الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

الشيخ جعفر السبحاني

الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-00-2
الصفحات: ١٠٠

فهو طلب شيء من شخص مع الاعتراف بعبوديته المحضة ومأموريته الخاصة.

وأمّا أنّه طلب مفيد أو لا ، أو أنّه محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير جهة الشرك والتوحيد؟ فهو أمر خارج عن إطار هذا البحث الذي يتركز ـ كما أسلفنا ـ على بيان التوحيد والشرك في العبادة.

٣ ـ التعظيم لأولياء الله وقبورهم وتخليد ذكرياتهم.

فهل هذا العمل يوافق ملاك التوحيد أو يوافق ملاك الشرك؟

الجواب هو أنّ هذا العمل قد يكون توحيداً من وجه ، وقد يكون شركاً من وجه آخر.

فإن كان التعظيم والتكريم ـ بأيّ صورة كان ـ قد صدر عن الأشخاص تجاه أُولئك الأولياء بما أنّ هؤلاء الأولياء عِباد أبرار ، وقفوا حياتهم على الدعوة إلى الله ، وضحّوا بأنفسهم وأهليهم وأموالهم في سبيل الله ، وبذلوا في هداية البشرية كلّ غالٍ ورخيص ، فانّ مثل هذا التعظيم يوافق مواصفات التوحيد ، لأنّه تكريم عبدٍ من عباد الله لما أسداه من خدمة في سبيل الله ، مع الاعتراف بأنّه عبد لا يملك شيئاً إلّا ما ملّكه الله ، ولا يقدر على عمل إلّا بما أقدره الله عليه.

انّ مثل هذا التعظيم يوافق أصل التوحيد بمراتبه المختلفة دون أيّ شكّ.

وأمّا أنّه مفيد أو لا ، أو أنّه حلال أو حرام من جهة أُخرى غير جهة الشرك والتوحيد فخارج عن نطاق هذا البحث المهتم ببيان ما هو شرك وما هو ليس بشرك.

وأمّا إذا وقع التعظيم والتكريم للولي معتقداً بأنّه ـ حيّاً كان أو ميّتاً ـ مالك لواقعية الأُلوهية أو درجة منها ، أو أنّه واجد لمعنى الربوبيّة أو مرتبة منها ، فانّه ـ ولا شكّ ـ شرك وخروج عن جادة التوحيد.

٦١

٤ ـ الاستعانة بالأولياء :

فهل الاستعانة بالأولياء توافق التوحيد أم توافق الشرك؟ إنّ الإجابة على ذلك تتضح بعد عرض الاستعانة هذه على الميزان الذي أعطاه القرآن لنا ، فلو استعان أحد بولي ـ حيّاً كان أو ميتاً ـ على شيء موافق لما جرت عليه العادة أو مخالف للعادة كقلب العصا ثعباناً ، والميت حيّاً ، باعتقاد أنّ المستعان إله ، أو ربّ ، أو مفوّض إليه بعض مراتب التدبير والربوبية فذلك شرك دون جدال.

وأمّا إذا طلب منه كلّ ذلك أو بعضه بما أنّه عبد لا يقدر على شيء إلّا بما أقدره الله عليه ، وأعطاه وأنّه لا يفعل ما يفعل إلّا بإذن الله تعالى ، وإرادته ، فالاستعانة به وطلب العون منه حينئذٍ من صلب التوحيد ، من غير فرق بين أن يكون الولي المستعان به حيّاً أو ميّتاً ، وأن يكون العمل المطلوب منه عملاً عادياً أو خارقاً للعادة.

وأمّا أنّ المستعان قادر على الإعانة أو لا ، أو أنّ هذه الاستعانة مجدية أو لا ، وأنّ هذه الاستغاثة محلّلة أو محرمة ، من جهات أُخرى أو لا؟ فكلّ ذلك خارج عن إطار هذا البحث.

وقس عليه سائر ما يرد عليك من الموضوعات التي يتشدد فيها الوهابيون من غير سند سوى التقليد لابن تيمية أو ابن عبد الوهاب ، وهم يعتمدون على أقوال الرجال مكان الاعتماد على النصوص في الكتاب والسنّة فترى انّ استدلالاتهم تدور حول أقوالهم

* * *

لقد حصحص الحقّ وبانت الحقيقة بأجلى مظاهرها ولعلّه لم تبق لمجادل شبهة ، ولمرتاب ، شك ، غير أنّ هنا أُمورا ربما تطرح بصورة السؤال أو تدور في خلد القارئ الكريم فلنأت بها ، مع أجوبتها على وجه الايجاز.

٦٢

أسئلة وأجوبة

السؤال الأوّل

هل هناك من يفسّر العبادة على غرار ما مضى؟

الجواب

إنّ هناك جماعة من المحقّقين من يفسر العبادة بنحو ما تقدم ، منهم الأقطاب الأربعة للعلم والفضيلة من علماء النجف الأشرف والأزهر الشريف ، ونذكرهم حسب تقدم تاريخ وفاتهم.

