الوافية في أصول الفقه

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني

الوافية في أصول الفقه

المؤلف:

عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني


المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١

وإن كان الوقت متسعا ، أو لم يكن الواجب مؤقتا ، فنختار بقاء التكليف ، وليس تكليفا بالمحال ، لانه يمكن الاتيان بالمقدمة بعد.

على : أنه يمكن جريان هذا (١) الدليل على تقدير وجوب المقدمة أيضا ، إذا تركها المكلف ، فتأمل.

واستدل ابن الحاجب على وجوب الشرط الشرعي : بأنه لو لم يجب لكان الآتي بالمشروط فقط آتيا بجميع ما امر به ، فيجب أن يكون صحيحا ، فيلزم خروج الشرط الشرعي عن كونه شرطا (٢).

والجواب : منع الشرطية ، لان المتأخر عن الشرط لا يتأتى إلا بفعل الشرط ، فليس آتيا بجميع ما امر به على تقدير عدم الاتيان بالشرط ، لفوت وصف التأخر في المشروط (٣) حينئذ.

وهذه المسألة بأدلتها من الطرفين مذكورة في كتب الاصول ، كالمعالم ، وغيره ، والمعترض مستظهر من الجانبين ، إلا أن المتتبع ـ بعد الاطلاع على المدح والذم الواردين في الأخبار والآيات القرآنية على فعل مقدمة الواجب وتركها ـ يحصل له ظن قوي بوجوب مقدمة الواجب مطلقا.

واعلم : أنه قد تطلق المقدمة على امور ، يكون الاتيان بالواجب حاصلا في ضمن الاتيان بها ، وكأنه (٤) لا خلاف في وجوب هذا القسم من المقدمة ، لانه عين الاتيان بالواجب ، بل هو منصوص في بعض الموارد ، كالصلاة إلى أربع جهات عند اشتباه القبلة (٥) ، والصلاة في كل من الثوبين عند اشتباه

__________________

١ ـ كلمة ( هذا ) : زيادة من أ و ب وط.

٢ ـ المنتهى : ٣٦ ، شرح العضد : ١ / ٩٠ ـ ٩١ ( لاحظ المتن ).

٣ ـ كذا في أ و ب وط. وفي الاصل : الشروط.

٤ ـ كذا في أ و ب وط. وفي الاصل : فكأنه.

٥ ـ الفقيه : ١ / ٢٧٨ ح ٨٥٤.

٢٢١

الطاهر بالنجس (١) ، وغير ذلك.

ولما [ ظهر ] ضعف أدلتهم المذكورة على وجوب مقدمة الواجب ، فلا فائدة في التعرض لحال (٢) مقدمة المندوب والحرام والمكروه.

والثاني : النهي عن الشيء عند الامر بضده الخاص.

وقد اختلف في أن الامر بالشيء ، هل يستلزم النهي عن ضده الخاص؟ أو لا؟ بعد الاتفاق على النهي عن الضد العام ، أي : ترك الواجب.

وأدلة الاستلزام ضعيفة ، كما لا يخفى على من له أدنى تدبر ، فلا فائدة في ذكرها.

والحق : عدم الاستلزام ، للاصل ، ولانه لو كان كذلك لتواتر ، لانه من الامور العامة البلوى ، على ما قال الشهيد الثاني [ من ] أنه لو كان كذلك لم يتحقق إباحة السفر إلا لاوحدي الناس (٣) ، لتضاده غالبا لتحصيل العلوم الواجبة ، بل قلما ينفك الانسان عن شغل الذمة بشيء من الواجبات الفورية ، مع أنه على ذلك التقدير موجب لبطلان الصلاة الموسعة في غير آخر وقتها ، ولبطلان النوافل اليومية وغيرها.

فلو كان الامر بالشيء مستلزما للنهي عن ضده الخاص ، لتواتر عنهم عليهم‌السلام النهي عن أضداد الواجبات ، من حيث هي كذلك ، والتالي (٤) باطل.

____________

١ ـ التهذيب : ٢ / ٢٢٥ ح ٨٨٧ ، الفقيه : ١ / ٢٤٩ ح ٧٥٦.

٢ ـ في أ و ب : بحال.

٣ ـ روض الجنان : ٣٨٨ / باب سفر المعصية / كتاب الصلاة. وقد صرح الشهيد الثاني بعدم اقتضاء الامر بالشيء النهي عن ضده الخاص في : تمهيد القواعد : ١٧ ، وقد بنى على ذلك في الفقه ، انظر : روض الجنان : ١٢٠ / مسألة ما لو كان على بدن المحدّث او ثوبه نجاسة ولم يجد من الماء إلا ما يكفيه لازالة النجاسة خاصة ، وص ٢٠٤ منه / مسألة الصلاة في الثوب المغصوب ، وص ٣٣٩ منه ، والمسالك : ١ / ٢٥ / مسألة وجوب رد السلام على المصلي.

٤ ـ في ط : والثاني.

٢٢٢

على أنه لم ينقل آحادا أيضا.

وبعض المتأخرين غير العبارة في المدعى (١) ، وقال : الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده ، وإلا لزم التكليف بالمحال ، فيبطل الضد إذا كان عبادة.

وفيه أيضا نظر ، ينكشف مما سنتلو عليك.

فاعلم : أن الواجب إما مؤقت أو غير مؤقت ، وكل منهما إلا مضيق أو لا ، فالاقسام أربعة :

المؤقت الموسع ، كالظهر مثلا.

