تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]

تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة - ج ١

المؤلف:

سلطان محمّد الجنابذي [ سلطان علي شاه ]


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة الأعلمي للمطبوعات
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣٣١

بالكلّ إقرار بالجزء (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) اى الجبل امر الله جبرئيل ان يقلع من جبل فلسطين قطعة على قدر معسكر بنى إسرائيل فقلعها ورفعها فوق رؤسهم قائلين على لسان نبيّنا (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ) من الأحكام مطلقة أو من الأحكام الّتى آتيناكم في الميثاق بحسب القالب أو القلب أو من التّوراة أو من نبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) (بِقُوَّةٍ) من قلوبكم وأبدانكم. قيل : قال لهم موسى : امّا ان تأخذوا بما أمرتم وامّا ان ألقى عليكم هذا الجبل فألجئوا الى قبوله كارهين الّا من عصمه الله ثمّ لمّا قبلوا سجدوا وعفروا وكثير منهم عفر خديّه لا لارادة الخضوع لله ولكن نظرا الى الجبل هل يقع أم لا (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ) اى في الميثاق من الشّروط أو من الأحكام القالبيّة أو القلبيّة أو من ثواب الموافق وعقاب المخالف ، أو اذكروا ما في رفع الطّور ووقوعه ، أو اذكروا ما فيما آتيناكم من الثّواب والعقاب أو الأحكام ، ونسب الى الصّادق (ع) انّه قال : واذكروا ما في تركه من العقوبة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) اى اذكروا ما أمرناكم لعلّكم تتّقون المخالفة (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) عن الذكر أو عن الأخذ أو عن الميثاق أو عن الوفاء بشروط الميثاق (فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ) الفضل هو الرّسالة والنّبوّة بوجه الرّسالة والرّحمة هي الولاية والنّبوّة بوجه الولاية ، ولذا فسّرا في بعض الآيات بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) لاتّحادهما معهما ولكون النّبىّ والولىّ في الخلق سببا لنزول رحمته وبركته عليهم ودفع العذاب عنهم (لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) المضيّعين بضاعتكم لكن وجودهما فيكم سبب لتدارك خسرانكم وتوفيق توبتكم وانابتكم ، والآيات كما مضى تعريض بالامّة فكأنّها خطاب لهم وتذكير لهم بمخالفتهم وتداركها بوجود محمّد (ص) وعلىّ (ع) فيهم (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ) فلا تعتدوا ايّها اليهود ولا تعتدوا يا أمّة محمّد (ص) فتعاقبوا بمثل عقوبتهم (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا) بالأمر التّكوينىّ (قِرَدَةً خاسِئِينَ) بعيدين من كلّ خير أو صاغرين أو بمعنى أعمّ منهما (فَجَعَلْناها) اى المسخة أو العقوبة الّتى أخزيناهم بها أو الامّة الممسوخة كما في الخبر (نَكالاً) زجرة وعبرة مانعة عن الاعتداء والمخالفة (لِما بَيْنَ يَدَيْها) للأمم الماضية فانّ الامّة الممسوخة الحاضرة بتوجّههم الى الآخرة ووجود الأمم الماضية في الآخرة وعالم المثال متوجّهون الى الأمم الماضية وهم بين أيديهم ، وكونها عبرة لهم باعتبار أخبار أنبيائهم عن الأمم الآتية واعتدائهم ؛ وعلى هذا فقوله تعالى (وَما خَلْفَها) عبارة عن الأمم الحاضرة في زمان الممسوخة والأمم الآتية فانّ الممسوخة بتوجّههم فطرة الى الآخرة مستدبرون عن الدّنيا ومن فيها ومن سيقع فيها وان كانوا متوجّهين الى الدّنيا اختيارا ، أو المراد بما بين يديها الأمم الحاضرة في زمان المسخ والأمم الآتية فانّ الحاضرة حاضرة بين أيديهم والآتية باعتبار مرور الممسوخة على الزّمان واستقبالهم عليها كأنّها حاضرة بين أيديهم فقوله تعالى : (وَما خَلْفَها) ؛ عبارة عن الأمم الماضية ، أو المراد بما بين يديها الحاضرون في زمان الممسوخة وبما خلفها الآتون ؛ أو المراد القرى القريبة والبعيدة ، أو المراد بالنّكال العقوبة الّتى هي معناه حقيقة ؛ والمعنى جعلناها عقوبة لمعصيتهم الحاضرة والماضية (وَمَوْعِظَةً) تذكيرا وتنبيها على العواقب أو عبرة أو نصحا أو حثّا على التّقوى والطّاعات أو تخويفا عن المعاصي والاغترار بالدّنيا (لِلْمُتَّقِينَ) فانّ غيرهم لا يتنبّهون

١٠١

ولا يتّعظون فلا ينتفعون فلا ينظر إليهم. ويأتى قصّة المعتدين في السّبت ومضى في اوّل السّورة تحقيق معنى التّقوى (وَ) اذكروا يا بنى إسرائيل أو يا أمّة محمّد (ص) أو ذكرّ بنى إسرائيل أو أمّتك قصّة القتيل وإحياءه على يد موسى (ع) حتّى تعلموا انّ ما قاله موسى (ع) حقّ وانّ اخباره بنبوّة محمّد (ص) وولاية علىّ (ع) ليس ممّا لا يكترث به (إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ) لإحياء المقتول وإخباره بقاتله (أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) فتضربوا ببعضها هذا المقتول.

وقصته أنه كان في بنى إسرائيل امرأة حسناء ذات شرف وحسب ونسب كثر خطّابها وكان لها بنو أعمام ثلاثة فرضيت بأفضلهم فاشتدّ حسدا بنى عمّه الآخرين فعمدا اليه فدعواه وقتلاه وحملاه الى محلّة مشتملة على أكثر قبيلة من بنى إسرائيل فألقياه فيها ليلا فلمّا أصبحوا وجدوا قتيلا وعرفوه فجاء ابنا عمّه القاتلان ومزقا على أنفسهما واستعديا عليهم فأحضرهم موسى (ع) وسألهم فأنكروا قتله وقاتله فالزم موسى (ع) أماثل القبيلة ان يحلف خمسون منهم بالله القوىّ الشّديد آله بنى إسرائيل مفضّل محمّد (ص) وآله الطيّبين على البرايا أجمعين انّا ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا فان حلفوا غرموا دية المقتول وان نكلوا نصّوا على القاتل أو اقرّ القاتل فيقاد منه ، فان لم يحلفوا حبسوا في مجلس ضنك الى ان يحلفوا أو يقرّوا أو يشهدوا على القاتل ، فقالوا : يا نبىّ الله اما وقت ايماننا أموالنا ولا أموالنا ايماننا؟ ـ قال : لا ؛ هذا حكم الله ، فقالوا : يا نبىّ الله عزم ثقيل ولا جناية لنا وأيمان غليظة ولا حقّ في رقابنا ، فادع الله عزوجل ان يبيّن لنا القاتل وينكشف الأمر لذوي الألباب وينزّل به ما يستحقّه فقال موسى : انّ الله قد حكم بذلك وليس لي ان اقترح عليه غير ما حكم به بل علينا ان نسلم حكمه وهمّ بأن يحكم عليهم بذلك فأوحى الله تعالى اليه ان أجبهم وسلني ان أبيّن لهم القاتل فانّى أريد ان أوسع بإجابتهم الرّزق على رجل من خيار أمّتك دينه الصّلوة على محمّد (ص) وآله الطّيبين (ع) ليكون بعض ثوابه عن تعظيمه لمحمّد (ص) وآله (ع) ونسب الى الصّادق (ع) انّ الرّجل كان له سلعة وجاء قوم يطلبون سلعته وكان مفتاح بيته في تلك الحال تحت رأس أبيه وهو نائم فكره ان ينبّهه وينغّص عليه نومه فانصرف القوم ولم يشتروا سلعته فلمّا انتبه أبوه قال : يا بنىّ ما صنعت في سلعتك؟ ـ قال : هي قائمة لم أبعها لانّ المفتاح كان تحت رأسك فكرهت ان أزعجك من رقدتك وانغّص عليك نومك قال له أبوه : قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عمّا فاتك من ربح سلعتك وشكر الله تعالى للابن ما فعل بأبيه فأمر الله جلّ جلاله موسى (ع) ان يأمر بنى إسرائيل بذبح تلك البقرة بعينها ليظهر قاتل ذلك الرّجل الصّالح فلمّا اجتمع بنو إسرائيل الى موسى (ع) وسألوه ، قال : انّ الله يأمركم ان تذبحوا بقرة ليحيي ذلك القتيل تعجّبوا و (قالُوا) يا موسى (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ) فانّ الاستهزاء من صفات الجاهل ونسبة امر الى الله لم يكن منسوبا اليه ليست من وصف العاقل (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) ما وصفها فانّ ما هي كما هو سؤال عن حقيقة الشيء ومهيّته يكون سؤالا عن صفة الشّيء ومميّزاته العرضيّة (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ) اى لا مسنّة ولغلبة الاسميّة عليه لم يأت بتاء التّأنيث (وَلا بِكْرٌ) لا صغيرة (عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) المذكور من الفارض والبكر (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ) ولا تكثروا السّؤال عنها حتّى يشدّد عليكم (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها) شديد

١٠٢

الصّفرة مستحسنا بحيث لا يضرب الى السّواد ولا الى البياض (تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) لحسنها وبريقها (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) زيادة على ما وصفت بحيث لا يبقى لنا التباس فيها (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ببيانك روى أنّهم لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ) لا تكون مروّضة مذلّلة لاثارة الأرض (وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) ولا تكون مروّضة تسقى الحرث بالدّلاء (مُسَلَّمَةٌ) من العيوب (لا شِيَةَ فِيها) لا لون فيها غير الصّفرة يخالطها (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) من أوصاف البقرة وحقيقتها الّتى بها تمتاز عن غيرها وقد عرفناها هي بقرة فلان وأشير في بعض الاخبار انّهم لو ذبحوا أىّ بقرة عمدوا إليها أجزأهم لكنّهم شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم. وفي تفسير الامام (ع) فلمّا سمعوا هذه الصّفات قالوا : يا موسى فقد أمرنا ربّنا بذبح بقرة هذه صفتها؟ ـ قال : بلى ولم يقل موسى في الابتداء انّ الله قد أمركم لانّه لو قال : انّ الله قد أمركم لكانوا إذ قالوا ادع لنا ربّك يبيّن لنا ما هي وما لونها كان لا يحتاج الى ان يسأله عزوجل ذلك ولكن كان يجيبهم هو بأن يقول أمركم ببقرة فاىّ شيء وقع عليه اسم البقرة فقد خرجتم من أمره إذا ذبحتموها فلمّا استقرّ الأمر عليهم طلبوا هذه البقرة فلم يجدوها الّا عند شابّ من بنى إسرائيل أراه الله في منامه محمّدا (ص) وعليّا (ع) وطيّبى ذرّيّتهما فقالا انّك كنت لنا محبّا مفضّلا ونحن نريد ان نسوق إليك بعض جزائك في الدّنيا فاذا راموا شراء بقرتك فلا تبعها الّا بأمر أمّك فانّ الله يلقّنها ما يغنيك به وعقبك ، ففرح الغلام وجاء القوم يطلبون بقرته فقالوا : بكم تبيع بقرتك هذه؟ ـ قال : بدينارين والخيار لامّى قالوا : رضينا بدينار فسألها ، فقالت : بأربعة ، فأخبرهم فقالوا ، نعطيك دينارين ، فأخبر أمّه ، فقالت : ثمانية ، فما زالوا يطلبون على النّصف ممّا تقول أمّه ، ويرجع الى أمّه فتضعف الثّمن حتّى بلغ ثمنها ملأ مسك ثور أكبر ما يكون ملأ دنانير ، فأوجبت لهم البيع (فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) لغلاء ثمنها وثقله عليهم لانّ ثمنها بلغ الى ملأ جلدها على بعض ما نقل ، أو ملأ جلد ثور أكبر ما يكون دينارا وكان ثقيلا عليهم فانّه بعد ما قبلوه بلغ مقداره الى خمسة آلاف الف دينار ولجاجهم حملهم على أدائها وافتقر القوم كلّهم واستغنى الشّابّ ، ونقل أنّه لم يفتقر أحد من أولاده الى سبعين بطنا. وفي تفسير الامام (ع) انّ أصحاب البقرة ضجّوا الى موسى (ع) وقالوا : افتقرت القبيلة وانسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا فأرشدهم موسى (ع) الى التّوسّل بنبيّنا فأوحى الله اليه ليذهب رؤساؤهم الى خربة بنى فلان ويكشفوا عن موضع كذا ويستخرجوا ما هناك فانّه عشرة آلاف ألف دينار ليردّوا على كلّ من دفع في ثمن هذه البقرة ما دفع لتعود أحوالهم على ما كانت. ثمّ ليتقاسموا بعد ذلك ما يفضل وهو خمسة آلاف ألف دينار على قدر ما دفع كلّ واحد منهم ليتضاعف أموالهم جزاء على توسّلهم بمحمّد (ص) وآله (ع) واعتقادهم لتفضيلهم (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً) خطاب الجمع للحاضرين مع انّ القتل كان من واحد أو اثنين من الماضين لوجود القتل فيهم ولتعيير الكلّ بوقوع مثل ذلك الأمر الشّنيع فيهم ولانّ القاتل كان منهم ولانّ الحاضرين كانوا مشابهين للماضين ، وكان حقّ هذا ان يذكر مقدّما على قوله (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) الى آخر الآية لكنّه فكّك وقدّم ذلك وأخّر هذا لانّ المقام لبيان مساويهم وبيان المساوى في ذلك كان أتمّ ونوعها أكثر فانّ فيه ذكرا لانكارهم لموسى (ع) واستهزائهم بالأمر بقياسهم الفاسد حيث قالوا : كيف يكون ملاقاة عضو ميّت لميّت سبب الحيوة؟ والاستقصاء في السّؤال

