التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

وهو ألا يلتفت إلى عنادهم ، وألا يلقى بالا إلى لغوهم وسفههم ، وما يتقوّلونه عليه ، وعلى القرآن الذي بين يديه ، وأن يتصدّى لهم ، ويقف في وجههم بهذا الحق الذي معه ، وأن يجاهدهم به ، ويرميهم بنذره ، كما يقول الله تعالى : (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ .. إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) (٧٩ : النمل) وكما يقول جلّ شأنه (فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (٩٤ : الحجر).

وقد امتثل النبي ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أمر ربّه ، فوقف من المشركين ، وقفة الجبل الراسخ الأشمّ في وجه الرياح الهوج ، والأعاصير العاتيات .. وقال قولته الخالدة ، لعمّه أبى طالب ، حين جاء يعرض عليه مهادنة قريش ، وله عندها ما يشاء من جاه ، ومال ، وسلطان ، فقال : «والله يا عمّ ، لو وضعوا الشمس في يمنى ، والقمر في شمالى ، على أن أترك هذا الأمر ، ما تركته ، أو أهلك دونه».

وفي قوله تعالى : (وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) ـ إشارة إلى ما كان ينتظر النبي من أعباء ثقال ، فى مواجهة قومه ، وفي الصبر على المكاره التي يرمونه بها ، فى قسوة ، وحنق ، وجنون.

____________________________________

الآيات : (٥٣ ـ ٥٩)

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (٥٣) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً(٥٤) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (٥٥) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (٥٦) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ

٤١

إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (٥٧) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (٥٨) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً)(٥٩)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً).

مرج البحرين : المرج ، خلط الشيء بالشيء ، ومرج الخاتم في اليد ، أي اضطرب ، وأمر مريج ، أي مختلط .. ومرج البحرين : أي خلطهما ، وجمع بعضهما ببعض ..

والعذب : الحلو ، الطيب .. والفرات : العذب أيضا .. وهو توكيد للعذب ، أي عذب عذب.

والسائغ : الذي تقبله النفس وتستطيبه ..

والأجاج : الشديد الملوحة.

والبرزخ : الحاجز بين الشيئين ..

والحجر المحجور : المحتجز ، المحجوز ، الذي لا سبيل له إلى الخروج من هذا الحجاز ..

والآية الكريمة ، مثل واقع محسوس ، لقدرة الله ، ولسلطانه القائم على

٤٢

هذا الوجود ، حيث ترى في لقاء الماء بالماء قدرة القادر الحكيم ، فى عزل أجزاء هذا السائل المائع ، الذي يشبه الهواء في سيولته .. فالماء الملح في جانب ، والماء العذب الفرات في جانب ، وهما حيث ترى العين ، ماء واحد ، لا يعرف أيهما هذا أو ذاك ، إلا بالمذاق باللسان ..! فما أروع هذه القدرة ، وما أعظم سلطانها الذي يحجز هذين السائلين بعضهما عن بعض ، فلا يطغى أحدهما على الآخر ، ولا يختلط العذب بالملح .. وفي هذا يقول الحقّ جلّ وعلا : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ* بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ) (١٩ ـ ٢٠ : الرحمن).

وفي هذا المثل صورة للمجتمع الإنسانى ، حيث الأخيار والأشرار ، والمؤمنون والكافرون ، والهواة والضالون .. إنهما في محيط حياة واحدة ، حيث يموج بعضهم في بعض ، وحيث تتشابه وجوههم وصورهم ، تشابه الماء والماء ، ومع هذا فإن بين الأخيار والأشرار ، حجاز ، وبرزخ ، أشبه بهذا البرزخ غير المنظور ، الذي يحجز بين الماء والماء : (هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ).

[الماء والماء. والناس والناس]

ومن إعجاز القرآن الكريم ، ما تكشف عنه هذه الآية ، من روعة التصوير ، ودقة التمثيل ، فيما بين مجتمع الماء والماء ، والناس والناس :

فأولا : هذا التشابه في الصورة بين الماء العذب ، والماء الملح ، وبين الأخيار والأشرار من الناس .. وأن التطابق يكاد يكون تامّا في الظاهر ، بين المتناقضين ، فى كل من وجهى الصورة .. فعلى أحد وجهيها ، ماء عذب فرات ، وماء ملح أجاج ، وعلى الوجه الآخر .. مؤمنون ، أخيار ،

٤٣

طيبون ، وكافرون ، أشرار ، خبيثون .. لا يعرف أي من هذه الأطراف ، إلا بالمذاق والاختبار ، ولا يبين فضل أىّ منها إلا في موقع العمل والتجربة ..

