عبد الله بن محمّد البشروي الخراساني
المحقق: السيد محمد حسين الرضوي الكشميري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١١
والقول الثالث : التفصيل ، وهو الدلالة (١) في العبادات ، لا في المعاملات ، وهو مختار المحصول منهم (٢) ، والعلامة (٣) ، والمحقق (٤) ، وكثير من المتأخرين منا (٥).
والحق : أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا ، فههنا مققامان :
الاول : أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من العبادات.
والدليل عليه : أن المنهي عنه لا يكون مرادا ومطلوبا للمكلف ، والعبادة الصحيحة ـ واجبة أو مندوبة ـ تكون مرادة ومطلوبة للمكلف ، فلا يكون المنهي عنه عبادة صحيحة ، وهو ظاهر.
واعلم أن النهي : قد يرجع إلى نفس العبادة ، كالنهي عن صلاة الحائض.
وقد يرجع إلى جزئها ، كالنهي عن قراءة العزائم في اليومية ، بناءا على جزئية السورة.
وقد يرجع إلى وصف لازم ، كالنهي عن الجهر في الفرائض النهارية.
وقد يرجع إلى (٦) أمر مقارن غير لازم ، كالنهي عن قول ( آمين ) بعد الحمد ، وعن التكفير ـ وهو وضع اليمين على الشمال في الصلاة ـ ونحو ذلك.
واقتضاء النهي الفساد في الثلاثة الاول ظاهر ، إذ صحة الكل والملزوم ، مع فساد الجزء واللازم (٧) ، ظاهر الفساد.
وأما القسم الاخير : فقد وقع الخلاف فيه بين فقهائنا :
__________________
١ ـ زاد في ط كلمة ( مطلقا ) في هذا الموضع.
٢ ـ المحصول : ١ / ٣٤٤.
٣ ـ تهذيب الوصول : ٣٣.
٤ ـ معارج الاصول : ٧٧.
٥ ـ معالم الدين : ٩٦.
٦ ـ زاد في ب في هذا الموضع كلمة : وصف.
٧ ـ حرف العطف ساقط من أ وب.
فبعضهم يقول : إن النهي عن مثل (١) هذه الامور ، لا يوجب فساد العبادة الواقعة هي فيها ، أو المتصفة بها ، إذ هذه امور خارجة (٢) ومغايرة للعبادة ، ولا دليل على استلزام فسادها لفساد العبادة ، والامر يقتضي الاجزاء إجماعا ممن يعتد به.
وبعضهم يقول بفساد العبادة بفسادها ، وكأن الوجه فيه : أنه يفهم من النهي أن عدم المنهي عنه من شرائط تحقق العبادة الشرعية ، ووجوده مانع منه ، فلا يمكن تحقق العبادة مع وجوده.
والحق أن يقال : إن العبادة إذا كانت بحيث قد علم من دليل شرعي جميع أجزائها وشرائطها وموانعها ، ولا يكون هذا المنهي عنه شيئا منها ، فالنهي حينئذ لا يقتضي فساد العبادة المقارنة للمنهي عنه ، لما مر ، وأما مع عدم ذلك فالظاهر أن المنهي عنه من موانع حقيقة العبادة شرعا ، إذ جميع أجزاء العبادة وشرائطها وموانعها ، إنما يعلم من الاوامر والنواهي ، فليس لاحد أن يقول : إن النهي إنما يدل على حرمة المنهي عنه ، وهو لا يستلزم فساد العبادة.
كما أنه ليس له أن يقول : إن الامر إنما يدل على وجوب المأمور به في العبادة (٣) ، ولا دلالة له (٤) على جزئيته للعبادة ، أو شرطيته.
ولو صح هذا القول ، لانسد طريق الاستدلال على بطلان الصلاة والصوم وغيرهما ، بترك جل أجزائها وشرائطها كما لا يكاد (٥) يخفى.
ثم لا يخفى عليك : أن مانعية المنهي عنه ، إنما هو على تقدير اختصاص النهي بالعبادة ، فلو علم أن النهي عن الشيء في عبادة إنما هو لاجل حرمة ذلك
__________________
١ ـ كذا في أ و ب ، وفي الاصل و ط : ان نهي مثل.
٢ ـ كذا في أ و ط ، وفي الاصل و ب : خارجية.
