التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٣١) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (٣٢) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (٣٣) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (٣٤) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (٣٥) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٣٦) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ) (٣٧)

____________________________________

التفسير :

ولا يلتفت فرعون إلى هذه التّهم التي وجهها إليه موسى ، وكأنه يعدّ هذا لغوا من القول ، فما كان لموسى أن يحاجّ فرعون ، أو يجادله فيما هو من سلطانه! إن فرعون لم يسمع شيئا!!

ويسأل فرعون موسى ، عن مضمون هذا القول الذي ألقى به إليه ، حين واجهه برسالته ، فقال : (إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيقول فرعون :

(وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟) مجهّلا هذا الربّ ، منكّرا ومنكرا له : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ)؟

إنه لا يمكن أن يكون هذا الربّ عاقلا .. وكيف وفرعون هو الربّ القائم على رقاب العباد؟ أليس هو القائل : (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي!) (٣٨ : القصص).

ويجئ جواب موسى :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) : أي كنتم ممن يطلبون الحقّ ويستيقنونه! فهذا هو ربّ العالمين.

ويعجب فرعون لهذا الكلام ، ويستثير عجب من حوله :

٨١

(قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ. أَلا تَسْتَمِعُونَ)؟ .. فما هذا اللغو؟ وما هذا الهذيان؟ أهناك ربّ غيرى؟.

ولا يكاد القوم يتجهون بعقولهم إلى ما يدعوهم إليه فرعون ، حتى يلقاهم موسى بالجواب الذي كان ينبغى أن يلقوا به هذا السؤال الذي ألقاه إليهم فرعون ، فى عجب ودهش :

(قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) ..

هذا هو الربّ الذي ينكره فرعون ، ويعجب من أمره .. أفتنكرونه أنتم كذلك؟ فأين عقولكم حتى تنقادوا إلى هذا الضلال؟.

ويأخذ فرعون الطريق على موسى إلى الملأ .. فيقول لهم :

(إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) .. إنّه رسول إليهم ، لا إلى فرعون .. ثم إنه لمجنون يهذى بهذا القول .. فلا تستمعوا إليه ، ولا تأخذوا كلامه إلّا على أنه كلام مجانين!.

ويردّ موسى على فرعون هذا الاتهام بقوله :

(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) ..

إنه يدعوهم جميعا ، ومعهم فرعون ، إلى أن يستمعوا ويعقلوا ، وإنهم لو كانوا عقلاء حقّا لعرفوا أن لهذا الوجود ربّا ، وأنه ربّ المشرق والمغرب ، وما بين المشرق والمغرب ، من كائنات.

ويقطع فرعون هذا الجدل ، ويجرد سيف بأسه وسلطانه ، ليفحم موسى ، ويسكته .. فيقول :

(لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ) .. هكذا منطق القوة الغاشمة .. إنها لا تحتكم إلى عقل ، ولا تخضع لمنطق ، إلّا منطق القهر والتسلّط!.

٨٢

وماذا يصنع موسى ، فى مواجهة هذا السلطان الغشوم؟ إن لفرعون أن يسجنه ، وأن يقتله .. إنه لا يعترض على هذا ، ولكن كلمة أخيرة ، يريد موسى أن يستمع إليها فرعون ، ثم ليفعل ما يشاء ..

(قالَ : أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟) ـ أي أتنفّذ فيّ هذا الحكم ، ولو كان معى شىء مبين ، وحجة واضحة على هذه الأقوال التي استمعت إليها ، وأنكرتها؟

وهنا يسيل لعاب فرعون إلى هذا السلطان العظيم الذي بين يدى موسى ، وهو يخفيه عنه .. فما هو هذا السلطان؟ وكيف يكون مع موسى سلطان وفي يد فرعون كل سلطان؟ أين هو؟ لا بد أن يستولى عليه ، ويضيفه إلى سلطانه ..!!

وفي لهفة ، وحزم ، وقوة .. يقول فرعون ..

(فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ!).

ولا يقول موسى كلمة .. بل يضرب ضربته في غير تراخ أو تردد ..

(فَأَلْقى عَصاهُ .. فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ) ..

(وَنَزَعَ يَدَهُ .. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) ..

ولا تعرض القصة هنا لما كان من فرعون ، وما لبسه من اضطراب وفزع .. فذلك أمر معلوم ، فى مثل هذه الأحوال .. وليس فرعون بدعا من الناس ، فيما يطلع عليهم من عالم المجهول.

