التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ)(٢١)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ .. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ).

هنا تنقلنا الآيات نقلة بعيدة ، بين موسى وقد احتواه صدر أمه مرة أخرى بعد أن ضمّ إلى بيت فرعون ، وبين موسى وقد أصبح رجلا مكتمل الرجولة ، يأخذ مكانه بين الرجال ..

وقد تركتنا الآيات السابقة مع وعد من الله سبحانه وتعالى ، قد حققه لموسى ، بعد أن بلغ أشدّه واستوى .. ولكن الإخبار بتحقيق هذا الوعد ، كان أشبه بختام القصة ، وإذا بنا هنا نجده خيطا مشدودا من خيوط هذه القصة ، قد طويت له الأحداث ليبرز في هذا الموقف الذي رأينا فيه موسى ، الطفل ، وقد عاد إلى أمه بعد أن ألقت به في اليمّ ، ولكنّا لا نراه يعود إليها وحده ، وإنما يعود ملففا برداء هذا الوعد الكريم ، الذي وعدت به أمه من الله سبحانه وتعالى ، فى قوله جل شأنه : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) .. وها هو ذا يعود إلى أمه وهو يحمل في كيانه ، الحكم والعلم ..

قلنا إن أحداثا كثيرة طويت ، منذ التقى الطفل بأمه إلى أن رأيناه هنا يدخل المدينة ، ثم يدخل في صراع ينتهى بقتل إنسان!

٣٢١

وما أغرب تصاريف القدر .. ينجو موسى من القتل .. ثم ها هو ذا يمد يده بالقتل!

ومن يدرى؟ فلعل هذا القتيل كان هو الذي انتشل موسى من اليم!!

قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) .. اختلف المفسرون في هذه المدينة ، ما هي بين مدن مصر القديمة؟ على أن هذا الخلاف لا يعنينا ، وحسبنا أنها مدينة فرعونية ، وفي تعريفها ، إشارة إلى أنها مدينة المدن ، أي العاصمة ..

أما كيف دخلها موسى .. وهل كان خارجها حتى يدخلها؟ وإذن فأين كان؟ هل كان قد ترك فرعون ، وعاش بعيدا عن عاصمة ملكه؟ قد يكون! كما قد يحتمل أن فرعون كان يعيش في قصره ، بعيدا عن المدينة ، منعزلا به عن عامة الناس!

وعلى أيّ فإن «موسى» قد دخل المدينة دخول من كان بعيدا عنها فترة من الزمن ..

وهنا سؤال : لما ذا يدخل موسى المدينة في غفلة من أهلها؟ هل كان هناك ما يحول بينه وبين دخولها؟ وهل كان مطلوبا لفرعون أو غيره لجناية جناها؟ يذهب المفسرون في هذا مذاهب شتى ، ويلقون بكل ما يمكن أن يفترضه العقل في طلب علة لهذا الدخول المتخفى ، تحت غفلة الأعين عنه ..

والرأى عندنا ـ والله أعلم ـ أن المراد بغفلة أهل المدينة ، هو غفلتهم عن موسى ، وعن أنه الابن المتبنى لفرعون .. ولعله كان متخفيا ليدارى صفته تلك ، حتى لا يلفت إليه الأنظار ، التي تتعلق دائما ، بالسلطان ، وبحاشية السلطان!

٣٢٢

وفي أثناء سير موسى في المدينة ، وجد فيها رجلين يقتتلان .. أحدهما إسرائيلى «من شيعته» والآخر مصرى «من عدوه» .. إذ لا شك أن موسى كان يعرف أنه إسرائيلى ، كما لا شك في أنه كان يعرف الإسرائيليين ، بسماتهم وبزيهم الذي فرضه فرعون عليهم ..

وقد استثار موسى هذا المشهد الذي كان بين المصري والإسرائيلى .. فالإسرائيلى كان تحت يد قاهرة ، لعلها كانت يد أحد أصحاب السلطان ، التي تلهبه بالسياط .. ولم يطق موسى صبرا على هذا الذي يراه بعينيه ، من إنسان يضرب إنسانا في غير مبالاة .. فدخل بين الرجلين ، ليدفع عن الإسرائيلى هذه اليد التي تسومه سوء العذاب .. وطبيعى أن يتصدى المصري لموسى ، وأن يعدّ ذلك فضولا منه بالتدخل فيما لا يعنيه .. فكان بين الرجلين ـ موسى والمصري ـ شدّ وجذب ، بل ربما مد المصري يده إلى موسى ، (فَوَكَزَهُ مُوسى) أي دفعه بقبضة يده ـ وهو لا يريد قتله ـ وإذا الرجل يسقط على الأرض ميتا!! ويتحرك موسى سريعا ، ويخلص بنفسه ، دون أن يعرف أحد من جنى هذه الجناية

ويرجع موسى على نفسه ، يلومها أن قتل نفسا يغير نفس ، ويرى أن ما فعله لم يكن إلا عملا ما كان له أن يفعله .. إنه (مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ .. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) .. ولا يجد موسى غير الله ، يبرأ إليه من نفسه ، ويطلب الغفران مما جنت يداه ..

(قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي ، فَغَفَرَ لَهُ .. إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) إنه وإن يكن قتل «خطأ» ، فهو على كل حال ذنب ، وذنب عظيم في حق من هو مرشح للنبوة .. ولكن مغفرة الله فوق كل ذنب وإن عظم ، لمن تاب ، وأخلص التوبة وطلب المغفرة : (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ

٣٢٣

نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللهَ يَجِدِ اللهَ غَفُوراً رَحِيماً) (١١٠ : النساء)

قوله تعالى :

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)

يرى المفسرون أن النعمة التي يشير إليها موسى ، والتي يرتب عليها هذا العهد الذي قطعه على نفسه ، هو قبول توبته ، ومغفرة ذنبه .. وهذا بعيد .. لأن موسى لم يكن قد أوحى إليه بعد .. فمن أين يعلم أن الله قد غفر له؟

ولعل الأولى من هذا ، أن يقال إن النعمة التي يشير إليها موسى ، هى ما وجده في نفسه من هذه القوة الجسدية ، التي استطاع بها أن يقتل رجلا بدفعة يده .. فهو بهذه النعمة التي أنعم الله بها عليه يملك قوة خارقة ، وإنه ينبغى ـ لكى يرعى هذه النعمة ، ويؤدى حق شكرها لله ـ ألا يستخدمها إلا في الخير ، وألا يظاهر بها الأشرار المعتدين ، وهذا ما يشير إليه قوله : (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ)!

هذا ، وفي مجريات الأحداث إلى غايتها التي ستنتهى إليها ، نرى أن قتل المصري هنا ، هو قوة دافعة إلى تلك الغاية ، وأنها ستدفع بموسى للخروج من مصر إلى أرض مدين ، حيث يقضى هناك عشر سنين أو نحوها ، فى كنف نبى كريم من أنبياء الله ، هو شعيبعليه‌السلام ، فتكون تلك السنون إعدادا روحيا له ، حتى يؤهل لحمل الرسالة السماوية التي تنتظره!

قوله تعالى :

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ .. فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ .. قالَ لَهُ مُوسى .. إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ).

٣٢٤

خرج موسى يسير في طرقات المدينة ، يتحسس أخبار الفعلة التي فعلها بالأمس ، ويتسمع حديث الناس عنها ، وعمن فعلها ، وذلك ليستوثق أنه غير مطالب بما حدث .. وتلك غريزة تدفع بمرتكب الجريمة أن يحوم حولها ، كما يقرر ذلك علماء الإجرام .. وإلا فماذا كان يحمل موسى على البقاء في المدينة؟ ألا يخرج منها كما دخل إليها ، دون أن يشعر به أحد؟.

ـ وقوله تعالى : (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) ـ تصوير لما كان يلبس موسى من خوف واضطراب ..

ـ وفي قوله تعالى : (يَتَرَقَّبُ) ـ إشارة إلى أنه كان يتطلع إلى وجوه الناس ، ويستقرىء ما قد تكون تركت عليها الحادثة من آثار!.

ومع هذا الهمّ الذي يعالجه موسى ، تفجؤه الأحداث بما لم يكن يقع فى الحسبان .. لقد رأى الإسرائيلى ، الذي حمله هذا الوزر ، وساقه إلى هذا الموقف ـ رآه في حال كتلك الحال التي رآه عليها بالأمس .. رآه مشتبكا مع مصرى في صراع غير متكافىء .. ثم ما إن رأى الإسرائيلى موسى حتى علا صراخه ، طالبا الغوث والنجدة .. (فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) أي يستغيث به .. وينظر موسى إلى الإسرائيلى بعين المغيظ المحنق ، ويتمثل فيه الشيطان الذي رأى أنه هو الذي أوقعه فيما وقع فيه بالأمس ، وقال عنه : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ) وهنا يلقى الإسرائيلى بقوله : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) .. وهكذا يضع القدر بين يدى موسى صورة مصغرة لما سيكون بينه وبين بني إسرائيل ، تنعكس على مرآة ما كان بينه وبين هذا الإسرائيلى ..