٣ ـ في الاصل : والعبادة. وما اثبتناه مطابق لسائر النسخ.
٤ ـ كلمة ( له ) زيادة من أ.
٥ ـ كلمة ( يكاد ) : زيادة من ط.
الشئ مطلقا ، كالنهي عن النظر إلى الاجنبية في الصلاة ، فهو لا يقتضي فساد العبادة ، إذ حينئذ معلوم أن المنهي عنه لا ارتباط له بالعبادة في المانعية.
المقام الثاني : أن النهي يقتضي فساد ما تعلق به من المعاملات ، كأقسام البيوع والانكحة والطلاق وغيرها ، سواء كان النهي يرجع إلى نفس الصيغة ، كلفظ التحليل في النكاح ، والكنايات في الطلاق ، ونحو ذلك ، أو إلى أحد العوضين ، كبيع الميتة والخمر ونكاح المحرمات ، أو إلى وصف لازم ، كبيع الملامسة والمنابذة والربا ونكاح الشغار ونحو ذلك ، ويمكن إدخال كثير من هذه في الاولين.
والدليل على اقتضاء النهي الفساد في هذا القسم ـ من وجهين :
الاول : استدلال العلماء :
فإن علماء الامصار في الاعصار ، لم يزالوا يستدلون على الفساد بالنهي ، في أبواب الربا ، والانكحة والبيوع وغيرها (١).
وليس الفساد مدلولا للفظ النهي (٢) ، إذ لا يفهم سلب (٣) الاحكام من النهي المتعلق بشيء ، ولا تلازم بين التحريم وسلب الاحكام ، إذ لا بعد (٤) في أن تكون المصلحة في عدم شيء ، ولكن بعد وجوده تكون المصلحة في ترتب آثاره عليه (٥) ، ولهذاحكم شرعا بالتطهير إذا وقعت إزالة النجاسة بالماء المغصوب ، ويترتب على الوطئ في الحيض آثاره من لحوق الولد ، ووجوب المهر ، والتحليل للزوج الاول ، ونحو ذلك.
__________________
١ ـ في ب : ونحوها.
٢ ـ هذا تعريض بالمحقق الحلّي ، والعلامة الحلّي ، والشيخ حسن حيث استدلوا على عدم دلالة النهي على الفساد في هذا القسم بعدم الدلالة اللفظية عليه : معارج الاصول : ٧٧ ، تهذيب الوصول : ٣٤ ، معالم الدين : ٩٦ ـ ٩٧.
٣ ـ في أ : سبب.
٤ ـ في أ : يبعد.
٥ ـ هذا رد على دعوى المحقق الشيخ حسن : معالم الدين : ٩٧.
بل الفساد مما يحكم به العقل في المعاملات من ظاهر حال الناهي.
وقد وقع في الروايات ما يدل على اقتضاء النهي الفساد :
روى الشيخ في التهذيب ، في الصحيح : « عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهماالسلام ، أنه قال : لو لم يحرم على الناس أزواج النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لقول الله عزوجل ( وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا ) (١) ـ حرم على الحسن والحسين عليهماالسلام ، لقوله عزوجل : ( وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ ) (٢).
وروى في الموثق : « عن الحسن بن الجهم ، قال : قال أبوالحسن الرضا عليهالسلام : يا أبا محمد ، ما تقول في رجل تزوج بنصرانية على مسلمة؟ قلت : جعلت فداك ، وما قولي بين يديك؟!
قال : لتقولن ، فإن ذلك يعلم (٣) به قولي.
قلت : لا يجوز تزويج النصرانية على المسلمة ، ولا على غير مسلمة.
قال : لم؟ قلت : لقول الله عزوجل : ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) (٤).
قال : فما تقول في هذه الآية : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) (٥)؟ فقلت : قوله تعالى : ( وَلَا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ ) (٦) نسخت هذه الآية ، فتبسم ثم سكت » (٧).
__________________
١ ـ الاحزاب / ٥٣.
٢ ـ النساء / ٢٢ ، والحديث في : التهذيب : ٧ / ٢٨١ ح ١١٩٠.
٣ ـ كذا في المصدر ، وفي النسخ : تعلم.
٤ ـ البقرة / ٢٢١.
٥ ـ المائدة / ٥.
٦ ـ البقرة / ٢٢١.
٧ ـ التهذيب : ٧ / ٢٩٧ ح ١٢٤٣.
