التّفسير القرآني للقرآن - ج ٦

عبدالكريم الخطيب

التّفسير القرآني للقرآن - ج ٦

المؤلف:

عبدالكريم الخطيب


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الفكر العربي
المطبعة: مطبعة السنة المحمديّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٢٢

١

____________________________________

الآيات : (٩٣ ـ ٩٩)

(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٩٣) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٩٤) سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٥) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٩٦) الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٩٧) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٩٨) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٩٩)

____________________________________

التفسير : فى الآية السابقة على هذه الآيات ، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى ، وعن الذين لا يجدون ما ينفقون ، إذا هم لم يكونوا فى موكب المجاهدين الذين يلقون العدوّ فى ميدان القتال ، إذ كانوا ومعهم أعذارهم التي تحول

٢

بينهم وبين القيام بهذا الأمر الذي ندب الله سبحانه وتعالى المؤمنين له .. (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ... ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) .. (الآية ٩١).

وفى هذه الآية : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ) اتهام ومؤاخذة لمن تخلّفوا عن الجهاد ، ولا عذر لهم .. لأنهم قادرون ـ بأشخاصهم على أداء هذا الواجب المفروض عليهم ، فهم ليسوا ضعفاء ، أو مرضى ، وهم قادرون بأموالهم على أن يجدوا الزاد الذي يتزودون به للسفر .. من طعام ، وحمولة ، وسلاح ..!

وعلّة واحدة لا غير ، هى التي قعدت بهم عن أن يكونوا فى المجاهدين ، هى أنهم «رضوا بأن يكونوا مع الخوالف» .. إنه لا شىء يقعدهم عن هذا الأمر إلا إيثارهم العافية والسلامة لأنفسهم ، وإلّا ضنّهم بالمال وبالجهد عن البذل فى سبيل الله .. وذلك خذلان منهم لله ، فكان أن خذلهم الله ، «وطبع الله على قلوبهم» فلم يروا بها سوء ما هم عليه .. «فهم لا يعلمون» ما وقع عليهم من غبن فى هذا الموقف الذي وقفوه من أمر الله ، والجهاد فى سبيل الله ..

وفى مخالفة النظم لمقتضى السياق ، فى قوله تعالى : «إنما السبيل» إذ كان من مقتضى السياق أن يكون : «إنما الحرج» ـ فى هذا ما يشير إلى ما بين الحالين من اختلاف ..

فالضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون ـ هؤلاء ومن على شاكلتهم ، واقعون تحت عفو الله ، غير مطالبين بما هو مطلوب من أهل القوة والصحة والغنى .. فلا حرج عليهم ، ولا جناح ، إذا هم كانوا من المتخلفين ..

أما هؤلاء الأغنياء الذين تخلّفوا عن قدرة ، فهم فى مقام المؤاخذة ، وفى معرض الجزاء والعقاب ، ومن هنا كان السبيل مفتوحا ، والطريق مكشوفا

٣

للجزاء الذي هم أهل له ، وللعقاب الذي لا بدّ هو واقع بهم ، إن عاجلا وإن آجلا ...

ويشهد لهذا المعنى ، قوله تعالى : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) (٤٢ : الشورى) .. فهؤلاء الذين يظلمون الناس ويبغون فى الأرض بغير الحق ، قد عرّضوا أنفسهم للنقمة والبلاء ، وإنّه لا عاصم لهم يدفع عنهم هذا البلاء الذي سيحل بهم .. وقوله سبحانه : (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) (٩٠ : النساء) أي أن هؤلاء الكافرين الذين اعتزلوا القتال الذي بين المسلمين وبين الكافرين ، وفاءوا إلى السّلم ، ولم يبسطوا أيديهم أو ألسنتهم بأذى للمسلمين ـ فليس للمسلمين سبيل إلى قتالهم ..

فانظر فى وجه هذا الكلام المشرق ، تجد أنه كلام ـ وإن أخذ من أفواه الناس ـ قد نظمته بد القدرة ، وجاءت به على هذا الإعجاز المبين .. فسبحان سبحان من هذا كلامه.

