أعلام الدين في صفات المؤمنين

الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي

أعلام الدين في صفات المؤمنين

المؤلف:

الشيخ الحسن بن أبي الحسن الديلمي


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٢
ISBN: 4-5503-75-2
الصفحات: ٥٣٢

فصل آخر في السؤال والبيان

إن سألك سائل فقال : ما أول نعمة الله تعالى عليك؟

فقل : خلقه إياي حيا لينفعني.

فإن قال : ولم زعمت أن خلقه إياكُ حياً أول النعم؟

فقل : لأنه خلقني لينفعني ، ولا طريق إلى نيل النفع إلا بالحياة التي يصح معها الإدراك.

فإن قال : ما النعمة؟

فقل : هي المنفعة إذا كان فاعلها قاصداً لها.

فإن قال : فما المنفعة؟

قل : هي اللذة الحسنة ، أو ما يؤدي إليها.

فإن قال : لم اشترطت أن تكون اللذة حسنة به (١)؟

فقل : لأن من اللذات ما يكون قاتلاً ، فلا يكون حسنا.

فإن قال : لم قلت : أو ما يؤدي إليها؟

فقل : لأن كثيراً من المنافع لا يتوصل إليها إلاّ بالمشاق ، كشرب الدواء الكريه ، والفصد ، ونحو ذلك من الاُمور المؤدية إلى السلامة واللذات ، فتكون. هذه المشاق منافع لما تؤدي إليه في عاقبة الحال.

ولذلك قلنا : إن التكليف نعمة حسنة ، لأن به ينال مستحق النعيم الدائم واللذات.

فإن قال : فما كمال نعم اللّه تعالى؟

فقل : إن نعمه تتجدد علينا في كل حال ، ولايستطاع لها الإحصاء.

فإن قال : فما تقولون في شكر المنعم؟

فقل : هو واجب.

فإن قال : فمن أين عرفت وجوبه؟

__________________

١ ـ ليست في المصدر ، والظاهر أنها زائدة.

٤١

فقل : من العقل وشهادته ، وأوضخ (١) حجته ودلالته ، ووجوب شكر المنعم على نعمته ، مما تتفق العقول عليه ولا تختلف فيه.

فإن قال : فما الشكر اللازم على النعمة؟

فقل : هو الاعتراف بها ، مع تعظيم منعمها.

فإن قال : فهل أحد من الخلق يكافىء نعم اللّه تعالى بشكر ، أو يوفي حقها بعمل؟

فقل : لايستطيع ذلك أحد من العباد ، من قبل أن الشيء إنما يكون كفواً لغيره ، إذا سد مسده ، وناب منابه ، وقابله في قدره ، وماثله في وزنه.

وقد علمنا أنه ليس من أفعال الخلق ما يسد مسد نعم اللّه عليهم ، لاستحالة الوصف للّه تعالى بالإنتفاع ، أو تعلق الحوائج به إلى المجازاة.

وفساد مقال من زعم أن الخلق يحيطون علماً بغاية الانعام من اللّه تعالى عليهم والافضال ، فيتمكنون من مقابلتها بالشكر على الاستيفاء للواجب والاتمام.

فنعلم بهذا تقصير العباد عن مكافاة نعم اللّه تعالى عليهم ، ولو بذلوا في الشكر والطاعات غاية المستطاع ، وحصل ثوابهم في الاخرة تفضلاً من اللّه تعالى عليهم وإحساناً إليهم ، وإنما سميناه استحقاقاً في بعض الكلام ، لأنه وعد به على الطاعات ، وهو الموجب له على نفسه بصادق وعده ، وإن لم يتنأول شرط الاستحقاق على الأعمال ، وهذا خلاف ما ذهبت إليه المعتزلة ، إلاّ أبوالقاسم البلخي فإنه يوافق في هذا المقال ، وقد تناصرت به مع قيام الأدلة العقلية عليه الأخبار.

روى أبوعبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « قال الله تعالى : لايتكل العاملون على أعمالهم التي يعطونها لثوابي ، فإنهم لواجتهدوا واتعبوا أنفسهم أعمارهم في عبادتي ، كانوا مقصرين غير بالغين [ في عبادتهم كنه عبادتي ، فيما يطلبون ] (٢) من كرامتي ، والنعيم في جناتي ، و (٣) رفيع الدرجات العلى في جواري ، ولكن برحمتي فليثقوا ، وفضلي فليرجوا ، وإلى حسن الظن بي فليطمئنوا فإن

__________________

١ ـ في الكنز : وواضح.

٢ ـ ما بين المعقوفبن أثتناه من الكنز.

٣ ـ في الأصل : من ، وما أثبتناه من الكنز.

٤٢

رحمتي عند ذلك تدركهم ، وبمنّي ابلغهم رضوان [ ومغفرتي وألبسهم عفوي ] (١) » وبعفوي اُدخلهم جنتي ، فإني أنا اللّه الرحمن الرحيم ، بذلك تسميت ».

وعن عطا بن يسار ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : « يوقف العبد ، بين يدي اللّه ، فيقول لملائكته : قيسوا بين نعمي عليه وبين عمله. فتستغرق النعم العمل ، فيقول : هبوا له النعم ، وقيسوا بين الخير والشر منه ، فإن استوى العملان أذهب اللّه الشر بالخير وأدخله الجنة ، وإن كان له فضل أعطاه اللّه بفضله ، وإن كان عليه فضل ـ وهو من أهل التقوى ، ولم يشرك باللّه تعالى ـ فهو من أهل المغفرة ، يغفر اللّه له برحمته إن (٢) شاء ويتفضل عليه بعفوه ».