وعلى هذا ، فإن ما في كيان المؤمنين من إيمان وخير وطيب ، إنما تظهر آثاره في مجال العمل ، وفي موقع التجربة والاحتكاك بالحياة وبالناس .. وكذلك ما عند الكافرين من كفر وشر وخبث ، إنما يعرف حسابه ، ويأخذ الوصف الذي له ، حين يتحول إلى عمل ، واقع في الحياة .. وإلا فالناس جميعا على سواء ، ما لم ينكشف ما بداخلهم من خير أو شر ، ومن إيمان وكفر ، فى صورة سلوك ، وعمل ..! (وَقُلِ اعْمَلُوا .. فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ).

وثانيا : الناس ـ وإن ظهروا في صورة واحدة ـ هم في حقيقتهم ، فريقان : مؤمن وكافر ، ومستقيم ، ومعوج ، ومهتد وضال ، وطيب وخبيث .. سواء اختبروا أم لم يختبروا ، وجرّبوا أم لم يجرّبوا .. هكذا خلقهم الله ، وإن توالد بعضهم من بعض ، كما يتولد الماء العذب ، من الماء الملح .. (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ) (٩٥ : الأنعام) .. (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) (٢ : التغابن).

وفي هذا يقول الرسول الكريم : «النّاس معادن .. خيارهم في الجاهلية ، خيارهم في الإسلام» ..

وثالثا : المؤمنون الأخيار في المجتمع الإنسانى ، وهم مادة الحياة ، وهم الروح الذي يسرى في شرايين كل ما هو نافع ، وصالح ، لإثبات شجرة الحياة ، وإروائها ، وإزهارها ، وإثمارها ، ولو افتقدتهم هذه الأرض ، لما كان للحياة أثر فيها ـ إنهم الماء العذب ، الذي هو حياة الأحياء ، من نبات ، وجماد ،

٤٤

وإنسان .. (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ) (٣٠ : الأنبياء) .. وفي هذا يقول بعض العارفين : «الماء العذب ، ما وقع منه على الأرض أنبت البرّ ، وما وقع فى البحر ولد الدرّ» أي اللؤلؤ والمرجان ..

ورابعا : المؤمنون الأخيار ، فى المجتمع الإنسانى ، هم قلّة ـ فى كل زمان ومكان ـ بالإضافة إلى الضالين ، والأشرار .. وتكاد نسبتهم تعدل نسبة الماء العذب ، إلى الماء الملح ..

وفي هذا يقول الحقّ تبارك وتعالى : (وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) (١٠٣: يوسف) ويقول سبحانه : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠ : آل عمران).

ويقول : (وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) (٨ : الروم) ويقول : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ) (٢٤ : ص).

وخامسا : ليس في الناس من هو شر خالص ، أو خير محض .. ففى الأشرار الماء ما في الملح ، من عناصر الماء العذب .. بل إن من هذا الماء الملح ، ما يرقّ ويصفو ، ويتحول إلى بخار ، وسحاب ، ثم ينزل على الأرض ماء عذبا فراتا .. وفي الأخيار ما في الماء العذب الفرات من قابلية للاختلاط بما يفسده وبغير طبيعته وهو يسلك مسالكه في الأرض .. فتارة يسلك مجرى طيّبا. فيكدر ، ثم يصفو .. وتارة يقع في مستنقع ، فيركد ، ثم يتعفن .. وهكذا ..

قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً).

هو مضمون من مضامين هذا المثل ، الذي ضربه الله سبحانه وتعالى فى

٤٥

الآية السابقة ، للمؤمنين والكافرين ، فيما بين الماء العذب ، والماء الملح ، من تشابه ، وتضادّ في آن واحد ..

فالماء العذب. والماء الملح .. هما ماء واحد .. وهما في الوقت نفسه ماءان .. فالصلة بينهما قريبة ، وبعيدة معا ..!!

والناس ، مؤمنون ، وكافرون .. من أصل واحد .. هم أبناء هذا الماء ..