والمؤقت المضيق ، كالصوم.

وغير المؤقت الموسع ، كالنذر المطلق على المشهور ، وغيره مما وقته العمر.

وغير المؤقت المضيق ، كإزالة النجاسة عن المسجد ، وأداء الدين والحج وغيرها من الواجبات الفورية.

فنقول : قوله : « الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده » غير صحيح في الواجبين الموسعين مطلقا ، إذ لا يتوهم فيه أنه تكليف بالمحال ، وهو ظاهر.

وأما في المؤقتين المضيقين فالمدعى حق ، إلا أنه لم يرد في الشرع شيء من هذا القبيل ، إلا ما تضيق بسبب تأخير المكلف ، كما إذا أخر المكلف الواجبين الموسعين إلى أن يبقى من الوقت بقدر فعل أحدهما.

ولكن لا يخفى أنه حينئذ لا يمكن الاستدلال على بطلان أحدهما ، لتعلق الامر بكل منهما ، ولا يتفاوت كون أحدهما أهم من الآخر ، بل الحق حينئذ التخيير ، وتحقق الاثم إن كان التأخير بسبب تقصيره ، بل لا يبعد أن يقال بوجوب كل منهما في هذا الوقت أيضا ، ولا يلزم التكليف بالمحال ، لان حتمية فعلهما في هذا الوقت ، إنما هي بالنظر إلى ما بعد ذلك الوقت ، لا بالنظر إلى ما

__________________

١ ـ انظر : زبدة الاصول : ٨٢ ـ ٨٣. وقد لمح الشهيد الثاني إلى ذلك حيث قال : « وإرادة أحد الضدين يستلزم عدم إرادة الآخر » المسالك : ١ / ٥٥.

٢٢٣

قبله ، لان نسبة هذا الجزء من الوقت إلى هذين الواجبين ، مثل نسبة أول الوقت ووسطه ، فكما أن الفعلين الواجبين في أول الوقت ووسطه متصفان بالوجوب من غير لزوم التكليف بالمحال ـ لكون الوجوب راجعا إلى التخييري بحسب أجزاء الوقت ـ فكذا في آخر الوقت أيضا ، والحتمية ـ بمعنى : عدم (١) جواز التأخير عنه ـ لا ترفع التخيير فيه بالنظر إلى ما قبله من أجزاء الوقت.

فإن قلت : إذا قصر المكلف ، وأخر الواجبين الموسعين حتى لا يبقى من وقتهما إلا بمقدار فعل أحدهما ، فحينئذ إن وجب كل منهما معا في هذا الوقت ، يكون تكليفا بالمحال ، ولا يجدي إمكان إيقاعهما قبل هذا الوقت ، لان الفرض أنه فات.

قلت : وجوبهما في هذا الوقت بالايجاب السابق ، الذي نسبته إلى اول الوقت ووسطه وآخره نسبة واحدة ، فكما لا يتوهم التكليف بالمحال في الاولين ، فكذا في الآخر.

وأما في المضيقين غير المؤقتين ـ كإزالة النجاسة من المسجد ، وأداء الدين مثلا إذا تضادا ـ فنقول : أول وقت وجوبهما ، قبل أن يمضي زمان يمكن فعل أحدهما فيه ، لا يجوز أن يكون كلاهما واجبا عينيا ، للزوم التكليف بالمحال ، بل يكون وجوبهما حينئذ تخييريا (٢) إن لم يكن بينهما ترتيب ، ولا يمكن الاستدلال على النهي عن (٣) أحدهما بسبب الامر بالآخر ، لما عرفت ، تساويا في الاهمية أو لا.

وأما إذا مضى من أول وقت وجوبهما بقدر فعل أحدهما ، ففيه الاحتمالان المذكوران :

__________________

١ ـ كلمة ( عدم ) : ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ.

٢ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : بل يكون وجوبهما تخييرا.

٣ ـ كذا في ب و ط ، وفي الاصل وأ : من.

٢٢٤

كون وجوبهما في كل جزء من الزمان تخييريا (١) ، ولكن مع تحقق الاثم على ترك ما تركه منهما ، بسبب تقسيره في التأخير مع إمكان فعله سابقا.

وكون وجوبهما في كل جزء منه حتميا بالنظر إلى ما بعده ، أعني : عدم جواز تأخيرهما ، لا بالنظر (٢) إلى ما قبله ، لامكان فعلهما قبله.

وعلى أي تقدير ، فلا يمكن الاستدلال على النهي عن (٣) أحدهما بسبب الامر بالآخر : أما على الاول : فلان الامر بأحدهما على التخيير ـ لا بهما معا ، حتى يتوهم التكليف بالمحال ـ لكن مع تحقق الاثم بترك ما تركه ، لتقصيره بتأخيره.

وأما على الثاني : فلما عرفت ، فتأمل.

وأما في الموسع مطلقا والمؤقت المضيق : فقد يتوهم أن هذا الوقت المضيق ، لما (٤) صار متعينا لوقوع هذا الواجب المضيق فيه ، خرج عن (٥) أن يكون وقتا لهذا الواجب الموسع ، فلم يتحقق الامر فيه بالواجب الموسع ، فإذا فعل فيه يكون باطلا ، وفيه بحث ، لان خروجه عن وقتية (٦) الموسع ممنوع.

فإن قلت : فما الفائدة في جعل هذا الوقت المضيق ، الذي ليس إلا بقدر الواجب المضيق ، وقتا له على التعيين ، وللموسع على التخيير؟.