١ ـ الشيخ جعفر كاشف الغطا (١١٥٦ ـ ١٢٢٨)

قال في كتابه الذي ألّفه رداً على رسالة عبد العزيز بن سعود :

لا ريب انّه لا يُراد بالعبادة (التي لا تكون إلّا لله ، ومن أتى بها لغير الله ، فقد كفر) مطلقُ الخضوع والخشوع والانقياد ، كما يظهر من كلام أهل اللغة ، وإلّا لزم كفر العبيد والأُجراء وجميعُ الخدّام للأُمراء ، بل كفر الأنبياء في خضوعهم للآباء ، وجميع من تواضع للاخوان ، أو لأحد من أصحاب الإحسان.

وإنّما الباعث على الكفر ، انقياد البعض لبعض العباد مع اعتقاد استحقاقهم ذلك بالاستقلال من دون توجه الأمر من الكريم المتعال ، وأنّ لهم تدبيراً واختياراً.

أين حال المسلمين مِنْ حال مَنْ جعل الآلهة ثلاثة ، أو اثنين ، واتخذ الملائكة أرباباً دون الله ، وبعض المخلوقين أنداداً وشركاء ، يعبدونها من دون الله أو

٦٣

مع الله ، إمّا لأهليتهم ، أو لترتب التقرب إلى الله زلفى ، من دون أمر الله لهم بذلك ، قال تعالى : (ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ). (يوسف / ٤٠)

اعلم انّ الألفاظ اللغوية والعرفية العامة ، قد تبقى على حالها من المعاني القديمة ، فتلك لا تحتاج إلى بيان ، سواء وردت في السنة والقرآن أم لا.

وأمّا إذا انقلبت عن المعاني الأوّلية إلى غيرها ، أو استعملت في المعاني الثانوية على وجه المجازية ، فهي من المجمل المحتاج إلى البيان ، كلفظ الصلاة ، والصيام ، والحجّ ، فانّه لو لم يبينها الشرع لبقيت على إجمالها ، حيث لا يراد منها مطلق الدعاء والإمساك والقصد ، بل معنى جديد تتوقف معرفته على بيان وتحديد.

ومن هذا القبيل ما نحن فيه من لفظ العبادة والدعاء ونحوهما ، فانّه لا يراد بهما في لحوق الشرك بهما ، المعنى القديم ، وإلّا لزم كفر الناس من يوم أدم إلى يومنا هذا ، لأنّ العبادة بمعنى الطاعة ، والدعاء بمعنى النداء والاستعانة بالمخلوق لا يخلو منها أحد.

ومن أطوع من العبد لسيّده ، والزوجة لزوجها ، والرعية لملوكهم ، ولا زالوا ينادونهم ويطلبونهم إعانتهم ومساعدتهم ، بل الرؤساء ، لم يزالوا يستغيثون بجنودهم وأتباعهم ويندبونهم.

فعلم انّه لا يراد بهذه المذكورات المعاني السابقات ، وتعينت إرادة المعاني الجديدة.

وقال في تحقيق الدعاء الذي هو مخّ العبادة : إن أُريد بدعوة غير الله والاستغاثة ، اسناد الأمر إلى المخلوق على انّه الفاعل المختار ، الذي تنتهي إليه المنافع والمضار ، فذلك من أقوال الكفار ، والمسلمون بجملتهم براء من هذه المقالة ، ومن قائلها ، وما أظن أنّ أحداً ممن في بلاد المسلمين يرى هذا الرأي ، ولا سمعناه من أحد إلى يومنا هذا.

٦٤

وإن أريد انّ المدعوّ والمستغاث به ، له اختيار وتصرّف في أمر الله ، فيحكم على الله ، فهذا أشدّ كفراً من الأوّل.

وإن أُريد دعاؤه والاستغاثة به ، للدعاء والشفاعة (أي ليدعوَ له أو يشفع له عند الله) ، فهذا من أعظم الطاعات ، وفيه محافظة على الآداب من كلّ الجهات.

وكون الدعاء عبادة إنّما يجري في قسم منه ، وهو الطلب من الخالق المدبّر الذي جلّ شأنه عن الأشياء والنظائر ، ولو جعلت كلّ دعاء عبادة ، للزم أن يكون دعاء زيد لاصلاح بعض الأُمور ، أو دفع بعض المحذور ، من قبيل الكفر. (١)

٢ ـ البلاغي النجفي (١٢٨٤ ـ ١٣٥٢ ه‍)

إنّ العلّامة الحجّة المحقّق ، الشيخ محمد جواد البلاغي النجفي قد قام بتفسير العبادة في تفسيره الشريف المسمى ب «آلاء الرحمن في تفسير القرآن» بنفس التعريف الذي ذكرناه فقد أدى حقّ المقال ونقتبس منه ما يلي :

لا يزال العوام والخواص يستعملون لفظ العبادة على رِسْلِهم ومجرى مرتكزاتهم على طرز واحد كما يفهمون ذلك المعنى بالتبادر ، ويعرفون بذوقهم مجازه ووجه التجوز فيه. وإنّ المحور الذي يدور عليه استعمالهم وتبادرهم هو أنّ العبادة ما يرونه مشعراً بالخضوع لمن يتخذه الخاضع إلهاً ليوفيه بذلك ما يراه له من حقّ الامتياز بالالهيّة. أو بعنوان أنّه رمز أو مجسمة لمن يزعمه إلهاً ، تعالى الله عمّا يشركون. ولكن الخطأ والشرك أو البهتان والزور أو الخبط في التفسير وقع هنا في مقامات ثلاثة :

الأوّل : الإتيان بما تتحقّق به حقيقة العبادة لما ليس أهلاً لذلك بل هو مخلوق لله كعبادة الأوثان مثلاً.