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (فَجَعَلَهُ نَسَباً) .. أي فجعل هذا الماء هو صلة القرابة القريبة ، التي تجمع الإنسان إلى الإنسان ، كما تجمع الأخ إلى أخيه ..

والناس ، مؤمنون وكافرون .. هم صنفان ، وكان من الممكن ، أن يفرّق بينهما هذا الاختلاف ، ولكن ما بينهما من نسب قريب ، يمنع هذه الفرقة ، ويرفع هذا الاختلاف ..

ومن هنا ، فإنه إذا كان لكلّ من المؤمنين والكافرين ذاتيته ، وطريقه فى الحياة ، فإن ما بينهما من تلاق في الأصل يجعل طريقيهما كالخطّين المتقابلين ، يلتقيان ، عند نقطة هندسية ، أشبه بهذا اللقاء بين الماء العذب والماء الملح ، وليس كالخطين المتوازيين اللذين لا يلتقيان أبدا .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : (وَصِهْراً)!

فالصهر : أهل بيت المرأة بالنسبة لزوجها .. وأصهر إلى فلان : أي تزوج ابنته أو أخته ..

وفي قوله تعالى : (وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً) ـ إشارة إلى قدرة الله سبحانه وتعالى ، فى الجمع ، بين المختلفين ، والتفرقة بين المتشابهين في حال معا.!

٤٦

قوله تعالى :

(وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) ..

الضمير في قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ) يعود إلى الكافرين ، الذين ذكرهم الله سبحانه في قوله : (فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً) .. فهؤلاء الكافرون ، لا يستمعون إلى هذا القرآن ، ولا ينتفعون بما يضرب لهم من أمثال ، وما يكشف لهم من جلال الله وقدرته .. وإذا هم على ما هم عليه من ضلال الجاهلية وشركها ، لم ينكشف لعقولهم من هذا النور السماوي ، ما هم فيه من عمى وضلال .. وهاهم أولاء ـ كما عهدتهم الحياة من قبل ـ عاكفون على عبادة هذه الدّمى وتلك الأحجار ، التي لا تنفع ولا تضرّ ، إذا دعاها عابدها لجلب خير ، أو دفع ضرّ ..

وقوله تعالى : (وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً) إشارة إلى جناية من يكفر بربّه ويعبد إلها غيره. إنه يحارب خالقه ، إذ يكون حربا على أولياء الله ، من الرسل ، وأتباع الرسل سواء أكان ذلك باتباع سبيل غير المؤمنين ، أم كان بالوقوف في وجه المؤمنين ، وإعلان الحرب سافرة عليهم ..

وهو بهذا يظاهر أعداء الله على أوليائه ، وفي هذا حرب لله ، ومظاهرة لأعدائه المحاربين له ، على حربه.

فالظهير ، هو المعين الذي يسند ظهر غيره .. والكافر بكفره ، وبانتظامه فى صفوف الكافرين المحاربين لله ، هو يظاهر على الله ، ولا يظاهر لله .. وذلك كما يقول سبحانه : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) (١٧ : القصص).

قوله تعالى :

(وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً).

٤٧

هو عزاء للنبيّ الكريم ، لما يلقى في تبليغ رسالته من عنت هؤلاء المشركين ، وضلالهم ، وما يسوءه من خلافهم عليه ، وهم في هذا الضلال الذي لن يسلمهم إلا إلى الهلاك والبوار ..

وما ذا يفعل الرسول أكثر ممّا فعل مع هؤلاء المعاندين الضالّين .. إنه لا يملك بين يديه قوة تحركهم على أن يركبوا سفينة النجاة معه ، وإن كلّ ما يملكه هو كلمات الله ، يبشر بها المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا ، وينذر الضالين المكذّبين بأن لهم عذابا أليما .. (فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) (٢١ ـ ٢٢ : الغاشية).

قوله تعالى :

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً).

أي أن الرسول الذي يحمل عبء هذه الرسالة ، ويحتمل الأذى في سبيلها من الضالين والمعاندين ، والسفهاء ـ لا يطلب لذلك أجرا على هذا الجهد المضنى الذي يبذله ، كما يطلب الناس أجرا لكل عمل يعملونه .. إنه يؤدى رسالة الله خالصة لوجه الله سبحانه وتعالى ، وهو الذي يتولى جزاءه ، وحسن مثوبته.