وقوله تعالى : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ .. قَدْ نَبَّأَنَا اللهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

هو إخبار للنبىّ والمؤمنين ، وإنذار للمنافقين وذوى الأعذار الكاذبة ، إخبار بما سيكون من هؤلاء المنافقين والمعذّرين حين يلقون النبىّ والمؤمنين بعد عودتهم من غزوة تبوك ـ بما لفّقوا من أعذار ، وما نسجوا من أكاذيب ، يبرّرون بها تخلفهم عن الجهاد مع المجاهدين.

٤

وقد أمر الله النبىّ والمؤمنين أن يبهتوا هؤلاء المعذّرين ، وأن يفضحوهم على رءوس الأشهاد .. (لا تَعْتَذِرُوا .. لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ) .. أي لن نصدّق ما تعتذرون به ، ولن نقبله .. وليس هذا مما يشهد به حالكم ، وتفضحه ألسنتكم وحسب ، وإنما هو مما علمه الله منكم ، وأطلع نبيّه عليه : «قد نبأنا الله من أخباركم».

* ـ وقوله تعالى : (وَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) أي سيرى الله ورسوله ما يكون منكم بعد هذا من مواقف حيال الإسلام والمسلمين ، من بغى وعدوان ، ومخادعة ونفاق ، أو مسالمة وسلام ..

ومعنى الرؤية هنا ، العلم القائم على واقع الحال ..

وهذا ما جعل الرؤية معلقة على المستقبل : «وسيرى الله عملكم ورسوله» أي فى حال تلبّسهم بما يعملون. أما رؤية الله سبحانه فهى مطلقة تشمل الزمان والمكان جميعا ..

ـ وقوله سبحانه : (ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) تهديد لهؤلاء المعذّرين ، بوضعهم تحت المراقبة التي لا تغفل ، والتي تعلم سرّهم وجهرهم ، وتأخذهم جميعا بما عملوا ، فلا يفلت منهم أحد.

قوله تعالى : (سَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ).

يكشف عمّا فى وجوه المنافقين من صفاقة ، وأنهم لا يكترثون كثيرا بما يحببهم به النبىّ والمؤمنون من ردّ وردع ، ومن تكذيب وبهت ..

٥

والمنافق لا يلبس أثواب النفاق إلّا إذا كان صفيقا ، لا يعرف الحياء سبيلا إليه ، ولو كان فى وجه المنافق شىء من الحياء ، لما رضى لنفسه أن يلقى الناس بشخص غير شخصه ، وبوجود غير وجوده!

وليس هكذا شأن المؤمن بالله .. إنه بإيمانه بالله ، واستناده إلى أقوى الأقوياء ، لا يرى فى هذا الوجود قوة يخشى بأسها ، أو يرهب سلطانها ، مادام مستمسكا بالحق ، مستقيما على طريق العدل والإحسان .. ورحم الله البوصيرى إذ يقول :

ومن تكن برسول الله نصرته

إن تلقه الأسد فى آجامها تجم

فالاستنصار برسول الله ، هو التمسك بالشريعة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه ، فذلك هو الإيمان بالله ، والله سبحانه وتعالى يقول : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ..)

وهكذا ، كل من استقام على طريق الحق ، يجد من نفسه القوة التي تنأى به عن سفساف الأمور ، وترفعه عن الدنايا ، فلا يأتى ما يخلّ بالمروءة ، أو يشين الشرف ..!

وليس هذا فى الإنسان وحده ، بل إنه فى عالم الحيوان .. فالحيوان الضعيف ، يقوّى ضعفه بالاحتيال والمخادعة .. على حين أن الحيوان القوى يأخذ فى حياته خطّا مستقيما واضحا .. وشتان بين الثعلب ، والأسد .. فذاك من ضعفه مخادع مخاتل ، وهذا من قوته ظاهر واضح. ذاك يأكل الجيف ولا يعافها ، وهذا يعفّ عن أن يلوّث فمه بالميتة وإن هلك جوعا ..!

وأكثر من هذا ، فإن عالم النبات يجرى على هذا الأسلوب من الحياة .. الشجرة القوية ، الطيبة ، لا تأوى إليها الهوام ، ولا تندس فيها الحشرات .. على حين

٦

أن الأشجار الواهية الضعيفة تكون مباءة للآفات ، ومرتعا للحشرات والهوامّ ..