__________________

(١) جعفر النجفي المعروف بكاشف الغطاء ، منهج الرشاد : ٨٦ ـ ٩١ بتلخيص.

٦٥

الثاني : مقام البهتان والافتراء وخدمة الأغراض الفاسدة لترويج التحزبات الأثيمة فيقولون لمن يوفي النبي أو الإمام شيئاً من الاحترام بعنوان أنّه عبد مخلوق لله ، مقرّب عنده لأنّه عبده وأطاعه ، أنّه عَبد ذلك المحترم وأشرك بالله في عبادته. ألا تدري لمن يبهتون بذلك ، يبهتون من يحترم النبي أو الإمام تقرباً إلى الله ، لأنّه اختاره وأكرمه بمقام الرسالة أو الإمامة التي هي بجعل الله وعهده كما وعد الله بذلك إبراهيم في قوله تعالى في سورة البقرة : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (البقرة / ١٢٤) وهذا الاحترام المعقول المشروع لا يقل عنه ولا يخرج من نوعه ما هو المعلوم والمشاهد من احترام هؤلاء المتحزبين ، لملوكهم ، وزعمائهم ، وحكّامهم ، وخضوعهم لهم بالقول والعمل.

المقام الثالث : كثيراً ما فُسِّرت العبادة بأنّها ضرب من الشكر ، مع ضرب من الخضوع ، أو الطاعة وهل يخفى عليك أنّ هذه التفاسير مبنيّة على التساهل بخصوصيات الاستعمال ، أو الارتباك في مقام التفسير ، وهل يخفى أنّ أغلب الأفراد من كلّ واحد ممّا ذكروه لا يراه الناس عبادة ويغلطون من يسمّيها أو بعضها عبادة إلّا على سبيل المجاز. وإنّ لفظ العبادة وما يشتق منه كَعَبَدَ ويَعْبُد لا تجدها مستعملة على وجه الحقيقة إلّا فيما ذكرناه من معاملة الإنسان لمن يتخذه إلهاً معاملة الإله ، المستحق لذلك بمقامه في الآلهة. (١)

٣ ـ القضاعي العزامي الشافعي (١٢٨٤ ـ ١٣٥٨ ه‍)

قد ألف العلّامة المدقق الشيخ سلامة القضاعي العزامي المصري كتاباً أسماه «فرقان القرآن بين صفات الخالق وصفات الأكوان» ، وطُبع في مقدمة

__________________

(١) البلاغي : آلاء الرحمن في تفسير القرآن ١ : ٥٧ ـ ٥٨.

٦٦

الأسماء والصفات للبيهقي وهو من أنفس ما كتب في هذا الموضوع ، وقد اشتمل بإيجازه على عقائد ابن تيمية ونقده بالعرض على الكتاب والسنّة غير أنّ أنصار الحشوية ، عمدوا في الآونة الأخيرة إلى إبعاد الكتاب عن متناول الطالبين فطبعوا كتاب البيهقي مجرّداً عن هذا التقديم. مع أنّه لا يقلّ عن ذيه لو لم نقل إنّه يزيد عليه وزناً وقيمة. فقد أفاض الكلام في معنى العبادة على وجه دقيق نقتبس منه ما يلي :

إنّ الغلط في تفسير العبادة ، المزلقةُ الكبرى والمزلَّة العظمى ، التي استحِلت بها دماء لا تحصى ، وانتهكت بها أعراض لا تعد ، وتقاطعت فيها أرحام أمر الله بها أن توصل ، عياذاً بالله من المزالق والفتن. ولا سيما فتن الشبهات. فاعلم أنّهم فسروا العبادة بالإتيان بأقصى غاية الخضوع ، وأرادوا بذلك المعنى اللغوي ، أمّا معناها الشرعي فهو أخصّ من هذا كما يظهر للمحقّق الصبّار على البحث من استقراء مواردها في الشرع ، فانّه الإتيان بأقصى غاية الخضوع قلباً ، باعتقاد ربوبية المخضوع له ، فإن انتفى ذلك الاعتقاد لم يكن ما أتى به من الخضوع الظاهري من العبادة شرعاً ، في كثير ولا قليل مهما كان المأتي به ولو سجوداً.

ومثل اعتقاد الربوبية اعتقاد خصيصة من خصائصها كالاستقلال بالنفع والضرّ ، وكنفوذ المشيئة لا محالة ولو بطريق الشفاعة لعابده عند الربّ الّذي هو أكبر من هذا المعبود. وإنّما كفر المشركون بسجودهم لأوثانهم ودعائهم إيّاهم ، وغيرهما من أنواع الخضوع لتحقّق هذا القيد فيهم ، وهو اعتقادهم ربوبية ما خضعوا له ، أو خاصة من خواصها كما سيأتيك تفصيله. ولا يصحّ أن يكون السجود لغير الله فضلاً عمّا دونه من أنواع الخضوع بدون هذا الاعتقاد ، عبادة شرعاً (كسجود الملائكة لآدم) ، فانّه حينئذٍ يكون كفراً وما هو كفر فلا يختلف باختلاف الشرائع ، ولا يأمر الله عزوجل به (قُلْ إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ) (الأعراف / ٢٨) (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) (الزمر / ٧) وذلك ظاهر إن شاء الله.

