التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ١٠

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٣٩

فى هذا تكريم للنبى ، واحتفاء به ، والتفات إليه بعين العناية والرعاية.

قوله تعالى :

(وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ).

هو تهديد للمشركين ، وأنهم لن يفلتوا من يد الله ، ولن يخلصوا من عذابه لما هم فيه من كفر وضلال ، يمتلىء به صدورهم ، وتنطق به ألسنتهم ، وتتشكل منه أعمالهم .. والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون .. فأين يذهبون؟ وفي تكرار الإضافة للنبى إلى ربه وبضمير الخطاب لله لا بضمير الغيبة ـ فى هذا توكيد لهذا التكريم للنبيّ وإيناس له في حضرة ربّه ..

قوله تعالى ،

(وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ)

ذلك هو بعض علم الله ، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .. فما من غائبة تغيب عن علم كل عالم في الأرض أو في السماء ، إلا ويعلمها الله ، لأنها مودعة في كتاب مبين من قبل أن توجد .. كما يقول سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) (٢٢ : الحديد).

قوله تعالى :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

مناسبة هذه الآية لما قبلها وما بعدها من هذه الآيات ، هى أن بنى إسرائيل كانوا في نظر المشركين أصحاب علم ، وأهل كتاب ، وكانوا يسمعون منهم ، ويتلقون عنهم كثيرا من الأخبار .. فلما جاء القرآن الكريم ، وحمل

٢٨١

إليهم كثيرا من أخبار الأولين ، وعرض عليهم صورا من الحياة الآخرة. والحساب ، والجنة والنار ، ورأوا فيما سمعوا من آيات الله كثيرا من وجوه الاختلاف مع ما كانوا قد سمعوه من اليهود ـ لمّا كان هذا ، وقع في نفوس المشركين أن النبيّ إنما يأخذ من تلك الأخبار التي عند اليهود ، وينقلها نقلا مضطربا ، يخالف فيه الأصل الذي أخذ منه ، ولهذا جاء قوله تعالى : (وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ثم جاء قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) ليلفت هؤلاء المشركين إلى علوّ هذا القرآن ، وإلى أنه هو الذي يصحح لبني إسرائيل ما أحدثوا في الكتاب الذي بين أيديهم ، من تحريف وتبديل ، حتى وقع بينهم هذا الاضطراب والاختلاف ، لأنه من علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ..

هذا ، ولم يكن القرآن الكريم قد اتّجه إلى أهل الكتاب بعد ، فى هذا الدور من الرسالة الإسلامية ، ولم يكن لقى اليهود لقاء مباشرا .. فكانت هذه الآية إشارة إلى أن القرآن لم يجىء للمشركين وحدهم ، وإنما جاء كذلك إلى أهل الكتاب ، ليصحح ما دخل على هؤلاء وهؤلاء من أباطيل ، أفسدت العقيدة ، وغيّرت معالم الحق فيها .. وأكثر ما اختلف فيه بنو إسرائيل مقولاتهم في المسيح ، وأنه ابن زنا ، وأنه ابن يوسف النجار ، وأنهم صلبوه .. فجاء القرآن الكريم يقرر أن المسيح عبد الله ورسوله ، وأنه نفخة من روح الحق ، وأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ..

ومما اختلف فيه اليهود والنصارى قولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) فجاء القرآن يكذب هذا الادعاء.

فقال تعالى لنبيه : (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ) (١٨ : المائدة)

٢٨٢

ومن ذلك أيضا قولهم في الأطعمة التي حرمها الله عليهم ، نكالا بهم ، وإصرا عليهم ، وادعاؤهم أن هذه الأطعمة إنما حرمت على آبائهم الأولين ، قبل أن تنزل التوراة ، وأنها شريعة ، وليست عقوبة .. وقد كذبهم القرآن فى هذا ، فقال تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ .. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ* فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللهُ .. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٣ ـ ٩٥ : آل عمران).

ففى قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ـ هو دعوة إلى اليهود أن يخرجوا .. هذا الإصر المضروب عليهم ، وذلك بأن يدينوا بالإسلام الذي هو ملة إبراهيم ، وبغير هذا فيكون ما حرم عليهم من طعام ، هو نكال بهم ، لا يرفع عنهم أبدا ..

والطعام الذي حرمه الله على اليهود خاصة ، عقابا لهم ، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (١٤٦ ـ ١٤٧ : الأنعام).

