الوافية في أصول الفقه

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني

الوافية في أصول الفقه

المؤلف:

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني


المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الخلق محمد وآله الطاهرين.

يقدم مجمع الفكر الاسلامي للمكتبة الاسلامية عامة وللمكتبة الاصولية خاصة كتاب « الوافية » في علم اصول الفقه لاحد فحول الامامية ، وهو المولى عبد الله بن محمد البشروي الخراساني المعروف بالفاضل التوني من أعلام القرن الحادي عشر الهجري. وهو من خيرة المتون الاصولية من حيث المنهجية وصياغة المطالب والاعتماد على مبان جديدة.

يمثل كتاب « الوافية » قمة التطور لعلم اصول الفقه في القرن الحادي عشر لدى علماء الامامية ويمتاز بالابداع والابتكار ، كما يمتاز بالالتفات إلى كتب الاصول للمذاهب الاخرى. وقد تصدى فيه مؤلفه للحركة المناهضة لعلم الاصول في عصره فكان سدا منيعا أمام هذا التيار الذي كاد أن يوقف حركة الاجتهاد في ذلك العصر.

ويمتاز « الوافية » بكونه كتابا أعده مؤلفه للتدريس وتربية الطلاب وتيسير وصولهم إلى مرتبة الاستنباط.

وقد تصدى العلامة السيد محمد حسين الرضوي الكشميري لتحقيقه واخراجه بأحسن وجه ممكن احياء‌ اللتراث الاسلامي المعطاء وخدمة لشريعة سيد المرسلين.

فشكر الله سعيه وتقبل منه جهده انه ولي التوفيق وهو المسدد للصواب وهو حسبنا ونعم النصير.

غرة رجب المرجب ١٤١٢ هـ. ق

مجمع الفكر الاسلامي

٥

الاهداء

إليك

يا حجة الله

أهدي هذا المجهود المتواضع.

سيدي :

ولما رأيت الناس شدوا رحالهم

إلى بحرك الطامي أتيت بجرتي

المحقق

٦

مقدمة التحقيق :

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة والسلام على سيدنا ، حبيب إله العالمين ، أبي القاسم محمد ، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد ، فإن الله تعالى لما اختار لوليه الغيبة ، من على الامة بطائفة نفرت للتفقه في الدين ، لتنوب منابه ، ولتكون نجوما يهتدى بها.

فقد حفظ هؤلاء شرع سيد المرسلين ، وحملوا أعباء الرسالة ، وشيدوا علوم الدين ، فهم حقا حصون الاسلام وجنوده.

ولقد وفقهم الله تعالى ـ لما لهم من الاخلاص في النية ـ غاية التوفيق ، فقاموا بهذه المهمة خير قيام.

وقد تمخضت جهودهم العلمية والعملية عن مصنفات قيمة ، لا يدرك غورها ، ولا تبلغ أطرافها.

فقد خلفوا لنا تراثا ضخما واسعا رغم قساوة الظروف المحيطة بهم وقلة الامكانات المتاحة لهم.

وشمل نشاطهم مختلف العلوم الدينية ، ولم يقتصر على معرفة الحلال والحرام ، بل أعطوا كل علم من علوم الشريعة حقه بما تركوه من آثار خالدة فصنفوا في الكلام

٧

والتفسير والحديث ورجاله والفقه إلى غير ذلك ، فكانوا حقا فقهاء في ( الدين ) لا في بعضه.

ثم لما كانت مسائل الفقه ـ من الطهارة إلى الديات ـ بحاجة إلى مبان موحدة تقع كبرى في قياس استنباط الحكم الشرعي ، عكفوا على هذه المباني فأسدوها عناية فائقة ، واهتماما كبيرا ، فبذلوا فيها ما يناسبها من التدقيق والتأمل ، وما تستحقها من التوسع والتعمق ، فعقدوا لكل منها مبحثا خاصا.