وها أنت ذا تسمع الله تعالى قد قال للملائكة : (اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا

٦٧

إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) (البقرة / ٣٤) وقال : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (الأعراف / ١٢) وقال : (أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء / ٦١) والقول بأنّ آدم كان قبلة قول لا يرضاه التحقيق ويرفضه التدقيق في فهم الآيات كما ينبغي أن تفهم.

فإن تعسّر عليك فهم هذا وهو ليس بعسير إن شاء الله تعالى ، فانظر إلى نفسك فانّه قد يقضي عليك أدبك مع أبيك واحترامك له أن لا تسمح لنفسك بالجلوس أو الاضطجاع بين يديه ، فتقف أو تقعد ساعة أو فوقها ، ولا يكون ذلك منك عبادة له ، لما ذا لأنّه لم يقارن هذا الفعل منك اعتقاد شيء من خصائص الربوبية فيه. وتقف في الصلاة قدر الفاتحة وتجلس فيها قدر التشهد وهو قدر دقيقة أو دقيقتين فيكون ذلك منك عبادة لمن صلّيتَ له ، وسرّ ذلك هو أنّ هذا الخضوع الممثّل في قيامك وقعودك يقارنه اعتقادك الربوبية لمن خضعتَ له عزوجل.

وتدعو رئيسك في عمل من الأعمال أو أميرك أن ينصرك على باغ عليك أو يغنيك من أزمة نزلت بك وأنت معتقد فيه انّه لا يستقل بجلب نفع أو دفع ضر ، ولكن الله جعله سبباً في مجرى العادة يقضي على يديه من ذلك ما يشاء فضلاً منه سبحانه ، فلا يكون ذلك منك عبادة لهذا المدعوّ ، وأنت على ما وصفنا ، فإن دعوتَه وأنت تعتقد فيه أنّه مستقل بالنفع ، أو الضرّ ، أو نافذ المشيئة مع الله لا محالة ، كنت له بذلك الدعاء عابداً ، وبهذه العبادة أشركته مع الله عزوجل لأنّك قد اعتقدت فيه خصيصة من خصائص الربوبية ، فانّ الاستقلال بالجلب أو الدفع ونفوذ المشيئة لا محالة هو من خصائص الربوبية ، والمشركون إنّما كفروا بسجودهم لأصنامهم ونحوه لاعتقادهم فيها الاستقلال بالنفع ، أو الضرّ ونفوذ مشيئتهم لا محالة مع الله تعالى ، ولو على سبيل الشفاعة عنده ، فانّهم يعتبرونه الربّ الأكبر ولمعبوداتهم ربوبية دون ربوبيته ، وبمقتضى ما لهم من الربوبية وجب لهم نفوذ

٦٨

المشيئة معه لا محالة.

ويدل لما قلنا آيات كثيرة كقوله تعالى : (أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ) (الملك / ٢٠) وقوله : (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ) (الأنبياء / ٤٣) والاستفهام في الآيتين إنكاري على سبيل التوبيخ لهم على ما اعتقدوه. وحكى الله عن قوم هود قولهم له عليه‌السلام : (إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (هود / ٥٤) وقوله لهم : (فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ* إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ...) (هود / ٥٥ ـ ٥٦) وكقوله تعالى موبخاً لهم يوم القيامة على ما اعتقدوه لها من الاستقلال بالنفع ووجوب نفوذ مشيئتها : (أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ) (الشعراء / ٩٢ ـ ٩٣) وقولهم وهم في النار يختصمون يخاطبون من اعتقدوا فيهم الربوبية وخصائصها : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (الشعراء / ٩٧ ـ ٩٨) فانظر إلى هذه التسوية التي اعترفوا بها حيث يصدق الكذوب ، ويندم المجرم حين لا ينفعه ندم. فانّ التسوية المذكورة إن كانت في إثبات شيء من صفات الربوبية فهو المطلوب ، ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم ، لأنّ صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها في سواه عزوجل. وإن كانت التسوية في استحقاقها للعبادة فهو يستلزم اعتقاد الاشتراك فيما به الاستحقاق ، وهو صفات الأُلوهية أو بعضها ، وإن كانت في العبادة نفسها فهي لا تكون من العاقل إلّا لمن يعتقد استحقاقه لها كربّ العالمين ، تعالى الله عمّا يشركون.

