التّفسير القرآني للقرآن - ج ١١

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١١

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

١

____________________________________

الآيات : (٤٦ ـ ٥١)

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ).

مناسبة هذه الآية لما قبلها هى أن الآية السابقة عليها ، جاءت داعية النبىّ الكريم أن يتلو ما يوحى إليه من ربه ، وأن يقيم الصلاة قياما يحدث فى القلب ذكرا لله ، وبهذا يكون للصلاة ثمرتها في نهى المصلى عن الفحشاء

٢

والمنكر ، إذ كان ذكر الله حاضرا فى قلبه مستوليا على مشاعره ، يملأ كيانه خشية ، وخوفا ، من العدوان على حدود رب العالمين.

وهذا الأمر الذي حملته الآية : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) ـ وإن كان دعوة للنبى الكريم ، فهو أمر للمؤمنين بالله ، الذين اتبعوا النبي ، ودانوا بالشريعة التي جاءهم بها من ربه.

ومن محامل هذه الدعوة تلاوة ما أوحى إلى النبي من آيات الله ، على أهل الكتاب ، وتبليغهم رسالة الإسلام ، إذ ليس المراد من التلاوة ، مجرد التلاوة ، وإنما المراد هنا ، إعلان الناس بها ، وإسماعهم آيات الله وكلماته ...

وأهل الكتاب حين يسمعون كلمات الله التي يتلوها النبي والمؤمنون ، لا يلقونها على وجه واحد .. فكثير منهم يلقونها بالبهت والتكذيب ، وقليل منهم أولئك الذين يلقونها بالقبول والتسليم ..

وإذ كانت الدعوة الإسلامية قائمة على الحجة والإقناع ، وبين يديها الحجة القاطعة والبرهان المبين ـ فإن أي عقل سلم من آفات الهوى ، وخلص من أسر الضلال ، لا يجد سبيلا إلى المماحكة والمجادلة في آيات الله ، بل يستجيب لها ، ويسلم زمامه إليها ... أما من كان فى عقله سقم ، وفى قلبه مرض فلن يذعن للحق ، ولن يأخذ طريقه أبدا ... شأنه في هذا شأن أصحاب العلل والآفات ، التي تصيب العيون بالعمى ، والآذان بالصمم ، والأنوف بالزكام ، والأفواه بالبخر ...!

ومن هنا كان الذين يجادلون في آيات الله من أهل الكتاب ، إنما

٣

يجادلون في حق يعرفونه ، ويمارون في آيات يعلمون صدقها .. ومن كان هذا شأنه فخير موقف يتخذ معه ، هو الإعراض عنه ، وترك الجدل معه ، لأن الجدل في هذا المقام ، عقبم ، وإن ولد شيئا ، فإنما يلد دخانا ينعقد في سماء الحق ، ويشغل القائمين على رسالته عما هو أنفع وأجدى ... ولهذا كان من دعوة السماء إلى النبي الكريم قوله تعالى : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (١٩٩ : الأعراف).

ـ فقوله تعالى : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ـ هو بيان للموقف الذي يأخذه المؤمنون من أهل الكتاب فيما يكون بينهم من مواقف ، تثار فيها بينهم قضايا ، تتصل بالدين ، عقيدة أو شريعة ...

وهو أن يعرض المسلمون حقائق الإسلام كما حملتها آيات الله ، بمنطق الناصح المرشد ، لا المملى ولا المسيطر ... (فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها) .. إنه خير يدعى إليه الناس ، ولا يحملون عليه حملا ...

ومتى كان المحسن يأخذ المحتاج إلى إحسانه ، بالقهر والقسر؟ وحسبه أن يمد إليه يده بما تحمل من إحسان ، فإن تجاوز ذلك إلى ما يثير عداوة وبغضاء ، انقلب الإحسان إساءة ، والخير شرا ...

والجدل ، والمجادلة تكون باللسان ، ومقارعة الحجة بالحجة ، والأصل فيها القوة ، يقال حبل مجدول ، إذا كان مفتولا من حبلين ، ولهذا سمى الصقر أجدل ، لقوته وشدته ...