١٠٣

والتّوانى في الامتثال والتّدانى من ترك الامتثال (فَادَّارَأْتُمْ فِيها) تخاصمتم فانّ المخاصمة تستلزم المدافعة أو تدافعتم على حقيقته لانّ كلّا دفع قتلها عن نفسه الى صاحبه (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) من خبر القاتل وارادة تعجيز موسى والاستهزاء به وهي جملة حاليّة أو معطوفة على ادارأتم أو معترضة واعمال مخرج لكونه حكاية حال ماضية متصوّرة بصورة الاستقبال بالنّسبة الى جملة فادّارأتم فيها (فَقُلْنا اضْرِبُوهُ) اى المقتول (بِبَعْضِها) ببعض أعضاء البقرة فضربوه بذنبها روى أنّهم أخذوا قطعة وهي عجز الذّنب الّذى منه خلق ابن آدم وعليه يركب إذا أعيد خلقا جديدا فضربوه بها وقالوا : اللهمّ بجاه محمّد (ص) وعلىّ (ع) وآله الطّيبّين لمّا أحييت هذا الميّت وأنطقته ليخبر عن قاتله فقام سالما سويّا وقال : يا نبىّ الله قتلني هذان ابنا عمّى حسداني على بنت عمّى فقتلاني وألقيانى في محلّة هؤلاء ليأخذا ديتي فأخذ موسى (ع) الرّجلين فقتلهما. وروى انّ المقتول المنشور توسّل الى الله سبحانه بمحمّد (ص) وآله (ع) ان يبقيه في الدّنيا متمتّعا بابنة عمّه ويجزى عنه أعداءه ويرزقه رزقا كثيرا طيّبا ؛ فوهب الله له سبعين سنة بعد ان كان قد مضى عليه ستّون سنة قبل قتله صحيحة حوّاسّه فيها قويّة شهواته فتمتّع بحلال الدّنيا وعاش معها لم يفارقها ولم يفارقه وماتا جميعا معا وصارا الى الجنّة وكانا فيها زوجين ناعمين (ذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) اى قلنا اضربوه ببعضها فضربوه فحىّ فقلنا كذلك يحى الله الموتى فلا تستغربوا الحيوة بعد الممات أو قلنا اضربوه ببعضها قائلين بعد ضربه وحيوته كذلك يحى الله الموتى ، أو هو مستأنف لبيان كيفيّة احياء الموتى في الرّجعة أو في المعاد فانّهم كانوا مستغربين لإحياء الموتى ورجعتهم الى الدّنيا ، أو اعادتهم في الاخرى وبعد حيوة الميّت صار المقام مقام السّؤال عن كيفيّة احياء الموتى كأنّهم قالوا : هل يحى الله الموتى مثل احياء هذا الميّت؟ ـ فقال تعالى : كذلك يحيى الله الموتى (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) عطف على يحى الله اى مثل اراءة هذه الآية العجيبة من احياء الميّت بالتقاء ميّت آخر يريكم سائر آياته النّفسانيّة العجيبة والخارجيّة الغريبة (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) اى تدركون جواز المعاد والرّجعة ، أو تدركون صحّة نبوّة موسى (ع) وصحّة قوله في تفضيل محمّد (ص) وعلىّ (ع) وآلهما (ع) أو لعلّكم تصيرون عقلاء خارجين عن مقام الجهل الى مقام العقل (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ) لا تلين بالرّحمة والخير (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) يعنى ما جعلناه سببا لرقّة قلوبكم صار سببا لقسوته فانّ تعقيب القساوة لاراءة الآيات يشعر بسببيّتها لها ، وهذا ذمّ بليغ لهم لأنّه يشعر بأن خباثة طينتهم جعلت ما كان سببا لهدايتهم وادراكهم سببا لقساوتهم وبلاهتهم (فَهِيَ كَالْحِجارَةِ) اى فصارت كالحجارة لكنّه عدل الى الاسميّة اشعارا بتمكّنهم في القسوة أو فعلم أنّها كالحجارة فيكون عطفا باعتبار لازم الحكم (أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) بل أشدّ قسوة وقرء أشدّ بالفتح عطفا على محلّ الحجارة (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) عطف في موضع التّعليل أو حال كذلك (وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ) الّذى هو دون النّهر مثل العيون القليلة الماء (وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) ينهار فينحدر من أعلى الجبل الى أسفله انقيادا لأمر الله التّكوينىّ أو يتناثر فيهبط من أطراف الأحجار الباقية في الجبل فيهبط انقيادا للأمر التّكوينىّ ، واستعمال الخشية مجاز أو محمول على انّ كلّ الممكنات لها علم وشعور وشوق وخوف وخشية (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) توعيد لهم ثمّ صرف

١٠٤

الخطاب عنهم بعد ما وبّخهم الى المؤمنين فقال (أَفَتَطْمَعُونَ) بعد ما سمعتم من أحوال أسلافهم الموافقين لهم في الشّؤن (أَنْ يُؤْمِنُوا) اى هؤلاء الموجودون المشابهون لهم (لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) اى من أسلافهم (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ) في أصل جبل طور حين ذهابهم مع موسى (ع) لسماع كلام الله والشّهادة لبني إسرائيل بسماع كلام الله تعالى أو يسمعون كلام الله من التّوراة أو الإنجيل أو من لسان الأنبياء والأولياء أو المراد أفتطمعون ان يؤمن هؤلاء الموجودون لكم وقد كان فريق من هؤلاء يسمعون كلام الله من الكتاب النّازل عليكم ، أو من لسان محمّد (ص) أو من التّوراة في وصف محمّد (ص) وعلىّ (ع) وطريقهما (ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) التّحريف جعل الشّيء في طرف من الحرف بمعنى الطّرف وتحريف الكلام جعله في طرف من موضعه الّذى وضع فيه وتحريف الكلم من بعد مواضعه بمعنى جعله في طرف بعد وقوعه في موضعه ويلزم تحريف الكلم تغييره ؛ ولذلك قد يفسّر به ، وتحريف كلام الله امّا بتغيير لفظه بإسقاط وزيادة وتقديم وتأخير حتّى يظنّ به غير معناه المقصود ، أو بتفسيره وتبيينه بغير المعنى المقصود منه حتّى يشتبه على من لا خبرة له (مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ) أدركوه بعقولهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) انّهم يحرّفونه أو هم العلماء ومن شأن العالم وخصوصا إذا عقل أمرا ان لا يحرّفه فهم أشدّ عذابا من غيرهم حيث خالفوا مقتضى علمهم وتعقّلهم (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا) عطف على يسمعون (قالُوا آمَنَّا) إظهارا للموافقة للمؤمنين كسلمان ومقداد وغيرهما من غير مواطاة للقلب ولم يؤكّدوا كلامهم لعدم إقبال قلوبهم عليه ولإظهار أنّ ايمانهم لا ينبغي ان يشكّ فيه فلا ينبغي ان يؤكّد (وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا) اى قال بعضهم للآخرين (أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) من صفات محمّد (ص) وشريعته وموطنه ومهاجره وذلك انّ قوما من اليهود الّذين لم ينافقوا مع المسلمين كانوا إذا لقوا المسلمين أخبروهم بما في التّوراة من صفة محمّد (ص) ودينه وكان ذلك سببا لغضب الآخرين المنافقين فقالوا في الخلوة للمحدّثين : أتحدّثونهم بنعت محمّد (ص) ووصيّه (ع) ودينه (لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ليحاجّ المسلمون بما أخبر تموهم ممّا فتح الله عليكم عند ربّكم فيقولوا عند ربّكم انّكم علمتم حقّيّة ديننا ونبيّنا وما آمنتم وعاند تمونا ، وقد زعم هؤلاء لحمقهم وسفاهتهم أنّهم ان لم يحدّثوهم بما عندهم من دلائل نبوّة محمّد (ص) لم يكن لهم عليهم حجّة عند ربّهم ، وإذا لم يكن لهم عليهم حجّة عند ربّهم لم يؤاخذهم الله ، وهذا كما ترى قياس اقترانىّ فاسد صغراه وكبراه ، لا يتّفوه بمثله الّا السّفيه والصّبىّ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) انّ فيما تخبرون حجّة عليكم وهذا خطاب من منافقي القوم للآخرين (أَوَلا يَعْلَمُونَ) اى هؤلاء الّذين قالوا لإخوانهم : أتحدّثونهم (أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ) فما أظهروه ممّا فتح الله عليهم وما أسرّوه كان حجّة عليهم عنده سواء أظهروه أو لم يظهروه ، وسواء حاجّهم المؤمنون أو لم يحاجّوهم (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ) عطف على قد كان فريق منهم يسمعون كأنّه قال : أفتطمعون ان يؤمنوا لكم ومنهم علماء يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه ، ومنهم أمّيّون لا يعلمون الحقّ من الباطل ولا يدركون من الكتاب والشّريعة ابتداء الّا الامانىّ الّتى يحرّف الكتاب علماؤهم بعد تعقّل المقصود إليها يعنى انّ فريقا منهم يعرفون المقصود من الكتاب لكنّهم يحرّفونه الى ما اقتضته أنفسهم وفريقا منهم لا يعرفون من الكتاب

