الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

الشيخ جعفر السبحاني

الأسماء الثلاثة الإله ، الربّ ، والعبادة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ١
ISBN: 964-6243-00-2
الصفحات: ١٠٠

بتصريح الذكر الحكيم ولا يأمر بها سبحانه ، قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف / ٢٨).

وهناك تعاريف للعبادة لجملة من المحقّقين نأتي بها واحداً بعد الآخر :

١ ـ نظرية صاحب المنار في تفسير العبادة

إنّ صاحب المنار لمّا وقف على بعض ما ذكرناه حاولَ أن يُفسّر العبادة بشكل لا يرد عليه الإشكال ، ولذلك أخذ في التعريف قيوداً ثلاثة :

أ : العبادة ضرب من الخضوع بالِغٌ حدّ النهاية.

ب : ناشئ عن استشعار القلب عظمة المعبود ، لا يعرف منشأها.

ج : واعتقادٍ بسلطة لا يُدرَك كنهُها وماهيتها.

ويلاحظ على هذا التعريف :

أوّلاً : أنّ التعريف غير جامع ، وذلك لأنّه إذا كان مقوّم العبادة ، الخضوعَ البالغَ حدّ النهاية فلا يشمل العبادة الفاقدة للخشوع والخضوع التي يؤديها أكثر المتساهلين في أمر الصلاة ، وربما يكون خضوع الجندي لقائده أشدّ من خضوع هؤلاء المتساهلين الذين يتصوّرون الصلاة عبئاً وجهداً.

وثانياً : ما ذا يريد بقوله «عن استشعار القلب عظمة المعبود لا يعرف منشأها»؟ فهل يعتقد أنّ الأنبياء كانوا يستشعرون عظمة المعبود ولكن لا يعرفون منشأها. مع أنّ غيرهم يستشعر عظمة المعبود ويعرف منشأها ، وهو أنّه سبحانه : الخالق البارئ ، المصوّر ، أو أنّه سبحانه هو الملك القدّوس ، السّلام ، المؤمن ، المهيمن العزيز الجبّار المتكبر.

وثالثاً : ما ذا يريد بقوله : «واعتقادٍ بسلطة لا يدرك كنهها وماهيتها»؟.

فإن أراد شرطية هذا الاعتقاد في تحقّق العبادة ، فلازم ذلك عدم صدقها على

٤١

عبادة الأصنام والأوثان ، فإنّ عُبّاد الأوثان يعبدونها وكانوا يعتقدون بكونهم شفعاء عند الله سبحانه فقط لا أنّ لهم سلطة لا يدرك كنهُها وماهيتُها.

٢ ـ نظرية الشيخ شلتوت ، زعيم الأزهر

وقد عرّف شيخ الأزهر الأسبق العبادة بنفس ما عرّفها به صاحب المنار ، ولكنّه يختلف عنه لفظاً ويتّحد معه معنىً ، فقال : العبادة خضوع لا يحدُّ ، لعظمة لا تحد. (١)

وهذا التعريف يشترك مع سابقه نقداً وإشكالاً ، وذلك أنّ العبادة ليست منحصرة في «خضوع لا يحدّ» بل الخضوع المحدود أيضاً ربّما يعد عبادة ، كما إذا كان الخضوع بأقلّ مراتبه. وكذلك لا يشترط كون الخضوع لعظمة لا تحدّ ، إذ ربما تكون عظمة المعبود محدودة في زعم العابد كما هو الحال في عبادة الأصنام ، ومع ذلك يعبدها وكان الدافع إلى عبادتها كونها شفعاء عند الله.

٣ ـ تعريف ابن تيمية

وأكثر التعاريف عرضة للإشكال هو تعريف ابن تيمية إذ قال :

«العبادة اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنية والظاهرية كالصلاة والزكاة والصيام ، والحجّ ، وصدق الحديث وأداء الأمانة ، وبرّ الوالدين وصلة الأرحام». (٢)

وهذا الكاتب لم يفرّق ـ في الحقيقة ـ بين العبادة والتقرّب ، وتصوّر أنّ كلّ عمل يوجب القربى إلى الله ، فهو عبادة له تعالى أيضاً ، في حين أنّ الأمر ليس كذلك ، فهناك أُمور توجب رضا الله ، وتستوجب ثوابَه لكنّها قد تكون عبادة

__________________

(١) تفسير القرآن الكريم : ٣٧.

(٢) مجلة البحوث الإسلامية ، العدد ٢ : ١٨٧ ، نقلاً عن كتاب العبودية : ٣٨.

٤٢

كالصوم والصلاة والحجّ ، وقد تكون موجبة للقرب إليه دون أن تعدّ عبادة ، كالإحسان إلى الوالدين ، وإعطاء الزكاة ، والخمس ، فكلّ هذه الأُمور (الأخيرة) توجب القربى إلى الله في حين لا تكون عبادة. وإن سمّيت في مصطلح أهل الحديث عبادة ، فيراد منها كونها نظير العبادة في ترتّب الثواب عليها او شرطيّة قصد القربة في صحّتها.