ويظهر أثر هذا الفزع الذي استولى على فرعون ، فى استنجاده بمن حوله ، وتعلّقه بهم قبل أن يهوى من هول المفاجأة .. فيشركهم معه في هذه المعركة ، بل ويجعل إليهم لا إليه ـ الرأى فيها ، وهو الذي كان يتولى كلّ شىء ، ويأمر بما يرى .. أما هنا فإنه صاغر ذليل ، يطلب الرأى ، وينتظر الأمر ، ليفعل ما يؤمر به ..

٨٣

(قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ .. إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ؟).

إنه يستسلم للملأ حوله ، ويسلّم بأن الأرض أرضهم ، وقد كانوا منذ قليل هم والأرض ملكا خالصا ليده.

وإذا كانت الأرض أرضهم ، وموسى يريد أن يخرجهم من أرضهم هذه بسحره .. فالأمر إذن أمرهم .. فماذا يرون؟ وبماذا يأمرون؟

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ).

هذا هو الرأى الذي ارتآه القوم في موسى .. إنه ساحر .. فليلقوه بسلاح مثل سلاحه .. وليجمعوا له السحرة من كل مكان!

وهكذا انتهى هذا المشهد ، ليبدأ مشهد آخر ، على مسيرة الأحداث المتتابعة للقصة .. كما سنرى في الآيات التالية :

____________________________________

الآيات : (٣٨ ـ ٤٢)

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (٣٨) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (٣٩) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (٤٠) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (٤١) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ)(٤٢)

____________________________________

التفسير :

وفي هذا المشهد نرى حركات سريعة متلاحقة ، بعضها خفيّ ، وبعضها ظاهر .. ويتشكل من خيوط هذه الحركات صور شتى ، تظهر على مسرح الأحداث ..

٨٤

فهاهم أولاء السحرة قد جئ بهم من كل مكان ، وقد أنذروا بالسّحر الذي سيلقونه وبالساحر الذي سيرميهم بسحره ، وباليوم المعلوم الذي تلتحم فيه المعركة :

(فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

ثم هاهم أولاء دعاة فرعون ، ينطلقون بين الناس ، يغرونهم بالاحتشاد لهذا اليوم ، وبشهود تلك المعركة .. بين السحرة ، وبين الساحر ..

وهذا الحشد للناس .. غايته ، هو شدّ ظهر هؤلاء السّحرة ، وإلقاء الرعب في قلب موسى ؛ بهذه الحشود التي تتربص به ، وتنتظر الهزيمة له ، لتسخر منه أو تفتك به.

(وَقِيلَ لِلنَّاسِ : هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ ، لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ)!.

ثم ها هم أولاء السحرة ، يلتقّون بفرعون قبل المعركة ، ليتلقّوا كلمته ، وليعرضوا بين يديه ما معهم من أسلحة قد أعدوها للقاء هذا الساحر .. ثم إذ ينتهى هذا العرض ، يعرضون على فرعون مطلبا خاصّا بهم ، وهو الجزاء الذي سيجزيهم به فرعون إذا هم جاءوا له بالنصر المبين ..

(قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ) .. ولا يتردد فرعون في بذل الجزاء الحسن لهم .. إنه ليس جزاء ماديّا وحسب ، بل إنهم سيكونون من خاصة فرعون ، ومن المقربين عنده (قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) وينتهى هذا المشهد ، ليخلى مكانه لمشهد آخر .. تعرضه الآيات الآتية :

____________________________________

الآيات : (٤٣ ـ ٥١)

(قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٤٣) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (٤٤) فَأَلْقى مُوسى

٨٥

عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (٤٥) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (٤٦) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٤٧) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (٤٨) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (٤٩) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (٥٠) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) (٥١)

____________________________________

التفسير :

وينتقل المشهد إلى خارج المدينة ، حيث احتشد الناس ، ليشهدوا هذا اليوم العظيم ..

وفي ميدان المعركة ، التقى موسى بالسحرة .. ثم ماهى إلا كلمات يتبادلها الطرفان ، حتى يلتحم القتال .. ويدعو موسى السحرة إلى أن يبدءوا المعركة ، وليصدموه الصدمة الأولى بكل ما معهم ..

(قالَ لَهُمْ مُوسى .. أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ) ..

ويلقى السحرة كل أسلحتهم ..!

(فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ)!