١٠٥

الّا ما يوافق أهويتهم ، والامّىّ هو المنسوب الى الامّ بمعنى انّه لم يزد على نسبته الى الامّ شيئا من الكمالات الكسبيّة من القراءة والكتابة ، وخصّص في العرف بمن لا يقرأ ولا يكتب والمراد به هاهنا من لم يزدد على مقام التّابعيّة للامّ وهو مقام الصّباوة واتّباع الشهوات والامانىّ شيئا من الانسانيّة الّتى اقتضت التّميز بين الحقّ والباطل واختيار الحقّ ورفض الباطل ولذا فسّره بقوله (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) والمراد بالكتاب مطلق أحكام النّبوّة ، أو مطلق الكتاب السّماوىّ ، أو شريعة موسى (ع) ، أو التّوراة ، أو أحكام شريعة محمّد (ص) ، أو القرآن. والامانىّ جمع الامنيّة وهي ما يتمنّى الإنسان سواء كان ممكنا أو محالا والمعنى أفتطمعون ان يؤمنوا لكم ومنهم أمّيّون متّبعون للاهوية والآمال غير متّصفين بالانسانيّة ومقتضياتها من التّميز بين الحقّ والباطل والإدراك للجهة الحقّانيّة من الأشياء والأحكام والكتب ، ومنزّلون للاحكام والكتب على ما يوافق أهويتهم وأمانيّهم ؛ مثلا لا يعلمون من الصّلوة الّا ما يوافق آمالهم من حفظ الصحّة ورفع المرض وكثرة المال والجاه وحفظهما وغير ذلك من الامانىّ الكثيرة ؛ فانّ أمانىّ النّفوس غير واقفة على حدّ ، أو مقدّرون انّ ظهور الأحكام والكتب من الأنبياء ظهور آمالهم ووصولهم الى أمانيّهم من التّبسّط في البلاد والتّسلّط على العباد والجاه والمال غير مدركين منها ظهور الأمر الإلهيّ وبروز عبوديّة الأنبياء ولا يدركون شيئا من الحكم والمصالح المندرجة فيها ، فالتّقدير على المعنى الاوّل لا يعلمون الكتاب الّا أمانىّ لهم ، وعلى المعنى الثّانى لا يعلمون الكتاب الّا أمانىّ للأنبياء ويحتمل ان يكون المعنى لا يدركون الكتاب الّا أمانىّ رؤسائهم الّتى يحرّفون الكلم إليها ويبيّنون فيها كما مضى في بيان الامّىّ ، ويمكن ان يراد معنى اعمّ منها اى لا يعلمون الكتاب الّا أمانىّ للأنبياء ولهم ولرؤسائهم ، ومن لا يدرك من الحقّ الّا الباطل لا يذعن للحقّ بما هو حقّ فلا يؤمن هؤلاء علماؤهم وجهّالهم لكم من حيث أنتم على الحقّ فعلم من هذا البيان انّ الاستثناء متّصل مفرّغ وليس منقطعا كما ظنّه بعض العامّة وقلّده على ذلك بعض الخاصّة رضوان الله عليهم ، ولمّا توهّم من النّفى والإثبات ثبوت العلم متعلّقا بالامانىّ لهم حصر تعالى ادراكهم حصر افراد في الظّنّ فقال تعالى : (وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) ولا علم لهم أصلا ولعلّك تفطّنت بوجه حصر ادراكهم في الظّنّ ممّا أسلفنا من انّ ادراك النّفوس لجواز تخلّف المدرك عن الإدراك شأنه شأن الظّنّ فقط.

نقل انّه قال رجل للصّادق (ع) : فاذا كان هؤلاء العوامّ من اليهود لا يعرفون الكتاب الّا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم الى غيره فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم وهل عوام اليهود الّا كعوامنا يقلّدون علماءهم فان لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم؟ ـ فقال (ع) : بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة وتسوية من جهة ، امّا من حيث استووا فانّ الله قد ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم كما قد ذمّ عوامهم ، وامّا من حيث افترقوا فلا ، قال : بيّن لي ذلك يا ابن رسول الله (ص) ، قال (ع) : انّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصّراح وبأكل الحرام والرّشا ، وبتغيير الأحكام عن وجهها بالشفاعات والعنايات والمصانعات ، وعرفوهم بالتّعصّب الشّديد الّذى يفارقون به أديانهم ، وأنّهم إذا تعصّبوا أزالوا حقوق من تعصّبوا عليه وأعطوا ما لا يستحقّه من تعصّبوا له من أموال غيرهم وظلموهم من أجلهم ، وعرفوهم يقارفون المحرّمات واضطرّوا بمعارف قلوبهم الى انّ من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز ان يصدق على الله ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله فلذلك ذمّهم لما قلّدوا من قد عرفوا ومن قد علموا انّه لا يجوز قبول خبره ولا تصديقه في حكايته ، ولا العمل بما يؤديّه إليهم عمّن لم يشاهدوه ، ووجب عليهم النّظر

١٠٦

أنفسهم في أمر رسول الله (ص) إذ كانت دلائله أوضح من ان تخفى وأشهر من ان لا تظهر لهم ، وكذلك عوامّ أمّتنا إذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظّاهر والعصبيّة الشّديدة والتّكالب على حطام الدّنيا وحرامها ، وإهلاك من يتعصّبون عليه وان كان لاصلاح أمره مستحقّا ، والرّفق والبرّ والإحسان على من تعصّبوا له وان كان للاذلال والاهانة مستحقّا ، فمن قلّد من عوامنا مثل هؤلاء الفقهاء فهم مثل اليهود الّذين ذمّهم الله بالتّقليد لفسقة فقهائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه حافظا لدينه مخالفا على هواه مطيعا لأمر مولاه فللعوام ان يقلّدوه ؛ وذلك لا يكون الّا في بعض فقهاء الّشيعة لا جميعهم فانّ من يركب من القبائح والفواحش مراكب فسقة فقهاء العامّة فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ولا كرامة لهم.

(فَوَيْلٌ) تفريع على قوله (يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ) يعنى انّ الّذين يسمعون كلام الله ثمّ يحرّفونه يكتبون الكتاب بأيدى أنفسهم اى بأيد منسوبة الى أنفسهم لا الى الله ولا الى أمر الله فويل (لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ) أو تفريع على مجموع سماع كلام الله وتحريفه وعدم ادراك جهة حقّانيّة من الكتاب وانحصار ادراكهم في الجهة الباطلة يعنى انّ الّذين لا يعلمون من الكتاب الّا الجهة الموافقة لآمالهم لا يكتبون الكتاب على الصّحائف الجسمانيّة الّا بأيديهم المسخّرة لأنفسهم ، أو لا يكتبون الكتاب على صحائف أذهانهم الّا بأيد مسخّرة لأنفسهم الامّارة بالسّوء لا بأيد منسوبة الى الله ، أو الى أمر الله فويل للّذين يكتبون الكتاب بأيدى أنفسهم من دون مدخليّة لله ولأمر الله فيه (ثُمَّ يَقُولُونَ) افتراء ظاهرا (هذا) المكتوب بأيدينا المسخّرة تحت الأنفس المسخّرة للشّيطان (مِنْ عِنْدِ اللهِ) وليس من عند الله بل هو من عند الشّيطان فانّه جرى اوّلا منه على الأنفس المحكومة له ثمّ منها على الأوهام ثمّ على الألسن أو الأيدى فهو من عند الشّيطان وهم يفترون بان يقولوا : هذا من عند الله (لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) من الاعراض الدّنيويّة والاعراض الاعتباريّة والأغراض النّفسانيّة من التّبسّط والجاه والتّحبّب وغيرها (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ) من الألفاظ والنّقوش الملقاة من الشّيطان على صدورهم فانّها أسباب تمكّن الشّيطان منهم (وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) من الثّمن القليل فانّه أشدّ حرمة من كلّ حرام لانّهم توسّلوا بآلات الدّين الى الأغراض النّفسانيّة وجعلوا آلة الدّين شركا للدّنيا ، وصاروا أضرّ على ضعفاء العقول والدّين من جيش يزيد على أصحاب الحسين (ع) (وَقالُوا) عطف على قد كان فريق (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) يعنى أفتطمعون ان يؤمنوا لكم والحال أنّهم قائلون بأنّ النّار لن تمسّنا الّا ايّاما معدودة ليتمكّنوا من آمالهم وأنتم داعون لهم الى ترك الشّهوات ورفض الآمال (قُلْ) يا محمّد (ص) لهم : انّ هذا القول لا يكون الّا عن مشاهدة النّار وأصحابها وأنّهم ما مستّهم النّار الّا ايّاما ، ولستم أهل المشاهدة ، أو عن عهد من الله وصل إليكم بلا واسطة ، أو بواسطة الأنبياء ، أو عن افتراء على الله تعالى فسلهم (أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ) يعنى ان اتّخذتم عهدا فلن يخلف الله عهده أو المعنى فسلهم ألن يخلف الله عهده (أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لكن ليس لكم عهد عند الله ولستم مدّعيه فبقي انّكم تفترون على الله وتستحقّون به شدّة العذاب فضلا عن دوامه (بَلى) جواب عن ادّعائهم انّ العذاب ليس بدائم (مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) أصله سيوء على وزن فيعل والتّاء

١٠٧

للنّقل مثل تاء الحسنة ، وسيّئة الإنسان ما لا يلائم انسانيّته سواء كان ملائما لنفسه وحيوانيّة أم لا ، وأتى بالكسب المشير الى بقاء السّيّئة دون الإتيان والفعل والعمل الدّالة على حدوثها للاشارة الى انّ المستلزم لدخول النّار والخلود فيها هو الأثر الحاصل في النّفس من فعل السّيّئة لا الحركات والأفعال الغير القارّة زمانين (وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ) ولمّا كان كسب السّيّئة والأثر الباقي منها في النّفس غير كاف في استلزام الخلود ما لم يسدّ طرق الخروج الى الجنان بتمامها أضاف اليه احاطة الخطيئة والخطيئة الإثم عدل الى الاسم الظّاهر لاقتضاء مقام الوعيد التّطويل وتكرار لفظ القبيح والإتيان بالألفاظ العديدة القبيحة (فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ) مصاحبين مجانسين لها ولم يكتف بالصّحابة المشعرة بالسّنخيّة المشيرة الى الخلود وصرّح بالخلود مؤكّدا للتّطويل والتّشديد فقال تعالى : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) لمّا كان المقام هاهنا مقتضيا للاهتمام بالوعيد للرّدّ على المغرورين بإنكار الخلود قدّم الوعيد وأتى بلفظ من المشتركة بين الشّرطيّة والموصولة وأتى في الخبر بالفاء المؤكّدة للتّلازم وأتى في الوعد بصريح الموصول ولم يأت بالفاء في الخبر بخلاف ما سبق من قوله تعالى : (فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ؛) فانّ المقام هناك يقتضي الاهتمام بالوعد دون الوعيد (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قد مضى بيان للايمان والعمل الصّالح (أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَ) اذكروا يا بنى إسرائيل أو يا أمّة محمّد (ص) أو الخطاب عامّ لمن يتأتّى منه الخطاب أو ذكّر يا محمّد (ص) بنى إسرائيل أو أمّتك أو مطلق الخلق (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) على أيدى أنبيائهم في ضمن البيعة العامّة أو الخاصّة ، وقد سبق انّه كلّما ذكر عهد وعقد وميثاق فالمراد هو الّذى يكون في ضمن البيعة (لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ) أمثال هذه العبارة تستعمل على ثلاثة أوجه بعد ذكر أخذ الميثاق ؛ الاوّل ـ ان تكون على صورة الاخبار إيجابا أو نفيا. والثّانى ـ ان تكون على صورة الإنشاء امرا أو نهيا. والثّالث ـ ان يكون الفعل عقيب لفظ ان وقد قرء هاهنا بالوجوه الثّلاثة فان كان على صورة الاخبار فامّا ان يكون بمعنى الإنشاء بتقدير القول اى أخذنا ميثاق بنى إسرائيل قائلين : لا تعبدوا ، ويؤيّد هذا الوجه عطف قولوا ، وأقيموا ، وآتوا ؛ عليه ، وامّا بمعنى الاخبار بتقدير ان المصدريّة والمعنى أخذنا ميثاقهم على ان لا يعبدوا ، أو لان لا يعبدوا ؛ أو يكون بدلا من الميثاق ولا إشكال على قراءة لا يعبدون بالياء ، وامّا على قراءة لا تعبدون بالتّاء فهو على حكاية الحكاية الماضية من غير تغيير أو هو بمعنى الاخبار على الحاليّة والمعنى أخذنا ميثاقهم حالكونهم لا يعبدون أو حالكوننا قائلين لهم لا تعبدون الّا الله وتحسنون بالوالدين إحسانا.