لقد خلّص موسى «الإسرائيلى» من يد القوة الباغية التي كان يئن تحت ضرباتها .. ثم ها هو ذا الإسرائيلى ، يلتحم من جديد في معركة ، ويريد أن يدفع موسى إلى مثل ما دفعه إليه بالأمس ، فيقتل مصريا آخر كما قتل مصريا بالأمس ..

٣٢٥

ثم بعد سنوات سيخلّص موسى بني إسرائيل جميعا من يد فرعون ، ويخلع عنهم ثوب الذّلة والهوان الذي ألبسهم إياه فرعون .. ولكنهم لا يكادون يخرجون من هذا البلاء ، وينسمون أنسام العافية ، حتى يديروا ظهورهم إلى موسى ، وحتى يرجموه بكل ما انطوت عليه نفوسهم من خبث ومكر ، فيرميهم الله سبحانه بالتّيه أربعين سنة في الصحراء ، ويضربهم بالذلة والمسكنة ..

هكذا القوم ، يفسدهم الإحسان ، وتبطرهم النعمة ، فيلدغون اليد التي تطعمهم ، وينفثون سمومهم فيمن يحسن إليهم!

ومن يدرى؟ فلعل الإسرائيلى تبع موسى بالأمس بعد أن تخلّص من المصري القتيل ، وعرف من هو .. ثم ظل يتبع خطاه ، حتى كان صباح اليوم الثاني ، فلما رأى موسى اصطنع اشتباكا بينه وبين أحد المصريين ، وذلك عن نية مبيتة ، وتدبير مقصود ، كما سنرى.

قوله تعالى :

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ .. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ).

لم نجد عند المفسّرين مفهوما لهذه الآية ، نطمئن إليه ، ونجد فيه هذا التجاوب والانسجام بين آيات القرآن الكريم وكلماته ..

والمقولة التي تكاد تلتقى عندها الآراء ، هى أن الإسرائيلى ، حين استصرخ موسى ، ثم سمع من موسى قوله له : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) توقع الشر من موسى .. ثم إن موسى لما اتجه إليهما ، يريد أن يبطش بالمصري ، ظن الإسرائيلى أنه يريد البطش به هو بعد أن رماه بقوله : (إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) ـ وهنا صرخ في وجه موسى : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ؟ ..)

٣٢٦

وهذا قول يمكن أن يقال ، لو أن أحداث القصة كانت تجرى على المستوي البشرى المحدود ، ولكن ـ وكما رأينا ، وما نرى ـ تجرى الأحداث في آفاق عالية ، بعيدة عن المستوي الإنسانى ، تقديرا ، وتدبيرا ..

ونحن بهذا النظر إلى وضع القصة ، فى هذا المستوي العالي ، ننظر إلى أحداثها .. وهنا نرى التلاحم والتجاوب بين مجريات الأحداث ، فلا تخلخل ، ولا تفاوت ولا تصادم ، بين حدث وحدث .. فى اجتماعها ، وافتراقها .. على السواء.

(موسى .. والقتيل الذي قتله)

وهنا نعرض مفهومنا للآية الكريمة ، وهو رأى ننفرد به ، ونسأل الله أن يكون صوابا .. فنقول : رأينا في الآيات السابقة ، أن حدثا عارضا عرض لموسى ، وهو يدخل المدينة متخفيا ، ولا يعرف أحد شخصه .. حيث لقى إسرائيليا ومصريا يقتتلان .. ثم كان أن وكز المصري فقضى عليه .. وهنا ينطلق موسى ناجيا بنفسه .. أما الإسرائيلى فهو بين ثلاثة أمور: إما أن يكون فرّ ، ثم أمسك به ، ليسأل عن هذا القتيل ، الذي كان لا بد أن تصله به صلة ما .. كأن يكون أجيرا عند المصري ، أو عاملا تحت يده ..

وإما أن يكون قد خاف على نفسه أن يعرف ويتهم بالقتل ، فأسرع بالإخبار عن هذا الحدث وبأن مجهولا قبل هذا القتيل.

وإما أن يكون قد سعى متطوعا ، ليدل على من قتل هذا القتيل ..

وعلى أي فقد تبع الإسرائيلى موسى ، وعرف مأواه الذي أوى إليه .. ثم كشف لرجال فرعون عن شخصية القاتل ، وأنه موسى .. وهذه دعوى تحتاج إلى دليل عليها ..