ومن ذلك افتراؤهم على الله ، بأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات ، وأنهم مهما فعلوا من منكرات وآثام ، فلن يمسهم من عذاب الله إلا هذا العذاب الهين ، الذي لا يتجاوز مداه أياما معدودات ، فكذبهم الله بقوله : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً

٢٨٣

فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ ، فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (٨٠ ـ ٨١ : البقرة).

وهكذا جاء القرآن يقصّ على بني إسرائيل ، ويكشف لهم مفترياتهم على الله ، وما خالفوا فيه شريعته ، وكان موضع خلاف بين أهل العلم ، فيهم ..

قوله تعالى :

(وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ).

إشارة إلى هذا القرآن ، وما تحمل آياته من الحق والهدى .. وأن الذين يؤمنون به من المشركين ، ومن أهل الكتاب ، سيجدون الهدى مما هم فيه ، من زيغ وضلال ، واختلاف.

قوله تعالى :

(إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ).

وإذ كان القرآن الكريم هو الحق ، فإن من ينحرف عنه سيضل ، ومن ضل فإنما يضل على نفسه ، وسيقضى الله سبحانه وتعالى فيه بحكمه ، ويأخذه بعد له : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) العزيز الذي لا يخرج عن سلطانه أحد ، العليم ، الذي لا يغيب عن علمه ما يعمل الظالمون ..

____________________________________

الآيات : (٧٩ ـ ٨٥)

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ

٢٨٤

مُسْلِمُونَ (٨١) وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ)(٨٥)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ ، إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ).

هو تثبيت لقلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتوثيق للصلة التي بينه وبين الكتاب المنزل عليه ، وأن ما يلقى به اليهود إلى المشركين من تلبيسات ، يحاجّون بها النبيّ ، ويدخلون بها الشك في قلوب الضعفاء ـ لا ينبغى أن يلتفت إليه النبيّ ، ولا أن يعطيه شيئا من التوقير والاحترام ـ على اعتبار أن ذلك من واردات الكتاب السماويّ الذي في أيدى اليهود .. فهذا الكتاب قد عبث به اليهود ، وغيّروا معالمه ، وقد جاء القرآن الكريم بالحق المبين ، الذي يكشف مفتريات القوم ، ويفضح أكاذيبهم : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ).

وإذن فليمض النبيّ في طريقه ، متوكّلا على ربّه ، غير ملتفت إلى تلك المقولات التي في أيدى اليهود ، أو على ألسنة المشركين الذين أخذوها عنهم .. فهو على هدى وبصيرة من ربّه ، وعلى صراط مستقيم بهذا الكتاب الذي بين يديه .. وليس عليه من أمر هؤلاء المعاندين المخالفين شىء ..

٢٨٥

قوله تعالى :

(إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ).

هو تحريض للنبيّ على المضيّ في طريقه ، غير ملتفت إلى أهل آراء والخلاف .. وغير آسف على ما يوردهم به هذا المراء والخلاف من موارد الهلاك والبلاء .. فإنهم موتى ، إذا نودوا لا يسمعون ، وإنهم صمّ ، لا تقع الكلمات على آذانهم إلا كما تقع على الحجر الأصمّ ..

وفي تشبيه القوم بالأموات ، وفي وصفهم بعد ذلك بالصمم ـ إشارة إلى أنهم درجات في الإعراض عن آيات الله. فمنهم من لا يستمع إلى آيات الله أبدا ، ولا يدنو من صوت يرتل كلمات الله ، خوفا على نفسه أن يقع تحت تأثيرها ، فهو يهرب منها ، ويقيم على نفسه حجابا بينه وبينها .. وهذا هو والميت سواء بالنسبة لما يتلو الرسول من قرآن .. ومنهم من يسمع القرآن ، لا ليتدبّر آياته ، ولا ليعرض ما يسمع على عقله ، وإنما ليقع على كلمة ، يدبرها على غير وجهها ، ويتخذ منها مادة للهزء والسخرية .. فهو بهذا أصمّ ، وإن كان ذا أذنين يسمعان!

وقوله تعالى : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ـ هو شرط لإفادة الحكم بعدم سماعهم ، وهو ـ فى معناه ـ قيد وارد على هذا الحكم ، أشبه بالحال .. أي أنهم لا يسمعون ما يلقى إليهم وهم يولّون مدبرين ..