ـ وقوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) ـ هذا استثناء من الحكم العام ، فى الدعوة إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، وذلك الاستثناء في شأن الذين يلقون تلك الدعوة بالشغب عليها ، والتطاول على أهلها ، والكيد لها ولهم ...

٤

إن الأمر حينئذ يخرج عن هذا المجال ، إلى رد عدوان ، ودفع ظلم ، وردع بغى ... والله سبحانه وتعالى يقول :

(ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ* وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ) (١٢٥ ـ ١٢٦ : النحل).

والذين ظلموا من أهل الكتاب ، هم أولئك الذين امتلأت قلوبهم ضغينة على الإسلام ، وحقدا عليه ، فكانوا حربا على المسلمين والإسلام ، بالكيد والفتنة ، وإشعال نار الحرب الظاهرة والخفية على رسول الله وعلى المؤمنين ... ولهذا كان وصفهم بالظلم ، كاشفا عن عدوانهم وبغيهم ، إنهم معتدون لا معتدى عليهم ، وظالمون غير مظلومين ، فإذا أخذوا بعدوانهم ، وبظلمهم ، فذلك بما جنته أيديهم : (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) (١٩٣ : البقرة).

أما الأسلوب الذي تجرى عليه معاملة هؤلاء الظالمين ، فهو على حسب ما كان منهم من ظلم ، بلا بغى أو عدوان ..

وفي الآية الكريمة ـ وهى مكية ـ إشارة إلى مستقبل الإسلام ، وإلى ما سيكون بينه وبين أهل الكتاب من تلاحم ، بالقول ، وبالفعل ... بالجدل بالتي هى أحسن أولا ، فإن كان عدوان فبالعدوان : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٤١ : الشورى).

ـ قوله تعالى : (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) ـ هو بيان لمقولة المسلمين ، في مقام الجدل بالتي هى أحسن مع أهل الكتاب ، وفي مواجهة غير الظالمين المعتدين منهم.

٥

فالمسلمون يؤمنون بالكتب السماوية إيمانا مجملا ، باعتبار أنها من عند الله ، وأنه إذا كان أهل الكتاب قد غيّروا وبدلوا فيما بين أيديهم من كتب الله ، من التوراة والإنجيل ، فإن هذه الكتب في أصلها حق من عند الله ، فما كان منها متفقا مع كتاب الله آمن المسلمون بأنه من عند الله ، وما خالف كتاب الله ، فما على المسلمين شىء منه ، وإنما إثمه على الذين بدلوا وحرفوا ...

على أنه مهما كان من اختلاف بين أهل الكتاب وبين المسلمين ، فإن هناك قضية لا يجوز الاختلاف فيها ، وهى الإيمان بإله واحد ، هو القائم على هذا الوجود ، وهو الذي أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ... فإذا كان من أهل الكتاب من يختلف في هذه القضية ، فقد ناقض دعواه بأنه من أهل الكتاب ، وقطع السبب الذي يصله بالله ، وبرسول الله الذي حمل هذا الكتاب ... (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ) (١٣٧ : البقرة).

قوله تعالى :

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الْكافِرُونَ).

الخطاب للنبى الكريم ، من الله سبحانه وتعالى ، وأنه سبحانه قد أنزل عليه الكتاب ، كما أنزله على المرسلين من قبله ... فهو ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما يدعى إلى الإيمان بما أنزل على رسل الله ، فقد دعى المرسلون قبله إلى الإيمان بالكتاب الذي أنزل عليه ... وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) ... فالذين آتاهم الله الكتاب ، هم الرسل من أصحاب الكتب المنزلة ، وفي هذا يقول الله تعالى :

٦

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا .. قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) (٨١ : آل عمران) ..

والضمير في قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ بِهِ) يعود إلى القرآن ، وهو «الكتاب» فى قوله تعالى (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ).

والمشار إليه في قوله تعالى (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) هم أهل الكتاب المعاصرون للدعوة الإسلامية ، و «من» للتبعيض ... أي ومن بعض هؤلاء من اليهود والنصارى ، من يؤمن بالكتاب ، وهو القرآن كما آمن به موسى ، وعيسى ، والنبيون من قبل ...