تحقيق الوالدين والنّسبة الرّوحانيّة

اعلم انّ الإنسان ذو مراتب كثيرة وكلّ مرتبة منه ذات أجزاء كثيرة طوليّة وعرضيّة ، ولكلّ مرتبة منه سبب ومعدّ لوجودها غير السّبب والمعدّ لوجود الاخرى ؛ فالمعدّ لوجود مرتبته الجسمانيّة هو والداه الجسمانيّان وكلّ من انتسب إليهما بتلك النّسبة كان مناسبا له ومناسبته تسمّى بالأخوّة ، والسّبب لوجود مرتبة صدره المنشرح بالكفر هو الشّيطان أو من يناسب الإنسان من جنود الشّيطان الّذين هم أهل عالم الظّلمة والمنسوبون الى الجانّ ابى الجانّ ، ومرتبة نفسه القابلة المستعدّة لتصرّف الشّيطان وبتصرّف الشّيطان وتأثّر نفسه يفاض من الرّحمن قوّة مناسبة لتلك النّفس ، والشّيطان وكلّ

١٠٨

من يناسبه من هذه الجهة فهو أخ له ، وسبب وجود مرتبة صدره المنشرح بالإسلام هو الملك ومرتبة نفسه القابلة المستعدّة لذلك ، وبتصرّف الملك وتأثّر نفسه يفاض من الله قوّة مناسبة لتلك النّفس هذا بحسب التّكوين وامّا بحسب التّكليف فأبوا مرتبة صدره المنشرح بالكفر هما اللّذان يبايعان البيعة العامّة معه من غير اذن واجازة لكنّ الإنسان في تلك المرتبة بتلك النّسبة ولد لغية ومنفىّ النّسبة كما انّه بحسب التّكوين في مرتبته الجسمانيّة أيضا كذلك ، وأبوا مرتبة صدره المنشرح بالإسلام هما اللّذان يبايعان معه البيعة العامّة بالاذن والاجازة من الله أو من خلفائه ، وكلّ من يناسبه من جهة تلك النّسبة فهو أخ له ، وسبب وجود مرتبة قلبه جبرئيل العقل ومريم النّفس المنشرحة بالإسلام ، وبنفخ جبرئيل العقل في جيب مريم النّفس ينعقد عيسى القلب ويتولّد من ساعته ويتكلّم في المهد صبيّا ؛ هذا بحسب التّكوين ، وأمّا بحسب التّكليف فأبوا مرتبة قلبه هما اللّذان يبايعان معه البيعة الخاصّة الولويّة والمناسب للإنسان من جهة تلك النسبة أخ له ، وهكذا المراتب الاخر منه ، ونسبة كلّ نسبة الى ما فوقها كنسبة الجسم الى الرّوح واللّغية الرّوحانيّة كاللّغية الجسمانيّة منفيّة النسبة ومنفيّة الحكم وقد يعتبر النّسبة الفاسدة ويطلق الابوّة عليها بحسب أصل النّسبة لا صحّتها كما اعتبر النّسبة في قوله تعالى : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وفسّر الأبوان المجاهدان فيه بالشّيطان والنّفس على طريقة الاستخدام في ضمير جاهداك ، ولمّا كان اطلاق الابوّة والبنوّة باعتبار تلك النّسبة فكلّما كانت النّسبة أقوى كان إطلاقهما عليها اولى ، وتبادر النّسبة الجسمانيّة من إطلاقهما ؛ لكونهما مدركة مشاهدة لكلّ أحد بحسب العلائم والمقارنات لا لاولويّة إطلاقهما عليها ، ولعدم اعتبار النّسبة الفاسدة في الشّريعة المطهّرة كان اطلاق الوالدين والأبوين في لسان الّشارع منصرفا الى من كان نسبته صحيحة لا فاسدة فلا يدخل الوالدان الفاسدان النّسبة تحت الأمر بالإحسان ، والولادة الجسمانيّة عبارة عن انفصال مادّة الولد عن الوالد لا انفصال صورته عن صورته ، والولادة الرّوحانيّة عبارة عن تنزّل صورة الوالد وظهورها بصورة الولد وتقيّدها وتعيّنها بتعيّنات المرتبة النّازلة عن مرتبتها كالشّمس المنعكسة في المرايا العديدة الّتى لا تخلّ كثرتها في وحدة الشّمس ، فالولد الرّوحانىّ هو الوالد والوالد هو الولد لكن في المرتبة النّازلة فلو ارتفع التّعيّنات النّازلة لم يبق الّا الوالد الواحد ونعم ما قال المولوى قدس‌سره في بيان هذه النّسبة وذلك الاتّحاد :

جان حيوانى ندارد اتّحاد

تو مجو اين اتّحاد از جان باد

جان گرگان وسگان از هم جداست

متّحد جانهاى شيران خداست

همچو آن يك نور خورشيد سما

صد بود نسبت بصحن خانه ها

ليك يك باشد همه أنوار شأن

چونكه برگيرى تو ديوار از ميان

چون نماند خانه ها را قاعده

مؤمنان مانند نفس واحده

وعلى هذا فالاخوّة هاهنا تنتهي الى الاتّحاد في الصّورة وان كان المادّة متعدّدة بخلاف الأخوّة الجسمانيّة فانّها لا اتّحاد فيها لا في الصّورة ولا في المادّة بل الوحدة فيمن ينفصل عنه المادّة ومن هاهنا يعلم وجه شدّة حرمة غيبة المؤمن بحيث نقل انّه اشدّ من سبعين زنية مع الامّ تحت الكعبة ، وكذا شدّة حرمة ذكره بسوء في حضوره وغيبته ، وشدّة حرمة الاهانة والاستهزاء به فانّ الكلّ راجع الى والده ، ويعلم أيضا وجه المبالغة في الدّعاء للإخوان يظهر الغيب ، والسّعى في حاجاتهم وقضائها ، والمواساة معهم ، ووجه قوله : من زار أخاه المؤمن في بيته من غير عوض ولا غرض فكأنّما زار الله في عرشه ؛ فانّ زيارة المؤمن زيارة الله لكن في المرتبة النّازلة ، ووجه قوله : إذا تصافح المؤمنان يتحاطّ الذّنوب عنهما كما يتحاطّ الورق عن الشّجر ،

١٠٩

وقوله : إذا تصافح المؤمنان كان يد الله بين أيديهما أو فوق أيديهما ، أو ينظر الله إليهما بالرّحمة ، فانّ تصافحهما سبب لقوّة ظهور والدهما فيهما وبقدر ظهور الوالد يكون انمحاء الذّنوب من الولد ويظهر من ذلك سرّ الاهتمام بإحسان الوالدين الرّوحانيّين بحيث جعله الله تعالى قرينا بتوحيده حيثما ذكر ففي سورة النّساء (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا ـ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ،) وفي سورة الانعام : (قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ،) وفي سورة بنى إسرائيل : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ،) والوالدان الجسمانيّان بمظهريّتهما ومناسبتهما للوالدين الرّوحانيّين وكثرة حقوقهما وشفقتهما على الأولاد وتحمّلهما للزّحمات الشّاقّة مثل الرّوحانيّين في التّعظيم والإشفاق والإحسان ، ويعلم أيضا أنّ الإحسان الى الوالدين الرّوحانيّين إحسان الى نفسه ، وانّ الطّاعات كلّما كانّت أتمّ وأكثر كان الإحسان الى الوالدين أتمّ وأكثر ؛ فانّ الطّاعات إحسان الى ذاته الّتى هي ظهور والده ؛ وكلّما كان سببا لشدّة ظهور الوالد في الولد كان إحسانا الى الوالد لانّه يفيد سعة الوالد بحسب المظاهر.

ويستفاد ممّا ذكر وجه كون النّبي (ص) أولى بالمؤمنين من أنفسهم وكونه (ص) مع علىّ (ع) أبوين لهذه الامّة بحسب مرتبة الصّدر والقلب ، وأمّا بحسب الجسد فانّه ان كان بما هو هو منفصلا عن الغير غير اولى به وغبر أب له فهو بما هو مستنير بنور الصّدر والقلب محكوم بحكمهما واولى بالمؤمنين من أنفسهم وأب لهم ، ولذلك صارت أزواجه اللّاتي هنّ أزواج مرتبة بدنه أمّهاتهم وبتلك الاستنارة والمحكوميّة سرى بجسده الى عالم الأرواح ، وكان يبصر من خلفه كما كان يبصر ببصره ، ولم يكن له ظلّ ، ولو لم يكن هذه المحكوميّة والمغلوبيّة لم يظهر على جسده حكم الرّوح روى عن رسول الله (ص) انّه قال : أفضل والديكم وأحقّهما لشكركم محمّد (ص) وعلىّ (ع) ، وقال علىّ بن أبي طالب (ع) سمعت رسول الله (ص) يقول : انا وعلىّ أبوا هذه الامّة ولحقّنا عليهم أعظم من حقّ أبوى ولادتهم ، فانّا ننقذهم ان أطاعونا من النّار الى دار القرار ، ونلحقهم من العبوديّة بخيار الأحرار ، والإحسان إليهما والى سائر من أمر الله بإحسانهم أمّا بحسن صحابتهم والتّواضع لهم وإظهار الرّحمة عليهم ، أو بالخدمة لهم والسّعى في حاجاتهم وقضائها ودفع الأذى عنهم ، أو بالسؤال عن الله والدّعاء لهم ، أو بحفظهم في عرضهم وعيالاتهم وأموالهم في غيابهم.

(وَذِي الْقُرْبى) اى لهما أو لكم ويظهر ممّا مرّ أنّه لا اختلاف بينهما وانّه لا اختصاص لذي القربى بالمرتبة الجسمانيّة بل يعمّها وغيرها من المراتب الرّوحانيّة ؛ قال رسول الله (ص) من رعى حقّ قرابات أبويه أعطى في الجنّة ألف ألف درجة ، ومن رعى حقّ قربى محمّد (ص) وعلىّ (ع) أوتى من فضائل الدّرجات وزيادة المثوبات على قدر زيادة فضل محمّد (ص) وعلىّ (ع) على أبوى نسبه (وَالْيَتامى) اليتيم الجسمانىّ من فقد أباه ما لم يبلغ مبلغ الرّجال ، واليتيم الرّوحانىّ من فقد أباه الرّوحانىّ ولم يصل اليه سواء مات أو كان حيّا لكن لم يصل اليتيم بعد اليه أو وصل ثمّ انقطع عنه بالغيبة عنه وسواء باع معه وصحّة الابوّة والبنوّة بينه وبينه حتّى صار من ذوي القربى أو لم يبع ولم يصدق النّسبة لكن كان يستعدّ لوقوع النّسبة والبيعة وفي الخبر بعد ذكر اليتيم الجسمانىّ : وأشدّ من يتم هذا اليتيم من يتم (١) عن إمامه لا يقدر على الوصول اليه ولا يدرى كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه ، الا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا فهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا

__________________

(١) ـ يتم كضرب وعلم يتم بالضم وقد يفتح الياء مع تحريك الأوسط كثيرا ومع سكونه قليلا.