وعن سعد (٣) بن خلف ، عن أبي الحسن عليه‌السلام أنه قال له : « عليك بالجد والاجتهاد في طاعة اللّه ، ولا تخرج نفسك من حد التقصيرفي عبادة اللّه وطاعته ، فإن الله تعالى لايعبد حق عبادته ».

* * *

__________________

١ ـ أثبثناه من الكنز.

٢ ـ في الاصل : لمن وما اثبتناه من الكنز.

٣ ـ في الاصل : سعيد ، وما أثبتناه من الكنز ومعاجم الرجال هو الصواب ، فقد عده الشيخ فيرجاله من أصحاب الكاظم عليه‌السلام ، وقال : واقفي ، أُنظر « رجال الشيخ : ٣٥٠ رقم ٢ ، تنقيح المقال ٢ : ١٢ ، معجم رجال الحديث ٨ : ٥٠٢٥ / ٥٨ ».

٤٣

كتاب

( البرهان على ثبوت الايمان )

لأبي الصلاح التقي بن نجم بن عبيدالله الحلبي

بسم اللّه الرحمن الرحيم

الحمد للّه رب العالمين ، وصلواته على خيرة النبيين محمد وآله الطاهرين وسلم وكرم.

أول فعل مقصود يجب على العاقل ، مما لايخلو منه عنك (١) كمال عقله ، من وجوب النظر المؤدي إلى المعرفة ، لأن الحي عند كمال عقله يجد عليه آثارَ نفع ، من كونه حياً سميعاً بصيراً عاقلا مميزاً قادراً متمكناً ، مدركاً للمدركات منتفعاً بها ، ويجوز أن يكون ذلك نعمة لمنعم.

ويعلم أنها إن كانت كذلك ، فهي أعظم نعمة لانغمار كل نعمة في جنبها ، ويجد في عقله وجوب شكر المنعم ، واستحقاق المدح على فعل الواجب والذم على الإخلال به ، ويجوز أن يستحق من موجده والمنعم عليه مع المدح ثواباَ ومع الذم عقاباً ، ويجد في عقله وجوب التحرز من الضرر اليسير وتحصيل النفع العظيم.

فتجب عليه معرفة من خلقه والنفع له ، ليعلم قصده فيشكره ان كان منعماً ، ولا سبيل إلى معرفته إلا بالنظر في آثارصنعته لوقوعها بحسبها ، ولوكانت لها سبب غيره ، لجاز حصول جميعها لمن لم ينظر وانتفاؤها عن الناظر ، فوجب فعله لوجوب ما لايتم الواجب إلا به.

والواجب من المعرفة شيئان : توحيد وعدل ، وللتوحيد إثبات ونفي.

فالاثبات : اثبات صانع للعالم ـ سبحانه ـ قادر ، عالم ، حي ، قديم ، مدرك ، مريد.

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : عند.

٤٤

والنفي : نفي صفة زائدة على هذه الصفات ، ونفي التشبيه ، ونفي ألادراك عنه ـ تعالى ـ بشيء من الحواس ، ونفي الحاجة ، ونفي قديم ثان شارك في استحقاق هذهالصفات.

والعدل : تنزيه أفعاله عن القبيح ، والحكم لها بالحسن.

* * *

٤٥

فصل

« في الكلام في التوحيد »

طريق العلم باثبات الصانع ـ سبحانه ـ أن يعلم الناظر : أن هاهنا حوادث يستحيل حدوثها عن غير محدث.

وجهة ذلك : أن يعلم نفسه وغيره من الأجسام ، متحركاً ساكناً ، ثم مجتمعاً مفترقآَ ، أوضحه ذلك.

فيعلم بتغاير هذه الصفات على الأجسام ، أنها أعيان لها ، لأنها لو كانت صفات لذواتها ، لم يجز تغيرها.

ويعلم بتجددها عن عدم ، وبطلانها عن وجود ، أنها محدثة ، لاستحالة الإنتقال عليها ، من حيث لم تقم بأنفسها ، والكمون المعقول راجع به إلى الانتقال.

فإذا علم استحالة ذلك على هذه الصفات ، علم أن المتجدد منها إنما يجدد عن عدم ، وهذه حقيقة المحدث والمنتفي ، وأن ما انتفى عن الوجود والعدم يستحيل على القديم لوجوب وجوده ، وما ليس بقديم محدث.

فإذا علم حدوث هذه المعاني المغايرة للجسم ، وعلم أنه لابد في الوجود من مكان يختصه مجأوراً لغيره أو مبايناً ، وقتا واحداً أو وقتين ، لابثا فيه أو منتقلاً عنه ـ وقدتقدم له العلم : انه إنما كان كذلك لمعان غيره محدثة علم أنه محدث ، لأنه لو كان قديماً لوجب أن يكون سابقا للحوادث بما لانهاية له.

فإذا علم أنه لاينفك من الحوادث ، علم كونه محدثا ، لعلمه ضرورة بحدوث مالم يسبق المحدث ، ولأنه إذا فكرفي نفسه ـ وغيرها ـ فوجدها كانت نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، ثم عظماً ، ثم جنيناً ، ثم حيا ، ثم طفلاً ، ثم يافعا ، ثم صبيا ، ثم غلاما ، ثم بالغاً ، ثمشاباً قوياً ، ثم شيخاً ضعيفاً ، ثم ميتاَ.

وأنه لم يكن كذلك إلا بتجدد معان فيه : حرارات ، وبرودات ، ورطوبات ، ويبوسات ، وطعوم ، وألوان ، وأراييح مخصوصة ، وقدر ، وعلوم ، وحياة.

وعلم بطلان كل صفة من هذه الاغيار بعد وجود ، وتجددها عن عدم ، والجواهر التي تركب منها الجسم باقية ، علم أنها صفات مغايرة لها وأنها محدثه ، لاستحالة الكون

٤٦

والانتقال عليها بما قدمناه.