إن كل ما معهم هي حبال وعصيّ ، شكلوها على صفات خاصة ، حتى إذا ألقوا بها اضطربت اضطراب الأفاعى والحيّات .. فلما ألقوها ، أطلقوا وراءها مشاعر إيمانهم بفرعون ، واستمدادهم القوة من قوته .. وهم بهذا الشعور لا بسحرهم ـ سيغلبون ، وينتصرون!

ولا يذكر القرآن هنا ماذا كان لهذه الحبال وتلك العصى من أفاعيل ، وما كان لها من آثار في مشاعر الناس ، وفي موسى نفسه .. وقد ذكر القرآن

٨٦

ذلك في مواضع أخرى .. فقال تعالى في سورة الأعراف : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (الآية : ١١٦).

وقال في سورة طه ، عما وقع في نفس موسى من هذا السحر : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (الآية : ٦٧).

(فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) .. والإفك : ما كان من واردات الضلال والبهتان ..

وهكذا في لمحة خاطفة ، يتبدد هذا السراب ، وتختفى أشباح هذا الضلال. وإذا موسى وقد ملك الموقف ، واستولى على كل ما في الميدان من مغانم ..! وإذا هذا الهرج والمرج ، وهذا الصخب واللجب ، يتحول إلى صمت رهيب ، وسكون موحش ، لا يقطعه إلا السحرة ، وقد استبدت بهم نشوة غامرة ، وغشيتهم صحوة مشرقة ، وإذا هم يخرجون من أحشاء هذا الصمت الرهيب ، ويتحركون في وسط هذا السكون الموحش.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ* قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ* رَبِّ مُوسى وَهارُونَ ..)!

ويعود الهرج والمرج ، وتختلط أصوات الاستهجان بالاستحسان ، ثم تخمد الأنفاس فجأة ، وتحتبس الكلمات على الألسنة ، وتموت المشاعر في الصدور ، ويفيق القوم من وقع هذه الصاعقة ، إذ يذكرون أنهم في حضرة «فرعون» فتتعلق به الأبصار .. ليطلّ الناس منها على ما يصنع فرعون ، أو يقول.

والحساب هنا مع السحرة أولا ، الذين خذلوا فرعون ، وأذلوا كبرياءه ، وأعلنوا فضيحته على الملأ.

(قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ)؟

٨٧

إن خذلانهم على يد موسى ، ليس هو الأمر الذي ينظر إليه فرعون الآن ، ويحاسب السحرة عليه .. لأنه رأى بعينه ، هذه القوى القاهرة التي بين يدى موسى ، والتي لا قبل لبشر بمواجهتها .. ولكن الذي يعنيه من أمر السحرة فى هذا الموقف ، هو خروجهم عن أمره ، ومتابعة موسى من غير إذن منه؟ إذ كيف يكون لهم وجود خاص ، وكيف يكون لعقولهم ومشاعرهم سلطان عليهم مع سلطانه؟ إنه يملكهم ويملك ووجودهم الخارجي والداخلى جميعا!!

ـ (آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ؟) إنها مؤامرة مدبرة ، ومكر مبيت بينكم وبينه .. إنه الساحر الأكبر ، الذي علمكم السحر .. وهكذا استجبتم له ولم تخرجوا عن سلطانه عليكم ، شأن التلميذ مع أستاذه ..

(إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ .. فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)!!

ولا ينتظر ، حتى يعود إلى كرسيّ سلطانه ، ويقدّمهم للمحاكمة .. بل إنه يقيم المحكمة في موقع الجريمة ، وينفذ الحكم على أعين الجماهير التي شهدت الحادثة ، حتى يكون فيها عبرة وعظة .. إنه يضرب والحديد ساخن كما يقولون .. (لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ!).

وإذا وقع الإيمان في القلب موقعا صحيحا ، وجاء إليه عن حجة قاطعة ، وبرهان ساطع ، لم تستطع قوى الأرض كلها مجتمعة أن تنتزع هذا الإيمان ، أو تزحزحه من موضعه ..

وبهذا الإيمان يلقى السحرة تهديد فرعون ووعيده في استخفاف ، وغير مبالاة .. إن كل شىء هيّن ، ماداموا قد حصلوا على الإيمان ، وأنزلوه هذا المنزل المكين من قلوبهم ..