وكيف يُنفى عنهم اعتقاد الربوبية بآلهتهم وقد اتّخذوها أنداداً وأحبوها كحبّ الله كما قال تعالى فيهم : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (البقرة / ١٦٥) والأنداد جمع «ند» وهو على ما قاله أهل التفسير واللغة : المثل المساوى ، فهذا ينادي عليهم انّهم اعتقدوا فيها ضرباً من المساواة

٦٩

للحقّ تعالى عمّا يقولون. (؟؟)

* * *

٤ ـ فقيه العصر السيد الخوئي (١٣١٧ ـ ١٤١٢ ه‍)

إنّ للسيد الفقيه المحقّق السيد أبي القاسم الخوئي قدس‌سره كلاماً في العبادة في تفسير قوله سبحانه : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) نأتي به : قال : إنّ حقيقة العبادة خضوع العبد لربّه بما أنّه ربّه والقائم بأمره ، والربوبية تقتضي حضورَ الربّ لتربية مربوبه ، وتدبير شئونه. وكذلك الحال في الاستعانة فانّ حاجة الإنسان إلى إعانة ربّه وعدم استغنائه عنه في عبادته ، تقتضي حضورَ المعبود لتتحقّق منه الإعانة ، فلهذين الأمرين عدل السياق من الغيبة إلى الخطاب فالعبد حاضر بين يدي ربّه غير غائب عنه.

مما لا يرتاب فيه مسلم أنّ العبادة بمعنى التألّه ، تختص بالله سبحانه وحده ، وقد قلنا : إنّ هذا المعنى هو الذي ينصرف إليه لفظ العبادة عند الإطلاق ، وهذا هو التوحيد الذي أُرسلت به الرسل ، وأُنزلت لأجله الكتب :

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (آل عمران / ٦٤).

فالإيمان بالله تعالى لا يجتمع مع عبادة غيره ، سواء أنشأت هذه العبادة عن اعتقاد التعدد في الخالق ، وإنكار التوحيد في الذات ، أم نشأت عن الاعتقاد بأنّ الخلق معزولون عن الله فلا يصل إليه دعاؤهم ، وهم محتاجون إلى إله أو آلهة أُخرى تكون وسائط بينهم وبين الله يقربونهم إليه ، وشأنه في ذلك شأن الملوك وحفدتهم ، فانّ الملك لما كان بعيداً عن الرعية احتاجت إلى وسائط يقضون حوائجهم ، ويجيبون دعواتهم.

__________________

١ ـ الفقاعي العزامي المصري، فرقان القرآن:١١١ ـ ١١٤.

٧٠

وقد أبطل الله سبحانه كلا الاعتقادين في كتابه العزيز ، فقال تعالى في إبطال الاعتقاد بتعدد الآلهة :

(لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء / ٢٢) (وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون / ٩١).

وأمّا الاعتقاد الثاني ـ وهو إنّما ينشأ عن مقايسته بالملوك والزعماء من البشر ـ فقد أبطله الله بوجوه من البيان :

فتارة يطلب البرهان على هذه الدعوى ، وانّها ممّا لم يدل عليه دليل ، فقال :

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (النمل / ٦٤) (قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ* قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ* أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ* قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ) (الشعراء ٧١ ـ ٧٤).

وأُخرى بإرشادهم إلى ما يدركونه بحواسهم من أنّ ما يعبدونه لا يملك لهم ضرّاً ولا نفعاً ، والّذي لا يملك شيئاً من النفع والضرّ ، والقبض والبسط ، والإماتة والإحياء ، لا يكون إلّا مخلوقاً ضعيفاً ، ولا ينبغي أن يتخذ إلهاً معبوداً.

(قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (الأنبياء / ٦٦ ـ ٦٧). (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (المائدة / ٧٦) (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ) (الأعراف / ١٤٨) (١).

__________________

(١) السيد الخوئي : البيان في تفسير القرآن : ٤٥٥ ـ ٤٦٢.

٧١

السؤال الثاني

ما هو المراد من العبادة في هذه الآيات؟

إذا كانت العبادةُ هي الخضوع أمام موجود بما أنّه إله أو ربّ أو من بيده مصير الإنسان أو بيده أفعاله من شفاعة ومغفرة ، فما هو المراد منها في الآيات التالية التي لا يصحُّ تفسير العبادة فيها بالمعنى المذكور؟

قال سبحانه حاكياً عن الخليل عليه‌السلام :

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا) (مريم / ٤٤).

ومن المعلوم أنّ مخاطَبَ الخليل ، لم يكن يعبد الشيطان بالمعنى المذكور إذ لميتخذه إلهاً ورباً ، وإنّما كان يعبد التماثيل والأصنام بما أنّها آلهة وأرباب وهذا إن دلّ على شيء ، فإنّما يدل على أنّه يصحّ استعمالها في مورد لم يكن المخضوع له إلهاً ولا ربّاً لدى الخاضع.

وقال سبحانه :

(أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يس / ٦٠) وليس الشيطان عند الكفّار والعصاة إلهاً ولا ربّاً ، مع أنّه وصف الانقياد له بالعبادة.

وقال سبحانه :

(فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) (المؤمنون / ٤٧) ولم يكن بنو إسرائيل عبدةً لفرعونَ وقومه بالمعنى المطلوب وإنّما كانوا أذلّاء بأيديهم.