أما القول ، بأن المراد من قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) هم اليهود والنصارى المعاصرون للدعوة الإسلامية ، وأن قوله تعالى : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) مراد به المشركون من قريش ، كما يذهب إلى ذلك المفسرون ، قديما ، وحديثا ، فهذا ما لا نراه ، ولا نأخذ به ...

فالموقف هنا ، فى مواجهة أهل الكتاب ، ودعوتهم إلى الإيمان بالله ، وبالكتب المنزلة من عند الله ، كما آمن النبي والمؤمنون ، بالله ، ورسله ، وكتبه.

هذا ، من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن إيمان النبيين الكريمين موسى وعيسى بالقرآن ، هو حجة على أهل الكتاب ، وإلزام لهم بمتابعة الرسول الذي حمل إليهم الكتاب الذي يؤمنون به ... من التوراة أو الإنجيل ، وإلا فهم حارجون على رسولهم ، وعلى الكتاب الذي بين أيديهم ..

٧

ومن جهة ثالثة ، فإن الإشارة إلى مشركى العرب بأنهم آمنوا بالقرآن ـ لا محصل له في هذا المقام ، ولا حجة منه على أهل الكتاب ، وحسب القائل منهم أن يدفع هذا بقوله : بأن هؤلاء المشركين أمّيّون ، فكيف يكون إيمانهم حجة عليهم.؟ فإن لم يقل قائلهم هذا القول ، كان له أن يقول : إن محمدا هو ـ إن صح أنه رسول ـ فهو رسول إلى قومه هؤلاء ، وهو حجة عليهم لا علينا!! وهذا قول ـ وإن كان باطلا ـ فإن الجدل يتسع له ، وخاصة في أول الدعوة الإسلامية ، التي كانت دعوتها متجهة أول الأمر إلى العرب ، كما يقول سبحانه وتعالى : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢ : الجمعة).

ومن جهة رابعة ، فإن قوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ) إذا فهم على ما قرره المفسرون من أنه مراد به أهل الكتاب المعاصرون للدعوة ، فإنه يصادم الواقع ، إذ أن أهل الكتاب لم يؤمنوا بالقرآن ، لا في عصر النبوة ، ولا بعده ، وإن الذي آمن منهم به نفر قليل بالإضافة إلى الكثرة الكثيرة التي ظلّت على ما وجدها القرآن عليه ...

وليس يشفع لهذا القول ، ويدفع عنه هذا التناقض ، ما سيق له من تخريجات ، كما قيل بأن المراد بقوله تعالى (يُؤْمِنُونَ بِهِ) هو أن من شأنهم أن يؤمنوا ، لو أنهم أخلوا أنفسهم من الحسد ، والغيرة ، لما يلقاهم به القرآن من آيات بينات ، تنكشف في أضوائها معالم الطريق إلى الحق ، لكل ناظر فيها ، ملتمس الهدى منها ... وكما قيل أيضا ، من أن المراد بالذين يؤمنون به من أهل الكتاب ، هم الذين آمنوا فعلا ، وهؤلاء وإن كانوا

٨

قلة ، فإنهم هم كل أهل الكتاب ، الذين انتفعوا بالكتاب الذي في أيديهم .. أما غيرهم من أهل الكتاب ، فلا حساب لهم ..؟!

وهذه لا شك مما حكات ، متهافتة ، ودعاوى واهية ، تتداعى لأية لمسة من نظرة عقل ، أو لمحة منطق.

ثم من جهة خامسة ، أن قوله تعالى : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) لا يصدق على العرب إلا في مرحلة من مراحل الدعوة ، وفي بدئها ، أما بعد ذلك فقد دخل العرب جميعا في دين الله ، وآمنوا جميعا بالله ، لا أفرادا معدودين منهم ، كما هو منطوق النظم القرآنى : (وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ)! هذا ـ والله أعلم ـ هو الرأى الذي يستقيم على طريق الآية الكريمة ، ويسير في أضواء نظمها المشرق المعجز.