وروى : « عن زرارة بن أعين ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : لا ينبغي نكاح أهل الكتاب.
قلت : جعلت فداك ، وأين تحريمه؟ قال : قوله ( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) (١).
وفي الحسن ـ بإبراهيم بن هاشم ـ : « عن زرارة بن أعين ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن قول اللهه عزوجل : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ ) (٢)؟ فقال : هي منسوخة بقوله : ( وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ ) » (٣).
فإن الامام عليهالسلام استدل بالنهي عن التحريم ، ومعلوم أن المراد من التحريم في هذه الصور بطلان النكاح ، كما في قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ … ) (٤) الآية.
وروى في الحسن ـ به ـ : « عن زرارة ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، قال : سألته عن مملوك تزوج بغير إذن سيده؟ فقال : إن ذلك إلى سيده ، إن شاء أجازه ، وإن شاء فرق بينهما.
فقلت : أصلحك الله ، إن الحكم بن عتيبة (٥) ، وإبراهيم النخعي ، وأصحابهما ، يقولون : إن أصل النكاح باطل ، فلا تحل إجازة السيد له.
فقال أبوجعفر عليهالسلام : إنه لم يعص الله ، إنما عصى سيده ، فإذا أجازه فهو له جائز » (٦).
__________________
١ ـ الممتحنة / ١٠ ، والحديث في : التهذيب : ٧ / ١٩٧ ح ١٢٤٤.
٢ ـ المائدة / ٥.
٣ ـ التهذيب : ٧ / ٢٩٨ ح ١٢٤٥.
٤ ـ النساء / ٢٣.
٥ ـ في أ : عيينة. وهو تصحيف.
٦ ـ التهذيب : ٧ / ٣٥١ ح ١٤٣٢.
وفي حديث آخر عنه أيضا : « فقلت لأبي جعفر عليهالسلام فإن أصل النكاح كان عصيانا (١).
فقال أبوجعفر عليهالسلام : إنما أتى شيئا حلالا ، وليس بعاص لله ، وإنما عصى سيده ، ولم يعص الله ، إن ذلك ليس كإتيان ما حرم الله عليه من نكاح في عدة وأشباهه » (٢).
فإنهما يدلان على فساد النكاح إذا كان معصية لله تعالى.
وفي الحسن : عن « محمد بن مسلم ، قال : قال أبوجعفر عليهالسلام : من طلق ثلاثا في مجلس على غير طهر ، لم يكن شيئا ، إنما الطلاق : الذي أمر الله عزوجل به ، فمن خالف لم يكن له طلاق » (٣).
وجه الدلالة : أن الطلاق إذا كان منهيا عنه كان مخالفا لما أمر الله عزوجل به.
والروايات فيما يدل على المطلوب أكثر من أن تعد وتحصى ، فتدبرها (٤).
الثاني : أن لزوم الآثار والاحكام للمعاملات ليس عقليا ، بل هو بمجرد جعل الشارع ، من قبيل الاحكام الوضعية الناقلة عن الاصل ، فلا يحكم به إلا مع العلم ، أو الظن الشرعي ، ومع تعلق النهي بمعاملة لا يحصل العلم ولا الظن بأن الشارع جعل تلك المعاملة المنهي عنها سببا ومعرفا لشيء من الاحكام ، نعم إن علم في معاملة أن الشارع جعلها معرفا لاحكام مخصوصة مطلقا ـ سواء أكانت منهيا عنها لنفسها أو لجزئها أو لوصفها أو لم تكن ـ أمكن الحكم بترتب آثارها عليها مع حرمتها ، بأحد الوجوه المذكورة ، لكن الظاهر أن مثل ذلك ليس واقعا في أحكامنا.
__________________
١ ـ كذا في النسخ ، وفي المصدر : عاصيا.
٢ ـ التهذيب ٧ / ٣٥١ ح ١٤٣١.
٣ ـ التهذيب : ٨ / ٤٧ ح ١٤٦.
٤ ـ كذا في أ ، وفي سائر النسخ : فليتدبرها.