والسؤال هنا : كيف يكون عدم سماعهم مقيدا بهذا القيد ، وهم صمّ ، والأصمّ لا يسمع مطلقا ، سواء أقبل أو أدبر؟

والجواب على هذا ـ والله أعلم ـ أن الأصم وإن كان لا يسمع بأذنيه ، فإنه إذا أقبل على محدثه ، ربما فهم عنه بالإشارة ، وربما قرأ على حركة شفتيه

٢٨٦

بعض الكلمات ، فوقع له من هذا وذاك شىء من الإدراك والفهم .. وهؤلاء القوم قد ولوا على أدبارهم ، وأعطوا ظهورهم لما يتلى عليهم ، فلم يسمعوا شيئا ، وهذا فى آذانهم من وقر ، ولم يروا شيئا وقد أعطوا ظهورهم لما يلقى إليهم!

قوله تعالى :

(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ).

فقوله تعالى : (وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) ـ هو استكمال للوصف الذي عليه هؤلاء المشركون وأمثالهم .. فهم أموات ، وإن كانوا في الأحياء ، وهم صم وإن كانوا في السامعين ، وهم عمى وإن كانوا في المبصرين .. (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (٤٦ : الحج)

وفي تعديه اسم الفاعل : «يهادى» بحرف الجرّ «عن» بدلا من حرف الحجر «من» الذي يتعدى به الفعل ، فيقال هداه من ضلاله ـ فى هذا إشارة إلى أن هدى القوم لا يكون بأضواء الحق ، وأنوار المعرفة ، فهذه معنويات تهتدى بها العقول السليمة ، وتستضىء بها البصائر المبصرة .. أما هؤلاء القوم ، فقد غابت عقولهم ، فانطمست بصائرهم ، وأصبحوا في عداد الحيوان ، الذي يقاد من مقوده ، حتى يستقيم إلى الطريق ..

ومن هنا ضمّن اسم الفاعل «هاد» معنى «حاجز» أو «مبعد» ـ الأمر الذي يكون بمعالجة حية ، وبقهر مادى .. وهذا ما ليس من رسالة الرسول. الذي تقوم دعوته على الحكمة ، والموعظة الحسنة ، كما يقول له الحق جل وعلا : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١٢٥ : النحل) وفي قوله تعالى : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) تحديد

٢٨٧

لهمة الرسول ، وبيان لمنهج دعوته ، وهو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه ، وأن يسمع الذين إذا سمعوا ودعوا واستجابوا ..

و «إن» هنا نافية بمعنى «ما» .. أي ما يبلغ تبليغك إلا أسماع أهل السلامة والعافية في عقولهم وقلوبهم ـ فهؤلاء إذا سمعوا وجدوا لما يسمعون جوابا حاضرا ، فى أنفسهم .. وهو التسليم ، والإسلام ..

وقوله تعالى : (إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي لا يسمع هذه الآيات إلا من كان عنده استعداد لتقبل الحق ، والاهتداء بالهدى إذا التقى به.

وقوله تعالى : (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) جملة من مبتدأ وخبر ، والفاء للسببية ، أي أنهم يسمعون كلام الله ، ويملئون به عقولهم وقلوبهم ، لأنهم مسلمون بالفطرة ، وبما عندهم من استعداد للإيمان .. أما من فسدت فطرته ، فإنه لن يسمع ، وإن سمع لا يعقل!

قوله تعالى :

(وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ).

(الدابة التي تكلم الناس .. ما هى؟)

اضطرب المفسرون في تفسير هذه الآية ، وأكثروا من المقولات في هذه الدابة ، وفي أوصافها العجيبة ، وفي كيفية نطقها ، وفيما نطقت به .. وهل يكون ذلك في الدنيا أم في الآخرة .. فهم يقولون إنها من أشراط الساعة ، ويذكرون لذلك أحاديث تنسب إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .. ويقولون إنه يخرج في كل بلدة دابة ، مما هو مبثوث من نوعها في الأرض .. وفي أوصافها .. يقولون : إنها

٢٨٨

من الإنس ، وينسبون إلى على كرم الله وجهه أنه سئل عنها فقال : «أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب ، ولكن لها لحية (١)»! ويقولون : إنها الحية التي كانت في جوف الكعبة وخطفتها العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام .. ويقولون رأسها رأس ثور ، وعينها عين خنزير ، وأذنها أذن فيل ، وقرنها قرن أيل (٢) ، وعنقها عنق نعامة ، وصدرها صدر أسد ، ولونها لون نمر ، وخاصرتها خاصرة هرة ، وذنبها ذنب كبش ، وقوائمها قوائم بعير .. بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا .. ويزيد ابن جرير على ذلك ، أنها بذراع آدم عليه‌السلام ..!!

