الوافية في أصول الفقه

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني

الوافية في أصول الفقه

المؤلف:

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني


المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١

أحمد المتوج البحراني في كتاب كفاية الطالبين (١).

الثاني : علم البيان.

ولم يفرق أحد بينه وبين علم المعاني في الشرطية والمكملية إلا ابن جمهور (٢) ، فإنه عد علم المعاني من المكملات ، وسكت عن البيان وعلل ب‍ : أن أحوال الاسناد الخبري ، إنما يعلم فيه ، وهو من المكملات للعلوم العربية.

الثالث : علم البديع

ولم أجد أحدا ذكره إلا ما نقل عن الشهيد الثاني في الكتاب المذكور (٣) ، وصاحب كفاية الطالبين (٤) ، فإنهما عدا العلوم الثلاثة أجمع في شرائط الاجتهاد.

والحق : عدم توقف الاجتهاد على العلوم الثلاثة ، أما على تقدير صحة التجزي : فظاهر ، وأما على تقدير عدم صحة التجزي : فلان فهم معاني العبارات لا يحتاج فيه إلى هذه العلوم ، لان في هذه يبحث عن الزائد على أصل المراد.

فإن المعاني : علم يبحث فيه عن الاحوال التي بها يطابق الكلام لمقتضى الحال ، كأحوال الاسناد الخبري ، والمسند إليه والمسند ومتعلقات الفعل ، والقصر والانشاء ، والفصل والوصل ، والايجاز والاطناب والمساواة.

وبعض مباحث القصر والانشاء المحتاج إليه يذكر في كتب الاصول.

والبيان : علم يعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة. وما يتعلق

__________________

١ ـ كفاية الطالبين ص ٣٨ من مخطوطة محفوظة برقم ٢٨٠٥ ، و : الصفحة قبل الاخيرة من مخطوطة اخرى محفوظة برقم ٧٢١٢ ، و : الصفحة قبل الاخيرة أيضا من مخطوطة ثالثة محفوظة برقم ٢٥٣٨ ، ثلاثتها من نفائس مكتبة ( آستان قدس رضوي ) في مشهد ـ ايران.

٢ ـ كاشفة الحال عن احوال الاستدلال / ورقة ٨ أ / من مخطوطة محفوظة برقم ٤٧٠٠ في مكتبة آية الله العظمى النجفي المرعشي العامة بقم ـ ايران ، و : ورقة ٤ أ / من مخطوطة أخرى محفوظة ضمن مجموعة برقم ٦٣٢٢ في المكتبة المذكورة.

٣ ـ منية المريد : ٢٢٥.

٤ ـ اشرنا إلى المأخذ آنفا.

٢٨١

بالفقه من أحكام الحقيقة والمجاز مذكور في كتب الاصول أيضا.

والبديع : علم يعرف به وجوه محسنات الكلام. وليس شيء من مباحثه مما يتوقف عليه الفقه.

نعم ، لو ثبت تقدم الفصيح على غيره ، والافصح على الفصيح ، في باب التراجيح ـ أمكن القول بالاحتياج إلى هذه العلوم الثلاثة لغير المتجزي ، وله ـ في بعض الاحيان ـ إذ فصاحة الكلام وأفصحيته مما لا يعلم في مثل هذا الزمان إلا بهذه العلوم الثلاثة ، وكذا على تقدير تقدم الكلام الذي فيه تأكيد أو مبالغة على غيره ، وسيجيء الكلام على هذه الامور في باب التراجيح إن شاء الله تعالى ، ولكن لا شك في مكملية هذه العلوم الثلاثة للمجتهد.

الرابع : بعض مباحث علم الحساب ، كالاربعة المتناسبة ، والخطأين والجبر والمقابلة (١) ، وهو أيضا مكمل وليس شرطا ، أما في المتجزي : فظاهر ، وأما في غيره : فلانه ليس على الفقيه إلا الحكم باتصال الشرطيات ، وأما تحقيق أطراف الشرطية فليس في ذمته ، مثلا : عليه أن يحكم بأن من أقر بشيء فهو مؤاخذ به ، وليس عليه بيان كمية المقربه في قوله : ( لزيد علي ستة إلا نصف ما لعمرو ، ولعمرو علي ستة إلا نصف ما لزيد ) مثلا ، فتأمل.

الخامس : بعض مسائل علم الهيأة ، مثل ما يتعلق ، بكروية الارض ، للعلم بتقارب مطالع بعض البلاد مع بعض أو تباعدهما ، وكذا لبعض مسائل الصوم ، مثل : تجويز كون الشهر ثمانية وعشرين يوما بالنسبة إلى بعض الاشخاص.

السادس : بعض مسائل الهندسة ، كما لو باع بشكل العروس مثلا (٢).

__________________

١ ـ تجد توضيح هذه المصطلحات في : مفتاح السعادة : ١ / ٣٧٠ ، و : ابجد العلوم : ٢ / ٢٦٣.

٢ ـ شكل العروس ـ عند القدماء من علماء الهندسة ـ عبارة عن : كل مثلث قائم الزواية ، فان مربع وتر زاويته القائمة يساوي مربعي ضلعيها وإنما سمي به لحسنه وجماله. انظر : كشاف اصطلاحات الفنون : ١ / ٧٨٥.

٢٨٢

السابع : بعض مسائل الطب ، كما لو احتاج إلى تحقيق ( القرن ) ونحوه.

وليست هذه العلوم محتاجا إليها ، لما عرفت ، وإلا لزم الاحتياج إلى بعض الصنائع ، كالعلم بالغبن ، والعيوب ، ونحو ذلك.

الثامن : فروع الفقه.

ولم يذكره الاكثر في الشرائط.