ثم إنه لكى يقوم هذا الدليل ، كان بين الإسرائيلى ، وبين رجال فرعون

٣٢٧

هذا التدبير ، الذي اصطنعت له هذه المعركة بين الإسرائيلى ، وبين مصرى آخر ، على نحو ما وقعت عليه حادثة الأمس .. وذلك ليرى ما يكون من موسى حين يرى هذا المشهد ، أيخف لنجدة الإسرائيلى ، ويعتدى على المصري؟ إنه إن فعل فإن ذلك قرينة قوية على أنه هو الذي فعل فعلة الأمس!

وقد كان .. فما أن خرج موسى من مأواه الذي قضى فيه ليلته ، حتى وجد الإسرائيلى مشتبكا مع مصرى ، وحتى هتف به الإسرائيلى مستصرخا! .. هذا ، وعيون رجال فرعون ترقب من بعيد هذه التمثيلية ، دون أن يدرى موسى ما يدير له .. فإنه لم يستطع أن يسكت على هذا العدوان الذي يسوم به الأقوياء الضعفاء سوء العذاب .. وأنه إذا كان الإسرائيلى رجل سوء ، فإن ذلك لا يسوغ هذا الظلم الواقع تحته ، حتى ليغادى ويصبّح بهذا الضرب المبرح! وإنه إذ يقول للإسرائيلى : «إنك لغوى مبين» يخف لنجدته وخلاصه من يد هذا المستبد به ..!

وهنا يقع الصيد في الشبكة! فيلقى المصري موسى بهذه الجريمة التي كان يبحث لها عن متّهم .. فقال : (يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ .. إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) .. ويفاجأ موسى بهذه التهمة ، ويسقط في يده .. وهنا يخرج جنود فرعون .. وقد كشف الإسرائيلى عن شخصية «موسى» ربيب فرعون ومتبناه .. ويكثر الهرج والمرج .. وتصل الأخبار في سرعة خاطفة إلى بيت فرعون .. ويخفّ من بيت فرعون من يحضر هذا المشهد ، فيعمل بأسلوب سياسى حكيم ، يطفىء به هذه الفتنة ، التي تمس فرعون ، وتحرج موقفه في رعيته ... إن إسرائيليا يقتل مصريا ، هو فوق أنه جريمة قتل ، هو جرم غليظ ، وسابقة تنذر بالخطر .. ولكن هذا الإسرائيلى هو محسوب على فرعون ،

٣٢٨

وفي العدوان عليه حطة بقدر حاشية فرعون ، ورجال فرعون .. إن الأمر في غاية الحرج ، والمخرج منه على أي وجه إن أرضى طرفا أساء إلى الطرف الآخر ..

وإذن فلا بد من معالجته بالحكمة والرفق .. فكان هذا الأسلوب السياسى الحكيم ، الذي خرج من قصر فرعون ، فى صورة هذا الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى .. إنه كبير من كبار رجال القصر ، وقد خلا بموسى ، وأسر إليه ، أنه سيعمل على إطلاق سراحه ، ولكن على أن يفر موسى من مصر ، فلا يقع له أحد على أثر .. حتى إذا طلب للمحاكمة كان في عداد المفقودين .. ولا يعجز رجل القصر عن وسيلة يطلق بها موسى من يد الجند ، دون أن يعلم أحد .. فهذا أمر من اليسير أن يدبره مع الجند ، بعد أن يذهبوا بموسى على أعين الناس ، وهو ـ كما يرون ـ فى يد الجند ، إلى حيث يساق إلى المحاكمة والقصاص ..!

واستمع إلى قوله تعالى ، عن هذا الرجل ، الذي جاء من أقصى المدينة ، وقام بهذا الدور الذي رأيناه يقوم به على مسرح الحدث :

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى .. قالَ يا مُوسى : إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ .. فَاخْرُجْ .. إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ).

وفي هذه الآية تنكشف لنا أمور :

فأولا : أن هذا الرجل جاء من أقصى المدينة .. أي من أطرافها البعيدة .. وهذا يعنى أنه جاء من بيت فرعون ، حيث كان فرعون يقيم في ظاهر المدينة ، منعزلا بقصره عن الرعية ، وهذا يؤيد الرأى الذي ذهبنا إليه في تفسير قوله تعالى : (وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) .. وقلنا إن التعبير عن وجود

٣٢٩

موسى في المدينة بالدخول ، يشير إلى أنه كان يعيش خارجا عنها .. وقلنا إن ذلك كان في قصر فرعون ، الذي كان في أطراف المدينة ، أو ظاهرها ..