١١٠

يتيم في حجره الا فمن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرّفيق الأعلى (وَالْمَساكِينِ) جمع المسكين وزن المفعيل من السّكون عن الحركة وهو مبالغة في السّكون بحيث لم يبق له قوّة الحركة فهو أسوأ حالا من الفقير لانّه المحتاج الّذى يمكنه الحركة في رفع حاجاته أو هو أعمّ من المسكين والمراد مساكين المؤمنين كاليتامى أو أعمّ منهم ؛ ومسكنة الفقر معلومة ، وامّا مسكنة الايمان والعلم فهي عبارة عن سكون رجل النّفس عن السّير في أراضي الآيات والاخبار وسير الأخيار ، وسكون بصرها عن ادراك دقائق الأمور ، ولسانها عن الاحتجاج على أعدائه ، ويدها عن البطش على الأعداء ، ونقل أنّه من واساهم بحواشي ماله وسّع الله عليه جنانه وأناله غفرانه ورضوانه ، ثمّ قال : انّ من محبّى محمّد (ص) مساكين مواساتهم أفضل من مواساة مساكين الفقر ؛ وهم الّذين سكنت جوارحهم وضعفت عن مقابلة أعداء الله الّذين يعيّرونهم بدينهم ويسفّهون أحلامهم ، الا فمن قوّاهم بفقهه وعلمه حتّى أزال مسكنتهم ثمّ سلّطهم على الأعداء الظّاهرين من النواصب وعلى الأعداء الباطنين إبليس ومردته حتّى يهزموهم عن دين الله ويذودوهم عن أولياء آل رسول الله (ص) حوّل الله تلك المسكنة الى شياطينهم وأعجزهم عن إضلالهم وقضى الله بذلك قضاء حقّا على لسان رسول الله (ص) (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً) قرئ بالضمّ وبالتّحريك والمعنى واحد فانّ إظهار حسن القول وإظهار القول الحسن واحد والمراد بالنّاس جملة الاناسىّ قريبهم وبعيدهم ويتيمهم ومسكينهم فهو أعمّ مطلقا ممّا تقدّمه ، وبين القريب واليتيم مثل المسكين عموم من وجه وحسن القول أمر اضافىّ يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والمقامات فانّ الصّدق حسن ما لم يكن فيه شين والّا كان قبيحا والكذب حسنا ؛ فما يخاطب به الأطفال حسنه بوجه ان يناسب مقتضياته وبوجه ان يردعه عمّا يضرّه ، وما يخاطب به التّاجر والزّارع وسائر أرباب الحرف حسنه بوجه ان يناسب حرفهم ومذاقهم وبوجه ان يناسب انسانيّتهم لكن في المقام والّشأن الّذى هم فيه ، وما يخاطب به أرباب الصّناعات العلميّة حسنه ان يناسب صناعاتهم ، وهكذا حال أرباب الحكم والمناصب ، وحسن القول مع السّالك المنجذب الّذى يخاف فوت سلوكه ان يخاطب بما يشغله بالسّلوك ، ومع السّالك الواقف ان يخاطب بما يهيّجه الى الانجذاب ، ولو خوطب الأطفال بخطاب العقلاء ، والجهّال بخطاب العلماء ، والحلّاج بخطاب الحدّاد ، أو بالعكس ؛ كان قبيحا ، روى عن الصّادق (ع): قولوا للنّاس حسنا كلّهم مؤمنهم ومخالفهم ، امّا المؤمنون فيبسط لهم وجهه وبشره ، وامّا المخالفون فيكلّمهم بالمداراة لاجتذابهم الى الايمان فان ييأس من ذلك يكّف شرورهم عن نفسه وإخوانه المؤمنين ثمّ قال : انّ مداراة أعداء الله من أفضل صدقة المرء على نفسه وإخوانه ، كان رسول الله (ص) في منزله أذن استأذن عليه عبد الله بن أبيّ بن أبى سلول فقال رسول الله (ص) : بئس أخو العشيرة ائذنوا له فلمّا دخل أجلسه وبشّر في وجهه فلمّا خرج قالت عائشة : يا رسول الله (ص) قلت فيه ما قلت وفعلت فيه من البشر ما فعلت؟! فقال رسول الله (ص) : يا عويش يا حميراء انّ شرّ النّاس عند الله يوم القيامة من يكرم اتّقاء شرّه (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) أخرّ الأمر بإقامة الصّلوة لشدّة الاهتمام بالإحسان مع الخلق أرحاما كانوا أو غير أرحام ، وقد مضى بيان لاقامة الصّلوة وقد فسّر في الخبر اقامة الصّلوة بإتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها وأداء حقوقها الّتى إذا لم تؤدّ لم يتقبّلها ربّ الخلائق وقال : أتدرون ما تلك الحقوق؟! هو اتباعها بالصّلوة على محمّد (ص) وعلىّ (ع) وآلهما منطويا على الاعتقاد بأنّهم أفضل خيرة الله والقوّام بحقوق الله ، والنّصار لدين الله تعالى ؛ قال (ع): وأقيموا الصّلوة على محمّد (ص) وآله (ع)

١١١

عند أحوال غضبكم ورضاكم وشدّتكم ورخاكم ، وهمومكم المعلّقة بقلوبكم (وَآتُوا الزَّكاةَ) قد مضى بيانه (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) لمّا كان أخذ الميثاق هاهنا مستعقبا للصّفات الانسانيّة قال (أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) الذين هم بنو آدم حقيقة وأتى بقوله : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ) المشعر بصفة النّقص ، وبقوله (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) المستعقب لقوله (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) المشعر بعدم الطّاعة والقبول منهم وبقوله الآتي : (إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) المستعقب لقوله (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) المشعر بشانيّة سفك الدّماء بخطاب الحاضرين اشعارا بذمّهم ونقصهم بالنّسبة الى بنى إسرائيل (إِلَّا قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ) اى والحال انّ عادتكم الاعراض عن العهد أو هو حال مؤكّدة (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) اى ميثاق اسلافكم يا بنى إسرائيل على أيدى أنبيائهم وخلفاء أنبيائهم ، أو ميثاق أنفسكم على أيدى المتشبّهين بخلفاء الأنبياء فانّ رسم البيعة لم يكن متروكا بالكلّيّة فيهم ، فعلى هذا فهو تعريض بأمّة محمّد (ص) كما في الاخبار من تفسيره بهم ، أو الخطاب لهم ابتداء ، والمعنى واذكروا يا أمّة محمّد (ص) وقت البيعة مع محمّد (ص) واخذه ميثاقكم (لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ) قد مضى بيان محلّ الجملة الواقعة بعد أخذ الميثاق (وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ) بجعل قتل الغير وإخراجه قتلا وإخراجا لنفس الرّجل لاتّحاده معه في المعاشرة أو القرابة أو الدّين أو الموطن أو لأدائه الى القصاص المفنى لنفس الرّجل والمكافاة المورثة لإخراج الغير له ، أو المعنى لا ترتكبوا فعلا يؤدّى الى قتل أنفسكم وإخراجها من ديارها ، أو المعنى لا ترتكبوا فعلا يؤدّى الى قطع الحيوة الابديّة والإخراج من الدّيار الحقيقيّة الّتى هي الجنّة (مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ) بالميثاق (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) على أنفسكم بذلك الميثاق وهذا الإقرار (ثُمَّ أَنْتُمْ) يا (هؤُلاءِ) الحمقى على ان يكون هؤلاء منادى وهذا أدلّ على ما هو المقصود من إظهار حمقهم وسفاهتهم ، أو هو منصوب على الاختصاص ، أو هو منصوب بفعل مضمر أعنى أعنى ، أو هو تأكيد لأنتم أو هو خبر أنتم (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ) غضبا عليهم (تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ) تتعاونون على قتل المقتولين وإخراج المخرجين (بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) والحال انّكم مأمورون بالتّظاهر على البرّ والتّقوى ومنهيّون عن التّظاهر على الإثم والعدوان (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ) اى المقتولون المخرجون (أُسارى) جمع الأسرى جمع الأسير وقيل هو جمع الأسير ابتداء (تُفادُوهُمْ) يعنى ليس قتلكم وإخراجكم لهم عن غيرة دينيّة وأمر إلهيّ بل عن أهوية نفسانيّة وأغراض فاسدة لأنّه ان كان عن أمر إلهيّ كنتم راضين به سواء كان ذلك منكم أو من غيركم والحال انّه إذا فعل ذلك غيركم وأسروهم تعصّبتم لهم وفديتموهم بأموالكم (وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ) هو ضمير الشّأن أو مبتدء راجع الى إخراجهم المذكور في ضمن تخرجون وإخراجهم بدل منه أو هو مبتدء مبهم مفسّر بإخراجهم (أَفَتُؤْمِنُونَ) تذعنون (بِبَعْضِ الْكِتابِ) ببعض المكتوب عليكم أو ببعض التّوراة أو ببعض القرآن ؛ على ان يكون الخطاب لمنافقى الامّة ، وذلك البعض هو فريضة المفاداة (وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) وهو حرمة القتل والإخراج يعنى انّكم لا تكترثون بالكتاب وتتّبعون أهواءكم فما وافقها منه تتّبعونه

١١٢

وما خالفها تتركونه (فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ) يا معاشر اليهود أو يا أمّة محمّد (ص) (إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ) قرئ على الخطاب والغيبة باعتبار منكم ومن يفعل (إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ) كأنّ الآخرة كانت مملوكة لهم وهي كذلك فباعوها وجعلوا مكانها الحيوة الدّنيا الّتى كانت عارية لهم والآخرة كانت دائمة والدّنيا دائرة ، والعاقل لا يبيع الدّائم المملوك بالدّاثر المعار (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) لانّه لم يبق لهم مقام وموطن في دار الرّاحة حتّى يستريحوا إليها (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) يعنى لا يخفّف عنهم العذاب بنفسه ولا من قبل الموكّلين عليه ولا ينصرهم ناصر فيغلب على موكّلى العذاب ويدفع العذاب عنهم ، نسب الى رسول الله (ص) أنّه (ص) قال لمّا نزلت الآية في اليهود اى الّذين نقضوا عهد الله وكذّبوا رسل الله وقتلوا أولياء الله : أفلا أنبّئكم بمن يضاهيهم من يهود هذه الامّة؟ ـ قالوا : بلى يا رسول الله (ص) ، قال : قوم من أمّتي ينتحلون أنّهم من أهل ملّتى يقتلون أفاضل ذرّيّتى وأطائب أرومتى ، ويبدّلون شريعتي وسنّتى ، ويقتلون ولديّ الحسن والحسين (ع) كما قتل أسلاف اليهود زكريّا ويحيى (ع) ، الا وانّ الله يلعنهم ويبعث على بقايا ذراريهم قبل يوم القيامة هاديا مهديّا من ولد الحسين (ع) المظلوم يحرقهم بسيوف أوليائه الى نار جهنّم (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) فلا غروفى إيتاء محمّد (ص) الكتاب والمراد بالكتاب النّبوّة أو الرّسالة والتّوراة صورتها (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) بعثنا رسولا على قفاء رسول (وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ) يعنى بعثناه بعد الكلّ وأعطيناه المعجزات الواضحات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وحيوة الطّين بنفخة والاخبار بالمغيبات أو الأحكام الواضحات المحكمات أو الأحكام القالبيّة أو احكام النّبوّة فانّ البيّنة قد تطلق على المعجزة ، وقد تطلق على المحكم مقابل المتشابه ، وقد تطلق على احكام القالب مقابل احكام القلب ، وقد تطلق على الرّسالة وأحكامها والنّبوّة وأحكامها مقابل الولاية وآثارها ، وقد تطلق مقابل الزّبر على حروف اسم كلّ حرف ؛ فيقال : بيّنة العين العين والياء والنّون ؛ وزبرها الملفوظ من العين ، أو على غير اوّل حروف الاسم كالياء والنون (وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) الرّوح تطلق على الرّوح الحيوانيّة الّتى تنبعث عن القلب وعلى الرّوح النّفسانيّة الّتى تنبعث عن الدّماغ الى الاعصاب ، وعلى القوّة المحرّكة الحيوانيّة ، وعلى القوّة الشّهويّة ، وعلى القوّة الغضبيّة ، وعلى اللّطيفة الايمانيّة ، وعلى الرّوح المجرّدة عن المادّة وعن التّعلّق بها ، وعن التّقدّر وهي الّتى تسمّى بروح القدس ، وهي الّتى ذكر في الاخبار أنّه أعظم من جبرائيل وميكائيل ولم تكن مع أحد من الأنبياء وكانت مع محمّد (ص) وكانت مع الائمّة (ع) وسمّاها الفهلويّون من أهل الفرس بربّ النّوع الانسانىّ وقالوا : انّه أعظم من جميع الملائكة والكلّ مسخّر له ، وتطلق الرّوح على جملة المجرّدات وفي الخبر : يا مفضّل انّ الله تبارك وتعالى جعل في النّبىّ خمسة أرواح روح الحيوة ؛ فبه دبّ ودرج ، وروح القوّة ؛ فبه نهض وجاهد ، وروح الشّهوة ؛ فبه أكل وشرب وأتى النّساء من الحلال ، وروح الايمان فبه آمن وعدل ، وروح القدس لا ينام ولا يغفل ولا يلهو ولا يزهو (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ) يعنى بعثنا الرّسل بعضهم على قفاء بعض فاستكبرتم وكذّبتم فريقا وقتلتم فريقا الا ترعوون عمّا فعلتم سابقا من الشّنائع فكلّما جاءكم (رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ) من فعل الطّاعات