وأكثر من هذا أيضا .. عالم الجماد تجد فيه هذه الظاهرة واضحة على أتمّها .. فالأرض الصلبة لا تشوّه وجهها الأخاديد والحفر ..! والمرتفع من الأرض لا يكون مستودعا للمياه الراكدة ، والمستنقعات .. وقمة الجبل لا تكون محطّا لخسيس الطير أبدا ..

القوّة أبدا .. هى موطن السلامة والعافية ، وهى مستودع الخير والحسن .. فإذا كانت القوة قوة منبعثة من إيمان يعمر القلب ، ويغذّى الوجدان ، كانت قوة كلّها خير ، ورحمة ، وإحسان.

والإيمان هو الزاد الذي يغذّى القوة الروحية فى الإنسان ، ذلك الزاد الذي تتجمع عناصره من الأعمال الصالحة التي نمت فى ظل الإيمان ، والتي تجمعها التقوى التي يقول الله سبحانه وتعالى فيها : (وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى)

فهؤلاء المنافقون الذين ردّهم النبىّ والمؤمنون ، وفضحوا ما جاءوا إليهم به من أعذار ـ هاهم أولاء يجيئون إلى النبىّ والمؤمنين بوجه آخر من وجوه نفاقهم ، يجيئون بأعذارهم تلك التي كذّبها الله ، وفضحها النبىّ والمؤمنون ، فيزكّونها بالحلف كما يذكّى الذابح البهيمة بالذبح ، بعد أن تموت وتتعفّن!!

وماذا يريدون بهذا الحلف الكاذب؟

يريدون أن يقبل النبىّ والمؤمنون أعذارهم ، وأن يصدقوا منهم هذا الكذب المفضوح ، وبهذا يتحقق لهم أمران :

الأمر الأول : عدم فقدان الثقة فى أنفسهم ، وفى تلك البضاعة التي يتعاملون بها ، لأنه لا وجود لهم إذا أفلت من بين أيديهم هذا الزاد الذي يعيشون فيه ، وبارت تلك البضاعة التي هى رأس مالهم فى الحياة ..

٧

وثانى الأمرين ـ وهو تبع للأمر الأول ـ أن يعرض النبىّ والمؤمنون عنهم ، فلا يأخذونهم باللّوم ، ولا يضعونهم موضع الاتهام ..

وقد دعا الله النبىّ والمؤمنين أن يعرضوا عنهم ، ولكن لا إعراض المصدّق أو المتسامح ، بل إعراض المشمئز المتقزّز النافر من شىء كريه ، تؤذيه رائحته : (إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) .. فإنهم لو سلموا من أذى النبىّ والمسلمين ، فلن يسلموا من عقاب الله ، ومن عذاب السعير المعدّ لهم ..

قوله تعالى : (يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ).

هو بيان لحلف يحلف به المنافقون ، يريدون به أكثر مما يريده الذين حلفوا منهم ، وكانوا يريدون به أن يعرض عنهم النبي والمؤمنون ، فلا ينالوهم بأذى ..

أما هؤلاء ، فإنهم يبغون بحلفهم أن يرضى النبىّ والمؤمنون عنهم ، وأن يخلطوهم بهم ..!

وقد أيأس الله المنافقين من أن ينالوا بحلفهم هذا الرضا الذي طلبوه ، وأنه حتى لو رضى النبي والمؤمنون عنهم ـ وهذا ما لا يكون أبدا ـ فلن يرضى الله عنهم : (فَإِنَّ اللهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) ..

قوله تعالى : (الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).

تشير الآية الكريمة هنا إلى ما للبيئة من أثر فى طبيعة الإنسان ، وفى رسم معالم شخصيته ، وتحديد مواقفه من الحياة.

٨

والبادية ، وما فيها من جفاف ، وجدب وقسوة ، قد طبعت الكائنات فيها ـ وبخاصة الإنسان ـ بطابعها الجاف الجديب القاسي .. وفى المثل : «من بدا جفا».

ومن هنا كانت الطبيعة الحادّة فى نفس البدوىّ ، ذاهبة به مذهب الغلوّ والتطرف ..

فالمنافقون من أهل البادية على نفاق أشد وأسوأ من نفاق سكان الحضر ..