وبعبارة أُخرى : إنّ الإتيان بهذه الأعمال يعدّ طاعة لله ولكن ليس كلُّ طاعة عبادة.

وإن شئت قلت : إنّ هناك أُموراً عباديّة وأُموراً قربية ، وكلّ عبادة مقرِّبة ، وليس كلّ مقرِّب عبادة ، فدعوة الفقير إلى الطعام ، والعطف على اليتيم ـ مثلاً ـ توجب القرب ولكنّها ليست عبادة بمعنى أن يكون الآتي بها عابداً بعمله لله تعالى.

وإذا وقفت على قصور هذه التعاريف هنا نذكر في المقام تعريفين ، كلّ يلازم الآخر.

* * *

التعريف الصحيح :

العبادة هي الخضوع للشيء بما هو إله

أو : العبادة هي الخضوع للشيء بما هو ربّ

إنّ لفظ العبادة من المفاهيم الواضحة ، وربّما يكون ظهور معناها الواضح مانعاً عن التحديد الدقيق لها غير أنّه يمكن تحديدها من خلال الإمعان في الموارد التي تستعمل فيها تلك اللفظة ، فقد استعملها القرآن في مورد الموحّدين والمشركين ، وقال سبحانه في الدعوة إلى عبادة نفسه : (وَلكِنْ أَعْبُدُ اللهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ) (يونس / ١٠٤) وقال سبحانه : (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ

٤٣

الدِّينَ) (الزمر / ١١).

وقال في النهي عن عبادة غيره : (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (العنكبوت / ١٧) وقال : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (الصافّات / ٩٥) : فعلى الباحث أن يقتنصَ معنى العبادة بالدقة من أفعال العباد ، وعقائدهم من غير فرق بين عبادة الموحّدين وعبادة المشركين فيجعله حدّاً منطقياً للعبادة.

إنّ الإمعان في ذلك المجال يدفعنا إلى القول بأنّ العبادة عندهم عبارة عن الفعل الدالّ على الخضوع المقترن مع عقيدة خاصة في حقّ المخضوع له ، فالعنصر المقوّم للعبادة حينئذٍ أمران :

١ ـ الفعل او القول المنبئ عن الخضوع والتذلّل.

٢ ـ العقيدة الخاصة التي تدفعه إلى عبادة المخضوع له.

أمّا الفعل ، فلا يتجاوز عن قول أو عمل دالّ على الخضوع والتذلّل بأيّ مرتبة من مراتبه ، كالتكلّم بكلام يؤدي إلى الخضوع له أو بعمل خارجي كالركوع والسجود بل الانحناء بالرأس ، أو غير ذلك ممّا يدلّ على ذلّته وخضوعه أمام موجود.

وأمّا العقيدة التي تدفعه إلى الخضوع والتذلّل فهي عبارة عن :

١ ـ الاعتقاد بأُلوهيته.

٢ ـ الاعتقاد بربوبيته. (١)

او ما يعادلهما وتعلّم صحة التعريفين من دراسة عقيدة المشركين في أصنامهم وأوثانهم.

__________________

(١) قد وقفت على معنى الإله والألوهيّة ، والربّ والربوبيّة ، فلو حكمنا على المشركين بأنّهم كانوا يعتقدون بألوهيّة اصنامهم وربوبيّتها ، فانّما تعنى من اللفظين ما ذكر لهما من المعنى في الفصلين السابقين.

٤٤

عقيدة المشركين في آلهتهم

إنّ الذي يسبر حياةَ المشركين يقف بوضوح على انّهم معتقدين بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها بشكل واضح وعلى القارئ الكريم أن يستشفه عن كثب وما هو إلّا حكم التاريخ أوّلاً ، وحكم القرآن ثانياً ، ونحن نذكر شيئاً يسيراً منهما :

حكم التاريخ في عقيدة المشركين

إنّ المشركين العرب وإن كانوا لا يعاونون من أيّ انحراف وإشكال في مسألة التوحيد في الخالقية وكانوا يعتقدون أنّه سبحانه هو الخالق وحده وأنّه لا خالق سواه وقد نقله سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات :

قال تعالى : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) (الزخرف / ٩) إلّا أنّهم كانوا في مسألة التدبير الّتي نعبر عنها بالربوبيّة على طرف النقيض من الحق وعلى خلاف الصواب ، فكانوا يعتقدون بأرباب مكان الربّ الواحد ، ولكلّ ربٍّ شأن في عالم الكون. وما اشتهر بين الناس من أنّ المشركين يعتبرون الأصنام مجرّد شفعاء عند الله لا أكثر تصوّر خاطئ ، بل كانوا يعتقدون أنّ لها وراء هذا ، شأناً أو شئونا. ولأجل هذه المكانة لها كانوا يعبدونها ويستشفعون بها ، وإليك شواهد على ذلك :

لقد دخلت الوثنية في مكة وضواحيها أوّل ما دخلت في صورة «الشرك في الربوبية» فقصة «عمرو بن لُحيّ» الخُزاعي دليل على أنّ أهل الشام كانوا يعتبرون الأوثان والأصنام مدبرة لجوانب من الكون.