قلت : الفائدة فيه أنه لو عصى المكلف وترك فيه الواجب المضيق ، ولكن أتى فيه بالموسع ، يكون مؤديا للموسع غير فايت له (٧) ، وكذا الكلام في الموسع

__________________

١ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : تخييرا.

٢ ـ اسقط حرف النفي من ط.

٣ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : من.

٤ ـ كلمة ( لما ) ساقطة من الاصل ، واثبتناها من سائر النسخ.

٥ ـ في ط : من.

٦ ـ في أ و ط : وقته.

٧ ـ كذا في النسخ : والمراد : مفوت. وقد اتفق للمصنف رحمه‌الله امثال هذه المسامحات اللفظية في مواضع اخر من كتابنا هذا فلاحظ. ويحتمل أن يكون في المقام محذوف ، والتقدير : فالموسع

٢٢٥

مطلقا ، والمضيق غير المؤقت.

إذا عرفت هذا ، عرفت أن القول بأن الامر بالشيء يستلزم عدم الامر بضده ـ غير صحيح ، إلا في المضيقين المؤقتين ، وأما فيهما (١) فهو صحيح ، لكن لم يقع من هذا القبيل شيء في الشرع ، ولو وقع يكون محمولا على الوجوب التخييري ، فلا يمكن الاستدلال فيه أيضا على بطلان أحدهما.

ثم نقول : وهل الامر بالشيء يستلزم عدم طلب ضده على طريق الاستحباب؟ أو لا؟ الاظهر عدم الاستلزام فيه أيضا.

وتظهر الفائدة فيمن صلى نافلة الزوال في وقت الكسوف ، قبل صلاة الكسوف ، بحيث يفوته الفرض ، فإن قلنا بالاستلزام ، تكون النافلة باطلة ، ويحتاج إلى الاعادة ، وإلا فلا.

والحق الثاني ، إذ لا تناقض في إيجاب عبادة في وقت خاص ، واستحباب اخرى فيه بعينه ، ولا شك في صحة التصريح به ، من غير توهم تناقض ، بأن يقول : أوجبت عليك الفعل الفلاني في الوقت الفلاني ، وندبت عليك الفعل الفلاني في هذا الوقت بعينه ، بحيث لو عصيت وتركت الفعل الذي أوجبته عليك فيه وأتيت بما ندبت عليك فيه ، كنت مذوما لتركك الواجب ، وممدوحا لفعلك المندوب ، ولو كان وجوب الشيء في وقت منافيا لاستحباب آخر فيه ، لكان هذا الكلام مشتملا على التناقض ، مع أنه ليس كذلك ضرورة.

ولا يجري هذا في الواجبين المؤقتين المضيقين ، لانه لا يمكن للمكلف بهما الخلاص من الاثم على هذا التقدير ، بخلاف ما نحن فيه ، لانه يمكنه ترك النافلة.

فإن قلت : إذا علم الشارع أن فعل هذا النافلة مما لا ينفك عن

__________________

غير فائت له.

١ ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : وفيه.

٢٢٦

العصيان ، يقبح منه طلبها.

قلت : الموجب للعصيان هو إرادة ترك الواجب ، واستحباب هذه النافلة إنما هو على تقدير تحقق هذه الارادة ، فكأنه قال : إن اخترت إرادة هذا الواجب فلا أطلب منك شيئا غيره ، وإن اخترت عدم فعل هذا الواجب ، فقد عصيت ، ولكن حينئذ أطلب منك هذا المندوب.

فان قلت : هذا (١) يرفع كون التكليف بهما معا في حال واحدة.

قلت : نحن ننزل الخطاب الوجوبي والاستحبابي ـ لو وردا ـ على هذا المعنى ، فلا يمكن الاستدلال على بطلان المستحب ، بسبب الخطاب الوجوبي ، على أنه على تقدير إرادة عدم الوجوب يقع التكليف بهما معا ، فتأمل.

إذا عرفت هذا : فاستحباب شيء في وقت ، يكون بعض ذلك الوقت وقتا لواجب مضيق ، يكون جائزا بالطريق الأولى ، إذ يمكن حينئذ انفكاك الفعل المستحب عن العصيان ، بخلاف الاول ، فإنه لا ينفك عن العصيان ، وإن لم يكن هو الموجب له ، بل الموجب سوء الاختيار.

واعلم (٢) : أن من قال بأن الامر بالشيء يستلزم النهي عن ضده ، إنما يقول به في الواجب المضيق ، كما صرح به جماعة ، إذ لا يقول عاقل بأنه إذا زالت الشمس مثلا ، حرم الاكل والشرب والنوم وغيرها من أضداد الصلاة ، قبل فعل الصلاة.

ثم اعلم : أنه إيراد مقدمة الواجب والنهي عن الضد في هذا القسم إنما هو إذا لم يكن وجوب المقدمة وتحريم الضد ، على القول به ، من باب دلالة اللفظ ، كما قيل به ، ولكنه بعيد على هذا القول أيضا.

ولما كانت أدلة اقتضاء الامر بالشيء النهي عن الضد ضعيفة ، فالاولى عدم التعرض ل‍ :

__________________

١ ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ و ب : فهذا.

٢ ـ كلمة ( واعلم ) : ساقطة من الاصل وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٢٢٧

أن النهي عن الشيء هل يقتضي الامر بضده؟ أو لا؟ وهل استحباب الشيء يقتضي كراهة ضده وبالعكس؟ أو لا؟

والثالث : المنطوق غير الصحيح.