وثانيا : أن هذا الرجل جاء «يسعى» أي في عجلة ولهفة ، يستبق الأحداث قبل أن تفلت من يده ، وتتجه اتجاها غير الذي يراد لها أن تتجه إليه ، ثم لا يستطيع التصرف فيها من غير أن تثير دخانا ، أو تؤجج نارا ..

وثالثا : ما أسرّ به الرجل إلى موسى في قوله تعالى : (إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) ، ففى هذا القول ، الذي يملأ قلب موسى خوفا وفزعا ، تهيّأ المطيّة الذلول التي يطير بها موسى ، إلى حيث يختفى من مصر ، دون تمهل أو توقف.

ورابعا : فى قول الرجل لموسى : (فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) تحريض قوى لموسى على الفرار .. وأنه إنما تلقى نصيحة ناصح أمين ، يشفق عليه ، ويود الخلاص له مما تورّط فيه .. إنها كلمة رجل السياسة دائما .. إنه ناصح أبدا لكل من يتحدث إليه ، ولو ألقى به في التهلكة!!

أرأيت كيف يقيم لنا هذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية منطقا سليما ، تستقيم عليه مجريات الأحداث ، وتتشكل منها وحدة متكاملة متجانسة ، فى حركتها إلى الغاية المقدورة لها؟.

تلك هي آيات الله ، وذلك هو بعض ما يرى من وجوه إعجازها المبين.

أما أن يقال إن هذا الرجل الذي جاء يسعى ناصحا لموسى ـ هو مؤمن آل فرعون ، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ) .. فهو قول مردود ، لأن موسى لم يكن قد حمل الرسالة بعد.

٣٣٠

قوله تعالى :

(فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

وهكذا يتم هذا التدبير البارع الحكيم .. ويخرج موسى من مصر هاربا. ولعله كان من تمام التدبير أن يذاع أنه هرب ، وأن جنود الملك يجدّون في طلبه ، وربما يذاع في الناس أنه قتل بيد الجند على حدود مصر ، أو وراء الحدود ..

وعلى أيّ فإن الأمر قد سوّى على هذا الوجه ، دون أن يثير بلبلة في الخواطر ، أو يحرك الألسنة بكلمة تقال في سر أو جهر ، فى الملك أو حاشية الملك.

____________________________________

الآيات : (٢٢ ـ ٢٨)

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧)

٣٣١

قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ)(٢٨)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ).

هنا تنتقل الأحداث نقلة بعيدة ، حيث نرى موسى فى «مدين» وهي على أطراف الجزيرة العربية من جهة الشام ، وتقع على خليج العقبة في مقابل تبوك .. ذلك ، بينما كنا معه منذ لحظة في مصر ، وفي أحشاء عاصفة هو جاء ، لم يكن أحد يقدّر له الخلاص منها ..

وتلقاء مدين ، هو اتجاهها ، حيث كان وجهه مقبلا إليها ..

وفي قوله : (قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) .. ما يشير إلى أن هذا القول كان مقيدا بالوقت الذي أخذ فيه وجهته إلى مدين .. وهذا يعنى أن موسى لم يدع ربه بهدايته سواء السبيل إلا في هذه الحالة .. وكيف يكون هذا ، وموسى ـ وإن لم يكن نبيا بعد ، فإنه كان على دين آبائه ، إبراهيم ، وإسحق ، ويعقوب؟

والجواب ، أن موسى كان على ذكر دائم لربه .. وذكر العبد لربه ليس على صورة واحدة .. فتارة يسبح ربه ، وتارة يحمده ، وتارة يستجير به ، أو يستهديه .. أو يستغفره .. إلى غير ذلك من أحوال الإنسان مع خالقه .. فموسى حين قتل المصري : (قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي) .. وسليمان حين رأى عظمة ملكه ، وعرض له ملك النملة ، قال : (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي

٣٣٢

أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ).

وهنا يجد موسى نفسه على طريق غربة ، موحشة ، لا يدرى إلى أين تسوقه قدماه ، ولا ما يلقاه على طريقه من أحداث. إنه في حيرة من أمره ، بعد أن خرج من مصر ، كما يخرج راكب سفينة غرقت ، فألقت براكبيها في الماء ، وكان أسعدهم حظا من وضع رجله على اليابسة ، ولو كان في مورد الوحوش. إن موسى لم يكن يعرف أن وجهته مدين ، وإنما اتخذ الوجهة التي تؤدى به إليها .. وهنا كان دعاؤه إلى ربه أن يهديه سواء السبيل ، ويقيم خطوه على طريق الأمن ، ويدفع به إلى شاطئ السلامة ..