والحق : أنه لا يكاد يحصل العلم بحل الأحاديث ومحاملها بدون ممارسة فروع الفقه.

التاسع : العلم بموقع الاجماع والخلاف ، لئلا يخالف الاجماع.

وهذا شرط لا يستغني غير المتجزي عنه ، وهذا العلم إنما يحصل في هذا الزمان بمطالعة الكتب الاستدلالية الفقهية ، ككتب الشيخ ، والعلامة ، ونحوها.

العاشر : أن تكون له ملكة قوية ، وطبيعة مستقيمة ، يتمكن بها من رد الجزئيات إلى قواعدها الكلية ، واقتناص (١) الفروع من الاصول ، وليس هذا الشرط مذكورا في كلام جماعة من الاصوليين.

وتحقيق المقام : أن الدليل النقلي إذا كان ظاهرا أو نصا في معناه ، ولم يكن له معارض ، ولا لازم غير بين ، ولا فرد غير بين الفردية ، فلا يحتاج الحكم بمعناه والعمل به إلى هذا الشرط ، بل تكفي الشرائط السابقة ، مثلا : في العلم بأن الكر من الماء لا ينجس بمجرد ملاقاة النجاسة ، من قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء قدر كر (٢) لم ينجسه شيء » (٣) ـ لا يحتاج إلى أكثر من العلم بمعاني

____________

١ ـ في ب : اقتباس.

٢ ـ كذا في ب ، وفي سائر النسخ : كرا. بدل : قدر كر.

٣ ـ كذا الحديث في النسخ ، والمروي : « إذا كان الماء ... إلى آخره » الكافي : ٣ / ٢ ـ كتاب الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شيء / ح ١. التهذيب : ١ / ٣٩ ـ ٤٠ / ح ١٠٧ ـ ١٠٩. نعم روى في غوالي اللآلي : ١ / ٧٦ و : ٢ / ٦ : « اذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا ».

٢٨٣

مفردات هذا الحديث من اللغة والصرف ، وبالهيأة التركيبية من النحو ، وهذا ضروري.

وأما عند وجود المعارض : فيحتاج إلى الملكة المذكورة للترجيح ، وكذا للعلم باللوازم غير البينة ، كالحكم بوجوب المقدمة ، والنهي عن الاضداد عند الامر بالشيء ، وبمفهوم الموافقة والمخالفة ، ونحوها ، وربما يحتمل كفاية العلم بالمطالب الاصولية لهذا القسم.

والعمدة في الاحتياج إلى الملكة إنما هو للحكم بفردية ما هو غير بين الفردية للكلي المذكور في الدليل ، أو لمعارضه ، أو لمقدمته ، أو لضده ، أو نحو ذلك.

مثلا : للعلم باندراج الكر الملفق من نصفين نجسين مع عدم التغير ـ في الحديث المذكور ، حتى يحكم بصيرورته طاهرا ، أو بعدم اندراجه فيه ، فيحكم ببقائه على النجاسة ، يحتاج إلى تأمل تام وفهم ذكي (١).

وكذا في اندراج من عنده من الماء ما لا يكفيه للوضوء إلا مع مزجه بمضاف لا يسلبه الاطلاق ، في : ( غير الواجد للماء ) فيصح تيممه ، أو في نقيضه : وهو ( الواجد للماء ) فيبطل تيممه.

وكذا في اندراج الخارج من بيته للسفر قبل حد الترخص ـ في ( الحاضر ) فيتم الصلاة ـ أو في ( المسافر ) فيقصر.

وكذا في اندراج حاج في طريقه عدو ، لا يندفع إلا بمال ، وهو يقدر على ذلك المال ـ في ( المستطيع ) فيجب عليه الحج ، أو عدم اندراجه فيه فلا يجب.

وهذا القسم من الكثرة بحيث لا يعد ولا يحصى ، ومعظم الخلافات بين الفقهاء يرجع إلى هذا ، ولا شك في أن العلم (٢) بهذا القسم ـ ليعمل لنفسه ،

__________________

١ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : زكي.

٢ ـ في الاصل : للعلم ، وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.

٢٨٤

أو ليفتي غيره ـ يحتاج إلى ملكة قوية ، وفهم ذكي (١) ، وطبع صفي.

ويجب الاجتناب في الحكم بأن هذا الشيء الجزئي فرد لهذا الكلي ومندرج فيه ـ عن الاعتماد على الظنون الضعيفه والناشئة عن الهوى النفساني ، وينبغي أن يختبر نفسه في الاستقامة بمجالسة العلماء ، ومذاكرتهم ، وتصديق جماعة منهم باستقامة طبعه ، بحيث يحصل له الجزم بسببه بعدم اعوجاجه في الاغلب ، وإلا فلا يعتمد على اعتقاداته في الاحكام التي من هذا القبيل ، وربما قيل : بجواز الاعتماد على شهادة عدلين خبيرين (٢) بذلك ، وهو محل تأمل مع عدم حصول الجزم من شهادتهما بانتفاء القرائن.

فإن قلت : اعتبار هذا الشرط يستلزم عدم العلم بوجود المجتهد ، والتالي باطل ، فكذا المقدم.

أما بيان الملازمة : فلان الملكة المذكورة أمر غير منضبط (٣) ، لانه لا يكاد يتفق إثنان فيها ، لاختلاف الطبائع غاية الاختلاف ـ فليس ههنا مرتبة معينة يمكن أن يقال : إن (٤) من له هذه المرتبة مجتهد دون من هو دونها ـ فلا يمكن تحصيل العلم باجتهاد أحد.

وأما بطلان التالي : فلانه لا تتم التكاليف في مثل هذا الزمان بدون العلم بالاجتهاد ، إذ غير المجتهد لا يجوز له العمل باعتقاداته ، ولا يجوز لغيره العمل بقوله ، لما مر من الادلة على اعتبار كل شرط من الشرائط المذكورة للعمل بالاحكام الشرعية.

