التّفسير القرآني للقرآن - ج ١١

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١١

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٣

وجهد الإيمان : أغلظها ، وأشدها ..

والاقتصار على وصف الرسول بأنه «نذير» إشارة إلى أن الإنذار هو أول ما يتلقاه الأقوام من رسلهم ، إذ كان الرسل إنما يبعثون فى أقوامهم ، حين يكثر الفساد فيهم ، وتختلط معالم الدين الصحيح فى قلوبهم وعقولهم .. فيكون أول ما يلقى به الرسول قومه هو الإلفات إلى هذا الضلال الذي هم فيه ، وتحذيرهم منه ، وإنذارهم سوء عاقبته.

ـ وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) ـ أي لما جاء الرسول الذي كانوا يتمنون الهدى عليه يديه ، لم يزدهم إلا نفورا عن الحق ، وإعراضا عن الهدى ..

قوله تعالى :

(اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

ـ (اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ) هو بدل من قوله تعالى : (إِلَّا نُفُوراً) أي لم يزدهم إرسال الرسول إليهم إلا نفورا عن الحق ، وإلا استكبارا فى الأرض ، واستعلاء على العباد ، وإلا الإمعان فى تدبير المكر السيّء للرسول ، وتبييت الشر له وللمسلمين ..

ـ وقوله تعالى : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) أي لا يقع المكر السيّء الذي مكروه إلا بهم .. إنهم يحفرون الحفرة التي سيقعون فيها ، ويفتلون الحبل الذي يشنقون به ..

٤٦١

وقوله تعالى :

ـ (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ) ـ أي فهل ينتظرون إلا أن يؤخذوا بما أخذ به الأولون الذي كذبوا رسل الله ، من بلاء وهلاك؟ ..

ـ وقوله تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) ..

أي أن سنة الله قائمة على طريق مستقيم لا ينحرف أبدا .. وهى سنة مطردة ، لا تتبدل اتجاها باتجاه ، ولا تتحول من حال إلى حال ..

وسنة الله ، هو هذا النظام الذي أقام عليه الوجود ، وربط المسببات بأسبابها ..

ومن سنة الله فى الظالمين أن يأخذهم بظلمهم ، كما أن من سنته فى المحسنين أن يجزيهم بإحسانهم ..

قوله تعالى :

(أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً) ..

هو دعوة إلى هؤلاء المشركين الضالين أن يسيروا فى الأرض ، وأن ينظروا بأعينهم سنة الله التي لا تتبدل ، ولا تتحول .. إنهم سيرون أقواما كانوا قبلهم ، وكانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا ، فأخذهم الله بذنوبهم ، وقلب عليهم دورهم ..

(وَما كانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي وما كان لقوة هؤلاء وبأسهم أن تردّ عنهم بأس لله إذا جاءهم .. فماذا يعصم هؤلاء

٤٦٢

للمشركين من بأس الله ، وقد ساروا مسيرة الهالكين من قبلهم؟ إنهم هالكون لا محالة .. إن الله يعلم ما هم عليه ، لا تخفى عليه ـ سبحانه ـ خافية من أمرهم ، وهو قادر على إهلاكهم ..

ولقد أتوا الجرم الذي يوجب الهلاك ، وهم فى قبضة الله. وعلمه يكشف عن كل ما اقترفوا .. ولم يبق إلا إمضاء العقوبة فيهم .. فلينظروا ، وسيرون عاقبة أمرهم!.

قوله تعالى :

(وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) ..

هو جواب على سؤال يقع فى نفوس المشركين ، عند سماعهم التهديد الذي حملته إليهم الآية السابقة ، وهو : أين هو العذاب الذي نهدّد به؟ ..

فكان قوله تعالى : (وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ) ـ جوابا على مثل هذا السؤال .. وهو أن الله سبحانه لو يؤاخذ الناس فى الدنيا بذنوب المذنبين منهم ، وما يحاربون به الله سبحانه ، من كفر ، وإلحاد ، ومجاهرة بالمعاصي ـ لو يؤاخذهم بهذا ، ما ترك على ظهر هذه الأرض ، من دابة .. فإن ذنوب المذنبين ـ لجسامتها ، وشناعتها ـ لا يغسل دنسها ورجسها إلا طوفان من العذاب ، يأتى على كل حياة قائمة على هذه الأرض ..

(وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى) أي لكن يؤخر حساب الناس إلى أجل مسمى ، وهو يوم القيامة ..

٤٦٣

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) أي إذا استوفوا آجالهم فى الدنيا ، وصاروا إلى الدار الآخرة ، كانوا بمنازلهم عند الله .. فالكافرون والمشركون ، وأهل الضلال ، فى نار جهنم .. وأهل الإيمان والتقوى فى نعيم الجنات .. (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) يفرق بين الأشرار والأخيار ، ويميز الخبيث من الطيب كما يقول سبحانه : (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ) (٣٧ : الأنفال).

٤٦٤

٣٦ ـ سورة يس

نزولها : مكية.

عدد آياتها : ثلاث وثمانون آية.

عدد كلماتها : سبعمائة وتسع وعشرون.

عدد حروفها : ثلاثة آلاف.

مناسبتها لما قبلها

جاء فى الآيات التي ختمت بها سورة «فاطر» السابقة قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ ، فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً) ثم جاءت الآيات الثلاث التي تلت هذه الآية والتي ختمت بها السورة ـ تعقيبا على تلك الآية ، وبيانا لموقف المشركين من هذا القسم الذي أقسموه ..

وقد بدئت سورة «يس» بالقسم بالقرآن الكريم ، الذي جاءهم النبىّ الكريم به ، ثم وقوع هذا القسم على الإخبار بأن محمدا هو رسول الله ، وأنه على صراط مستقيم ، وأن تكذيب المشركين له ، ورفضهم لدعوته ، لم يكن إلا عن ضلال وعمى ، وإلا عن استكبار وحسد .. لقد كانوا يتمنون أن يبعث الله فيهم رسولا ، وأن يأتيهم بكتاب ، مثل كتب أهل الكتاب ، وها هو ذا الرسول ، والكتاب .. فماذا هم فاعلون؟ ستكشف الأيام عن جواب هذا السؤال ..

٤٦٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

____________________________________

الآيات : (١ ـ ١٢)

(يس (١) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٥) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (٦) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٧) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (٨) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (٩) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (١١) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(يس) .. اختلف فى تأويلها ، فقيل فيها كل ما قيل فى الحروف التي بدئت بها بعض سور القرآن .. وقيل إنها اسم للنبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم .. ولا نقول إلا أنها من المتشابه ، الذي لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون فى العلم!.

قوله تعالى :

(وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ* إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ* عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

هو قسم بالقرآن الحكيم ، وفى هذا القسم تشريف لمقامه ، وتأكيد وتنويه

٤٦٦

بمنزلته .. وكيف لا يكون فى قمة التشريف والتكريم ، وهو آيات الله ، وكلمات الله؟

وفى وصف القرآن بالحكمة هنا ، إلفات لما اشتمل عليه من فرائد الحكمة ، التي هى مورد العقول ، ومطلب الحكماء .. وأن الذي ينظر فى آيات الله ينبغى أن ينظر فيها بعقل متفتح ، وبصيرة متطلعة ، وقلب مشوق ، حتى يظفر ببعض ما يتحدث به هذا القرآن الحكيم ، فإنه لا ينتفع بحكمة الحكيم ، إلا من كان ذا حكمة وبصيرة ..

ـ وقوله تعالى : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) خطاب للنبىّ ، وتوكيد للصفة التي له عند الله. وأنه من المرسلين ، الذين اصطفاهم الله لرسالته إلى عباده.

ـ وقوله تعالى : (عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) .. هو خبرثان ، عن النبىّ ، وأنه قائم على صراط مستقيم ، من اتبعه فقد اهتدى ، ومن اتخذ سبيلا غير سبيله فقد ضلّ وهلك.

قوله تعالى :

(تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ)

«تنزيل» منصوب على المصدر ، أي إنك لمن المرسلين .. وإنك على صراط مستقيم ، نزّل (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) .. ويكون المراد بالصراط المستقيم هنا هو القرآن الكريم ، كما يقول الله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ) (١٥٣ : الأنعام) ويكون قوله تعالى : (تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ) جملة وقعت صفة.

قوله تعالى :

(لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ).