يكتب ابن هشام في هذا الصدد فيقول :

كان «عمرو بن لُحيّ» أوّل من أدخل الوثنية إلى مكة وضواحيها فقد رأى في

٤٥

سفره إلى البلقاء من بقاع الشام أُناساً يعبدون الأوثانَ وعند ما سألهم عمّا يفعلون قائلاً : ما هذه الأصنام التي أراكم تعبدونها؟

قالوا : هذه أصنام نعبدها فنستمطرها فتُمطرنا ، ونستنصرها فَتَنصُرنا ، فقال لهم : أفلا تعطونني منها فأسير به إلى أرض العرب فيعبدوه.

وهكذا استحسن طريقتَهم واستصحب معه إلى مكّة صنماً كبيراً اسمه هُبل ووضعه على سطح الكعبة المشرّفة ودعا الناس إلى عبادته. (١)

فاستمطار المطر من هذه الأصنام والاستنصار بها يكشف عن عقيدتهم فيها وأنّ لها مدخلية في تدبير شئون الكون وحياة الإنسان.

يقول هشام بن محمد بن السائب الكلبي : مرض لُحيّ بن حارث بن عامر الأزدي وهو أبو خزاعة فقيل له : إنّ بالبلقاء من الشام حَمَّة (٢) إن أتيتَها بُرِئتَ فأتاها فاستحمّ بها فبَرئ بها فوجد أهلها يعبدون الأصنام ، فقال : ما هذه؟ فقالوا : نستسقي بها المطر ونستنصر بها على العدو ، فسألهم أن يعطوه منها ، ففعلوا فقدم بها إلى مكة ونصبها حول الكعبة. (٣)

وقال السيّد الآلوسي : وكانت لقريش أصنام في جوف الكعبة وكانت أعظمها هبل عندهم وكان ـ فيما بلغني ـ من عقيق أحمر على صورة الإنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريش كذلك ، فجعلوا له يداً من الذهب وكان أوّل من نصبه خزيمة بن مدركة وكان يقال له هبل خزيمة ... إلى أن قال : فإذا شكوا في مولود أهدوا له هدية ... الخ.

ويقول أيضاً : وكان لمالك ومِلْكان ابني كنانة ، بساحل جدّة صنم يقال له

__________________

(١) ابن هشام : السيرة النبوية ١ : ٧٩.

(٢) بالفتح وتشديد الميم كلّ عين فيها ماء حارّ ينبع ، ويستشفي الأعلّاء.

(٣) الكلبي / الأصنام ص ٨ ، شكرى الآلوسي : بلوغ الارب في معرفة العرب ٢ : ٢٠١.

٤٦

سعد ، وكان صخرة طويلة فأقبل رجل من بني مِلْكان بإبلٍ له مؤبلة ليقفها عليه ابتغاء بركته ، فلما أدناها منه ورأته وكان يُهراق عليه الدماء نفرت منه فذهبت في كلّ وجه فغضب ربّها فتناول حجراً فرماه به فقال : لا بارك الله فيك إلهاً أنفرْتَ إبلي ثمّ خرج في طلب الإبل حتى جمعها ثمّ انصرف يقول :

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا

فشتتنا سعد فما نحن من سعد

وهل سعدُ إلّا صخرة بتنوفة (١)

من الأرض لا يدعى لغيّ ولا رشد (٢)

هذا شأن عبدة الأصنام وأمّا شأن عبّاد الأجرام العلوية فحدّث عنهم ولا حرج ، فقد كانوا يعتقدون فيها ربوبية وتدبيراً للعوالم السفلية ، ولم تكن مناظرة إبراهيم عليه‌السلام لهؤلاء إلّا لأنّهم كانوا يعتقدون بربوبية الكواكب والقمر والشمس ، ولأجل ذلك يصف إبراهيم آلهتهم بالربوبية مجاراة لهم حتى يقضي على تلك الفكرة ببرهان قاطع ، يقول :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (الأنعام / ٧٦) وقد كرر لفظ الربّ أيضاً عند مواجهته للقمر والشمس.

يقول الآلوسي عند البحث عن عبادة الشمس :

زعموا أنّها ملك من الملائكة لها نفس وعقل وهي أصل نور القمر والكواكب وتكوّن الموجودات السفلية كلّها عندهم منها وهي عندهم ملك الفلك فتستحق التعظيم والسجود والدعاء. ومن شريعتهم في عبادتها انّهم اتّخذوا لها ، صنماً بيده جوهر على لون النار ، وله بيت خاص قد بنوه باسمه وجعلوا له الوقوف الكثيرة في القرى والضياع ، وله سدنة وقوّام وحَجبة يأتون البيت و

__________________

(١) التنوقة : المفازة والقفر من الأرض

(٢) شكري الآلوسي : بلوغ الارب : ٢ : ٢٠٥ و ٢٠٨.

٤٧

يصلون فيه لها ثلاث كرات في اليوم ، ويأتيه أصحاب العاهات فيصومون لذلك الصنم ويصلون ويدعونه ويستشفعون به. (١)

نعم إنّ الشئون التي كانوا يعتقدونها لآلهتهم كانت متنوعة وأقلّها شأناً انّها تملك الشفاعة ، وقد فوض إليها أمرها لتشفع لمن شاءت وتقبل شفاعتها عند الله بلا قيد ولا شرط.