هذا ، ولو رجع النهي في المعاملة إلى أمر مقارن ، كالنهي عن البيع وقت النداء ، فهل يوجب الفساد أو لا؟
والحق فيه ـ أيضا ـ : مثل ما مر في مثله في النهي في العبادات ، بأن يقال ـ مع اختصاص النهي ، وعدم العلم بعدم مانعية المنهي عنه في صحة المعاملة ـ : الظاهر كون المنهي عنه مانعا من ترتب أحكامها عليها ، ويجري فيه الدليل المذكور ، فتأمل.
* * *
الباب الثاني
في العام والخاص
وفيه ايضا مقصدان
الاول في العام وفيه مباحث :
الاول :
العام : هو اللفظ المستغرق لما يصلح له بوضع واحد ، وقد وقع الخلاف في أن العام هل له صيغة تخصه؟ بحيث إذا استعملت في الخصوص كانت مجازا ، أو لا؟ والاكثر منا : على أن له صيغة كذلك (١).
وأنكر السيد المرتضى ذلك ، وذهب إلى الاشتراك اللفظي بحسب اللغة ، ووافقهم بحسب الشرع (٢).
والجمهور من العامة ـ أيضا ـ : على أن له صيغة كذلك (٣).
__________________
١ ـ عدة الاصول : ١ / ١٠٣ وما بعدها ، معارج الاصول : ٨١ ، تهذيب الوصول : ٣٥ ، وقد نسبه المحقق الشخ حسن إلى جمهور المحققين بعد أن صرح باختياره : معالم الدين : ١٠٢.
٢ ـ الذريعة : ١ / ١٩٨ ، ٢٠١.
٣ ـ المستصفى : ٢ / ٤٨ ، المحصول : ١ / ٣٥٦ ، المنتهى : ١٠٢ ـ ١٠٣ ، منهاج الوصول : ٨١ ـ ٨٢.
وعكس جمع منهم ، والقاضي منهم كالمرتضى (١).
ونقل عن الآمدي : التوقف (٢).
[ وقيل : بالتوقف ] في الأخبار والوعد والوعيد ، دون الامر والنهي (٣).
والحق : المشهور.
والصيغة الموضوعة (٤) له عند المحققين هي هذه : ( من ) و ( ما ) للشرط والموصول والاستفهام.
و ( مهما ) و ( أينما ) للشراط.
و ( متى ) للزمان.
و ( كل ) و ( جميع ) ، مع عدم إرادة الهيئة الاجتماعية.
والنكرة في سياق النفي ب ( لا ) أو ( ليس ) أو ( لن ) أو ( بما ) على المشهور.
وألحق البعض : النكرة في سياق الشرط ، كأن يقول : ( إن ولدت ولدا ، فأنت علي كظهر امي ) فيحصل الظهار بتوليد ولدين أو أكثر أيضا.
وألحق آخره النكرة في سياق الاثبات ، إذا كانت للامتنان ، نحو : ( فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ) (٥) وابتنى عليه الاستدلال على العموم في قوله تعالى ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ ) (٦).
وآخر : في سياق الامر ، نحو : ( اعتق رقبه ).
__________________
١ و ٢ و ٣ ـ حكى هذه الاقوال الإسنوي ، والظاهر اعتماد المصنف عليه في نسبة هذه الاقوال ، وما بين المعقوفين أخذناه من عبارة الإسنوي وقد خلت نسخ كتابنا هذا منه. انظر : التمهيد : ٢٩٧.
٤ ـ في ب : المخصوصة.
٥ ـ الرحمن / ٦٨.
٦ ـ الانفال / ١١.
ومنها : الجمع المعرف باللام ، أو بالاضافة ، والمفرد كذلك عند الاكثر (١) ، نقله الآمدي عن الشافعي والاكثر (٢) واختاره هو (٣) ، ونقله الرازي عن الفقهاء والمبرد (٤) ، ويظهر من الشارح الرضي عدم الخلاف فيه (٥) ، وفي شرح العضدي نقله عن المحققين ، من غير إشعار بخلاف فيه بينهم ، إلا المنكر لاصل صيغة العموم (٦).
وقد ألحق بالعموم : الجميع بصيغة الامر ، نحو ( أكرموا زيدا ) (٧).
والدليل على العموم في جميع ذلك : تبادره من الصيغ المذكورة ، عند التجرد عن القرائن ، وهو علامة الحقيقة.