وأيضا : اعتبار هذا الشرط يستلزم عدم وجوب الاجتهاد كفاية ، والتالي باطل.

__________________

١ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : زكي.

٢ ـ كذا في ب و ط ، وفي الاصل وأ : خيرين.

٣ ـ ذهب إلى ذلك المحدّث الاسترآبادي : الفوائد المدنية : ٩٣ / الوجه الثامن.

٤ ـ كلمة ( إن ) : زيادة من ط.

٢٨٥

بيان الملازمة : أن هذه الملكة أمر موهبي من الله تعالى ، لا يمكن اكتسابه ، وإن أمكن تقويته في الجملة بالكسب ، فإنا نرى جماعة لا يمكنهم تحصيل مسائل لها عراقة في النظرية في الجملة ، وإن صرفوا أعمارهم في تحصيلها ، بل نشاهد جماعة لا يمكنهم إلا تحصيل قليل من النظريات بعد الكد التام والسعي البليغ ، فعلم أن هذه الملكة مما لا تحقق لها في أكثر الناس ، فلم يكن الاجتهاد واجبا عليهم ، وإلا لزم التكليف بما لا يطاق.

وأما بطلان التالي : فلانهم بين قائل بوجوبه العيني ، كما نقله الشهيد في الذكرى عن قدماء أصحابنا وفقهاء حلب (١) ، وبين قائل بوجوبه الكفائي ، ومن خواص الواجب الكفائي إثم الكل بتركه.

لا يقال : الاجتهاد ليس واجبا كفائيا بالنسبة إلى المكلفين ، بل بالنسبة إلى صاحبي الملكة ، فعلى تقدير انتفائه لا يلزم إلا إثم صاحبي الملكة المذكورة.

لانا نقول : شرط التكليف إعلام المكلف ، وقبل (٢) الاجتهاد لا يتميز صاحب الملكة عن غيره ، فلا يعلم أحد أنه مكلف بالاجتهاد (٣) ، لعدم علمه بأنه صاحب الملكة.

وأيضا : يلزم تأثيم ( غير المعين ) وإنه غير معقول ، كما صرحوا به في تحقيق الواجب الكفائي.

وأيضا : هذا الجواب خلاف ما صرحوا به من تأثيم الكل بترك الاجتهاد.

والجواب الحق عن كلا البحثين : أنا ما أدعينا اعتبار الملكة المذكورة في مطلق المجتهد بل اعتبرناها في المجتهد المطلق ، لما عرفت أن العلم بمعاني الادلة

__________________

١ ـ الذكرى : ٢ / المقدمة / الاشارة الثانية. لكن فيه : بعض قدماء الامامية.

٢ ـ في الاصل : وقيل. وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.

٣ ـ في الاصل : الاجتهاد. وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.

٢٨٦

الشرعية ـ الناصة أو الظاهرة في معناها بلا معارض ـ غير محتاج إلى الملكة ، والاحتياج إليها إنما هو لاجل العلم بحكم التراجيح ، أو اللوازم غير البينة ، أو الجزئيات غير البينة الاندراج تحت القواعد الكلية ، ونحو ذلك.

فإن أراد المعترض بالاستغناء عن الملكة : الاستغناء في القسم الاول ، فنعم الوفاق.

وإن أراد : الاستغناء في هذه الاقسام الاخر ، فلا يخلو : إما إن أراد عدم الاحتياج إلى استعلام هذه الاقسام ، أو أراد عدم الاحتياج في استعلام هذه الاقسام إلى الملكة المذكورة :

فإن أراد الاول ، فبطلانه ظاهر ، فإنه كثيرا ما يقع الاحتياج إلى العلم بحال هذه الاقسام ، مثلا :

ربما نحتاج إلى أن نعلم أن نصفي كر من الماء كل منهما نجس ـ هل يطهران بمزجهما؟ أو لا؟ وهذا العلم لا يحصل إلا بأن نعلم هل هو مندرج في قوله عليه‌السلام : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا » (١)؟ أو لا؟ وهو يحتاج إلى الملكة المذكورة.

وكذا نحتاج إلى أن نعلم : أن الحاج متى كان في طريقه عدو لا يندفع إلا بمال ، وهو يقدر على إعطاء ذلك المال ـ هل هو داخل في ( المستطيع إلى الحج )؟ أو لا؟

وكذا نحتاج إلى أن (٢) نعلم : هل الدين المضيق يبطل الصلاة في أول الوقت؟ أو لا؟ إذ ظاهر : أن القول ببطلانها ، يتوقف على إتمام الدليل الدال على أن الامر بالشيء يستلزم النهي عن الضد الخاص. والقول بصحتها يتوقف على القدح في الدليل المذكور ، وكلاهما لا يتم بدون الملكة.

__________________

١ ـ غوالي اللآلي ١ / ٧٦ و ٢ / ٦.

٢ ـ كلمة ( أن ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢٨٧

ومثل هذه المسائل المحتاج إليها أكثر من أن يحصى.

وإن أراد الثاني ـ أي : عدم الاحتياج لاستعلام مثل هذه المسائل إلى الملكة المذكورة ـ فبطلانه من أجلى البديهيات ، لانا لا نعني بالملكة إلا حالة بها يتمكن من ترجيح أحد طرفي هذه المسائل ، فلا يتصور العلم بالنفي أو الاثبات في هذه المسائل إلا بالملكة ، فعلم أن الدليل على الاستغناء في هذه الاقسام شبهة في مقابل الامر القطعي.