قد وقفت على قضاء التاريخ في عقيدة المشركين وأنّهم ما انفكّوا في حياتهم عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها ، وإليك دراسة حكم القرآن في عقيدة المشركين من غير فرق بين عبّاد الأجرام السماوية أو الأرضية وحتى المشركين من أهل الكتاب الذين يعدّهم القرآن مشركين أيضاً.

قضاء الكتاب في عقيدة المشركين

١ ـ إنّ الذكر الحكيم يصف المشركين بأنّهم قاطبة جعلوا لله أنداداً فلذلك عبدوا غير الله ، والمراد من جعلهم أنداداً لله هو إشراكهم مع الله في شأن ممّا يرجع إلى الله سبحانه : ويختص به سواء أكان تدبيراً للكون والحياة أم مغفرة للذنوب ، أو مالكيتهم للشفاعة.

يقول سبحانه : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة / ٢٢).

وقال سبحانه : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (البقرة / ١٦٥).

وقال سبحانه : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (إبراهيم / ٣٠).

وقال سبحانه : (إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً) (سبأ / ٣٣).

__________________

(١) الآلوسي : بلوغ الارب ٢ : ٢١٥ ـ ٢١٦.

٤٨

وقال سبحانه : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ) (الزمر / ٨).

وقال سبحانه : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ). (فصلت / ٩).

* * *

٢ ـ يحكي سبحانه عن المشركين انّهم يعترفون في يوم القيامة بانّهم كانوا يسوُّون بين الله وآلهتهم.

قال سبحانه : حاكياً عن لسان المشركين يوم القيامة : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (الشعراء / ٩٧ ـ ٩٨).

فهذه الآيات ـ التي تحكي عقيدة المشركين وهي أنّهم جعلوا لله سبحانه تعالى ندّاً بل أنداداً وأنّهم كانون يسوّون آلهتهم بربّ العالمين ـ تكشف الغطاء عن وجه الحقيقة ، وهو انّ الأصنام بزعمهم كانت مؤثرة في الكون ولو في قسم منه ، مؤثرة في مصير عبادها ، ولذلك سميت الآلهة أرباباً ، أي مالكين لأزمّة الأُمور ومصير حياة العابد وإن كان فوق هذه الأرباب ربّ العالمين.

* * *

٣ ـ وهناك مجموعة من الآيات تحكي عن مناظرة إبراهيم لمشركي عصره من عبدة الأجرام السماوية يقول سبحانه : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ). ثمّ إنّه سبحانه يسرد مناظرته معهم بشكل بديع ويذكر أنّ بطل التوحيد حاجّهم بالنحو التالي :

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُ

٤٩

الْآفِلِينَ* فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ* فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (الأنعام / ٧٤ ـ ٧٩).

نرى أنّ إبراهيم يركز على كلمة (رَبِّي) ويعترف مجاراة للقوم بربوبية الأجرام السماويّة ، ولم يزل يُظهر لهم أنّه على هذا الاعتقاد قبل أُفولها ، ثمّ يعود ويبطل ربوبيتها بأُفولها.

فما ذا كان المشركون يقصدون من الاعتقاد بربوبية الأجرام السماوية؟! وما ذا أراد بطل التوحيد حسب الظاهر من الاقرار بربوبيتها؟! أليس الربّ بمعنى الصاحب ، أليس سياسة المربوب وتدبير حياته بيد الربّ فهل يمكن أن يعبد هؤلاء هذه الأجرام من دون اعتقاد بتأثيرهم على حياتهم ومسيرتهم.

كلّ ذلك يعرب عن كيفية عقيدة المشركين بالنسبة إلى آلهتهم وأربابهم ، وإنّما جرّتهم إلى عبادتها لاعتقادهم الخاص بها.

* * *

٤ ـ إنّه سبحانه : «يصف اليهود والنصارى بأنّهم اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أرباباً. قال سبحانه : (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (التوبة / ٣١).

وليس المراد أنّهم اعتقدوا بأنّ علماء دينهم ورهبانهم خالقون أو مدبرون للكون بل كانوا يعتقدون أنّ لهم شأناً من شئونه سبحانه : وهو أنّ لهم تحليل الحرام وتحريمه وانّه فوض إليهم زمام التشريع وبالتالي مصيرهم بأيديهم ويكفي ذلك في صدق الربوبية.

٥٠

روى المفسرون عن عدي بن حاتم قال : أتيت رسول الله وفي عنقي صليب من ذهب فقال لي : يا عدي اطرح هذا الوثنَ في عنقك قال : فطرحته ثمّ انتهيتُ إليه وهو يقرأ من سورة البراءة هذه الآية (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً) حتّى فرغ منها فقلت له : إنّا لسنا نعبدهم فقال : أليس يحرِّمون ما أحل الله فتحرّمونه ، ويُحلّون ما حرّم الله فتستحلونه؟ قال : فقلت : بلى قال : فتلك عبادتهم. (١)

هذا قليل من كثير ممّا يعرب عن عقيدة المشركين القدامى والجدد في حقّ معبوداتهم.

