الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

الشيخ جعفر السبحاني

الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-00-2
الصفحات: ١٠٠

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الأوّل فلا شيء قبله ، والآخر فلا شيء بعده ، الظاهر فلا شيء فوقه ، والباطن فلا شيء دونه ، وهو القائل عزّ اسمه وعلا سلطانه (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)

والصّلاة والسّلام على أشرف خليقته ، وخاتم رسله وأنبيائه محمّد أمين وحيه ورسالاته ، وعلى آله الّذين هم موضع سرّه ، وعيبة علمه ، وموئل حِكَمه صلاة طيّبة ، لا يحصيها العادّون.

أمّا بعد : فانّ الله سبحانه بعث رسوله الخاتم لإنجاز عدته ، وإتمام نبوّته ، مأخوذاً على النبيّين ميثاقه ، مشهورةً سماته ، كريماً ميلاده ، وأهل الأرض يومئذ مِلل متفرّقة ، وأهواء منتشرة ، وطرائق متشتّتة ، بين مشبِّهٍ لله بخلقه ، أو ملحد في اسمه ، أو مشيرٍ إلى غيره ، فهداهم من الضلالة ، وأنقذهم من الجهالة. (١)

بعثه سبحانه بمعجزته الخالدة ، فيها هدى ونور ، وشفاء لما في الصدور ، ولمنزل تشع نوراً ورحمة ، وسيباً وعطاءً لمن أنس بها ودرسها ، وخالطت جسمه وروحه وقلبه ودمه.

إنّ القرآن المجيد هو المعجزة الباقية عبر القرون إلى يوم القيامة ، مشتملة على معارف وحقائق لم تكن في زبر الأوّلين ، ولم تتجاوز عنها عباقرة المتأخرين ،

__________________

(١) اقتباس من خطبة الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، رقم ١.

٥

وبناءً على ذلك فمن قرأ القرآن وتدبّر ، وتلا آياته وفكّر ، أحسّ ـ عند ذاك ـ أنّه أمام بحر ليس له ساحل.

وإنّ من أبرز تعاليمه العالية ما أتى به حول التوحيد والشرك ، والتنزيه والتشبيه ، وربما يدور معظمها حول كلمات ثلاث ، أعني : الإله ، والربّ ، والعبادة.

ولمّا كان لها هذا الشأن العظيم ، فجدير بالمسلم الواعي أن يقف على معانيها ، ويحلّلها حسب ما ورد في القرآن الكريم ، ويزيل عنها الأغشية التي أحاطت بها عبر تمادي القرون.

فلأجل ذلك قمنا في هذه الرسالة ، بدراسة هذه الكلمات الثلاث ، في فصول أربعة مستنطقين الذكر الحكيم ، والسنّة النبوية الكريمة ، وكلمات علمائنا الأبرار من السلف الصالح ، والخلف السائر على ضوء نهجهم ، راجين أن تكون نبراساً للمحقّقين وذخراً ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلّا من أتى الله بقلب سليم.

جعفر السبحاني

٦ / صفر / ١٤١٧ ه‍. ق

٦

الفصل الأوّل

الإله في اللغة والقرآن الكريم

قد ورد لفظ (إِلهٍ) في القرآن الكريم بصوره المختلفة مفرداً وتثنية وجمعاً ، مضافاً وغير مضاف ١٤٧ مرّة ، كما أنّ لفظ الجلالة (للهِ) ورد فيه ٩٨٠ مرة ، وبما أنّ الثاني عَلَم ، فهو لا يثنّى ولا يجمع ولا يضاف ، بل يستعمل مفرداً مطلقا.

وكثرة ورودهما في الكتاب العزيز تُعرِب عن دورهما في مجال المعارف الإلهيّة ولعلّ الوقوف على مفهومهما مضافاً إلى لفظي الربّ والعبادة مفتاح لفهم جلّ المعارف القرآنيّة.

هل الإله بمعنى المعبود؟

قد اشتهر في الألسن أن الإله من «الَه» بمعنى عَبَدَ ، وأنّ الإله بمعنى المعبود ، وهذا وإن كان مشهوراً لكن لا تصدقه وحدة المادّة ولا القرآن الكريم وإليك الكلام في المقامين.

