الوافية في أصول الفقه

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني

الوافية في أصول الفقه

المؤلف:

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني


المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١

ووجه الاحتياج إليه : أن الاجتهاد بدون التمسك بالاحاديث غير متصور ، وليس كل حديث مما يجوز العمل به ، إذ كثير من الرواة نقلوا في حقهم أنهم من الكذابين المشهورين ، فلا شك في وجود رواية الكذب (١) ، وربما لا يمكن التمييز بغير الاطلاع على حال الراوي.

وهههنا شكوك :

الاول : ـ وهو ما ذهب إليه الفاضل مولانا محمد أمين الاسترآبادي ـ أن العلم بأحوال الرواة غير محتاج إليه للعمل بأحاديث الاحكام (٢) ، لان أحاديثنا كلها قطعية الصدور عن المعلوم ، وما كان كذلك فلا يحتاج إلى ملاحظة سنده ، أما الكبرى : فظاهرة ، وأما الصغرى : فلان أحاديثنا محفوفة بقرائن مفيدة للقطع بصدورها عن المعصوم عليه‌السلام.

« فمن جملة القرائن : أنه كثيرا ما نقطع بالقرائن الحالية أو المقالية ، بأن الراوي كان ثقة في الرواية ، لم يرض بالافتراء ، ولا برواية ما لم يكن بينا واضحا عنده ، وإن كان فاسد المذهب أو فاسق بجوارحه ، وهذا النوع من القرينة وافرة في أحاديث كتب أصحابنا.

ومنها : تعاضد بعضها ببعض.

ومنها : نقل الثقة العالم الورع ـ في كتابه الذي ألفه لهداية الناس ، ولان يكون مرجع الشيعة ـ أصل رجال أو روايته ، مع تمكنه من استعلام حال ذلك الاصل ، أو تلك الرواية ، وأخذ الاحكام بطريق القطع عنهم عليهم‌السلام.

ومنها : تمسكه بأحاديث ذلك الاصل ، أو بتلك الرواية ، مع تمكنه من أن يتمسك بروايات اخر صحيحة.

ومنها : أن يكون راويه أحد من الجماعة التي أجمعت العصابة على

____________

١ ـ كذا في النسخ. ولعله تصحيف : الكذاب.

٢ ـ الفوائد المدنية : ٣٠ ( في انكاره لما نقله عن العلامة الحلّي ) وانظر أيضا : ص ٤٠ و ٥٣ و ٥٦

٢٦١

تصحيح ما يصح عنهم.

ومنها : أن يكون راويه من الجماعة التي ورد في شأنهم من بعض الائمة عليهم‌السلام : « أنهم ثقاة مأمونون » أو : « خذوا عنهم (١) معالم دينكم » أو : « هؤلاء أمناء الله في أرضه » ، ونحو ذلك.

ومنها : وجوده في أحد كتابي الشيخ ، وفي الكافي ، وفي ( من لا يحضره الفقيه ) ، لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم ، أو على أنها مأخوذة من تلك الاصول المجمع على صحتها » انتهى كلامه (٢).

وذكر في بيان شهاداتهم : « أن ابن بابويه رحمه‌الله ، ذكر في أول كتابه : « إني لا اورد في هذا الكتاب إلا ما افتي به ، وأحكم بصحته ، وهو حجة يبني وبين ربي » (٣).

وقال محمد بن يعقوب في أول الكافي ، مخاطبا لمن سأله تصنيفه : « وقلت : إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ، ما يكتفي به المتعلم ، ويرجع إلى المسترشد ، ويأخذ عنه من يريد علم الدين ، والعمل به ، بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم‌السلام ، فاعلم يا أخي أرشدك الله تعالى : أنه لا يسع أحدا تمييز شيء مما اختلفت الرواية فيه عن العلماء عليهم‌السلام برأيه ، إلا ما أطلقه العالم بقوله عليه‌السلام : « اعرضوها على كتاب الله ، فما وافق كتاب الله فخذوه ، وما خالف كتاب الله فردوه » ، وقوله عليه‌السلام : « دعوا ما وافق القوم ، فإن الرشد في خلافهم » وقوله عليه‌السلام : « خذوا بالمجمع عليه ، فإن المجمع عليه لا ريب فيه » ، ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلا أقله ، لا نجد شيئا أحوط ولا أوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم عليه

__________________

١ ـ كلمة ( عنهم ) : ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ.

٢ ـ الفوائد المدنية : ٨٩ وكرر دعوى اجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم في ص ١٧٦ منه.

٣ ـ الفقيه : ١ / ٣.

٢٦٢

السلام ، وقبول ما وسع من الامر فيه ، بقوله عليه‌السلام : « بأيهما (١) أخذتم من باب التسليم وسعكم » وقد يسر الله وله الحمد ، تأليف ما سألت ، وأرجو أن يكون بحيث توخيت فمهما كان فيه من تقصير ، فلم تقصر نيتنا في إهداء النصيحة ، إذ كانت واجبة لاخواننا وأهل ملتنا ، مع ما رجونا أن نكون مشاركين لكل من اقتبس منه وعمل بما فيه في دهرنا هذا وفي غابره إلى انقضاء الدنيا ، إذ الرب عز وجل واحد ، والرسول محمد خاتم النبيين صلوات الله وسلامه عليه واحد ، والشريعة واحدة ، وحلال محمد حلال ، وحرامه حرام ، إلى يوم القيامة » انتهى (٢).

قال : « إن كلامه قدس‌سره صريح في أنه قصد بذلك التأليف إزالة خيرة السائل ، ومن المعلوم أنه لو لفق كتابه هذا مما ثبت وروده عن أصحاب العصمة صلوات الله عليهم ومما لم يثبت ، لزاد السائل حيرة وإشكالا ، فعلم أن أحاديث كتابه كلها صحيحة » (٣).

وقال الشيخ الطوسي في أول الاستبصار (٤) ما حاصله : « إن الحديث على خمسة أقسام ، لانه : إما متواتر ، أو لا.

والثاني : إما محفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو لا ، والثاني : إما لا يعارضه خبر آخر ، أو يعارضه.