الجواب

أمّا الآية الأُولى ، فقد استعيرت العبادة فيها ، للطاعة العمياء ، للشيطان

٧٢

على الدوام ، فكان اتباعهم الشيطان في كل ما يأمر وينهى يمثِّل أنّهم اتّخذوه إلهاً وربّاً فأطاعوه كإطاعة المؤمنين لله على بصيرة من أمرهم بما انّه إلههم وربّهم. فكأنّ الخليل يخاطب آزر ويقول له : يا أبت لا تطع الشيطان فيما يأمرك به من عبادة الأصنام لأنّ الشيطان عصِيّ مقيم على معصية الله الّذي هو مصدر كلّ رحمة ونعمة ، فهو لا يأمر إلّا بما فيه معصيته والحرمان من رحمته.

ومثلها الآية الثانية ، فالمراد هو الطاعة فاستعيرت لها العبادة تبييناً لأمرها والمراد منها التبعيّة المطلقة العشوائية التي نهيت عنها في عدّة آيات بهذه اللفظة قال سبحانه : (كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (البقرة / ١٦٨) وقال تعالى : (ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) (البقرة / ٢٠٨) وقال عزّ من قائل : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ) (الحجّ / ٣).

وبالجملة : تبعيتهم للشيطان أو إطاعتهم للهوى والميول النفسانية ، يمثّل اتّخاذهم لها إلهاً ، أو ربّاً قال سبحانه : (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً) (الفرقان / ٤٣).

وقال عزّ من قائل : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (الجاثية / ٢٣) أي «انقاد لهواه كانقياده لإلهه ، فيرتكب ما يدعوه إليه ، نعم انّهم لم يتخذوا هواهم إلهاً حقيقة لكنّهم لمّا انقادوا حيثما قادهم الهوى ، فكأنّه صار إلهاً لهم.

ومثله قوله سبحانه : (أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) والمراد هو المعنى اللغوى المحض أي خاضعون ، متذللون ، ومنه أيضاً إطلاق المعبّد على الطريق الذي يكثر المرور عليه. والآية نظير قوله : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ) (الشعراء / ٢٢) أي جعلتهم أذلّاء تَذْبَح أبناءهم وتستحيي

٧٣

نساءهم.

وحصيلة البحث : أنّ استعمال العبادة في مورد الشيطان ، أو الإله في مورد الهوى من باب مجاز الاستعارة ، والغاية هو بيان فرط خضوعهم للشيطان أو الميول النفسانية ، وأمّا استعمالها في قوم موسى فالمقصود هو المعنى اللغوي.

وممّا ذكرنا تقف على مفاد العبادة في الحديث المعروف :

من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فإن نطق عن الله فقد عبد الله ، وإن نطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان. (١)

فقد استعيرت العبادة في الحديث للطاعة المطلقة التي نعبر عنها بالاستسلام المطلق فيتقبل السامع كلّما يلقيه فيكون مطيعاً في أوامره ونواهيه ، وفي مثل هذا الموقف بما أنّ الناطق مبلِّغ عن غيره فكأنّه مطيع للغير محقّاً كان أو مبطلاً.

السؤال الثالث

ما هو حكم إطاعة غير الله والخضوع له؟

قد تعرفت ـ فيما مضى ـ أنّ التوحيد في الطاعة من مراتب التوحيد وانّه لا مطاع إلّا الله سبحانه فيقع الكلام في إطاعة غيره فنقول هي على أقسام :

الأوّل : أن تكون طاعتُه بأمر من الله سبحانه كما هو الحال في إطاعة الرسول وخلفائه الطاهرين وهي في الحقيقة اطاعة لله ، قال سبحانه : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (النساء / ٨٠) وقال عزّ من قائل : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (النساء / ٦٤).

الثاني : أن تكون طاعته منهيّاً عنها كإطاعة الشيطان ومن يأمر بالعصيان

__________________

(١) الكليني : الكافي ٤ / ٤٣٤.

٧٤

قال سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً) (الأحزاب / ١) وقال عزّ من قائل : (وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما) (لقمان / ١٥)

الثالث : أن لا يتعلّق بها أمر ولا نهي في الشرع فتكون حينئذٍ جائزة غير واجبة ولا محرّمة كإطاعة الجندي لآمره ، والعامل لربّ عمل ، وهكذا إطاعة كلّ مرءوس لرئيسه في أيّ تجمع كان ، إذا لم يأمر بالحرام.

إنّ كلّ تجمع سواء كان عسكرياً أو مدنياً ، يتشكّل من أعضاء ذوي مراتب مختلفة ولا يصل إلى الغاية المنشودة إلّا إذا كانت بين الأعضاء درجات في مستويات الإمرة ، ففي مثل هذا التجمع تلزم الطاعة من العناصر المقومة للوصول إلى الغاية ، ولا تعد تلك الطاعة شركاً منافياً لحصر الطاعة في الله وذلك لأنّ الشارع أعطى حرية التعامل بين هذه المستويات بشرط أن لا يكون فيه تجاوز عن الحدود ، والطاعة بين المرءوس ورئيسه من لوازم انجاز الأعمال وتحقيق الغاية ضمن عقد اجتماعي ، وأين هي من طاعة الله سبحانه بما أنّه إله ، خالق ، ربّ.