الإله في اللغة

أمّا الأُول : فلأنّ اللفظين (الله وإله) مأخوذان من مادة واحدة فلا بدّ أن يكونا بمعنى واحد غير أنّ الأوّل عَلَم دون الآخر ، ولا يتجاوز التفاوت بينهما هذا الحدّ ، فلفظ الجلالة مأخوذ من «إله» ، فحذفت منه الهمزة وحلّ مكانها اللام فصار «الله».

٧

يقول الزمخشري : الله ، أصله «الاه» ، قال الشاعر :

معاذ الإله أن تكون كظبية

ولا دمية ولا عقيلة ربرب (١)

ونظيره ، الناس ، أصله أُناس ، فحذفت الهمزة وعوضت عنها حرف التعريف.

ولذلك قيل في النداء يا الله بالقطع ، كما يقال يا إله ، والإله من أسماء الأجناس كرجل. (٢)

وقال سيبويه في تفسير لفظ الجلالة : انّ أصله «إلاه» على وزن فعال فحذفت الفاء التي هي الهمزة وجعلت الألف واللام عوضاً لازماً عنها ، بدلالة استجازتهم قطع هذه الهمزة (٣) الداخلة على لام التعريف في النداء في نحو قوله : يا الله اغفر لي ، ولو كانت غير عوض لم تثبت الهمزة في الوصل كما لم تثبت في غير هذا (٤) الاسم.

وقال الراغب في مفرداته : الله أصله إله فحذفت همزته وأُدخل عليه الألف واللام فخص بالباري ولتخصصه به قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (٥)

وعلى هذا فلا نحتاج إلى تفسير «إله» إلى شيء وراء تصور أنّ هذا اللفظ كليّ وما وضع عليه لفظ الجلالة ، وبما أنّ هذا اللفظ (الله) من أوضح المفاهيم فلا نحتاج في فهم اللفظ الموضوع للكلي من هذا الفرد إلى شيء آخر.

وعلى ذلك ، فلا فرق بينَ لفظ الجلالة ولفظ «إله» سوى أنّ أحدَهما علم والآخر موضوع لمعنى كليّ ، ومصداق لفظ الجلالة فرد منه ، وإن لم يوجد لهذا

__________________

(١) استعاذ الشاعر بالله من تشبيه حبيبه بالظبية أو الدمية ، والربرب هو السرب من الوحشي

(٢) الزمخشري : الكشاف ١ : ٣٠ في تفسير البسملة.

(٣) المقصود ثباتها عند دخول حرف النداء.

(٤) الطبرسي : مجمع البيان ١ : ١٩.

(٥) الراغب : المفردات : ٣١ ، مادة اله.

٨

الكلي فرد حقيقي سوى الله سبحانه.

نعم اخترعت الأوهام لهذا الكليّ مصاديقَ خاطئة تصوروا أنّها من مصاديقه ولكنّها آلهة كاذبة ليست لها من الأُلوهية سوى الاسم الذي أطلقوه عليها ، يقول سبحانه : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (النجم / ٢٣).

فإذا كان المتبادرُ من لفظ الجلالة شيء غير المعبود ، كواجب الوجود ، أو الذات الجامعة لصفات الجمال والكمال او خالق السماوات والأرض وما فيهنّ ومابينهنّ مدبّرها أو ما يقرب ممّا ذكر ، فليكن المتبادر من «الإله» هو ذلك غير أنّ أحدهما علم والآخر كلي.

ويؤيد وحدة مفهومها بالذات مضافاً إلى ما ذكرناه من وحدة المادة ، أنّه ربما يستعمل لفظ الجلالة مكان الإله بمعنى أنّه يستعمل في المعنى الكلي والوصفي دون العلمي فيصح وضعه مكان الإله كما في قوله سبحانه :

(وَهُوَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ) (الأنعام / ٣) ، فالآية تهدف إلى أنّ إله السماء هو إله الأرض وليس هناك آلهة بحسب الأنواع والأقوام ، فالضمير (هو) مبتدأ ولفظ الجلالة خبر والمعنى هو المتفرد بالإلهيّة في السماوات فوزانها وزان قوله سبحانه :

(وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) (الزخرف / ٨٤).

فانّ اللفظين في الآيتين بمعنى واحد ، بمعنى أنّ لفظ الجلالة في الآية الأُولى خرجَ عن العلمية وعاد إلى الكلّية والوصفية ، ولذلك صح جعله مكانَ الإله في الآية الأُولى ، وجيء بنفس لفظ الإله في الآية الثانية.