ولعمري فإنها جديرة بذلك ، إذ أن التنائج المأخوذة من هذه المباحث لهي قانون كلي تبنى عليه فروع فقهية متكثرة ، فقد تترتب على المبنى الواحد مئآت المسائل الفقهية بأقسامها المتباينة وأبوابها المختلفة. فكون الامر حقيقة في الوجوب مثلا ، قانون ينطبق على كل أبواب الفقه من الطهارة إلى الديات ، ومن قال بدلالة النهي على الفساد فإنه يبني عليه في شتى مسائل الفقه.

ونظرا لهذه الاهمية : جمعوا هذه المباحث في علم مستقل ، أسموه ( اصول الفقه ) وأفردوا له مصنفات على حدة.

ولقد كان جهدهم في هذا المجال جبارا وموفقا ، حيث قد تمخض عن مصنفات رائعة ومؤلفات فائقة ، فكانت ( الذريعة ) للسيد الاجل المرتضى ، و ( العدة ) لشيخ الطائفة الطوسي ، و ( المعارج ) للمحقق ، و ( النهاية ) و ( التهذيب ) و ( المبادئ ) للعلامة ، ومقدمة ( المعالم ) للشيخ أبى منصور ، علاوة على ما فقد منها وأتلف فيما أتلف من التراث الاسلامي نتيجة تسلط الجهلاء والطائفيين ، وحكومتهم على رقاب المسلمين.

وفي طليعة المصنفات الاصولية يأتي كتابنا هذا فهو من خيرة التراث الامامي الزاهر ، الباعث على الفخر والاعتزاز. وسنأتي فيما بعد على بيان ميزاته وخصائصه وقيمته العلمية ، بما يجعله حريا بالتحقيق والبحث ، جديرا بالدراسة والتحليل.

* * *

٨

مع المصنف

٩
١٠

لسنا بصدد وضع ترجمة مطولة للمصنف ، فإن لهذا الفن أهله ورجاله ، وإنما نعرض بايجاز إلى ملامح من حياته ومكانته العملية ، مع حصر مؤلفاته ، لنفرغ للكلام عن ( الوافية ) نفسها.

وقد ترجم للمصنف كل من عني بتراجم علماء الشيعة الامامية وفقهائهم ، وفي طليعتهم :

١ ـ معاصره ، المحدّث ، صاحب الوسائل ، الشيخ محمد بن الحسر الحرّ العاملي ( ت ١١٠٤ هـ ) في كتابه : أمل الآمل / القسم الثاني / برقم ٤٧٧ / ص ١٦٣.

٢ ـ ومعاصره الآخر ، الميرزا عبدالله الافندي الاصبهانى ( من أعلام القرن الثاني عشر هـ ) في كتابه : رياض العلماء وحياض الفضلاء : ٣ / ٢٣٧ ـ ٢٣٨.

٣ ـ والميرزا محمد التنكابني ( ت ١٣٠٢ هـ ) في كتابه : قصص العلماء / ص ٢٦٩ ـ ٢٧٠ ( فارسي ).

٤ ـ والمولوي الميرزا محمد علي الكشميري ( ت ١٣٠٩ هـ ) في كتابه : نجوم السماء في تراجم العلماء / ص١٩٣.

٥ ـ والميرزا السيد محمد باقر الموسوي الخونساري الاصبهاني ( ت ١٣١٣ هـ ) في كتابه : روضات الجنات في أحوال العلماء والسادات : ٤ / ٢٤٤ ـ ٢٤٦.

٦ ـ والمحدث الشيخ عباس القمّي ( ت ١٣٥٩ هـ ) في كتابيه : الكنى والالقاب : ٢ / ١١٣ و : الفوائد الرضوية في أحوال علماء مذهب الجعفرية / ص ٢٥٥.

٧ ـ والسيد محسن الأمين العاملي ( ت ١٣٧١ هـ ) في كتابه : أعيان الشيعة : ٨ / ٧٠.

٨ ـ والميرزا محمد علي المدرس ( ت ١٣٧٣ هـ ) في كتابه : ريحانة الأدب في تراجم المعروفين بالكنية أو اللقب : ١ / ٣٥٦ ( فارسي ).

١١

٩ ـ والشيخ آقا بزرك الطهراني ( ت ١٣٨٩ هـ ) في كتابه : طبقات أعلام الشيعة /القرن الحادي عشر/ص٣٤٢.