أي إنك من المرسلين ، وإنك على صراط مستقيم بهذا الكتاب المنزل من العزيز الرحيم : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) .. فهذا الحشد العظيم من

٤٦٧

الصفات العظيمة للنبىّ ، هو وإن كانت تكريما للنبىّ ، وامتنانا عليه بإحسان ربّه إليه ـ هو أيضا تكريم لهؤلاء الجاهليين ، وامتنان بفضل الله عليهم ، إذ بعث فيهم خير رسله ، وخاتم أنبيائه ، ومجتمع كتبه .. وفى هذا حثّ لهم على أن يقبلوا على هذا الخير الكثير المرسل إليهم ، وأن يأخذوا حظهم منه.

ـ وفى قوله تعالى : (ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) .. إشارة إلى أنهم لم يبعث فيهم رسول قبله .. أما رسالة إسماعيل عليه‌السلام ، فهى رسالة كانت مقصورة على أهله ، كما يقول تعالى : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) (٥٥ : مريم)

وإذا كان لهذه الرسالة أثر ، فقد اندثر ، وعفّى عليه الزمن وسط ظلام الجاهلية وضلالها.

ـ وفى قوله تعالى : (فَهُمْ غافِلُونَ) .. إشارة أخرى إلى ما كان عليه القوم من جهل وغفلة ، فكانوا بهذا فى أشد الحاجة إلى من يعالج هذا الداء المتمكن فيهم.

قوله تعالى :

(لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

هذا حكم قاطع على هؤلاء المشركين ، وهم فى لقاءاتهم الأولى مع الدعوة .. (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ) والقول الذي حق على أكثرهم هو الحكم الذي قضى الله سبحانه وتعالى به فى سابق علمه ، على الكثرة من هؤلاء المشركين ، من أنهم لا يؤمنون ، ولا ينزعون عنهم الشرك الذي لبسوه .. (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) لسابق قضاء الله فيهم ..

وقد صدق ما أخبر به القرآن ، ووقع كما أخبر به .. فإن أكثر هؤلاء المشركين الذين شهدوا مطالع الدعوة الإسلامية ، لم يدخلوا فى الإسلام ، فإنه

٤٦٨

خلال ثلاث وعشرين سنة ـ وهى مدة الرسالة الإسلامية ـ مات كثير من هؤلاء المشركين على شركه ، ومن لم يمت منهم على فراش الموت مات قتيلا فى ميدان القتال مع المسلمين .. ومن امتدّ به الأجل وأدرك الفتح ، ودخل فى دين الله مع الداخلين ـ ظل ممسكا بشركه فى صدره ، حتى مات عليه ، أو مات فى حروب الردّة مع المرتدّين ..

أما لما ذا حقّ القول عليهم؟ فهذا سؤال لا يسأله مؤمن بالله .. إنه اعتراض على مشيئة الخالق فيما خلق! (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ .. تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٥٤ : الأعراف).

قوله تعالى :

(إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ)

هو بيان للأسباب التي أقامها الله سبحانه ، لتصرف فى هؤلاء المشركين عن الحق ، وتمسك بهم على الشرك والضلال ..

لقد جعل الله (فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً) أي أطواقا من حديد ، أشبه بالقلادة ، تطوق بها أعناقهم ..

(فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ) ـ أي وهذه الأغلال أو القلائد تشتمل على العنق كله ، حتى لتصل إلى الأذقان ..

(فَهُمْ مُقْمَحُونَ) أي مشدود والرءوس إلى أعلى .. فهم لا يستطيعون أن يحركوا رءوسهم يمينا أو شمالا ، أو إلى تحت أو فوق ..

والصورة التي تبدو ممن طوّق بهذا الطوق ، أنه تمثال جامد ، وأنه لا يستطيع أن يرى غير الطريق القائم بين يديه ، أما ما حوله ، عن يمين وشمال ، فلا يرى منه شيئا

٤٦٩

والطريق الذي بين يدى هؤلاء المشركين الذين حق عليهم القول ، هو طريق الضلال .. وإذن فلا طريق لهم غيره ..

والأغلال التي جعلها الله فى أعناق هؤلاء المشركين ، هى أغلال معنوية. فإن الذي ينظر إليهم ، وهم ماضون على طريق الشرك ، لا يلتفتون إلى هذا النور الذي عن يمينهم وعن شمالهم ، ومن أمامهم ومن خلفهم ـ يخيّل إليه أن فى أعناق القوم أطواقا من حديد ، قد شلت حركة رءوسهم ، فلم يقدروا على إلفاتها يمينا أو شمالا ..