ونختم المقال بشيء من شعر زيد بن عمر بن نوفل الذي أسلم قبل أن يبعث النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول بعد استبصاره معرباً عن عقيدته في الجاهلية :

أرب واحد أم ألف رب

أدين إذا تقسّمت الأُمور

عزلتُ اللاة والعُزى جميعاً

كذلك يفصل الجلد الصبور

فلا عُزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صنَمَي بني عمرو أزور

ويقول في شعر آخر :

إلى الملك الأعلى الذي ليس فوقه

إله ولا ربّ يكون مداينا (٢)

هذه الأشعار وسائر الكلمات المروية عن الأمّة الجاهلية قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبت أمراً واحداً وهو أنّ آلهتهم كانت تتمتع حسب عقيدتهم بقوة غيبة مالكة لها مؤثرة في الكون ومصير الإنسان وانّ هؤلاء آلهة وأرباب والله سبحانه إله الآلهة وربّ الأرباب.

__________________

(١) الطبرسي : مجمع البيان : ٣ / ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) الآلوسي : بلوغ الارب ٢ : ٢٤٩

٥١

التعريف المنطقي لمفهوم العبادة

المقصود من التعريف المنطقي ، هو التعريف الجامع الشامل لجميع أفراد العبادة سواء كانت حقّة أو باطلة ، صحيحة أو فاسدة ، و ـ التعريف ـ المانع عن دخول غيرها ، ممّا ليس من مصاديقها وجزئياتها ، وإن كانت شبيهة بها في الظاهر ، ولكنّها في الواقع تكريم وتبجيل ويتوهمها الجاهل عبادة.

وبما أنّا لم نقف على تعريف للعبادة ، في الكتاب والسنّة ، لا محيص لنا عن اصطياده عن طريق تحليلها في ضوء المصدرين الكريمين فانّ دراستها كذلك يُشرِف الباحثَ على تمييز العبادة عن غيرها وبالتالي على صبّ ما استفاده منهما في قالب تعريف جامع ومانع.

أقول : العبادة تتقوم بعنصرين ولا يُغني أحدهما عن الآخر :

الأوّل : الاعتقادُ الخاص في حقّ المعبود ، أعني الاعتقادَ بأنّه إله أو ربّ ، أو بيده مصير العابد آجلاً وعاجلاً في تمام شئون الحياة أو بعضها ، وقد تعرّفتَ على معنى «الإله» و «الرب» في الفصلين السابقين فلا نعود إلى ما ذكرنا سابقاً ، فإذا كان الخضوع والتذلل ، مجرّداً عن هذا النوع من الاعتقاد لا يعدّ العمل عبادة سواء أكان باللسان ، أم بسائر الجوارح ، نعم يمكن أن يكون حراماً موجباً للعقاب لا لأنّه عبادة بل لكونه عملاً محرماً كسائر المحرّمات الّتي ليست بعبادة قطعاً كالكذب والغيبة.

الثاني : العمل الحاكي عن الخضوع ، ويكفي في ذلك أبسط الخضوع إلى أعلاه سواء أكان باللفظ والبيان ، أم بسائر الجوارح ، فإذا كان الخضوع نابعاً عن الاعتقاد الخاص في مورد المخضوع له ، يتصف بالعبادة.

إنّ الاعتقاد بأُلوهية المخضوع له ، أو ربوبيته ، أو كون مصير العباد بيده ،

٥٢

مجرّداً عن الخضوع العملي أو اللفظي ، يستلزم كونَ صاحبه مشركاً في العقيدة لا مشركاً في العبادة ، وإنّما يكون مشركاً فيها إذا انضمّ إلى العقيدة ، خضوع عملي كما أنّ مجرّدَ الخضوع النابع عن الحب والعطف ، يكون تكريماً وتبجيلاً ، وخضوعاً وتذلّلاً لا عبادة ، وربما يكون حلالاً ومباحاً ويعدّ مَظْهَراً للتكريم وسبباً لإظهار الحبّ والودّ ، وربما يكون حراماً كالسجود للمحبوب بما أنّه جميل ، لا لأنّه إله وربّ أو بيده مصيره ، ومع ذلك فالسجود لمثله حرام حسب ما ورد في السنّة وإن لم يكن عبادة وكونه مثلها في الصورة لا يُدخله في عنوانها لأنّ العبرة بالنيّات والبواطن ، لا بالصور والظواهر.

أمّا العنصر الثاني : فلم يختلف في لزوم وجوده اثنان إنّما الكلام في مدخلية العنصر الأوّل في صدق العبادة ودخوله في واقعها ونحن نستدل على مدخليته بطريقين :

الأوّل : التمعن في عبادة الموحّدين والمشركين

إنّ الإمعان في أعمالهم ، يدلُّ بوضوح على أنّ خضوعهم جميعاً لم يكن منفكّاً عن الاعتقاد بأُلوهية معبوداتهم وربوبيتها وكانت تلك العقيدة هي التي تَجرُّهم إلى الخضوع والتذلل أمامها ولولاها لم يكن لخضوعهم وجه ولا سبب فالموحِّد يخضع أمام الله لاعتقاده بأنّه خالق ، بارئ ، مبدع ، ومصور ، مدبّر ، ومتصرّف ، وبكلمة جامعة : إنّه إله العالمين إلى غير ذلك من الشئون ، فمن هذا الاعتقاد ، ينشأ الخضوع والتذلل.