وتفصيل الجواب عن الاعتراض الاول : منع استلزام اعتبار الملكة المذكورة في الاجتهاد المطلق ، عدم العلم بوجود المجتهد : أما في الاجتهاد والعلم بالاحكام التي هي من قبيل القسم الاول من القسمين المذكورين : فظاهر ، لانا لم نعتبرها فيه.

وأما في القسم الثاني : فلان الاطلاع على هذه الملكة ليس بمتعذر ، بل ولا بمتعسر غاية التعسر ، بل يمكن : بالمعاشرة.

وبإخبار الجماعة.

وبشهادة العدلين المطلعين على قوله (١).

وبنصب نفسه متعرضا للفتوى بمجمع خلق كثير ـ على ما قيل.

وبعرض ترجيحاته المخترعة على ترجيحات من هو معلوم أنه صاحب الملكة.

وبنحو ذلك ، كما سيجيء إن شاء الله في مسألة على حدة.

وعدم انضباط الملكة المذكورة ـ بمعنى : أن لها مراتب مختلفة ـ لا يوجب عدم العلم بها ، لان المراد بها : حالة يتمكن بها من رد الفروع إلى الاصول ، بحيث لا يقع الغلط منه غالبا ، ولها مراتب كثيرة ، المتصف بكل منها ممن يتعلق

__________________

١ ـ كذا في ب ، وفي سائر النسخ : قول.

٢٨٨

به أحكام المجتهد.

وعن الاعتراض الثاني : أيضا منع الملازمة ، والبيان الذي ذكره لم يكن دالا على نفي الوجوب الكفائي عن مطلق الاجتهاد ، إذ (١) قد عرفت مرارا عدم اعتبار الملكة المذكورة في العلم بالاحكام التي هي من قبيل القسم الاول من القسمين المذكورين آنفا.

فإن قلت : فهل الاجتهاد في الاحكام التي هي من قبيل القسم الثاني واجب؟ أو لا؟ قلت : يمكن أن يقال : إنه واجب كفائي بالنسبة إلى صاحب الملكة (٢).

قوله : « شرط التكليف إعلام المكلف ، وقبل الاجتهاد لا يتميز صاحب الملكة عن غيره » إلى آخره.

قلنا : قبل الاجتهاد في القسم الثاني من الاحكام ، وبعد الاجتهاد في القسم الاول ـ يتميز صاحب الملكة عن غيره بإحدى الطرق المذكورة سابقا ، ولا يلزم تأثيم غير المعين ، لان عدم التعيين قبل الاجتهاد ـ في القسم الاول من الاحكام ـ مستند إلى تقصيرهم من ترك الاجتهاد بالكلية ، وبعده يتحقق التعيين لو لم يقصروا بترك الفحص عن حالهم.

وتصريحهم إنما هو بتأثيم الكل بعدم الاجتهاد بالكلية ، فتأمل.

وقال مولانا محمد أمين الاسترآبادي : « الذي ظهر لي من الروايات : أن طلب العلم فريضة على كل مسلم في كل وقت ، بقدر ما يحتاج إليه في ذلك الوقت ، ولا يجب كفاية طلب العلم بكل ما تحتاج إليه الامة كما قالته العامة ـ لانه غير منضبط بالنسبة إلى الرعية ، والتكليف بغير المنضبط محال ، كما تقرر في الاصول في مبحث علة القياس ، بل يفهم من الروايات : أن علم الرعية

__________________

١ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : وإذ.

٢ ـ في أ و ط : صاحبي الملكة.

٢٨٩

بجميع ذلك من المحالات » انتهى (١).

وهم وتنبيه (٢) :

قد بالغ مولانا المدقق محمد أمين الاسترآبادي في إنكار الاجتهاد ، وزعم أن المجتهد فيه لا يكون إلا ظنيا ، وأحكامنا كلها قطعية ، لما مر من أن (٣) القرآن والسنة النبوية ، لا يجوز العمل بهما إلا بعد تحقق ما يوافقهما في كلام العترة الطاهرة ، وأخبار العترة الطاهرة كلها قطعية ، لما مر من الوجوه (٤).

وجوابه :

أولا : أن اشتراط كون المجتهد فيه ظنيا ، ليس إلا في كلام العامة والعلامة وقيل من أصحابنا. والاكثر منا : لم يذكروا الظن في تعريف الاجتهاد فقطعية الاحكام لا تنافي صحة الاجتهاد ، مع أنه في الحقيقة راجع إلى نزاع لفظي.

وثانيا : أنا لا نسلم قطعية صدور أحاديثنا (٥) كلها من المعصوم ، وقد مر الكلام فيه.

وبعد التسليم : لا يلزم قطعية الحكم ، بل قلما تبلغ دلالة الأخبار على

__________________

١ ـ الفوائد المدنية : ٢٤١.

٢ ـ في ط : تذنيب. بدل : وهم وتنبيه.

٣ ـ كلمة ( أن ) ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٤ ـ هذا هو خلاصة ما افاده المحدّث الاسترآبادي في الفوائد المدنية في موارد متعددة ، انظر : ص ٢٨ و ٤٠ و ٤٧ و ٤٩ و ٦٣ و ٩١ و ١٣٥ ـ ١٣٦ و ١٦٤ و ٢٥٣ منه.

٥ ـ في ط : قطعية أخبارنا.

٢٩٠

جميع ما يستفاد منها مرتبة القطع ، وهو في غاية الظهور.

وأيضا : شنع المذكور (١) على أكثر فقهائنا قدس الله ارواحهم ، بأنهم كانوا يفتون بمجرد آرائهم من غير دليل (٢).

وأنت قد عرفت : أن كثيرا من الاحكام من قبيل اللوازم (٣) غير البينة إلا بالتأمل والدليل ، ومن قبيل الجزئيات والافراد غير البينة الفردية ، ونحو ذلك.