١١٣

وترك الشّهوات (اسْتَكْبَرْتُمْ) عن الانقياد للرّسول واتّباعه بعد ذلك مثل ما فعلتم سابقا (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) اى تكذّبون وأتى بالماضي لفظا للدّلالة على تحقّقه كأنّه وقع والّا فهو مستقبل معنى (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) أتى هنا بالمضارع لكونه الأصل ولمراعاة رؤس الآي ؛ والمقصود توبيخهم على شيمتهم الذّميمة وتقريعهم على الماضي وردعهم في الآتي ؛ عن الباقر (ع) أنّه قال : ضرب الله مثلا لامّة محمّد (ص) فقال لهم : فان جاءكم محمّد (ص) بما لا تهوى أنفسكم بموالاة علىّ (ع) استكبرتم ففريقا من آل محمّد (ص) كذّبتم وفريقا تقتلون قال : فذلك تفسيرها في الباطن (وَقالُوا) التفات من الخطاب الى الغيبة تبعيدا لهم عن ساحة الخطاب وعطف باعتبار المعنى كأنّه قيل على ما بيّن في الخبر السّابق استكبروا عن محمّد (ص) وكذّبوه وقالوا في مقام الاستهزاء والاستكبار (قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع الأغلف اى قلوبنا في غلاف وحجاب ممّا تدعونا اليه فهي في اكنّة لا يصل إليها قولك ونصحك ، أو جمع الغلاف وأصله غلف بالضّمّتين كما قرئ به فخفّف بإسكان العين والمعنى قلوبنا أوعية للعلوم فلا حاجة لنا الى ما جئت به أو ليس في علومنا خبر منك ولا اثر وفي تفسير الامام (ع) بعد ذكر قراءة غلف بضمّتين وإذا قرئ غلف فإنهم قالوا قلوبنا غلف في غطاء فلا نفهم كلامك وحديثك نحو ما قال الله تعالى : وقالوا قلوبنا في اكنّة ممّا تدعونا اليه وفي آذاننا وقر ، ومن بيننا وبينك حجاب ، وكلتا القرائتين حقّ وقد قالوا بهذا وبهذا جميعا فرّد الله عليهم وقال : ليس الأمر كما يقولون (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) بمحمّد (ص) ولذا لا يتأثّرون ولا يدركون ما يصدّق محمّدا (ص) (فَقَلِيلاً ما) لفظ ما زائد أو صفة لقليلا لتأكيد القلّة وقليلا صفة مصدر محذوف اى ايمانا قليلا اى قليل (يُؤْمِنُونَ وَلَمَّا جاءَهُمْ) اى اليهود وهو عطف على قالوا قلوبنا غلف (كِتابٌ) القرآن (مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) من التّوراة الّتى فيها نعت محمّد (ص) وعلىّ (ع) وآلهما ومبعثه ومهاجره (وَكانُوا) اى هؤلاء اليهود (مِنْ قَبْلُ) اى قبل ظهور محمّد (ص) بالرّسالة (يَسْتَفْتِحُونَ) بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) وآلهما (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بمحمّد (ص) أو بنبوّة الأنبياء أو بنبوّة موسى (ع) ودينه وكانوا يظفّرون على أعدائهم الكفرة بالاستفتاح والاستنصار بهم ، وقصص استفتاحهم مسطورة في المطوّلات مثل الصّافى وغيره (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا) تأكيد للاوّل وزيادة الفاء في التّأكيد مبالغة وتأكيد في التّأكيد والمراد بما عرفوا امّا القرآن أو محمّد (ص) وعلىّ (ع) ونعوتهما ، ولا ينافي التّأكيد هذه المخالفة فانّ مجيء الكتاب المصدّق في قوّة مجيء صاحب الكتاب وقوله تعالى (كَفَرُوا بِهِ) جواب لمّا الاولى ، أو جواب لمّا الاولى محذوف بقرينة جواب لمّا الثّانيّة اى لمّا جاءهم كتاب مصدّق لما معهم كذّبوه فلمّا جاءهم ما عرفوا من نعوت محمّد (ص) وعلىّ (ع) وآلهما وأصحابهما كفروا به ، أو لمّا الثّانية مع جوابها جواب لمّا الاولى وهذا على جواز إتيان الفاء في جواب لمّا وقد منعه البصريّون وجوّزه الكوفيّون (فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) تقريع على الكفر بما عرفوا انّه حقّ وأتى بالمظهر موضع المضمر للتّطويل والتّصريح بوصفهم القبيح الّذين يقتضيهما مقام السّخط وللاشعار بعلّة الحكم ؛ ونسب الى علىّ (ع) انّه قال بعد ذكر استفتاح اليهود واستنصارهم على أعدائهم : فلمّا ظهر محمّد (ص) حسدوه إذ كان من العرب وكذّبوه ثمّ قال رسول الله (ص) هذه نصرة الله لليهود على المشركين بذكرهم لمحمّد (ص) وآله الا فاذكروا يا أمّة

١١٤

محمّد محمّدا (ص) وآله عند نوائبكم وشدائدكم لينصر الله به ملائكتكم على الشّياطين الّذين يقصدونكم فانّ كلّ واحد منكم معه ملك عن يمينه بكتب حسناته وملك عن يساره يكتب سيّئاته ومعه شيطانان من عند إبليس يغويانه فاذا وسوسا في قلبه وذكر الله تعالى وقال : لا حول ولا قوّة الّا بالله العلىّ العظيم وصلّى الله على محمّد (ص) خنس الشّيطانان واختفيا (بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ) لفظ ما نكرة موصوفة تميز عن الفاعل المستتر واشتروا صفته والتّقدير بئس هو شيئا اشتروا به أنفسهم ، أو لفظ ما معرفة ناقصة فاعل بئس واشتروا صلته وامّا ما يتراءى صحّته من كون ما نكرة تامّة أو معرفة تامّة واشتروا مستأنفا فبعبد جدّا ، أو الشري يستعمل في البيع والاشتراء والقياس يقتضي استعمال الاشتراء في كليهما لكنّ الأغلب استعماله في مقابل البيع فان كان المراد به هاهنا معنى البيع فلا إشكال لأنّ بيعهم أنفسهم بالكفر واشتراء الشّيطان لها في مقابل بيعهم أنفسهم بالجنّة واشتراء الله لها ولأموالهم بأنّ لهم الجنّة ، وان كان المراد به معنى الاشتراء فالمقصود أنّهم اشتروا الانانيّة الّتى هي بالاصالة حقّ الشّيطان باللّطيفة الإلهيّة على ان يكون الباء في به للسببيّة لا للبدليّة وما في تفسير الامام (ع) يشعر بأنّه بمعنى البيع وانّ المخصوص بالذّمّ محذوف وهو قوله اشتروها بالهدايا والفضول الّتى تصل إليهم وكان الله أمرهم بشرائها من الله بطاعتهم له ليجعل لهم أنفسهم والانتفاع بها دائما (الى آخره) (أَنْ يَكْفُرُوا) مخصوص بالذّمّ أو تعليل والمخصوص محذوف كما يشعر به تفسير الامام (ع) اى بئس ما اشتروا به أنفسهم هداياهم وفضولهم الّتى تصل إليهم (بِما أَنْزَلَ اللهُ) بالّذى أنزل الله أو بشيء أنزل الله في كتابهم من أمر محمّد (ص) وعلىّ (ع) وآلهما أو بما أنزل الله من القرآن أو من قرآن فضل علىّ (ع) (بَغْياً) لبغيهم وعدم انقيادهم لمحمّد (ص) خليفة الله أو باغين على محمّد (ص) (أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ) لان ينزّل الله أو هو بدل من ما أنزل الله نحو بدل الاشتمال ، ويجوز ان يكون ما في بما أنزل الله مصدريّة وان يكون أن ينزّل الله تعليلا أو بدلا منه (مِنْ فَضْلِهِ) بعضا من فضله أو كتابا من فضله (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعنى محمّدا (ص) وأتى بالموصول وصلته اشعارا بأنّ المكروه لهم حيثيّة مشيّة الله للمبالغة في تهديدهم وذمّهم ، ولمّا كانت الآية تعريضا بمنافقى الامّة وكراهتهم لما نزل في خلافة علىّ (ع) صحّ تفسيرها كما في الاخبار بان يقال بما أنزل الله في علىّ (ع) بغيا على علىّ (ع) ان ينزّل الله من فضله على من يشاء يعنى عليّا (ع) (فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ) هذه العبارة تستعمل لمحض التّكثير والمعنى باءوا بغضب كثير متعاقب متراكم وقد تستعمل لبيان العدد يعنى باءوا الى الله أو باءوا عن حضور محمّد (ص) بغضب من الله لكفرهم بمحمّد (ص) على غضب آخر من الله لكفرهم بعيسى (ع) ، أو فباؤا بغضب من الله لكفرهم بما أنزل الله على محمّد (ص) على غضب لكفرهم بما أنزل الله على موسى (ع) في نعت محمّد (ص) ، أو فباؤا بغضب منهم لما انزل الله على محمّد (ص) على غضب منهم لما انزل الله على موسى (ع) في وصف محمّد (ص) هذا بحسب التّنزيل والتّصريح ، وامّا بحسب التّأويل والتّعريض فباء منافقوا أمّة محمّد (ص) بغضب من الله أو منهم على غضب لكفرهم بمحمّد (ص) وعلىّ (ع) (وَلِلْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر للتّطويل المطلوب في مقام الغضب وللتّصريح بوصف الذّمّ لهم وللاشعار بعلّة الحكم في الآخرة (عَذابٌ مُهِينٌ) مذلّ لا معزّ كبلاء الأنبياء ، أو المقصود تأكيد العذاب والمبالغة فيه (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ) عطف باعتبار المعنى كأنّه قيل : انّهم كفروا بما أنزل الله عليهم لان ينزّل الله