* * *

وأمّا الخضوع للغير فهو على أقسام :

أحدها : الخضوع لمخلوق من دون أن يكون بينه وبين خالقه ، إضافة خاصة كخضوع الولد لوالده ، والخادم لسيده والمتعلم لمعلّمه وغير ذلك من الخضوع المتداول بين الناس ، وهذا الفرع من الخضوع جائز ما لم يرد فيه نهي كالسجود لغير الله قال سبحانه : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (الإسراء / ٢٤).

ثانيها : الخضوع للمخلوق باعتقاد أنّ له إضافة خاصة إلى الله يستحقّ من أجلها ، الخضوع له ، مع كون العقيدة خاطئة ، باطلة كخضوع أهل المذاهب

٧٥

الفاسدة لرؤسائهم ، فلا شكّ في أنّها حرام لكونها تشريعاً وإدخالاً في الدين لما ليس منه قال سبحانه : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً) (الكهف / ١٥).

ثالثها : الخضوع للمخلوق والتذلل له بأمر من الله وإرشاده ، كما في الخضوع للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأوصيائه الطاهرين عليهم‌السلام بل الخضوع لكلّ مؤمن ، أو كلّ ما له إضافة إلى الله توجب له المنزلة والحرمة ، كالمسجد الحرام ، والقرآن والحجر الأسود وما سواها من الشعائر الإلهية. وهذا القسم من الخضوع محبوب لله فقد قال تعالى : (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (المائدة / ٥٤).

بل هو لدى الحقيقة خضوع لله ، وإظهار للعبودية له فمن اعتقد بالوحدانية الخالصة لله ، واعتقد أنّ الإحياء والإماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والعقوبة كلّها بيده ، ثمّ اعتقد بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأوصياءه الكرام عليهم‌السلام (عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ) (الأنبياء / ٢٦ ـ ٢٧) فعظّمهم وخضع لهم ، تجليلاً لشأنهم وتعظيماً لمقامهم ، لم يخرج بذلك عن حدّ الإيمان ، ولم يعبد غير الله.

ولقد علم كلّ مسلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقبّل الحجر الأسود ، ويستلمه بيده إجلالاً لشأنه وتعظيماً لأمره. (١)

__________________

(١) السيد الخوئي : البيان : ٤٦٨ ـ ٤٦٩.

٧٦

السؤال الرابع

دواعي العبادة لله سبحانه

العبادة فعل اختياري للإنسان لا بدّ لصدوره من الإنسان من داعٍ وباعثٍ فما هو الداعي الصحيح لها؟

الجواب : العبادة فعل اختياري للإنسان لا بدّ من وجود داع إليه ويمكن أن يكون الباعث أحد الأُمور الثلاثة التالية :

١ و ٢ ـ الطمع في إنعامه والخوف من عقابه

وهذا هو الداعي العام في غالب الناس وقد أُشير إليهما في مجموعة من الآيات :

قال سبحانه : (تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً) (السجدة / ١٦) وقال عزّ من قائل :

(وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف / ٥٦).

وقال عزّ من قائل : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (الإسراء / ٥٧).

ومع هذه النصوص الرائعة الصريحة في تجويز عبادة الله بهذين الداعيين ، نرى أنّ بعض المتكلّمين يرفضون هذا النوع من الداعي ، ويُصرّون على لزوم خلوص العبادة من أيّ داع نفساني من غير فرق بين الطمع في رحمته ، أو الخوف من ناره ويبطلون العبادة إذا كانت ناشئة عن هذين المبدأين.

لا شكّ أنّ العبادة لأجل كمال المعبود وجماله من أفضل العبادات ، ولكنّها

٧٧

غاية لا يصل إليها إلّا من ارتاض في ميدان العبادة حتى ينسى نفسه ولا يرى إلّا معبوده ، وأين تلك الأُمنية من متناول أغلبية الناس الذين تهمهم أنفسهم لا غير ، وإن أطاعوه فلأجل الخوف.

وإليك حديثين رائعين عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام :

قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : إنّ قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار ، وإنّ قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد ، وإنّ قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار. (١)

وقال الإمام الصادق عليه‌السلام : العبادة ثلاثة ، قوم عبدوا الله عزوجل خوفاً فتلك عبادة العبيد ، وقوم عبدوا الله تبارك وتعالى طلب الثواب فتلك عبادة الأُجراء ، وقوم عبدوا الله عزوجل حبّاً له فتلك عبادة الأحرار ، وهي أفضل العبادة. (٢)

٣ ـ كونه سبحانه أهلاً للعبادة

أن يعبد الله بما أنّه أهل لأن يُعبد ، لكونه جامعاً لصفات الكمال والجمال ، وهذا النوع من الداعي يختص بالمخلصين من عباده الّذين لا يرون لأنفسهم إنّية ، ولا لذواتهم أمام خالقهم شخصية ، اندكت أنفسهم في ذات الله فلا ينظرون إلى شيء إلّا ويرون الله قبله ومعه وبعده ، فهم المخلَصون الّذين لا يطمع الشيطان في إغوائهم قال سبحانه حاكياً عن إبليس : (وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر / ١٩ ـ ٤٠) قال سيد الموحدين علي عليه‌السلام : «ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنتك ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتُك. (٣)

__________________

(١) نهج البلاغة ، قسم الحكم برقم ٢٣٧.