وهو ما لم يوضع له اللفظ ، بل يكون مما يلزم لما وضع له اللفظ ، وهو أقسام : الاول : ما يتوقف صدق المعنى ، أو صحته عليه ، ويسمى بدلالة الاقتضاء.

فالصدوق : نحو : « رفع عن امتي : الخطأ ، والنسيان » (١) فإن صدقه يتوقف على تقدير المؤاخذة ، لوقوعهما من (٢) غير المعصوم عليه‌السلام.

والصحة : نحو ( وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ ) (٣).

وحجية هذا القسم ظاهرة ، إذا كان الموقوف عليه مقطوعا به.

الثاني : ما يقترن بحكم على وجه ، يفهم منه أنه علة لذلك الحكم ، فيلزمه (٤) جريان هذا الحكم في غير هذا المورد ، مما اقترنت به ، ويسمى بدلالة التنبيه والايماء ، نحو قوله عليه‌السلام : « أعتق رقبة » حين قال له الاعرابي : واقعت أهلي في شهر رمضان (٥) ، فإنه يفهم (٦) منه أن علة وجوب العتق هي المواقعة ، فيجب في كل موضع تحققت.

وهو حجة إذا علم العلية ، وعدم مدخلية خصوئص الواقعة (٧) ، فإن مدار

____________

١ ـ الكافي : ٢ / ٤٦٢ ـ كتاب الايمان والكفر / باب ما رفع عن الامة ح ٢ ، الفقيه : ١ / ٥٩ ح ١٣٢ ( لكن فيهما : وضع. بدل : رفع ) الخصال : ٢ / ٤١٧ ـ بال التسعة.

٢ ـ في أ و ط : عن.

٣ ـ يوسف / ٨٢.

٤ ـ في ط : فيلزم.

٥ ـ الفقيه : ٢ / ١١٥ ح ١٨٨٥.

٦ ـ في أ و ط : يعلم.

٧ ـ كذا في أ و ب و ط ، وفي الاصل : المواقعة.

٢٢٨

الاستدلال في الكتب الفقهية عليه ، وهذا هو مراد المحقق في المعتبر (١) ، حيث حكم بحجية تنقيح المناط القطعي ، كما إذا قيل له عليه‌السلام : صليت مع النجاسة؟ فيقول عليه‌السلام : أعد صلاتك ، فإنه يعلم منه ، أن علة الاعادة هي النجاسة في البدن أو الثوب ، ولا مدخلية لخصوص المصلي ، أو الصلاة.

الثالث : ما لم يقصد عرفا من الكلام ، ولكن يلزم المقصود ، نحو قوله تعالى : ( وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) (٢) مع قوله تعالى : ( وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ) (٣) علم منهما أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، فإن المقصود (٤) في الأولى بيان حق الوالدة وتعبها ، وفي الثانية بيان مدة الفصال ، فلزم منهما : العلم بأقل مدة الحمل ، ويسمى بدلالة الاشارة ، وحجيته ظاهرة إذا كان اللازم قطعيا.

والرابع : المفهوم.

وينقسم إلى موافقة ومخالفة ، لان حكم غير المذكور : إما موافق لحكم المذكور نفيا وإثباتا ، أو لا ، والاول الاول ، والثاني الثاني.

والاول : يسمى بفحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، وضرب له أمثلة.

منها : قوله تعالى : ( فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا ) (٥) فإنه يعلم من حال التأفيف ـ وهو محل النطق ـ حال الضرب ، وهو غير محل النطق ، وهما متفقان في الحرمة.

ومنها : قوله تعالى : ( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ) (٦).

ومنها : قوله تعالى : ( وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ

____________

١ ـ نص المحقق الحلّي على هذا في : معارج الاصول : ١٨٥.

٢ ـ الاحقاف / ١٥.

٣ ـ لقمان / ١٤.

٤ ـ في ب و ط : المراد.

٥ ـ الاسراء / ٢٣.

٦ ـ الزلزلة / ٧ ، ٨.

٢٢٩

وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ ) (١).

فإنه يعلم منه (٢) مجازاة ما فوق الذرة في الاول ، وتأدية ما دون القنطار في الثاني ، وعدم ما فوقه في الثالث ، فهو تنبيه بالادنى ـ أي : الاقل مناسبة ـ على الاعلى ، أي : الاكثر مناسبة.

وهو حجة إذا كان قطعيا ، أي : كون (٣) التعليل بالمعنى المناسب ـ كالاكرام في منع التأفيف ، وعدم تضييع الاحسان ، والاساء‌ة في الجزاء ، والامانة في أداء القنطار ، وعدمها في أداء الدينار ، وكونه أشد مناسبة للفرع ، قطعيين ، كالامثلة المذكورة.

وأما إذا كانا ظنيين : فهو مما يرجع إلى القياس المنهي عنه (٤) ، كما يقال.

( يكره جلوس المجبوب الصائم في الماء ، لاجل ثبوت كراهة جلوس المرأة الصائمة في الماء ) ، ويقال : ( إذا كان اليمين غير الغموس توجب الكفارة ، فالغموس أولى ) ، لعدم تيقن كون العلة في الاول جذب الماء بالفرج ، وفي الثاني الزجر.

__________________

١ ـ آل عمران / ٧٥.

٢ ـ كلمه ( منه ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٣ ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : يكون.