وقوله تعالى : (مِنْ أَجْرٍ) .. من هنا لاستغراق النّفى ، للشىء الذي وقع عليه الفعل ، وهو الأجر .. وهذا يعنى أنه لا يسأل على هذا العمل الذي يقدمه لهم أي أجر ، وإن قلّ سواء أكان أجرا ماديا من مال ومتاع ، أم أجرا معنويا ، من جاه وسلطان ..

وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) ..

إلا هنا أداة استثناء عاملة ، وما بعدها مستثنى من عموم النفي الواقع على كلمة أجر ..

٤٨

والتقدير : لا أسألكم أجرا على ما أقدم لكم من خير ، إلا أجر من شاء أن يتخذ إلى ربّه سبيلا ، بالإنفاق في سبيل الله ، والإحسان إلى الفقراء والمساكين ، والضعفاء .. فذلك هو الأجر الذي أناله منكم ، فهو وإن لم يكن لى ، فإنى أحتسبه لى ، لأن ما يقدّم لله ، وما يؤدّى لعباد الله ، هو لى .. وما ينفق فى سبيل الله ، هو كأنما ينفق في سبيلى .. إذ ليس لى سبيل إلا سبيل الله .. وهذا مثل قوله تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) (٢٣ : الشورى) فالإحسان إلى ذوى القربى ، كالوالدين ، والإخوة والأعمام والعمات ونحوهم ـ هو إحسان إلى النبيّ ، وتحقيق لدعوة الخير التي يدعو إليها .. والله سبحانه وتعالى يقول : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) (٢٣ : الإسراء) ..

فالإحسان إلى الوالدين ، هو من تمام الإيمان بالله ، وكأن ذلك الإحسان هو إحسان إلى النبيّ ، وهو الأجر الذي يناله من المؤمنين ، الذين هداهم الله إلى الإيمان على يديه ..

قوله تعالى :

(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً).

هو معطوف على قوله تعالى : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ) ـ أي : قل لهم هذا القول ، ودعهم وما يشاءون ، متوكلا على الحيّ الذي لا يموت .. أما كلّ حيّ سواه ، ففى كيانه معاول هدمه وفنائه : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) (٨٨ : القصص) .. وسبّح بحمد ربك ، منزّها له عن الشريك والولد ، حامدا له أن هداك إلى الإيمان ، وأن جعلك السّراج المنير الذي يهتدى به الضالون ، ويسير على سنا ضوئه المؤمنون ..

٤٩

ـ وقوله تعالى : (وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً) .. هو تهديد للكافرين والضالين ، وما يقترفون من آثام ، وأن الله سبحانه وتعالى عليم بما يعملون ، خبير .. لا يختلط عليه المحسنون بالمسيئين ..

قوله تعالى :

(الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً).

هو من صفات الله سبحانه وتعالى ، الذي دعى النبيّ إلى التوكّل عليه ، وتفويض أمره إليه .. فهو سبحانه ، حيّ لا يموت ، خلق السموات والأرض ، وما بينهما من عوالم ، فى ستة أيام ..

وقد قلنا من قبل ، إن هذه الأيام الستة ، هى الظرف الحاوي ، الذي تمّ فيه ميلاد المخلوقات ، جميعها ، أي الوجود كله ، فى أرضه وسماواته ، وما في أرضه وسماواته .. وليس هذا الزّمن مرتبطا بقدرة الله سبحانه وتعالى في خلق المخلوقات .. ولو شاء ـ سبحانه ـ لخلق العالم كله في لحظة واحدة : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٨٢ : يس).

ـ وقوله تعالى : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ).

الاستواء على العرش ، هو القيام على هذا الوجود ، والاستيلاء على مركز القوة والسلطان فيه. فلا تخرج ذرّة من ذرات هذا الوجود عن سلطان الله ، وعن علم الله : (وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) (٥٩ : الأنعام).

وقوله تعالى : (الرَّحْمنُ) هو فاعل الفعل (اسْتَوى) .. وهو يعنى أن صاحب السلطان القائم على هذا الوجود هو (الرَّحْمنُ) الذي أفاض رحمته

٥٠

على الوجود .. فبالرحمة أقام الوجود وأوجده ، وبالرحمة ملك أمر الموجودات ، ودبّر شئونها ، وقدّر مقام كل موجود بين الموجودات.