وبعض من أنكر عموم المفرد ، اعترف به في الاحكام الشرعية ، معللا :
بأن تعيين البعض غير معلوم ، والحكم على البعض غير المعين غير معقول ـ إذ لا معنى لتحليل بيع من البيوع ، وتحريم فرد من الربا ، وعدم تنجيس مقدار (٨) الكر من بعض الماء ، في : ( وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ) (٩) ، و : « إذا بلغ الماء قدر (١٠) كر لم ينجسه شيء » (١١) ـ فتعين إرادة الجميع.
__________________
١ ـ اختاره الغزالي في المستصفى : ٢ / ٨٩.
٢ ـ كما في التمهيد : ٣٢٧.
٣ ـ الاحكام : ٢ / ٤٢١ ـ ٤٢٢.
٤ ـ المحصول : ١ / ٣٨٢. وزاد فيه : والجبائي. ولكن الرازي نفسه اختار عدم افادته العموم.
٥ ـ شرح الكافية : ٢ / ١٢٩.
٦ ـ شرح العضد : ١ / ٢١٥ ـ ٢١٦.
٧ ـ ذكره في المحصول : ١ / ٣٨١.
٨ ـ في ب و ط زيادة كلمة ( من ) في هذا الموضع.
٩ ـ البقرة / ٢٧٥.
١٠ ـ كلمة ( قدر ) : ساقطة من الاصل ، وقد اثبتناها من باقي النسخ.
١١ ـ كذا الحديث في النسخ ، ولكن المروي هو : « إذا كان الماء ... إلى آخره » الكافي : ٣ / ٢ ـ كتاب الطهارة / باب الماء الذي لا ينجسه شيء / ح ١. التهذيب : ١ / ٣٩ ـ ٤٠ / ح ١٠٧ ـ ١٠٩. وفي غوالي اللآلي : ١ / ٧٦ و ٢ / ٦ : « إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا ».
وأيضا : صحة الاستثناء دليل العموم ، إذ الاستثناء ـ عند الاكثر ـ : إخرج ما لولاه لوجوب الدخول (١) ، ولا يكفي الصلوح ، ولهذا لا يجوز : ( رأيت رجالا (٢) إلا زيدا ).
وليست صيغ العموم منحصرة فيما أوردناه ، فلتعلم (٣).
واعلم : أن الجمع المنكر لا يدل على العموم إلا في موضع يجري فيه ما ذكره المعترف في عموم المفرد في الاحكام ، لعدم فهم العموم منه ، وإفادة المعرف العموم ، إنما هي مع عدم تساوي احتمالي العهد والجنس ، وإلا فالعهد أظهر ، كما ذكره الاكثر ، ولا يتساوى الاحتمالان إلا مع تقدم (٤) أمر يرجع إليه ، كقوله تعالى : ( فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (٥).
البحث الثاني :
قيل : « ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال ، ينزل منزلة
__________________
١ ـ كذا في ط ، وقد اسقط الضمير من الاصل ، وفي أ و ب : ما لو لا الاخراج لوجب الدخول.
٢ ـ في ط : رجلا.
٣ ـ هناك صيغ اخرى تفيد العموم ، وإن وقع في كثير منها الخلاف ك ( سائر ) و ( معشر ) و ( معاشر ) و ( عامة ) و ( كافة ) و ( قاطبة ) و ( ما ) الزمانية نحو ( إلا ما دمت عليه قائما ) وكذا المصدرية مع الفعل المستقبل ، مثل ( يعجبني ما تصنع ) و ( أي ) في الشرط والاستفهام وان اتصل بها ( ما ) ، و ( متى ) و ( حيث ) و ( إن ) و ( كيف ) و ( اذا ) الشرطية اذا اتصلت بواحد منها ( ما ) ، و ( ايان ) و ( إذ ما ) و ( كم ) الاستفهامية ، واسم جمع ك ( الناس ) ، و ( الرهط ) و ( القوم ) ، والاسماء الموصولة ك ( الذي ) و ( التي ) ، وتثنيتهما وجمعهما ، واسماء الاشارة المجموعة مثل ( اولئك ) و ( هؤلاء ) والنكرة في سياق الاستفهام الانكاري مثل ( هل تعلم له سميا ) ، واذا اكد الكلام ب ( الابد ) أو ( الدوام ) أو ( دهر الداهرين ) أو ( عوض ) أو ( قط ) في النفي ، افاد العموم في الزمان ، واسماء القبائل مثل ( ربيعة ) و ( مضر ) و ( الاوس ) و ( الخزرج ) ( منه رحمهالله ).