٤ ـ ويدل على بطلان هذا القسم من القياس ما رواه ابن بابويه في الصحيح « عن عبدالرحمن بن الحجاج ، عن أبان بن تغلب ، قال : قلت لأبي عبدالله (ع) : ما تقول في رجل اصبعا من اصابع المرأة ، كم فيها؟ قال : عشرة من الابل. قلت : قطع اثنتين؟ قال : عشرون. قلت : قطع ثلاثا؟ قال ثلاثون. قلت قطع أربعا؟ قال : عشرون. قلت سبحان الله! يقطع ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعا فيكون عليه عشرون! إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ، ونقول : الذي قاله شيطان. فقال : مهلا يا أبان ، هكذا حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله . إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية ، فاذا بلغت رجعت المرأة إلى النصف ، يا أبان انك أخذتني بالقياس ، والسنة اذا قيست محق الدين ». ( منه رحمه‌الله ).

٢٣٠

والثاني أقسام :

الاول : مفهوم الصفة ، نحو قوله (١) : « في الغنم السائمة زكاة » (٢) ومفهومه : نفي الزكاة عن المعلوفة.

الثاني : مفهوم الشرط ، نحو : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا » (٣) مفهومه : نجاسة الماء القليل.

الثالث : مفهوم الغاية ، مثل : ( فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىٰ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ) (٤) مفهومه : أنها إذا نكحت زوجا غيره تحل.

الرابع : مفهوم العدد الخاص ، مثل : ( فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ) (٥) مفهومه : عدم وجوب الزائد على الثمانين.

الخامس : مفهوم الحصر ، مثل : ( المنطلق زيد ) مفهومه : نفي الانطلاق عن غيره.

وعد بعضهم مفهوم الاستثناء ، ومفهوم ( إنما ).

والحق : أن دلالتهما على ما يفهم منهما ـ من المنطوق ، على تقدير ثبوت أن ( إنما ) بمعنى : ( ما ) و ( إلا ).

وعلى تقدير كونه بمعنى : ( إن ) التأكيدية و ( ما ) الزائدة ، فلا مفهوم له أصلا ، وذلك لان المنطوق ما دل عليه اللفظ في محل النطق ، أي : يكون حكما للمذكور ، وحالا من أحواله ، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أو لا ، والمفهوم بخلافه ، ولا يخفى أنا إذا قلنا : ( ما جاء القوم إلا زيد ) فنفي الجيأة (٦) عما عدا

____________

١ ـ كلمة ( قوله ) : اضافة من ب.

٢ ـ مثل به السيد في الذريعة : ١ / ٣٩٩ ، والغزالي في المستصفى : ٢ / ١٩١ ، وغيرهما.

٣ ـ غوالي اللآلي : ١ / ٧٦ و ٦١٢.

٤ ـ البقرة / ٢٣٠.

٥ ـ النور / ٤.

٦ ـ في أ و ط : المجيأة.

٢٣١

زيد من القوم ، مما نطق به ، وكذا : ( ما جاء إلا زيد ) ، لان المقدر كالمذكور.

السادس : مفهوم الزمان والمكان ، مثل : ( أفعله (١) في هذا اليوم ) أو : ( في هذا المكان ) ومفهومه : نفي الفعل في غير ذلك الزمان والمكان.

وقد وقع الخلاف في حجية المفهوم بأقسامه (٢) : فالسيد المرتضى (٣) ، وجماعة من العامة أيضا (٤) : أنكروا حجية جميع أقسامه.

والشيخ الطوسي رحمه‌الله : قال بحجية مفهوم الصفة (٥) ، ومال إليه الشهيد (٦) ، وبه قال أكثر العامة (٧).

والظاهر : أن قال بمفهومه الصفة ، يعترف بحجية : مفهوم الشرط ، والغاية ، والزمان ، والمكان ، لان الاولين أولى منه ، والاخيرين في معناه.

ومختار المرتضى رحمه‌الله قوي.

ولما كان حجية مفهوم الغاية أقوى من باقي الاقسام ، فنحن نتكلم فيه ويظهر منه حال البواقي ، من غير تأمل ، فنقول :

__________________

١ ـ في ب : فعله : وفي ط : افعل.

٢ ـ كذا في أ و ب ، وفي الاصل و ط : باقسام.

٣ ـ الذريعة : ١ / ٣٩٢.

٤ ـ فقد انكره ابوحنيفة ، كما في المنخول : ٢٠٩ ، وهو مذهب الاحناف والقاضي أبي بكر وأبي العباس بن سريج والقفال الشاشي والغزالي ، كما في الابهاج : ١ / ٣٧١ ، وقوم من المتكلمين ، كما في التبصرة : ٢١٨ ، والآمدي ، كما في التمهيد : ٢٤٥ ، ٢٥٣.

٥ ـ لم نجد في العدة ما يدل على صحة هذه النسبة ، بل قال الشيخ بعد نقله كلاما مبسوطا للسيد المرتضى في الاستدلال على عدم حجية الوصف ـ قال : ولي في هذه المسألة نظر. عدة الاصول ٢ / ٢٥.

٦ ـ الاذكرى : ٥ / المقدمة / الاشارة السادسة / الاصل الرابع / القسم الثاني / قوله خامسا.

٧ ـ فقد ذهب إلى ذلك الشافعي والجمهور ، كما في التمهيد : ٢٤٥ ، ٢٥٣ ، وابوالحسن وابو عبيدة معمر بن المثنى ، وجمع كثير من الفقهاء والمتكلمين ، كما في الابهاج ١ / ٣٧١ ، والشيرازي في التبصرة : ٢١٨.