وإذا علم حدوث جواهره ـ وغيره من الجواهر ـ بالاعتبار الأول ، وصفاته بهذه وصفات غيره بالاعتبار الثاني ، ولأنها لا تنفك من المحل المحدث.

وعلم أن في الشاهد حوادث ـ كالبناء والكتابة ـ وأن لها كاتباً وبانياً ، هو من وقعت منه بحسب غيرها ، وانما ذلك مختص بما يجوز حصوله وانتفاؤه ، فلا يحصل إلا بمقتض.

فأما ما وجب فمستغن بوجوبه عن مؤثر منفصل عن الذات ، كتحيز الجوهر ، وحكم السواد.

ولا يجوز خروجه تعالى عن هذه الصفات ، لوجوب الوجود له تعالى في حق كونه قديماً لنفسه ، يجب له وجوده تعالى في كل حال ، وكونها صفات نفسه يجب ثبوتها للموصوف ويستحيل خروجه عنها كل ما وجد ، لكون المقتضي ثانيا (١) وهو النفس ، واستحالة حصول المقتضي وانتفاء مقتضاه.

وبعلمه سبحانه مدركاً إذا وجدت المدركات ، لكونه تعالى يستحيل فيه الآفات والموانع ، بدليل حصول هذا الحكم لكل حي لا آفة به متى وجد المدرك ، وارتفعت الموانع.

وبعلمه سبحانه مريداً لوقوع أفعاله على وجه دون وجه وفي حال دون اخرى ، وذلك مفتقر إلى أمر زائد على كون الحي قادراً عالما ، لكونه صفة للفعل زائدة على مجرد الحدوث والاحكام ، وارادته فعله إذ كونه مريداً لنفسه ، أو معنى قديم يقتضي قدم المرادات ، أو كونه عازما ، وكلا الأمرين مستحيل فيه سبحانه.

والمحدَث لا يقدرعلى فعل الإرادة في غيره ، وقديم ثان نرد (٢) برهان نفيه ، فثبت سبحانه مريداً بإرادة يفعلها إلا (٣) في محل لاستحالة حلولها فيه أو في غيره ، ولا صفة له سبحانه زائدة على ما علمناه ، لأنه لاحكم لهما ولا برهان بثبوتهما ، واثبات مالا حكم له ولا برهان عليه مفض إلى الجهالات.

وبعلمه سبحانه لايشبه شيئاَ من الأجسام والاعراض ، لقدمه تعالى وحدوث

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : ثابتاً.

٢ ـ كذا ، ولعل الصواب : مرّ.

٣ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : لا.

٤٧

هذه الأجناس ، لتعذر هذه الأجناس على غيره.

وإذا علمه تعالى فكذلك علم استحالة ادراكه بشيء من الحواس ، لأن الادراك المعقول مختص بالمحدثات.

وعلم كذلك استحالة الاختصاص بالجهات والنقل فيها والمجاوزة والحلول وايجاب الاحكام والاحوال عليه سبحانه ، لكون ذلك من صفات الأجسام والأعراض المباينة له تعالى.

وبعلمه (١) عنها يستحيل عليه الحاجة لاختصاصها باجتلاب النفع ودفع الضرر واختصاص النفع والضر بمن يصح أن يألم ويكد (٢) ، واختصاص اللذة والألم بذي شهوة ونفار ، وكونهما معنيين يفتقران إلى فعل ، وذلك لايجوز عليه لحدوث المحل وقدومه (٣) سبحانه ، ولخلو الفعل من دليل على اثباته مسهيا (٤) أو نافراً.

وإذا علم تخصصه تعالى بهذه الصفات من سائر الموجودات ، علمه (٥) تعالى واحدا ، لانهما لوكانا اثنين لوجب اشتراكهما في جميع الصفات الواجبة والجائزة ، وذلك يوجب كون مقدورهما ومرادهما واحداً ، مع حصول العلم الضروري بصحة إرادة أحد المتحيزين ما يكره الاخر أو لا يريده ولا يكرهه ، وقيام البرهان على استحالة تعلق مقدور واحد بقادرين ، وتقديرقديم ثان يقتضي نقض هذا المعلوم.

فثبت أنه تعالى واحدا لا ثاني له ، ولانه لا دليل من جهة العقل على إثبات ثان ، وقد ورد السمع المقطوع بإضافته إليه سبحانه بنفي قديم ثان ، فوجب له القطع على كونه واحد.

* * *

__________________

١ ـ كذا ، ولعل الصواب : وبغناه.

٢ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : ويلذ.

٣ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وقدمه.

٤ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : مشتهياً.

٥ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : علم.

٤٨

« فصل في مسائل العدل »

ثبوت ما بيناه من كونه تعالى عالماً لايصح أن يجهل شيئاً ، غنياً لا يصح أن يحتاج إلى شيء ، يقتضي كونه سبحانه عادلاً لايخل بواجب في حكمته سبحانه ولا يفعل قبيحاً ، لقبح ذلك وتعذر وقوع القبيح من العالم به وبالغني (١) عنه ، وذلك فرع لكونه قادراً على القبيح.

وكونه تعالى قادرا لنفسه ، يقتضي كونه قادرا على الحسن ، يقتضي كونه قادرا على القييح ، اذ كان الحسن من جنس القبيح ، وذلك مانع من كونه مريدا للقبيح ، لأناقد بينا أنه لا يكون مريداً إلا بإرادة يفعلها ، وإرادة القبيح قبيحة ، لأن كل من علم مريداً للقبيح علم قبح إرادته واستحقاقه الذم ، ومقتض لكونه مريدا لما فعله ـ تعالى ـ وكلَّفه ، لاستحالة فعله مالا غرض فيه ، وتكليفه مالا يريده ، وكارهاَ للقبيح لكونه غيرمريد له (وفساد حلوما كلفه) (٢) ، واحسانه من الارادة والكرامة ، لأن ذلك يلحقه بالمباح ، وموجب لكون المكلف قادراً على ما كلفه ـ فعلاً وتركاً ـ من متماثل الأجناس ومختلفها ومضادها قبل وقوع ذلك ، ومزيح لعلته بالتمكين من ذلك والعلم به واللطف فيه ، ومقتض لحسن أفعاله وتكاليفه ، لأن خلاف ذلك ينقض كونه عادلاً وقد أثبتناه.