وسنرى ، فى الآيات التالية ما يزيد هذا الرأى وضوحا وتمكينا.

قوله تعالى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ).

هذا الخطاب للنبى الكريم من ربه سبحانه وتعالى ، يكشف لأهل الكتاب ، الذين كانوا في هذه البيئة الأمية جامعة العلم ، وأساتذة طالبيه ـ هذا الخطاب يكشف لهم عن حقيقة جهلوها وتجاهلوها ، وهى أن هذا الأمىّ فى الأمة الأمية ، لم يكن ممن ألمّوا بشىء من القراءة والكتابة ، حتى على هذا المستوي المتواضع الذي كان لبعض نفر قليل من قومه ، ممن عرفوا القراءة والكتابة ، ومع هذا فهو يحمل في صدره ، وعلى لسانه ، وبين يديه ، كتابا عجبا ، يعلو بسلطانه على كل كتاب ، ويستولى بعلمه على كل علم ، ويقطع بحجته كل حجة ، ويقهر بمنطقه كل منطق ، ويفحم ببيانه كل بيان!!

٩

فمن أين لهذا الأمى بهذا كله؟.

وإذا كان للأميين المشركين أن يقولوا ـ جهلا ـ (إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ) وإذا كان لهم أن يقولوا ـ استبعادا أو استعظاما ـ إنه أخذ هذا العلم عن بعض العلماء من أهل الكتاب ـ فماذا يقول أهل الكتاب في هذا الكتاب؟ وإلى أي نسب ينسبونه ، وإلى أي عالم منهم يسندونه؟.

إنه لم يجرؤ أحد من أهل الكتاب أن يقول كلمة واحدة في نسب هذا الكتاب إلى علمهم ، أو إضافته إلى أحد من علمائهم .. وقد كان لهم ـ وهم أصحاب العلم ـ أن يقولوا شيئا من هذا الذي كان يقوله الأميون ، لو أنهم وجدوا لهذا القول مكانا ـ أىّ مكان ـ ولو من قبيل التلبيس والتشكيك ...

فلقد كان المدى بعيدا بين هذه الشمس المتألقة في كبد السماء ، وبين الأيدى التي تحاول الإمساك بها ، وعقد سحب من الظلام في وجه أضوائها المتدفقة!.

ومن هنا ، فإنه لا سبيل لأهل الكتاب أن يرتابوا في نسبة هذا الكتاب إلى الله ، وأن يقولوا بأن إنسانا أمّيّا ، فى أمة أمية ، يمكن أن يكون هذا الكتاب ، أو شىء منه ، من عمله ... وأنه إذا كان يمكن أن يرد عليهم شىء من الشك في أن إنسانا ، قارئا ، كاتبا ، دارسا ، يمكن أن يأتى بمثل هذا الكتاب ، فإن مثل هذا الشك يكون مستحيلا ، إذا جاء الكتاب على يد أمي ، ما عرف القراءة والكتابة ، ولا حضر مجالس الدرس والتحصيل.

وقد أثار المفسرون جدلا طويلا حول ما إذا كان الرسول قد عرف القراءة والكتابة بعد البعثة أم لا ... وقال كثير منهم إنه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ قد عرف القراءة والكتابة بعد بعثته .. وهذا أمر ما كان

١٠

يصحّ أن يكون موضع بحث أو خلاف ، فقد جاء القرآن ناطقا صريحا بأمية النبىّ ، وجعل هذه الأمية صفة دالة عليه ، يجده عليها أهل الكتاب في كل حال يلقونه عليها. وفي كل زمن يوجهون وجوههم إليه .. فالله سبحانه وتعالى يقول : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ ، الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ ... يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (١٥٧ : الأعراف) .. والأميّة هنا لا شك هى أمية القراءة والكتابة ، أما أمية العلم ، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه ـ بما علّمه ربّه ـ عالم العلماء ، وحكيم الحكماء ، كما يقول سبحانه وتعالى مخاطبا له : (وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (١١٣ : النساء).