قوله تعالى :

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ .. قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ..

ماء مدين : هو العين التي يستقى منها أهل مدين ..

الأمة : الجماعة من كل حيّ .. من الإنسان أو الحيوان .. وفي هذا يقول الله تعالى :

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ) (٣٨ : الأنعام) وقد غلب استعمال هذا اللفظ على بنى الإنسان ..

تذودان : أي تسوقان ماشيتهما ، بعيدا عن الماء ، حتى يفرغ الناس ، وتخلو لهما البئر. وأصله من الذود ، وهو الدفع ، والذود ما يذاد من الحيوان أي يدفع .. والخطب : الشأن ، وغلب استعماله للأمر العظيم المكروه.

يصدر الرعاء : أي يرجعون من وردهم .. والورد. ورود الماء ، والصدر. الرجوع بعد الورد .. والرعاء : جمع الراعي.

٣٣٣

وهنا نجد موسى قد بلغ في مسيرته «مدين» التي كان وجهه إليها ـ بقصد أو بغير قصد ـ بعد أن خرج من مصر!

وعلى مقربة من المدينة وجد العين التي يستقى منها أهلها .. وهناك كانت جماعات الرعاة ترد الماء ، وتستقى منه ، وتسقى ماشيتها .. وهذا هو السر في حذف مفعول الفعل «يسقون» ليكون شاملا لكل ما يحتاج إلى سقى من إنسان أو حيوان ..

وعلى الماء ، لفت نظر موسى ، منظر فتاتين ، قد انحازتا بماشيتهما مكانا قصيا عن الماء .. وقد عجب لهذا ، وبدا له أن يسأل الفتاتين : (ما خَطْبُكُما)؟ ولم أنتما هكذا بعيدتين عن الماء؟ ألا تسقيان كما يسقى القوم؟.

وليس الأمر على ما قدّر موسى ، وإن الخطب لأهون من هذا ، فما بين الفتاتين وبين القوم ما يدعو إلى هذه القطيعة البادية لعينيه .. ولكن هكذا كانت الحياة في هذه الجماعة التي يعيش فيها شعيب .. لقد وقفوا من هذا الرجل الصالح ، الذي يحمل إليهم دعوة السماء ، بتوحيد الله ، وبالعدل في الكيل والميزان ـ وقفوا منه موقف الخصومة ، والقطيعة .. فلم يكن لفتاتيه من يمدّ إليهما يدا .. وأبوهما شيخ كبير .. (قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) ألم تقف قريش من النبي ومن رهطه بنى هاشم وبنى المطلب موقفا كهذا؟ لقد عقد القوم فيما بينهم عقدا على مقاطعة بنى هاشم وبنى المطلب ، كما هو معروف في السيرة النبوية ..

قوله تعالى :

(فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ ، فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ).

٣٣٤

وكرجل ذى مروءة ، لم يجد بدا من أن يسقى للفتاتين ، وقد شهدتا منه قوة ، وعفة .. فلم يعلق نظره بهما ، ولم يتبعهما نفسه ، بلى سقى لهما .. ثم تولى إلى الظل ، حيث كان يجلس من قبل .. وهناك رفع وجهه إلى السماء ، يحمد الله أن ساق إليه هذا الرزق الذي وجده فيما أسدى إلى هاتين الفتاتين الضعيفتين من عون ، وإحسان .. وإنه لفقير إلى مثل هذه الأعمال الطيبة ، ليكفر بها ما كان منه من قتل المصري!!

قوله تعالى :

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ .. قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

هنا أمور جزئية ، لم يذكرها القرآن ، لدلالة الحال عليها ، وأنها ، لا بد أن تحدث على صورة ما حسب تصور الذي يتلو آيات الله ، أو يستمع إليها .. وهذا من شأنه أن يوقظ شعور المتتبع لأحداث القصة ، حتى يملأ هذا الفراغ كما يتصوره.