(قالُوا لا ضَيْرَ) .. أي لا ضيم ، ولا خسران علينا ، إذا ذهب من بين أيدينا كل شىء ، ولو كانت حياتنا ، وسلّم لنا إيماننا الذي أشرقت شمسه بين جوانحنا.

٨٨

(إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ) ..

فلتذهب هذه الحياة غير مأسوف عليها .. فإن لنا حياة أخرى ، أفضل ، وأكرم .. إنها حياتنا الآخرة .. والآخرة خير وأبقى ..!

(إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ) ..

إننا بإيماننا هذا نفتح طريقا من النور وسط هذا الظلام الكثيف ، فيهتدى بنا الضالون الحائرون .. وبهذا نطمع في مغفرة ربنا ، لما كان لنا من خطايا في السير معك على طريق الضلال ..

ثم ينتهى هذا المشهد ، ويخيل للمشاهد أن المعركة قد انتهت .. وأن فرعون قد جمع وجوده الممزّق ، وجرّ وراءه فلّه المهزوم .. ولكن الأحداث تتصل ، وتأخذ مسرحا آخر غير هذا المسرح .. كما سنرى في الآيات التالية ..

____________________________________

الآيات : (٥٢ ـ ٦٨)

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ(٥٦) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٧) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٥٨) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (٦٠) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (٦١) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (٦٢) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ

٨٩

الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (٦٣) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (٦٤) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (٦٥) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٦٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ(٦٧) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)(٦٨)

____________________________________

التفسير :

لم تكن تلك المعركة التي أقامها فرعون بين موسى والسحرة ، والتي انتهت بتلك الهزيمة المنكرة للسحر والساحرين ـ لم تكن هذه المعركة ، لتحسم الموقف بين موسى وفرعون ، فما زاد فرعون بعدها إلا كفرا ، وكبرا ، واستعلاء ، وإلا ضراوة وبغيا وعدوانا على بني إسرائيل ..!

وإذا لم يكن في هذه الحرب السافرة ، وفي الآية الكبرى التي رآها فرعون رأى العين ، ما يقيم له دليلا على أن موسى مرسل من ربّ العالمين ، وأن سلطان هذا الربّ سلطان عظيم ، يخضع له كل ذى سلطان ـ فقد قامت من وراء هذه الحرب حرب خفية ، لا يرى الناس مشاهدها ، ولكن يشهدون آثارها .. إنهم لا يرون سيوفا تسلّ ، ولا حرابا تشرع ، ولكن يرون رءوسا تقطع ، وجراحا تفور ، ودماء تسيل ، وأشلاء تتمزق وتتطاير ..!

فلقد سلّط الله على فرعون وملائه ألوانا من البلاء ، وصب عليهم مرسلات من النقم ، وأخذهم بها حالا بعد حال ، وواحدة بعد أخرى .. فما استكانوا ، وما تضرّعوا ، وما لانت منهم القلوب ، ولا استنارت البصائر .. وفي هذا يقول الله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ

٩٠

يَذَّكَّرُونَ* فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ* وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ* فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ. آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ). (١٣٠ ـ ١٣٣ : الأعراف) ..

وكان فرعون كلّما نزلت به نازلة طلب إلى موسى أن يدعو إلهه بأن يرفع هذا البلاء ، وفي مقابل هذا سيؤمن به فرعون ، ويرسل معه بني إسرائيل .. وفي هذا يقول الله تعالى : (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى : ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٣٤ : الأعراف).

ولكن ما إن يرفع البلاء ، وتسكن العاصفة ، حتى يعود فرعون إلى سيرته الأولى ، فيصب على بني إسرائيل نقمته ويزيد في قهرهم وإذلالهم ، ضراوة وقسوة .. (فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ) (١٣٥ : الأعراف).

فيشتد بهذا البلاء على بني إسرائيل ، وتزداد محنتهم ، كما يقول الله تعالى على لسانهم إلى موسى : (قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) (١٢٩ : الأعراف).

وفي ضوء هذا نستطيع أن نفهم قوله تعالى :

(وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) .. وأن هذا الأمر من الله سبحانه وتعالى إلى موسى ، لم يكن بعد التقاء السحرة بموسى

٩١

وإيمانهم به مباشرة. وإنما كان ذلك بعد زمن ، رأى فيه فرعون هذه الآيات من النقم والبلايا. حتى إذا بلغ الكتاب أجله ، أمر الله موسى أن يسرى بقومه ليلا وأن يخرج بهم من مصر.