والثاني : إما إن لم يتحقق (٥) الاجماع على صحة أحد الخبرين ، أو على إبطال الآخر ، أو لم يكن كذلك ».

وجعل الاقسام كلها قطعية إلا الاخير ، أما الاول ـ وهو المتواتر ـ : فظاهر. وأما المحفوف بالقرائن الموجبة للعلم : فظاهر أيضا ، فإنه صرح بأنه

__________________

١ ـ في النسخ والكافي ـ في خطبته ـ : بأيما. وما اثبتناه مطابق لما جاء في ص ٦٦ من المجلد الاول من الكافي.

٢ ـ الكافي : ١ / ٨ ـ ٩ خطبة الكتاب.

٣ ـ الفوائد المدنية : ٥٠ و ٢٧٢ / الفائدة الاولى.

٤ ـ الاستبصار ١ / ٣ ـ ٤ ( بتصرف في اللفظ ).

٥ ـ كذا في الاصل ، وأ. وفي ب أسقط : إن. وفي ط أسقط : اما. ولعل الصواب : اما أن لا يتحقق.

٢٦٣

يجري مجرى المتواتر. وأما الثالث ـ وهو كل خبر لا يعارضه خبر آخر ـ : فإن ذلك يجب العمل به ، لانه من الباب الذي عليه الاجماع في النقل ، إلا أن تعرف فتاواهم بخلافه ـ ويفهم منه : أن نقل هذا القسم من المعصوم مجمع عليه ، وهذا فوق الشهادة بالصحة ـ وأما الرابع ، فقال فيه : « ولانه إذا ورد الخبران المتعارضان ، وليس بين الطائفة إجماع على صحة أحد الخبرين ، ولا على إبطال الخبر الآخر ، فكأنه إجماع على صحة الخبرين ، وإذا كان إجماعا على صحتهما ، كان العمل بهما ، جائزا سائغا » فادعى الاجماع على صحة هذا القسم ، فعلم منه : أن كل خبر لا يعلم الاجماع على خلافه ، فهو عنده صحيح ، فهذا شهادة منه على صحة جل الأحاديث ، بل كلها ، إذ القسم الخامس مما لا يكاد يوجد.

وقال أيضا : « وأنت إذا فكرت في هذه الجملة ، وجدت الأخبار كلها لا تخلو من قسم من هذه الاقسام ووجدت أيضا ما عملنا عليه في هذا الكتاب وفي غيره من كتبنا في الفتاوى في الحلال والحرام لا يخلو من واحد من هذه الاقسام ». ويفهم منه أن كل حديث عمل هو به فهو عنده صحيح (١).

وقال في أول التهذيب : « وأذكر مسألة مسألة ، فأستدل عليها ، إما من ظاهر القرآن ، أو من صريحه ، أو فحواه ، أو دليله ، أو معناه ، وإما من السنة المقطوع بها : من الأخبار المتواترة ، أو الأخبار التي تقترن إليها القرائن التي تدل على صحتها ، وإما من إجماع المسلمين ، إن كان فيها ، أو إجماع الفرقة المحقة ، ثم أذكر بعد ذلك ما ورد من أحاديث أصحابنا المشهور في ذلك ، وأنظر فيما ورد بعد ذلك مما ينافيها ويضادها ، وابين الوجه فيها ، إما بتأويل أجمع بينها وبينها ، أو أذكر وجه الفساد فيها ، إما من ضعف إسنادها ، أو عمل العصابة بخلاف متضمنها » (٢).

__________________

١ ـ اشار الاسترآبادي إلى ذلك باستشهاده بكلام شيخ الطائفة : الفوائد المدنية : ٥٠ و ٦٧.

٢ ـ التهذيب : ١ / ٣ ـ المقدمة.

٢٦٤

وهذا الكلام صريح في أن ما لم يتعرض لتأويله أو طرحه ، فهو إما من المتواتر ، أو من المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع ، أو من الأحاديث المشهورة عند أرباب الحديث.

فالاولان : ظاهر أنهما من قبيل القطعي ، وأما الثالث : فهو أيضا كذلك ، إذ شهرة الحديث عند أربابه ، أيضا مما يفيد القطع بصدوره عن المعصوم.

وبيان شهادة الشيخ الطوسي رحمه‌الله بهذا الوجه الذي ذكرته في هذه الرسالة ، مما لم أجده في كلام هذا القائل ، بل هو نقل أن الشيخ في كتاب العدة ، ذكر : « أن ما عملت به من الأخبار فهو صحيح » (١) ، ولكني تصفحت العدة ، فما رأيت هذا الكلام فيه.

وذكر أيضا : « أن الشيخ كغيره ، كان متمكنا من إيراد الأخبار الصحيحة ، من الكتب القطعية الأخبار فلا وجه لتلفيقه الأخبار الصحيحة والضعيفة ، بل هذا مما يقطع العقل بسبب العادة بامتناعه.

ويمكن أن يكون قوله : « لاجتماع شهاداتهم على صحة أحاديث كتبهم » إشارة إلى كلام الكليني ، وابن بابويه رحمهما الله تعالى.

وقوله : « أو على أنها مأخوذة من تلك الاصول ، المجمع على صحتها » إشارة إلى كلام الشيخ الطوسي في العدة ، حيث قال : ـ في بيان جواز العمل بخبر الواحد ، الوارد من طريق أصحابنا الامامية ، المروي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والائمة عليهم‌السلام ، إذا كان الراوي ممن لا يطعن في روايته ، ويكون سديدا في نقله ـ « والذي يدل على ذلك : إجماع الفرقة المحقة ، فإني

__________________

١ ـ فقد قال الاسترآبادي : « إن رئيس الطائفة صرح في كتاب العدة وفي أول الاستبصار بان كل حديث عمل به مأخوذ من الاصول المجمع على صحة نقلها ، ونحن نقطع عادة بانه ما كذب » الفوائد المدنية : ١٨٣. وذكر مثل ذلك أو قريبا منه في ص ٤١ و ٤٩ و ٦٧ و ١٧٧ و ١٩٣ ومواضع اخر من الكتاب المذكور.