وهكذا تجمع في الدابة جميع الحيوانات ، ومختلف الدواب!

ويروى عن أبى هريرة أن فيها من كل لون ، وما بين قرنيها فرسخ للراكب ..

ويروى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا ، يراها من بالشرق ، كما يراها من بالغرب! ..

وعشرات من الأخبار ، والأحاديث ، غير هذا ، بحيث يجتمع منها متحف ، يضم أروع وأعجب ما وقع عليه الخيال.

وهذه المقولات في كثرتها ، وتناقضها ، توقع الحيرة والبلبال ، فما يدرى المرء ماذا يأخذ منها ، وماذا يدع؟ ولو أنه اقتصر منها على مقولة واحدة ، مهما كانت غرابتها ، وإغراقها في الخيال ـ لكان ذلك ـ على ما فيه ـ أقرب

__________________

(١) أي أنها إنسان .. إذ أن من شأن الإنسان أن تكون له لحية.

(٢) الأيل : بفتح الهمزة ، وضمها ، وتشديد الياء ، حيوان من ذوات الظلف أشبه بالثور وله قرون طويلة متشعبة ، وجمعه أيايل.

٢٨٩

إلى السلامة من التخبط بين هذه المقولات التي يلطم بعضها وجه بعض.

ولو أننا نظرنا إلى الآية الكريمة ، نظرا مقاربا ، دون شدها إلى أودية الغرائب والعجائب ، لرأينا أنها لا تحمل شيئا تستخرج منه هذه المقولات ، ولا تحتمل شيئا يساق إليها مما قيل ..

فالآية الكريمة ترسم مع الآيات التي قبلها ، صورة واضحة الألوان والظلال لأولئك المشركين ، الضالين ، الذين ماتت مشاعرهم ، وعميت أبصارهم وصمّت آذانهم .. فلا يعقلون ، ولا يبصرون ، ولا يسمعون شيئا مما يتلى عليهم من آيات الله .. فهكذا صورتهم الآيتان في قوله تعالى لنبيه الكريم : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا .. فَهُمْ مُسْلِمُونَ) «٥٢ ـ ٥٣ : الروم»

وهنا في هذه الآية تكتمل الصورة ، حين تصل حياتهم الجارية في ريح الأمن والسلامة ، بحياتهم التي يطرقهم فيها طارق الموت .. وفي هذه الحالة ينكشف لهم كل شىء .. وإذا عقولهم عاقلة ، وآذانهم سامعة ، وعيونهم مبصرة .. كما يقول الله تعالى : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا ، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ). «٢٢ : ق»

ففى هذا الوقت ينكشف الغطاء عن الحق الذي ضلوا عنه ، وإذا دواب الأرض تنطق ، وإذا هم يفقهون حديثها ، ويفهمون نطقها ، وكانوا في دنياهم قد عجزوا عن أن يفقهوا أو يفهموا ما تحدثهم به آيات الله بلسان عربى مبين .. وفي هذا يقول الله تعالى : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ) (٥٣ : فصلت).

٢٩٠

ففى هذا العرض يرى المشركون أنهم في وضع مقلوب ، حيث لا يفهمون حديث الناس ، حتى لكأنهم لا يعيشون بين الناس ، وأنهم ـ وهم كما يزعمون أصحاب عقول ـ لا يعرفون الحق الذي تعرفه دواب الأرض التي تعيش معهم .. فهذه الدواب ، تعرف ما لله سبحانه وتعالى من جلال وعظمة ، وهي تدين لله سبحانه بالولاء ، وتسبح بحمده ، كما يقول جل شأنه : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ .. وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) (١٨ : الحج).

فهذه الدواب ، سيفجؤهم أمرها ، عند ما تطلع عليهم بهذا الحديث الذي تحدثهم به في العالم الآخر ، والذي هو منطق كل موجود بأن الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه الباطل.