ولا يعلم كون كل مكلم (٣) قادراً لصحة الفعل منه ، ومتعلقا بالمتماثل والمختلف والمتضاد ، لصحة وقوع ذلك من كل قادر.

وفاعلاً لوجوب وقوع التأثيرات المتعلقة به من الكتابة والبناء وغيرهما بحسب أحواله ، ولتوجيه المدح إليه على حسنها والذم على قبحها ، وثبوت القادر على الفعل قبل وقوعه ، لثبوت حاجة المقدور في حال عدمه إلى حال القادر ، واستغنائه في حال وجوده عنها كحال بقائه ، ومتمكناً بالايات (٤) من جميع ما يفتقر إليها ، وبكمال العقل من العلم بذوات الأشياء واحكامها ، وبالنظر من العلوم المكتسبة ، بدليل حصول الأول

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : والغني.

٢ ـ كذا في الأصل.

٣ ـ كذا ، ولعل الصواب : مكلف.

٤ ـ كذا ، ولعل الصواب : بالآلات.

٤٩

لكل عاقل ، والثاني لكل ناظر ، ووجوب اصطلاح المريد من غيره ما يعلم أو يظن كونه مؤثراً في اختياره ، ولوجوب تمكينه.

وعلمنا بأنّه تعالى لايخل بواجب في حكمته ، وظهور الغرض الحكمي في أكثرها أوجده سبحانه على جهة التفضل ، وثبوت ذلك على الجملة فيما لايظهر لنا تفصيل المراد به كأفعال سائر الحكماء.

وحسن التكليف لكونه تعريضا لما لايوصل إليه إلا به من الثواب.

وكون التعريض للشيء في حكم ايصاله من حسن وقبح ، لأنه لا حسبة له بحسن التكليف غيره ، وعلمه سبحانه بكفر المكلف أو فسقه لا يقتضي قبح تكليفه ، لكونه تعالى مزيحاً لعلته ومحسنا إليه كإحسانه إلى من علم من حاله انه يؤمن ، اُتي من قبل نفسه فالتبعة عليه دون مكلفه سبحانه.

وحسن جميع ما فعله تعالى من الالام أو فعل بأمره أو إباحته ، لما فيه من الاعتبار المخرج له من العيب ، والعوض الزائد المخرج له عن قبيل الظلم والاساءة ، إلى حيز العدل والاحسان.

ووجوب الانتصاف للمظلوم من الظالم ، لوقوع الظلم عن تمكينه تعالى ، وانكان كارها له تعالى.

ووجوب الرئاسة ، لكون المكلف عندها أقرب من الصلاح ، وأبعد من الفساد.

ووجوب ماله هذه الصفة لكونه لطفاً ، ووقوف هذا اللطف على رئيس لا رئيس له ، لفساد القول بوجود ما لا نهاية له من الرؤساء ، ومنع الواجب في حكمته تعالى.

ولا يكون كذلك إلاّ بكونه معصوما ، كون الرئيس أفضل الرعية وأعلمها لكونه إماما لها في ذلك ، وقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه.

ووجوب نصبه بالمعجزات والنص المشير. (١) إليه ، لوجوب كونه على صفات لا سبيل إليها إلاّ ببيان علام الغيوب سبحانه.

وهذه الرئاسة قد تكون نبوة ، وقد تكون إمامة ليست بنبوة.

فالنبي هو المؤدي عن اللّه سبحانه بغير واسطة من البشر ، والغرض في تعينه بيان

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : المشير.

٥٠

المصالح من المفاسد.

والدلالة على حسن البعثة لذلك قيام البرهان على وجوب بيان المصالح والمفاسد للمكلّف في حق المكلّف ، فلا بد متى علم سبحانه ماله هذه الصفة من بعثه مبيناً له ، ولابد من الموت (١) المبعوث معصوماً فيما يرد به من حيث كان الغرض في تعينه ليعلم المكلف المصالح والمفاسد من جهته ، فلو جاز عليه الخطأ فيما يؤديه لارتفعت الثقة بادائه ، وقبح العمل بأوامره واجتناب نواهيه.

ولابد من كونه معصوماً من القبائح ، لوجوب تعظيمه على الإطلاق وقبح ذمه ، والحكم بكفر المستخف خيط به مع وجوب ذم فاعل القبيح.

ولا يعلم صدقه إلا بالعجز ، ويفتقر إلى شروط ثلا ثة :

أولها : أن يكون خارقاً للعادة ، لأنه إن كان معتاداً ـ وإن تعذر جنسه ـ كخلق الولد عند الوطء ، وطلوع الشمس من المشرق ، والمطر في زمان مخصوص ، لم يقف على مدع من مدع.

وطريق العلم بكونه خارقاً للعادة ، اعتبار حكمها وما يقع فيها ويميزه من ذلك على وجه لا لبس فيه ، أو بحصول تحد وتوفر دواعي المتحدي وخلوصا (٢) وتعذر معارضته.

وثانيها : أن يكون من فعله تعالى ، لأن من عداه سبحانه يصح منه ايثار القبيح فلا يؤمن منه تصديق الكذاب ، وطريق العلم بكونه من فعله تعالى ، أن يكون متعدد الجنس كالجواهر والحياة وغيرهما من الأجناس الخارجة من مقدور المحدثين ، أو يقع بعض الاجناس المختصة بالعباد على وجه لايمكن إضافته إلا إليه سبحانه.