٢٦٥

وجدتها مجمعة (١) على العمل بهذه الأخبار ، التي رووها في تصانيفهم ودونوها في اصولهم ، لا يتناكرون ذلك ولا يتدافعونه » (٢). انتهى. فإن هذا الكلام يدل على أن الاصول الاربعماء‌ة ، التي كانت للشيعة ، كان العمل بها إجماعيا ، وظاهر : أن كتابي الشيخ ، أخذ أحاديثهما عنها ، بل الكتب الاربعة كلها كذلك.

والجواب عن هذا الشك : منع كون أخبارنا كلها قطعية ، ليلزم الاستغناء عن النظر في أحوال الرجال ، وما ذكره من القرائن ، لا يدل شيء منها على المدعى.

أما الاول : فلان العلم بكون الراوي ثقة لا يرضى بالافتراء ... إلى آخره ـ لا يحصل إلا بالنظر في أحوال الرجال ، وهو ظاهر.

مع : أن حصول هذا العلم مطلقا ممنوع ، وسيما مع العلم بكون الراوي فاسد المذهب ، أو فاسقا بجوارحه ، غايته حصول الظن.

وأيضا : وفور هذا النوع من القرينة ممنوع ، إذ ظاهر : أن خبرا ، تكون سلسلة سنده كلها ، رجالا يحصل في كل منهم العلم بعدم افترائه وغلطه وسهوه ـ في غاية الندرة.

وأما الثاني : فلان تعاضد البعض بالبعض ، لا يوجب حصول القطع بالحديث.

مع : أن الأخبار المتعاضدة ، المتحدة المعاني ، التي لا تكون مشتركة في شيء من رجال السند ـ قليلة الوجود ، فلا توجب الاستغناء المذكور.

وأما الثالث : فلان نقل الثقة لا يوجب القطع.

وأيضا : قوله : « مع تمكنه من أخذ الاحكام بطريق القطع » ممنوع ، إذ

__________________

١ ـ كذا في أ و ب والمصدر. وفي الاصل و ط : مجتمعة.

٢ ـ عدة الاصول : ١ / ٤٧.

٢٦٦

ظاهر : أن الكليني ، وابن بابويه ، والشيخ ، رحمهم‌الله ـ لم يكونوا متمكنين من أخذ الاحكام بطريق القطع عنهم عليهم‌السلام.

ولو سلم إمكان القطع في بعض الاحكام بالنسبة إليهم ، فهذا لا يوجب اقتصارهم على إيراد القطعيات ، وترك غيرها ، بل عليهم إيراد الجميع ، مع ذكر ما يحصل به التمييز (١) بين المعتمد وغيره ، من ذكر رجال أسانيد الأخبار ، وقد فعلوا ذلك ، وسيجيء بقية الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

وأما الرابع : فلان الجماعة التي نقل الاتفاق على العمل بحديثهم ، في غاية القلة.

مع : أنه لا يحصل العلم بأنه منهم إلا بمعرفة الرجال.

وأيضا : هذا الاجماع ظني ، لانه منقول من طريق الآحاد (٢) ، فلا يوجب القطع بالحديث ، بل لا يوجبه لو كان متواترا أيضا ، لانه فرع عدم جواز العمل بغير القطعي (٣) ، وإلا فيجوز أن يكون عمل العصابة بحديثه ، و (٤) وصف حديثه بالصحة ، لكونه ثقة يحصل الظن بحديثه.

وأيضا : لا يكاد يوجد حديث ، يكون جميع رجال السند ممن أجمعت العصابة على تصحيح حديثه ، وهو في غاية الظهور.

وأما الخامس : فالكلام فيه كالرابع.

وأما السادس : فلان شهادة المشايخ الثلاثة ، بل إخبارهم بصحة أخبار (٥) كتبهم ، لا يستلزم قطعيتها عندهم ، فضلا عن قطعيتها عندنا ، فإنه كما أن اتصاف الحديث بالصحة عند المتأخرين ، لا يستلزم قطعيته ، فكذا عند

__________________

١ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : التمييز.

٢ ـ كلمة ( الآحاد ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٣ ـ في أ ، و ط : القطع.

٤ ـ الواو : ساقطة من الاصل و ب و ط ، وقد اثبتناها من نسخة أ.

٥ ـ كلمة ( اخبار ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢٦٧

القدماء ، إذ الصحيح في مصطلحهم يطلق على الحديث ، باعتبار تعاضده بأمور توجب الاعتماد عليه والركون إليه ، وربما لا يصير بمجرد ذلك قطعيا.

قال الشيخ الفقيه بهاء الملة والدين في فواتح كتاب مشرق الشمسين : « كان المتعارف بين القدماء إطلاق الصحيح على كل حديث اعتضد بما يقتضي اعتمادهم عليه ، أو اقترن بما يوجب الوثوق به والركون إليه ، وذلك بأمور : منها : وجود في كثير من الاصول الاربعماء‌ة ، التي نقلوها عن مشايخهم ، بطرقهم المتصلة بأصحاب العصمة سلام الله عليهم ، وكانت متداولة لديهم في تلك الاعصار ، مشتهرة بينهم اشتهار الشمس في رائعة النهار.

ومنها : تكرره في أصل واحد ، أو أصلين منها فصاعدا ، بطرق مختلفة وأسانيد عديدة معتبرة.

ومنها : وجوده في أصل معروف الانتساب إلى أحد الجماعة الذين أجمعوا على تصديقهم ، كزرارة ، ومحمد بن مسلم ، والفضيل (١) بن يسار ، أو على تصحيح ما يصح عنهم ، كصفوان بن يحيى ، ويونس بن عبدالرحمن ، وأحمد بن محمد بن أبي نصر ، أو على العمل بروايتهم ، كعمار الساباطي ، ونظرائه ، ممن عدهم شيخ الطائفة في كتاب العدة ، كما نقله عنه المحقق في بحث التراوح من المعتبر (٢).