وكذلك كفرهم .. هو كفر غليظ كثيف مغلق ، لا تطلع عليه ضوءة من الحق أبدا ، وإنهم لبعدهم عن مواقع الهدى من رسول الله ، ومن المؤمنين ، قد فاتهم خير كثير ، إذ لم يعلموا ما بين يدى الله ؛ من دين الله ، ومن شريعة الله .. ومن علم منهم شيئا من هذا ، لم يعلمه علم تحقق ويقين ..

وفى قوله تعالى : (وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) دعوة لهؤلاء الأعراب أن ينزعوا لباس البداوة ، وأن يخرجوا من حياتهم تلك ، إلى حياة الحضر ، وأن يقتربوا من مواطن العلم والمعرفة ، حيث يلقون رسول الله ، ويأخذون عنه ، ويخالطون المؤمنين ، ويحذون حذوهم .. فالله سبحانه «عليم حكيم» ولا يعرف الطريق إلى الله ، ويحسن التعامل معه ، إلا أهل العلم والحكمة ..

فالإسلام إذ يشنع على البداوة ، وإذ يصم أهلها بالنفاق الكريه ، والكفر الغليظ ، والجهل الفاضح ـ الإسلام بهذا يدعو إلى العمران ، ويحرض على المدنية ، ويبغض إلى الناس العزلة والوحشة وقبول الحياة ، كما هى ، من غير معالجة لأشيائها ، ووضع بصمة الإنسان العالم الحكيم عليها ..

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ

٩

بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)

الأعراب الذين دخلوا فى الإسلام على غير علم أو نظر ، لم يكن لهذا الدين أثر فى نفوسهم ، ولا لشريعته حساب فى ضمائرهم .. إنهم مسلمون ، وليسوا مؤمنين ، كما وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) .. (١٤ : الحجرات)

هؤلاء الأعراب إذا دعوا إلى الإنفاق فى سبيل الله ، بحكم أنهم مسلمون ، تجب عليهم الزكاة ، كما يجب عليهم الجهاد بالمال والنفس فى سبيل الله ـ إذا دعوا إلى الإنفاق لم ينفقوا إلا تحت هذا الحكم الملزم لهم ، لا عن طواعية واختيار ، ولهذا يعدّون ما ينفقون فى هذا الوجه مغرما ، لأنهم أنفقوه فى غير ما يشتهون ، فهم لهذا ينظرون إلى الوجه الذي أنفقوه فيه نظر حقد وكراهية ، ويتربصون بالمسلمين وبالمجاهدين الدوائر ، أي يتمنون لهم الهزيمة والضياع ، حتى لا يكون للإسلام يد عليهم تأخذ من أموالهم ما تأخذ من صدقات ..

والدوائر جمع دائرة ، وهى خط أشبه بالحلقة ، يدور حول نقطة ارتكاز فى وسطه .. وقد استعيرت للشر يقع بالإنسان أو الجماعة ، فى مجال الصراع مع قوة أخرى معادية ، فيقال دارت عليهم الدائرة ، أي هزموا ، وذلك يعنى أنهم قد أطبق عليهم العدوّ وأحكم عليهم إغلاق طريق الإفلات أو الفرار ، فكانوا وكأنّ العدوّ دائرة عليهم.

وقد ردّ الله على المنافقين الذين يتربصون بالمؤمنين الدائرة بقوله : (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) .. فقضى الله عليهم هذا القضاء ، وتوعدهم به ، وهو أن الدائرة التي ينتظرونها فى المسلمين ، لن تقع فى المسلمين ، الذين سيكتب الله

١٠

لهم العزة والغلب ، وإنما ستحلّ الدائرة بهؤلاء المنافقين ، وسينزل بهم الخزي والسوء.

وفى قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) تهديد لهؤلاء المنافقين بمراقبة الله سبحانه وتعالى لهم ، واطّلاعه على ما يسرّون وما يعلنون ، وأنه سبحانه مؤاخذهم بما كانوا يكسبون ..

قوله تعالى : (وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ .. أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ .. إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ليس الأعراب جميعا على حال سواء ، فإذا كانت الصحراء تنبت الشوك والحسك ، وتؤوي الوحوش والحيّات ، فإنها تخرج العرار (١) والريحان ، وتتحلّى بالظّباء والنّعام ..