ولما كان العلم باندراج هذه الفروع في اصولها ، يحتاج إلى طبيعة وقادة ، وقريحة نقادة (٤) ، تحصل للبعض دون البعض ـ لا يحسن لمن لا تحصل له ، الطعن على من حصلت فيه بأنه أفتى في الحكم الفلاني من غير دليل.

مثلا : ربما يتوهم أن القول بوجوب القصد بالبسملة إلى سورة معينة في الصلاة ، قول بالحكم الشرعي من غير دليل ، إذ لا نص يدل على ذلك الوجوب.

وهو باطل ، لان من قال به ، يقول : إنه قد وردت النصوص بوجوب قراء‌ة سورة كاملة ، ولا تتحقق السورة الكاملة إلا مع القصد المذكور ، لان البسملة لما كانت مشتركة ، لا تصير جزء‌ا إلا بالقصد.

والغرض : أن فتاوى الفقهاء كلها راجعة إلى أحد من الادلة التي هي واجبة الاتباع عندهم ، ولا أقول بامتناع الغلط والخطأ عليهم ، إذ غير المعصوم لا ينفك عن السهو والخطأ ، إذ أحد من العقلاء لم يجوز القول في الاحكام الشرعية من غير دليل ، ومعلوم : أن أدلة الشرع منحصرة ـ عند فقهاء الشيعة كلهم ، كما صرحوا به في جميع كتبهم الاصولية ـ في : القرآن ، والحديث الصحيح ، والاجماع الذي علم دخول المعصوم فيه ، والدلالة العقلية التي قد

__________________

١ ـ كلمة ( المذكور ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢ ـ الفوائد المدنية : ١٧٨ ـ ١٨٠ / الفصل الثامن / السؤال الحادي والعشرون.

٣ ـ في الاصل : اللزوم ، وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.

٤ ـ في ط : نفاده.

٢٩١

مر الكلام فيها.

والفتاوى الراجعة إلى الادلة العقلية ـ وهي : الاستصحاب ، وأقسام المفهوم ـ قليلة في كلامهم ، والمعظم من قبيل الجزئيات المندرجة تحت اصولها التي لا يمكن إرجاعها إلى أحد من الادلة العقلية.

والادلة عند معظم العامة : أيضا منحصرة في أشياء مخصوصة ، نعم قليل من أصحاب أبي حنيفة ... ، كانوا يعملون بالرأي ، ويسمون بأصحاب الرأي ، والظاهر : أنه إما العلم بالاستحسان ، أو المصالح المرسلة ، إذ لا يتصور غيرهما (١).

وكيف يتوهم من له أدنى شائبة من العقل أن معظم فقهائنا ـ كالمفيد ، والمرتضى ، والشيخ الطوسي ، وتلامذتهم ، والمحقق ، والعلامة ، وجميع المتأخرين ـ كانوا يعملون في الاحكام الشرعية بما لم يعمل به أكثر العامة أيضا ، فإن الفتاوى المذكورة في كتب العلامة ، والمحقق ، وغيرهما من المتأخرين ـ شذما يخلو عنها كتب الشيخ الطوسي ونظرائه ، مثل : ابن أبي عقيل ، وابن الجنيد ، والمفيد ، والمرتضى ، وغيرهم ، كما هو مذكور في كتب الاستدلال.

وقد نقل أغلاطا عن (٢) العلامة ، يعلم بأدنى تأمل ، أنه هو الغالط فيها ، وذكر : أن الشهيد الثاني رحمه‌الله نقل ـ في شرح الشرائع ـ عن العلامة أنه قال في القواعد في مسألة : « أفتيت بهذا بمجرد رأيي ولم أجد فيه نصا وأثرا » (٣).

وأنا أقول : حاشا ثم حاشا مثل ذلك من مثل العلامة رحمه‌الله ، بل ممن له أدنى فضل وورع ، وقد تصفحت من أول شرح الشرائع إلى أول كتاب الميراث ، فما وجدت مما نقله عينا ولا أثرا ، وهذا القواعد حاضر ، كيف والعلامة ينادي في كتبه الاصولية بانحصار الادلة في : الكتاب ، والسنة ، والاجماع ، والقياس المنصوص العلة ، والاستصحاب ، ثم يفتي بالرأي الذي لم يعمل به

__________________

١ ـ شرح اللمع : ٢ / ٩٦٩.

٢ ـ كذا في ب و ط ، وفي الاصل وأ : من.

٣ ـ الفوائد المدنية ١٧٨.

٢٩٢

إلا شاذ من الحنفية! (١)

نعم ، نقل الشهيد في الشرح ، في كتاب الصلح (٢) ، عن التذكرة (٣) : أنه قال في مسألة : « ولست أعرف في هذه المسألة بالخصوصية ، نصا من الخاصة ، ولا من العامة ، وإنما صرت إلى ما قلت عن اجتهاد » انتهى ، وظاهر : أن مراده بالاجتهاد هو : الاستدلال بالعمومات ، فإنه استدل على فتواه في هذه المسألة ، بجواز تصرف الانسان في ملكه كيف شاء ، ودلالة العمومات عليه ظاهرة.

وقد وجدت مواضع مما عدّة من أغلاط العلامة ، غير موافق لعبارة الكتاب الذي نقله عنه.

فإن قال : لا يجوز رد الفروع والجزئيات إلى اصولها.

قلنا : لا شك أنا إذا علمنا أن هذا الحكم متعلق بهذا الكلي ، وعلمنا أن هذا الشيء الخاص فرد لهذا الكلي ، يحصل لنا العلم بأن ذلك الحكم متعلق بذلك الشيء الخاص.

فإن قال : إن فردية الفرد لابد أن تكون قطعية حتى يصح الحكم ، مع أن الفقهاء يحكمون بمجرد الظن.