٢٣٢

لنا : أن قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) لا يدل على نفي وجوب صوم الليل بوجه ، أما المطابقة والتضمن : فظاهر ، وأما الالتزام : فلانه لا ملازمة بين وجوب صوم النهار وعدم وجوب صوم الليل ، وهو ظاهر.

فإن قلت : نحن ندعي أن مفهوم الغاية وغيره (١) مما يلزم المنطوق لزوما غير بين ، كوجوب مقدمة الواجب ونحوه ، ولهذا أدرجناه في الادلة العقلية.

قلت : ليس ههنا ما يوجب القول بالمفهوم ، كما ستعرف من ضعف أدلة الخصم.

احتج الخصم بوجوه ضعيفة ، أقواها : أن التعليق على الغاية والشرط والصفة وغيرها ، يجب أن يكون لفائدة ، والفائدة هي مخالفة حكم المذكور للمسكوت عنه ، لان الاصل عدم غيرها من الفوائد ، وهي أمور : الاول : أن يكون قد خرج مخرج الاغلب ، مثل : ( وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُم ) (٢) ، فإن الغالب كون الربائب في الحجور ، فقيد لذلك ، لا لان حكم اللاتي لسن في الحجور بخلافه.

الثاني : أن يكون لسؤال سائل عن المذكور ، أو لحادثة مخصوصة به ، مثل أن يسأل : هل في الغنم السائمة زكاة؟ فيقول : في الغنم السائمة زكاة.

أو يكون الغرض بيان ذلك لمن له السائمة دون المعلوفة.

الثالث : أن تكون المصلحة في السكوت عن المسكوت عنه ، وعدم إعلام حاله.

وغير ذلك من الفوائد المذكورة في المطولات.

والمخالفة مما لا يحتاج إلى القرينة ، بخلاف الفوائد الاخر ، فإنها محتاجة إلى القرائن الخارجة (٣) ، فيصير عند عدم القرينة من قبيل اللفظ المردد بين

____________

١ ـ في ط : ونحوه.

٢ ـ النساء / ٢٣.

٣ ـ في ط : الخارجية.

٢٣٣

المعنى الحقيقي والمجازي ، فظاهر أنه محمول على المعنى الحقيقي ، عند التجرد عن القرينة.

والجواب : أن هذه الفوائد كلها متساوية (١) في الاحتياج إلى القرينة وليس للمخالفة المذكورة رجحان على غيرها من الفوائد ، ليحمل عليه عند عدم ظهور القرينة ، بل يمكن أن يقال : إن الفائدة الثالثة ، وهي المصلحة في عدم الاعلام ، راجحة على غيرها ، سيما في كلام الائمة صلوات الله عليهم.

فظهر بطلان ادعاء اللزوم غير البين بين المفهوم والمنطوق.

واحتج صاحب المعالم على الدلالة الالتزامية في مفهوم الغاية ب‍ : أن قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) معناه : آخر وجوب الصوم مجيء الليل ، فلو فرض ثبوت الوجوب بعد مجيئه ، لم يكن الليل آخرا ، وهو خلاف المنطوق (٢) ـ وقريب منه استدلال ابن الحاجب في مختصره (٣) ـ وقال بعد ذلك في جواب السيد : اللزوم هنا ظاهر ، إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل مثلا ، عن عدمه في الليل (٤).

والجواب : لا نسلم أن معناه ذلك ، بل معناه : أريد منكم الامساك الخاص في زمان أوله طلوع الفجر ، وآخره الليل.

وظاهر : أن مطلوبية الامساك في القطعة الخاصة من الزمان ، لا تستلزم عدم مطلوبيته فيما بعد تلك القطعة ، بل يجوز أن يكون فيما بعدها أيضا مطلوبا موسعا ، لكن سكت عنه لمصلحة اقتضت ذلك ، فقول القائل : ( صوموا إلى الليل ) يستفاد منه أن الصوم الواجب بذلك الخطاب انتهاؤه الليل ، وهذا لا يجدي الخصم.

وقوله في بيان اللزوم : « إذ لا ينفك تصور الصوم المقيد بكون آخره الليل

__________________

١ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : مساوية.

٢ ـ معالم الدين : ٨١.

٣ ـ شرح العضد : ٢ / ٣٢٠ ( لاحظ المتن ).

٤ ـ معالم الدين : ٨٢.

٢٣٤

مثلا عن عدمه في الليل » لا يخفى ما فيه ، فإن مدلول قول القائل : ( صوموا إلى الليل ) هو مطلوبية الصوم ـ أي الامساك ـ إلى الليل ، وليس لفظة ( إلى الليل ) صفة للصوم ، حتى يكون المعنى مطلوبية الصوم الموصوف بكونه منتهيا إلى الليل ، مع أنه على تقدير الوصفية أيضا يرجع إلى مفهوم الوصف ، وهو ينكره (١) ، فليس للمفهوم لزوم ذهني مع المنطوق.

واحتج أيضا على حجية مفهوم الشرط ب‍ : أن قول القائل : ( أعط زيدا درهما إن أكرمك ) يجري في العرف مجرى قولنا : الشرط في إعطائه إكرامك.

والمتبادر من هذا : انتفاء الاعطاء عند انتفاء الاكرام قطعا ، فيكون الاول أيضا هكذا (٢).