(٢) الحر العاملي : وسائل الشيعة ج ١ / ٤٤ ، ب ٨ من أبواب المقدمة ، الحديث ٨.

(٣) المجلسي : مرآة العقول ، ج ٨ ، ص ٨٩ : باب النيّة.

٧٨

خاتمة المطاف

الفوضى في التطبيق بين الإمام والمأموم

لقد ترك الإهمال في تفسير العبادة تفسيراً منطقياً ، فوضى كبيرة في مقام التطبيق بين الإمام والمأموم فنرى أنّ إمام الحنابلة أحمد بن حنبل (١٦٤ ـ ٢٤١ ه‍) صدر عن فطرة سليمة في تفسير العبادة ، وأفتى بجواز مسِّ منبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك به وبقبره وتقبيلهما عند ما سأله ولده عبد الله بن أحمد ، وقال : سألته عن الرجل يمسُّ منبرَ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتبرّك بمسِّه ، ويُقَبّله ، ويفعل بالقبر مثل ذلك ، يريد بذلك التقرّب إلى الله عزوجل؟ فقال : «لا بأس بذلك». (١)

هذه هي فتوى الإمام ـ الذي يفتخر بمنهجه أحمد بن تيمية ، وبعده محمّد بن عبد الوهاب ـ ولم ير بأساً بذلك ، لما عرفت من أنّ العبادة ليست مجرّد الخضوع ، فلا يكون مجرّد التوجّه إلى الأجسام والجمادات عبادة ، بل هي عبارة عن الخضوع نحو الشيء ، باعتبار أنّه إله أو ربّ ، أو بيده مصير الخاضع في عاجله وآجله ، وأمّا مسّ المنبر أو القبر وتقبيلهما لغاية التكريم والتعظيم لنبيّ التوحيد ، فلا يوصف بالعبادة ولا يتجاوز التبرّك به في المقام عن تبرّك يعقوب بقميص ابنه يوسف ، ولم يخطر بخلد أحد من المسلمين إلى اليوم الذي جاء فيه ابن تيمية بالبدع الجديدة ، أنّها عبادة لصاحب القميص والمنبر والقبر أو لنفس تلك الأشياء.

__________________

(١) أحمد بن حنبل ، العلل ومعرفة الرجال ٢ : ٤٩٢ ، برقم : ٣٢٤٣ ، تحقيق الدكتور وصي الله عباس ، ط بيروت ١٤٠٨.

٧٩

ولمّا كانت فتوى الإمام ثقيلة على محقّق الكتاب ، أو من علق عليه لأنّها تتناقض مع ما عليه الوهابية وتبطل أحلام ابن تيمية ، ومن لفَّ لفَّه ، حاول ذلك الكاتب أن يوفّق بين جواب الإمام وما عليه الوهابية في العصر الحاضر ، فقال : «أمّا مسّ منبر النبيّ فقد أثبت الإمام ابن تيمية في الجواب الباهر (ص ٤١) فعله عن ابن عمر دون غيره من الصحابة ، روى أبو بكر بن أبي شيبة في المصنف (٤ / ١٢١) عن زيد بن الحباب قال : حدّثني أبو مودود قال : حدّثني يزيد بن عبد الملك بن قسيط قال : رأيت نفراً من أصحاب النبيّ إذا خلا لهم المسجد قاموا إلى زمانة المنبر القرعاء فمسحوها ، ودعوا قال : ورأيت يزيد يفعل ذلك.

وهذا لما كان منبره الذي لامس جسمه الشريف ، أمّا الآن بعد ما تغيّر لا يقال بمشروعية مسحه تبركاً به».

ويلاحظ على هذا الكلام : بعد وجود التناقض بين ما نقل عن ابن تيمية من تخصيص المسّ بمنبر النبيّ بابن عمر ، وما نقله عن المصنف لابن أبي شيبة من مسح نفر من أصحاب النبيّ زمانة المنبر :

أوّلاً : لو كان جواز المسّ مختصّاً بالمنبر الذي لامسه جسم النبي الشريف دون ما لم يلامسه كان على الإمام المفتي أن يذكر القيدَ ، ولا يُطلق كلامَه ، حتى ولو افترضنا أنّ المنبر الموجود في المسجد النبوي في عصره كان نفسَ المنبر الذي لامسَه جسمُ النبيّ الأكرم ، وهذا لا يغيب عن ذهن المفتي ، إذ لو كان تقبيل أحد المنبرين نفس التوحيد ، وتقبيل المنبر الآخر عينَ الشرك ، لما جاز للمفتي أن يُغفل التقسيم والتصنيف.

وثانياً : أنّ ما يفسده هذا التحليل أكثر ممّا يصلحه ، وذلك لأنّ معناه أنّ لجسمه الشريف تأثيراً على المنبر ومن تبرّك به ، وهذا يناقض التوحيد الربوبي من أنّه لا مؤثّر في الكون إلّا الله سبحانه ، فكيف يعترف الوهابي بأنّ لجسمه

٨٠