قلنا : الذي ذكره الفقهاء الحكم على الاشياء بالادلة الظنية التي ثبتت حجيتها في الشرع ، ولا يعلم من ذلك أنهم كانوا يكتفون في فردية الفرد ، واندراج الجزئي بالظن ، حتى يصح الطعن.

مع : أنه يمكن الاستدلال على الاعتماد على هذا الظن أيضا ـ بما يستدل به على حجية خبر الواحد ، كما لا يخفى.

__________________

١ ـ لاحظ التعليقة المذكورة برقم ( ١ ) في الصفحة السابقة.

٢ ـ المسالك : ١ / ٢١٤ ـ كتاب الصلح / في شرح قول المحقق : « المسألة الأولى يجوز اخراج الرواشن والاجنحة ... إلى آخره ».

٣ ـ التذكرة : ٢ / ١٨٢ ـ كتاب الصلح / الفصل الثالث / مسألة « إذا أخرج جناحا أو روشنا في الشارع النافذ فقد بينا أنه ... ».

٢٩٣

وأيضا : إنه أورد في بحث صحة أحاديثنا : أن الفاضل المدقق محمد بن إدريس الحلّي رحمه‌الله ، أخذ أحاديث من اصول قدمائنا التي كانت عنده ، وذكرها في باب هو آخر أبواب السرائر ، وأورد حديثين عن جامع البزنطي ، صاحب الرضا عليه‌السلام : أحدهما : عنه ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام ، قال : « إنما علينا أن نلقي اليكم (١) الاصول ، وعليكم أن تفرعوا ».

والثاني : أحمد بن محمد بن أبي نصر ، عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « علينا إلقاء الاصول إليكم (٢) ، وعليكم التفريع » (٣).

فإن هذين الحديثين الصحيحين : يدلان على لزوم رد الفروع إلى الاصول ، وظاهر : أنه لا معنى للتفريع إلا إجراء حكم الاصول والكليات إلى الجزئيات والافراد مطلقا ، بل لا يخفى صدق التفريع المأمور به في الاجراء إلى الافراد المظنونة الفردية ، ولكنه محل تأمل.

واعلم : أن الاجتهاد كما يطلق على استعلام الاحكام من الادلة الشرعية ، كذلك يطلق على العمل بالرأي وبالقياس ، وهذا الاطلاق كان شائعا في القديم (٤).

قال الشيخ الطوسي ، في بحث شرائط المفتي ، من كتاب العدة : « إن جمعا من المخالفين عدوا منها : العلم بالقياس ، وبالاجتهاد ، وبأخبار الآحاد ، وبوجوه العلل ، والمقاييس ، وبما يوجب غلبة الظن » ثم قال : « إنا بينا فساد ذلك ، وذكرنا أنها ليست من أدلة الشرع » (٥) وظاهر : أن الاجتهاد الذي ذكر أنه

__________________

١ و ٢ ـ في ط : عليكم.

٣ ـ الفوائد المدنية : ١٥٤.

٤ ـ كانت نقطة التحول في اصلاح الاجتهاد على يد المحقق الحلّي إذ عرف الاجتهاد ببذل الجهد في استخراج الاحكام الشرعية ( معارج الاصول : ١٧٩ ) بعد ان كان عبارة عن أحد الادلة الشرعية وواقعا في عرضها كما سيوضحه المصنف فيما بعد.

٥ ـ عدة الاصول : ٢ / ١١٥.

٢٩٤

ليس من أدلة الشرع ، ليس بالمعنى المتعارف ، إذ لا يحتمل (١) كونه من جنس الادلة.

والسيد المرتضى في كتاب الذريعة ، ذكر : أن الاجتهاد « عبارة عن إثبات الاحكام الشرعية بغير النصوص والادلة ، أو إثبات الاحكام الشرعية بما طريقه الامارات والظنون » (٢) وقال في موضع آخر منه : « وفي الفقهاء من فرق بين القياس والاجتهاد ، وجعل القياس ما له أصل يقاس عليه ، وجعل الاجتهاد ما لم يتعين له أصل ، كالاجتهاد في طلب القبلة ، وفي قيمة المتلفات ، واروش الجنايات ، ومنهم من عد القياس من الاجتهاد ، وجعل الاجتهاد أعم منه » (٣).

قال : وأما الرأي ، فالصحيح عندنا : أنه عبارة عن المذهب والاعتقاد الحاصل من الادلة ، غير الحاصل من الامارات والظنون (٤). هذا حاصل كلامه.

وظاهر أيضا : أن ( الاجتهاد ) في كلامه ليس بمعناه المعروف ، وقد ورد ذم الاجتهاد في بعض الأخبار ، وهو بهذا المعنى الثاني ، وكأن هذا هو الباعث لانكار الاجتهاد للقائل المذكور ، وهو غلط ناش من الاشتراك اللفظي.

وإنكاره الاجتهاد ، مستندا بغلط جماعة من المجتهدين ، شبيه باستدلال عوام العامة على عدم حقية مذهب الشيعة بتركهم لصلاة الجماعة ، واستدلال جماعة من جهلة العوام على ذم العلم بأن جل علماء هذا الزمان حريصون على الدنيا ، وهو مذموم ، إذ عمل بعض من المجتهدين بمجرد رأيه ، أو غلطه في بعض الاحكام ـ على تقدير تسليمه ـ لا يوجب بطلان الاجتهاد ، أي : العلم

__________________

١ ـ كذا في أ و ب ، وفي الاصل و ط : لا يحمل.

٢ ـ الذريعة : ٢ / ٧٩٢.

٣ ـ الذريعة : ٢ / ٦٧٢.