ـ وفي قوله تعالى : (إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) إشارة إلى أن يأخذ موسى وقومه حذرهم ، وأن يخرجوا من مصر في خفية وحذر ، فإن عيون فرعون ترقبهم ، ولهذا جاء الأمر بأن يكون خروجهم ليلا ، من غير أن يراهم أحد ..

قوله تعالى :

(فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ* إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ* وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ* وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ) ..

لقد كان فرعون في أثناء هذه البلايا التي صبت عليه ـ يعدّ العدة ليضرب بني إسرائيل ضربة قاضية ، فأرسل رسله في البلاد يغرون الناس ببني إسرائيل ، ويحذرونهم الشر الذي ينجم عن وجودهم بينهم ، وأن هذه الجماعة ، وإن كانت شرذمة ، أي جماعة مفرقة ، متناثرة هنا وهنا ـ إلا أنه يجب الحذر منها ، والانتباه إلى خطرها ..

قوله تعالى :

(فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ* كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ).

يكاد يجمع المفسرون هنا على أن إخراج فرعون وقومه من هذه الجنات والعيون ، إنما كان بغرقهم وهلاكهم ، حين تبعوا بني إسرائيل ، وعبروا وراءهم البحر ، فأطبق عليهم وأغرقهم .. ثم يقولون : إن بني إسرائيل قد عادوا إلى مصر مرة أخرى ، بعد أن رأوا ما حلّ بفرعون وقومه ، وأنهم ورثوا ما كان في يد فرعون وقومه!

٩٢

وهذا ، مخالف لصريح آيات القرآن الكريم ، التي تحدثت في أكثر من موضع عن حياة موسى وبني إسرائيل في الصحراء ، وتيههم في الصحراء أربعين سنة ، بعد أن أمرهم موسى بدخول الأرض المقدسة ، فأبوا ، وخافوا أن يدخلوها على أهلها ، وقالوا : (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) (٢٢ : المائدة) وقالوا (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) (٢٤ : المائدة).

ثم كيف يكون مع بني إسرائيل من المشاعر ما يلفتهم إلى مصر مرة أخرى ، وقد لبسهم فيها الذل والهوان ، وسكن إلى كيانهم الرعب والفزع؟ ذلك بعيد بعيد!! وهل إذا غرق فرعون وجنوده .. هل خلت مصر من أهلها؟ وهل خلت البلاد من الجنود؟

ثم إن التاريخ يؤيد هذا ، ويشهد بصدق القرآن الكريم ، وأنه لم تكن لبني إسرائيل عودة إلى مصر ، بعد أن خرجوا منها فارين مذعورين ..

ـ أما قوله تعالى : (فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ) فهو ـ والله أعلم ـ ما كان من نقم الله التي حلّت بفرعون وملائه .. من جدب ، ونقص في الثمرات ، ومن طوفان ، وجراد وفمّل .. فهذه النقم قد سلبت القوم ما كان في أيديهم من نعم ، فأحالت الخصب جدبا ، والنعيم والرفه بلاء وكربا .. وبهذا كان خروجهم مما كانوا فيه من جنات وعيون ، وكنوز ومقام كريم .. على حين أن بني إسرائيل لم يمسهم شىء من هذا البلاء ، وهم يعايشون المصريين ، ويحيون معهم ، فكأنهم بهذا ، قد ورثوا ما كان في أيدى المصريين ، من هذه النعم والكنوز! إذ كانوا هم الذين يأخذون بحظّهم منها ، على حين حرمها فرعون والملأ الذين معه ..

ولهذا جاء ذكر خروج بني إسرائيل من مصر بعد هذا الميراث لا قبله ، كما ترى ذلك في قوله تعالى بعد هذا :

٩٣

(فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ) .. أي متجهين جهة الشرق ..

(فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) .. أي فلما رأى الجمعان ـ جمع فرعون ، وجمع بني إسرائيل ـ بعضهم بعضا .. قال أصحاب موسى : إنا لمدركون.

(قالَ كَلَّا .. إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ ..)

(فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ .. فَانْفَلَقَ .. فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ) ..

(وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ ..) أي جذبناهم إلى البحر ، وأغرقناهم ، «ثمّ» أي هناك و «الآخرين» فرعون وقومه ، إذ كانوا في المؤخرة من القوم.

(وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ).