فقوله تعالى : (وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) إشارة إلى نزول الموت بهم .. فوقوع الشيء: مجيئه. من جهة عالية ، حيث لا يملك أحد رده ، كقوله تعالى : (إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ) ..

والمراد بالقول هنا ، هو حكم الله ، وأمره فيهم ، كما يقول سبحانه : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٧ : يس) وكقوله تعالى : (فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ) (٣١ : الصافات) ..

وقوله تعالى : (تُكَلِّمُهُمْ) أي توحى إليهم ، بما يفهمون منه هذه الحقيقة التي ضلوا عنها ، وهم أحياء ، والتي كانت مستقرة في كيان كل كائن ، حاضرة في حياة كل موجود .. إلا هؤلاء الضالين المكذبين!

وقد جاء في قراءة : (تُكَلِّمُهُمْ) .. وهو من الكلم ، والجرح .. أي

٢٩١

أن ما يفهمونه يومئذ من الدابة فيه كلم وأذى لهم ، بما ينكشف لهم من سوء حالهم ، وأنهم دون هذه الدواب العجماء فهما ، وأقصر منها إدراكا ..

وليس المراد بالدابة ، دابة واحدة ، وإنما المراد جنسها ، وهي كل ما يدب على الأرض من حيوان .. من حشرات ، وأنعام ، وطيور .. وغيرها ..

وقوله تعالى : (أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ) ـ هو تعليل لقوله تعالى : (أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ) ـ أي تكلمهم الداية لأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله ، ولا يؤمنون بها .. والمراد بالناس هناهم هؤلاء المشركون والضالون ، وكل من كفر بالله وأعرض عن آياته ..

هذا هو المفهوم الذي نستريح إليه من معنى الآية الكريمة ، وهو مفهوم كما ترى يعطى دلالة تعين على تأكيد المعنى الذي قصدت إليه الآيات التي سبقتها ، والآيات التي لحقتها ، كما سنرى .. ومما يستأنس به لهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة ، هو أن هذه الآية قد جاءت في تلك السورة «سورة النمل» التي كان من آياتها ، حديث النملة ، وحديث الهدهد ، مع سليمان عليه‌السلام ، فقد وقف هذان الحيوانان الضعيفان وهما دابتان من دواب الأرض ـ وقفا من سليمان هذا الموقف ، الذي صغر فيه لعينى سليمان ملكه وما حشد له فيه من الجن والإنس والطير ، أمام هذين المخلوقين الضعيفين ، وما أودع فيهما الخالق العظيم .. من علم ، وحكمة ، وبصيرة!

وقد نطق الهدهد ، بوحدانية الله ، وأنكر على الناس كفرهم وضلالهم ، وسجودهم للشمس والقمر ، شأنهم في هذا شأن هؤلاء المشركين ، الذين يعبدون من دون الله أصناما ، فقال : (أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ..)؟ (٢٥ : النمل)

٢٩٢

وهذا يشير من بعيد إلى أنه إذا كان سليمان قد تلقى علما وحكمة ، إلى ما آتاه الله من علم وحكمة ، من هذين المخلوقين الضعيفين ـ فإن معنى هذا أن هناك علما كثيرا مستقى من موارد الحق الذي لا يشوبه شىء من الباطل ، تعلمه دواب الأرض ، ولا يعلمه كثير من الناس ، وأنه من الممكن أن يتلقى الإنسان من هذه الدواب علما ، بدلالة الإشارة أو العبارة ، كما وقع ذلك لسليمان ، وكما يقع ذلك للناس ، يوم يكشف الغطاء ، وترفع الحجب التي بين الناس وبين عالم الحق .. فينطق كل شىء ، شاهدا بأن الله هو الحقّ!

قوله تعالى :

(وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

الفوج : الجماعة المتحركة في سرعة.

يوزعون : أي يساقون ، ومن ورائهم وازع يزعهم ، ويدفع بهم دفعا إلى موقف المساءلة والحساب ..