وإذا كان فى أعراب البادية ، الجفاة ، وأهل الوحشة والجهالة ، فإن فيهم ذوى النفوس الرقيقة ، والقلوب المتفتحة ، والوجدانات الشفيفة .. التي تذوب رقة وعذوبة .. إن هؤلاء أشبه بالأنسام العليلة الرطبة ، التي تهمس بها أنفاس الصحراء بين الحين والحين فى آذان الأصائل والأشجار ، فتبعث الرّوح والعافية فى كيان الأحياء ، التي كادت تهلك من لفحات الهجير ، ووقدات السّموم! ..

ففى أعراب البادية الشعراء ، والحكماء ، وأصحاب الفراسة والألمعية التي تلمح بذكائها الفطري ما لا تلمحه العين المبصرة وراء المجهر ، وتكشف بصدق حدسها وظنّها من خفايا النفوس ، ما لا يكشفه عالم النفس بأدوات علمه ، ومقاييس فنّه.

والذين دخلوا الإسلام من هؤلاء الأعراب ، من ذوى النظر ، والحكمة ، قد عرفوا هذا الدّين معرفة كاشفة ، فازدادت به بصائرهم استضاءة وتألفا ،

__________________

(١) العرار : نبت طيب الريح.

١١

واستروحت منه قلوبهم روح الطمأنينة واليقين .. فصحبوا هذا الدين صحبة المؤاخاة والمخالطة ، وعايشوه معايشة الأمن والعافية ، وأمسكوا به إمساك الأرض الطيبة هو اطل الغيث السّخىّ .. فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج. فإذا أنفق هؤلاء المؤمنون من الأعراب نفقة فى سبيل الله احتسبوها قربات يتقربون بها إلى الله ، ويبتغون بها مرضاته ، ويلتمسون منها صلوات الله وبركات دعائه ..

وفى قوله تعالى : (وَصَلَواتِ الرَّسُولِ) بالعطف على قوله سبحانه : (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) إشارة إلى أن صلوات الرسول ، أي دعاءه لمن يقدّم له الصدقات ، هى مما يتقرب به المتقربون إلى الله .. فهى صدقات إلى صدقاتهم ، يضيفها الرسول إليهم لتزيد فى قربهم إلى الله ..

فلقد ، كان الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ يصلّى على المتصدق ، أي يدعو له ، بالخير ، والبركة ، وذلك امتثالا لقوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ..

وقوله تعالى : (أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ) هو توكيد للمفهوم الضمنى الذي أفاده عطف صلوات الرسول على قوله تعالى : (قُرُباتٍ عِنْدَ اللهِ) .. فهذه الصلوات والدعوات من الرسول هى قربة لهم عند الله ، بمعنى أن دعاء الرسول للمؤمن ، يعنى رضا الرسول عنه ، وهذا الرضا هو فى ذاته قربة عند الله للمؤمن ، ينال به رضا الله ومغفرته ، سواء أكان دعاء الرسول ورضاه عن نفقة أنفقها المؤمن ، أو عن كلمة طيبة قالها ، أو مسعى حميد سعى به بين المسلمين ، أو موقف كريم وقفه ، أو مشهد حسن شهده .. وقد دعا الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ لعثمان رضى الله عنه ، حين أنفق ما أنفق فى تجهيز جيش العسرة فقال : «اللهم ارض عن عثمان فإنى أصبحت عنه راضيا»! فكان عثمان بذلك أحد العشرة المبشرين بالجنّة.

١٢

وقوله تعالى : (سَيُدْخِلُهُمُ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ـ هو الجزاء الذي سيجزيه الله هؤلاء الذين أنفقوا فى سبيل الله ، فنالوا رضا الله عنهم ، ورضا رسوله ، وصلواته عليهم ..

____________________________________

الآيات : (١٠٠ ـ ١٠٦)

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(١٠٠) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (١٠١) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٠٢) خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٠٣) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٠٤) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (١٠٦)

____________________________________

التفسير : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ

١٣

خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنها تعرض صورة مشرقة للمؤمنين ، الذين يتجلّى عليهم الله سبحانه وتعالى برضوانه ، وينزلهم منازل فضله وإحسانه ، وذلك بعد أن عرض فى الآية السابقة عليها صورة مضيئة ، انبثقت من بين ظلام البداوة ، وطلعت من مهابّ سمومها وهجيرها ..

فالسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ـ هم الإنسانية الكريمة الوضيئة ، يتمثل فيهم كل ما يمكن أن تعطيه الإنسانية من ثمر طيّب مبارك .. فهم من الإنسانية بمنزلة هذه القلّة من أعراب البادية ، الذين خلصوا من كدر البادية ، وسلموا من أدرانها وأوضارها ..

والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار .. هم الذين سبقوا إلى الإسلام ، فكانوا الكوكبة الأولى التي تقدمت ركبه الميمون ، وكانوا الكواكب الدّريّة التي بين يد فجره الوليد .. أولئك هم الذين حملوا أعباء الدعوة الإسلامية ، واحتملوا ـ فى صبر ورضا ـ مواجهة العاصفة التي هبّت عليهم عانية مزمجرة ، تحمل فى كيانها جهالة الجاهلية ، وحماقاتها ، وسفاهاتها ، وعتوّها وضلالها .. فكان لهم عند الله هذا المكان الكريم ، وتلك المنزلة التي اختصهم بها ، وأفردهم فيها ..

فمن أراد أن يلحق بهم ويضاف إليهم ، فسبيله إلى ذلك أن يقفو أثرهم ، ويتبع سبيلهم ، ويحسن كما أحسنوا ، ويبلى كما أبلوا .. فذلك هو الثمن لمن يطلب رضا الله ، ويطمع فى أن يكون مع أحبابه وأصفيائه .. فيكون بهذا مضافا إليهم مع الذين اتبعوهم بإحسان.

وفى قوله تعالى : (بِإِحْسانٍ) هو قيد مؤكّد ، يكشف عن الإحسان الذي يكون من متابعة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والتأسّى بهم ..

١٤

فمتابعتهم هى إحسان ، وقوله تعالى : (بِإِحْسانٍ) هو توكيد لهذا الإحسان الذي تنطوى عليه المتابعة .. وهذا يعنى أن ما كان من السابقين من المهاجرين والأنصار ، هو إحسان كلّه ، فمن تابعهم ، وتأسّ بهم على ما كانوا عليه ، فهو محسن .. كل الإحسان!.

وقوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) هو عرض كاشف لمنزلة هؤلاء الصفوة من عباد الله ، وأنّ الله رضى عنهم ، بما كان منهم من إحسان ، وأنّهم رضوا ، بما أرضاهم الله به ، ونعموا فيه ..

وفى قوله تعالى : (وَرَضُوا عَنْهُ) رضوان فوق رضوان من عند الله ، يحفّهم به ، ويزيدهم نعيما إلى نعيم .. إذ جعل الله سبحانه وتعالى رضاهم عنه بما أعطاهم معادلا لرضاه عنهم ، حتى لكأنه سبحانه وتعالى ، يتبادل الرضا معهم ، فيرضى عنهم ، ويرضون عنه .. فسبحانه ، ما أعظم لطفه ، وما أوسع فضله ، وما أكرم عطاءه ، وأسبغ إحسانه!

قرئ : «والأنصار» بالرفع. على الاستئناف ..

وفى هذه القراءة يكون قوله تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ) مقصورا على المهاجرين وحدهم .. وهذه القراءة ينقضها التفسير العملىّ للآية الكريمة التي احتج بها أبو بكر رضى الله عنه على الأنصار ، وجعلها مستنده فى تقديم المهاجرين على الأنصار ، فقال فى خطبة «يوم السقيفة» مخاطبا الأنصار : «أسلمنا قبلكم ، وقدّمنا فى الكتاب عليكم ، فقال تعالى (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فنحن الأمراء ، وأنتم الوزراء ..

وهذا يعنى أن الأنصار شركاء للمهاجرين فى هذا الفضل ، الذي تطلب الخلافة به ، وأن المهاجرين إذا كانوا أولا ، فالأنصار ثانيا ، كما جاء ذكرهم فى

١٥

القرآن الكريم : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) فذكر المهاجرون أولا ، ثم الأنصار ثانيا ..

وإذا كانت واو العطف النحوية لا تفيد ترتيبا ، ولا تعقيبا ، فإن واو العطف القرآنية ، تفيد ترتيبا وتعقيبا .. هكذا دائما. فى كل مقام وقع فيه العطف بين متعاطفين أو أكثر ..