وقريب من هاتين الآيتين الآية التالية إذ يقول سبحانه :

٩

(وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) (النساء / ١٧١).

ومن المعلوم أنّ لفظ الجلالة في الآية منسلخ عن معنى العلمية لوضوح أنّ مصداق العلم واحد لا كثير فلا وجه للتركيز على انّه واحد ، فإذاً لا يصحّ التركيز إلّا بانسلاخ لفظ الجلالة عن معنى العلمية حتى يصحّ التأكيد على أنّ الله إله واحد.

نعم لقائل أن يقول : إنّ الإله في الآية بمعنى المعبود ، والهدف من التأكيد بالوحدانيّة ، أنّه لا معبود سواه ، فتكون النتيجة حصر المعبود الواحد فيه سبحانه.

ولكن التمعن في صدرها وذيلها ، لا يدعم ذلك الرأي وذلك لانّها بصدد إثبات توحيد الذات وإبطال التثليث كما عليه النصرانية في عصر الرسول وما بعده إلى يومنا هذا. فالمسيح عندهم جزء من العناصر الثلاثة التي تشكل إلهاً واحداً ويُشار إلى ذلك الواحد بلفظ الجلالة ، ففي ذلك الموقف الخطير الذي يريد فيه النصراني نفي توحيد الذات وإثبات كثرتها يُناسب التركيز على وحدة الذات ، وتوحيدها ، لا وحدة المعبود التي لا تصل النوبة إليها إلّا بعد الفراغ عن مسألة وحدة الذات وكثرتها قال سبحانه :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) (النساء / ١٧١).

قد صيغت الآية وكأنّها سبيكة واحدة ، لدحض مزعمة التثليث التي لا تتفق مع وحدانية الذات ولأجل ذلك يقول بعد قوله : (إِنَّمَا اللهُ إِلهٌ واحِدٌ) (سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) أي فهو موجود بسيط ، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) ، فكيف يكون له ولد ، وهو في غنى عن الولد ، وهو مالك لما في السماوات والأرض.

١٠

وكلّ عربي صميم إذا تجرد عن كلّ رأي مسبق ودعمِ أي مذهب ، لا يتلقى من الآية ، إلّا ما ذكرنا وانّ المقصود أنّه لا مصداق للإله الذي يعتقده الإنسان بقضاء الفطرة إلّا هو.

وهناك مجموعة من الآيات يمكن أن نستظهر منها ما قويناه وهو وحدة مفهوم اللفظين (الله ـ الإله) والاختلاف بينهما في الجزئية والكلية. قال سبحانه :

(هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ* هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*

هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الحشر / ٢٣ ـ ٢٤).

وأمّا كيفية الدلالة ، فبيانها : انّ مرجعَ الضمير في صدر الآيات هو الموجود الذي يعتقده الإنسان بقضاء الفطرة ويتوجه إليه في الشدائد والمصائب وتعبِّر عنه كلّ أُمة بلغتها ـ فعندئذٍ ، يكون مفاد الآية أنّ ذاك المعتقد العام (هو) ليس إلّا من له هذه الأوصاف.

(اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ...).

(اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ ...).

(اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ...) (الحشر / ٢٢ ـ ٢٤).

إلى غير ذلك من خصائص الإله.

فلا مناص في تفسير الآيات عن القول بانسلاخ لفظ الجلالة عن معنى العلمية ، وترادفه مع لفظ الإله حتى يقع وصفاً كسائر الأوصاف.

١١

مفهوم الإله في القرآن

قد تعرفت على معنى الإله في اللغة ، وحان حينُ البحث في المقام الثاني وهو مفهومه في القرآن الكريم نقول :

إنّ هنا آيات تدل بوضوح على أنّ الإله ليس بمعنى المعبود ، بل بمعنى المتصرف المدبر أو من بيده أزمّة الأمور ، أو ما يقرب من ذلك على وجه يميّزه عن الموجودات الإمكانيّة. وإليك بعض هذه الآيات :

١ ـ (لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا) (الأنبياء / ٢٢).

فانّ البرهان على نفي تعدد الآلهة لا يتم إلّا إذا جعلنا «الإله» في الآية بمعنى المتصرف ، المدبر أو من بيده أزمّة الأُمور أو ما يقرب من هذين. ولو جعلنا الإله بمعنى المعبود لانتقض البرهان ، لبداهة تعدد المعبود في هذا العالم ، مع عدم الفساد في النظام الكوني ، وقد كانت الحجاز يوم نزول هذه الآية مزدحمة بالآلهة ، ومركزاً لها وكان العالم منتظماً ، غير فاسد.