ـ وقوله تعالى : (فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً) الأمر هنا إلى كل إنسان غابت عنه هذه الحقيقة ، وهي رحمانية الرحمن ، القائم على هذا الوجود .. فمن غابت عنه هذه الحقيقة ، ولم يدرك آثارها في هذا الوجود ، وفي كل موجود .. فليسأل أهل العلم والخبرة ، الذين يقدرون الله حق قدره ، ويعرفون مواقع رحمته في خلقه .. والله سبحانه وتعالى يقول : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٧ : الأنبياء).

____________________________________

الآيات : (٦٠ ـ ٧٧)

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً(٦٠) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (٦١) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (٦٢) وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (٦٤) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (٦٥) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٦٦) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً(٦٧) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (٦٨) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (٦٩) إِلاَّ مَنْ تابَ

٥١

وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (٧٢) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (٧٣) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (٧٤) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (٧٥) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (٧٦) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً)(٧٧)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً) ..

مناسبة هذه الآية لما قبلها ، هى أن الله سبحانه وتعالى ، قد ذكر في الآية السابقة عليها ، أنه ـ جل شأنه ـ هو الذي خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ، وأنه استوى على العرش ، برحمانيته ، ثم دعا ـ سبحانه ـ من غابت عنه هذه الحقيقة من رحمانية الرحمن ، أن يسأل أهل العلم والخبرة في هذا المقام .. فناسب ذلك أن يدعو إليه ـ سبحانه ـ الضالين ، باسم «الرحمن» الذي له في كل مخلوق أثره ، وله في كل حيّ نفحة من رحمته .. وبهذا يظهر ما عندهم من علم بالرحمن ، سواء أكان هذا العلم مما أدركوه بعقولهم ، وعرفوه بنظرهم ، أو أخذوه عن أهل العلم والخبرة ..

٥٢

وقد كشف هذا الامتحان ، عن جمود هؤلاء الضالين على ضلالهم ، وأنهم لم يهتدوا إلى هذه الحقيقة بأنفسهم ، ولم يسألوا عنها أهل الذكر .. وأنهم إذا قيل لهم : (اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ) وآمنوا به ، واجعلوا ولاءكم له ـ أنكروا هذا الاسم ، ولم يعرفوا مدلوله ومسماه الذي يسمى به ، فقالوا منكرين : (وَمَا الرَّحْمنُ)؟ فيا لخسران القوم ، ويا لتطاولهم على الله!! إن الرحمن هو الذي رحمهم برحمته ، فلم يأخذهم بعاجل عذابه ، وهم ينكرونه إنكار المستخفّ المستهزئ .. وكلمة منه ـ سبحانه ـ تمسخهم قردة وخنازير ، أو تسلبهم السمع والبصر والكلام ، فيعيشون صمّا ، عميا ، بكما ، بين الأحياء!! فما أوسع رحمة الرحمن ، التي يعيش في ظلها أعداء الرحمن ، المحاربون له ، المستكبرون عن عبادته ..

ـ وفي قوله تعالى : (أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا؟) بيان لجريمة أخرى من جرائم هؤلاء المجرمين .. إنهم لن يسجدوا للرحمن ، لأنهم لا يعرفونه ، وإنهم لو عرفوه لا يسجدون له ، لأن الذي يدعوهم إليه بشر مثلهم ، ورجل منهم!! إنه الكبر والعناد ، إلى جانب الجهل والضلال ..

وقوله تعالى : (وَزادَهُمْ نُفُوراً) أي زادهم هذا الطلب الموجّه إليهم من النبي نفورا إلى نفورهم ، فهم نفروا أولا ، لأنهم لا يعرفون الرحمن ، وهم نفروا ثانيا ، لأن الذي يدعوهم إليه إنسان ، من الناس ، وليس ملكا من الملائكة ، كما كانوا يقترحون!

قوله تعالى :

(تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً).

هو عرض لبعض آثار رحمة الرحمن في خلقه ، وأنه سبحانه ، (جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) .. أفليس ذلك من آثار

٥٣

رحمة الله؟ وكيف كانت تكون الحياة على هذه الأرض ، ولا شمس ولا قمر؟

وقوله تعالى : (تَبارَكَ) أي تمجد ، وتقدّس ، وكثرت آلاؤه ونعمه .. فهو ـ سبحانه ـ يمجّد ذاته ، وإن لم يمجده الضالون المجرمون من خلقه وهو سبحانه جدير بأن يحمد ويمجّد من عباده الذين أسبغ عليهم نعمه ظاهرة ، وباطنة والبروج : هى مدارات الكواكب ، ومنازلها ..