فكيف إذن يكون النبىّ قد خرج عن صفة الأمية بعد البعثة ، وعرف القراءة والكتابة ، ثم يكون بهذا حجة على أهل الكتاب الذي يجدون وصفه فى التوراة والإنجيل ، نبيّا أمّيّا فى الأميين؟ ثم ما حاجة النبىّ إلى أن يعرف القراءة والكتابة بعد النبوة؟ أكان ينقل الكتاب الذي بين يديه عن كتب أخرى حتّى يضطره ذلك إلى معرفة القراءة والكتابة؟ أم ماذا؟ لا نجد جوابا!!

قوله تعالى :

(بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ).

الضمير «هو» يعود إلى الكتاب. فى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ). والذين أوتوا العلم ، هم العلماء من أهل الكتاب ...

أي أن هذا الكتاب يقع في صدور العلماء من أهل الكتاب موقع

١١

المعجزات البينات ، حيث تنطق آياته بالحقّ المبين ، يتلقاه منها كلّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ... وفي هذا يقول الله تعالى كاشفا للمشركين عن عنادهم وضلالهم : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٩٧ : الشعراء).

أي أنه إذا لم يكن عند المشركين علم يعلمون يعرفون به قدر هذا الكتاب ، ويفرّقون به بين ما هو سماوى وما هو أرضى ... أفلا كان لهم في علم العلماء من أهل الكتاب ، بهذا الكتاب ، وإيمانهم به ، عبرة يعتبرون بها ، ومعلّم من معالم الهدى ، يهتدون به إلى هذا الكتاب؟.

وقوله تعالى : (وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) ... إشارة إلى علماء أهل الكتاب ، الذين يعرفون الحق في كتاب ثم ينكرونه ، من بعد ما عرفوه.

وفي هذا يقول الله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ) (٨٩ : البقرة) ووصفهم بالظلم ، هو الوصف الحق لهم ، إذ كتموا شهادة الحق الذي عرفوه ... والله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللهِ) (١٤٠ : البقرة).

قوله تعالى :

(وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ).

بعد هذه اللفتة العارضة إلى أهل الكتاب ، وأسلوب مجادلة المؤمنين لهم ، وما عند علمائهم من علم بهذا القرآن ـ بعد هذا عادت الآيات لتصل الحديث مع المشركين ، وتكشف عن مقولة من مقولاتهم الفاسدة الحمقاء في مواجهة الدعوة الإسلامية ، ومدعياتهم عليها ، وعلى المرسل إليهم بها ... فهم

١٢

يرتابون في أن يكون «محمد» على صلة بالسماء ، وأن يكون هذا الكتاب الذي بين يديه من عند الله ، وقد أقاموا منطقهم هذا على أنه لو كان هذا شأن محمد ، لجاءهم بآية محسوسة ، كما جاء الرسل قبله إلى أقوامهم بآيات محسوسة ، وفي هذا يقول الله على لسانهم: (فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥ : الأنبياء) وقد ردّ الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله : (قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي أننى بشر مثلكم ، لا أملك من أمر الله شيئا ، وإنما أنا نذير مبين أبلغكم ما أرسلت به إليكم ...

وقوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ ... إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

هو ردّ آخر ، على ما يقترحه المشركون على النبىّ من آيات ، وفي هذا الردّ إنكار عليهم أن يطلبوا آيات مع هذه الآيات التي تتلى عليهم .. إنها آيات لا تغرب شمسها ، ولا يخبو ضوءها أبد الدهر ...

ـ وفي قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً) إشارة إلى أن هذه الآيات لا تحمل معها نذر الهلاك الذي تحمله الآيات التي يقترحونها ، فإنه لو جاءتهم آية من تلك الآيات لكفروا بها ، ثم كان مصيرهم مصير الكافرين المكذبين ، كعاد ، وثمود ، وفرعون! فهذه الآيات القرآنية رحمة من رحمة الله بهم.

ـ وفي قوله تعالى : (وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) إشارة أخرى إلى أن آيات الكتاب في معرض البحث والنظر ، وفي مجال التعقل والتأمل ، يعيش معها الإنسان ما يشاء ، ناظرا فيها ، متأملا مواقع الإعجاز منها ، فيجد بهذا طريقه إلى الحق والهدى ، إذا كان صالحا لقبول الخير ، مستعدا للتجاوب مع الحق!