وعندئذٍ يجب على من يجعل «الإله» بمعنى المعبود أن يقيّده بلفظ «بالحق» أي لو كان فيهما معبودات ـ بالحق ـ لفسدتا ، ولما كان المعبود بالحقّ مدبِّراً ومتصرفاً لزم من تعدده فساد النظام وهذا كلّه تكلّف لا مبرّر له.

٢ ـ (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) (المؤمنون / ٩١).

ويتم هذا البرهان أيضاً إذا فسرنا الإله بما ذكرنا من أنّه كلي ما يطلق عليه لفظ الجلالة. وإن شئت قلت : إنّه كناية عن الخالق ، أو المدبّر ، المتصرف ، أو من يقوم بأفعاله وشئونه. والمناسب في هذا المقام هو الخالق. ويلزم من تعدده ما رتب عليه في الآية من ذهاب كلّ إله بما خلق واعتلاء بعضهم على بعض.

ولو جعلناه بمعنى المعبود لا نتقض البرهان ، لأنّه لا يلزم من تعدده أى

١٢

اختلال في الكون. وأدلّ دليل على ذلك هو المشاهدة. فإنّ في العالم آلهة متعددة ، وقد كان في أطراف الكعبة المشرفة ثلاثمائة وستون إلهاً ولم يقع أيّ فساد واختلال في الكون.

فيلزم على من يفسر (الإله) بالمعبود ارتكاب التكلّف بما ذكرناه في الآية المتقدمة.

٣ ـ (قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء / ٤٢).

فانّ ابتغاء السبيل إلى ذي العرش من لوازم تعدد الخالق أو المدبّر المتصرف أو من بيده أزمّة أمور الكون أو غير ذلك ممّا يرسمه في ذهننا معنى الأُلوهية ، وأمّا تعدد المعبود فلا يلزم ذلك إلّا بالتكلّف الذي أشرنا إليه فيما سبق.

٤ ـ (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ* لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها) (الأنبياء / ٩٨ ـ ٩٩).

والآية تستدل بورود الأصنام والأوثان في النار على أنّها ليست آلهة إذ لو كانوا آلهة ما وردوا النار.

والاستدلال إنّما يتم لو فسرنا الآلهة بما أشرنا إليه فانّ خالق العالم أو مدبّره والمتصرف فيه أو من فوض إليه أفعال الله أجلّ من أن يُحكَم عليه بالنار وأن يكون حصبَ جهنّم.

وهذا بخلاف ما إذا جعلناه بمعنى المعبود فلا يتم البرهان ، إذ لا ملازمة بين كونها معبودات وعدم كونها حصبُ جهنم. ولو أمعنت في الآيات التي ورد فيها لفظ الإله والآلهة لقدرت على استظهار ما اخترناه. وإليك مورداً منها في قوله تعالى :

٥ ـ (فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) (الحج / ٣٤).

١٣

فلو فسر الإله في الآية بالمعبود لزم الكذب ، إذ المفروض تعدد المعبود في المجتمع البشري ، ولأجل دفع هذا ربما يقيد الإله هنا بلفظ «الحقّ» أي المعبود الحقّ إله واحد. ولو فسرناه بالمعنى البسيط الذي له آثار في الكون من التدبير والتصرف ، وإيصال النفع ، ودفع الضرّ على نحو الاستقلال لصحّ حصر الإله ـ بهذا المعنى ـ في واحد بلا حاجة إلى تقدير كلمة بيانية محذوفة إذ من المعلوم أنّه لا إله في الحياة الإنسانية والمجتمع البشري يتصف بهذه الصفات التي ذكرناها إلّا الله سبحانه.

ولا نريد أن نقول : إنّ لفظ «الإله» بمعنى الخالق المدبّر المحيي المميت الشفيع الغافر ، إذ لا يتبادر من لفظ «الإله» إلّا المعنى البسيط. بل هذه الصفات عناوين تشير إلى المعنى الذي وضع له لفظ الإله. ومعلوم أنّ كونَ هذه الصفات عناوين مشيرة إلى ذلك المعنى البسيط ، غيرُ كونها معنى موضوعاً له اللّفظ المذكور كما انّ كونه تعالى ذو سلطة على العالم كله أو سلطة مستقلة غير معتمدة على غيره ، وصف نشير به إلى المعنى البسيط الذي نتلقاه من لفظ «الله» ، لا أنّه نفس معناه.