ثالثها : أن يكون مطابقاً للدعوى ، لأنه إن كان منفصلاً عنها لم يكن مدع أولى به من مدع ، وطريق ذلك المشاهدة أو خبرالصادق.

فتمى تكاملت هذه الشروط ثبت كونه معجزا ، إذ (لاصدق من) (٣) اقترن ظهوره بدعواه لأنه جار مجرى قوله تعالى : صدق هذا عليَّ فيما يؤديه عني ، وهو تعالى لايصدق الكذابين.

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : كون.

٢ ـ كذا ، ولعل الصواب : وخلوصه.

٣ ـ كذا ، ولعل الصواب : لا أصدَقَ ممّن.

٥١

فإذا علم صدقه بالمعجز ، وجب اتباعه فيما يدعو إليه ، والقطع على كونه مصلحة ، وينهى (١) عنه والقطع بكونه مفسدة.

ولا طريق إلى نبوة أحد من الانبياء عليهم‌السلام الان ، إلا من جهة نبينا صلوات اللّه عليه وآله ، لانسداد طريق التواتر بشيء من معجزاتهم بنقل من عدا المسلمين لفقد العلم باتصال الأزمنة مشتملة على متواترين فيها بشيءٍ من المعجزات ، وتعذر تعين الناقلين لها.

وطريق العلم بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله القران وما عداه من الايات ، ووجه الاستدلال به ، أنه تحداهم به على وجه لم يبق لهم صارف عن معارضته ، فتعذرت على وجه لايمكن اسناده إلى غير عجزهم ، اما لأنه في نفسه معجز ، أو لأن اللّه سبحانه صرفهم عن معارضته ، اذ كل واحد من الأمرين دال على صدقه.

وقد تضمن القران ذكر أنبياء على جهة التفصيل والجملة ، فيجب لذلك ألتدين بنبوتهم ، وكونهم على الصفات التي يجب كون النبي عليها.

وان رسول اللّه صلوات اللّه عليه أفضلهم وخاتمهم والناسخ لشرائعهم ، بشريعة يجب العلم والعمل بها إلى يوم القيامة.

والامام هو الرئيس المتقدم المقتدى بقوله وفعله والغرض في نصبه فيه من اللطف للرعية في تكاليفهم العقلية ، ويجوز أن يكون نائبا عن نبي أو إمام في تبليغ شريعة.

ومتى كان كذلك فلابد من كونه عالما بجميعها ، لقبح تكليفه الاداء وتكليف الرجوع إليه ، مع فقد العلم بما يؤديه ويرجع إليه فيه.

ويجب أن يكون معصوما في ادائه ، لكونه قدوة ، ولتسكن النفوس إليه ، لتسلم بعظمة الواجب خلوصه من الإستخفاف.

ويجب أن يكون عابدا زاهداً لكونه قدوة فيهما ، وإن كان مكلفاً [ ب ] (٢) جهاد أوجب كونه أشجع الرعية لكونه فئة لهم.

ويجوز من طريق العقل أن يبعث اللّه سبحانه إلى كل واحد من المكلفين نبياً وينصب له رئيساً ويكون ذلك في الأزمنة ، وإنما ارتفع هذا ألجائز في شريعتنا ، بحصول

__________________

١ ـ لعل الصواب : وفيما ينهى.

٢ ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٥٢

العلم من دين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله : أن لا نيي بعده ، ولا إمام في الزمان الا واحد.

ووضح البرهان على تخصيص الإمامة بعده بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، والحسن ، والحسين ، علي بن الحسين ، ومحمد بن علي ، وجعفر بن محمد ، وموسى بن جعفر ، وعلي بن موسى ، ومحمد بن علي ، وعلي بن محمد ، والحسن بن علي ، والحجة بن الحسن صلوات اللّه عليهم.

لا إمامة لسواهم ، بدليل وجوب العصمة للأمام فيما يؤديه ومن (١) سائر الصالح (٢) ، وكونه أعلم الخلق وأعظمهم وأعدلهم وأزهدهم وأشجعهم ، وتعدى (٣) من عاداهم من منتحلي الإمامة من تكامل هذه الصفات دعوى ، وتخصصهم عليهم‌السلام وشيعتهم بدعواها لهم ، في ثبوت النص من الكتاب والسنة المعلومة على إمامتهم ، وتعريهما [ عن ] (٤) ذلك فيمن عداهم حسب ما ذكرناه في غير موضع ، وذلك مقتض لضلال المتقدم عليهم ، وكفر الشاك في إمامة واحد منهم.

وغيبة الحجة عليه‌السلام ليست بقادحة في إمامته ، لثبوتها بالبراهين التيلا شبهة فيها على متأمل ، وامان المكلف من خطأ به في ظهور فاستتار وغيرهما لعصمته.

ويلزم العلم بجملة الشريعة فعلاً وتركاً لكون ذلك جملة الايمان ، والعلم بتفصيل ما تعين فرضه منها وايقاعه للوجه الذي شرع على جهة القربة ، لكون ذلك شرطاً في صحته ، وبراءة الذمة منه ، واستحقاق الثواب عليه.

وهي على ضروب أربعة : فرائض ، ونوافل ، ومحرمات ، وأحكام.

فجهة وجوب الفرائض كون فعلها لطفاً في فعل الواجب العقلي. وترك القبيح ، وقبح تركها لأنه ترك الواجب.

وجهة الترغيب في السنن ، كونها لطفا في المندوب العقلي ولم يقبح تركها ، وكما لا يقبح ترك ماهي لطف فيه.