١٣

____________________________________

الآيات : (٥٢ ـ ٥٥)

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

هذا هو نهاية الموقف الذي يقفه النبي من المشركين ... إنه يشهد الله عليهم ، أنه بلّغهم رسالة ربّه ، وأنهم في عناد وتكذيب ... والله سبحانه وتعالى يعلم ما في السموات والأرض ، ويعلم ما يسرّ هؤلاء المشركون وما يعلنون ... وعند الله سبحانه عذاب شديد للضالين المكذبين ، الذين يؤمنون بالباطل ، ويقيمون في رحابه آلهة يعبدونها من دون الله .. إنهم هم الخاسرون .. (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

قوله تعالى :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ).

١٤

هو ردّ على هؤلاء المشركين الذين يتحدّون النبىّ باستعجال العذاب الذي ينذرهم به ، إذا هم لم يؤمنوا بالله ، ولم يصدّقوا رسوله ، وفي هذا يقول سبحانه وتعالى عنهم : (وَإِذْ قالُوا اللهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (٣٢ : الأنفال).

ـ وقوله تعالى : (وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) ... والأجل المسمّى هو ما قدّره الله تعالى في علمه ، ووقّت له وقته الذي يقع فيه ، بما قضى به في عباده ... وإن أي أمر لا يقع إلا في وقته الموقوت له .. وإنه لو لا هذا الأجل الموقوت للعذاب المرصود لهؤلاء المشركين ، لوقع بهم عند طلبهم له ... فلم يستعجلون هذا البلاء؟ إنه لواقع بهم لا محالة ، ولكنه سيأتيهم من حيث «لا يشعرون ... لأنهم لا يتوقعونه ، ولا يعملون على توقّيه بالإيمان والعمل الصالح ، فإذا وقع بهم دهشوا له ، وبغتوا به! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :

(وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) ... والعذاب هنا ، هو العذاب الأخروى ، كما يفهم من الآية التالية ... والبغتة : المباغت المفاجئ.

قوله تعالى :

(يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ).

هنا استفهام إنكارى ، أي أيستعجلونك بالعذاب؟ وكيف يستعجلون به ، وهو واقع بهم فعلا؟ إنهم سائرون على الطريق الذي يهوى بهم في جهنم ... فهم بما هم عليه من كفر وضلال ، واقعون في دائرة العذاب ، ولن يخلصوا من العذاب إلا إذا تخلصوا من كفرهم ، وتطهروا من شركهم ، ودخلوا في حظيرة الإيمان ...

قوله تعالى :

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

١٥

وإذا لم يكن هؤلاء الضالون يستشعرون الخطر الذي هم فيه ، ولا يرون جهنم المحيطة بهم في الدنيا ، فإنهم سيرون ذلك عيانا ، ويذوقونه نكالا وبلاء ، يوم القيامة ، يوم يأخذهم العذاب ، ويشتمل عليهم ، من رءوسهم إلى أقدامهم ، ويوم يقول لهم الحق سبحانه وتعالى : (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) .. فهذا هو عملكم الذي كنتم تعملونه في الدنيا ... لقد عملتم شرا فطعموا من هذا الشر!.

____________________________________

الآيات : (٥٦ ـ ٦٠)

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٦٠)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ).

مناسبة هذه الآية والآيات التي بعدها للآيات السابقة ، أن الآيات السابقة كانت حديثا إلى المشركين من قريش ، وما يتحدون به رسول الله من إنزال آية مادية عليهم ، ومن استعجال العذاب الذي يتهددهم به ـ فجاءت

١٦

الآيات بعد هذا حديثا إلى المسلمين الذين كانوا قلة مستضعفة في مكة ، يلقاهم المشركون بالضر والأذى ، ويأخذون عليهم كل سبيل إلى الاجتماع بالرسول ، أو الصلاة في المسجد الحرام ، أو الجهر بتلاوة القرآن ... إلى غير ذلك مما كانت تضيق به صدور المسلمين ، وتختنق به مشاعر الإيمان في كيانهم ، وتختفى به مظاهره على ألسنتهم وجوارحهم ـ جاءت هذه الآيات لتفتح للمسلمين طريقا رحبا إلى النجاة من هذا الضيق ، والخلاص من هذا البلاء ..