٤ ـ الذريعة : ٢ / ٦٧٣. والعبارة فيها كما يلي : « فأما الرأي ، فالصحيح عندنا أنه : عبارة عن المذهب والاعتقاد ، وإن استند إلى الادلة ، دون الامارات والظنون ».

٢٩٥

بالاحكام عن أدلتها التفصيلية ، وهو من البديهيات.

وربما يستدل له : بأنا لا ننكر الاجتهاد ، إلا بمعنى : أن العمل بالادلة والاحاديث يتوقف على الملكة المذكورة ، إذ ظاهر : أن هذه الأحاديث والاخبار ، كان يعمل بها في عصر الائمة عليهم‌السلام ، كل من سمعها من الشيعة من العوام والعلماء ، وإنكار ذلك مكابرة ، ولم ينقل عن أحد من الائمة عليهم‌السلام الانكار على أحد من الشيعة ، وهذا مما يوجب القطع بجواز العمل بها لكل من فهمها ، من غير توقف على أمر آخر.

وجوابه : أنك قد عرفت وجه الاحتياج إلى الشرائط المذكورة ، في هذه الاعصار دون عصر الائمة عليهم‌السلام ، وعرفت : أن الاحتياج إلى الملكة المذكورة إنما هو للعمل باللوازم غير البينة اللزوم ، وبالافراد غير البينة الفردية ، ونحو ذلك ، لا للعمل بمناطيق الأخبار ومدلولاتها الصريحة ، والذي هو معلوم من حال السلف ، هو عملهم بهذه الأخبار ومدلولاتها الصريحة.

وأما العمل باللوازم ، والافراد غير البينة ، فلا يعلم من حالهم العمل بها بدون الملكة بل هو بديهي البطلان.

فإن قلت : فعلى ما ذكرت يلزم الاستغناء عن الملكة لعمل بالمدلولات الصريحة للاخبار ، ولو كان لها معارض ، وقد مر خلافه.

قلت : المعلوم من حال السلف ، العمل بما سمعوه من الأخبار المعتمدة من غير الفحص عن المعارض ، ولا يلزم منه الاستغناء عن الملكة بعد الاطلاع على المعارض.

وسيجيء لهذا زيادة بيان في بحث التراجيح إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : لا يجوز العمل إلا بالمدلولات الصريحة ، لان اللوازم ، والافراد غير البينة :

إن كانت ظنية : فلا يجوز العمل بها للادلة الدالة على النهي عن العمل بالظن ، ولقوله عليه‌السلام : « ما تعلمون فقولوا ، وما لا تعلمون فها. وأهوى

٢٩٦

بيده إلى فيه » (١) وهذا داخل في ( ما لا تعلمون ) ، فيجب التوقف فيه.

وإن كانت قطعية : فلا يجوز أيضا ، لاحتمال قصر الحكم على ما لا يحتاج في الحكم بلزومه أو بفرديته إلى دليل ونظر ، فإن وجوب العمل بالاخبار ، عام لمن تمكن من إقامة الدليل ، ولمن لم يتمكن ، مثلا : أهل الاجتهاد يقولون : يجب على الولي منع الطفل عن مس كتابة القرآن ولو كان مميزا متوضئا ، لقوله تعالى : ( لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ ) (٢) ، والطفل لما لم يكن وضوؤه شرعيا ، لم يكن رافعا للحدث ، فهو محدث ، والمحدث لا يجوز له مس كتابة القرآن ، فيجب من باب الحسبة منعه ، المنع في الطفل يتعلق بوليه.

فنقول ـ بعد قطعية جميع المقدمات ـ : لم لا يكون المنع مقصورا على من علم كونه محدثا ، من غير نظر ودليل؟! والطفل المتوضي ليس كذلك ، والعرف قاض بذلك.

قلت : قد مر أنه يحصل القطع بتعلق الحكم بالافراد ، واللوازم غير البينة ، إذا قطع باللزوم (٣) والفردية.

وأيضا : الخبران المذكوران المنقولان عن السرائر ، يدلان على ذلك.

وأيضا : لم يزل العلماء في عصر الائمة عليهم‌السلام ، يجرون حكم الكلي على أفراده ، كزرارة ، ومحمد بن مسلم ، وهشام بن الحكم ، ويونس بن عبدالرحمن ، والفضل بن شاذان ، ونظرائهم من أهل النظر والاستدلال.

وأيضا : كان الائمة كثيرا ما يستدلون على حكم بآية.

ويستدلون على الاندراج ، كما لا يخفى على المتتبع ، فلا يكون الحكم مقصورا على اللوازم البينة اللزوم ، والافراد البينة الفردية ، فتأمل.

__________________

١ ـ تقدم من المصنف الاستشهاد بهذا الحديث مكررا ، وقد رواه كل من البرقي في المحاسن : ٢١٣ والكليني في الكافي : ١ / ٥٧ على ما تقدم.

٢ ـ الواقعة / ٧٩.

٣ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : اللزوم.

٢٩٧

وقد يستدل الخصم (١) أيضا : بأن مصنفي الكتب الاربعة ، مصرحون بجواز العمل بالاحاديث ، من غير توقف على ملكه أو غيرها ، سوى فهم الحديث ، فيكون الاجتهاد باطلا.

أما الاول : فلان أبا جعفر ابن بابويه ، صرح ـ في أول كتاب من لا يحضره الفقيه ـ : بأن وضع هذا الكتاب ، إنما هو لان يرجع إليه ويعمل بما فيه من لم يكن الفقيه عنده (٢).

وهو صريح في أن المقلد ـ الذي عليه الاستفتاء ، على تقدير حضور الفقيه والمجتهد عنده ـ عليه العمل بأخبار هذا الكتاب عند عدم حضور الفقيه (٣).

وكذا ثقة الاسلام ، صرح في أول الكافي بأنه : « كتاب يكتفي به المتعلم ، ويرجع إليه المسترشد ، ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به » (٤).