٤ ـ في أ و ب : مع تقدمه.
٥ ـ المزمل / ١٦.
العموم في المقال » (١).
وقيل : بل حكايات الاحوال إذا تطرق اليها الاحتمال كساها ثوب الاجمال ، وسقط بها الاستدلال (٢) ، واختاره العلامة في التهذيب (٣).
والحق أن يقال : إنه أقسام :
الاول : أن يسأل عن واقعة دخلت في الوجود ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو الامام عليهالسلام ، مطلع عليها.
والحق فيه : عدم اقتضاء العموم ، لان الجواب ينصرف إلى الجهة الخاصه للواقعة المخصوصة ، ولا يتناول غيرها.
الثاني : أن يسأل عنها بعينها ، مع احتمال اطلاعه عليهالسلام على جهتها.
والحق فيه : القول الثاني ، مع عدم مرجح لاحد الاحتمالين.
الثالث : أن يسأل عن الواقعة لا باعتبار وقوعها.
والحق فيه (٤) أن يقال : إن الواقعة إن كانت لها جهة شائعة تقع غالبا عليها ، فالجواب إنما ينصرف إليها ، فلا يستدل به على غيرها.
وإن كانت جهات وقوعها واحتمالاته متساوية ، لا مرجح لشيء منها في عصرهم عليهمالسلام ، فالظاهر : العموم ، إذ عدم الانصراف إلى شيء منها يوجب إلغاء (٥) الدليل ، والصرف إلى إلبعض ترجيح بلا مرجح ، فينصرف إلى
__________________
١ ـ القاتل هو الشافعي واللفظ له ، حكاه عنه الفخر الرازي في : المحصول : ١ / ٣٩٢ ، ثم قال : مثاله أن ابن غيلان اسلم على عشر نسوة ، فقال عليه الصلاة والسلام : « أمسك أربعا ، وفارق سائرهن » ولم يسأله عن كيفية ورود عقده عليهن في الجمع ، أو الترتيب ، فكان اطلاقه القول دالا على أنه لا فرق بين أن تتفق تلك العقود معا وعلى الترتيب.
٢ ـ المستصفى : ٢ / ٦٠ ، المحصول : ١ / ٣٩٣.
٣ ـ كذا في ط ، وفي سائر النسخ : واختار الاول العلامة. وهو خطأ ، فإن العلامة تنظر في الاول بعدما ذكره : تهذيب الوصول : ٣٨ : فتأمل.
٤ ـ في أ : فيها.
٥ ـ في أ : القاء.
الكل ، وهو معنى (١) العموم.
والظاهر من المرتضى رحمهالله في الذريعة : القول بالعموم بترك الاستفصال ، فإنه قال : « إذا سئل عليهالسلام عن حكم المفطر ، فلا يخلو جوابه من ثلاثة أقسام : إما أن يكون عام اللفظ ، نحو أن يقول : كل مفطر فعليه الكفارة.
والقسم الثاني : أن يكون الجواب في المعنى عاما ، نحو أن يسأل عليهالسلام عن رجل أفطر ، فيدع الاستكشاف عما به أفطر ، ويقول عليهالسلام : عليه الكفارة ، فكأنه عليهالسلام قال : من أفطر فعليه الكفارة.
والقسم الثالث : أن يكون السؤال خاصا ، والجواب مثله ، فيحل (٢) محل الفعل » (٣).
فكلامه يدل على أن ترك الاستكشاف بمنزلة العموم ، إلا أن مثاله في تنقيح المناط ، والظاهر أنه لا خلاف في العموم حينئذ ، كما سيجيء في بحث الادلة العقلية إن شاء الله تعالى وتقدس.
البحث الثالث :
تخصيص حكم العام بمبين ، لا يخرجه عن الحجية (٤) في الباقي ، سواء خص بمتصل أو بمنفصل ، عقل أو نقل ، وسواء قلنا بأن ذلك العام حينئذ حقيقة ـ كما هو الحق في أغلب صور التخصيص بالمتصل ـ أو قلنا إنه مجاز ،
__________________
١ ـ في ط : مقتضى.
٢ ـ في أ : فيحمل. وفي ب : فجعل.
٣ ـ الذريعة : ١ / ٢٩٢.
٤ ـ في ط : الحجة.