إن أرض الله واسعة ، وإذا ضاقت أرض بإنسان فإن من الخير له أن يتحول عنها إلى غيرها ، حيث يجد في الأرض مراغما كثيرة وسعة ..

ـ وفي قوله تعالى : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا) وفي إضافة الذين آمنوا إلى الله سبحانه وتعالى ، وندائهم إليه من ذاته جل وعلا ـ فى هذا احتفاء بهم ، واستضافة لهم في رحاب رحمة الله وفضله وإحسانه .. وذلك لأنهم مدعوون إلى الهجرة من ديارهم ، والانفصال عن أهلهم وإخوانهم ، وذلك أمر شاق على النفس ، ثقيل الوطأة على المشاعر ، التي ارتبطت بالموطن ارتباط العضو بالجسد .. فكان من لطف الله سبحانه بعباده هؤلاء المؤمنين ، الذين دعاهم إلى الهجرة من ديارهم ـ أن استضافهم في رحابه ، وأنزلهم منازل رحمته وإحسانه ، بهذا الدعاء الرحيم ، الذي دعاهم به سبحانه ، إليه ... «يا عبادى» .. فمن استجاب منهم لهذا النداء ، وأقبل على الله مهاجرا إليه بدينه ، تلقّاه الله سبحانه بالفضل والإحسان ، وأنزله منزلا خيرا من منزله ، وبدّله أهلا خيرا من أهله!.

وقد استجاب المسلمون لهذا النداء ، فخرجوا مهاجرين إلى الله ، أفرادا وجماعات ، وكانت الحبشة أول متجه اتجه إليه المسلمون المهاجرون ، فأنزلهم

١٧

الله أكرم منزل ، هناك .. ثم كانت الهجرة إلى المدينة ، التي أصبحت مهاجر المسلمين من كل مكان ، بعد أن هاجر الرسول الكريم إليها .. وهناك وجد المهاجرون إخوانا ، شاطروهم دورهم وأموالهم ، وآثروهم على أنفسهم بالطيب من كل شىء.

وأكثر من هذا ، فإن مجتمع المهاجرين هؤلاء الذين ضمتهم مدينة الرسول ، كانوا الوجه الذي تجلى فيه دين الله ، وعزت به شريعته .. ومن هؤلاء المهاجرين ، كان صحابة رسول الله ، وخلفاء رسول الله ..

وأكثر من هذا أيضا ، فإن القرآن الكريم ، قد أجرى ذكرا خالدا لهؤلاء المهاجرين ، وأشار إلى منزلتهم العليا عند الله ، وما أعد لهم من أجر عظيم ، وثواب كريم ، لم يشاركهم في هذا أحد من المسلمين ، إلا الأنصار ، الذين نزل المهاجرون ديارهم ، ووجدوا ما وجدوا من برهم وإحسانهم ...

وهكذا ، استظل المهاجرون بظل هذا النداء الكريم ... «يا عبادى» فكانوا منه في نعمة سابغة ، وفضل عظيم ، فى الدنيا والآخرة جميعا.

وفي قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) .. توجيه لأنظار المسلمين إلى سعة ملك الله سبحانه وتعالى ، وإلى أن يمدوا أبصارهم إلى أبعد من هذا الأفق الضيق المحدود ، الذي يعيشون فيه ، والذي يحسب كثير منهم أن الأرض كلها محصورة في هذه الرقعة التي يتحركون عليها ، ويضطربون فيها .. وكلا فإن أرض الله واسعة ، أكثر مما يتصورون ... فليخرجوا من محبسهم هذا ، ولينطلقوا في فجاج الأرض ، الطويلة العريضة ، وسيجدون في منطلقهم هذا ، سعة من ضيق ، وعافية من بلاء .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً) (١٠٠ : النساء).