١١٥

على محمّد (ص) وإذا قيل ، أو عطف على جملة باءوا بغضب ، أو حال عن فاعل ان يكفروا ، أو عن فاعل باءوا ، أو جملة مستأنفة على جواز مجيء الواو للاستيناف لابداء ذمّ آخر وتسجيل سفاهتهم بإتيان التّناقض في دعواهم ، وهذه العبارة كثيرا ما تستعمل في مقام المدح والذّمّ منسلخة عن خصوص زمان الاستقبال مفيدة للاستمرار في الماضي والحال والاستقبال كأنّه قيل : شيمتهم انّه كلّما قيل لهم (آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللهُ) على محمّد (ص) من القرآن أو على الأنبياء من الكتب السّماويّة والوحي الإلهيّ كذّبوا صريحا (قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا) يعنى التّوراة (وَيَكْفُرُونَ) (بِما وَراءَهُ) ولو كانوا يؤمنون بالتّوراة لم يكفروا بالقرآن ولا بسائر الكتب لانّ في التّوراة اثباتا لحقّيّة القرآن وسائر الكتب السّماويّة (وَهُوَ الْحَقُ) اى ما وراءه وهو القرآن حقّ ، ناسخ للتّوراة ولجميع الكتب الأخر لا حقّ بعد نسخه للكتب سواه (مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ) من التّوراة (قُلْ) ردّا لادّعائهم الباطل من الايمان بالتّوراة ان كنتم مؤمنين بالتّوراة وفيها وجوب تعظيم الأنبياء وحرمة قتلهم (فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللهِ) نسبة فعل الاسلاف الى الحاضرين والإتيان بالمستقبل مع التّقييد بالمضىّ للاشعار بمجانسة الحاضرين للماضين وأنّ قتل الأنبياء كان سجيّة لهم قدروا عليه أم لم يقدروا (مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالتّوراة ومخالفتها تدلّ على عدم الايمان بها (وَ) قل (لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) اى بالمعجزات الدّالّة على صدقه وحقّيّة نبوّته فلم ثؤمنوا به (ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ) آلها (مِنْ بَعْدِهِ) اى من بعد مجيء موسى (ع) بالبيّنات أو من بعد ذهابه الى جبل الطّور وهو دليل على انّكم مفطورون على تكذيب الحقّ واتّباع الباطل (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) واضعون الباطل موضع الحقّ أو ظالمون على أنفسكم (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) قائلين على لسان موسى (ع) (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) من قلوبكم وأبدانكم قد مضت الآية فلا نعيد تفسيرها ، وكرّره لاقتضاء مقام الذّمّ تكرار الذّمائم والتّطويل بها (وَاسْمَعُوا) ما يقال لكم من تفضيل محمّد (ص) وعلىّ (ع) على سائر الأنبياء والأوصياء أو من أحكام التّوراة واقبلوه (قالُوا) بعد ذلك (سَمِعْنا) ولم نقبل بل (عَصَيْنا) أو قالوا حين الخطاب سمعنا وأردنا العصيان أو عصينا بقلوبنا (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) ادخلوا باشرابهم الماء الّذى فيه برادة العجل في قلوبهم اللّحمانيّة جرم العجل وفي قلوبهم الرّوحانيّة وبال عبادته ، وذلك أنّه لمّا نزل توبة العابدين للعجل بالقتل أنكر بعض عبادة العجل ووشى بعضهم ببعض فقال الله عزوجل ابرد هذا العجل الذّهب بالحديد بردا ثمّ ذرّه في البحر فمن شرب من العابدين ماءه اسوّد شفتاه وأنفه ان كان ابيض اللّون وابيضّا ان كان اسود وبان ذنبه ، ففعل فبان العابدون وكانوا ستّمائة ألف الّا اثنى عشر ألفا وهم الّذين لم يعبدوا العجل فأمر الله الاثنى عشر ألفا ان يخرجوا على الباقين شاهرين سيوفهم وعن الباقر (ع) في حديث : فعمد موسى (ع) فبرد العجل من انفه الى طرف ذنبه ثمّ أحرقه بالنّار فذرّه في اليمّ فكان أحدهم ليقع في الماء وما به اليه من حاجة فيتعرّض لذلك الرّماد فيشربه وهو قول الله تعالى (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) وعلى الخبر الاوّل فالمعنى ادخلوا باشراب موسى (ع) لهم الماء المخلوط ببرادة العجل جرم العجل في قلوبهم الجسمانيّة ووباله في قلوبهم الرّوحانيّة. وعلى الثّانى أدخلوا

١١٦

باشراب حبّ العجل لهم الماء المخلوط ببرادته جرم العجل في قلوبهم وقيل : المعنى وأشربوا في قلوبهم حبّ العجل (بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) قتلكم لانبياء الله واتّخاذكم العجل آلها أو كفركم بى (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِين) بموسى (ع) والتّوراة ، ولمّا كان زعم اليهود أنّ دينهم حقّ وما سوى دينهم باطل وأنّهم أولياء الله دون غيرهم وانّ الدّار الآخرة خالصة لهم قال الله (قُلْ) يا محمّد (ص) لهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في دعويكم فانّ من كان وليّا لله يطلب ملاقاته ومن كان متيقّنا بالآخرة ونعيمها يستعجل الوصول إليها نظيره قوله تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) وفي تفسير الامام (ع) قل ان كانت لكم الدّار الآخرة الجنّة ونعيمها خالصة من دون النّاس محمّد (ص) وعلىّ (ع) والائمّة (ع) وسائر الاصحاب ومؤمني الامّة وانّكم بمحمّد وذرّيّته ممتحنون وانّ دعاءكم مستجاب غير مردود فتمنّوا الموت للكاذب منكم ومن مخالفيكم فانّ محمّدا (ص) وعليّا (ع) وذرّيّتهما يقولون : انّهم أولياء الله من دون النّاس الّذين يخالفونهم في دينهم وهم المجاب دعاءهم ان كنتم صادقين انّكم أنتم المحقّون المجاب دعاءكم على مخالفيكم ثمّ قال لهم رسول الله (ص) بعد ما عرض هذا عليهم لا يقولها أحد منكم الّا غصّ بريقه فمات مكانه فكانت اليهود علماء بأنّهم الكاذبون وانّ محمّدا (ص) وعليّا (ع) ومصدّقيهما هم الصّادقون فلم يجسروا ان يدعوا بذلك فقال الله (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) من الرّشا على الأحكام والحكم لغير المستحقّ بالمصانعات والشّفاعات وتحريم المحلّلات وتحليل المحرّمات من الأموال والفروج والدّماء ، وتحريف الكتاب والكفر بما يعرفونه (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر إظهارا لوصفهم المذموم واشعارا بأنّهم ظالمون في جميع ما وقع منهم وفي دعواهم ما ليس لهم وهو تهديد لهم (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) حقيرة دانية لا ينظر إليها حتّى تعرف ، وهذا دليل على أنّهم مقبلون على الدّنيا ومدبرون عن الآخرة ونعيمها فلا يريدونها فكيف يتمنّونها (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) عطف على النّاس فانّه بتقدير من وتخصيص المشركين بعد النّاس لانّهم احرص من سائر النّاس على الحيوة الدّنيا (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ) كلّ واحد منهم فانّ الاضافة تفيد العموم البدلىّ (لَوْ يُعَمَّرُ) لو مصدريّة (أَلْفَ سَنَةٍ) غفلة عن الله وعن الآخرة ونعيمها واطمئنانا بالدّنيا ونعيمها ولبس هذا شأن أولياء الله ولا أصحاب الآخرة ونعيمها (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) هو راجع الى أحدهم وان يعمّر فاعل مزحزحه أو هو راجع الى التّعمير المستفاد من يعمّر وفاعل مزحزحه راجع الى مرجع هو ومفعوله راجع الى أحدهم وان يعمّر بدل منه ؛ أو هو ضمير مبهم كضمير الشّأن وان يعمّر تفسيره (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) تهديد لهم على مخالفة أفعالهم لأقوالهم.

واعلم أنّه كان من أقوال اليهود انّ جبرئيل عدوّ لنا فانّه ملك موكّل على القتل والشّدّة والحرب والجدب وأنّه أعان على خراب بيت المقدّس لانّه منع دانيال عن قتل بختنصّر وأعان على قتل بنى إسرائيل وخراب بيت المقدّس وقالوا لمحمّد (ص) على اختلاف في الرّوايات : ان كان ميكائيل يأتيك نؤمن بك

١١٧

وان كان جبرئيل يأتيك لا نؤمن بك فانّه عدوّ لنا فقال الله تعالى (قُلْ) يا محمّد (ص) لهم (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ) فليعاد الله (فَإِنَّهُ) اى جبرئيل (نَزَّلَهُ) اى القرآن والإتيان بضمير الشّأن من غير سبق ذكر له صريحا يدلّ على تفخيمه وأنّه غنىّ عن سبق ذكره لتعرفّه بنفسه (عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) ومن يعاد الرّسول فقد عادى المرسل أو من كان عدوّا لجبرئيل فليختنق ؛ فانّ جبرئيل نزّل القرآن المصدّق لكتابكم في إثبات نبوّتي ونسخ دينكم على قلبي وأعاننى على ذلك بإذن الله ، أو من كان عدوّا لجبرئيل فلا وجه له فانّ جبرئيل نزّل القرآن المصدّق لكتابكم والمصحّح لدينكم على قلبي فيلزمكم المحبّة له لا العداوة فقوله (فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) من قبيل اقامة السّبب مقام المسبّب ؛ وكان حقّ العبارة ان يقول : على قلبي لكنّه عدل الى حكاية قول الله كأنّه قال من كان عدوّا لجبريل فانّ الله يقول انّه نزّله على قلبك ، أو الجزاء محذوف وقوله فانّ الله نزّله على قلبك من كلام الله لتعليل الأمر بالقول أو لتعليل الجزاء المحذوف وفي جبريل لغات عديدة قرئ بثمان منها جبرئيل كسلسبيل بفتح الجيم وكسرها ، وجبريل كقنديل بالفتح والكسر ، وجبرئل كجحمرش ، وجبرائيل كميكائيل بكسر الجيم وفتحه ، وجبرائل بالكسر والفتح ، وجبرال بالكسر والفتح وهكذا جبرعيل باللّغات المذكورة وقد يبدّل اللّام بالنّون وأسماء العجمة إذا عرّبت تغيّر تغييرا كثيرا (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من كتب الله ومنها التّوراة (وَهُدىً وَبُشْرى) عدل الى المصدر للمبالغة (لِلْمُؤْمِنِينَ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ) استيناف من الله أو من جملة ما أمره الله ان يقوله لهم روى أنّ المنافقين لمّا سمعوا ما قال النّبىّ (ص) في علىّ (ع) من أنّ جبرئيل عن يمينه وميكائيل عن يساره وإسرافيل من خلفه وملك الموت امامه والله تعالى من فوق عرشه ناظر بالرّضوان اليه قال بعض النّصّاب : أنا أبرأ من الله وجبرئيل وميكائيل والملائكة الّذين حالهم مع علىّ (ع) ما قاله محمّد (ص) فقال الله : من كان عدوّا لله (وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) فليحذر من معاداة الله أو فليتهيّأ لمعاداة الله (فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) وضع الظّاهر موضع المضمر إيماء الى أنّه كافر وإظهارا لوصفه المذموم واشعارا بعلّة الحكم (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ) معجزات أو احكام بحسب القالب والقلب أو آيات من القرآن أو آيات من آيات النفس أو آيات الآفاق الظّاهرة في نفسك (بَيِّناتٍ) واضحات دالّات على صدقك ورسالتك وإمامة علىّ (ع) وصيّك وفي تفسير الامام (ع): دالّات على صدقك في نبوّتك مبيّنات عن إمامة علىّ (ع) أخيك ووصيّك وصفيّك ، موضحات عن كفر من شكّ فيك أو في أخيك ، وذكر الدّالات والمبيّنات والموضحات في ذيل البيّنات ليس تفسيرا للبيّنات بل هي تفسير للآيات فانّ الآية بما هي آية ما يدلّ على شيء آخر ويوضحه أو هي تفسير للبيّنات (وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ) وقوله (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) الى آخر الآية اشارة الى صغرى قياس من الشّكل الاوّل وقوله : (وَما يَكْفُرُ بِها) (الى آخرها) اشارة الى كبري قياس آخر من الشّكل الاوّل ترتيبها هكذا : أنت رسول من الله بالآيات ، وكلّ رسول معه آيات ، عدوّه كافر به وبآياته من حيث رسالته فأنت عدوّك كافر بك وبآياتك وكلّ كافر بك وبآياتك فاسق ، فأنت عدوّك فاسق والفسق الخروج عن طاعة العقل وهو الرّسول الدّاخلىّ وعن طاعة الرّسول وهو العقل الخارجىّ وفي تفسير الامام (ع) قال علىّ بن الحسين عليهما‌السلام في تفسير هذه الآية : وذلك أنّ رسول الله (ص) لمّا آمن به عبد الله بن سلام