قوله تعالى :

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ)

هو من تمام الصورة التي جعل الله المشركين عليها ، حتى لا يهتدوا حين جاءهم الهدى ، لما سبق من قضاء الله فيهم

فهم ـ بالأغلال التي فى أعناقهم ـ مقمحون ، قد دفعت رءوسهم إلى أعلى ، بحكم المخنقة التي فى أعناقهم .. وهم فى هذا الوضع لا يستطيعون التفاتا يمينا أو شمالا ، ولكنهم مع ذلك يستطيعون أن يروا ما أمامهم ، وأن يستدبروا ليروا ما خلفهم ..

ـ وفى قوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) هو سدّ لهذين المنفذين اللذين يمكنانهما من الرؤية من أمام ومن خلف .. وأما وقد جعل الله ـ سبحانه ـ سدّا من بين أيديهم أي من أمامهم ، وسدّا من خلفهم ، فقد أحكم سد المنافذ عليهم من جميع الجهات ، وأصبحوا وقد أغلقت عليهم منافذ النظر إلى العالم الخارجي ، وصاروا محصورين فى عالمهم الذي لا شىء

٤٧٠

فيه غير الضلال والظلام .. فيمينهم وشمالهم مغلق عليهم أبدا بحكم هذا الطوق الذي طوقوا به .. وأمامهم وخلفهم .. مسدودان .. فإذا أداروا وجوههم إلى أي اتجاه ، لم يتغير حالهم ، ولم يرتفع عنهم سد من هذه السدود المضروبة عليهم ، حيث يلازمهم هذان السدان المضروبان عليهم من أمام ومن خلف .. فعلى أي اتجاه يكونون ، يكون السدان من خلفهم ومن أمامهم .. أما عن أيمانهم وعن شمائلهم ، فالطوق قائم بوظيفته فيهم فى كل حال ..

وهذه الصورة إعجاز من إعجاز القرآن ، فى تجسيد المعاني ، وفى بعث الحياة ، والحركة فى الجمادات والساكنات .. حيث نرى الكافر هنا وقد أدخل فى سجن محكم ، مطبق عليه ، لا يرى منه النور أبدا.

ـ وفى قوله تعالى : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) إشارة إلى ما يقع لهؤلاء المشركين من هذه الآيات التي سلطها الله عليهم ، من الأغلال والسدود ، فلقد أقامت هذه الآفات غشاوة على عيونهم ، فهم لا يبصرون .. وكيف يبصر من عاش فى هذه الحدود التي لا تتجاوز محيط جسده؟ وما ذا يبصر لو كان له أن يبصر؟.

قوله تعالى :

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ)

وهذا ما يقضى به الوضع الذي عليه هؤلاء المشركون .. إنهم لن يتحولوا عن حالهم التي هم فيها ، فلقد جمدوا على حالتهم تلك ، كما تحنط الموتى فى توابيتها (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١ يونس) .. وإذا فلا يقف النبي كثيرا عن هؤلاء المشركين الذين وقفوا من الدعوة هذا الموقف المحادّ لها ، المتربص بها ..

قوله تعالى :

(إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) أي إنما تنفع النذر ، والعظات ، من استمع إلى آيات الله ، فاتبعها ، وآمن

٤٧١

بها ، وخاف ربه ، وعمل ليوم القيامة ، مصدّقا بما وعد به ، وإن لم يره .. وعلى هذا ، فليوجه النبي وجهه كله إلى المؤمنين ، وليعطهم جهده كله ، ففى هذا الميدان يثمر عمله ، ويقع موقعه من أهله ..

وفى قصر الإنذار على من اتبع الذكر وخشى الرحمن بالغيب ـ فى هذا إشارة إلى الاستعداد الفطري للإيمان عند هؤلاء المنذرين ، وأنهم بفطرتهم السليمة كانوا والإيمان الذي يدعون إليه على موعد ، بل إنهم فى انتظار له ، وشوق إليه ، قبل أن يطلع عليهم ..