١٠ ـ وعمر رضا كحالة ( ت ١٤٠٨ هـ ) في كتابه : معجم المؤلفين : ٦ / ١١٣.

ونجمل ما جاء عنه ، تحت العناوين التالية :

عنوانه في كتب التراجم والاصول :

عنونه الشيخ الحرّ العاملي ب‍ : « مولانا عبدالله بن محمد التوني البشروي ».

وذكره بهذا العنوان أيضا : الميرزا عبدالله الافندي ، والسيد الخونساري ، وزاد الافندى : « المعروف بملا عبدالله التونى ».

وذكره السيد الأمين بعنوان : « المولى عبدالله بن الحاج محمد التوني البشروي الخراساني ».

وعرفه التنكابني ـ بالفارسية ـ ب‍ : « آخوند ملا عبدالله توني ».

وسماه الشيخ الطهراني ب‍ : « عبدالله البشروئي بن محمد التوني الخراساني ، صاحب الوافية ».

وقال المحدّث القمّي في كتابه الكنى والالقاب : « التوني : إذا وصف به الفاضل ، فهو : المولى عبدالله بن محمد التوني البشروي ».

وبهذا العنوان ـ أي : الفاضل التوني ـ ينعت في كتب الاصول ، كما سيمر عليك.

عصره :

لم يسجل مترجموه تاريخ ولادته. أما وفاته : فقد قال السيد الخونساري : « نقل عن خط الشيخ أحمد ـ أخي المصنف ـ أنه كتب على ظهر بعض نسخ ( الوافية ) ما هذا صورته : قد وقع فراغ المصنف ، قدس الله روحه وأسكنه حضيرة القدس مع أوليائه وأحبائه ، من تسويد الرسالة ـ التي جمعت بدائع التحقيق وودائع التدقيق ـ ثاني عشر أول الربيعين من شهور سنة تسع وخمسين وألف من الهجرة ، وروح الله

١٢

روحه في سادس عشر ذلك الشهر بعينه من شهور سنة إحدى وسبعين وألف ... ».

وقال العلامة الطهراني : « توفي في سنة ١٠٧١ هـ كما يظهر ذلك من النسخة التي كتبها علي أصغر بن محمد حسين السبزواري ١١١١ هـ الموجودة في ( مكتبة الامام أمير المؤمنين عليه‌السلام العامة ) ـ في النجف الاشرف ـ وهي منقولة عن خط أخيه أحمد بن محمد ».

وسيأتي أنه فرغ من تصنيف هذا الكتاب سنة ( ١٠٥٩ هـ ).

وقد نص الشيخ الحرّ العاملي ( ت ١١٠٤ هـ ) على معاصرته له.

موطنه ومدفنه :

قال الميرزا الافندي : « كان قدس‌سره أولا بأصبهان مدة ، في المدرسة المشهورة بمدرسة المولى عبدالله التستري المرحوم ، ثم سافر إلى مشهد الرضا عليه‌السلام ، وتوطن فيه مدة ، ثم أراد التوجه إلى العراق لزيارة الائمة عليهم‌السلام بها من طريق قزوين ، وأقام مدة في قزوين مع أخيه المولى أحمد ، في أيام حياة المولى الفاضل مولانا خليل القزويني بالتماسه ، وكان بينهما صحبة ومودة ، ثم توجه إلى الزيارة فأدركه الموت في الطريق بكرمانشاه ، ودفن بها ، ولعل وفاته بعد المراجعة فلاحظ.

والتوني : ـ بضم التاء المثناة ، ثم الواو الساكنة ، وآخرها نون ـ نسبة إلى تون ، وهي بلدة من بلاد قهستان بخراسان (١) ، وبها قلعة الملاحدة الاسماعيلية ، وأنا دخلت تلك البلدة ، وكان أهلها يقولون إن هذه القلعة هي القلعة التي حبس بها الخواجه نصير الطوسي بأمر سلطان الملاحدة فلاحظ قصته.