ولا يخفى ما فيه ، إذ لا يلزم أن يكون ما يتبادر من لفظ الشرط متبادرا من ( إن ) المسماة في العرف بحرف الشرط ، بل هو قياس لكلام على كلام آخر من غير بيان الجامع ، مع أن ادعاء التبادر من الثاني أيضا منظور فيه ، فتأمل.

ثم لا يذهب عليك : أن ثمرة الخلاف إنما تظهر إذا كان المفهوم مخالفا للاصل ، نحو : ( ليس في الغنم المعلوفة زكاة ) أو : ( ليس في الغنم زكاة إذا كانت معلوفة ) أو : ( ليس في الغنم زكاة إلى أن تسوم ) فهل يجوز بمجرد هذا مثلا ، القول بجوب الزكاة في السائمة؟ أو لا؟ فأنكره المرتضى (٣) ، وقد عرفت حقيقة الحال.

وأما إذا كان موافقا للاصل : نحو : ( في الغنم السائمة زكاة ) ، فإن نفي الزكاة عن المعلوفة هو المقتضي لبراء‌ة الذمة ، فلا يظهر للخلاف فيه ثمرة يعتد بها.

وكأن المفهوم في هذا القسم لما كان مركوزا في العقول ، بسبب موافقة

__________________

١ ـ أي : عدم الصوم في الليل. ( منه رحمه‌الله ).

٢ ـ معالم الدين : ٧٧ ـ ٧٨.

٣ ـ الذريعة : ١ / ٣٩٤ و ٤٠٦ و ٤٠٧.

٢٣٥

الاصل ، ادعي أنه حجة ، ومتبادر من حكم المنطوق ، ويؤيده : أن الامثلة المذكورة في استدلالهم ، كلها من هذا القبيل.

واحتج بعضهم على حجية مفهوم الشرط والصفة ، بأن هذا النحو من التعليق يشعر بالعلية ، والعلة منتفية في المفهوم بحسب الفرض ، والاصل عدم علة اخرى ، فينتفي فيه حكم المنطوق (١).

والجواب : ـ بعد تسليم اعتبار (٢) مطلق العلة منصوصة كانت أو مستنبطة ـ أن هذا النحو من الاستدلال صحيح ، لرجوعه إلى أصالة براء‌ة الذمة كما عرفت ، ولا مدخلية للمنطوق فيه ، مثلا : لو لم يكن النص الدال على وجوب الزكاة في السائمة متحققا ، أمكن إجراء هذا الاستدلال على نفي الزكاة في المعلوفة ، بأن يقال : الاصل عدم تحقق علل وجوب الزكاة في المعلوفة ، فينتفي وجوب الزكاة فيها.

والخامس : القياس.

وهو : إثبات الحكم في محل ، بعلة ، لثبوته في محل آخر بتلك العلة.

واختلف في حجيته (٣) ، ولا خلاف بين الشيعة في عدم حجيته ، ما لم ينص على العلة (٤) ـ مثل أن يقول : ( حرمت الخمر ) ، فلا يجوز بمجرد هذا القول ، الحكم بتحريم غيره من المسكرات ، بسبب ظن أن علة حرمة الخمر هي الاسكار ، وهو متحقق في غيره ـ إلا ما نقل عن ابن الجنيد : أنه كان يقول به (٥) ثم رجع (٦).

__________________

١ ـ المحصول : ١ / ٢٦٦ ( الثالث ) ، المنتهى : ١٥٢. وتقرير الدليل للمصنف.

٢ ـ في ب : اختيار.

٣ ـ المستصفى : ٢ / ٢٣٤ ، المحصول : ٢ / ٢٤٥ ، المنتهى : ١٨٦ ، ١٨٨.

٤ ـ الذريعة : ٢ / ٦٩٧ ، عدة الاصول : ٢ / ٩٠ ، معارج الاصول : ١٨٧.

٥ ـ الفهرست : ١٣٤ ترجمة رقم ٥٩٠ ، و : رجال النجاشي : ٣٨٨ ترجمة رقم ١٠٤٧.

٦ ـ لم نجد من نص على ذلك ، حتى نسب في الفوائد المدنية ( ص ١٣٥ ) رجوعه عنه إلى القيل.

٢٣٦

بل إنكار القياس قد صار متواترا عندنا.

واختلف أصحابنا في حجية القياس المنصوص العلة ، مثل أن يقول : ( حرمت الخمر لاسكاره ) ، فهل يجوز القول بتحريم غيره من المسكرات بمجرد ذلك؟ أو لا؟ فأنكره السيد المرتضى (١).

وقال به العلامة (٢) وجماعة (٣).

والحق أن يقال : إذا حصل القطع بأن الامر الفلاني علة لحكم خاص ، من غير مدخلية شيء آخر في العلية ، وعلم وجود تلك العلة في محل آخر ، لا بالظن بل بالعلم ، فإنه حينئذ يلزم القول بذلك الحكم في هذا المحل الآخر ، لان الاصل حينئذ يصير من قبيل النص على حكم كل ما فيه تلك العلة ، فيخرج في الحقيقة عن القياس.

وهذا مختار المحقق أيضا (٤).

ولكن هذا في الحقيقة قول بنفي حجية القياس المنصوص العلة ، إذ حصول هذين القطعين (٥) مما يكاد ينخرط في سلك المحالات ، إلا في تنقيح المناط ، على ما مر.