والمشرك يخضع أمام الأصنام والأوثان ، أو الأجرام السماوية ، لاعتقاده بأنّها آلهة وأرباب بيدها مصيره في الدنيا والآخرة ولذلك كانوا يستمطرون بها ، ويطلبون منها الشفاعة والمغفرة وبذلك صاروا آلهة وأرباباً.

إنّ الموحّد يرى أنّ العزّة بيد الله سبحانه وهو القائل عزّ من قائل : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) (فاطر / ١٠) (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) (آل عمران / ٢٦)

٥٣

ولكن المشرك يرى أنّ العزة بيد الأصنام والأوثان يقول سبحانه حاكياً عن عقيدته : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (مريم / ٨١).

إنّ الموحّد لا يُثبت شيئاً من صفاته سبحانه ، وأفعاله ، لغيره ولا يرى له مثيلاً ولا نظيراً في الصفات والأفعال فهو المتفرِّد في جماله وكماله ، وفي أسمائه وصفاته ، وفي أعماله وأفعاله ، ولكن المشرك يسوي الأصنام بربّ العالمين إذ يقول سبحانه حاكياً عنهم : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ* إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (الشعراء / ٩٧ ـ ٩٨) وإذا لم تكن التسوية متحقّقة في تمام الشئون فقد كانت متحقّقة في بعضها فقد كانوا عندهم مالكين للشفاعة النافذة التي لا تردّ ، ولغفران الذنوب ، فلأجل ذلك تُركّز الآيات على أنّ الشفاعة لله والمغفرة بيده ، يقول سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر / ٤٤) ويقول : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران / ١٣٥)

إنّ النبيّ إبراهيم يصف ربّه بقوله : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ* وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ* وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ* وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ* وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء / ٧٨ ـ ٨٢) وهو في هذا المقام يحاول ردّ عقيدة المشركين حيث كانوا يثبتون بعضَ هذه الأفعال لما يعبدون من الأجرام السماوية والأرضية.

وحصيلة الكلام أنّ التاريخ القطعي وآيات الذكر الحكيم متّفقان على أنّ خضوع المشركين لم يكن مجرّدَ عمل دون أن يكون نابعاً من الاعتقاد الخاصّ في حقّ معبوداتهم ولم تكن عقيدتهم سوى إثبات ما لربّ العالمين من الشئون ، كلّها أو بعضها لهم ، ولأجل ذلك كانوا يتذلّلون أمامهم.

هذه هي الطريقة الأُولى لاستكشاف مدخلية العنصر الأوّل في صدق العبادة وقد وقفنا عليها من طريق الامعان في عبادة الموحدين والمشركين وإليك الكلام في الطريقة الثانية.

٥٤

الثانية : الإمعان في الآيات الداعية إلى عبادة الله ، الناهية عن عبادة الغير

إنّ الآيات الحاثة على عبادة الله والمحذرة عن عبادة غيره ، تعلل لزوم عبادته سبحانه بالأُلوهية تارة والربوبية أُخرى ، وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ العبادة من شئون الإله والربّ ، وانّها كانت ضابطة مسلّمة بين المخاطبين ، ولم يكن فيها أيّ اختلاف وإنّما كان الاختلاف في الموصوف بهما ، فالذكر الحكيم لا يرى في صحيفة الوجود ، إلهاً ولا ربّاً غيره ، ويُحصر العنوانين في الله سبحانه بينما يرى المشركين أصنامَهم آلهة وأرباباً ولذلك ذهبوا إلى عبادتها والخضوع أمامها لأنّها أرباب وآلهة عندهم ولها نصيب من العنوانين.

وعلى الجملة : انّ الدعوة إلى عبادة الله أو حصرها فيه معللاً بأنّه سبحانه إله وربّ ولا إله ولا ربّ غيره ، يعطي اتفاق الموحد والمشرك على تلك الضابطة وأنّها من شئون من كان ربّاً وإلهاً وإنّما كان الاختلاف والجدال في المصاديق ، وإنّه هل هناك إله أو ربّ غيره سبحانه ، أو لا؟ فالأنبياء يؤكدون على الثاني ، والمشركون على الأوّل ، وعلى هذا لو كان هناك خضوع أمام شيء ، من دون هذه العقيدة فلا يكون عبادة باتّفاق الموحد والمشرك. وإليك ما استظهرناه من الآيات :

١ ـ قال سبحانه : (يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) (الأعراف / ٥٩).