ومنها : اندراجه في أحد الكتب ، التي عرضت على أحد الائمة عليهم‌السلام ، فأثنوا على مؤلفها ، ككتاب عبيد الله بن علي الحلبي ، الذي عرض على الصادق عليه‌السلام ، وكتابي : يونس بن عبدالرحمن ، والفضل بن شاذان ، المعروضين على العسكري عليه‌السلام.

ومنها : أخذه من أحد الكتب التي شاع بين سلفهم الوثوق بها والاعتماد

__________________

١ ـ في ط : الفضل.

٢ ـ المعتبر : ١ / ٦٠.

٢٦٨

عليها ، سواء كان مؤلفوها من الفرقة الناجية الامامية ، ككتاب الصلاة لحريز ابن عبدالله السجستاني ، وكتب ابني (١) سعيد ، وعلي بن مهزيار ، أو من غير الامامية ، ككتاب حفص بن غياث القاضي ، وكتب الحسين بن عبيد الله السعدي ، وكتاب القبلة لعلي بن الحسن الطاطري.

وقد جرى ثقة الاسلام ، رئيس المحدثين ، محمد ابن بابوبه ـ قدس الله روحه ـ على متعارف القدماء ، من إطلاق الصحيح على ما يركن إليه ويعتمد عليه ، فحكم بصحة جميع (٢) ما أورده من الأحاديث في كتاب من لا يحضره الفقيه ، وذكر أنه استخرجها من كتب مشهورة ، عليها المعول وإليها المرجع » انتهى كلامه أعلى الله مقامه (٣).

وإذا كانت الأحاديث ظنية ، فيجب الفحص عن أحوال أسانيدها ، حتى يعلم أن هذا الظن مما يجوز التعويل عليه (٤) : لعموم النهي عن اتباع الظن.

ولقوله تعالى : ( إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ) (٥) أو فتثبتوا (٦).

فإن قلت : إخبار العدل بصحة خبر الفاسق ، يخرج الخبر عن كونه خبرا للفاسق ، ويدخله في خبر العدل ، فلا دلالة في الآية حينئذ على منع العمل به.

قلت : لا نسلم ذلك ، بل الجائي بالنبأ إنما هو الفاسق ، وخبر العدل ليس هو الحديث ، بل صحة خبر الفاسق.

__________________

١ ـ في ط : أبي ، وفي المصدر المنقول عنه النص : ( بني خ ل ).

٢ ـ كلمة ( جميع ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ ، وهي مثبتة في المصدر أيضا.

٣ ـ مشرق الشمسين : الصفحة الثانية ( المرقمة ب‍ ٢٦٩ من مجموعة طبعت باسم : رسائل الشيخ بهاء الدين ).

٤ ـ كلمة ( عليه ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٥ ـ الحجرات / ٦.

٦ ـ اشارة إلى القراء‌ة الاخرى في الآية. لاحظ : مجمع البيان / ذيل الآية المباركة. وفي ط : أي. بدل : أو.

٢٦٩

ولا أقل : يحصل التعارض ، وإثبات شيء من التكاليف يحتاج إلى دليل ، فتأمل.

وأيضا : فالظاهر أن إخبار ابن بابويه رحمه‌الله بصحة أخبار كتابه ، ليس من حيث علمه بصحة خصوصية كل خبر منها ، بل لاجل صحة الكتب التي أخذ الأخبار منها.

مع : أنه كثيرا ما يرد الأخبار المأخوذة من هذه الكتب بالقدح في أسانيدها ، وكثيرا ما يرد الرواية بأنه تفرد فلان بها ، ويذكر اسم رجل هو ثقة صاحب كتاب معتمد ، كما قال ـ في أول باب وجوب الجمعة وفضلها ، في رواية حريز عن زرارة ـ : « تفرد بهذه الرواية حريز عن زرارة ، والذي أستعمله وافتي به كذا ... » إلى آخره (١).

فلو كان كتاب زرارة أو حريز عنده قطعيا ، لم يكن تفرد حريز ضارا ، كما لا يخفى ، وقال ـ في كتاب الحج ، في باب إحرام الحائض والمستحاضة ، بعد نقل رواية محمد بن مسلم عن أحدهما ـ : « وبهذا الحديث افتي ، دون الحديث الذي رواه محمد بن مسكان ، عن إبراهيم بن إسحاق ، عمن سأل أبا عبدالله عليه‌السلام .... الحديث ، لان هذا الحديث إسناده منقطع ، والحديث الاول رخصة ورحمة ، وإسناده متصل » (٢).

وأمثال ذلك في هذا الكتاب كثير.

والحاصل : أن تعرضه لقبول الحديث ولرده (٣) بسبب الاسناد كثير ، مع وحدة الكتاب المأخوذ منه ، وهذا ينافي قطعية الكتاب عنده.

وأيضا : تعرضه لذكر المشيخة على هذا عبث ، بل ينبغي على هذا أن يقول : إني أخذت الأخبار من الكتب القطعية ، والاحاديث قطعية ، لا يحتاج إلى الاطلاع على رواتها ، وعلى طريقي إليهم.

__________________

١ ـ الفقيه : ١ / ٤١١ في تعليقه على الحديث ١٢١٩.

٢ ـ الفقيه : ٢ / ٣٨٣ ح ٢٧٦٦ ، ٢٧٦٧.

٣ ـ في ط : وكذا رده.

٢٧٠

وكذا الكلام على الكليني (١).

مع : أن ابن بابويه كثيرا ما يطرح الروايات المذكورة في الكافي : قال ـ في باب ( الرجل يوصي إلى رجلين ) بعد ما ذكر توقيعا من التوقيعات ، الواردة من الناحية المقدسة ـ : « هذا التوقيع عندي بخط أبي محمد الحسن بن علي عليهما‌السلام ، وفي كتاب محمد بن يعقوب الكليني رحمه‌الله رواية (٢) خلاف ذلك التوقيع ، عن الصادق عليه‌السلام » ، ثم قال : « لست افتي بهذا الحديث ـ مشيرا إلى رواية محمد بن يعقوب ـ بل افتي بما عندي بخط الحسن ابن علي عليهما‌السلام ، ولو صح الخبران جميعا لكان الواجب الاخذ بقول الاخير ، كما أمر به الصادق عليه‌السلام ، وذلك أن الأخبار لها وجوه ومعان ، وكل إمام أعلم بزمانه وأحكامه ، من غيره من الناس » (٣).