١١٨

بعد مسئلته الّتى سألها رسول الله (ص) وجوابه (ص) ايّاه عنها قال : يا محمّد بقيت واحدة وهي المسئلة الكبرى والغرض الأقصى من الّذى يخلفك بعدك ويقضى ديونك وينجز عداتك ويؤدّى أماناتك ويوضح عن آياتك وبيّناتك؟ ـ فقال رسول الله (ص) : أولئك أصحابى قعود ، فامض اليه فيبدو لك النّور السّاطع في دائرة غرّة ولىّ عهدي وصفحة خدّيه وسينطق طومارك بأنّه هو الوصىّ وسيشهد جوارحك بذلك فصار عبد الله الى القوم فرأى عليّا يسطع من وجهه نور يبهر نور الشّمس ونطق طوماره وأعضاء بدنه كلّه يقول : يا ابن سلام هذا علىّ بن ابى طالب (ع) المالئ جنان الله بمحبّيه ونيرانه بشانئيه ، الباثّ دين الله في أقطار الأرض وآفاقها ، والنّافى للكفر عن نواحيها وأرجائها فتمسّك بولايته تكن سعيدا ، واثبت على التّسليم له تكن رشيدا ، فقال عبد الله بن سلام : أشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد انّ محمّدا (ص) عبده ورسوله المصطفى ، وأمينه المرتضى ، وأميره على جميع الورى ، (الى ان قال) وأشهد أنّكما اللّذان بشّر بكما موسى (ع) ومن قبله من الأنبياء ودلّ عليكما المختارون من الأصفياء ثمّ قال لرسول الله (ص) : قد تمّت الحجج ، وانزاحت العلل ، وانقطعت المعاذير ، فلا عذر لي ان تأخّرت عنك ، ولا خير لي ان تركت التّعصّب لك ، ثمّ قال : يا رسول الله (ص) انّ اليهود ان سمعوا بإسلامي وقعوا فيّ فاخبأ بى عندك فاذا جاؤك فاسئلهم عنّى تسمع قولهم فيّ قبل ان يعلموا بإسلامي وبعده لتعلم أحوالهم فخبأه رسول الله في بيته ثمّ دعا قوما من اليهود فحضروه وعرض عليهم أمره فأبوا فقال : بمن ترضون حكما بيني وبينكم؟ ـ قالوا : بعبد الله بن سلام ، قال (ص) : واىّ رجل هو؟ ـ قالوا : رئيسنا وابن رئيسنا ، وسيّدنا وابن سيّدنا ، وعالمنا وابن عالمنا ، وورعنا وابن ورعنا ، وزاهدنا وابن زاهدنا ، فقال رسول الله (ص) : أرأيتم ان آمن بى أترضون؟ ـ قالوا : قد أعاذه الله من ذلك ، فقال : اخرج عليهم يا عبد الله وأظهر ما قد أظهره الله لك من أمر محمّد (ص) فخرج عليهم وهو يقول : أشهد ان لا اله الّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد انّ محمّدا (ص) عبده ورسوله المذكور في التّوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المدلول فيها عليه وعلى أخيه علىّ بن ابى طالب (ع) ، فلمّا سمعوه يقول ذلك قالوا : يا محمّد (ص) سفيهنا وابن سفيهنا ، وشرّنا وابن شرّنا ، وفاسقنا وابن فاسقنا ، وجاهلنا وابن جاهلنا ، كان غائبا عنّا فكرهنا ان نغتابه فقال عبد الله : هذا الّذى كنت أخافه يا رسول الله (ص) (الى آخر ما روى) (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) اى ألا يرعوي هؤلاء اليهود الّذين أنكروا رسالة محمّد (ص) وخلافة علىّ (ع) بعد الآيات الواضحات الدّالّات على الرّسالة والامامة وكلّما عاهدوا (عَهْداً) مع الرّسول بمحاكمة واحد منهم مثل عبد الله بن سلام مثلا أو هؤلاء النّصّاب كلّما عاهدوا بمبايعة محمّد (ص) مثل بيعة الرّضوان بالتّسليم في جميع أوامره وترك الرّدّ عليه وترك مخالفته ومثل البيعة مع محمّد (ص) بغدير خمّ بخلافة علىّ (ع) ومع علىّ بخلافته ، وكلّما عاهدوا بدون البيعة ان لا يخالفوا محمّد (ص) وان يسلموا لعلىّ (ع) (نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) اى في مستقبل أعمارهم لا يرعوون ولا يتوبون مع مشاهدتهم للآيات ومعاينتهم للدّلالات ، أو المعنى بل أكثرهم لا يصدّقون ولا يذعنون حين المعاهدة ، والإتيان بالشّرطيّة كلّيّة يدلّ على أنّ هذه عادتهم قديما وجديدا لا تنفكّ عنهم ، نسب الى رسول الله (ص) انّه قال : اتّقوا عباد الله واثبتوا على ما أمركم به رسول الله (ص) من توحيد الله ومن الايمان بنبوّة محمّد (ص) رسول الله ، ومن الاعتقاد بولاية علىّ (ع) ولىّ الله ، ولا يغرّنّكم صلوتكم وصيامكم وعباداتكم السّالفة أنّها تنفعكم ان خالفتم العهد والميثاق فمن وفى وفى له ، ومن نكث فانّما ينكث على نفسه ، والله ولىّ الانتقام منه ، وانّما الأعمال بخواتيمها (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ) عطف باعتبار لازم قوله (أَوَكُلَّما عاهَدُوا) فانّه يفيد أنّ هذه ديدنهم

١١٩

فكأنّه تعالى قال : لمّا كان هذه ديدنهم استمرّوا عليه ولمّا جاءهم رسول من عند الله وضمير جاءهم راجع الى اليهود لكنّه تعريض بمنافقى الامّة ، أو هو راجع الى اليهود الّذين سبق ذكرهم والى منافقي الامّة ابتداء ، ولمّا كان مجيء الرّسول (ص) مستلزما للإتيان بالاحكام الّتى أرسل بها وقد سبق انّ تلك كتاب الله سواء كانت مكتوبة في كتاب أو لم تكن ظهر وجه صحّة التّفسير المنسوب الى الصّادق (ع) من قوله : ولمّا جاءهم جاء اليهود ومن يليهم من النّواصب كتاب من عند الله القرآن مشتملا على وصف محمّد (ص) وعلىّ (ع) وإيجاب ولايتهما وولاية أوليائهما وعداوة أعدائهما (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ) مع اليهود ممّا في التّوراة وممّا وصل إليهم من أسلافهم من أوصافهما وأخبارهما ، ولما مع منافقي الامّة من الدّلائل الواضحة الدّالّة على صدق محمّد (ص) وصدق كتابه وفضل علىّ (ع) ، وممّا في كتاب محمّد (ص) من الآيات المصرّحة بفضل علىّ (ع) وخلافته ، وممّا قاله محمّد (ص) في فضله وخلافته (نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) وهم اليهود ومنافقو الامّة فانّهم أوتوا أحكام الرّسالة والكتاب التّدوينىّ الّذى هو التّوراة والقرآن (كِتابَ اللهِ) اى المنزل في وصف محمّد (ص) وعلىّ (ع) في التّوراة والقرآن أو جملة التّوراة والقرآن (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) النّبذ الطّرح والتّقييد بقوله (وَراءَ ظُهُورِهِمْ) اشارة الى الاعراض عنه وعدم الاعتداد به (كَأَنَّهُمْ) اليهود ونواصب الامّة (لا يَعْلَمُونَ) انّ الكتاب أو محمّدا (ص) ونبوّته أو عليّا وإمامته حقّ من الله مع أنّهم يعلمون ذلك فهم أشدّ ممّن خالف من غير علم أو كأنّهم ليس لهم علم وادراك حتّى يميزوا بعلمهم أنّه حقّ أو باطل (وَاتَّبَعُوا) عطف على نبذ فريق يعنى أعرضوا عن الحقّ واتّبعوا (ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ) تلا يتلو تلوا تبعه تبعا وتلا عليه يتلو تلاوة قرأه عليه وتلا عليه يتلو كذب عليه.

حكاية ملك سليمان وكونه في خاتمه ورمز ذلك

اعلم أنّ أكثر قصص سليمان كان من مرموزات الأوائل وأخذها المتأخرّون بطريق الأسمار وأخذوا منها ظاهرها الّذى لا يليق بشأن الأنبياء وورد عن المعصومين (ع) تقرير ما أخذوه أسمارا نظرا الى ما رمزها الأقدمون ؛ وأمثال هذه ورد عنهم تكذيبها نظرا الى ظاهر ما أخذها العوام ، وتصديقها نظرا الى ما رمزوا اليه فقد نسب في مجمع البحرين الى الصّادق (ع) انّه قال : جعل الله تعالى ملك سليمان في خاتمه فكان إذا لبسه حضرته الجنّ والانس والطّير والوحش وأطاعوه ، ويبعث الله رياحا تحمل الكرسىّ بجميع ما عليه من الشّياطين والطّير والانس والدّوابّ والخيل ؛ فتمرّ بها في الهواء الى موضع يريده سليمان وكان يصلّى الغداة بالشّام والظهّر بفارس ، وكان إذا دخل الخلاء دفع خاتمه الى بعض من يخدمه فجاء شيطان فخدع خادمه وأخذ منه الخاتم ولبسه فخرّت عليه الشّياطين والجنّ والانس والطّير والوحش فلمّا خاف الشّيطان ان يفطنوا به ألقى الخاتم في البحر فبعث الله سمكة فالتقمه ثمّ انّ سليمان خرج في طلب الخاتم فلم يجده فهرب ومرّ على ساحل البحر تائبا الى الله تعالى فمرّ بصيّاد يصيد السّمك فقال له : أعينك على ان تعطيني من السّمك شيئا فقال : نعم فلمّا اصطاد دفع الى سليمان سمكة فأخذها وشقّ بطنها فوجد الخاتم في بطنها ، فلبسه فخرّت عليه الشّياطين والوحش ورجع الى مكانه فطلب ذلك الشّيطان وجنوده الّذين كانوا معه فقتلهم وحبس بعضهم في جوف الماء وبعضهم في جوف الصّخرة ؛ فهم محبوسون الى يوم القيامة. ونقل أنّه كان عسكر سليمان مائة فرسخ ؛ خمسة وعشرون من الانس ، وخمسة وعشرون من الجنّ ، وخمسة وعشرون من الطّير ، وخمسة وعشرون من الوحش. وروى انّه أخرج

١٢٠