وقد وردت هذه الآية في مواضع كثيرة من القرآن. (١)

إنّ قوله سبحانه : (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) بمنزلة التعليل للأمر بحصر

__________________

(١) لاحظ ، الأعراف / ٦٥ ، ٧٣ و ٥٨. وسورة هود / ٥ ، ٦١ ، ٨٤ ، وسورة الأنبياء / ٢٥ وسورة المؤمنين / ٢٣ ، ٣٢ وسورة طه / ١٤.

٥٥

العبادة في الله تعالى ومعناه : اعبدوا الله ولا تعبدوا سواه ، وذلك لأنّ العبادة من شئون الأُلوهية ولا إله غيره.

٢ ـ قال سبحانه : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) (المائدة / ٧٢).

(إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) (الأنبياء / ٩٢).

(إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (آل عمران / ٥١).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) (البقرة / ٢١).

وكيفية البرهنة في هذا الصنف من الآيات مثلها في الآية السابقة.

وقد ورد مضمون هذه الآيات أعني : جعل العبادة دائرة مدار الربوبية في آيات أُخرى. (١)

إنّ تعليق الأمر بالعبادة على لفظ الربّ في قوله (اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) دليل على أنّ وجه تخصيص العبادة بالله سبحانه هو كونه ربّاً ولا ربّ غيره ، فهذا يعرب عن كون العبادة من شئون من يكون ربّاً ، وليس الربّ إلّا الله سبحانه ، وأمّا ربوبية غيره فباطلة.

٣ ـ قال سبحانه : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ) (الأنعام ١٠٢).

فقد علل الأمر بعبادة الله سبحانه في هذه الآية بشيئين :

أ : إنّه (رَبُّكُمْ)

ب : إنّه (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)

__________________

(١) لاحظ : يونس / ٣ ، الحجر / ٩٩ ، مريم / ٣٦ ، ٦٥ ، الزخرف / ٦٤.

٥٦

فيدل بوضوح على أنّ العبادة من شئون الربوبية والخالقية ، فمن كان خالقاً ، أو ربّاً ، مدبّراً للكون والإنسان ، تجب عبادته ، وأمّا من كان مجرداً عن هذه الشئون فكان مخلوقاً بل خالقاً ولا ربّاً ومدبّراً متصرفاً فيه مكان كونه مدبِّراً ومتصرِّفاً ، فلا يصلح أن يكون معبوداً.

* * *

إنّه سبحانه يشرح في مجموعة من الآيات بأنّه الخالق الرازق المميت المحيي ، وإنّ الشفاعة له جميعاً ، وهو الغافر للذنوب لا غيره ، ولا يهدف من ذكر هذه الأوصاف لنفسه إلّا توجيه نظر الإنسان نحو صلاحيته للعبادة لا غيره وهو يعرب عن أنّ العبادة من شئون من يكون خالقاً ، ورازقاً ، مميتاً ، محيياً ، غافراً للذنوب ، ماحياً للسيئات وليس إلّا هو ، وإنّ المشركين يعبدون أصناماً ، يزعمون أنّها تملك شيئاً من هذه الأُمور أو بعضها ولكنّها عقيدة خاطئة ، إذ هو الرازق المحيي المميت الغافر ، للذنوب لا غيره.

٥ ـ يقول سبحانه :

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) (الروم / ٤٠).

وقال تعالى : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ) (الروم / ٢٨).

وقال تعالى : (هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (يونس / ٥٦).

وقال سبحانه : (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (الزمر / ٤٤).

وقال تعالى : (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ) (آل عمران / ١٣٥).

فهذا الصنف من الآيات التي تلونا عليك قسماً قليلاً منها يدل على أنّه لا يستحقّ العبادة إلّا من يتمتع بهذه الشئون وما ضاهاها فلو كان متمتعاً بها واقعاً

٥٧

فهو المعبود حقّاً وإلّا فلا يكون مستحقّاً للعبادة.

والعجب ، أنّ كلّ من ارتأى تعريف العبادة فإنّما نظر إلى العنصر الثاني (الخضوع) الذي لم يختلف فيه اثنان ، ولم يركز الكلام على العنصر الأوّل (الاعتقاد الخاصّ) ، مع أنّه الفيصل بين العبادة ، والتكريم.

وحاصل هذا البيان أنّه لا يصحّ أن ينظر إلى ظاهر الأعمال بل يجب النظر في مبادئها ومناشئها فالعبادة لا تتحقق ولا يصدق عنوانها على شيء إلّا إذا اتّحد العمل مع عمل الموحدين أو المشركين فقد كان عمل الموحدين نابعاً عن الاعتقاد الخاص بأُلوهيته سبحانه وربوبيته كما كان عمل المشركين أيضاً نابعاً من هذا المبدأ لكن في حقّ أصنامهم وأوثانهم.

نعم المشركون لم يكونوا معتقدين بخالقية معبوداتهم ولكنّهم كانوا معتقدين بأُلوهيتهم وربوبيتهم وتصرّفاتهم في الكون وبكونهم مالكين للمغفرة والشفاعة.

وعلى ضوء هذا فكلّ خضوع يتمتع بنفس هذا العنصر يُضفى عليه عنوانُ العبادة فإن أتى به لله سبحانه يكون موحّداً وإن أتى به لغيره يكون مشركاً. فلا يصحّ لنا القضاء على ظاهر الأعمال من دون التفتيش عن بواطنها.