وقال ـ في باب ( الوصي يمنع الوارث ) بعد نقل حديث ـ : « ما وجدت هذا الحديث إلا في كتاب محمد بن يعقوب الكليني رضي‌الله‌عنه ، وما رويته إلا من طريقه ، حدثني به غير واحد ، منهم محمد بن محمد بن عصام الكليني ، عن محمد بن يعقوب الكليني » (٤).

وطرح الشيخ الطوسي لاحاديث الفقيه ، والكافي ، وكذا السيد المرتضى ، وغيرهما ـ أكثر من أن يحصى ، وهذا يدل على أن هذه الأخبار لم تكن قطعية عند قدماء أصحابنا.

هذا ، والاقوى في هذا الزمان : جواز العمل بالاخبار المودعة في الكتب الثلاثة ، لمن له أهلية العمل بالحديث ، من دون ملاحظة الاسانيد ، بشرط :

عدم المعارض.

__________________

١ ـ كلمة ( الكليني ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢ ـ كلمة ( رواية ) ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٣ ـ الفقيه : ٤ / ٢٠٣ في تعليقه على الحديث ٥٤٧١ ، ٥٤٧٢.

٤ ـ الفقيه : ٤ / ٢٢٣ معلقا بذلك على الحديث ٥٥٢٦.

٢٧١

وعدم كون مضمونه مخالفا لعمل المشاهير من فقهائنا. وسيجيء تحقيق حكم صورة التعارض في بحث التراجيح ، إن شاء الله تعالى.

الشك الثاني : شك اعتبار مطلق الظن ، وهو مما اختاره بعض الفضلاء (١) ، وصورته أن يقال : قد حصل لنا من تتبع آثار العلماء ، أنهم كانوا يعملون بكل ما حصل لهم الظن بأنه مراد المعصوم ، سواء كان منشأ حصول هذا الظن رواية صحيحة أو لا ، مسندة أو لا ، مرسلة أو لا ، إلى غير ذلك.

ويلزم على هذا : أن لا يكون العلم بأحوال الرواة محتاجا إليه ، إذ ربما يحصل هذا الظن من رواية من هو في غاية الضعف ، ولا يحصل من رواية من هو في غاية الثقة.

والجواب : لا نسلم عمل العلماء بكل ما حصل لهم الظن به ، بل الظاهر من أحوال القدماء عدم عملهم إلا بالقطعيات ، وكلام السيد المرتضى ، وابن إدريس ، وابن زهرة ، ينادي بأعلى صوته بمنع العمل بالظنيات ، كما لا يخفى على من له أدنى تتبع ، وأكثر هذه الأخبار الضعيفة باصطلاح المتأخرين ، كان صحيحا عند القدماء.

وأيضا : لا يجوز أن يكون الظن من حيث هو ظن مناطا للاحكام الشرعية ، ما لم يكن ناشئا عما ثبت اعتباره شرعا ، إذ كثيرا ما يحصل هذا الظن بأسباب اخر ، مثل : هوى النفس ، أو التعصب ، أو الحسد ، أو نحو ذلك ، كما هو محسوس مشاهد ، وعلى هذا ، فيحصل الهرج والمرج في الدين ، لاختلاف الناس في هذه الاسباب ، فيجب أن يكون الظن الذي يجوز العمل به مضبوطا ، بأن يكون ناشئا من الكتاب الجيد (٢) ، أو الحديث الصحيح ، أو

__________________

١ ـ هو المحقق الشيخ حسن في : معالم الدين : ١٩٢ / قوله : ( الرابع ان باب العلم القطعي بالاحكام الشرعية إلى آخره ). وتقرير الدليل للمصنف.

٢ ـ كلمة ( المجيد ) : زيادة من أ و ب وط.

٢٧٢

مطلقه لو ثبت حجيته مطلقا.

بل الحق : أن العمل بهذه الادلة ليس عملا بالظن ، بل عمل بكلام من يجب اتباعه ، غاية الامر الاكتفاء بالظن الخاص في نسبة هذا الكلام إلى من يجب اتباعه.

الشك الثالث : أنه وقع الاختلاف في أسباب الجرح.

فقيل : الكبائر سبع.

وقيل : أكثر.

وقيل : بأنها إضافية.

وعلى هذا ، لا يمكن الاعتماد على تعديل المعدل وجرحه ، إلا مع العلم بموافقة مذهبه لمذهب من يريد العمل ، وهذا العلم مما لا يكاد يمكن حصوله ، إذ المعدلين والجارحين ـ وهم : الكشي ، والنجاشي ، والشيخ الطوسي ، وابن طاووس ، وابن الغضائري ، وغيرهم ـ ليس مذهبهم في عدد الكبائر معلوما ، بل صرح الشيخ بتوثيق المتحرز عن الكذب وإن كان فاسقا في (١) أفعال جوارحه ، وتوثيق بعض المتأخرين ، كالعلامة ، وابن داود ، مبني على توثيق القدماء.

وأيضا : اعتبر بعض العلماء (٢) في الجرح والتعديل شهادة إثنين ، وعلى هذا : لا يوجد حديث صحيح ، يكون جميع رجال سنده معدلا بتعديل عدلين.

وأيضا : تعديل هؤلاء المعدلين مبني على غيرهم ، مع عدم معلومية

__________________

١ ـ زاد في أ في هذا الموضع كلمة : جميع.