والسراج : هى الشمس ..

والقمر المنير : هو القمر ، الذي يستمد نوره من الشمس .. وقد وصف بأنه منير ، ولم يوصف بأنه مضىء ، لأن النور خلاف الضوء .. فالنور لا حرارة فيه ، على خلاف الضوء ، والنور ليس ذاتيا ، وإنما هو متولد من وقوع الضوء على الأجسام .. وقد أشرنا إلى ذلك في سورة يونس ، عند تفسير قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (الآية : ٥).

قوله تعالى :

(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً).

ومن آثار رحمة الله ، أنه جعل الزمن على هذه الأرض خلفة بين الليل والنهار ، حيث يخلف أحدهما الآخر ، ويحلّ محلّه ..

وفي هذا آية لمن أراد أن يتذكر ، ويتعظ ، إذا لم يكن قد وجد في آيات الله المبثوثة في الكون طريقا إلى التذكر والاعتبار ، أما من وجد التذكر والاعتبار في غير هذه الآية ، فإنها تزيده تذكرا واعتبارا ، كما تزيده شكرا وحمدا ، لآلاء الله. ونعمائه ..

٥٤

قوله تعالى :

(وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) تعرض هذه الآية والآيات التي بعدها ، الصفات الكريمة التي يتصف بها أولئك الذين استحقوا أن يضافوا إلى الله سبحانه ، وأن يحسبوا في عباده ، أما غيرهم ممن لا يتحلّون بهذه الصفات ، فإنهم ليسوا أهلا لهذا المقام ولا موضعا لهذا الشرف العظيم .. وأن هؤلاء الذين قيل لهم اسجدوا للرحمن فأنكروا هذا ، وقالوا : وما الرحمن؟ ـ هؤلاء ليسوا من عباد الرحمن ، ولن يكونوا من عباده ، ما داموا على حالهم تلك ..

[عباد الرحمن .. من هم؟]

أما عباد الرحمن الذين يستحقون هذا الشرف العظيم ، فهم هؤلاء الذين جاءت تلك الآيات ، تكشف عن صفاتهم التي يتحّلون بها ، والتي تؤهلهم لهذا المقام الكريم ..

وهذه الصفات التي يتحلّى بها عباد الرحمن ، هى أنهم :

ـ (يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً .. وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً). والمشي الهيّن على الأرض ، هو دليل على التواضع ، ولين الجانب ، وسماحة الخلق .. بخلاف المشي الذي يضرب وجه الأرض ، تيها وفخرا ، وقد نهى الله تعالى عنه في قوله : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً .. إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً) (٣٧ : الإسراء).

ـ (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) .. أي أن عباد الرحمن لا يلقون فحش القول وهجره ، بفحش ، وهجر مثله .. فإذا رماهم السفهاء بالكلمة الخبيثة أعرضوا عنهم ، وقالوا : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) (٥٥ : القصص).

وليس هذا المشي الهيّن ، أو الإمساك عن الفحش من القول ، هو عن

٥٥

ضعف وذلّة ، وإنما هو عن قوة نفس ، ومتانة خلق ، وكرم طبيعة .. وكلّ إناء ينضح بما فيه .. وكل شجرة لا تعطى إلا من ثمرها .. فالشجرة الطيبة. تعطى ثمرا طيبا ، والشجرة الخبيثة لا تعطى إلا ثمرا خبيثا ..

ـ (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً).

أي ومن صفات عباد الرحمن أن قلوبهم لا تخلو من ذكر الله أبدا ، وأنهم يقضون نهارهم في كفاح وعمل ، فإذا جهّم الليل أقبلوا على ربّهم بالعبادة والذكر ، راكعين ساجدين .. والليل هو أنسب الأوقات للعبادة ، ومناجاة الله سبحانه وتعالى ، حيث تسكن النفوس ، وتجتمع الخواطر ، وتهدأ القلوب ، فيجد الإنسان منطلقه في عالم الروح ، وقد انزاحت من طريقه السدود التي يقيمها ضجيج الحياة ، ولغط الأحياء أثناء النهار .. وقد نوه القرآن الكريم في أكثر من موضع بشأن العبادة في أوقات الليل ، وما للعابدين عند الله في تلك الأوقات ، من رضا ورضوان ، فيقول سبحانه للنبى الكريم. (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً* وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٨ ـ ٧٩ : الإسراء). ويقول له سبحانه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً. إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً. إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً). (١ ـ ٦ : المزمل) ويقول سبحانه في وصف المتقين من عباده ، وما أعدّ لهم من جزاء عظيم : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (١٥ ـ ١٨ : الذاريات).