١٨

ـ وقوله تعالى : (فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) ... أي فاجعلوا عبادتكم لى وحدي ، لا تشركون بعبادتي أحدا ...

والفاء في قوله تعالى : (فَإِيَّايَ) تفيد السببية .. حيث كشف قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) عن إضافة هذه الأرض إلى الله سبحانه ، كما كشف عن سعة هذه الأرض ، وأن أي مكان ينزل منها الإنسان فيه ، هو في ملك الله ... وإذ كان ذلك كذلك ، وجب أن يفرد وحده سبحانه بالعبادة ، كما أفرد جل شأنه بالملك ...

هذا ، والآية الكريمة دعوة سماوية إلى تحرير الإنسان ، جسدا ، وعقلا ، وقلبا ، وروحا ، من كل قيد مادى ، أو معنوى ، يعطل حركته ، أو يعوق انطلاقه ، أو يكبت مشاعره ، أو يصدم مشيئته ، أو يقهر إرادته ...

ففى أي موقع من مواقع الحياة ، وعلى أي حال من أحوالها ، لا يجد فيه الإنسان وجوده كاملا محررا من أي قيد ، ثم لا يعمل جاهدا على امتلاك جريته كاملة ـ يكون ظالما لنفسه ، معتديا على وجوده ...

وإذا كانت دعوة الإسلام قد جاءت لتحرير الإنسانية من ضلالها ، وفرضت على المؤمنين أن يجاهدوا الضلال والضالين ، وأن يبذلوا في سبيل ذلك دماءهم وأموالهم ، فإن الجهاد الحق في أكرم منازله ، وأعلى درجاته ، هو الجهاد في تحرير المؤمن نفسه أولا ، وفي تخليصها من كل قيد يمسك بها على مربط الذل والهوان ، ويحملها على أن تطعم من مطاعم الذلة والمهانة ، وفي هذا يقول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ!! قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧ : النساء) ..

١٩

فلقد توعدهم الله سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم في الآخرة ، لأنهم باستخزائهم وضعفهم ، قد باعوا دينهم ، واسترخصوا مروءتهم ، فكانوا سلعة فى يد الأقوياء ، لا يملكون معهم كلمة حق يقولونها ، ولا يجدون من أنفسهم القدرة على دعوة خير يدعون بها ... وإنه هيهات أن يسلم لإنسان دين أو خلق ، إلا إذا تحرر من كل ضعف واستعلى على كل خوف .. ومن هنا كانت دعوة الإسلام متجهة كلها إلى تحرير الإنسان ، عقلا وقلبا وروحا ، كما كانت دعوته إلى تحرير الإنسان وجودا وجسدا ..

وقد يكون الإنسان حرا طليقا في المجتمع الذي يعيش فيه ، لا يرد عليه من الجماعة وارد من ضيم أو ظلم ، ومع هذا فهو أسير شهواته ، وعبد نزواته ، وتبيع هواه ... لا يملك من أمر وجوده شيئا ... ومن هنا كان أول ما يجاهد الإنسان هو جهاد النفس ، والأهواء المتسلطة عليه منها ، وهذا ما قصد إليه الرسول الكريم من قوله ، وقد عاد من إحدى غزواته: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قالوا يا رسول الله : وما الجهاد الأكبر؟ قال : جهاد النفس».

قوله تعالى :

(كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ).

هو تهوين من شأن الدنيا في عين المؤمنين الذين يتهيّئون للهجرة .. فقد يحضر كثيرا منهم ـ وهو يأخذ عدته للهجرة ـ وارد من واردات الإشفاق على الأهل والولد ، وما يلقى من لهفة وحنين لفراقهم ، وما يجدون هم من أسى وحسرة لبعده عنهم .. إلى غير ذلك مما يقع للمرء من تصورات وخواطر فى مثل هذا الموقف ـ فجاء قوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) مهوّنا من شأن هذه الحياة الدنيا ، فإن نهاية كل حىّ فيها هو الموت .. وإذ كان ذلك

٢٠