فمثلا ما كان من حديث ابنتي شعيب إلى أبيهما عن هذا الغريب الذي سقى لهما ، وعن حاله التي هو عليها ، وعن القوة التي شهدتاها منه ، وعن المكان الذي أوى إليه .. ثم ما كان من مداورة الرأى حول الصنيع الذي يصنعونه مع هذا الغريب .. وهل يبعثون إليه بطعام أو يدعونه إلى البيت ، ليرى الأب حقيقة ما سمع؟

وعلى أيّ ، فقد انتهى الرأى إلى استدعاء موسى ، وأن يندب لهذا الأمر إحدى الفتاتين ، لا كلتاهما ..

٣٣٥

ـ (فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) أي في خفر ، وحياء ، شأن الحصان العفيفة .. وحسبها أنها ربيبة بيت النبوة.

وانظر في قوله تعالى : (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) .. يا لله ، ويا لروعة كلامه المعجز المبين .. لقد تجسد الحياء ، فكان بساطا ممدودا على طريقها إلى موسى .. إنها لا تمشى على الأرض ، ولكنها تمشى على حياء ، تتعثر فيه قدماها ، وتقصر به خطاها ، ويضطرب له كيانها ..

ـ (قالَتْ : إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) إنها رسول أبيها ، الذي عرف موسى من أمره أنه «شيخ كبير» ولو كان في استطاعته أن يسعى إلى موسى لما بعث بابنته إليه ، ولجاء إليه بنفسه ، يدعوه إلى النزول عنده .. وهو الغريب ، الذي لا مأوى له في هذا البلد ..

والمراد بالأجر هنا ، ليس مجرد الأجر المادي ، وإنما هو جزاء إحسان بإحسان ، ولقاء معروف بمعروف ..

ـ (فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ).

لقد التقى الرجلان .. موسى وشعيب .. وكان بينهما حديث ، أفضى به موسى إلى مضيفه ، وعرف المضيف بهذا الحديث من يكون ضيفه ، ومن اى بلاد جاء ، وما سبب مجيئه .. فلما عرف شعيب ما وقع لموسى من أحداث ، آواه إليه ، وأمّنه ، قائلا : (لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ). فإنك هنا بحيث لا تنالك بد فرعون.

وهنا تظهر الأنثى التي تطلب الرجل الذي تطمع في أن يكون رجلها الذي تحلم به ، وتنتظر الأيام تجئ به ، ليطرق بابها!

(قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)

٣٣٦

إنه ـ والله أعلم ـ ليغلب على الظن ، أنها تلك التي بعث بها أبوها لتدعو هذا الغريب إليه .. وها هو ذا قد جاء .. وربما يرحل غدا أو بعد غد .. فلا تدع الفرصة تفلت من يدها ، وقد رأت بعين الأنثى في موسى ، الرجل الذي هو أهل لها ..

(يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) أي أمسك به عندنا ، ولا تدعه يفلت من يديك ، وذلك بأن تصله بك بعمل .. فهو خير من يعمل لك ، حيث عجزت عن العمل .. (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) .. هكذا تكشف لأبيها عن معدن الرجل الذي يستأجره ، وأنه في الرجال يتزين بأجمل صفتين : القوة ، والأمانة .. وقد رأت قوته فيما كان منه من السقي لهما ، كما رأت أمانته في غض بصره عنها ، وقد جاءته وحدها تدعوه إلى أبيها.

ويستجيب شعيب لهذا الطلب في غير تردد ، ويستشعر بمشاعر الأب ما بنفس ابنته نحو هذا الغريب.

(قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ).

وهكذا يجئ شعيب إلى موسى صريحا واضحا ، كما يجئ إلى ابنته أبا حانيا عاطفا ، لا يري حرجا في أن يتخير لابنته الرجل الذي تتتمناه زوجا لها ، ويردها حياؤها عن أن تعرض نفسها عليه.

وما كان أبرع شعيبا وأحكمه ، وأعدله ، فيما بينه وبين موسى من جهة ، ثم فيما بينه وبين ابنته من جهة أخرى.

إنه لم يشأ أن يفرض على موسى واحدة بعينها من ابنتيه هاتين .. فلموسى

٣٣٧

أن يختار من يشاء منهما .. فلقد رآهما من قبل ، كما رآهما في بيت أبيهما ، وليس من الحكمة ولا من المصلحة أن تفرض عليه واحدة بعينها ، حتى ولو كان لموسى رغبة فيها ، وكان لها رغبة فيه .. إن هذا الفرض من شأنه أن يزعج موسى ، وأن يصدم إرادته ، ويصادر رأيه .. ثم إن موسى سيعيش في بيت شعيب ، فإذا لم يكن قد اختار هو بنفسه من تزوجها ، كان في ذلك تنغيص له ، واضطراب لحياته الزوجية ، ومعادلة وموازنة دائما بين الأختين في كل وقت. الأمر الذي يجعل هواه دائما مع من لم يكن له خيار فيها .. هكذا الإنسان!