إلى هنا ـ أيّها القارئ الكريم ـ قد وقفت على معنى الإله ، والأُلوهية ، وانّه ليس الإله بمعنى المعبود بل المراد منه نفس المراد من لفظة «الله» لا غير ، إلّا أنّ أحدهما علم ، والآخر كلّي.

نعم ربما يفسّر الإله بمعنى المعبود ولكنّه تفسير باللازم فانّ من اتخذ أحداً إلهاً لنفسه فانّه يعبده قهراً ويفزع إليه عند الشدائد ، وتسكن نفسه عند ذكره إلى غير ذلك من اللوازم والآثار للإله وهذا لا يسوِّغ لنا أن نفسر الملزوم بكلّ لازم له.

إلى هنا خرجنا بالنتيجة التالية :

إنّ اللفظين واحد مبدءاً ومعنىً ، وإنّ المفهوم من لفظ «إله» هو المفهوم من لفظ الجلالة ولا فرق بينهما سوى في الجزئية والكلّية.

١٤

الفصل الثاني

الربّ في اللغة والذكر الحكيم

قد ورد لفظ «الربّ» في الذكر الحكيم بصيغه المختلفة ، مفرداً وجمعاً ، مضافاً وغير مضاف ٩٨٧ مرّة ، ولا يقال الرّب لغير الله الّا بالإضافة.

ذكر أصحاب المعاجم للربّ معاني مختلفة قائلين بأنّ :

ربُّ كلّ شيء : مالكُه ومستحقّه وصاحبه.

ربَّ الأمر : أصلحه.

الربُّ : المالك ، المصلح ، السيد. (١)

وما يشابه هذه المعاني ويماثلها.

إنّ المفروض على كتب اللغة هو ضبط موارد استعمال الكلمة ، سواء أكان المستعمل فيه هو الّذي وضعت له اللفظة أم لا ، ولذلك جاءت المعاني المجازيّة في جنب المعاني اللغوية بحجة أنّ الجميع مستعمل فيه ، وهذا نقص واضح ومشهود في كتب اللغة ومعاجمها.

وهناك نقص آخر وهو ، أنّ اللغوي ربما يعدّ للكلمة معاني كثيرة على وجه يظنُّ القارئ أنّها مشتركة وضعاً بين هذه المعاني ، ولكنّه سرعان ما يرجع بعد التمعّن بأنّها صور مختلفة لمعنى واحد وليس اللفظ موضوعاً إلّا لمعنى جامع ، و

__________________

(١) ابن فارس : مقاييس اللغة ٢ : ٣٨١ ، الفيروزآبادي ، قاموس اللغة ، مادة رب ، والمنجد كذلك.

١٥

من الصدف أنّ لفظة الرب تعاني من واجهت هذا المصير حتى أنّ كاتباً كالمودوديّ تصور أنّ لها خمسة معان في الأصل وذكر لكلّ معنى من المعاني الخمسة شواهد من القرآن الكريم ولكنّه خفي عليه أنّها ليست معاني مختلفة وإنّما هي صور موسعة لمعنى واحد وإليك هذه الموارد والمصاديق :

١ ـ التربية ، مثل ربّ الولد ، ربّاه.

٢ ـ الإصلاح والرعاية مثل ربَّ الضيعة.

٣ ـ الحكومة والسياسة مثل فلان قد ربَّ قومَه أي ساسهم وجعلهم ينقادونه.

٤ ـ المالك كما جاء في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربُّ غنمٍ أم ربّ إبل.

٥ ـ الصاحب مثل قوله : ربّ الدار أو كما يقول القرآن الكريم : (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) (قريش / ٣).

لا ريب أنّ هذه المعاني قد أريدت من اللفظة في هذه الموارد وما يشابهها ولكن جميعها يرجع إلى معنى واحد أصيل ، وما هذه المعاني إلّا مصاديق وصور مختلفة لذلك المعنى الأصيل وما هي سوى تطبيقات متنوعة لذلك المفهوم الحقيقي وهو ، من فوض إليه أمر الشيء المربّى من حيث الاصلاح والتدبير والتربية.