والبشروي : ـ بضم الباء الموحدة ، والشين المعجمة الساكنة ، ثم الراء المهملة المفتوحة وآخرها الواو ثم الياء ـ نسبة إلى ( بشرويه ) ـ بضم الباء الموحدة ، ثم الشين المعجمة الساكنه ، ثم الراء المهملة المضمومة ثم الياء المثناه المفتوحة ، ثم الهاء أخيرا

__________________

١ ـ وتعرف اليوم بفردوس على ما في بعض معاجم اللغة الفارسية.

١٣

ـ وهي قرية كبيره من أعمال بلدة ( تون ) ... ».

قال الشيخ الطهراني [ الذريعة : ٦ / ٢٣٠ ] : « وعقبه في بشرويه ـ من محال خراسان ـ معروفون إلى اليوم ».

وقال السيد الخونساري : « ونقل عن خط الشيخ أحمد ـ أخي المصنف ـ انه كتب على ظهر بعض نسخ الوافية ما هذه صورته : قد وقع فراغ المصنف ... وروح الله روحه في سادس عشر ذلك الشهر بعينه من شهور سنة إحدى وسبعين وألف في بلدة كرمانشاهان حين توجهه إلى زيارة ساداته سلام الله عليهم أجمعين. ودفن عند القنطرة المشهورة بـ ( بل شاه ) عند منتهى القبور ، عن يمين الطريق ، وبني على قبره قبة ليعرف بذلك. وقد أمر بتلك القبة الحاكم العامل العادل قدوة أمراء الزمان وأسوة خوانين الدوران الشيخ علي خان أيده الله سبحانه. وكتب أخوه الوحيد المنتظر لامر الله أحمد بن حاجي محمد البشروي الخراساني حامدا مصليا مسلما. انتهى ».

ووصفه الشيخ الحرّ العاملي بأنه « ساكن المشهد » والمراد بها مدينة مشهد الامام الرضا عليه‌السلام المعروفة باسم ( خراسان ) التي ينسب اليها المصنف أيضا.

زهده وتقواه ، ودوره في تهذيب المجتمع :

قال عنه الشيخ الحرّ العاملي : « صالح زاهد عابد ».

وأكد ذلك سائر من ترجم له.

وأضاف الميرزا الافندى : « وهذا المولى ـ على ما سمعناه ممن رآه ـ كان من أورع أهل زمانه وأتقاهم ، بل كان ثاني المولى أحمد الاردبيلي رضوان الله عليه.

وكذلك كان أخوه المولى أحمد التوني ».

ثم قال في معرض حديثه عن بلدة بشروية : « وقد دخلتها وكان أهلها ببركة هذا المولى وأخيه المولى أحمد كلهم صلحاء أتقياء عباد على أحسن ما يكون ».

مع الشاه عباس الصفوي :

يحكي لنا التنكابني قصة للمصنف مع سطان عصره الشاه عباس الصفوي ،

١٤

يبدو لنا من خلالها عدة أمور هامة :

أولا : المكانة العلمية والاجتماعية للمصنف ، وألتي أهلته لان يقصده بالزيارة سلطان الوقت بنفسه. وهذا مؤشر واضح على سمو مرتبته العلمية والاجتماعية ، فان من المعلوم ان سلاطين العصر يزارون ولا يزورون. ولكن تنتقض هذه القاعدة وتخصص بالعلماء الكبار الذين يحتلون المرتبة الدينية العليا ويختصون بلقب المرجع والمقلد والمفتي ، فهؤلاء يركع السلاطين على أبوابهم كرامة من الله تعالى لمن يبلغ رسالته ويقوم بأعباء حمل شريعة سيد المرسلين.

وثانيا : تعفف المصنف عن طلب أي أمر دنيوي ، مما يعكس لنا اخلاصه التام لله تعالى ، والصفاء في النية إليه ، وهذا هو شأن علماء الامامية والطابع العام لهم قاطبة ، فقد سجل التأريخ لهم سيرة منزهة عن كل أنواع التقرب والتودد إلى ملوك العصر إلا ما كان من ذلك لمصلحة الدين وحفظ بيضة الاسلام والمسلمين.