وجهه قبح المحرمات ، كونها مفسدة في ترك الواجب وفعل القبيح ، ووجب تركها لأنه ترك القبيح.

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : من.

٢ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : المصالح.

٣ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وتعرّي.

٤ ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٥٣

وجهة الأحكام ، ليعلم مكلفها الوجه الذي عليه يصح التصرف مما لايصبح.

فوضح ذلك علمنا ضرورة من حال فاعل العبادات الشرعية ومجتنب المحرمات كونه أقرب لنا ، للأنصاف والصدق وشكر النعمة وردّ الوديعة وسائر الواجبات ، والبعد من الظلم والكذب وسائر القبائح.

ومن حال فاعل المحرمات الشرعيات والمخل بالعبادات ، كونه أقرب [ من ] (١) القبيح العقلي وابعد من الواجب.

ولا شبهة أن من بلي بالتجارة فلم يعلم أحكام البيوع ، لم يكن على يقين منصحة التملك.

وكذلك من بلي بالإرث مع جهله بأحكام المواريث ، لايكون على ثقة مما يأخذ ويترك.

وكذلك يجري الحال في سائر الأحكام ، وقد استوفينا الكلام في هذا القدح في مقدمة كتاب (٢) « العمدة » و « التلخيص » في الفروع ، وفي كتابي « الكافي في التكليف » وفيما ذكرناه هاهنا بلغة ..

ولا طريق إلى اثبات الأحكام الشرعية والعمل بها إلا العلم دون الظن ، لكون التعبد بالشرائع مبنياً على المصالح التي لايوصل إليها بالظن ، ولا سبيل إلى العمل بجملتها إلا من جهة الأئمة المنصوبين لحفظها ، المعصومين في القيام بها ، المأمونين في ادائها ، لحصول العلم بذلك من دينهم لكل مخالط ، وارتفاع الخوف من كذبهم لثبوت عصمتهم عليهم‌السلام.

ولابد في هذه التكليف من داع وصارف ، وذلك مختص بالمستحق عليه من المدح والثواب والذم والعقاب والشكر.

فالمدح : هو القول المنبىء عن عظم حال الممدوح ، وهو مستحق بفعل الواجب والمندوب واجتناب القبيح.

والثواب : هوالنفع المستحق الواقع على جهة التعظيم والتبجيل ، وهو مستحق من الوجوه الثلاثة بشرط المشقة.

__________________

١ ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٢ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : كتابي.

٥٤

والذم : هوالقول المنبئ عن إيضاح حال المذموم ، وهو مستحق بفعل القبيح والإخلال بالواجب.

والعقاب : هوالضرب المستحق من الوجهين بشرط زائد.

والشكر : هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم ، وهومستحق بالإحسان خاصة.

والوجه في حسن التكليف ، كونه تعريضاً للثواب الذي من حقه ألا يحسن الابتداء به من دون العلم باستحقاق العقاب ودوامه.

وانما يعلم ان الثواب دائم والعقاب مستحق ودائم بالكفر ، ومنقطع بما دونه ، من جهة السمع.

والمستحق من الثواب ثابت لا يزيله شيء ، لأنه حق واجب في حكمته سبحانه ، لايجوز فيها منعه ، (والا سقوط بندم او زائد) (١) عقائد ، لاستحالة ذلك ، لعدم التنافي بين الثواب وبينهما لعدم الجميع ، وإحالة التنافي بين المعدومات.

وعقاب الفسق يجوز اسقاطه تفضلاً بعفو مبتدأ وعند الشفاعة لجوازه ، وعند التوبة لأنه حق له تعالى إليه قبضه واستيفاؤه ، واسقاطه إحسان إلى المعفو عنه.

وقد ورد الشرع مؤكداً لاحكام العقول ، فمن ذلك تمدحه سبحانه في غير موضع من كتابه بالعفو والغفران ، المختصين باسقاط المستحق في اللغة والشرع.

ولا وجه لهذا التمدح إلا بوجهه (٢) إلى فساق أهل الصلاة ، بخروج (٣) المؤمنين الذين لا ذنب لهم والكفار عنه باتفاق ، اذ لا ذنب لأولئك يغفر ، والعفو عن هؤلاء غير جائز.

ولأن ثواب المطيع دائم ، فمنع من دوام عقاب ما ليس بكفر ، لإجماع الاُمة على أنه لا يجتمع ثواب دائم وعقاب دائم لمكلف ، وفساد التخالط بين المستحقين مما (٤) بيناه.

ولا أحد قال بذلك ، إلا جوز سقوط عقاب العاصي بالعفو ، أو الشفاعة المجمع

__________________

١ ـ كذا في الأصل.

٢ ـ كذا ، ولعل الصواب : توجهه.

٣ ـ كذا ، ولعل الصواب : لخروج.

٤ ـ كذا ، والظا هر أن الصواب : بما.

٥٥

عليها ، ويخصصها بإسقاط العقاب ، ولا يقدح في ذلك خلاف المعتزلة ، لحدوثه بعد انعقاد الاجماع بخلافه.

وآيات الوعيد كلها وآيات الوعيد (١) مشترطة بالعفو ومخصصة بآيات العفو وعموم آيات الوعد ، ولثبوت ثواب المطيع وفساد التخالط ، وكون ذلك موجب التخصيصها بالكفار ان كان وعيدها دواماً أو كون عقابها منقطعا إن كان عاماً ، من حيث كان القول بعمومها للعصاة ودوام عقابها ينافي ماسلف من الأدلة.

والمؤمن : هو المصدق بجملة المعارف عن برهانها ، حسب ما خاطب به من لسان العرب ، المعلوم كون الايمان ـ فيه ـ تصديقا ، والكفر اسم لمن جحد المعارف أو شكفيها أو اعتقدها عن تقليد أو نظر لغير وجهه.