واعلم : ان للعلم بالعلة عند القايسين طرقا : منها : النص عليها ، وله مراتب : صريح ، وهو : ما دل وضعا ، مثل : ( لعله كذا ) أو (٦) : ( لاجل كذا ) أو : ( كي يكون كذا ) أو : ( إذن يكون كذا ) أو : ( لكذا ) أو : ( بكذا ) إذا كانت

__________________

١ ـ الذريعة : ٢ / ٦٨٤.

٢ ـ تهذيب الوصول : ٨٤ ـ ٨٥.

٣ ـ معالم الدين : ٢٢٩.

٤ ـ معارج الاصول : ١٨٥ / المسألة الرابعة.

٥ ـ بل الاول. ( منه رحمه‌الله ).

٦ ـ كذا في ب و ط ، وفي الاصل وأ : و.

٢٣٧

( الباء ) للسببية (١) ، أو : ( فإنه كذا ).

وتنبيه وإيماء ، وهو : ما لزم مدلول اللفظ ، وضابطه : كل اقتران بوصف ، لو لم يكن للتعليل لكان بعيدا ، مثل ما مر من قصة الاعرابي (٢) ، فكأنه عليه‌السلام في جوابه قال : واقعت فكفر.

وهذا القسم قد (٣) يصير قطعيا ، فإنه إذا علم عدم مدخلية بعض الاوصاف ، فحذف ، وعلل بالباقي ، سمي تنقيح المناط القطعي ، كما يقال : إن كونه أعرابيا لا مدخل له في العلية ، إذ الهندي والاعرابي حكمهما واحد في الشرع ، وكذا كون المحل أهلا ، فإن الزنا أجدر به ، وعند الحنفية : لا مدخلية لكونه وقاعا ، فيكون الاكل وغيره من مفسدات الصوم كذلك (٤).

وقد يكون ظنيا ، محتملا لعدم قصد الجواب ، كما يقول العبد : ( طلعت الشمس ) فيقول السيد : ( إسقني ماء‌ا ).

ومن الايماء : ما روي من قوله عليه‌السلام ، حين قالت له الخثعمية : « إن أبي أدركته الوفاة وعليه فريضة الحج ، فإن حجحت عنه ، أينفعه ذلك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله : أرأيت لو كان على أبيك دين ، فقضيته ، أكان ينفعه ذلك؟ قالت : نعم.

قال : فدين الله أحق أن يقضى » (٥).

ومنه : أن يفرق بين حكمين بوصفين ، مثل : « للراجل سهم ، وللفارس سهمان » (٦).

____________

١ ـ وردت هذه الجملة في نسخة أ كما يلي : مثل لعلة كذا ، ولاجل كذا ، وكي يكون كذا ، ولكذا ، او بكذا ، اذا كانت الباء للسببية. وفي ط : مثل للعلة كذا ، أو لاجل كذا ، أو كي يكون كذا ، او اذن يكون كذا ، ولكذا ، وبكذا ، اذا كانت الباء للسببية.

٢ ـ انظر ص ٢٢٨.

٣ ـ كلمة ( قد ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من سائر النسخ.

٤ ـ اصول السرخسي : ١ / ٢٤٤ ـ ٢٤٥ ، ٢ / ١٥٣ ـ ١٥٤.

٥ ـ دعائم الاسلام : ١ / ٣٣٦.

٦ ـ الكافي : ٥ / ٤٤ ـ كتاب الجهاد / باب قسمة الغنيمة ح ٢.

٢٣٨

ومنه : تعليق الحكم على الوصف المناسب ، مثل ( أكرم العلماء ).

ومنها : السبر والتقسيم ، وهو : حصر الاوصاف الموجودة في الاصل ـ الصالحة للتعليل ـ في عدد ، ثم إبطال بعضها ، وهو ما سوى الذي يدعى أنه العلة ، كما يقال في قياس الذرة على البرفي الربوية : إن الاوصاف الصالحة للعلية في البر ليس إلا القوت والطعم والكيل ، لكن القوت والطعم لا يصلح للعلية ، فتعين الكيل.

ومنها : تخريج المناط ، وهو : تعيين العلة في الاصل بمجرد المناسبة بينها وبين الحكم في الاصل ، لا بالنص ولا بغيره ، كالاسكار للتحريم ، فإن النظر في المسكر وحكمه ووصفه ، يوجب العلم بكون الاسكار مناسبا لشرع التحريم ، وكالقتل العمد العدوان ، فإنه بالنظر إلى ذاته مناسب لشرع القصاص.

والمناسب ـ اصطلاحا ـ : وصف ظاهر منضبط ، يحصل من ترتب الحكم على (١) ما يصلح أن يكون مقصودا للعقلاء : من حصول مصلحة ، أو دفع مفسدة.

وفي هذه الطريقة لا يحتاج إلى السبر.

ويرد على القياس ـ بعد الايرادات المذكورة في المطولات ـ : أنه قد لا تكون علة الحكم في الشيء شيئا من أوصاف ذلك الشيء ، كما يدل عليه قوله تعالى : ( فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ) الآية (٢) ، وفي آية اخرى : ( وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ) الآية (٣) ، فإنه يدل على أن علة تحريم هذه الاشياء عصيانهم ، لا أوصاف تلك الاشياء ، فتأمل.

* * *

__________________

١ ـ كذا الصواب ، وفي النسخ : عليه. بدل : على.

٢ ـ النساء / ١٦٠.

٣ ـ الانعام / ١٤٦.

٢٣٩
٢٤٠