٢ ـ كالمحقق الحلّي : معارج الاصول : ١٥٠. والمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : ٢٠٤ ، و : منتقى الجمان : ١ / ١٦ ـ الفائدة الثانية. والشيخ بهاء الدين العاملي : مشرق الشمسين : ٤ ( المرقمة ب‍ ٤٧١ تسلسل رسائل الشيخ بهاء الدين ) حيث ورد في الهامش : ( والحاصل اني أشترط في الرواية اخبار ثلاثة : واحد بها ، واثنين بعدالة راويها ، واشترط في التزكية إخبار اثنين لا غير. منه طاب ثراه ). ولكن يظهر من المتن خلاف ذلك. والمحدث الاسترآبادي : الفوائد المدنية : ٢٥٦ / قوله « فائدة : يفهم من هذين الحديثين الشريفين إلى آخره ».

٢٧٣

مذهب هؤلاء أيضا.

وهذا الشك مما أورده الشيخ الفقيه بهاء الملة والدين فقال : « من المشكلات أنا نعلم مذهب الشيخ الطوسي رحمه‌الله في العدالة ، وأنه يخالف مذهب العلامة رحمه‌الله ، وكذا لا نعلم مذهب بقية أصحاب الرجال ، كالكشي ، والنجاشي ، وغيرهم ، ثم نقبل تعديل العلامة رحمه‌الله في التعديل على تعديل أولئك.

وأيضا : كثير من الرجال ، ينقل عنه أنه كان على خلاف المذهب ثم رجع وحسن إيمانه ، والقوم يجعلون روايته من الصحاح ، مع أنهم غير عالمين بأن أداء الرواية متى وقع؟ أبعد التوبة؟ أم قبلها؟ وهذان المشكلان لا أعلم أن أحدا قبلي تنبه لشيء منهما » انتهى كلامه (١).

وأيضا : العدالة بمعنى الملكة المخصوصة التي ذهب إليها المتأخرون ، مما لا يجوز إثباته بالشهادة ، لان الشهادة وخبر الواحد ليس حجة إلا في المحسوسات ، والعدالة ـ بمعنى الملكة المخصوصة ـ ليست محسوسة ، كالعصمة ، فلا تقبل فيها الشهادة ، فلا يعتمد على تعديل المعدلين بناء‌ا على طريقة المتأخرين ، وهذا مما أورده الفاضل الاسترآبادي (٢).

وأيضا : قد تقرر في محله أن شهادة فرع الفرع غير مسموعة ، ولا تقبل

__________________

١ ـ لم نعثر على هذا النص فيما طبع من آثار ومصنفات الشيخ بهاء الدين ، كالزبدة والوجيزة والحبل المتين ومشرق الشمسين وما عليها من حواشيه وتعليقاته ، وغيرها ، وأما مصنفاته التي لم تطبع إلى الآن فلم نعثر على نسخها الخطية رغم البحث عنها كحواشيه على القواعد للشهيد الاول ، وحواشيه على شرح العضد. هذا وقد نقل النص المذكور اعلاه المحدّث البحراني أيضا في : الحدائق الناضرة ـ المقدمة : ١ / ٢٤ ( في الهامش ).

٢ ـ قد يتصيد هذا المطلب من مواضع متعددة من كلام الاسترآبادي في الفوائد المدنية منها ما ذكره في ص ٢٤٧ و ٢٥٣ فان كلماته تلوح بذلك ، ولكن للمحدث الاسترآبادي مصنفات اخرى لعل المصنف ينقل هذا النص منها ، كالفوائد المكية الذي سبق ذكره عند المصنف بالاسم في ص ٢١٢ ونقل منه بعض كلام الاسترآبادي وكتعليقاته على المدارك التي وقف عليها المحدّث البحراني ونقل منها كلام الاسترآبادي بلفظه في : الدرر النجفية/ درة في الاستصحاب ص ٣٤.

٢٧٤

[ الشهادة ] إلا من الشاهد الاصل والشاهد الفرع ، مع أن شهادة علماء الرجال على أكثر المعدلين والمجروحين ، من شهادة فرع الفرع ، إذ ظاهر : أن الشيخ الطوسي والنجاشي والكشي (١) ، لم يلقوا أصحاب مثل الباقر والصادق عليهما‌السلام ، ولا أصحاب غيرهما من الائمة ، وكذا ظاهر : عدم ملاقاتهم لمن أدرك أصحاب هؤلاء الائمة ، فلا تكون شهاداتهم إلا شهادة فرع الفرع بمراتب كثيرة ، فكيف يجوز التعويل في الشرع على شهادتهم في الجرح والتعديل؟! وهذا أيضا مما أورده المورد المذكور (٢).

وأيضا : قلما يخلو اسم عن اشتراكه بين جماعة بعضهم غير معدل ، وكثيرا ما لا يحصل العلم بأن الشخص الواقع في سند الرواية المخصوصة هو ذلك الثقة أو غير ، وقلما يحصل بكثرة التتبع ظن ضعيف بأنه هو الثقة لا غير ، واعتبار مثل هذا الظن في الشرع ، بحيث يعتمد عليه في الاحكام الشرعية ، مما لا دليل عليه ، فلا يتحقق للتعديل فائدة يعتد بها ، حتى يكون علم الرجال محتاجا إليه.

وأيضا : على تقدير العلم بأن رجال الرواية الفلانية ثقات ، لا يحصل العلم بعدم سقوط جماعة من رجال السند من البين ، فلا يمكن حصول العلم بصحة الحديث بالاصطلاح المشهور ، وحينئذ فلا يحصل أيضا للتعديل فائدة لنا يعتد بها.

وقد ذكر صاحب منتفى الجمان : « أن في كثير من روايات الشيخ الطوسي ، عن موسى بن القاسم البجلي ، في كتاب الحج ـ علة ، وذلك أن الشيخ أخذ الحديث من كتاب موسى بن القاسم ، وهو قد أخذ الحديث من كتب جماعة ، وذكر أول السند في أول رواياته ، ثم بعد ذلك ذكر صاحب

__________________

١ ـ كلمة ( الكشي ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢ ـ لم نعثر عليه فيما بأيدينا من مؤلفات الاسترآبادي ، نعم في ص ٢٥١ من الفوائد المدنية ما يناسبه.

٢٧٥

الكتاب الذي أخذ الحديث من كتابه ، والشيخ روى تلك الأحاديث من موسى عن صاحب ذلك الكتاب ، مع أنه لم يلقه ، فصار الحديث منقطعا معللا » انتهى (١).