والفسق إسم لمن فعل قبيحا ، أو أخل بواجب من جهة العقل أو السمع ، لكونه خارجاً بذلك عن طاعة مكلفه سبحانه.

والفاسق في اللغة : هوالخارج ، [ و ] (٢) في عرف الشريعة هوالخارج عن طاعته سبحانه.

ومن جمع بين إيمان وفسق ، مؤمن على الاطلاق فاسق بما اتاه من القبيح ، لثبوت كل واحد منهما ، ومن ثبت إيمانه لا يجوزأن يكفر « لدوام ثواب الإيمان وعقاب الكفر وفساد اجتماعهما لمكلف واحد ، وثبوت المستحق منهما وعدم سقوطه بندم أوتحابط.

وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا) (٣) مختص بمن أظهر الايمان أو اعتقده لغيروجهه ، دون من ثبت إيمانه ، كقوله تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ) (٤) يعني مظاهرة (٥) للإيمان باتفاق ، ومدح المقطوع على إيمانه مطلق مقطوع بالثواب ، والمظهر مشترط بكون الباطن مطابقاً للظاهر واقعا موقعه.

وذم الكافر ولعنه مطلق ، مقطوع له بالعقاب الدائم.

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : الوعد.

٢ ـ أثبتناه ليستقيم السياق.

٣ ـ النساء ٤ : ١٣٧.

٤ ـ النساء ٤ : ٩٢.

٥ ـ كذا ، والظاهر انّ الصواب : مظهرة.

٥٦

وذم الفاسق مشترط الا بعفا (١) عن مستحقه ابتداءاً أو عند شفاعة ، وإذا ظهر كفر ممن كان على الإيمان ، وجب الحكم على ما مضى منه على المظاهرة (به النفاق) (٢) ، أو كونه حاصلاً عن تقليد ، أو عن نظر لغير وجهه ، لما بيناه من الأدلة الموجبة لذلك.

ولابد من انقطاع التكليف ، والا انتقض الغرض المجرى به إليه من التعريض للثواب ، ولا يعلم بالعقل كيفية انقطاعه وحال (٣) أيضاً أو جنسه وكيفية فعله ، وإنمايعلم ذلك بالسمع.

وقد حصل العلم من دينه صلى اللّه عليه ضرورةً ، ونطق القران بأن اللّه تعالى آخر بعد فناء كل شيء ، كما كان أولاً قبل وجود شيء ، حسب ما أخبرسبحانه من قوله : ( هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ ) (٤) ينشؤهم بعد ذلكُ ويحشرهم ليوم لا ريب فيه ، مستحق الثواب خالصاً والعقاب الدائم ، ليوصل كلاً منهما إلى مستحقه على الوجه الذي نص عليه تعالى ، ومن اجتمع له الاستحقاقان فإن (٥) يستوفي منه سبحانه ما يستحقه من العقاب ، أو يعفو عنه ابتداءاً ، أو عند شفاعة ، ثم يوصله إلى ثواب إيمانه وطاعاته الدائم والمولم (٦) به تعالى أو بغيره ، ليوصله إلى ما يستحقه من العوض عليه تعالى أوعلى غيره ، ثم يدخله الجنة إنكان من أهلها أو النار ، أو يبقيه ، أو يحرمه إن كان ممن لا يستحقها من البهائم والأطفال والمجانين ومن لا يستحق العوض ، ليتفضل عليه.

وهذا ـ اجمع ـ جائز من طريق العقل لتعلقه بمبتدئهم تعالى ، والنشأة الثانية أهون من الأولى ، وهي واجبة لما بيناه من وجوب ايصال كل مستحق إلى مستحقه من ثواب أو عقاب أو عوض.

ولا تكليف على أهل الآخرة باجماع ، ولأن العلم بحضور المستحق من الثواب والعقاب وفعله عقيب الطاعة والمعصية ملج ، والالجاء ينافي التكليف ، وأهل الآخرة

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر ان الصواب : باعفاء.

٢ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : بالنفاق.

٣ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : وحاله.

٤ ـ الحد يد ٥٧ : ٣.

٥ ـ كذا ، والظاهر أن الصواب : فإنه.

٦ ـ كذا.

٥٧

عالمون باللّه تعالى ضرورةً ، ليعلم المثاب والمعاقب والمعوض وصوله إلى ما يستحقه على وجهه ، ويعلم المتفضل عليه كون ذلك النفع نعمة له تعالى.

وقلنا أن هذه المعرفة ضرورية ، لأنا قد بينا سقوط تكليف أهل الآخرة ، فلم يبق مع وجوب كونهم عارفين إلا كون المعرفة ضرورية.

هذه جمل يقتضي كون العارف بها موقناً مستحقا للثواب الدائم وايصاله ، إليه ، ومرجوله العفو عما عداهما من الجوائر (١). ويوجب كفر من جهلها ، أوشيئاً منها ، أوشك فيها ، أو اعتقدها عن غير علم ، أو شيئاً منها ، أو لغير وجهها ، قد قربناها بغاية وسعنا ، من غير اخلال بشيء يؤثر جهله في ثبوت الايمان لمحصلها ، وإلى اللّه سبحانه الرغبة في توفير حظنا ـ ومن تأملها أو عمل بها ـ من ثوابه وجزيل عفوه ، بجوده وكرمه انه قريب مجيب. تم الكتاب.

* * *

__________________

١ ـ كذا ، والظاهر ان الصواب : الجرائر.