وهكذا تختتم القصّة ، فيغرق فرعون وجنوده ، وينجو موسى ومن معه ولا تذكر لبني إسرائيل عودة إلى مصر ، ولو كان ذلك لما غفل القرآن الكريم عن ذكره ، إذ أن ذلك لا يكون إلا بعد أن يضرب موسى بعصاه البحر مرة أخرى ، فينفلق .. ويكون ذلك آية لا يغفل القرآن ذكرها ..

هذا ، وقد جاء في أكثر من موضع من القرآن الكريم ، ذكر ميراث بني إسرائيل ، لما ورثهم الله إياه ، سابقا لخروجهم من مصر ، ونجاتهم من يد فرعون.

ففى سورة الأعراف يجىء قوله تعالى : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا ، وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ) .. ثم يجىء بعد ذلك مباشرة قوله تعالى : (وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ) (الآيتان : ١٣٧ ـ ١٣٨) .. وفي سورة الدخان .. يقول الله تعالى :

٩٤

عن فرعون وملائه : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ) .. ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى : (وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) الآيات : (٢٥ ـ ٣١) ..

فالميراث الذي تتحدث عنه الآيات في هذه المواضع ، كان ميراث ما في أيدى المصريين من خيرات مصر ، التي سلط الله عليها آفات تحرمهم الانتفاع بها ، على حين كان ينتفع بها بنو إسرائيل ، إلى أن خرجوا من مصر .. وتلك آية من آيات الله ، حيث تجتمع النعمة والنقمة في الشيء الواحد .. تتناوله يد ، فيتحول فيها إلى نقمة ، وتمسك به يد أخرى ، فإذا هو نعمة!

ولا يدفع هذا ، ما وصفت به الأرض في قوله تعالى ؛ (الَّتِي بارَكْنا فِيها) إذ قد يقع في بعض الأفهام أن «البركة» تعنى أرضا مخصوصة ، هى الأرض المقدسة .. وفي رأينا أنه إذا اجتمع للأرض المقدسة ، القداسة والبركة ، فإنه لا ينفى أن يشاركها غيرها بعض صفاتها ، فقد وصف البيت الحرام بأنه مبارك وهدى للعالمين ، كما يقول تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٩٦ : آل عمران). ومصر بلد مبارك ، لا شك في هذا .. فقد ربى في حجره ، النبيان الكريمان موسى وعيسى عليهما‌السلام .. حتى إذ طلعت شمس الإسلام كان مصر البلد المبارك الذي سبق إلى الإسلام ، وأمدّ بخيراته المسلمين ، وأعزّ برجاله جيوش المجاهدين .. ثم كان بعد هذا حمى الإسلام وملاذه في الشدائد والمحن ، كما كان ـ ولا يزال ـ الحفيظ الأمين على شريعته ولغته ، حيث ينشر علوم الشريعة في آفاق الإسلام ، ويفد إليه طلاب علوم الدين واللغة من كل قطر ، فينهلون من المعارف ، ثم يعودون إلى أقوامهم أساتذة معلمين ، وهداة مرشدين ..

٩٥

فهل كثير على مصر بعد هذا أن توصف أنها البلد المبارك؟ وأي بركة أعظم من أن تكون مصر هي اليوم مركز الإسلام ، والراية التي يجتمع إليها المسلمون؟

وإذا لم يصح الحديث بأن : «مصر كنانة الله في أرضه ، من أرادها بسوء قصمه الله». فإنه يصح كلمحة من لمحات الغيب ، كشف عنها قلب مؤمن ، ونطق بها لسان صدّيق!!

***

وقد آن لنا بعد هذا ، أن نقف وقفة ، عند التكرار في القصص القرآنى ، وما يقال فيه ، وأن نجعل من تكرار قصة موسى في القرآن مثلا لهذا التكرار إذ كانت تلك القصة أكثر القصص القرآنى تكرارا ..

[التكرار في القصص القرآنى (١)]

التكرار في القصص القرآنى ظاهرة واضحة ، ملفتة للنظر ، وداعية لكثير من التساؤل والبحث ..

وقد وجد أصحاب الأهواء ، ومرضى القلوب ، من الملحدين وأعداء الإسلام فى هذا التكرار مدخلا ملتويا ، يدخلون منه على هذا الدين ، للطعن في القرآن الكريم ، والنيل من بلاغته ، وإسقاط القول بإعجازه ، وليقولوا إن هذا التكرار قد أدخل الاضطراب على أسلوب القرآن ، وجعله ثقيلا على اللسان وعلى السمع معا .. ثم يخلصون من هذا إلى القول بأن أسلوب القرآن ليس على المستوي البلاغى الرفيع ، الذي يتسع للدعوى التي يدعيها له المسلمون بأنه معجز

__________________

(١) اقرأ في هذا كتابنا : القصص القرآنى.