وفى جعل الخشية ، للرحمن ، إشارة إلى أنها خشية إجلال وتعظيم ، .. خشية حب وتوقير ، لا خشية جبروت وقهر .. إنها خشية «الرحمن» الذي وسعت رحمته كل شىء ..

وقوله تعالى : (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) .. هو ما يلقى به النبي هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا له بمجرد أن دعاهم إلى الله ..

قوله تعالى :

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) هو عرض لبعض مظاهر قدرة الله ، وهى من الغيب الذي آمن به المؤمنون ، والذي كان مضلّة للمشركين ، وهو الحياة بعد الموت. والحساب والجزاء ..

وفى هذا التقرير يتأكد للمؤمنين إيمانهم بهذا الغيب ، وتزداد خشيتهم لله ..

ـ وقوله تعالى : (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) أي نحصى على الموتى ما قدموا بين أيديهم من أعمال لهذا اليوم ، من حسن أو سيىء ، ونسجلها فى كتاب لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها ..

٤٧٢

ـ وقوله تعالى (وَآثارَهُمْ) معطوف على «ما» الموصولة ، وهى مفعول به لنكتب ـ أي نكتب ما قدموا ونكتب آثارهم ، أي ما خلفوه وراءهم من آثار صالحة أو فاسدة ..

والآثار هنا ، هى ما يبقى للأموات فى الحياة بعد موتهم من آثار فى الناس ، فتكون منارات هدى ، أو سبل ضلال .. وفى هذا يقول الرسول الكريم : «ومن سنّ سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

والإمام المبين ، هو اللوح المحفوظ ، وهو أم الكتاب ..

____________________________________

الآيات : (١٣ ـ ٢٧)

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي

٤٧٣

ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (٢٧)

____________________________________

التفسير :

مناسبة ضرب هذا المثل هنا ، هو أن الآيات السابقة كشفت عن الطبيعة الإنسانية ، وأن الناس على طبيعتين : أصحاب طبيعة متأبيّة على الخير ، مغلقة الحواسّ عنه ، لا يستجيبون له مهما جىء إليهم به من شتى الوسائل .. وأصحاب طبيعة أخرى مهيأة للإيمان ، مستعدة له ، متشوفة إليه ، لا تكاد تهبّ عليهم نسمة من أنسامه العطرة ، حتى يتنفسوا أنفاسه ، ويملئوا صدورهم به ..

وفى هذا المثل ، عرض للناس فى طبيعتيهم هاتين معا ..

قوله تعالى :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) ..

[القرية .. والمرسلون إليها]

المفسّرون على إجماع بأن هذه القرية ، هى «أنطاكية» .. وعلى إجماع كذلك بأن هؤلاء الرسل ، هم من حواريى المسيح ، ورسله الذين بعثهم لينشروا الدعوة فى الناس ..

وهذا التأويل للقرية وللرسل ، لا يقوم له شاهد من القرآن الكريم ، ولا تدل عليه إشارة من إشاراته القريبة أو البعيدة .. وإنما هو من واردات أهل الكتاب ، وأخبارهم. والخبر هنا وارد من المسيحية ، وينسب إلى وهب

٤٧٤

ابن منبّه ، الذي تلقاه من المسيحية ، مما يعرف عند المسيحيين بأعمال الرسل ، الملحقة بالأناجيل ..

فهذا التأويل ـ فى نظرنا ـ لا يعوّل عليه ، ما دام غير مستند إلى دليل من القرآن الكريم ذاته .. فالقرآن الكريم ـ فى رأينا ـ يفسر بعضه بعضا ، وهو كما وصفه الحق سبحانه وتعالى فى قوله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٨٩ : النحل) فكيف لا يكون تبيانا لما فيه؟.

وندع القرية واسمها ، والرسل والصفة التي لهم ـ ندع هذا الآن ، ونعرض المثل على أن القرية واحدة من القرى المبثوثة فى هذه الدنيا ، وأن الرسل ، هم بعض رسل الله إلى عباده ..

فهذه قرية ، قد جاءها رسل ، مبعوثون من عند الله ، وقد دعوا أصحابها إلى الإيمان ، فلم يلقوا منهم إلّا الصد اللئيم ، والقول القبيح ..