وينقل المشركون هنا في هذه الآية من حال الموت ، وما يرون فيه من الحق الذي كانوا عنه معرضين ، حين يتحدث إليهم الوجود كله ، حتى دواب الأرض ، تنطق بألوهية الإله الواحد القهار ـ ينقلون إلى المحشر ، حيث يبعثون من قبورهم ، ويساقون سوقا عنيفا إلى موقف الحساب والجزاء .. حتى إذا جاءوا ، سألهم الحق جل وعلا : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)؟ .. إنهم يسألون ممن كانوا ينكرونه ، أو يشركون به ، ويكذبون بآياته ، ويمكرون برسله .. وهذا السؤال من الله

٢٩٣

سبحانه ـ هو مواجهة لهم بالحق الذي أنكروه ، وعموا عنه .. وفي هذا بلاء عظيم لهم ، حيث يسقط في أيديهم ، ولا يجدون قولا يقولونه للذى اعتدوا عليه ، وقد جاء بهم ليأخذ بحقه منهم!

وفي الاستفهام : (أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) تقريع لهم ، وتقطيع لأكبادهم أسى وحسرة على ما كان منهم ..

وفي قوله تعالى : (وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً) ـ إشارة إلى أنهم لم ينظروا في آيات الله ، ولم يعرضوها على عقولهم ، بل واجهوها بالبهت والتكذيب ، ورموها بالسخرية والاستهزاء ، من قبل أن ينظروا فيها ..

وقوله تعالى : (أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ـ أي ماذا كان عملكم في هذه الدنيا ، إذا كنتم لم تستعملوا عقولكم ، ولم تؤمنوا بي وبرسلى؟ أللإنسان عمل آخر غير هذا؟ أم أنكم لستم من عالم الإنسان؟

واختصاص المكذبين بآيات الله ، بالحشر ، وإن كان الحشر للناس جميعا ، هو عرضلهذا القطيع الضال من الإنسانية ، فى كل أمة من الأمم ، حيث تبدو منهم العبرة لكل معتبر! (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا)

قوله تعالى :

(وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ).

لقد وجم القوم ، وتبلدت مشاعرهم ، وطارت عقولهم ، وانعقدت ألسنتهم ، فى هذا الموقف الرهيب ، الذي وقفوا فيه موقف الحساب بين يدى رب العالمين ، فلم ينطقوا بكلمة .. (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا) أي وجب عليهم العقاب ، وحق عليهم العذاب ، بما كان منهم من ظلم وعدوان على الله ، وعلى آيات الله ، وعلى رسل الله ..

٢٩٤

____________________________________

الآيات : (٨٦ ـ ٩٣)

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(٨٦) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٠) إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ(٩١) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)(٩٣)

____________________________________

التفسير :

قوله تعالى :

(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ).

هذه الآية تعقيب على تلك المشاهد ، التي رأى فيها المشركون والذين يكذبون بآيات الله ، ما رأوا من معالم الحق ، وهم على طريقهم إلى الدار الآخرة ، وإلى موقف الحساب والجزاء .. وفي هذا التعقيب نخسة توقظهم من

٢٩٥

هذا الحلم المزعج ، وإذا هم مع شركهم الذي أوردهم هذا المورد الوبيل ، وإذا كانوا قد عموا عن كلمات الله التي تعرض عليهم آيات الله ، تسطع هدى ونورا لمن أراد الهدى والنور .. فهذا الليل الذي جعله الله سكنا لهم ، وهذا النهار الذي جعله الله ضياء يكشف ظلام الليل .. أليس في هذا شاهد يشهد بالحق ، وينطق بوجود إله متفرد بالقيام على هذا الوجود؟ بلى .. إن في ذلك لآيات ـ لا آية واحدة ـ لقوم يؤمنون .. أي قد تهيأت نفوسهم للإيمان .. أما من فسدت فطرتهم ، وعميت بصيرتهم ، فلن تغنى عنهم الآيات شيئا. (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠١ : يونس) ..

وفي تخير هذه الآية ـ آية الليل والنهار ـ من بين الآيات كلها ، وقصر العرض عليها وحدها ـ لأنها تجمع الآيات المحسوسة والمعقولة ، من جهة ، ولأنها واقع مشترك بين الناس جميعا .. حيث يحتويهم جميعا .. الليل والنهار .. من جهة أخرى ..

قوله تعالى :

(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ .. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ).

وفي هذه الآية يردّ المشركون مرة أخرى إلى الدار الآخرة ، وإلى ما كانوا فيه من هول وفزع ، مستصحبين معهم ما سمعوا لتوّهم من قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً) .. فإذا كانوا قد نسوا ، ما رأوا من مشاهد القيامة التي عرضت عليهم من قبل ، فهذا مشهد من مشاهدها .. وهذه آية من آيات الله ، الدالة على قدرته ، ورحمته ، وحكمته .. فليأخذوا طريقهم إلى الإيمان» ولا يمسكوا بما هم عليه من شرك ، ولا عذر لهم بعد هذا البلاغ المبين ..