٩٦

وبأنه منزل من السماء ، من كلام ربّ العالمين! ثم يتمادون في هذا الضلال ، فيقولون : إن هذا الخلط الذي وقع فيه التكرار ، إنما هو أثر من آثار تلك الأحوال النفسية التي كانت تنتاب محمدا ، فتخرج به عن وعيه ، وتجىء الكلمات التي ينطق بها في تلك الحال ، مردّدة مقطعة ، كما يقع هذا للمحمومين والمصروعين ، وأنه لا يكاد يبدأ القصة حتى ينصرف عنها ، ثم يذكرها فيعود إليها ، ثم ينصرف عنها .. وهكذا ..

وإن الذين يقولون هذا القول ، أو يحكونه عنهم ، هم أعاجم أو أشباه أعاجم ، لم يذوقوا البلاغة العربية ، ولم يتصلوا بأسرارها .. ولو أنهم رزقوا شيئا من هذا لما اتسع لهم باب الخروج عن الحياء ، لأن يقولوا هذا القول ، وأن ينطقوا بهذا البهتان العظيم ، ولردّهم أقلّ الحياء أن يقولوا قولا لم يقع في حساب «قريش» نفسها ، وهي تتصيد التهم والمفتريات على القرآن الكريم ، وحتى لقد بلغ بها الأمر في هذا ، أنها لو وجدت زورا من القول لقالته فيه ، ورمته به .. ولكن الزور نفسه أعياها أن تمسك به ، فى وجه هذا الحق المشرق المبين.

فكان أكثر قول القوم فيه ما حكاه القرآن عنهم : «وقالوا (إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ).

وقد ردّ عليهم القرآن هذا القول ، فقال تعالى : (فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً).

وإذا لم يكن لقريش أن تقول هذا القول ، فى وجه عداوتها وحربها للنبيّ ، وهي مرجع الفصاحة والبلاغة وموطنهما ، فكيف يساغ هذا القول من أعاجم وتلاميذ أعاجم؟ إن ذلك لهو الضلال البعيد.

وندع الردّ على هذه المفتريات ، ويكفى أن نعرض وجوها من هذا التكرار ، لنرى ما يطالعنا من بعض أسراره ، التي هي وجه من وجوه إعجازه ، وفيها الرد أبلغ الردّ على هذا الضلال المبين.

٩٧

ما داعية هذا التكرار :

كانت هذه الظاهرة ـ ظاهرة تكرار القصص القرآنى ـ على تلك الصورة الواضحة ، مما استرعى أنظار العلماء إليها ، وحرك عقولهم وألسنتهم للكشف عن أسرارها ودواعيها ..

فهذا أبو بكر الباقلّانيّ ، يقول في كتابه «إعجاز القرآن» :

إن إعادة القصّة الواحدة بألفاظ مختلفة ، تؤدّى معنى واحدا ـ من الأمر الصعب ، الذي تظهر فيه الفصاحة ، وتبين البلاغة».

وهو يريد بهذا القول أن يقول : إن عرض الموضوع الواحد بأساليب مختلفة من القول ، دون أن تتغيّر معالمه ، ودون أن يضعف أسلوب عرضه ، هو من العسير ، الذي لا يقدر عليه إلا من كان ذا ملكة بيانية ، واقتدار بلاغي ، وذلك في حدود لونين أو ثلاثة من ألوان العرض ، فإذا جاوز ذلك اضطرب الأسلوب ، وبهتت المعاني ، إلا أن يكون ذلك من تدبير الحكيم العليم .. رب العالمين.

ثم يقول «الباقلاني» :

«وأعيد كثير من القصص (القرآنى) فى مواضع مختلفة ، ونبّهوا ـ أي العرب ـ بذلك على عجزهم عن الإتيان بمثله ، مبتدأ ، ومكررا».

ويريد الباقلاني بهذا ، أن يقرر : أن من صور التحدي الذي عجز العرب عنه ، إزاء القرآن ، هو عرض القصص القرآنى ، عرضا متفاوتا بين الطول والقصر ، والبسط والقبض ، وقد وسّع عليهم بهذا مجال المعارضة والمحاكاة .. فلم يكن منهم إلّا العجز والاستخزاء!