وأما قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ) .. فهو معطوف كذلك على ما قبله عطف نسق ، بمعنى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوا السابقين من المهاجرين والأنصار ، هم جميعا ممن رضى الله عنهم ورضوا عنه ، وأعدّ لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا .. وإن كان ثمة تفاضل فهو فى الدرجة ، وليس فى الرتبة.

والأنصار أعنى السابقين الأولين منهم ، وهم الذين بايعوا النبىّ بيعتى العقبة. الأولى والثانية قبل الهجرة ، والذين استجابوا له ، وأقاموا المجتمع الإسلامى الأول بالمدينة ، وكانوا حصن الإسلام والمسلمين ـ هؤلاء جديرون بأن يشاركوا المهاجرين الأولين منزلتهم ، وأن يزاحموهم بالمناكب عليها ، وإن كان فضل الله أوسع وأرحب من أن يقع فى رحابه زحام أو صدام ..

وكذلك الذين جاءوا من بعد المهاجرين الأولين والأنصار ، وسلكوا طريقهم ، وساروا سيرتهم ، هم جديرون بأن يلحقوا بهذا الركب الميمون ، وأن يكونوا منه غير بعيد ..

فإذا كانت مع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار آيات النبوّة ، ونفحات النبىّ ، فسبقوا إلى الإيمان ، ودانوا له ، وأعطوه ولاءهم كاملا ، حتى اشتمل عليهم ظاهرا وباطنا ، وكان حريّابهم أن يبلغوا من الصفاء والشفافية واليقين ما بلغوا ، مما تتقطع دونه الأعناق ـ إذا كان ذلك كذلك ، فإن الذين

١٦

يجيئون من بعدهم فى أجيال الإسلام المتعاقبة إلى يوم القيامة ، ويؤمنون إيمانا أقرب إلى إيمانهم ، ويأخذون سمتا مدانيا لسمتهم ـ هم أهل لأن يلحقوا بهم ، وأن ينزلوا منزلتهم ، إذ أنهم آمنوا وأحسنوا ، ولا نبوة بين أيديهم ، ولا نبىّ يملأ حياتهم هدى ونورا ..

يقول ابن مسعود رضى الله عنه : «إنّ أمر محمد كان بيّنا لمن رآه .. والذي لا إله غيره ما آمن مؤمن أفضل من إيمان بغيب ، ثم تلا قوله تعالى : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ* وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ* أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)

هذا وقد جاء ذكر هؤلاء الصفوة من المؤمنين ، من السابقين الأولين ، من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان ـ جاء ذكرهم على هذا الترتيب فى قوله تعالى : (لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ* وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (٨ ـ ١٠ : الحشر).

وهكذا الإسلام ، طريقه مفتوح دائما لأصحاب النفوس الطيبة ، والقلوب السليمة ، والعزائم الصادقة ، يرتادون فيه منازل الرضوان ، وينزلون منها حيث

١٧

يبلغ جهدهم ، وتحتمل عزماتهم .. وهكذا يدخل المسلمون جميعا ، بل الناس جميعا ، تحت قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) .. ففى ذلك فليتنافس المتنافسون ، ولهذا فليعمل العاملون .. قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ)

بعد هذه الصورة المشرقة التي عرضتها الآية السابقة لأهل السبق والإحسان وما أعدّ لهم من نعيم ، وما أسبغ عليهم من رضا ـ جاءت هذه الآية لتعرض صورة معتمة طامسة ، لأهل الزيغ والضلال ، وتكشف عن وجوه منكرة للإنسانية حين تفسد فطرتها ، وتشوه معالم إنسانيتها .. وذلك ليكون لهؤلاء المنافقين الضالين نظر فى أنفسهم ، ورجعة إلى ربهم ، إن كانت قد بقيت فيهم بقية صالحة لنظر واعتبار.

ففى الأعراب الذين حول المدينة منافقون ، وفى المدينة ذاتها منافقون .. وهؤلاء وأولئك جميعا قد مردوا على النفاق ، أي شبوا عليه ، ورضعوا أخلاقه وهم شباب مرد ، فمرنوا عليه ، وخف عليهم محمله ، إذ شب معهم وصار بعضا منهم ، أشبه بالجارحة من جوارحهم ..