وثالثا : اهتمام المصنف بحث المجتمع على تعلم العلوم الالهية والتفقه في الدين الموصل إلى معرفة الله وطاعته.

يقول التنكابني (١) : « ذكر أن الشاه عباس جاء يوما إلى زيارة الآخوند الملأ عبدالله التوني ، وكان الآخوند التوني قد شيد مدرسة دينية ولكن لم يكن قد التحق بها أحد من الطلاب بعد.

وبعد أن اطلع السلطان على تلك المدرسة وتجول فيها ، سأل الملأ عبد الله عن السبب في عدم التحاق الطلاب بها وعدم توجه الناس إلى التلمذ فيها ، فقال له الملأ عبدالله سأجيبك على هذا السؤال فيما بعد.

ثم قام الآخوند بعد ذلك بمدة بزيارة الشاه عباس ـ ردا له على زيارته ـ وبعد انتهاء التشريفات والمحادثات ، طلب الشاه عباس إلى الآخوند الملأ عبدالله بأن يأمره بما يشاء. فرد عليه الآخوند بان ليس له من حاجة. فألح الشاه عباس عليه بذلك. فقال الآخوند اذا كان ولا بد فحاجتي أن أركب وأن تسير ماشيا بين يدي في

__________________

١ ـ النص مترجم عن الفارسية.

١٥

الملأ العام بقلب المدينة. فسأله الشاه عباس عن الغرض من ذلك. فقال الآخوند : سأجيبك على هذا بعد مضي مدة من الزمان.

............................................................................ لذا فان الشاه عباس امتثل هذا الامر ولبى له هذا الطلب. فركب الآخوند التوني ومشى الشاه عباس بين يديه مسافة في وسط المدينة بمرآى من الملأ العام ، ثم ودعه الآخوند وانصرف.

وبعد مرور مدة من الزمان قام السلطان الشاه عباس ثانية بزيارة الآخوند الملأ عبدالله في مدرسته المذكورة فرآها حاشدة بالتلاميذ. فاستفسر عن امتلائها بذلك العدد الكبير وعن خلوها قبل ذلك فأجابه الآخوند بان السبب في خلوها من الطلاب فيما سبق بعود إلى ما كانوا عليه من الجهل بفضيلة العلم ومنزلة العالم ، لذا لم يتوجه أحد إلى مدرستي لطلب العلم ، وبعد أن رأوا منك ذلك الاحترام والتقدير للعلماء حين مشيت بين يدي وأنا راكب في الملأ العام عرفوا ذلك فانثالوا على المدرسة لنيل شرف العلم ، وهذا هو الذي دعاني أن اطلبك منك ذلك ، وهذه هي غايتي منه ، فلما أن فعلت ذلك علموا أن للعلم منزلة كبيرة في الدنيا حتى أن السلطان يترجل بين يدي العالم.

لذا فانهم جاؤوا طلبا للعزة الدنيوية والمكانة الاجتماعية ، ولكنهم بعد أن سيطوون بعض مراحل العلم وسيتضيئون بنوره ، ستخلص نواياهم لله تعالى ، وتحصل لهم نية القربة له ، التي هي الغاية الاخيرة للعلم ولجيمع العبادات ، كما ورد في الخبر : « اطلبوا العلم ولو لغير الله فإنه يجر إلى لله » ، ويكونون مصداقا لمقولة : « المجاز قنطرة الحقيقة ».

مكانته العلمية واطراء العلماء إياه :

نعته الشيخ الحرّ العاملي بقوله : « عالم ، فاضل ، ماهر ، فقيه ».

ووصفه الفقيه المتبحر ، المحدّث الشيخ يوسف البحراني ( صاحب الحدائق ) عند التعرض لبعض آرائه في كتابه ( الدرر النجفية ) في درة

١٦

الاستصحاب ص ٣٤ بعنوان « بعض أصحابنا المحققين من متأخري المتأخرين ».

ويذكره مجدد علم الاصول الشيخ الانصاري ـ الذي لم نعهد منه السخاء في الاطراء واطلاق السمات العلمية إلا على آحاد العلماء ـ بعنوان ( الفاضل التوني ) عند نقل آرائه في موارد مختلفة من فرائده ، كما سيأتي.