فإذا قيل لصاحب المزرعة أنّه ربّها ، فلأجل أنّ إصلاح أُمور المزرعة مرتبطة به وفي قبضته.

وإذا أطلقنا على سائس القوم ، صفة الربّ ، فلأنّ أُمور قومه مفوّضة إليه ، فهو قائدهم ، ومالك تدبيرهم ومنظم شئونهم.

وإذا أطلقنا على صاحبِ الدار ومالِكه اسمَ الربّ ، فلأنّه فوض إليه أمر تلك الدار وإدارتها والتصرّف فيها كما يشاء.

فعلى هذا يكون المربي والمصلح والرئيس والمالك والصاحب وما

١٦

يشابهها مصاديق وصور لمعنى واحد أصيل يوجد في كلّ هذه المعاني المذكورة ، وينبغي أن لا نعتبرها معاني متمايزة ومختلفة للفظة الربّ بل المعنى الحقيقي والأصيل للفظ هو : من بيده أمر التدبير والإدارة والتصرّف ، وهو مفهوم كلّي ومتحقّق في جميع المصاديق والموارد الخمسة المذكورة (أعني : التربية ، والإصلاح ، والحاكمية والمالكية ، والصاحبية).

فإذا أطلق يوسف الصديق عليه‌السلام لفظ الربّ على عزيز مصر ، وقال :

(إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ) (يوسف / ٢٣).

فلأجل أنّ يوسف تربّى في بيت عزيز مصر وكان العزيز متكفلاً لتربيته الظاهرية وقائماً بشئونه.

وإذا وصف يوسف عزيزَ مصر بكونه ربّاً لصاحبه في السجن ، وقال :

(أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) (يوسف / ٤١).

فلأنّ عزيز مصر كان سيّدَ مصر وزعيمها ومدبّر أُمورها ومتصرّفاً في شئونها ومالكاً لزمامها.

وإذا وصف القرآن اليهود والنصارى بأنّهم اتّخذوا أحبارهم أرباباً إذ يقول :

(اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) (التوبة / ٣١).

فلأجل أنّهم أعطوهم زمام التشريع واعتبروهم أصحاب سلطة وقدرة فيما يختص بالله.

وإذا وصف الله نفسه بأنّه «ربّ البيت» فلأنّ إليه أُمور هذا البيت مادّيها ومعنويها ، ولا حقّ لأحد في التصرّف فيه سواه.

وإذا وصف القرآن «الله» بأنّه :

(رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (الصافات / ٥).

١٧

وانّه :

(رَبُّ الشِّعْرى) (النجم / ٤٩).

وما شابه ذلك ، فلأجل أنّه تعالى مدبّرها والمتصرف فيها ومصلح شئونها والقائم عليها.

وبهذا البيان نكون قد كشفنا القناع عن المعنى الحقيقي للرب ، الذي ورد في مواضع عديدة من الكتاب العزيز.

التوحيد في الربوبية غير التوحيد في الخالقية

إنّ الشائع بين الوهابيين تقسيم التوحيد إلى :

١ ـ التوحيد في الربوبية.

٢ ـ التوحيد في الأُلوهية.

قائلين بأنّ التوحيد في الربوبيّة بمعنى الاعتقاد بخالق واحد لهذا الكون كان موضع اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة.

وأمّا التوحيد في الأُلوهية فهو التوحيد في العبادة الذي يُعنى منه أن لا يعبد سوى الله ، وقد انصب جهد الرسول الكريم على هذا الأمر. (١)

والحقّ أنّ اتّفاق جميع مشركي عهد الرسالة في مسألة التوحيد الخالقي ليس موضع شك ، ولكن تسمية التوحيد الخالقي بالتوحيد الربوبي خطأ واشتباه.

وذلك لانّ معنى «الربوبية» ليس هو الخالقية كما توهم هذا الفريق ، بل هو ـ كما أوضحنا وبينا سلفاً ـ ما يفيد التدبير وإدارة العالم ، وتصريف شئونه ولم يكن هذا ـ كما نبيّن ـ موضع اتّفاق بين جميع المشركين والوثنيين في عهد الرسالة

__________________

(١) محمّد بن عبد الوهّاب ، تسع رسائل : الرسالة الثالثة / ٥٧ ـ ٥٨.