وفاقا لمن تكلم في هذه المسألة من أصحابنا (١) ، ولجمهور العامة (٢).
وعند البلخي : إن خص بمتصل (٣).
والبصري : إن أنبأ لفظ العموم عنه قبل التخصيص ، لا مثل ( وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ ... ) (٤) غير المنبئ عن النصاب والحرز (٥).
وعبدالجبار : إن كان منبئا [ عنه ] (*) قبل التخصيص ، لا مثل ، ( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ ) (٦) المفتقر إلى البيان قبل إخراج مثل الحائض (٧).
وقيل بحجيته (٨) في أقل الجمع (٩).
وقال أبوثور : ليس بحجة مطلقا (١٠).
لنا وجوه :
الاول : تبادر كل الباقي من (١١) العام المخصص (١٢) ، وظهوره فيه
__________________
١ ـ عدة الاصول : ٢ / ٤ ، معارج الاصول : ٩٧ ، تهذيب الوصول : ٣٩ ، معالم الدين : ١١٦.
٢ ـ المستصفى : ٢ / ٥٧ ، المنخول : ١٥٣ ، المحصول : ١ / ٤٠٢ ، المنتهى : ١٠٧ ، منهاج الوصول : ٨٦ ، التمهيد : ٤١٤.
٣ ـ المنتهى : ١٠٧ ، الابهاج : ٢ / ١٣٩.
٤ ـ المائدة / ٣٨.
٥ ـ المنتهى : ١٠٧ ، الابهاج : ٢ / ١٣٩.
(*) [ عنه ] : اضافة اثبتناها للتوضيح ، أخذناها من : المنتهى : ١٠٧.
٦ ـ البقرة / ٤٣.
٧ ـ المنتهى : ١٠٧ ، الابهاج : ٢ / ١٤٠.
٨ ـ في أ : الحجية ، وفي : ط : بحجية.
٩ ـ وهو قول الشيخ صفي الدين الهندي الارموي. كما في الابهاج : ٢ / ١٤٠.
١٠ ـ الابهاج ٢ / ١٣٨ ، المنتهى ١٠٧ ، وزاد فيه : وأبان.
١١ ـ كذا الظاهر ، وفي النسخ : عن. بدل : من.
١٢ ـ هذا الدليل عبارة عن تطوير فني دقيق لما استدل به المحقق ، فقد استعاض بمصطلح التبادر عن قول المحقق : « لنا أن اللفظ متناول إلى آخره » : معارج الاصول : ٩٧.
كظهوره في الكل قبل (١) التخصيص ، فإن المدار في المحاورات على إيراد العمومات المخصصة من دون نصب قرينة اخرى غير التخصيص ، ولا يتوقف المخاطب في الحكم بالمراد حينئذ ، ولا يحكم بإجمال كلام المتكلم ، بل لا يخطر بباله غير إرادة كل الباقي ، والمنكر مكابر.
الثاني : أنه إذا قال : ( أكرم بني تميم ، وأما فلان فلا تكرمه ) ، فترك إكرام غير المخرج ، عد عاصيا ، ولو لا الظهور لما عصى به (٢).
الثالث : استدل العلماء قديما وحديثا بالعامات المخصوصة من غير نكير (٣) ، وقد وقع في كلام أهل البيت عليهمالسلام ، فليطلب.
احتج الخصم بوجهين :
الاول : أن متعلق الحكم ليس هو المعنى الحقيقي للعام ، لانه المفروض ، والمجازات كثيرة ، وكل منها محتمل (٤) ، وتمام الباقي أحد المجازات ، فلا يحمل عليه إلا بقرينة ، وبدونها يبقى مجملا (٥).
والجواب : منع احتمال كل واحد من المجازات ، بل المتبادر ، والظاهر ، الاقرب إلى الحقيقة ، هو : كل الباقي ، كما ذكرنا.
الثاني : أنه بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا ، وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجة (٦).
__________________
١ ـ في ط : تبادر كل الباقي بعد التخصيص إلى آخره.
٢ ـ المنتهى : ١٠٨ ، معالم الدين : ١١٧.
٣ ـ ذكر هذا الاستدلال في : المستصفى : ٢ / ٥٧ ، المحصول : ١ / ٤٠٣ ، ٤٠٤ مع زيادة : بل الصحابة أيضا.