وبهذا اللقلب يذكره أساتذة الحوزات العلمية في مجالس تدريسهم وفي تقريرات أبحاثهم.

وسيأتي مزيد من الحديث عن مكانته العلمية.

مصنفاته :

١ ـ شرح الارشاد ، في الفقه.

ذكره له الشيخ الحرّ العاملي.

قال السيد الخونساري : « ولم يتيسر لنا إلى الآن الوقوف على شرح ارشاده ».

وأصل الكتاب : ( ارشاد الأذهان ) للعلامة الحلي.

٢ ـ رسالة في الاصول.

ذكرها له أيضا ، الشيخ الحرّ العاملي.

قال السيد الخونساري : « وأما رسالته الاصولية فهي كتابه الموسوم بالوافية في اصول الفقه ، ونسخه متداولة بين الطلاب ». ولكن السيد الأمين عد الرسالة كتابا آخر غير الوافية.

وهو كتابنا هذا وهو الاثر الوحيد الباقي له ، وسيأتي الكلام عنه.

٣ ـ رسالة في الجمعة.

ذكرها له الشيخ الحرّ العاملي أيضا.

قال الميرزا الافندى : « هذا المولى أحد القائلين بالمنع من صلاة الجمعة في زمن الغيبة ، ورسالته المذكورة مؤلفة في هذا المعنى ». ومثله ذكر السيد الخونساري.

٤ ـ حاشية على معالم الاصول.

١٧

ذكرها له الميرزا الافندى ، ووصفها بأنها : « حسنة ».

وقال السيد الخونساري عنها بأنها : « جيدة جدا ».

والاصل : معالم الدين وملاذ المجتهدين. المحتوي في مقدمته على أبحاث علم الاصول ، وتعرف ب‍ ( اصول المعالم ) و ب : ) معالم الاصول ) ، للمحقق الشيخ حسن الجبعي العاملي نجل الشهيد الثاني.

٥ ـ تعليقات على المدارك.

ذكرها له الميرزا الافندي ، والسيد الخونساري ، ووصفها الاخير بأنها كحاشيته على المعالم في الجودة.

والاصل : مدارك الاحكام. للسيد محمد بن علي الموسوي العاملي ، في شرح شرائع الاسلام للمحقق الحلي.

٦ ـ حاشية علي إرشاد العلامة.

ذكرها له الميرزا الافندي ، ثم قال : « والظاهر أنها بعينها شرحه المذكور » المتقدم برقم (١). وتابعه في ذلك السيد الخونساري.

٧ ـ فهرست لتهذيب الاحكام لشيخ الطائفة الطوسي.

ذكره هو لنفسه في الوافية ـ كتابنا هذا ـ في آخر البحث الثاني من المقصد الثاني من الباب الثاني ، وهو مبحث جواز التمسك بالعام قبل الفحص عن مخصصه ، حيث قال : « وينبغي في فحص مخصص العام المتعلق بشيء من مسائل الطهارة ملاحظة كل واحد من أبوابها في التهذيب ، وكذا الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها ، سيما باب الزيادات والنوادر في كل منها ، والاحسن ملاحظة الابواب المناسبة في الكتب الاخر أيضا ـ إلى أن قال : ـ وقد تكفل بجميع ذلك وغيره ، الفهرست الذي جعلته على التهذيب ، وهو من أهم الاشياء لمن يريد الفقه والترجيح ، ولم يسبقني إليه أحد ، والحمد لله » فلاحظ كل كلامه.

وعلق على هذا السيد الخونساري بقوله : « وهو كما قال ، وفوق ما نقول ».

* * *

١٨

ابتكاراته العلمية :

الملفت للنظر في شخصية المؤلف هو روح الابتكار لديه ، وهي صفة حرية بالتقدير والدراسة ، فإن الكثير من اهل العلم والمعرفة يخوض غمار المسائل التي طرحت قبله من دون أن يستطيع الخروج من الدائرة التي رسمها من تقدم عليه ويبقى نطاق تفكيره وأفق ابحاثه محصورا في نفس تلك الخطوط العريضة المقررة عليه.