١٨

كما ادعى هذا الفريق. (١)

نعم كان فريق من مثقفي الجاهليين يعتقدون بعدم وجود مدبّر سوى الله ولكن كانت تقابلهم جماعات كبيرة ممن يعتقدون بتعدد المدبر والتدبير ، وهي قضية تستفاد من الآيات القرآنية مضافاً إلى المصادر التاريخيّة.

وهنا نلفت نظر الوهابيين الذين يسمّون التوحيد في الخالقية ، بالتوحيد في الربوبية إلى الآيات التالية حتى يتضح لهم أنّ الدعوة إلى التوحيد في الربوبية لا تعني الدعوة إلى التوحيد في الخالقية بل هي دعوة إلى «التوحيد في المدبّرية» والتصرف ، وقد كان بين المشركين في ذلك العصر من كان يعاني انحرافاً من التوحيد الربوبي ، ويعتقد بتعدد المدبِّر رغم كونه معتقداً بوحدة الخالق.

ولا يمكن ـ أبداً ـ أن نفسر الربّ في هذه الآيات بالخالق والموجد. وإليك بعض هذه الآيات.

أ : (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ) (الأنبياء / ٥٦).

فلو كان المقصود من الربّ هنا هو الخالق والموجد ، لكانت جملة (الَّذِي فَطَرَهُنَّ) زائدة بدليل أنّنا لو وضعنا لفظة الخالق مكان الربّ في الآية للمسنا عدم الاحتياج ـ حينئذٍ ـ إلى الجملة المذكورة (أعني : (الَّذِي فَطَرَهُنَّ)).

بخلاف ما إذا فسّر الربّ بالمدبّر والمتصرّف ، ففي هذه الصورة تكون الجملة الأخيرة مطلوبة ، لأنّها تكون ـ حينئذٍ ـ علّة للجملة الأُولى ، فتعني هكذا : إنّ خالق الكون ، هو المتصرف فيه وهو المالك لتدبيره والقائم بإدارته ، لا شخص آخر فلما ذا فرقتم بين الخالق والربّ ولما ذا حصرتم الخالقية في الله سبحانه ، وأعطيتم الربوبية لغيره.

ب : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (البقرة / ٢١).

__________________

(١) سيوافيك عقائد المشركين في ربوبيّة الآلهة في الفصل الآتي.

١٩

فانّ لفظة الربّ في هذه الآية ليست بمعنى «الخالق» وذلك على غرار ما قلناه في الآية المتقدمة المشابهة لما نحن فيه ، إذ لو كان الربّ بمعنى الخالق لما كان لذكر جملة (الَّذِي خَلَقَكُمْ) وجه ، بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الربّ يعني المدبّر فتكون جملة : (الَّذِي خَلَقَكُمْ) علّة للتوحيد في الربوبية إذ يكون المعنى حينئذٍ هو : انّ الّذي خلقكم ، هو مدبّركم.

ج : (قُلْ أَغَيْرَ اللهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام / ١٦٤).

وهذه الآية حاكية عن أنّ مشركي عصر الرسالة كانوا على خلاف مع الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسألة الربوبية على نحو من الأنحاء وانّ النبي الأعظم كان مكلّفاً بأن يُفنّد رأيهم ويبطل عقيدتهم ولا يتخذ غير الله ربّاً على خلاف ما كانوا عليه. ومن المحتّم أنّ خلاف النبي مع المشركين لم يكن حول مسألة «التوحيد في الخالقية» بدليل أنّ الآيات السابقة تشهد من غير إبهام بأنّهم كانوا يعترفون بأنّه لا خالق سوى الله تعالى ، ولذلك فلا مناص من الإذعان بأنّ الخلاف المذكور كان في غير مسألة الخالقية ، وليس هو إلّا مسألة تدبير الكون ، بعضه أو كلّه.

د : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ) (الأعراف / ١٧٢).

فقد أخذ الله في هذه الآية ـ من جميع البشر ـ الإقرار بالتوحيد الربوبي وكانت علّة ذلك هي ما ذكره من أنّه سيحتج على عباده بهذا الميثاق يوم القيامة كما يقول :

(أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ) (الأعراف / ١٧٣).

إذا تبيّن هذا فنقول : إنّ نزولَ هذه الآية في بيئة مشركة ، دليل ـ ولا شكّ ـ على وجود فريق معتد به في تلك البيئة كانوا يخالفون هذا الميثاق ، فإذا كانت

٢٠