٢٩٦

والصّور : هو القرن ، الذي يؤخذ من الحيوان ، ثم يخرق من أعلاء ، وينفخ فيه ..

والنفخ في الصور يوم القيامة ، هو دعوة الحق سبحانه وتعالى للأموات ، أن يبعثوا من قبورهم ..

ـ وقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) هو استثناء لبعض خلق الله من الفزع الذي يستولى على أهل السموات والأرض ، حين يدعو داعى الحق إلى البعث والنشور .. وهؤلاء المستثنون هم عباد الله الذين آمنوا به واستقاموا على طريقه المستقيم .. كما يقول سبحانه فيهم : (لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ) (١٠٣ : الأنبياء) وكما يقول سبحانه في هذه الآيات : (وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ).

ـ وقوله تعالى : (وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ) أي أذلاء ، صاغرين ..

قوله تعالى :

(وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ).

هو استعراض لبعض مظاهر قدرة الله. وحكمته ، وتدبيره في خلقه ..

فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها هامدة جامدة لا حراك بها ، هى في الواقع على غير هذا الظاهر الذي يبدو للعين منها .. إنها تتحرك حركة حرة منطلقة ، فى يسر وفي انتظام ، كما يمر السحاب! .. فما تراه العين منها شىء ، وما هو واقعها شىء آخر ..

وإذن ففى الجبال حقيقة لا ترى بالعين ، ولا تحسّ بالنظر والمشاهدة .. وتلك الحقيقة أنها متحركة ، وأنها تمر مر السحاب!

٢٩٧

وهنا سؤال :

إذا كنا نحن في هذا العصر نرى بعين العلم أن الجبال تمر مر السحاب ، وأنها متحركة بحركة الأرض ، وأن الذي ينظر إليها من الجو ، يرى أنها تسير كما يسير السحاب فعلا .. فكيف كان مفهوم العرب الذين خوطبوا بهذه الآية ، وهم لم يكونوا قد عرفوا أن الأرض متحركة تدور حول نفسها مرة كل يوم؟ ألم يكن في إعلان هذه الحقيقة ما يدخل اللبس على قلوب المؤمنين ، فوق ما يحرك ألسنة المشركين بالبهت والتكذيب!

والجواب ـ والله أعلم ـ أن النظم القرآنى ، قد جاء على صورة تدفع هذا الاحتمال من جانبيه جميعا!

فأولا : يقرر القرآن صراحة أن الجبال ثابتة في مرأى العين .. وهذا لا يجادل فيه أحد ، وهذا هو السرّ في قوله تعالى : (تَحْسَبُها جامِدَةً) .. وكما يقول سبحانه : (وَالْجِبالَ أَرْساها) (٣٢ : النازعات) ، وكما يقول جل شأنه : (وَالْجِبالَ أَوْتاداً) (٧ : النبأ).

وثانيا : إن هذه الجبال الثابتة في مرأى العين ، هى في حقيقتها متحركة ، وهذه الحركة حقيقة لا تنكشف إلا بالعلم والبحث ، لأنها قائمة وراء هذا الظاهر .. فمن كان في استطاعته أن يبحث ويدرس ، فليفعل ، وسيجد مصداق ذلك .. ومن لم يكن عنده هذا الاستعداد ، فهو بين رجلين : مؤمن بالله ، وبآياته ، مصدق بكل ما نزل على الرسول من ربه .. وهذا لا يمارى في هذه الحقيقة ، ولا يشك فيها ، وإنما هو مؤمن بها ، مسلّم بما تحدث به القرآن عنها ، ناظرا إلى اليوم الذي يقع له من العلم ما يكشف له عن وجه هذه الحقيقة. ومشرك ، أو كافر بالله ، فهو مكذب بآيات الله كلها .. جليها وخفيها .. فلا يدخل عليه

٢٩٨

من هذه الآية إلا ما امتلأ به قلبه من جحود وإنكار ..

وقوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) .. (صُنْعَ اللهِ) منصوب على الإغراء بفعل محذوف تقديره : انظر ، أو تأمل ، أو نحو هذا.