وعدم مثل غير معلوم في بقية أحاديثه ، بل ولا في أحاديث غير الشيخ أيضا ، غايته حصول الظن بالعدم ، وجواز الاعتماد على مثل هذا الظن في الاحكام الشرعية غير معلوم.

وذكر أيضا : « أن الكليني قد لا يذكر أول سنده ، اعتمادا على إسناد سابق قريب ، والشيخ رحمه‌الله ربما غفل عن المراعاة ، فأورد الاسناد من الكافي بصورة وصله بطريق الكليني ، من غير ذكر الواسطة المتروكة ، فيصير الاسناد في رواية الشيخ له منقطعا ، ولكن مراجعة الكافي تفيد وصله » انتهى كلامه (٢).

ولا يخفى : أنه لا يؤمن وقوع مثل ذلك من الشيخ رحمه‌الله فيما نقله من غير الكافي من كتب الحديث أيضا ، وكذا في حق غيره كما عرفت.

وأيضا : كثيرا ما يذكر جماعة من الرواة بعطف بعضهم على بعض ، وبعد التتبع يعلم أن العطف سهو ، والواجب نقل البعض عن البعض ، وكذا الحال في عكس ذلك.

قال في المنتفى : « ومن المواضع التي اتفق فيها هذا الغلط مكررا ، رواية الشيخ ، عن سعد بن عبدالله ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن عبدالرحمن ابن أبي نجران ، وعلي بن حديد ، والحسين بن سعيد ، فقد وقع في خط الشيخ رحمه‌الله في عدة مواضع منها ، إبدال إحدى واوي العطف بكلمة ( عن ) وقد اجتمع الغلط بالنقيصة وبالزيادة في رواية سعد عن الجماعة المذكورة بخط الشيخ رحمه‌الله في إسناد حديث زرارة : « عن أبي جعفر عليه‌السلام فيمن صلى بالكوفة ركعتين ثم ذكر وهو بمكة ، أو غيرها ، أنه قال : يصلي ركعتين » فإن

__________________

١ ـ منتقى الجمان / المقدمة / الفائدة الثالثة : ١ / ٢٥.

٢ ـ منتقى الجمان / المقدمة / الفائدة الثالثة : ١ / ٢٤

٢٧٦

الشيخ رواه بإسناده عن سعد بن عبدالله ، عن ابن أبي نجران ، عن الحسين بن سعيد ، عن حماد ، مع أن سعدا إنما يروي عن ابن أبي نجران بواسطة أحمد بن محمد بن عيسى ، وابن أبي نجران يروي عن حماد بغير واسطة ، كرواية الحسين ابن سعيد عنه ، ونظائر هذا كثيرة » انتهى كلامه (١).

وأيضا : حكم الحاكم بتعديل المعدلين وجرح الجارحين ، حكم بشهادة الميت ، وهو ظاهر.

والجواب عن جميع هذه الشكوك العشرة المذكورة هههنا ـ بعد إمكان الاجوبة الجدلية عن كل منها ـ هو : أن أحاديث الكتب الاربعة ، أعني ، الكافي ، والفقيه ، والتهذيب ، والاستبصار ، مأخوذة من اصول وكتب معتمدة معول عليها ، كان مدار العمل عليها عند الشيعة ، وكان عدة من الائمة عليهم‌السلام عالمين (٢) بأن شيعتهم يعملون بها في الاقطار والامصار ، وكان مدار مقابلة الحديث وسماعه في زمن العسكريين عليهما‌السلام ، بل بعد زمن الصادق عليه‌السلام ، على هذه الكتب ، ولم ينكر أحد من الائمة عليهم‌السلام على أحد من الشيعة في ذلك ، بل قد عرض عدة من الكتب عليهم ، ككتاب الحلبي ، وكتاب حريز (٣) وكتاب سليم بن قيس الهلالي ، وغير ذلك ، والعلم بأخذ الكتب الاربعة من هذه الاصول المعتمدة ، يحصل من إخبار المحمدين الثلاثة رحمهم‌الله ، على ما مر مفصلا ، ومن شهادة القرائن بأن تمكنهم من أخذ الأخبار من هذه الكتب المعتمدة ، يمنعهم من أخذها من الكتب التي لا يجوز العمل بها ، والعادة شاهدة بأن من صنف كتابا ، وتمكن من إيراد ما هو الحق عنده ، لا يرضى بإيراد المشتبهات والمشكوكات.

إذا عرفت هذا ، فنقول : إنا لما حصل لنا علم عادي بأن أخبار الكتب

__________________

١ ـ منتقى الجمان / المقدمة / الفائدة : ١ / ٢٦.

٢ ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : عالما.

٣ ـ عبارة ( وكتاب حريز ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢٧٧

الاربعة مأخوذة من كتب معتمدة بين الشيعة ، فنحن لا نحتاج إلى العلم بأحوال الرجال فيما لا معارض له ، وأما مع التعارض : فنحن نتفحص عما يحصل به رجحان أحد المتعارضين على الآخر عند النفس : من العرض على كتاب الله ، وعلى مذهب العامة ، ومن حال الراوي ، وكثرته ، وثقته ، ونحو ذلك ، ولا شك في حصول الرجحان عند النفس بسبب تعديل المعدلين ، وإن ورد عليه ما ذكر من الشكوك ، ومن لم يحصل عنده رجحان بذلك ، فحكمه ما سيجيء في بحث الترجيح ، إن شاء الله تعالى.

فإن قلت : فعلى هذا تكون أخبار الكتب الاربعة قطعية الصدور من المعصوم ، كما قال به المورد المذكور.

قلت : لا يلزم من كون جواز العمل بهذه الكتب قطعيا ، كون أخبارها قطعية الصدور من المعصوم ، إذ يجوز من المعصوم عليه‌السلام تجويز العمل بكتاب مشتمل على الأخبار الكثيرة ، بحيث يعلم عدم صدور بعضها منه ومن غيره من الائمة ، لعدم تمكنه من تمييز (١) الصحيح من غيره ، لتقية ، أو ضيق وقت ، أو نحو ذلك ، وهذا غير خفي.