أرسل الله سبحانه إليهم رسولين معا .. فكذبوهما .. (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي أمدهما الله برسول ثالث ، يقوّيهما ، ويشد أزرهما .. فلم يزدهم ذلك إلا عنادا ، وإصرارا على الكفر والضلال :

(إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ* قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا ، وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ .. إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) ..

ولم يكن للرسل بين يدى هذا القول المنكر ، إلا أن يقولوا ما حكاه القرآن عنهم :

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ* وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) ..

ويجىء ردّ القوم على الرسل ، زاجرا مهددا :

٤٧٥

(قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ) ..

ويلقى الرسل هذا الرد الفاجر ، بملاطفة ، ووداعة :

(قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ ..!) أي شؤمكم معكم ، ومستقرّ فى كيانكم الفاسد ، الذي يمسك عليكم هذا الداء الذي أنتم فيه .. وليس هو شؤما واردا عليكم من خارج ، فإن ما معكم من الشؤم لا يحتاج إلى مزيد ..

ـ (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ؟) ألأن ذكرتم بما أنتم فيه من غفلة ، وما أنتم عليه من ضلال ، ترموننا بهذا الاتهام الكاذب الفاجر؟.

ـ (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) ـ أي متجاوزون الحد فى الضلال ..

وينتهى موقف الرسل مع أصحاب القرية إلى هذا الطريق المسدود .. ثم لا يلبث أن يجىء صوت العقل ، من واحد من أهل القرية ، فيكسر هذا الحائط ، ويدخل على القوم منه ، ويأخذ موقفه مع الرسل ، داعيا إلى الله ..

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ* اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) .. فأى دعوة أولى من هذه الدعوة ، بالقبول لها ، والاحتفاء بأهلها؟ إنها دعوة من أهل الهدى ، الذين لا يسألون أجرا على هذا الهدى الذي ، يقدمونه ويدعون إليه ..

فلم التمنّع والإعراض عن خير يبذل بلا ثمن؟ ذلك لا يكون إلا عن سفه وجهل معا ..

ثم يعرض هذا الوافد الجديد ، نفسه عليهم ، فى الزىّ الجديد الذي تزيّا ، والخير الموفور الذي بين يديه من تلك الدعوة ..

٤٧٦

(وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ؟ أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ؟ إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ).

أسئلة إنكارية ، ينكر بها الرجل على نفسه ألا يكون فى العابدين لله ، الذي فطره ، والذي إليه موعده ولقاؤه مع الناس ، يوم الحشر ، إنه لا بد أن يكون له إله يعبده .. أفيترك عبادة من خلقه ورزقه ، والذي يميته ثم يحييه .. ويعبد آلهة من دون الله ، إن يرده الله بضر لا تغنى عنه هذه الآلهة شيئا ، ولا تمد يدها لإنقاذه مما يريده الله به من ضر؟ (إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)!! وأي ضلال بعد هذا الضلال ، الذي يدع فيه الإنسان حبل النجاة الممدود إليه ، ثم يتعلق بأمواج البحر الصاخبة ، وتيارانه المتدافعة؟.

(إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ). وهكذا يقولها صريحة مدويّة فى وجه القوم .. إنها هى كلمة النجاة ، وحسبه أن يمسك بها ، وليكن ما يكون ..! وألا فليسمعوها عالية مدوية متحدية .. إنها كلمة الحق التي يجب أن ترتفع فوق كل كلمة ، وتعلو على كل نداء.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) ـ هذا هو الجواب الذي تلقاه الرجل المؤمن ، ردّا على إقراره بالإيمان بربه .. وهو الجزاء الذي يلقاه كل مؤمن صادق الإيمان ..

والقول الذي قيل لهذا المؤمن ، إما أن يكون فى الحياة الدنيا ، بوحي من الله سبحانه وتعالى ، وإما أن يكون ذلك بعد الموت ، حيث يعلم المرء مكانه من الجنة أو النار فيقال له يومئذ : «ادخل الجنة» فهى الدار التي أعدّها الله لك.

(قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ* بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)!

٤٧٧

إنه يتمنّى لقومه أن ينالوا هذا الخير الذي ناله ، بإيمانه بربه ، وأن يعلموا ما أعد الله للمؤمنين من مغفرة وإكرام .. وأنّى لهم أن يعلموا هذا الغيب؟ وأنّى لهم أن يؤمنوا به ، وقد أنكروا ما لمسوه بحواسهم ، وكذبوا ما رأوه بأعينهم؟ ..