وفى قوله تعالى (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ) تهديد ووعيد لأولئك المنافقين الذين برعوا فى النفاق ، وصاروا أساتذة فيه ، حتى لا يكاد يطلع عليهم أحد ، وهم يتعاملون به ، ويتعاطون كئوسه مترعة! ولكن الله يعلمهم ، وهو ـ سبحانه ـ الذي يتولى حسابهم ويأخذهم بذنوبهم ، بل ويفضحهم فى هذه الدنيا ، بما ينزل من آيات فيهم ..

* وقوله تعالى : (سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ) ..

اختلف المفسرون فى عذاب المنافقين مرتين .. ولم نجد عندهم ما نرضاه ونستريح إليه ..

١٨

ونقول ـ والله أعلم ـ : إن عذاب المنافقين مرتين هو فى النصر الذي يتحقق للإسلام ، وفى المغانم التي تمتلىء بها أيدى المسلمين ، هذا عذاب من أحد العذابين ، الذي تتقطع به قلوب المنافقين كمدا وحسرة .. أما العذاب الآخر ، فهو ما يصيبهم فى أنفسهم من بلاء على أيدى المؤمنين ، حيث يجرفهم تيار الإسلام ، ويزعج أمنهم وسلامتهم ، ويخرجهم من ديارهم وأموالهم كما حدث مع اليهود ..

أما العذاب العظيم الذي يردّون إليه بعد هذين العذابين ، فهو عذاب الآخرة ، (يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥٥ : العنكبوت)

قوله تعالى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

هو إشارة إلى صنف آخر من الذين نافقوا فى غزوة تبوك ، فتخلفوا عنها بأعذار ملفّقة ، وتعللوا بتعللات كاذبة ، وقد وقع فى أنفسهم النّدم على ما كان منهم ، وجاءوا إلى النبىّ معترفين بذنوبهم ، ومنهم الثلاثة الذين خلّفوا ، والذين ذكرهم الله بعد ذلك فى قوله سبحانه : (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا).

فهؤلاء المخلّفون ، قد خلطوا عملا صالحا كان منهم قبل هذا التخلف ، بآخر سيّىء ، هو هذا التخلف عن رسول الله وعن المؤمنين فى غزوة تبوك ..

ـ وفى قوله تعالى : (عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) دعوة لهم إلى المبادرة بالتوبة ، والانخلاع مما تلبّسوا به من خلاف لله ولرسوله. فإنهم إن أخلصوا نيّاتهم ، وأخلوا قلوبهم من وساوس النفاق ، ورجعوا إلى الله تائبين ـ كانوا بمعرض الصفح والمغفرة ، فإنهم يطلبون الصفح والمغفرة من رب غفور رحيم.

١٩

قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ـ هو تحريض للمؤمنين عامة ، ولهؤلاء المذنبين خاصة على البذل والإحسان فى سبيل الله ، فإن إنفاق المال فى سبيل الله هو عدل الجهاد بالنفس ، وهو تطهير للمتصدق ، وتزكية له من الأوضار والآثام التي تعلق به.

ـ وفى قوله سبحانه : (مِنْ أَمْوالِهِمْ) إشارة إلى أن المطلوب بذله فى وجوه الإحسان من المال ، هو بعضه لا كلّه ، وفى ذلك رحمة بالناس.

ـ وفى قوله تعالى : (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ـ أكثر من إشارة :

فأولا : أن فى صلاة النبىّ على المتصدّق ، ودعائه له ، مجازاة عاجلة بالإحسان ، يجد المتصدّق أثرها فى نفسه ، وبردها على قلبه ، فيشيع فى كيانه الرضا ، وتملأ قلبه السكينة.

وهذا أدب ينبغى أن يتأدب المسلمون به ، فيلقون إحسان المحسن بالحمد والشكران ، فإن ذلك أقلّ ما يجزى به ، والله سبحانه وتعالى يقول : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) .. وبهذا تتفتح النفوس للخير ، وتسخو الأيدى بالإحسان ..

وثانيا : أن الإحسان فى ذاته جدير بأن يحمد للمحسن فى كلّ إنسان ، سواء أصابه شىء من هذا الإحسان أم لم يصبه ، فهو عمل طيب ، وصنيع مبرور ، وكما ينبغى على المؤمن أن ينكر المنكر لذاته ، كذلك يجب عليه أن يحمد المعروف لذاته .. وبهذا يشيع فى الناس الخير ، وتتكاثر أعداد المتعاملين به.

٢٠