ثم إنه بهذا التدبير الحكيم ، قد سوّى الأب في القسمة بين ابنتيه ، فى هذا الذي ساقه الله إليهما ، فى صورة رجل ، هو نادرة في الرجال .. فالأب لا يؤثر بهذا الخير إحدى ابنتيه على الأخرى ، ولو كانت الكبرى .. إنه لو فعل هذا لكان في نفس الأخرى أسى ومرارة .. وليس الشأن كذلك إذا كان الخيار لموسى ، أو كان بالتراضي بين الأختين ، حيث تبدو كل منهما ، وكأنها تؤثر أختها عليها ..

ومن جهة أخرى ، فإنه واضح من قول شعيب : «إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين» أنه لم يفصح عمن يكون له الخيار فيهما .. أهو شعيب أم موسى ..

وهذا أمر ، إن قام على هذا الوجه ، فى هذا الموقف وفي مواجهة البنتين ، فإنه قد ترك البتّ فيه لمجلس خاصّ بين الرجلين ، فإذا انكشف الأمر بعد ذلك عمن وقع عليها الاختيار ـ لم يكن من اليسير لدى البنتين القطع بأن هذا الاختيار ، كان من موسى ، أو من شعيب ، أو منهما معا .. وهكذا تتوزع الصدمة ـ إن كان هناك صدمة ـ التي ربما تصيب من لا يقع عليها الاختيار ، بين هذه الاحتمالات ، فتخفّ وتهون.

٣٣٨

(قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ .. وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ).

وهكذا تتم الصفقة بين النبيين الكريمين ، فيظفر شعيب بالقويّ الأمين الذي يبذل في خدمته كل ما عنده من قوة وأمانة ، ويظفر موسى بابنة هذا النبيّ ، التي كان حسن تدبيرها ، ولمعة ذكائها ، وصدق فراستها ، خير سفارة تجمع بين الرجلين ، وتفتح قلب كل منهما لصاحبه قبل أن يلتقيا.

والاتفاق ، على أن يخدم موسى شعيبا ثمانى سنين في مقابل زواج ابنته .. فإن جعل موسى الثماني عشرا فذلك فضل منه ، وإلا فهى ثمان لا أكثر ..

ولا شك أن هذا تدبير حكيم من شعيب ـ عليه‌السلام ـ ، إذ لم يشأ أن يضع موسى أمام حكم لازم لا خيار له فيه ، بل جعل له أمرين ، يختار أيهما شاء .. وفي هذا المجال الذي تتحرك فيه إرادة الإنسان شىء غير قليل من الرضا النفسي ، حيث يجد المرء لإرادته مكانا في كيان ، ويستشعر لها حضورا فى هذا المقام ، فيقبل على هذا الأمر أو ذاك ، وهو شاعر بأنه حرّ في اختياره ، غير واقع تحت قوة قاهرة ملزمة ..

وهذا عين ما فعله شعيب ، حين أراد أن يزوّج موسى إحدى ابنتيه .. إنه لم يفرض عليه واحدة بعينها ، بل جعل الأمر بينهما ، حتى يفسح المجال للنظر والاختيار ، له ، ولموسى ، ولابنتيه .. أما موسى .. عليه‌السلام .. فلم يكن أقلّ براعة وحكمة من شعيب .. فقد أجاب هذه الإجابة الحكيمة ، التي ترضى شعيبا ، ولا تقيد موسى : (ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) أي هذا الذي قلته أنا موافق عليه ، وهو عقد بينى وبينك .. وهذا فيما يختص بإحدى الابنتين التي سيقع الاختيار عليها .. أما الأجل ، فهو محتمل للأجلين معا

٣٣٩

(أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) .. فهو بالخيار ، بين الثماني سنوات أو العشر ..

والمراد بالعدوان في قوله : (فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ) الحرج .. أي لا حرج عليّ إذا أنا أخذت بالثماني سنوات ، ولم آخذ بالعشر .. ومن ثمّ فلا يكون عليّ عدوان منك.

وطبيعى أن موسى ، قد أخذ بما هو أولى بالمروءة ، والكمال ، فعمل بالأكثر دون الأقل ..

____________________________________

الآيات : (٢٩ ـ ٣٥)

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ(٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً

٣٤٠