وهذا ظاهر في جواز رجوع كل متعلم ومريد لعلم الدين إلى هذا الكتاب ، من غير توقف على شرط.

وكذا رئيس الطائفة ، ذكر في أول الاستبصار (٥) : « أن تهذيبه : كتاب يصلح أن يكون مذخورا يلجأ (٦) إليه المبتدي في تفقهه ، والمنتهي في تذكره ، والمتوسط في تبحره ».

وقال في أول التهذيب (٧) أيضا : « لما فيه ـ أي : في الكتاب المذكور ـ من

__________________

١ ـ في أ و ط : للخصم.

٢ ـ الفقيه : ١ / ٢.

٣ ـ قوله « والمجتهد عنده عليه العمل باخبار هذا الكتاب عند عدم حضور الفقيه » ساقط من الاصل ، وقد اثبتناه من سائر النسخ.

٤ ـ الكافي : ١ / ٨.

٥ ـ الاستبصار : ١ / ٢.

٦ ـ في ط : يرجع.

٧ ـ التهذيب : ١ / ٣.

٢٩٨

كثرة النفع للمبتدي والريض في العلم » وظاهر : أن المبتدي لا يكون مستجمعا للشرائط المذكورة للعمل بالاحكام ، سيما الملكة.

قلت : غاية ما يلزم من كلامك ، تصريحهم بجواز العلم بمناطيق الأخبار ومدلولاتها الصريحة لكل فاهم للحديث ، سواء كان مستجمعا للشرائط الاخر أو لا ، ولا يلزم منه عدم اعتبار الشرائط الاخر ، والملكة ، في العمل بالقسم الثاني من القسمين المذكورين للاحكام الشرعية ، والله أعلم.

البحث الرابع : في التقليد.

وهو : قبول قول من يجوز عليه الخطأ من غير حجة ولا (١) دليل.

يعتبر في المفتي الذي يستفتى منه ـ بعد الشرائط المذكورة ، على النحو المذكور ـ أن يكون مؤمنا ، ثقة.

ويكون حصول هذه الشرائط فيه معلوما للمقلد بالمخالطة المطلقة ـ إن أمكن الاطلاع في حقه ـ أو بالاخبار المتواترة ، أو بالقرائن الكثيرة المفيدة للعلم ، أو بشهادة العدلين العارفين ـ على قول.

ولا يشترط المشافهة ، بل يجوز العمل بالرواية عنه.

وفي جواز العمل بالرواية عن المجتهد الميت خلاف ، على ما نقل.

قال الشهيد الثاني ، في كتاب آداب العالم والمتعلم : « وفي جواز تقليد المجتهد الميت ، مع وجود الحي ، أو لا معه؟ للجمهور أقوال :

أصحها عندهم : جوازه مطلقا ، لان المذاهب لا تموت بموت أصحابهم ـ ولهذا يعتد بها بعدهم في الاجماع والخلاف ـ ولان موت الشاهد قبل الحكم لا

____________

١ ـ حرف النفي زيادة من ط. وقد نص الغزالي على أصل التعريف : المستصفى : ٢ / ٣٨٧ لكن قيده المصنف ليخرج بذلك قبول قدم المعصوم عن التقليد.

٢٩٩

يمنع الحكم بشهادته ، بخلاف فسقه.

والثاني : لا يجوز مطلقا ، لفوات أهليته بالموت ، وهذا هو المشهور بين أصحابنا (١) ، خصوصا المتأخرين منهم ، بل لا نعلم قائلا بخلافه ممن يعتد بقوله.

والثالث : المنع منه مع وجود الحي ، لا مع عدمه » (٢).

ونقل الشهيد الاول في الذكرى (٣) القول بجواز تقليد الميت ، ولم يصرح باسم قائله.

ونقل المحقق الشيخ علي ، في حواشي الشرائع (٤) ، عن الشيخ السعيد فخر الدين ، عن والده العلامة : جواز (٥) تقليد الميت إذا خلا العصر عن المجتهد الحي ، واستبعده ، وحمل كلامه على الاستعانة بكتب المتقدمين في معرفة صور المسائل والاحكام مع انتفاء المرجع.

وقال فخر المحققين ـ في كتاب إرشاد المسترشدين وهداية الطالبين (٦) ، على ما نقل عنه أنه قال ـ : في وجه الاقتصار على الاصول الكلامية : « واقتصرت على هذه الاصول ، ولم أذكر العبادات السمعية ، لان والدي ـ جمال الدين الحسن بن يوسف [ بن ] (٧) المطهّر قدس الله سرهم (٨) ـ ذكر ما أجمع

__________________

١ ـ وذهب اليه بعض العامة أيضا كالفخر الرازي في المحصول : ٢ / ٥٢٦.

٢ ـ منية المريد : ١٦٧. باختصار.

٣ ـ الذكرى : ٣ / المقدمة / الاشارة الخامسة.

٤ ـ حاشية المحقق الشيخ علي الكركي على الشرائع / الصفحة الاخيرة من مخطوطة محفوظة برقم ١٤١٨ في مكتبة المدرسة الفيضية بقم ـ ايران و/ الصفحة ٦٣٩ / من مخطوطة اخرى محفوظة برقم ١٩٦٤ في المكتبة المذكورة.

٥ ـ كلمة ( جواز ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٦ ـ ارشاد المسترشدين وهداية الطالبين / الخاتمة / الصفحة الاخيرة من مخطوطة محفوظة برقم ٤٥٤ في مكتبة آية الله المرعشي النجفي العامة بقم ـ ايران.

٧ ـ ما بين المعقوفين زيادة من المصدر قد خلت منها النسخ.

٨ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : ذكره.

٣٠٠