائفين من المؤمنين فضلا عن أن يجترءوا على تخريبها أو منع المؤمنين عنها أو ما كان في علم الله ان يدخلوها بعد الّا خائفين ؛ وحينئذ يكون وعدا للمؤمنين بغلبتهم واخافتهم المشركين كما فعل بهم يوم فتح مكّة وسيقع ذلك حين ظهور القائم عجّل الله فرجه (لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ) قتل ونهب وأسر واجلاء وجزية (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) عطف على قوله ومن أظلم باعتبار المعنى فانّ المقصود افادة انّ المشركين أو مطلق الكفّار منعوا مساجد الله فكأنّه قال هم منعوا مساجد الله وما هم بضارّين بذلك المؤمنين فانّ لله المشرق والمغرب اى وجه الأرض كلّها (فَأَيْنَما تُوَلُّوا) ايّها المؤمنون اي في اىّ بقعة من بقاع الأرض تولّوا اليه (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لا اختصاص له ببقعة دون بقعة والوجه كما مضى ما به ظهور الشّيء وما به توجّهه واستقباله وذات الشّيء.

اعلم انّ الحقّ الاوّل تعالى بحسب مقام ذاته الغيبيّة غيب مطلق ومجهول مطلق لا اسم له ولا رسم ولا خبر عنه ولا اثر لكنّه بحسب مقام ظهوره وفعله لا خبر عن شيء الّا وهو خبر عنه ، ولا اسم ولا رسم لشيء الّا وهو اسم ورسم له ، ولا ظهور لشيء الّا وهو ظهوره فهو بفعله محيط بكلّ الأشياء كما قال تعالى : وهو (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) و (هُوَ مَعَكُمْ) و (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) وكما قال (ع): داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء بل كدخول المقوّم في المتقوّم فلا اختصاص لبقعة دون بقعة بالعبادة والتوجّه الى المعبود في نفسها لكن قد يعرض لبعض امتياز عن الاخرى بأمور خارجة مثل توجّه كامل الى بعض دون بعض أو توطنّه أو تولّده أو تعميره أو دفنه ومثل نيّة صادقة تبرزها وتميزها للعبادة فانّ بيت المقدّس امتاز واختصّ بالعبادة وبالتوجّه اليه في العبادة بكلّ هذه الوجوه ؛ وهكذا مكّة ، واختصاص المساجد انّما هو بالنيّة الصّادقة (إِنَّ اللهَ واسِعٌ) لا يخلو منه مكان ومقام شيء وفيء كما عرفت (عَلِيمٌ) فيعلم منكم ما تفعلونه كيف تفعلونه وفي اىّ مكان تفعلونه فعليكم بتصحيح الأعمال لا تعيين المحلّ والجهة لها وفي الاخبار انّها نزلت في الصّلوة النّافلة تصلّيها حيث توجّهت وامّا الفرائض فنزل فيها قوله تعالى (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) وسئل الصّادق (ع) عن رجل يقوم في الصّلوة ثمّ ينظر بعد ما فرغ فيرى انّه قد انحرف عن القبلة يمينا وشمالا فقال : قد مضت صلوته وما بين المشرق والمغرب قبلة ، ونزلت هذه الآية في قبلة المتحيّر : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ؛) الآية. وفيحديث الجاثليق الّذى سأل عن وجه الرّبّ انّه دعا علىّ (ع) بنار وحطب فأضرمه فلمّا اشتعلت قال علىّ (ع) : اين وجه هذه النّار؟ ـ قال النّصرانىّ : هي وجه من جميع حدودها ، قال علىّ (ع) : هذه النّار مدبّرة مصنوعة لا يعرف وجهها وخالقها لا يشبهها ، (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) لا تخفى على ربّنا خافية