وفي قوله تعالى : (لِرَبِّهِمْ) ـ إشارة إلى أنهم يقصرون عملهم كله بالليل

٥٦

على ذكر الله ، لا يذكرون إلا الله جلّ وعلا ، لا يشغلهم شىء عن ذكره .. فاللام هنا للاختصاص.

ـ (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي أن عباد الرحمن هؤلاء ، إنما يعبدون ربّهم ، وهم من عذاب ربّهم مشفقون .. إن عذاب ربّهم غير مأمون .. فهم مع طمع ورجاء في رحمته ، وخشية وخوف من بأسه وعقابه .. هكذا حال المؤمنين بالله ، لا يأس من روح الله ، ولا أمن من بأسه وعذابه ..

وقوله تعالى : (إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً) أي أنها ـ نعوذ بالله منها ـ لا يلقى أهلها إلا السوء والوبال ، فهى أشأم وأسوأ مكان .. فكيف إذا كان هذا المكان مستقرا ومقاما لا يتحول عنه أهله؟ إن أهله أشقى خلق الله ، وأنكدهم حظّا ، وأشأمهم مصيرا ..

ـ (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً).

وهذه صفة أخرى من صفات عباد الرحمن .. إنهم يلزمون الطريق الوسط فى حياتهم ، وفي كل شان من شئونهم ، فلا إفراط ، ولا تفريط ، فإن خير الأمور أوساطها .. وأكثر ما يتجلّى هذا المبدأ في إنفاق المال ، حيث هو عملية مستمرة ، يقوم بها الإنسان مرات كل يوم ، سواء أكان غنيا أم فقيرا .. كلّ ينفق حسب ما معه من مال ..

والإسراف ، هو مجاوزة الحدّ في زيادة المطلوب في النفقة

والتقتير ، هو الإمساك دون الحدّ المطلوب ..

وقوله تعالى : (وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) أي وكان إنفاقهم وسطا ، وقواما ، بين الإسراف ، والتقتير ..

ـ (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ ،

٥٧

إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ .. وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً).

ومن صفات عباد الرحمن أيضا ، أنهم لا يشركون بالله شيئا ، ولا يدعون معه إلها آخر ، بل عبادتهم خالصة لله ، ودعاؤهم متجه إليه وحده .. وأنهم لا يقتلون النفس التي حرّم الله إلا قصاصا ، وأنهم يحصنون فروجهم فلا يأتون الفاحشة .. فإن من يفعل شيئا من هذه الكبائر ، لن يكون في عباد الله هؤلاء للكرمين ، بل إنه سينزل منازل المجرمين ، أصحاب النار ..

وقوله تعالى : (يَلْقَ أَثاماً) أي أن من يفعل هذه الآثام يلق أثاما مثلها ، فهذه الآثام منكرات ، والعذاب الذي يساق إلى فاعلها ، ويلقاه ، هو عذاب منكر شديد ..

وقوله تعالى : (يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) بيان لما يلقى مرتكبو هذه المنكرات الغليظة من العذاب ، والهوان يوم القيامة .. فهم أكثر الناس عذابا يومئذ ، لأن جرائمهم الثلاث تلك ، من أعظم الجرائم .. وهي الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، والزنا .. فإذا عذب غيرهم من المعذبين بألوان من العذاب ، فإن ما يلقاه هؤلاء ، أضعاف ما يلقاه المعذبون من أهل النار غيرهم ..

وقوله تعالى : (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً) الخلد والخلود ، هو اللصوق بالأرض في ذلة ومهانة .. والضمير فى (فِيهِ) يعود إلى العذاب الذي لا يخرج منه ، بل يعيش فيه ، مستكينا ، ضارعا ، ذليلا ، مهينا ..

وقوله تعالى :

(إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ ، وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً).