هذا هو المثل ، وتلك هى مواقف الشخصيات والأحداث فيه ..

وعلى ضوء هذا المثل يرى المشركون الضالون ، إلى أين يسير بهم كفرهم وضلالهم ، وإلى أين ينتهى الإيمان بالمؤمنين الذين استجابوا لرسول الله ، واستقاموا على الطريق الذي يدعوهم إليه!.

والصورة التي يصورها المثل واضحة مشرقة ، لا ينقصها أن يفتقد اسم القرية فيها ، ولا أن تغيب أسماء الرسل ومشخصاتهم .. إنها مستغنية عن كل هذا ..

وإذا كان لا بد من التطلع إلى ما وراء هذه الصورة ، والنظر إلى موقع القرية من هذا العالم ، وإلى أشخاص الرسل من بين رسل الله ـ إذا كان لا بد من ذلك ، فليكن النظر مقصورا على كتاب الله ، وليكن التطلع محجوزا فى هذه الحدود .. لا يتجاوزها ..

وننظر فى القرآن الكريم فنرى :

أولا : أن القرآن الكريم ، لم يتحدث عن رسولين حملا رسالة واحدة ، إلى جهة واحدة ، غير موسى وهرون ..

وثانيا : أن هذين الرسولين الكريمين ، قد حملا رسالتهما إلى فرعون ..

وثالثا : أنه قد قام من قوم فرعون رجل مؤمن ، خرج على سلطان فرعون ، وعلى ما كان عليه قومه من متابعة فرعون فى كفره وضلاله.

٤٧٨

ورابعا : أن القرآن الكريم ، يعقد الصلة فى أكثر من موضع منه ، بين فرعون ، وبين هؤلاء المشركين من قريش ..

فإذا نظرنا إلى المثل على ضوء هذه الإشارات المضيئة من القرآن الكريم ، نجد :

أولا : أن قوله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما) يقبل التأويل ، على أن الرسولين ، هما موسى ، وهرون ، كما يقول تعالى : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) (٤٣ : طه) ..

وثانيا : أن قوله تعالى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) يقابله فى قصة موسى وهرون مع فرعون ، حديث عظيم فى القرآن العظيم ، عن رجل لم يكشف القرآن عن اسمه ، وإنما أشار إلى أنه من آل فرعون .. أي خاصته ، وذوى قرابته .. فهو إنسان ذو شأن فى المجتمع الفرعوني .. ومع هذا لم يكشف القرآن عن اسمه .. إذ ما جدوى الاسم ، فى مقام الوزن للقيم الإنسانية فى الناس؟ إن المعتبر هنا هو الصفة لا الموصوف ، وذات المسمّى لا الاسم ..

يقول القرآن الكريم ، عن هذا الرجل المؤمن : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ* يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلَّا ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ* وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ* مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ* وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ* يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ*

٤٧٩

وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ ... (٢٨ ـ ٣٤ : المؤمن).

ثم تمضى الآيات ، فتذكر دعوة هذا الداعي إلى الله .. فيقول سبحانه :

(وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ* يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ* مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ* وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ* تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ* لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ* فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللهِ إِنَّ اللهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ* فَوَقاهُ اللهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ) (٣٨ ـ ٤٥ : المؤمن) ..

هذه دعوة رجل صاحب رسالة .. إنها إن لم تكن على يد رسول ، فهى رسالة رسول ، وحقّ لصاحبها أن يدخل فى زمرة الرسل .. وهذا هو السر فى التعبير القرآنى : (فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) أي فعززنا الرسولين بثالث ، وهذا يمكن أن يحمل ـ وهو فى إطلاقه كهذا ـ على محملين ، فيقدّر برسول ثالث ، أو معين ثالث ، بعد المعين الثاني ، الذي كان معينا للرسول الأول ، فهو تعزيز بعد تعزيز .. ولقد عزّز موسى بهارون ، وكان هذا الرجل المؤمن تعزيزا لهما ..

بقيت مسألة تحتاج إلى نظر .. وهى أن المثل ذكر مع الرسل الثلاثة ، رجلا ، كانت له دعوة إلى الله كدعوة هؤلاء الرسل ، وأنه جاء من أقصى

٤٨٠