١٣٩

وعلى هذا الوجه فمعنى الآية الى اىّ جهة توجّهتم فثمّ وجه الله (وَقالُوا) اليهود والنّصارى والمشركون (اتَّخَذَ اللهُ وَلَداً) حين قالوا : عزير ابن الله ، والمسيح ابن الله ، والملائكة بنات الله ، وهو عطف على أقوالهم السّابقة وإظهار لحمق آخر لهم (سُبْحانَهُ) مصدر سبح كمنع بمعنى تنزّه يعنى تنزّه عن نسبة الولد والنّقائص اللّازمة منها من الحاجة والتّحديد والاثنينيّة تنزّها (بَلْ لَهُ) من حيث انّه مصدر الكلّ ومنتهاه ومالكه (ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) اى السّماوات والأرض وما فيهما فلا يكون شيء فيهما ولدا له وعلى تعميم السّماوات لسماوات الأرواح والأراضي لجملة عالم الطّبع فلا يكون ممّا سوى الله ولد له فانّ الولد نسبته الى الوالد ليست نسبة المملوكيّة (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) القنوت الدّعاء والطّاعة والتّواضع وهذه شأن العبيد لا الأولاد الّذين إذا بلغوا كانوا مماثلين مجانسين للوالد (بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) منشئهما من غير مثال سبق ولا مادّة ولا زمان ولا آلة ولا أسباب ، بدع كمنع وأبدع وابتدع خلق من غير مثال وتهيّة أسباب و (إِذا قَضى أَمْراً) عطف على جملة سبحانه ، أو (لَهُ ما فِي السَّماواتِ) أو (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) أو (بَدِيعُ السَّماواتِ) والمعنى بل هو إذا قضى امرا (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وليس شأنه شأن النّاقصين في التّوالد المحتاجين الى زوج وحركات وانفصال مادّة وانقضاء مدّة ، ولا شأن النّاقصين في الأفعال المحتاجين الى مثال ومادّة ومدّة وآلات وأسباب في فعلهم وهذه العبارة كثيرة الورود في الكتاب والسّنّة ووردت بلفظ الارادة والمشيّة والقضاء والمقصود واحد لانّ كلّ هذه من مقدّمات الفعل فانّه لا يكون شيء الّا بعلم ومشيّة وارادة وقدر وقضاء وإمضاء وقد ينحلّ الإمضاء الى الاذن والكتاب والأجل وقد يؤدّى بلفظ الإمضاء الّذى هو إجمال هذه الثلاثة ولمّا كان العلم الّذى قبل المشيّة من صفات ذاته تعالى وعين ذاته ولم يعدّ الفاعل من مقدّمات الفعل بل المقدّمات هي الّتى تحتاج الفعل إليها حين إيجاد الفاعل له لم يعدّ العلم في الاخبار من مقدمّات الأفعال وليست هذه في الحقّ الاوّل تعالى كالاناسىّ تحدث بعد ما لم تكن وتفنى بعد ما تحدث فانّ مشيّته تعالى وكذا إرادته وقدره وقضاءه وإمضاءه ازليّة ابديّة وانّما الحدوث من قبل الحادثات لانّ هذه بالنّسبة الى الله كالاشعّة بالنّسبة الى الشّمس وإذا فرضت الشّمس في وسط السّماء ثابتة وفرضت الاشعّة أيضا دائمة بدوامها وكانت السّطوح متدرّجة في المقابلة للاشعّة كان الحدوث لاستضاءة السّطوح بالاشعّة لا للاشعّة فانّ الله إذا شاء وأراد وقدّر وقضى شيئا فانّما يقول له وقوله اذنه : [كن ؛] وكلمة كن منه كتابه فيكون المفعول ويوجد ، فقوله تعالى (إِذا قَضى) اشارة الى القضاء الّذى هو بعد القدر وينتزع الإيجاب منه و «يقول» اشارة الى الاذن الّذى هو جزء من الإيجاد الّذى ينحلّ الى الاذن والكتاب والأجل و «كن» اشارة الى الكتاب والأجل ، وقوله ليس بنداء يسمع ولا بصوت يقرع (وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) من المشركين وكذا من اليهود والنّصارى وهو عطف على أقوالهم السّابقة وإظهار لسفاهة أخرى لهم ومفعول الفعل امّا منسىّ أو مقدّر اى لا يعلمون انّ الخلق لا يطيقون استماع كلام الله تعالى ولو سمعوا لهلكوا ما لم يصف نفوسهم عن رين المادّة وانّ الآية المقترحة لعلّهم لا يطيقونها أو لا يكون صلاحهم فيها (لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللهُ) حتّى نسمع كلامه ونؤمن به (أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ) حتّى نشاهدها ونؤمن بها (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ) كما قال أمّة موسى (ع) له

١٤٠