فإن قلت : فإذا جاز العمل بما في هذه الكتب ، فلا يحتاج في العمل إلى العلم بأحوال الرجال عند التعارض أيضا ، إذ يصير من قبيل تعارض القطعيين ، وحكمه : العرضان ، أو التخيير ، أو التوقف ، أو الاحتياط ، كما سيجيء إن شاء الله تعالى.

قلت : قد عرفت أن قطعية العمل لا تقتضي قطعية الحديث ، ونحن قد حصل لنا القطع بجواز العمل في صورة عدم التعارض ، ولهذا ترى جل الفقهاء بل كلهم يستدلون على المطالب بالاخبار الضعيفة السند ، ويكفي في ذلك ملاحظة الكتب الاستدلالية للشيخ ، والسيد المرتضى ، والعلامة ،

__________________

١ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : تميز.

٢٧٨

والمحقق ، وابن إدريس ، وغيرهم. وأما مع التعارض فقد وجدناهم لا يطرحون المتعارضين ، بل يفتشون عما يحصل به عندهم رجحان أحدهما على الآخر في أنفسهم من ملاحظة حال الراوي ، ونحو ذلك.

والحاصل : أن المعلوم هو جواز العمل بهذه الأخبار عند عدم التعارض ، وأما في صورة التعارض فجواز العمل بأحدهما مع إمكان ترجيح أحدهما على الآخر ـ بملاحظة حال الراوي ، أو نحوه ـ غير معلوم ، بل المعلوم من حال السلف عدم العمل بدون التفتيش ، فيحتاج إلى التفتيش (١) عن حال الرواة ، لانه من جملة ما يحصل به الترجيح ضرورة.

على : أن الشكوك المذكورة مصادمة للضرورة ، إذ ربما يحصل من التفتيش العلم العادي بعدالة بعض الرواة وضبطه وديانته ، فإنا بعد التفتيش حصل لنا القطع بثقة مثل سلمان الفارسي رضي‌الله‌عنه ، والمقداد ، وأبي ذر ، وعمار ، رضي الله عنهم ، ونظرائهم ، وزرارة ، وبريد (٢) ، وأبي بصير المرادي ، والفضيل ، ونظرائهم ، وجميل بن دراج ، وصفوان ، وابن أبي عمير ، والبزنطي ، ونظرائهم ، وإنكار ذلك مكابرة.

وربما نحكم بعدالة شخص لم نره ، ولم يشهد عندنا من نعتمد على قوله ، بل بمجرد الاطلاع على أحواله وسيرته ، وعلمنا بعدالة مثل الشيخ أبي جعفر الطوسي ، والسيد المرتضى ، والمحقق ، وأمثالهم ـ من هذا القبيل ، فإنا قبل ملاحظة كتب الرجال كان هذا العلم حاصلا لنا من تقديم العلماء إياهم والاقتداء بهم ، إلى غير ذلك من القرائن ، فلا يلزم من الشكوك المذكورة سد باب الاحتياج إلى علم الرجال والتفتيش عن أحوالهم.

نعم هذا العلم لا يحصل إلا في قليل من الرواة غير أصحاب الاصول.

__________________

١ ـ قوله ( فيحتاج إلى التفتيش ) : ساقط من الاصل و ب ، واثبتناه من نسختي أ وط.

٢ ـ في أ و ط : يزيد.

٢٧٩

وأما أصحاب الاصول : فيمكن تحصيل هذا العلم في كثير منهم.

ثم تحصيل العلم بأن الرجال الذين بينهم وبين مصنفي الكتب الاربعة ، من شيوخ الاجازة ، فلا يضر عدم عدالتهم في صحة الحديث.

وأيضا : فإن بعض الرواة قد وردت الأخبار من الائمة الاطهار بلعنهم ، وذمهم ، والاجتناب عنهم ، وبأنهم من الكذابين والمفترين ، مثل : فارس بن حاتم القزويني ، وأبي الخطاب محمد ابن أبي زينب ، والمغيرة بن سعيد ، ونظرائهم ، ويشكل جواز العمل بروايات هؤلاء الملعونين الكذابين ، وإن كانت موجودة في الكتب الاربعة ، إلا أن تكون معتضدة بإحدى القرائن المذكورة ، لانا لا نعلم أن قدماء‌نا كانوا يعملون بأخبار هؤلاء ، وإن كانت مودعة في الاصول المعتمدة ، فيحتاج إلى معرفة الرجال ليتميز (١) من نص بعدم جواز العمل بروايتهم عن غيرهم.

واعلم : أن ههنا أشياء اخر ، سوى العلوم المذكورة ، لها مدخلية في الاجتهاد ، إما بالشرطية ، أو المكملية :

الاول : علم المعاني.

ولم يذكره الاكثر في العلوم الاجتهادية ، وجعله بعضهم من المكملات ، وعده بعض العامة من الشرائط (٢) ، وهو المنقول عن السيد الاجل المرتضى في الذريعة (٣) ، وعن الشهيد الثاني في كتاب آداب العالم والمتعلم (٤) ، وعن الشيخ

__________________

١ ـ كذا في ب ، وفي الاصل و ط : لتميز. وفي أ : لتمييز.

٢ ـ لم أعثر على مأخذ ذلك في ما لدي من المصادر.

٣ ـ لم يزد السيد في الذريعة على القول بأن ( الذي يجب أن يكون عليه المفتي هو أن يعلم الاصول كلها على سبيل التفصيل ويهتدي إلى حل كل شبهة تعترض في شيء منها ، ويكون أيضا عالما بطريقة استخراج الاحكام من الكتاب والسنة وعارفا من اللغة والعربية بما يحتاج اليه في ذلك ) : الذريعة : ٢ / ٨٠٠.

٤ ـ المسمى ب‍ : منية المريد في آداب المفيد والمستفيد : الخاتمة / المطلب الاول / الفصل الثاني / ص ٢٢٥.

٢٨٠