٤ ـ في أ : يحتمل.
٥ ـ المستصفى : ٢ / ٥٦ ، المحصول : ١ / ٤٠٤ ، المنتهى : ١٠٨ ، معالم الدين : ١١٧.
٦ ـ معالم الدين : ١١٧.
وجوابه : منع عدم ظهوره ، بل هو ظاهر في الباقي ، بعد ملاحظة المخصص (١).
والمذاهب المذكورة ، كلها اعتقادات فاسدة ، مبتنية (٢) على خيالات واهية ، تنحل شبههم بأدنى تأمل ، بعد ملاحظة ما مر.
البحث الرابع :
الحق أن الخطابات الواردة بصيغة النداء ، وكلمة الخطاب ـ كالكاف والتاء ، وغير ذلك مما خلقه الله تعالى في الملك ، ونحوه ، وأمره (٣) بإنزاله إلى السماء الدنيا في مدة ، أو في ليلة القدر ، ومنها إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في مدة مديدة بالتدريج ، ليبلغ هو وأوصياؤه من عترته صلوات الله عليهم أجمعين إلى امته ، إلى يوم القيامة ـ ليست مختصة بالموجودين في زمن الوحي ، بحيث يكون كل خطاب منها مختصا بمن استجمع شرائط التكليف في حين نزوله ، و (٤) لا يكون شاملا لمن تأخر ، كالخطابات المكية لمن تولد حين توطن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بالمدينة.
ولا مختصة بحاضري مجلس النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حين قراءتها (٥).
خلافا للاكثر ممن صنف في الاصول من الشيعة (٦) ، والنواصب (٧) ،
__________________
١ ـ معالم الدين : ١١٧.
٢ ـ في أ و ب و ط : مبنية.
٣ ـ في ط : فأمره.
٤ ـ الواو اضافة من ط وب.
٥ ـ وفاقا للحنابلة حيث ذهبوا إلى عمومها في الجميع ، كما في : المنتهى : ١١٧.
٦ ـ تهذيب الوصول : ٣٨ ، معالم الدين : ١٠٨.
٧ ـ المستصفى : ٢ / ٨٣ ، المحصول : ١ / ٣٩٣ ـ ٣٩٤.
حيث جعلوها مختصة بالموجودين في زمن الخطاب ، أو بحاضري مجلس الوحي ، وجعلوا ثبوت حكمها لمن بعدهم بدليل آخر كإجماع ، أو نص ، أو قياس.
لنا : مساعدة الظواهر ـ من غير معارض ، إلا الشبهة (١) الواهية للخصم ـ وهي (٢) امور :
الاول : احتجاج العلماء قديما وحديثا حتى الائمة عليهمالسلام بتلك الخطابات ، من غير ذكر إجماع أو نص أو قياس على الاشتراك ، مع أن الخصم معترف بعدم ظهور مستند الشركة ـ ولذا اختلفوا ، فقيل : مستنده الاجماع ، وقيل : بل القياس ـ ولو لم تعم تلك الخطابات ، لم يصح ذلك إلا بعد إيراد ما هو العمدة من الاجماع أو القياس.
ودعوى : ظهور المستند بحيث يعلمه كل أحد من الخصوم (٣).
مما تحكم البديهة (٤) بفساده ، وكيف يخفى هذا الخفاء ما كان ظاهرا هذا الظهور؟! وكيف يجوز على الله تعالى إخفاء مستند كل تكاليف من وجدد بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
الثاني : ورود الروايات ـ في كثير من تلك الخطابات ـ بأنها نزلت في جماعة نشأوا بعد زمان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الثالث : ورودها ـ في كثير منها ـ بأنها نزلت في الائمة عليهمالسلام ، وأن الخطاب إليهم (٥).
__________________
١ ـ كذا في ط ، وفي الاصل وأ و ب : الشبه. والصواب ما اثبتناه في المتن ، لانها شبهة واحدة سيأتي المصنف على ذكرها فيما بعد في قوله : « احتج الخصم » إلى آخره.
٢ ـ فيه اضطراب ، حيث جعل الخامس منها الظواهر ، فلاحظ.
٣ ـ الدعوى للمحقق الشيخ حسن : معالم الدين : ١٠٩.
٤ ـ في ب : البديهية ، وفي ط : البداهة.
٥ ـ كقوله تعالى : ( وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ) رواه