٥٨

ـ هو استثناء من عموم الضمير الواقع فاعلا في قوله تعالى : (يَلْقَ أَثاماً) أي ويستثنى من الوقوع في هذا العذاب ، من تاب من هؤلاء المرتكبين لتلك الآثام من آثامه ، ورجع إلى الله ، مؤمنا به غير مشرك ، مستقيما على ما أمر به ، من عدل وإحسان .. فلا يقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا يزنى .. فمن اجتنب هذه الكبائر ، فإنه لن يلقى هذا المصير ، بل يخرج من زمرة هؤلاء المجرمين ، ويأخذ طريقه مع عباد الله المكرمين ..

وقوله تعالى : (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) ـ إشارة إلى أن هؤلاء التائبين الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، قد قبلهم الله في عباده ، وأنه سيبدل سيئاتهم تلك حسنات ، فإنه سبحانه كريم بعفو عن طالبى عفوه ومغفرته ، رحيم بعباده ، يرحم ضعفهم ، وما غلبتهم عليه أهواؤهم ، إذا هم رجعوا إليه تائبين ، مؤمنين ، مصلحين ـ ما أفسدوا .. والله سبحانه وتعالى يقول : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (١١٤ : هود) ولهذا قدم سبحانه التوبة –

فقال سبحانه : (إِلَّا مَنْ تابَ) أي عقد النية ، وعزم على التوبة ، ثم أتبعها بقوله تعالى : (وَآمَنَ) أي وقرن النية بالتوبة بالإيمان بالله ، وبكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، فإن التوبة من غير إيمان بالله ، لا متوجّه إليها ، ولا محصل لها ..

ثم جاء قوله تعالى : (وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً) شرطا ثالثا لقبول التوبة ، وتصحيح الإيمان ، وهو العمل الصالح .. فالإيمان بلا عمل ، زرع بلا ثمر ..

وقوله تعالى : (وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) .. لم يجىء هنا ذكر للإيمان مع التوبة ، لأنه ذكر في الآية السابقة ، ولأن التوبة لا تكون إلا من مؤمن .. وذكر الإيمان في الآية السابقة للإلفات إليه ، والتنويه

٥٩

به ، وبأنه لا تقبل توبة إلا إذا زكاها الإيمان بالله ..

وقوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً) ـ أي يتوب توبة ، فمتابا توكيد ، وفي هذا إشارة إلى أن الذين ارتكبوا هذه المنكرات ، قد بعدوا عن الله ، وشردوا عن الطريق إليه ، وأنهم حين عدلوا عن طريقهم ، وأخذوا الطريق إلى الله ـ قد رجعوا إلى الله رجوعا حقّا ، وأصبحوا في عباده المؤمنين المكرمين ، غير منظور إلى شىء من حياتهم الماضية ، التي كانوا عليها قبل أن يتوبوا .. إنهم بعد التوبة والعمل الصالح ، قد ولدوا ميلادا جديدا ، ذهب به كل ما كان عليهم من أدران وأوزار .. فتوبتهم حينئذ توبة مثمرة ثمرا طيبا ، لأنها أثمرت هذه الأعمال الصالحة التي أتوا بها بعد توبتهم تلك ..

ـ (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) ..

وصفة أخرى من صفات عباد الرحمن ..

إنهم لا يشهدون الزور ، أي لا يحضرون مجالس الفحش ، والهجر ، ولا يستمعون لمقالات الكذب والبهتان .. وإنهم إذا وقع لهم في طريقهم مشهد من مشاهد العبث واللهو ، لم يقفوا عنده ، ولم يلقوا بآذانهم ، أو أبصارهم إليه ، بل مرّوا به وهم كرام مترفعون بإيمانهم ، وبمروءاتهم ، عن أن يشاركوا في هذا الباطل من قريب أو بعيد!

ـ (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) ..

وصفة سادسة من صفات عباد الرحمن ، وهي أنهم يحيون مع آيات الله حياة عاقلة واعية ، ويعايشونها معايشة ودودا طيبة .. فإذا قرءوا ، وسمعوا آيات الله تتلى عليهم ، أعطوها عقولهم وقلوبهم ، وفقهوا ما تتسع له عقولهم وقلوبهم من نورها ، وهديها .. وهذا غير ما يلقى به الغافلون والجاهلون آيات الله ، حيث يخرون بين

٦٠