ويبقى عدد المبتكرين والنوابغ نزرا.

ونعتقد أن المصنف رحمه‌الله من اولئك الآحاد ، وإنما خفي ذكره ولم يشتهر أمره لعدّة عوامل أحدها ضياع جل مؤلفاته ، لاسباب لا نعرفها ، وقد تكون عامة ، وهي التي أودت بالكثير من تراث المذهب الامامي الضخم على ما نقرأه في تراجم اعلامنا ، فما من علم من الاعلام إلا وقد ضاع له أكثر من كتاب.

هذا أحد العوامل ، ونطوي كشحا عن سائرها.

ومما يحدو بنا إلى هذا الاعتقاد هو صنعته الفهرس على التهذيب ، فهو عمل جديد من نوعه بالقياس إلى المرحلة الزمنية ، والثقافية التي عاشها ، فقد وجدنا الكثير من المصنفين والمؤلفين على مرور أدوار علوم الفقه والاصول والحديث وغيرها ، ولكن يأتي هذا المصنف أو ذاك ويصنف على غرار من قبله حتى ليضع عناوين الابواب والفصول ، بل حتى نص المسألة ، وكأنه ينسخها ممن تقدم عليه نسخا. في هذا الجو ، وفي هذه الروح التقليدية نطالع اسم الفاضل التوني وهو يقوم بوضع ( الفهرس ) على التهذيب ويجمع شوارده ، ليرجعها إلى مقرها المناسب ، وهو بذلك يقوم بعمل جديد من نوعه ، فهو عمل تكميلي واصلاحي للموسوعة الحديثية البارعة لشيخ الطائفة وعمادها الشيخ الطوسي قدس‌سره.

ولهذا الفهرس دلالة اخرى ، فهو يعكس سعة باعه في كل من الفقه والحديث ، إذ من الواضح لأهل هذا الفن ما يتطلبه هذا العمل من مؤهلات.

والمؤشر الآخر على عقليته الابتكارية هي المنهجية الجديدة التي مشى عليها

١٩

في كتابه ( الوافية ) حيث وضع للمباحث الاصولية تبويبا لم نعهده عند المتقدمين عليه ، كما سيمر عليك.

وانفرد بعدة آراء لم يسبقه اليها أحد.

وقد اشار السيد الخونساري إلى ذلك حيث قال : « وله في الاستصحاب ومباحث التعادل والتراجيح تفريعات وفوائد نادرة وتصرفات كثيرة لم يسبقه اليها أحد من الاصوليين ».

وسنذكر طرفا آخر من ابداعاته في الكفر الاصولي عند حديثنا عن كتابه ( الوافية ).

اهتمام المتأخرين بآرائه :

ليس لدي الآن الفرصة الكافية لاعطاء هذا البحث حقه ، وإنما ادون ههنا ما استحضره ، وما سبق لي أن اعددته :

ينحصر طريق تقييم الفاضل التوني بكتابه الوافية بعد أن كانت بقية مصنفاته في قائمة الكتب المفقودة.

مع أنه ليس بالاثر القليل رغم حجمه القليل.

فلقد افرغ في كتابه هذا ثقلا علميا كبيرا ، وخصه بامتيازات هامة. حتى أصبحت آراؤه المطروحة فيه مدارا للبحث والمناقشة لدى الرعيل الاول من علماء الاصول إلى وقتنا الحاضر.

فقد اهتم الشيخ الانصاري بافكاره وتحقيقاته متعرضا لآرائه بالمناقشة والبحث ، ناقلا نص عبارته في بعض الموارد ، وإليك التفصيل :

١ ـ تعرض إلى ما استظهره من مذهب المتقدمين في حجية خبر الواحد ، فقد نقل عبارته في الوافية ، ثم علق عليها بالتعجب.

قال قدس‌سره في الفرائد : ١٠٩ : « بل في الوافية أنه : لم يجد القول بالحجية صريحا ممن تقدم على العلامة ، وهو عجيب ».

٢ ـ حكى استدلاله بالدليل العقلي على حجية خبر الواحد ، وجعله الوجه

٢٠