وفي هذا دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية الكريمة من أمر الجبال ، وتحركها مع تحرك الأرض في دورتها اليومية .. فالذين يؤمنون بالله ، ويصدقون بكلماته ، يستيقنون أن هنا حقيقة كامنة ، تشير إليها الآية الكريمة ، ولا تكشف عن وجهها ، وأن على المؤمن أن يطلب هذه الحقيقة ، وأن يشهد بعض جلال الله منها ..

والمفسرون مجمعون على أن ذلك الذي تحدث عنه الآية في شأن الجبال ، إنما يقع يوم القيامة ، حين تتبدل الأرض غير الأرض والسموات ، وكما يقول الله تعالى : (وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً) (٢٠ : النبأ).

على أن الذي حملنا على مخالفة هذا الإجماع ، هو ما جاء في قوله تعالى : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) فإن ذلك إلفسات إلى روعة الصنعة وإحكامها ، وهذا لا يكون واقعا في نظر الإنسان يوم القيامة وهو يرى الجبال وقد تناثرت أشلاء!.

وإنما يرى ذلك ، وهي قائمة ثابتة ، ثم هي في نفس الوقت متحركة تدور مع الأرض في دورانها ، دون أن تسقط وتهوى! وفي هذا يتجلى إحكام الصنع وإتقانه ..

وهنا سؤال أيضا وهو : إذا كان ذلك كذلك ، فلم لم تنكشف هذه الحقيقة للمسلمين الأولين؟ ولم لم يطلبها الصحابة ، ولم يكلفوا أنفسهم البحث عنها. وهم أعرف الناس بكتاب الله ، وأقربهم من مواقع الحق فيه؟

وتقول : إن صحابة رسول الله ـ رضوان الله عليهم ـ كان متعلّقتهم بآيات الله ، هو الجانب الروحي منها ، ولم يكن يعنيهم من هذا الوجود

٢٩٩

ظواهره ، وإنما كان همهم حقيقته ، ولبابه ، وما انطوى عليه من علم ، وحكمة ، وتقدير .. إنهم كانوا في مستوى روحى رفيع ، بحيث يصغر في أعينهم كل ما هو مادىّ ، وإن بهر العيون ، وخلب الألباب! وإذن فلا نسأل إذا كان صحابة رسول الله قد اطلعوا على هذه الحقيقة من أمر الجبال أم لم يطلعوا ، لأنها كانت أقل الحقائق التي اطلعوا عليها ، وشغلوا بها ، من عالم الحق.

ومن جهة أخرى .. فإن من كان يعرف هذه الحقيقة لم يكن يرى من الحكمة التحدثّ بها ، وإذاعتها في المجتمع ، إذ كانت مما لا تصدّقه العقول يومئذ ، فالحديث به فتنة ، تشغل الناس ، وتثير دخانا كثيفا من الشكوك والريب .. ذلك في الوقت الذي كانت فيه وجهة الدعوة الإسلامية ، هى محاربة الشرك والإلحاد ، وتوجيه العقول والقلوب إلى وحدانية الإله الواحد ، المتفرد بالخلق والأمر ، رب العالمين .. فكل ما من شأنه أن يشغل عن هذه الغاية ، هو في الواقع حركة مضادة لدعوة الإسلام ، وحرب خفية عليها .. ولعلّ هذا هو السر في أن المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية ، قد خلت تماما من التعرض للحقائق العلمية ، التي تشغل العقول عن النظر المباشر إلى جلال الله سبحانه وتعالى ، فى صفحة هذا الوجود ، نظرا يملأ القلوب روعة وخشوعا ، ورهبة لهذا الإبداع الذي يتمثل في كل كائن من تلك الكائنات المبثوثة في الأرض أو في السماء .. فإن زهرة واحدة .. مثلا ، فى جمال ألوانها ، وتناسق أصباغها ، وتماثل أجزائها .. جديرة بأن تفتح للإنسان طريقا إلى الله ، وإلى الإيمان به ، إيمانا وثيقا ، مبرّا من كل شرك ، وشك! ..

ومن أجل هذا ، لم يلق القرآن الكريم أولئك الذين كانوا يريدون أن يدخلوا معه في ميدان المماحكة والجدل ـ لم يلقهم محاجا أو مجادلا ، بل صرف وجهه عنهم ، ودعاهم إلى أن يلتمسوا الطهر لقلوبهم من داء الشرك

٣٠٠