التعاريف الثلاثة للعبادة

وقد خرجنا ـ بالإمعان في عقائد الموحّدين والمشركين وبالإمعان في الآيات الحاثة على عبادة الله والنهي عن عبادة غيره بالنتيجة التالية :

إنّ العبادة ليست خضوعاً فارغاً مهما بلغ أعلاه بل خضوعاً نابعاً عن عقيدة خاصة وهي الاعتقاد بكون المخضوع له ربّاً ، أو إلهاً ، أو مصدراً للأفعال الإلهية فلذلك يصحّ تعريفها على أحد الوجوه التالية ويكون جامعاً لعامة أفرادها ، ودافعاً عن دخول غيرها في تعريفها :

٥٨

١ ـ خضوع لفظي أو عملي ناشئ من العقيدة بأُلوهية المخضوع له.

٢ ـ العبادة هي الخضوع بين يدي من يعتبره «ربّاً» وبعبارة أُخرى. هي الخضوع العملي أو القولي لمن يعتقد بربوبيته ، فالعبودية كلازم الاعتقاد بالربوبية.

٣ ـ العبادة خضوع أمام من يُعْتبر إلهاً حقّاً أو مصدراً للأعمال الإلهية كتدبير شئون العالم والإحياء والإمامة وبسط الرزق بين الموجودات وغفران الذنوب.

ولك صبّ هذا المعنى في قالب رابع وخامس.

ثمرات البحث

لقد وقفت ـ أخي العزيز ـ على معنى «العبادة» ومفهومها وحقيقتها في ضوء الكتاب والسنّة ، ولم يبق لك أيّ إبهام في معناها ولا أيّ غموض في حقيقتها ، والآن يجب عليك ـ بعد التعرّف على الضابطة الصحيحة في العبادة ـ أن تقيس الكثير من الأعمال الرائجة بين المسلمين من عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى زماننا هذا لترى هل تزاحم التوحيد ، وتضاهي الشرك ، أو أنّها عكس ذلك توافق التوحيد ، وليست من الشرك في شيء أبداً؟

ولهذا نجري معك في هذا السبيل (أي عرض هذه الأعمال على الضابطة التي حققناها في مسألة العبادة) جنباً إلى جنب فنقول :

إنّ الأعمال التي ينكرها الوهابيون على المسلمين هي عبارة عن :

١ ـ التوسل بالأنبياء والأولياء في قضاء الحوائج

فهل هذا شرك أو لا؟

يجب عليك أخي القارئ أن تجيب على هذا السؤال بعد عرضه على الضابطة التي مرّت في تحديد معنى العبادة ومفهومها ، فهل المسلِم المتوسِّل بالأنبياء والأولياء يعتقد فيهم «أُلوهية» أو «ربوبية» ولو بأدنى مراتبهما وقد

٥٩

عرفت معنى الأُلوهية والربوبية بجميع مراتبهما ودرجاتهما ، أو إنّه يعتقد بأنّهم عباد مكرمون عند الله تعالى تستجاب دعوتُهم ، ويجاب طلبهم بنص القرآن الكريم.

فإذا توسّل المتوسّل بالأنبياء والأولياء بالصورة الأُولى كان عمله شركاً ، يخرجه عن ربقة الإسلام.

وإذا توسّل بالعنوان الثاني لم يفعل ما يزاحم التوحيد ويضاهي الشرك أبداً.

وأمّا أنّ توسّله بهم مفيد أو لا ، محلّل أو محرّم من جهة أُخرى غير الشرك؟ فالبحث فيهما خارج عن نطاق البحث الحاضر الذي يتركز الكلام فيه على تمييز التوحيد عن الشرك ، وبيان ما هو شرك وما هو ليس بشرك.

٢ ـ طلب الشفاعة من الصالحين

هناك من ثبت قبول شفاعتهم بنصّ القرآن الكريم والسنّة الصحيحة.

ثمّ إنّ طلب الشفاعة منهم إن كان بما أنّهم مالكون للشفاعة وأنّها حقّ مختصّ بهم ، وأنّ أمر الشفاعة بيدهم ، أو إنّه قد فُوِّض إليهم ذلك المقام ، فلا شكّ أنّ ذلك شرك وانحراف عن جادة التوحيد ، واعتراف بأُلوهية الشفيع (المستَشْفع به) وربوبيته ، ودعوة الصالحين للشفاعة بهذا المعنى والقيد شرك لا محالة.

وأمّا إذا طلب الشفاعة من الصالحين بما أنّهم عباد مأمورون من جانب الله سبحانه للشفاعة في من يأذن لهم الله بالشفاعة له ، ولا يشفعون لمن لم يأذن الله بالشفاعة له ، وإنّ الشفاعة بالتالي حقّ مختص بالله بيد أنّه تعالى ، يجري فيضه على عباده عن طريق أوليائه الصالحين المكرمين.

فالطلب بهذا المعنى وبهذه الصورة لا يزاحم التوحيد ، ولا يضاهي الشرك ،

٦٠