وهذا القول من «الباقلانيّ» لا يكشف عن السرّ الذي نراه في التكرار

٩٨

الذي جاء عليه القصص القرآنى ، والذي سنعرض له ، بعد أن ننظر في بعض الآراء الأخرى ، التي عرضها أصحابها في هذا المقام.

ويقول «الزركشي» فى كتابه : «البرهان في علوم القرآن» :

«ومنه ـ أي من التكرار ـ تكرار القصص في القرآن ، كقصة إبليس فى السجود لآدم ، وقصة موسى ، وغيره من الأنبياء .. قال بعض العلماء : ذكر الله موسى في القرآن في مائة وعشرين موضعا»!!

ثم يكشف الزركشيّ عن وجوه لبعض أسرار هذا التكرار فيقول : «وإنما كرّرها ـ أي القصة ـ لفائدة خلت عنه في الموضع الآخر ، وهي أمور :

أحدها : أنه ـ أي القرآن ـ إذا كرر القصّة زاد فيها شيئا .. ألا ترى أنه ذكر «الحيّة» فى عصا موسى عليه‌السلام ، وذكرها في موضع آخر ثعبانا؟

ثم يذكر الزركشي أمرين آخرين .. نتجاوزهما إلى ما بعدهما ..

الرابعة : إبراز الكلام الواحد في فنون كثيرة ، وأساليب مختلفة ـ لا يخفى ما فيه من الفصاحة!

الخامسة : أن الله سبحانه أنزل هذا القرآن ، وعجّز القوم عن الإتيان بمثل آيه ، لصحة نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثم بيّن وأوضح الأمر في عجزهم ، بأن كرر ذكر القصة في مواضع ، إعلاما بأنهم عاجزون عن الإتيان بمثله ، بأى نظم جاءوا ، وبأى عبارة عبّروا».

والإشارة المقتضبة التي أشار إليها الزركشي ، وكأنها جاءت عفوا من غير قصد في قوله: «إنه ـ أي القرآن ـ إذا كرر القصة زاد فيها» ـ هذه الإشارة هى في نظرنا أبرز داعية من دواعى التكرار في القصص القرآنى ، وأوضح وجه يطلّ علينا منه ..

ولم يذكر «الزركشيّ» ما لهذه الزيادة من قيمة في عرض القصة ، وفى

٩٩

إبراز ما يراد إبرازه من أحداثها ، واكتفى بالقول : بأن القرآن كلما كرّر قصة جاء فيها بجديد لم يكن موجودا في العرض الأول ، أو الثاني أو الثالث .. وهكذا ..

دعوى وبرهانها :

والدعوى التي ندّعيها لداعية التكرار في القصص القرآنى ، وفي كل تكرار في القرآن الكريم ـ هى أن هذه الصور المكررة يكمّل بعضها بعضا ، وأنها في مجموعها تعطى صورة واضحة ، كاملة ، مجسّمة ، أو شبه مجسّمة للحدث ، وأن ما يبدو من أنه اختلاف بين المقولات ، فى الواقعة ، الواحدة ، أو الحدث الواحد ، ليس إلا تجميعا لمتناثر الأقوال من هذه الواقعة أوليس إلا التقاطا لظاهر القول ، وما يكمن وراءه من خواطر وخلجات ، لا يستطيع أن يمسك بها إلا النظم القرآنى وحده ، على هذا الأسلوب من التكرار الذي جاء به ..

فالتكرار الذي يحدث في بعض مشاهد القصة القرآنية ، يؤدّى وظيفة حيوية ، فى إبراز جوانب لا يمكن إبرازها على وجه واحد من وجوه النظم ، بل لا بدّ أن تعاد العبارة ، مرّة ومرّة ، لكى تحمل في كل مرة بعضا من مشخّصات المشهد ، وإن كانت كل عبارة منها تعطى صورة مقاربة للمشهد كله.

ولنا أن نشبه ذلك ـ على بعد ما بين المشبّه والمشبّه به ـ بالتصوير «الفتوغرافى» والتصوير «السينمائى» أو «التليفزيونى» ..

ففى التصوير «الفتوغرافى» .. اللقطة الواحدة تصوّر المشهد كله ، تصويرا كاملا .. صامتا ..

والصورة هنا ، وإن أعطت جميع ملامح المشهد ، فإنها تحتاج في قراءتها

١٠٠