٥٨

ومن خطبة له في التوحيد (١)

ما وحّده من كيّفه ، ولا حقيقتَهُ أصاب من مثّله ، ولا إياه عنى من شبّهه ، ولاصمده من أشارإليه وتوهمه ، كل معروف بنفسه مصنوع ، وكل قائم في سواه معلول ، فاعل لا باضطراب آلةٍ ، مقدر لابجول فكرة ، غنيْ لا باستفادة ، لم لا تصحبه الأوقات ، ولا ترفده الأدوات ، سبق الأوقات كونه ، والعدم وجوده ، والابتداء ازله ، بتشعيره المشاعر عرف ألاّ مشعرله ، وبمضادته بين الاُمور عرف ألا ضد له ، وبمقارنته بين الأشياء عرف الاّقرين له ، ضاد النور بالظلمة ، والوضوح بالبهيمة ، والجمود بالبلل ، والحرور بالصرد ، مؤلفبين متعادياتها ، مقارن (٢) بين متبايناتها ، مقرب بين متباعداتها ، مفرق بين متدانياتها ، لا يُشمل (٣) بحد ، ولايحسب بعد ، وأنما تحد الادوات أنفسها ، وتشير الآلات (٤) إلى نظائرها ، منعتها (منذ) القدمية ، وحمتها (قد) الأزلية ، وجنبتها (لولا) التكملة ، [ بها ] (٥) تجلى صانعها للعقول ، و (٦) بها امتنع عن نظر العيون ، لايجري عليه السكون والحركة ، وكيف يجري عليه ما هو أجراه؟ ويعود فيه ما هو ابداه؟ ويحدث فيه ما هو أحدثه؟ إذاً لتفاوتت ذاته ، ولتجزأ كنهه ، ولامتنع من إلأزل معناه ، لو كان له وراء لوجد له امام ، ولا لتمس التمام اذ لزمه النقصان ، وإذاً لقامت آية المصنوع فيه ، ولتحول دليلاً بعد أن كان مدلولاً [ عليه ] (٧) ، وخرج بسلطان إلامتناع من أن يؤثر [ فيه ما يؤثر ] (٨) في غيره ، الذي لايحول (٩) ولا يزول ، ولا يجوزعليه الافوال ، لم يلدفيكون مولوداً ، ولم يولد فيكون (١٠) محدوداً ، جل عن اتخاذ الأبناء ، وطهرعن ملامسة النساء.

__________________

١ ـ رواها الشريف الرضي في نهح البلاغة ٢ : ١٤٢ / ١٨١ ، وقال : وتجمع هذه الخطبة من أصولالعلم مالا تجمعه خطبة غيرها.

٢ ـ في الأصل : مقارب ، وما أثبتناه من النهج.

٣ ـ في الأصل : لايشتمل ، وما أثبتناه من النهج.

٤ ـ في النهج : الالة.

٥ ـ أثبتناه من النهج.

٦ ـ في الأصل : في ، وما أثبتناه من النهج.

٧ ـ ٨ ـ أثبتناه من النهج.

٩ ـ في الأصل : لايحرك ، وما أثبتناه من النهج.

١٠ ـ في النهج : فيصير.

٥٩

لا تناله الأوهام فتقدره ، ولا تتوهمه الفطن فتصوره ، ولا تدركه الحواس فتحسه ، ولا تلمسه الأيدي فتمسه ، لايتغير بحال ، ولا يتبدل بالأحوال (١) ، لاتبليه الليالي والأيام ، ولا يغيره الضياء والظلام ، ولا يوصف بشيء من الاجزاء ، ولا بالجوارح والأعضاء ، ولا بعرض من الأعراض ، ولا بالغيرية والابعاض.

ولا يقال له حد (٢) ولا نهاية ، ولا انقطاع ولا غاية ، ولا ان الأشياء تحويه فتقله أوتهويه ، أو ان شيئاً يحمله فيميله أو يعدله ، ليس في الأشياء بوالج ولا عنها بخارج ، يخبر بلا لسان ولهوات ، ويسمع بلا خروق وأدوات ، يقول ولا يلفظ ، ويحفظ ولا يتحفظ ، ويريد ولا يضمر ، يحب ويرضى من غير رقة ، ويبغض ويغضب من غير مشقة.

يقول لما (٣) أراد كونه كن فيكون ، لابصوت يقرع ، ولانداء (٤) يسمع ، وإنما كلامه (٥) فعل منه أنشأه ومثله ، لم يكن من قبل ذلك كائناً ، ولوكان قديما لكان إلهاً ثانيأ لايقال كان بعد أن لم يكن فتجرى عليه الصفات المحدثات ، ولا يكون بينها وبينه فصل [ ولا له عليها فضل ، فيستوي الصانع والمصنوع ، ويتكافأ المبتدىء والبديع ] (٦).

خلق الخلائق على غير (٧) مثال خلا من غيره ، ولم يستعن على خلقها بأحد من خلقه.

وأنشأ الارض فأمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غيرقرار ، وأقامها بغير قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصنها من الأود والإعوجاج ، ومنعها من التهافت والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها ، واستفاض عيونها ، وخد أوديتها ، فلميهن ما بناه ، ولا ضعف ماقواه ، هو الظاهر عليها بسلطانه وعظمته ، وهو الباطن لها بعلمه ومعرفته ، والعالي [ على ] (٨) كل شيء منها بجلاله وعزته ، لا يعجزه شيء منها يطلبه (٩) ،

__________________

١ ـ في الأصل ، : من الأحوال ، وما أثبتناه من النهج.

٢ ـ في الأصل : عد ، وما أثبتناه من النهج.

٣ ـ في النهج : لمن.

٤ ـ في النهج : ولا بنداء.

٥ ـ في النهج زيادة : سبحانه.

٦ ـ أثبتناه من النهج.

٧ ـ في الأصل : خير ، وما أثبتناه من النهج.

٨ ـ أثبتناه من النهج.

٩ ـ في النهج : طلبه.

٦٠